Skip to main content

Full text of "السودان أهوال الحرب وطموحات السلام قصة بلدين - د. منصور خالد"

See other formats


07 نك اكات ا 17 7 00 ا ل 
0ل01.0م1005ط.5اه هطع م لأ915م//:ةم ا 








ا ا ا ا ا ا كك 
ل ل الا ل ا ل ا ل 00 
وأنفاقها المظلمة . محاولا الإمساك ما استطاع بتلابيب أمهات الموانع التي 
ل ا 0 ل ا ل ل 
ال 

يري منصور خالد أن السياسة السوادنية منذ الإستقلال ‏ وعبر نصف قرن 
مضي دأبت على أن تجعل السودان بلدين . شمال يدور حول نفسه. 
يكلمها بلسان المزهو بهوية رفيعة . ولو بان بوارها . وجنوب مكلوم . 
يحتقن ... ثم يشفى هنيهة» ليحتقن أضعاف ما احتقن» فيطلب حقه بالتى 
ا 0 ل ل حكة 
يتساءل المؤلف: 

وماذا بعد كل هذا التاريخ المثقل بأوضار الماضى ؟؟ 

وهل يمكن للسودان أن يصبح أمة واحدة . سيما فى ظل وعي جمعى 
ا ا الاين 

ا ا 0 ا ا ا ل ل 
بلدين» حكماً استباقياً . إذ أنه بروح لايعوزها التفاؤل يفتح نصه على 
ا ل ا ال ات و 5ك لك 
ا ا ا ا ا كت 
في وحدة طوعية حقيقية . تكفل لجميع الأطراف حياة جديرة بأن تعاش , 
القسطاس فيها جد مستقيم . قسطاس يرى بأم عينيه أن السودان يعني - 
تلك المنطقة الواقعة بين خطى العرض الرابع فى الجنوب والعشرين فى 
ا 00 دان ف ل الل ل ا لا للك 
والعشرين فى الغرب . 

أما زبد المتنطعين والقابعين على جبل الأوهام فلا حاجة بنا للتذكير بمصيره 
المعلوم . 





السودان 
أهوال الحرب.. وطموحات السلام 
قصةبلدين 


و. عنصو رغالر 


الناشر 
<اردراث 
2003 


» محمود محمد طه: رجل لم يأسره الحرص إذ غنى عن الدنيا باليأس منهاء 
ومفكر ذو بصر حديد لم يتق غير الله فى التعبير عن فكره. جابه الناس بهذا الفكر 
ولم يستدبرهم بغيب. فاراؤه السياسية التى أجلينا فى هذا الكتاب. منذ مؤتمر 
الخريجين. آراء لا يجسر عليها إلا أولو العزم فى وطن فيه للباطل سلطان. واجتهاده 
فى الدين اجتهاد بديع بريع لا يرفضه إلا من ضاق وعاؤه. ولكن عاد من عاد إلى 
الكثير من تلك الاجتهادات. فهو متبع لا مبتدع. 

إلى ذكرى هؤلاء الأبطالء نهدى هذا الكتاب. 


د منصورخالد 


استهلذال 





واردتمونى أن أكون مُدتساً 
هيهات: غيرى آثر التدليسا 


رأبو العلاء المعرى, 

اندلعت شرارة الحرب الأهلية فى السودان فى مطالع الاستقلال» وحتى اليوم لم تخب 
مواقدها بعد. بل إنهاء والعالم اليوم يدخل قرناً جديداً» تشعلت لتضحى جحيماً من المذابح 
والدمار. ومع أن الحرب ظلت هى السمة المميزة لكل عهود الحكم منذ الاستقلالء إلا أن 
الطبقة الحاكمة فى الشمال وبعض المعلقين السياسيين فيه ما فتئوا يؤرخون لتلك العهود 
بأسلوب رومانسى مضلل. حقيقة» ليس هناك ما يحمل أى سودانى على استذكار تلك 
الفترة بالفخر والمباهاة» خاصة فيما يتعلق بتحقيق السلام والاستقرار لبلادنا. فالذى يحمل 
السودانيين على التأسى والتوجع» أكثر بكثير مما يحدو بهم للتهليل والاستطالة والشدو 
بأهازيج النصر. ومن المؤسفء أن القصور عن تحقيق السلام والاستقرار وقع بالرغم من 
توفر فرص عديدة فى نصف القرن الماضى كان من الممكن أن تقود إليه. ولدن سلكت 
الطبقة الحاكمة طريقاً بديلاً أفضى بالبلاد لمزيد من المذابح» بل لتدمير الذات» فهذا أمر 
جدير بالتأمل الجاد. ولاشك فى أن حلول قرن جديد يمثل فرصة تاريخية لمثل هذا التأمل. 

صدر النص الإنجليزى لهذا الكتاب تحت عنوان: الحرب وآفاق السلام فى السودان: قصة 
بلدين . كعتاصن00) 100 01 عله1 لذ :مدلن5 غطا مز ععدع2 01 كاأععمدمع لمة عد الا 

موضوع الحرب والسلامء إذن» هو مدخلنا لتقصى جذور الأزمة السودانية؛ فبسبب 
الحرب ‏ أكثر من أى سبب آخر فقمت الأمور واستفحلت شرورها. 


5 


حرب السودان لا تختلف عن الحروب فى أى مكان آخرء فكغيرها من الحروب الماضية 
والمعاصرة هى نسيج سياسى ‏ ثقافى - اجتماعى متشابك ذو تشعبات دولية معقدة . وعبر 
التاريخ ظل الأدباء والمؤرخون والشعراء يبررون الحروب ويشيدون بمشعليها. فالحروب عند 
العرب ظلت تقوم على ساق بسبب التطاحن القبلى» إما حول الموارد الطبيعية» أو من أجل 
التسيد. وفى الحالتين كانت الحرب شرفاً يفاخر به. قال الأعشى: 
وخيل بكر فما تنفك تطحنهم 
حتي تولوا وكاد اليومٌ ينتتصف 
لواآنكل مهد كان شاركنا 
في يوم ذي قارما أخطاهم الشرف 
بل كانت الحرب تدور داخل القبيلة الواحدة إن لم تجد من تستاد خارجهاء ويقتل فيها 
الأخ أخاه إن لم يجد عدواً يقتله. فى هذا يقول القطامى: 
وأحياناً على بكرأخينا 
إذ مالم نجد إلا أخانا 
حتى ابن خلدونء المؤرخ الاجتماعى المرموق قَدّْم السيف على القلم. كلاهماء فيما 
قال» آلة لصاحب الدولة إلا أن القلم خادم» والسيف شريك فى المعونة تحتاج إليه الدولة 
للاستظهار بهء وتقوى الحاجة إليه لحمايتها والمدافعة عن نفسها(الباب الثالث من 
المقدمة) . وذهب الشاعر الحكيم أبو تمام للقول بأن السلام لا يتحقق إلا بالاستعداد للحرب» 
ففى بائيته عن فتح عمورية على يد المعتصم قال: 
بَصيرت بالراية الكبرى فلم ترها 
تنال إلا علي جسر من التعب 
وهكذا بقى موضوع الحرب أمراً محيراً للعلماء قبل أن يكتب ليو تولستوى روايته الحرب 
والسلام فى عام 16135 . ويمور الزمنء طور العلماء ذلك الموضوع إلى فرع من فروع 
المعرفة واسع المجال. فالحرب» فى تقدير المنظرين العسكريين مثل كارل فون كلاوستفيز» 


6 


أصبحت هى الدبلوماسية بوسيلة أخرىء بل قامت نظريته العسكرية كلها على فكرة إبادة 
العدو إبادة كاملة من أجل المصلحة الوطنية العليا. وعلى الجانب الآخر من العالم» برر 
الخبير العسكرى الصينى صن تزى الحرب كأداة للسياسة؛ ولكنه كان أكثر إنسانية من 
صنوه الألمانى. ففى كتابه فن الحرب قال: الحرب مسألة خطيرة للدولة» إنها ميدان الحياة 
والموت. هى الطريق التى تؤدى إلى العيش أو الفناء» ولذلك فمن المستحيل عدم التعمق فى 
دراستها. على أن إحراز مائة انتصار فى مائة معركة ليس هو أفضل ما يكون. أفضل ما 
يكون هو إخضاع العدو دون قتال. ولكن هل تلك النظرة إنسانية حقاًء أم هى توسل لإحراز 
النصر بأسلوب آخر؟ يقول صن تزى أن فن الحرب والمهارة العسكرية هما مسألة حياة أو 
موتء وطريق الأمان أو الدمار. 

لا ينتتقص كل هذا فى شىء مما قال تولستوى عن الحرب. كتب تولستوى يصف 
الحروب العديدة التى كانت تدور فى أوروبا فى زمانه يقول: إذا كان الهدف من الحروب 
فى بداية القرن التاسع عشر هو تعظيم (388:30012673680) روسياء فقد كان من الممكن 
تحقيق ذلك دون الحاجة إلى كل تلك الحروب والغزوات. وإن كان الهدف منها هو تعظيم 
فرنساء فقد كان من الممكن تحقيق تلك الغاية دون حاجة إلى الثورة أو الامبراطورية. وإن 
كان الهدف هو نشر الأفكارء فلاشك فى أن المطبعة كانت أقدر بكثير على القيام بهذه 
المهمة بشكل أفضل مما قام به الجنود. وإذا كان الهدف هو تقدم الحضارة» كان من السهل 
للغاية أن ندرك أن ثمة طرقاً عديدة تحقق الترويج الحضارى دون حاجة لتدمير البشر 
وثرواتهم. لماذاء إذن» وقعت الحروب بهذه الطريقة» لا بأى طريقة أخرى؟ لأن هذه هى 
الطريقة التى حدثت بها؟ فالصدفة هى التى خلقت الموقفء وعبقرية الإنسان استغلته. 

الحرب فى رأى تولستوىء إذن» ظاهرة غير عقلانية» تتسم حوافزها بالانتهازية 
المطلقة . فالحروب على الدوام» تندلع لأسباب مزعومة مثل الدفاع عن المصالح الوطنية» أو 
بث الوعىء أو إعلاء كلمة الله» أو نشر الأفكارء والتى هى دوماً أفكار دوغماطية لا يأتيها 
الباطل من بين يديها ولا خلفها. وبما أن الدوغماطية لا تخضع الأقكار للبرهان لا يصبح 
المتمرد عليها مخالفاً فى الرأى فقطء بل مهرطقاً. ولكن وراء هذه الأهداف التى يوحى 


- 


بعضها بالنبل» تكمن فى أغلب الأحايين طموحات ذاتية لسياسيين طائشينء أو دعاة قَلّما 
يراودهم شك فى حتمية دعاواهم. تسعر الحروب أيضأ جماعات على درجة عالية من 
التمركز فى الذات رغبة منها فى الحفاظ على مصالح متخيلة بحسبانها حقوقاً مكتسبة 
راسخة. لهذاء بينما نتفق بوجه عام مع حكم تولستوى بأن الحرب ما هى إلا نتيجة للصدف 
التى تستغلها عبقرية شريرة» إلا أن الأسباب الجوهرية لأغلب الحروب تكمن فى رغبة قائد 
أو جماعة أو دولة فى تعظيم مصالحهم المتخيلة دون أى اعتبار لمصالح الآخرين: بل 
وبإنكار الحقوق المشروعة للآخرين فى بعض الأحيان. 

على الرغم من ذلكء لم يتصور أحدء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فى العام ©2195 
أنه سوف يجىء يوم يحمل فيه الإنسان السلاح فى وجه أخيه الإنسان لفض نزاع سياسىء 
أو أن تسعى فيه جماعة من الناس لاستئصال جماعة أخرى بسبب اختلاف العرق أو الدين 
أو التباين السياسىء أو أن تقوم دولة بدعوى الحفاظ على أمنها الداخلى بإبادة شعب آخرء أو 
تلجأ أخرىء بهدف حماية مصالحها الوطنية إلى الاعتداء على غيرها. ما كان المرء يظن 
أن ثقافة العنف التى كانت هى السمة المائزة للقرن الماضى ستطل على العالم بوجهها 
القبيح بعد تبنى الحكومات لميثاق الأمم المتحدة والإعلان الدولى لحقوق الإنسان. كان 
العالم» فى ذات الوقت» يؤمل فى أن يصبح الوجه القبيح للحرب والإبادة التى عانى منها 
فى الحرب العالمية الثانية» درساً حياً تعلمت منه الدول ضرورة الكف عن الصراعات 
المسلحة كحل للمشكلات السياسية. وكان» لأجل كل هذاء يظن أن كلمة الرب كما جاءت 
فى سفر أشعياء ستتحقق : فيقضى بين الأمم» وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم 
سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب فى ما بعد. (سفر 
أشعياء الإصحاح الثانى» 4) . لكن ياويلتاه» اندلعت الحروب بين الدول» وداخل حدودهاء 
فى جميع أرجاء العالم» وكانتء على الأكثرء حروباً محملة بالأحقاد والضغائن. 

فى حالة السودانء كان الدافع الرئيسى للحرب رغبة جائرة من جانب جماعة واحدة 
للاستمساك بامتياز غير مشروع على حساب خصم افتراضى. فى سبيل هذاء تذرعت تلك 
الجماعة بالحرص على الحفاظ على مكتسبات وطنيةء بفهم ضيق لمدلول الوطن والوطنية . 


8 


إذ ما هى هذه الوطنية التى لا تشتد لها رغبة فى البحث عن الحد الأدنى من عوامل 
التلاقى بين طرفين يعيشان ويتساكنان فى حمى وطن واحدهء أو يؤرق بالها أدنى إهتمام 
بالبحث عن المقومات التى تجعل من المجال الجغرافى الذى يتشاركه أقوام متنافرون وطناً 
لهم جميعاً. بدلاً عن ذلك» ذهبت تلك الجماعة لتحديد مقومات الوطنية وفق معايير ممعنة 
فى الذاتية» كما تملكتها نزعة الاستئثار بكل شىء. لم ترض حتى بالتنازل عن القدر اليسير 
فى سبيل أن تعيش العائلة الوطنية فى سلام . نزعة التملك هذه» لا بد أن تقود إلى رد فعل 
مساو لها فى الحجم من جانب ضحايا تلك السياسة الاستئثارية . وفى مثل هذه الحالات» 
يبحث السياسى الرشيد عن الأسباب الجذرية التى قادت إلى الصراع؛ ويسعى لمعالجتها 
بإنهاء المظالم التاريخية (حقيقية كانت أومتوهمة)» لأن التغاضى عن تحديد وعلاج 
الأسباب الجذرية للصراع يقود حتمأ للانفجار. 

عهدنا بالسياسة السودانية طويل» استنفد جزء) كبيراً من سنى رشدنا. طوال تلك الفترة - 
وعلى تنوع مراحلها حرصنا على الاقتراب الموضوعى من قضايا الوطن» وعقلنة ما نقول 
ونفعل. لهذا » فمع الذى يقال عن ان المشتغلين بالسياسة يتناولون قضاياهاء فى اأغلب 
الأحايين» بفم مفتوح وعقل مغلقء إلا أننا ظللناء بقدر المستطاعء نداوم السعى على أن يبقى 
عقلنا متفتحاً وهو يراقب أسباب تلك الحرب المهلكة. ولا سبيل لتحقيق هذا إلا بتلمس 
وجهات النظر عند طرفى الصراع. هذه هى الطريقة المثلى لرؤية الصورة واضحة بكافة 
تفاصيلهاء وبكل درجات الطيف فى مكوناتها. ولعل أبرز ما صعقناء ونحن نتبصر الأمور 
ونتقصى مصادر العجزء هو أن مجمل أهل الشمال الذى ننحدر منه» ظل يرقب تلك الحرب 
الوحشية برباطة جأش واضحةء بل ملك بعض منهم قدرة فائقة على تجاهلهاء مع انشغالهم 
الدؤوب بحرب فيتنام» وحرب فلسطينء وحرب البوسنة» وحرب الكوسوفار؛ وكان لحرب 
الشيشان أيضاً نصيب من ذلك الاهتمام . بين هذا التجاهل وتفاقم الحرب علقة وارتباط لا بد 
من إيضاحهما. 

حديثنا هذا ينصب بقدر كبير على النخب السودانيةء لا عامة الناس من أهل السودان. 
فالمسئولية عن الهرج الذى ساد السودان طوال سنى ما بعد الاستقلال تقع على عاتق النخبة 


9- 


فى الشمال والجنوب بالمقام الأول» وليس على عناتق الشعب السودانى الذى أولى هذه 
النخب كل ثقته. وفى مقدمة لدراسة قمنا بها حول دور النخبة فى السياسة السودانية 
صدرت تحت عنوان (عنصعوء لإعط1 امعمرمء 007 ع1 )ء أى (كما تكونوا يولى 
عليكم) » ذكرنا أننا سنتناول فى ذلك الكتا بالحكومات التى أقامتها النخبة السودانية ‏ وأنا 
واحد منها ‏ لتحكم عبرها الشعب السودانى بأكمله» ولماذا عكست هذه الحكومات العجز 
الفكرى ‏ إن لم يكن القصور الأخلاقى أيضآ ‏ الذى تميزت به تلك النخبة قبل وبعد إعلان 
الاستقلال فى عام ١157‏ ."تلك الدراسة» فى جانب منهاء كانت نقداً ذاتياً لتجارب 
خضناها. وفى عمل آخر باللغة العربية تناولنا نفس الموضوع فى كتاب عنناه: ( النخبة 
السودانية وإدمان الفشل)» ذلك عنوان قادح يتبعه أثره . فى ذلك الكتاب حاولنا الكشف عن 
وجوه القصور فى تناول الحكومات والجماعات التى تسهم فى تشكيل الرأى العام لمسألة 
الحرب والسلام فى السودان. وكان جلياً فيما قمنا به من دراسة أن الحكومات ومكيفى الرأى 
العام أدمنوا بشكل مرضى تكرار نفس الأخطاء مما أفضى إلى عجزها عن تحقيق السلام 
والاستقرار. (أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم 
يذكرون» (التوية .)١71/9‏ 

هذا الخلل السلوكى المحير. والذى لا يمكن تبريره عقلانيا ‏ يذهب بالمرء إلى ميدان 
معرفى آخر هو ميدان علم النفس. ذلك مجال لا خبرة لنا بدروبه» وعلمنا فيه لا يتجاوز 
علم غير المتمهرين فيه. ولكنا نكاد نوقن أن إصرار من يفترض فيهم إحكام العقل فيما 
يفعلون» بدلاً عن التصرف الغريزى تجاه القضايا العامة أمرلا يمكن تفسيره عقلانياً. 
فالعقل يحمل المرء على التمييز وإدراك الأشياء على حقيقتهاء أما الغريزة فلا تمييز ولا 
اختيار معها. إذن» ما هى العوامل التى تحفز هذا الخلل السلوكى؟ ريما يكون أحد الأسباب 
هو ترددنا فى النظر مباشرة إلى وجوهنا فى المرآة لكى نواجه أنفسنا بحقيقتهاء بدلاً عن 
النظر إليها فى مرايا خادعة. 

بدأت الحرب فى السودان فعلياً فى الستينيات من القرن الماضىءعلى الرغم من أن 
جذورها القريبة ترجع إلى قبيل استقلال السودان (أغسطس .)١1155‏ وكان من الممكن 


10 


السيطرة على أعمال العنف التى طرأت منذ ذلك التاريخ: نولا قصر نظر الحكومات 
المتعاقبة فى الخرطوم عما يمكن أن تقود إليه الحروب مستقبلاً. تلك الحكومات افترضت ‏ 
بحسن أو بسوء نية ‏ أن الوطنية الشمالية الصغرى (505-2211011311512 2011652)» يكل 
مقوماتها الثقافية والدينية بل والعرقية» يجب أن تصبح المقوم الوحيد للهوية الوطنية لكل 
السودان» بما فى ذلك الجنوب. لم تدرك تلك الحكوماتء كما لم تدرك النخب التى كانت 
تشاركها الرأىء أن الطبيعة غير الشاملة (06ف5ناا200-12) لهذه النظرة للهوية الوطنية قد 
تؤدى إلى ظهور سياسات قائمة على» ومنحازة إلى» الأعراق حتى داخل الحدود الجغرافية 
للشمال نفسه . وعليه؛ فبدلاً من أن تصبح الهوية المفترضة فى شكلها الجنينى ذلك عامل 
على التوحيد؛ء أصبحت عنصراً آخر من عناصر الصراع فى السودان. وهكذا عجز السودان 
الذى يضم مجموعات تنتمى إلى أعراق مختلفة؛ لكل منها تاريخها ودينها وخصائصها. 
الثقافية» عن التحول إلى دولة مدنية شاملة (©1201051172) تضم مواطنين مختلفين» 
ولكنهم متوحدون فى تنوعهم (90)زوم16ك هذ ل»)زمن) عمق من مشاعر الفرقة أيضاء 
رفض الطبقة الحاكمة منح فرص متكافكة للجنوبيين فيما يتعلق بشئون الحكمء وطال ذلك 
الرفض حق الجنوبيين فى إدارة إقليمهم» مما قاد إلى استعار الصراع فى الجنوب. واليوم 
يدخل هذا الصراع عقده الخامسء. باستثناء فترة هدنة دامت عشر سنوات هى الفترة ما بين 
عامى 1977 - 187 التى تلت اتفاق أديس أبابا عام 1977 . تلك كانت هى الفترة الوحيدة 
التى ساد فيها هدوء نسبى فى الجنوب على امتداد فترات ما بعد الاستقلال. 

فترة الهدنة التى دامت عشر سنوات أنهاها حاكم شمالى (نميرى) بالتواطؤ مع سياسى 
جنوبى (جوزيف لاقو) . فخلافاً لنصوص اتفاقية أديس أبابا قام الرجلان بتقسيم الجنوب 
إلى ثلاث مناطق ذات سلطات دستورية أقل من تلك التى حددتها الاتفاقية للإقليم الجنوبى 
وفى وقت لاحقء وفى أحدى الحلقات التآمرية ‏ هذه المرة مع الإخوان المسلمين ‏ قام 
نميرى بفرض قوانين دينية (إسلامية) على بلد متعدد الأديان. تلك هى القوانين التى أخذ 
السودانيون يشيرون إليها تلطفاً فيما بعد ب قوانين سبتمبر. هذه الزلة من الحاكم الشمالى 
الوحيد الذى فار فيه الوعى بالجوانب المتعددة لتركيبة السودان الاجتماعية بسبب نجاح 


11 


نظامه فى الوصول إلى حل للمشكل أعيا غيره» كانت بلا مرية هى أدنى مراحل السقوط 
السياسى. ومنذ وقوع ذلك الهفاء والحمقء لم يعد بح ق"أى رجل ذى نصفة أن يلوم 
الجنوبيين على منابذتهم لنميرى ومجاهرته بالحربء بل وعلى فقدانهم الكامل للثقة فى 
السياسيين الشماليين على اختلاف انتماءاتهم . ولعلنا نركز على اتفاق أديس أبابا لأسباب 
موضوعية وذاتية. أهم الأسباب الموضوعية هو أن اتفاق أديس أبابا يمثل مبادرة السلام 
الأولى التى تم تنفيذها بواسطة السودانيين أنفسهم . على أن نجاح ذلك الاتفاق وإجهاضه 
فيما بعدء يعكسان الخلل الهيكلى فى السياسة السودانية. فاتفاق أديس أبابا استهدى بصورة 
تكاد تكون حرفية بوثيقة أعدت أثناء فترة حكم الأحزاب التى سبقت تولى نميرى للسلطة» 
وما أقعد الأحزاب عن تنفيذها إلا الانقسامات الدينية والسياسية والصراعات الشخصية التى 
وقعت بين الأحزاب آنذاك . العامل الذاتى هو أنه أتيح لناء بجانب آخرينء أن نلعب دوراً فى 
إنجاز ذلك الاتفاق التاريخى . لذلكء لا يقل غضبنا على نميرى لإلغائه الاتفاق» عن إدانتنا 
للسياسيين الذين أزاحهم نميرى لفشلهم فى اقتناص فرصة تاريخية عظيمة لتحقيق تسوية 
سلمية لازمة السودان عقب انتفاضة أكتوبر ١11755‏ »؛ ولكن رغم سخطنا على نميرىء لن 
نبخسه حقه» بل نقول أنه كان فى مقدوره أن يدخل التاريخ لولم يلغ بدون مبرر تلك 
الاتفاقية . وقد أثبتت التجربة أن الرجل لم يكن يدرك مغزى الاتفاقية أو دلالاتها. 

تطبيق نميرى للقوانين الدينية (الشريعة)» فيما بعدء قاد إلى تغيير فى الخارطة السياسية 
السودانية بشكل يفوق التصور. ودون تقليل من مسئولية نميرى عما حدث. إلا أن خصميه 
السياسيين: صادق المهدى وحسن الترابى؛ كانا أكبر عنصر تحريض له بشكل مباشر عندما 
باركا صحوته الإسلامية المزعومة؛ وشجعاه على المضى فيها بعد المصالحة الوطنية فى 
العام 1911 . تلك كانت مغامرة غير محسوية عاشا ليندما عليهاء أكثر من ندمنا على 
التعاون مع نميرى. ومن المدهش أن نفور المايويين (أنصار نميرى) من فكرة تديين 
السياسة فى عام ١174‏ (مشروع الدستور الإسلامى) لأثرها على الوحدة السياسية للبلاد» 
كان من أهم الأسباب التى جاءت بنميرى إلى السلطة فى العام ١9155‏ . 

عند تخلينا عن نظام نميرى فى صيف عام ١1514‏ عقب إعلانه توجهه لإلغاء الاتفاق» 
وتغاليه فى الهوس الدينىء ألمحنا إلى الجميع ‏ بمن فيهم الرئيس - أن السودان لن يعود كما 


12 


كان عليه مرة أخرى . ذلك رأى كان لابد لنا من الإفضاء به إليه. بدلاً عن التولى غضبآأء 
أو الاكتفاء بالقعود عنه مخالفاً بعيداًء «فتول عنهم يوم يدع الداعى إلى شىء و تجن 
كثيرون من هذا الرأى» يومذاك وقال واحد منهم باستهزاء: كيف تجرؤ على كول ذلك إذا 
كان الجنوبيان اللذان وقعا الاتفاقية» جوزيف لاقو نيابة عن حركة تحرير جنوب السودان 
(551-34) وأبيل أليرء رئيس وفد الحكومة فى مفاوضات أديس أباباء لم يبديا انزعاجاً من 
إلغاء الاتفاقية ؟ فى ذلك الوقت كان لاقو يتربع على منصب نائب رئيس البلادء فى حين 
استمر ألير فى عمله كوزير بعد إلغاء الاتفاقية» بل رضى لنقسه البقاء فى منصب متواضع 
(وزير الأشغال العامة) . موقف لاقولم يكن يدعو للدهشة» فمثل نميرى لا نحسب أنه كان 
مدركاً كل الإدراك للمغزى الكامل للاتفاقية التى وقعها. ألير ينتمى إلى قبيل مختلف. فهو 
رجل ذو شخصية قوية» وحس سياسى سليم. ولكنه» على خلاف ما فعل الآخرون الذين 
اختاروا الانسحاب من الحكومة ومغادرة البلاد عقب إلغاء نميرى للاتفاقية(!) أو أفصحوا 
عن آرائهم وانتهى بهم الأمر إلى الوقوف خلف القضبان(")» آثر أن يتخذ قراره فى الوقت 
المتانتة: 

بعد أربعة أعوام من إلغاء اتفاقية أديس أباباء اندلعت الحرب على نطاق واسع» غير أن 
المرحلة الجديدة شهدت تحولاً كبيراً فى نسق الحرب فى الجنوب. تلك هى المرحلة التى 
برزت فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش التابع لها (581.21/8) كمنظمة 
سياسية ‏ عسكرية تحت قيادة جون قرنق دى مابيور. جدير بالملاحظة أن الحركة 
الجديدة أسقطت كلمة جنوب من اسم المنظمة التى أسسها لاقووكان اسمها حركة 
تحرير جنوب السودان (2]1,55111ء12ء17101 3)000رعطنآ مدلناد ممعطننا50) الحركة 
الجديدة ‏ ذات المنشأ الجنوبى - حددت مهمتها فى علاج أخطاء الماضى عن طريق خلق 
شوكان ديد تزال عمه كل مظاهر الهومكة الدازيحينة : النياسية والاقتصادية والدوتية 
والثقافية» ولتحقيق هذاء دعت إلى العودة لمنصة الداستيسن ,2 عم اتدل عط ها عأعقطء 
أى إلى مؤتمر قومى دستورى يجمع كل القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية والإقليمية 
فى البلاد من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية. الذى يقارب المشكل السودانى من هذا 


13 


المنظور لا يمكن أن يتهم بالعمل على إعادة تكوين السودان بقوة السلاح. على النقيض» 
تركت الحركةء بطرحها ذلك: مهمة إعادة التكوين السياسى للسودان للشعب السودانى» 
فالشعب وحده هو الذى يقرر إن كان ينشد سوداناً مستقراً ينعم بالسلام والعدل والوحدة؛ أو 
يريد بلداً ممزقاً. فلا النخبة التى تدعو لهوية عربية للسودان؛ ولا تلك التى تدعو لهوية 
أفريقية» ولا أولتك الذين ينادون بأن الدين هو القوام الأساسى لشخصية السودان الحضارية: 
هم الذين يقررون مصير السودان. الشعب وحده عبر ممثليه المعبرين عن إرادته الحرة فى 
المؤتمر الدستورى المقترحء هو الذى ينبغى أن يقرر. وكان فى تقدير الحركة أنه بوضع 
تلك الخطوط العريضة فى حيز التنفيذ فى إطار نظام سياسى متفق عليه؛ ستحل مشكلة 
الكتوف وثرد للية حقوقه المشزررعة الشركة أرما أشافك إل دناءات لتجدو القدقة: 
والتى كانت مبتسرة أحيانآء قضايا أخرى غيبها الطابع النخبوى للخطاب السياسى الجنوبى» 
والذى كان ينحصر فى موضوع من يحكم الجنوب» وليس كيف يحكم الجنوب. من تلك 
القضايا موضوع التهميش الاقتصادى للجنوب ومناطق الأطراف فى السودان. والقضية 
الأخيرة (قضية مهمشى الأطراف) كانت غائبة تماماً عن الخطاب السياسى التقليدى فى 
الشمال. 

حرب قرنق الأولى كانت مع أتباعه الذين طالبوا بالانفصال العاجل» ومن حق القارئ 
أن يتساءل: لماذا رفض قرنق ذلك المطلب الجنوبى المشروع فى رأى أهله؟ ظل اقتناعنا 
يتزايد عبر السنوات الماضية أن ما دفع زعيم الحركة لمحارية الانفصاليين شيئان: الأول 
هو إيمانه الراسخ بالوحدة الأفريقية» ويمكن القول أيضاً حسه التاريخى . فى الحالة الأولى ما 
برح زعيم الحركة يقول أن السودان نتاج لحقائق تاريخية ومعاصرة بينها نسب وثيق» وأى 
محاولة لفك هذا الترابط ستؤدى حتماً إلى تفكك نسيج السودان. هو مقتنع أيضاً بأن وحدة 
القارة لا يمكن أن تتحقق بتشجيع النزعات الطاردة التى تمزق أجزاءهاء ما لم يضطر 
المرء إلى ذلك. وعليه فإن الدعوة لقيام سودان جديد متماسك وقوى لا تعبر فقط عن 
طموح (3501530092) وإنما كانت أيضاً مصدر إلهام (8100:زم5م1) لكل من يريد لبلاده أن 
تحتل مكاناً تحت الشمس تؤهلها له عبقرية الزمان والمكان. 


14 


أما فى الحالة الثانية فقد قصد قرنقء منذ البداية» أن لا يرى نفسه جنوبياًء بكل التداعيات 
التى تقود إليها هذه الصفة فى عقل الجنوبى؛ وبكل الأفكار المسبقة التى تسود العقل الجماعى 
الشمالى حول تلك الصفة . ألغى قرنق من عقله صورة الآخر عنه» والتى كاد الآخر أن يقنع 
كل جنوس تهنا : غير فى اثقه إل سودائياً ذا حفرق أصلية فئ جلاةه» لآ يححد ذوره ومكاته 
فى الوطن الذى قيض له أن يكون جزءاً منه إلا فكره وإسهامه فى الشأن العام وقدراته على 
العطاء» لا منبته الجغرافى ولا دينه. هذه الفكرة الملهمة كانت هى الدافع الأساس لاقترابنا 
من قرئق ومن التركة؛ ذلك الأفكراتة:إمن جانت جل نتمئ إلن تسترمعة النفبة الثمالية: 
لم يرض عنه بعض الزملاءء بل فى الواقع أصدقاء حميمون. موقف هؤلاء. بطبعه؛ يكشف 
عن مزاج عنصرى دفين يدعو للشفقة. ومن الغريب حقأ أن يتملك هذا المزاج رجالا 
يفترض فيهم ‏ بحكم نظرتهم الحداثية للواقع - تجاوز ذلك المزاج القوزئ :«ولعلنا سلن اهؤلا 
عذرأء فالناس كثيراً ما يكونون ضحايا لتاريخهم. ثمة أسباب تاريخية عديدة تكمن وراء هذه 
النزعة الفطرية التى تستعصى على الفهم؛ بل ريما تكون تلك النزعة خفية حتى على من 
يعانى منها. هناك. إذن» ضرورة لتحديد هذه الأسباب وتحليل دواعيها. 

بغض النظر عما سبقء برهن قرنق على مر السنين منذ ظهور الحركة الشعبية أنه ليس 
فقط إستراتيجياً حاذقاً وصاحب تكتيك ماهر فى الحربء وإنما أيضاً مفكر سياسى جسورء 
لأن الذى حققه عبر المفاوضات مع الساسة الشماليين» لا يقل أهمية عما حققه بقوة 
السلاح . بالرغم من ذلكء ما انفقك بعض الشماليين ينتقصون من قدره بإصرارهم على أنه 
جرد ذهية شكعها اخروة مقيطوة يل أو هو سائطة لقو كارجية ترهية ديت شاع 
النظرة الأولى تعبر عن إيمان عميق من جانب القادحين الشماليين بأن الرجل ينتمى إلى 
فئة قدروا لها أن تعيش دوماً فى الطرف المتلقىء ولذا فهو بتركيبته الجينية غير أهل لتحديد 
مسار السودان. هذه الرؤية المعتلة تفسر جنوح القادحين دومآً إلى إساءة فهم كل فعل أو 
تصريح يصدر عن الرجل. كثير من هؤلاء القادحين ليسوا أغبياءء أو أعمياء ينظرون 
للأشياء بعيون مطفأة. ففى قرارة أنفسهم يدرك هؤلاء العواقب المترتبة على خطاب قرنق» 
لاسيما وفى ذلك الخطاب تحد للأساطير المصونة فى العقل الشمالى. 


15 


ثمة جماعات أخرى بين النخبة الشمالية انجذبت لرؤية قرنق» بل تفوقت فى اقتباس 
موضوعاته عن السودان الجديدء إلا أنها أبت الاعتراف بإسهامه الرائد فى الفكر السياسى 
السودانى» أو التسليم بدوره الحيوى فى تحقيق سودان جديد. ذلك موقف لايسىء فقط إلى 
المصداقية السياسية لهذه النخبة» وإنما يكشف أيضاً عن عرى فكرى معيب. والعيب ليس 
قرم اقكجاين لفكار فرق ::وإننا فى ارا قكسنانة الكرية ف ذاك الوق الذي بكرو افية 
دوره فى حياكتها. على الجانب الآخرء يقف قادحو قرنق من الجنوبيين الذين لا ينكرون نجاح 
قرنق فى وضع قضيتهم فى دائرة الضوء بصورة لم يحققها قائد جنوبى من قبلء إلا أنهم لا 
يرون فى خطابه إلا بغية عسيرة المنال. هؤلاء يحبذون القوالب القديمة التى تضع السودانهين 
فى صراع دائم بين أنفسهم: العرب ضد غير العرب؛ والمسلمين ضد غير المسلمين. 

حدثان هامان وقعا بعد انتهاء حقبة نميرى واشتعال الحرب من جديد فى العام 5985١؛‏ 
الأول هو بزوغ الجبهة الوطنية الإسلامية عقب سقوط نميرىء واستيلاؤها على السلطة عبر 
انقلاب عسكرى بقيادة عمر حسن أحمد البشير فى يونيو من عام ١983‏ . ذلك الانقلاب اتشح 
عند بدايته برداء وطنى حينما زعم قائده أنه جاء لينقذ الأمة من الفوضى التى أشاعتها 
الأحزاب . وبعد مضى عشر سنوات على الانقلاب اعترف البشير علانية وبلا استحياء بما 
كان يعرفه الجميع طوال الوقت: أنه كان مجرد واجهة للجبهة القومية الإسلامية. الحدث 
الثانى - والذى ريما كان نتاجاً مباشراً للحدث الأول هو شيوع فكرة السودان الجديد 
وبلوغها الذروة فى قرارات أسمرا فى يونيو ١536‏ . ولا ريب فى أن المعاناة التى عاشها 
السياسيون والنخب الشمالية تحت حكم الجبهة القومية الإسلامية رققت إحساسهم تجاه المعاناة 
التاريخية للآخرين. ذلك الإحساس المتأخر عبرت عنه قرارات أسمراء التى تواضعت عليها 
جميع القوى السياسية والاجتماعية السودانية تحت مظلة التجمع الوطنى الديمقراطى. وكانت 
الجبهة القومية الإسلامية هى الجماعة السياسية الوحيدة التى لفتت الأنظار بغيابها عن ذلك 
التجمة .ومن الراضت أن الأخزاب:الققالية الع جضت فى أسننرا أرادث أن نصغ مناءثما 
أفسده كل منها على حدة. لهذا تمثل قرارات أسمرا نقطة تحول كيفى فى التاريخ السياسى 
للسودان. إلا أن القرارات» فى حد ذاتهاء لن تفضى إلى سلام قابل للتحقيق. 


16 


على المستوى الشخصىء. شاركنا فى جانب الحركة الشعبية لتحرير السودان فى 
المفاوضات الأولى مع نظام البشيرء وفى المحادثات التمهيدية مع التجمع الوطنى 
الديموقراطىء كما تشرفنا فيما بعد بتمثيلها فى هيئته العليا. بمقتضى هذه الصلاحيات كنا 
على علم بجذور خلاف الحركة مع الجبهة:» وبما دارفى محادثاتها الأولية مع التجمع. 
خاصة الحوار الفكرى الصريح (والملتهب فى بعض الأحيان) بهدف الوصول إلى اتفاق 
أسمرا. فى ذلك الحوار احتلت قضيتان موقع الصدارة: السلام والديمقراطية» والقضيتان 
مرتبطتان بيعضهما خلافاً لما يعتقد البعض . ولريما أراد الذين ما فتكوا ينكرون هذا الترابط 
تبرئة الحكومات المدنية السابقة من اللوم على فشلها فى ترسيخ الديموقراطية . فالعامل 
الأول فى إجهاض الديموقراطية هو تصعيد الحربء أو الإخفاق ‏ بسبب الإهمال أو التواطؤ 
فى وضع نهاية لها. كما أن الديموقراطية التعددية لا يعبر عنها فقط تعدد الأحزاب 
وتنوعهاء بل تستمد شرعيتها من قدرتها على إدراك قضايا المجتمع الكلية وتصديها 
لعلاجها. فإن كان قوام الاستقرار هو إنهاء الحربء وكان إنهاء الحرب رهينا بالقدرة على 
إيجاد حلول للأسباب التى قادت لهاء يصبح الحديث عن الديموقراطية بمعزل عن إزالة 
دواعى الحربء تنطعاً لا معنى له. لهذا نقول أن أعظم إنجازات أسمرا هو النتائج الختامية 
المتعلقة بقضية الحرب والسلامء والصيغ المرتضاة لنظام الحكم والإدارة» وكفالة حقوق كل 
الجماعات بما فيها الجنوب فى ممارسة حقه فى تقرير المصير. حتى الجبهة القومية 
الإسلامية لم تشأ التخلف عن ذلك القطارء فتظاهرتء بعد قرارات أسمراء بأنها توصلت 
لنفس النتيجة مع وجود أكثر من دليل على مخاتلتها بشأن هذه القضية. 

لقد تغير المناخ السياسى فى السودان تغيراً جذرياً نتيجة لقرارات أسمراء خاصة فيما 
يتعلق بمفاهيم الوحدة» وحقوق المواطن . انعكس هذا فى عدد من المبادئ من بينها فصل 
الدين عن السياسةء واللامركزية الإدارية» والوحدة الطوعية من خلال ممارسة حق تقرير 
المصيرء والالتزام الكامل بكل العهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان؛ وإعادة بناء 
الدولة والاقتصاد. هذه المبادئ ليست قائمة طعام ( 776010) يختار منها كل حزب الطبق 
الذى يشتهيه (0116© 13 2)» وإنما هى وفاق تاريخى ملزم لجميع الأحزاب بما فيها الحركة 


17 


الشعبية . مع ذلك فالافتراض بأن الأمور لا يمكن أن تعود إلى السوء الذى كانت عليه قبل 
"٠‏ يونيو ١91485‏ لأن ثمة اتفاقاً تم التوصل إليه فى أسمراء افتراض عقيمٍ . الأسوأ قد يقع إن 
توهم البعض أن اتفاق أسمرا قابل للاجتهاد فى تفسير محتواه بصورة تلغى جوهره. روح 
أسمرا وجوهر قراراتها يجب أن لا يخضعا لاجتهادات سياسيين دربوا على التمحك عند 
الألفاظء وامتهنوا نحت العبارات» وتشتد شهوتهم لتفسير كل شىء للناس بما فى ذلك ما 
توافق الكافة على معناه. حرى بالناحتينء؛ والمتمحكين عند الألفاظء وذوى الشهوات 
المستعرة للتفسير وتفسير التفسيرء أن يدركوا أن سودان اليوم يعدو فى سباق مصيرى بين 
الوعى بالذات والتفكك؛ والخيار فى يد قادته. ولا شك فى أن مضى ستة وأريعين عاماً من 
الاستقلال يكفى لكيما يدرك القادة؛ وتدرك النخبة السودانية الشمالية» أنهم كانوا يراهنون 
على الأوهام. الخطأ الثانى هو التخيل بأن النظام سينهار من تلقاء نفسه؛ أو أن النضال 
المسلح فرض كفاية» أو أن الجماهير تنتفض دون حفز وتمكين من قياداتها. ولعل بروتوكول 
ماشاكوس الذى وقعته الحركة مع نظام الجبهة فى ٠١‏ تموز/ يوليو”١٠7,‏ والذى غابت 
عنه قوى التجمع الأخرى (الشمالية والجنوبية) يؤكد هذا. ولكن» مثله متل قرارات أسمراء 
أن يحقق هذا الاتفاق وحدة أو سلاماً إن وهم الطرف الشمالى الذى وسمه بتوقيعه بأن ليس 
للسلام ثمن. فالاتفاق لن يحقق شيئأء دون التزام كامل بآليات تنفيذه» ووعى بأن المشكل 
أعمق من أن تحله النتصوص الدستورية» وإدراك لأن شيطان التفاصيل فى السياسات 
ومقاصدها. فالذى يلزم تغييره ليس هو المواقع الوزارية وإنما ثقافة سياسية شوهاء مترسبة. 
وإلى أن ننزع عن هذه الأوهام» ونميز بين الواقع والخيال» ويستقيل بعضنا عن عالم 
الفانتازيا الذى لازموا العيش فيه منذ أكتوبر »١1174‏ ونبارح الخمول الفكرى الذى ظلت 
تعيش فيه الطبقة الحاكمة منذ الاستقلال» فلن نعرف على وجه الدقة إن كان مشروع قرنق: 
السودان الجديد هو مشروع قابل للتحقيقء أم أنه ضرب من ضروب الخيال؛ وغاية عصية 
المنال كغاية الملك الإغريقى تانتالوس .| 

منصور خالد 


15 





(1) قبيل إعلان نميرى لإلغاء الاتفاقية أبلغ الكاتب الرئيس نميرى باستقالته من موقعه فى الاتحاد 
الاشتراكى واتجه إلى واشنطون للعمل كباحث فى مركز ودرو رولسون ؛ كما لحق به الأستاذ عبد 
الرحمن عبد الله» وزير الإصلاح الإدارى وأحد صناع الاتفاقية» للعمل بالأمم المتحدة . استقال من 
منصبه أيضاً فرانسيس دينق وزير الدولة للخارجية. 

(2) بونا مالوال وكلمنت أمبورو وصحبهم. 

(3) تانتالوس 125121105 ملك إغريقى تزعم الأسطورة بأنه كان صديقاً للآلهة فقربوه منهم 
واستضافوه فى موائدهم. ومن بعد لحقت به لعنة الآلهة لإذاعته أسرارهم على الناس. وكان عقابه 
هو الإغراق فى الماء حتى ذقنه فى حين تدلت فوق رأسه أغصان مثقلة بالفاكهة الشهية. ولكن ما 
امتد تانتالوس بفمه للماء ليتزود منهء أو بيده للفاكهة ليقطف من شهيهاء إلا وارتدت بعيداً عنه . 
وتانتالوس هو أصل الكلمة الإنجليزية ©131]3115» أى إغراء المرء بشىء غير متوقع الحدوث. 


لالالا 


0 


«إن أردت التنيؤ بالمستقبل؛ تمعن فى الماضى» 


ركودفونننيوس2 


كل شىء فى الحياة» بدرجة أو أخرىء نتاج لتفاعل أحداث التاريخ؛ أى لمجمل الأحوال 
التى يمر بها الكائن الطبيعى. بعبارة أخرىء: هو محصلة إخضاعنا الأشياء لقانون العلة 
والنتائج حيث تترابط العلة دوماً بالمعلول. لا معدىء إذنء عن القول أن المحن التى 
اجخاهحة» ومازالت تججاخ؛ السردان وضر فهمها إن لح نهد بها إلى مجدورها: كما دن بحسن 
تصورها إن أغفلنا دور الظواهر الطبيعية والإنسانية فى تشكيلها. فبصورة أو أخرىء كان 
لموقع السودان الجغرافى» وظروفه المناخية؛ وطبيعة أرضه. والأسلوب الذى تشكلت به 
مجموعاته السكانية» أثر على ما يدور فيه اليوم. كما كان للضغوط الأجنبية عليه: 
والتداخل التاريخى بين حضاراته وثقافاته المختلفة ٠‏ أثر أيضاً. بيد أن السودان قد ابتلى؛ 
إضافة إلى العوامل الطبيعية والإنسانية التى خلقت منه بلداً ذا تنوع فريدء بازدواجيات 
(111165دنال) متعددة لم تعرفها بلاد الله الأخرى. تلك الازدواجيات وسمت البلاد بكواء 
حارق خلف آثاراً لا تخفى فى سياسات سودان ما بعد الاستقلال: من تلك الآثار تولدت 
تعفيْدات لقن منها السردان برجا مبرساً: ونزعم أن الإذراك السام لهذ الكمقيدات يسطرم 
تحليلاً لها تقام فيه الحجة بالدليل؛ فلها ‏ أكثر من غيرها ‏ يعزى فشلنا فى جعل التنوع 
مصدراً للقوة . والتنوع آية من آيات الله «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف 
ألسنتكم وألوانكم» (الروم» ١؟37/7)‏ . 


21 


على أن العلة التى يعانى منها السودان ليست بالداء العارضء بل هى مرض مستوطن 
أصبح يجرى فى جسد الوطن مجرى الدم. ويعود استفحال الداء واشتداده لتمزقات عديدة 
تلبس بها الجسم السياسى (011)11م /ا000)» وفاقمت منها الازدواجيات التى أشرنا إليهاء أكثر 
مما يعود لاختلال جوهرى فى ظاهرة التنوع. كما أن تواتر الحروب فى الجنوبء لا يعزى 
لأن الجنوبيين قوم مشاغبون بتركيبهم الجينىء وإنما هو ذو صلة وثيقة بالتفكك الذى 
اعترى الجسم السياسى؛ وأضعف جهازه المناعى نتيجة للسياسات التى ولدتها تلك 
التمزقات. فالازدواجيات والانقسامات الأفقية والعمودية هى التى ألحقت بالدولة الضنى 
والهزال حتى أصبحت منهكة للأمراض. ولو لم يكن فى الجسم السياسى تلك المستقبلات 
للفيروس (1/1505) لما تمكن منه الداء. لهذا كله احتدمت الأزمة السودانية حتى دخلت فى 
فوخلة امتصناء تاريكى مرية :هو عجرن غن : أو تجافينا:الخوض قن حرق المشكل لو 
فعلناء لتوصلنا إلى الرحم الموبوء الذى انسربت منه السياسات المدمرة التى أوردت البلاد 
موارد الهلاك ‏ ولما أصبح الاستعصاء اختباراً للوطن كله. ما هى تلك الازدواجيات 
المتعارضة التى يصادم بعضها بعضأ؟ 

زا كى يذه ففاك» الازذواجية الأستجمارية والدن كان عبر عذها يانم السسودان 
الإنجليزى المصرى. تلك الازدواجية أحدثت انقساماً بين السودانيين فى سعيهم نحو 
استقلال بلادهم بطريقة لم تعهدها أى حركة تحرير وطنى فى العالم. 

تانياً: ازدواجية الجماعات الدينية المسيسة (الختمية والأنصار)ء وما كان لتلك 
الازدواجية فى حد ذاتها أن تصبح أداة تمزق » لولا ما انتهت ت إليه من خلافات عدائية 
نابية. مصدر النبو هو أن أغلب الخلافات بين قيادات الطائفتين كانت شخصية ومزاجية 
ولا تمت لأولويات الدولة أو الوطن بسبب. 

ثالتاً: ازدواجية الشمال والجنوب التى أفضت إليها عوامل ثقافية وسكانية وتاريخية 
وجغرافية. وفى هذا لم تكن الحالة السودانية حالة فريدة» إذ تعرضت لنفس الظروف دول 
أخرى.ء إلا أنها تجاوزت أزماتها بحكمة قياداتها. 


22 


وفى تتبعنا لتاريخ السودان الاجتماعى والسياسى ‏ منذ الحكم التركى حتى اللحظة 
الراهنة ‏ سنحاول أن نبين أثر تلك الازدواجيات على تطور السودان» ودورها فى تعميق 
أزماتهء خاصة فى الباب الأول من الكتاب. 

ولربما توقفنا قليلاً فى هذه المقدمة عند الازدواجية الثالثة؛ ففى العالم دول كثر فى مثل 
مساحة السودان - أو أكبر منه مساحة ‏ تيسر لها تجاوز الفوارق بين أقوامها بنفضل بعد نظر 
زعمائها وحكمتهم. لنأخذ على سبيل المثال الهندء ثانى دولة فى العالم من حيث تعداد 
السكان. تغلبت الهند على اختلافات عرقية ودينية ولغوية أكثر بكثير من تلك التى تعرض 
لها السوذان::وما كان ليعسدى للهند أن تذخطى تلك الاتقسامات: وترسخ دعائد أقوئ 
ديمقراطية فى الدول النامية قاطبة ‏ بل نقول فى العالم أجمع ‏ بحكم حجم جمهور 
ناخبيها(') ‏ لولا حكمة زعمائها. ومما يبعث على الحيرة أن نضال الهند الوطنى لاقى 
ترحيبأ كبيراً من رواد الاستقلال السودانيين» بل إنهم اتخذوا من المؤتمر الهندى نموذجآ 
يحتذى عند إنشاء مؤتمر الخريجين» أول تجمع سياسى سودانى. إلا أن تأثر خريجى 
السودان بالمؤتمر الهندى كان تأثراً شكلياً خالياً من المضمون. لم يستلهم رواد استقلال 
السودان من قادة الهند الأفكار التى استهدى بها أولئك القادة فى بناء وطنهم وتجاوز 
انقساماته الحادة . وليته كان للرواد بديل فكرى نظيرء فالخطاب السياسى يومذاك كان 
خطاباً بلاغياً: فصاحة فى القول وعنة فى الفكرء خاصة الفكر الذى يتناول مشاكل السودان 
كما هي على وبجة النسيطة ©وعندها كيبي التسداحة على الخطات السدابيئ كما حدث 
بالأمس ويحدث اليوم يسّحق الفكرء ويعترى السياسة هزال وغتاثة. إخفاق الزعصاء 
السودانيين فى تحويل تنوع السودان الإثنى والثقافى والجغرافى إلى تنوع خلاق يفيد شعبهم 
كما فعلت الهند ‏ يمتل إدانة تاريخية لتلك الزعامات. أشد سوءاً أن السياسات ل التى 
اتبعها الزعماء الشماليون لمعالجة قضايا التنوع فى السودان كادت أن تصبح كتاباً مدرسياً 
يتعلم منه الآخرون كيف تتحول الفرص إلى خيبة» وكيف تصبح إطلالة شمس الحرية فجراآً 
كاذباً. لهذا سوف نشير مراراً وتكراراً لتجارب الهند بعد الاستقلال» خاصة فيما هو وثيق 
الصلة منها بقضايا التنوع الثقافى والدينى والاجتماعى وقضايا التهميش الاقتصادى. 


23 


كما لولم يكن فى كل تلك الازدواجيات المتعارضة ما يكفى» برز على السطح تصنيف 
أيديولوجى سياسى جديد ليتضام إلى سلسلة الازدواجيات الأخر. فمنذ أوائل الستينيات سيطر 
على السياسة السودانية استقطاب جديد: «القوى التقليدية؛ ضد «القوى الحديثة؛ أو «القوى 
الديمقراطية؛ ؛ و«اليمين؛ ضد «اليسارء؛ والدعاة ل«الدولة العلمانية» ضد أولئك الذين ينشدون 
«الدولة الدينية». ذلك الاستقطاب ‏ إضافة إلى عوامل التمزق الأخرى ‏ جعل من تحليل 
السياسة السودانية كابوساً لعلماء السياسة ومؤرخيها. ولربما كان تصنيف القوى السياسية 
السودانية بهذه الصورة انعكاساً للفكر الأيديولوجى الثورى الذى كان سائداً منذ الخمسينيات 
وحتى السبعينيات. فالأحزاب التى ارتكزت على قاعدة دينية» أو تلك التى نسبت نفسها 
للدين » صنفت فى عداد أهل اليمين؛ بما فيها تلك التى نهجت نهجآً ليبرالياً؛ أو سعت 
للفصل العملى بين الدين والسياسة دون أن تجهر بذاك لأسباب تكتيكية. من الجانب الآخرء 
ضم اليسار الحزب الشيوعى والمجموعات التى كانت تدور فى فلكه؛ إلا من عصم ريى من 
الانشقاق عنه . أولئك المنشقون كانوا يحشرون حشراً- وفق تقويم ذاتى ‏ فى زمرة أليمين بل 
كان يقال عنهم ‏ بلغة لينين ‏ إنهم بتخليهم عن حزبهم الطليعى قد سقطوا عمودياً حتى 
القاع. تلك كانت هى أفكار آباء الكنيسة الأوائل» وفقهاء الإسلام منذ عهد المعتصم», فى 
بعضهم البعض. نحمد الله أن لم يكن للحزب الشيوعى السودانى محاكم تفتيش تنبش ما فى 
القلوب » أو سفود يشوى جلود الزنادقة كما شوى المنصور جلد ابن المقفع. تلك الفروق 
أصبحت بلا معنى منذ أواخر السبعينيات ‏ وأكثر من ذلك عقب انهيار الاتحاد السوفيتى ‏ 
حينما افتقد الخيط الذى كان يفصل بين اليمين واليسار شرعيته المزعومة. 

تعبير القوى الحديثة نفسه تعبير تجهله أدبيات السياسة» فالجماعات السياسية ‏ بوجه 
عام تعرف على أساس الفروق الاجتماعية والاقتصادية فيما بينها. ولكن المعلقين 
السياسيين فى السودان ظلوا ‏ وما برح بعضهم ‏ يطلقون هذا الوصفء. مع عموميته؛ على 
الصفوة من أبناء العاصمة والشمال النيلى الناشطين فى النقابات والاتحادات المهنية 
والطلابية» علماً بأن الرباط الوحيد الذى يجمع بين هذه الجماعات هو حرصها على الدفاع 
عن حقوقها المهنية ومصالحها الاقتصادية» بغض النظر عن الانتماء الحزبى أو الطائفى 


24 


والأيديولوجى للعناصر المكونة لها. ومع الإقرار بأن إعادة بناء السودان سوف تبقى منوطة 
لفترة طويلة بالطبقة الوسطى التى تعتبر النخبة المسيسة من بينها هى القاطرة الفكرية 
المحركة: إلا أن هذا لا يبيح التقسيم القسرى للقوى السياسية إلى «جديده و«تقليدى:» دون 
أية نقطة استدلال (0مأمم ععمععع) عرد إليها الأموو ر. ويبدو التناقض الناجم عن هذا 
التصنيف العسفى أكثر وضوحاً فى حالة الإخوان المسلمين , أشد الأحزاب تعصبا لتوجهها 
الفكرى فى تاريخ السودان الحديثء ونبذاً لأفكار القوى الحديثة. تلك المجموعة نمت 
وترعرعت فى نفس الأرضية التى أنبتت القوى الحديئة: حركات الطلاب والاتحاديات 
المهنية» ولم تكن تعرف لها عند نشأتها ‏ قاعدة جماهيرية مثل الأحزاب "التقليدية . 

على صعيد آخرء لا نحسب أن الأحزاب التقليدية» تقليدية بالمعنى القاموسى للكلمة» أى 
إنهم يحاكون آباءهم وأسلافهم ويتبعونهم من غير حجة أو دليل. هذه الأحزاب تضم بين 
صفوفها كثيراً من العناصر التى تنتمى لما يسمى القوى الحديثة؛ بل إن بعضها ‏ فى فترة 
أو اخرى ‏ تبنى افكار وشعارات القوى الحديثة حتى وإن كان ذلك من باب التملق الكلامى 
الكاذب (ع5670/10 مذ1) هذا بالطبع لا ينفى أن بين المنسوبين للتقليدية جماعات عقدت 
العزم على الحفاظ على المؤسسات والقيم والمفاهيم المتوارثة حفاظاً على مصالح اقتصادية 
وسياسية مكتسبة» حتى عندما أثبتت التجارب المعاصرة عدم ملاءمة الأفكار والمفاهيم 
للواقع الراهن. لهذا كله نتخذ موقفاً محايداً حيال هذه التصنيفات التى لا تستند على قاعدة 
معرفية ثابتة . فعندما نشير إلى الأحزاب التقليدية فى هذا الكتاب لا نعنى بذلك غير 
الأحزاب التى قامت عضويتها تاريخياً على الولاء القبلى والطائفى. وبهذا المعنى ينطبق 
وصف التقليدية أيضاً على أغلبية الأحزاب الجنوبية التاريخية التى اتسمت أجندتها 
السياسية بمحدودية إقليمية لا تتناسب مع اهتمامات السودان الكبرى. من ناحية أخرى يشير 
تعبير القوى الحديثة ‏ كلما ورد فى الكتاب ‏ إلى التنظيمات السياسية التى لا ترتكز على 
قاعدة اجتماعية تقليدية. أما تعبير القوى الديموقراطية فهو أحد مسكوكات الخطاب 
الشيوعى ويشير إلى المجموعات المستقلة فى النقابات واتحادات الطلاب والتى لا ينتمى 
أفرادها إلى القوى التقليدية. ويكاد تعبير القوى أو الجبهة الديمقراطية ينكر بهذا المعنى على 


25 


كل المندمين للقوى التقليدية صفة الديموقراطية. صحيح أن الأحزاب التقليدية تفتقد 
الديموقراطية بسبب من الطبيعة الوصائية لقياداتهاء ولكن صحيح أيضاً أن الحزب الشيوعى 
الراعى لما يطلق عليه القوى الديموقراطيةء كان يفتقدء هو الآخرء الديموقراطية الداخلية 
بحكم وصائية أخرى هى وصائية الحزب المهيمن؛ واحتكار الحقيقة وفق منظور أيديولوجى 
صارم. ولكيلا يكون خلاف بيننا فى هذا الموضوعء نقول أن الديموقراطية التى نعنيها فى 
هذا الكتاب هى الديموقراطية الليبرالية التى تواصينا عليها بآخرة. ويما أنه لم يعد هناك 
معطى جاهز للتعبيرين (إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من 
سلطان» (يوسف »)4١٠ /١؟ ١‏ يحتاج تعبيرا "القوى الجديدة ومضمونه السياسىء والقوى 
الديموقراطية وماهيته» إلى مزيد من البحث من جانب محللى السياسة. 
تجافينا لاستخدام تلك التصنيفات يقتضيه سبب آخر: عدم جدواها فى تناولنا 
للموضوعات التى نحن بصدد تناولها مثل الحربء السلام؛ الهوية الوطنية . فخلف المظهر 
الكاذب للتجديد الذى تشير إليه تعبيرات مثل "الديموقراطية والتقدمية والحديئة تكمن 
خبايا. مازال؛ مثلاء بين العناصر التى تقف فى طليعة الديموقراطيين الداعين للتجديد 
وتحرير السودان من رياق الماضىء شرائح لا تختلف نظرتها للجنوب ومناطق الأطراف ‏ 
حيث الحرب والتهميش الاقتصادى والخصائص الثقافية المتميزة ‏ عما ينادى به 
التقليديون. فهم يتوافقون مع أولئك؛ مثلاًء فى القول بحتمية هيمنة الشمال العربى ‏ 
الإسلامى على الجنوب هيمنة ثقافية. هناك ثمة فرق بين القول بأن الصيرورة الطبيعية 
للتواصل الحياتى بين أقوام السودان ستفضى إلى أن تصبح الثقافة العربية مصهراً لكل 
ثقافات السودان المتنوعة» وبين الدعوة لتحقيق ذلك قسراً . 
لنظرية الهيمنة الثقافية هذه منطلقاتها الأيديولوجية؛ فعروبيو السودان المؤدلجون ظلوا 
يرفضون رفضاً مطلقاً حتى نهاية الثمانينيات وجود أية هوية ثقافية مميزة للسودان. لم 
يقف هؤلاء عند إنكار إسهام الخصائص الثقافية لغير العرب من أهل السودان فى تكييف 
شخصية السودان الثقافية» بل شمل أيضآ التنكر لكل مواريث السودان الحضارية المنحدرة 
من الممالك النوبية . فالعروبيون لا يرون فى تلك المواريث إلا أثراً بعد عين؛ وإن كانت لها 


26 


أية قيمة؛ فهى ‏ فى تقديرهم ‏ قيمة متحفية. تلك النظرة لا تولى أدنى اعتبار لما خلفته 
تلك الحضارة من أثر باق فى شخصية الشمال الثقافية فى فضاء التفاعل التاريخىء كان 
ذلك فى المصطلحات أو التقاليد والعادات. مصدر تلك الفكرة المتشددة فى رفض مواريث 
السودان الحضارية القديمة» وثقافاته غير العربية الراهنة» هو الاعتقاد الراسخ عند العروبيين 
أن هناك أمة عربية واحدة (قومية) يفترض أن تسمو على أجزائها المعروفة بالوطنيات. 
ويزيد من الخلط فى الأمور أن المصطلحين (قومية ووطنية) باللغة العربية مرادفان للكلمة 
الإنجليزية .( 73]100211550) فى كتابنا هذا سنتطرق إلى الأصول الفكرية للمدرسة السياسية 
العروبية» والتطور الهام الذى طرأ عليها منذ التسعينيات. لا يدفعنا لذلك غير إيماننا 
بديموقراطية العقل, فديموقراطية العقل لا تمارس إلا عبر الحوار الذكى مع المدارس الفكرية 
المختلفة» كما لا يصبح الحوار ذكياً إلا إذا توافق المتحاورون على الأسس المعرفية التى 
تضبطهء وعلى المنهج البحثى الذى يقر أن الحقائق لا تثبت إلا ببرهان. 

من بين المجموعات المنظمة فى «القوى الحديثة؛ كان للحزب الشيوعى السودانى موقف 
فريد فى قضيتى بناء الوطن والهوية الثقافية انعكس فى أربعة أشياء سنشير إليها لأهميتها 
لموضوع بحثناء خاصة عند موازنتها مع مواقف القوى السياسية الأخرى. 

أولاً: من ناحية البناء. الوطنى أفلح الحزب الشيوعى فى إقامة حركة نقابية تجاوزت» منذ 
نشأتهاء نطاق الإقليم والقبيلة والأصل العرقى. ذلك إسهام ليس باليسير فى بناء الأمة 
(08الآتناط - ممتاهم) . 

ثانياً: الحزب الشيوعى - بجانب الحزب الجمهورى ‏ كانا أول من اعترف من بين كل 
أحزاب السودان الشمالية بخصائص الجنوب المتميزة . ولكن» حين دعا الحزب الشيوعى فى 
عام ١6‏ لحكم ذاتى للجنوب» ذهب الجمهوريون منذ ديسمبر ١155‏ للمناداة بنظام حكم 
فيدرالى لذلك الإقليم. 

ثالثاً: كان الحزب الشيوعى رائداً فى انتقاء المسئولين السياسيين امراقيه الحزبية العليا 
دون تمييز على أساس الجنس أو الأصل العرقى» حيث أقدم منذ الخمسينيات على ما لم 


27 


يقدم عليه حزب شمالى آخر: استيعاب الناشطات من النساءء والمرموقين من أبناء من كان 
يطلق عليهم الاستعمار اسم الزنوج المنبتين (أبناء وأحفاد قدامى الأرقاء) فى هياكله 
القيادية. 

رابعاً : كان هو الحزب الشمالى الوحيد الذى عبر عن درجة من الحذر حيال الهيمنة 
الثقافية على الجنوب. 

مع كل هذا الإنجاز كمنت أزمة الحزب الشيوعى يومذاك فى اعتقاده الذى لا يتزحزح 
فى نجاعة الفكر الماركسى فى تفسير كل الظواهر. والفكر (بما فى ذلك القكر الماركسى 
كمنهج للبحث الاجتماعى) عندما يتحول إلى أيذيولو حي صارمة نحدر الل ويضعف 
من حدة قرون الاستشعار. ولعل هذا هو الذى أخل بقدرات ذلك الحزب على تحليل وضع 
الجنوب كحالة فريدة من نوعها لا تنطبق عليها مقولات ستالين حول القوميات؛ أو أحكام 
ماركس حول نمط الإنتاج الأسيوى وإسقاطه على كل أنماط الإنتاج قبل الرأسمالى. هذه 
مواقف أخذ الحزب فى التخلى عنها حسبما سنبين فى الفصل العاشر. 

خصنا الشيوعيين والعروبيين والجمهوريين بالإشارة يعود إلى أن هذه المجموعات ظلت 
ترفد السياسة السودانية بالفكر. بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع ذلك الفكر. هذا لا 
يعنى إلغاء الإسهامات الفردية لبعض رجال الاحزاب التقليدية» مع التاكيد على ان تلك 
الإسهامات لم تكن جزءاً من منظومة فكرية متكاملة تبنتها الأحزاب. كما لا يلغى دور 
الإخوان المسلمين والذى سنتناوله فى هذه المقدمة» وفى عدد كبير من فصول الكتاب. 
ويصورة عامة» أوهن فشل السياسات فى الأربعين عام المنصرمة من شرعية كثير من 
الأفكار التى كانت تسيطر على الساحةء جاءت من "اليمين أو من اليسار. تلك حقيقة مازال 
البعض يتعامى عنها رغم الفشل الذريع الذى منيت به السياسات.ء وبالتالى الأفكار التى 
انبنت عليها تلك السياسات. ومن المؤسى وقوع ذلك الفشل» رغم وجود بدائل مطروحة كان 
من الممكن أن تقيل السودان من عثرته» وعليها سنأتى تباعاً. جميع تلك البدائل انطلقت من 
الافتراض بأن لا سبيل لاستقرار السودان قبل إنهاء الحربء ولا أمل فى إنهائها دون 
استقصاء جذورها الدانية والبعيدة. وخلال استعراضنا للأحداث سيبدو جلياً لكل ذى بصرء 


28 


نوتناك الدرينان تين عي الأقكار السزنينة لتطويات الهومة لوفو الستريية 
الحصريةء ولن يساعد على الوصول إليه تقرير مصير الدولة الوطنية على أساس دينى» 
ولن يتحقق مع إنكار ظاهرة التهميش الاقتصادى لمجموعات كبيرة من أهل السودان خارج 
الشمال النيلى» كما لن يفيد فى شىء تعليق مشاكل السودان كلها على مشجب الاستعمار: 
رغم كل جرائرهء بعد ستة وأربعين عاماً من رحيله. 

كان من الممكن أن تصبح تلك الأفكار المرتهنة لرؤى ذاتية قابلة للتطبيق؛ لو اقتصرنا 
السودان على الجزء الشمالى النيلىء إلا أن الأقدار التاريخية قضت بأن يكون السودان 
مريعا لأقوام عددا مختلفى اللغى والأديان والمنابت . من هؤلاء من رعرع (أنشأ) الله 
أسلافهم فيهء ومنهم من وقد أسلافهم الوورياة وطاب لهم المكان فاستقروا فيه وأقاموا. لهذا 
» أصبحوا جميعاً أصحاب حق أصيل فى البلاد. هذا التنوع . حسب نظرة المرء له قد 
يكون مصدر خير دانى النتاج » كما قد يصبح ذريعة شر وفتنة» "ونبلوكم بالشر والخير فتنة. 
فالتى ييتغى الخير يتفسي ا فى التتوع من إثراء خلاق» والذى ينه للشو لإ محالة 
ملاقيه أن استكر لي ا ل 0 . ويخطئ من يقدر 
أن المنهج الثانى سيفضى إلى بقاء السودان موحداً. وقد درج أغلب حكام الشمال ‏ ومازال 
النظام القائم 00 غلى سحائجنة المتكل سديانوات الاستزصاء والانتكيعانن لتنخت 
الجنوبية» أو تلك التى تنتمى للمناطق المهمشة» دون أن يفتطنوا إلى ان صراعاً بهذه الدرجة 
فق التعقيد لآ يمكن حسفة بارا نوع الححكة 

فى استهلالنا لهذا الكتاب أوردنا أن جزءاً هاماً من نخب الشمال ما فتئ ينظر لأهل 
الجنوب وكأنهم بفطرتهم»ء أدنى مرتبة من الشماليين. هذا التصنيف وتداعياته الرمزية 
طال حتى مواقع العمل التى يفترض أن يحتلها المرء بحكم تأهيله العلمى وقدراته الفكرية؛ 
لا أصله العرقى. مردٌ ذلك التقسيم الزرى هو الصور الذهنية للسيد والعبد التى تركتها ثقافة 
الرق فى المخيال الجمعى الشمالىء والتى أسفر: ت عن صدمة نفسية (13100172])دائمة بين 
الجنوبيين» قادتء بدورهاء إلى ردود فعل غير معافاة . هذه هى الحقائق التى أوصدنا عنها 
فى الشمال عقلنا بمغلاق متين» إما تحرجأ أو لا مبالاة .ولولا أن حكام السودان بعد 


29 


الاستقلال ونخبه المفكرة ذهبوا إلى المراوغة فى إقبالهم على تناول الآثار الحقيقية والمفتعلة 
لتلك الظاهرة على السياسات المعاصرةء لانتهى الحديث حول الرق منذ زمان» كما انتهى 
فى بلاد أخرىء ولكان فى نهايته شفاء للأمة من جراحها المثخنة. 

بسبب من تلك المراوغةء استحال محو الصور الاستزرائية التى شحنتها ثقافة العبودية 
فى الأذهان. لم يدر بخلد القيادات والنخب أن واحداً من أهم دواعى الاحتقان فى نفوس 
الجنوبيين وغيرهم من المهمشين مثل النوبة والفور وقبائل الأنقسناء هو استدامة تلك الصور 
فى العقل الجمعى الشمالى. على النقيضء سعت القيادات بدأب ملموس لمسخ الوقائع 
التاريخية بهدف إنكار صلة العبودية بالأزمة الحالية فى السودان. هذا أيضاً كان هو موقف 
أغلب مؤرخى الشمالء» كشطوا تلك الصفحة من التاريخ فانكشط للناس سرهم. هذا منهج 
معيب لأن الأمر تجاوز الاستخفاف بظاهرة اجتماعية تركت وراءها أثرأ بارزأ إلى تزييف 
وقائع التاريخ. والتاريخ؛ كما نعرفء ليس جوهراً صافياًء إذ فيه الزكى الطيب. وفيه الفاسد 
العطن. صحيح أن التاريخ ليس بريئاً من كل عيب لأنه لا يعبر إلا عن رؤية كاتبيهء وكما 
يقول المؤرخ المعروف إ. ه . كار" (::02) .11 .)ليس للتاريخ وجود مستقل عن الذين 
يترجمونه ()1 أع1216727 0 لبلا 1205 1010 320128ة)5-عع12 0م قط لإزمأىاط)ء ولكن هذا 
لا يببيح طمس الوقائع. فالمؤرخ الذى يزيف الوقائع» بطمسها أو تغييبهاء يخدش ضمير 
التاريخ نفسه. وكثيراً ما يكون تغييب الحقائق ناجماً عن تحيز منهجى أو معرفى يدفع 
المؤرخ لانتقاء الوقائع التى تثبت موقفه المنحازء واستثناء تلك التى تتعارض مع ذلك 
الموقف. هذه مناسبة لأن نشيد فيها ‏ مرة أخرى ‏ بجهد الأستاذ محمد إبراهيم نقد فى 
إجلاء الحقائق عن ظاهرة الرق فى فترة المهدية» كما نشيد بالجهود المتواترة للدكتور أحمد 
العوض سيكيانقا حول الرق فى السودان بصفة عامة. تلك قضية لا يملك المؤرخ الرصين 
إغفالها أو بترهاء وإن فعل فلن يكون فى تاريخه مقنْع للباحثين عن الحقائق المجردة» لأن 
المعرفة البتراء تحيد بالمرء عن الصواب . لهذا السبب سنولى تاريخ العبودية فى السودان 
جزءاً هاما من هذا الكتاب عبر كل الحقب» حتى وإن كان فى ذلك هز للصور المعرفية 
السائدة فى العقل الشمالى والعقل الجنوبى. ففى الحالة الأولى أسهم المؤرخون الشماليون 


30 


بإغفالهم لتلك الظاهرة» إسهاماً كبيراً فى ترسيخ الصور السائدة. وفى الحالة الثانية لعب 
بعض السياسيين الجنوبيين دوراً كبيراً فى إخراج موضوع الرق عن سياقه التاريخى حتى 
أصبح ذريعة افتتان. 

مواقف حكومات الشمال حيال الجنوب لم تكن لتسهل دون تعاون طائفة من الساسة 
الجنوبيين الرحل (70:0205) الذين واظبوا على التنقل من حزب شمالى إلى آخرء ومن 
حكومة شمالية إلى أخرى ببراعة مذهلة . تلك الطغمة من الانتهازيين لم تبال بأن يكون لها 
موقع فى كل حكومات الشمال حتى تلك مثل نظام الجبهة؛ التى لا يتوقع عاقل أن يكون 
لجنوبى غير مسلم مكان فيها بحكم توجهها الدينى الانغلاقىء وسياساتها الجهادية نحو 
الجنوب» وازدرائها للديانات الأخرى. رغم كل هذا » وجد طريقه إلى ذلك النظامء المحارب 
الجنوبى القديم» والقس الذى لا يحتشم» دعك عن انتهازيين من الدرجة الثالثة ما فتئوا منذ 
الستينيات يتدافعون على موائد لا يستمرئ طعامها إلا بصباص (متملق) لكيم. 

لقد لعب المستعمرون ‏ بلا جدال - دوراً كبيراً فى استرجاع أسوأ الذكريات المتعلقة 
بتجارة الرقيق بهدف تعبكة الجنوبيين ضد الشمال كله . نتيجة لذلك؛: أخذ الجنوبيون ‏ وما 
زال بعضهم مثابراً على ذلك حتى اللحظة ‏ يحملون أهل الشمال كله المسئولية عن خطأ 
ارتكبه أسلافهم . على أن الإدانة لشعب بأكمله على أخطاء ارتكبها نفر من أهله فى الماضىء 
أمر يتسم بالظلم ويفتقد الحكمة . هذه النظرة الموضوعية الباردة يجب أن لا تعفينا فى الشمال 
من المسئولية الأدبية عن آثار ذلك التاريخ الشائن» فالشمال وحده هوالذى جنى ثمار 
الاسترقاقء كان ذلك فى الدفاع عن نظام حكمه (الدولة المهدية) » أوفى بناء قاعدته 
الاقتصادية (الإقطاع الزراعى)» أو فى العناية بمرافقه الخدمية. ومع الإعتراف بتعميق 
الإستعمار لعوامل الانقسام الراهن بين الشمال والجنوب» فإن تحميله ‏ بصورة حصرية - 
المسدولية عن كل مآسى السودان الراهنة لا يعدو أن يكون مزحة سخيفة. فمنذ الاستقلال 
توفرت لساسة الشمال فرص لمعالجة الأخطاء الموروثة من عهد الاستعمارء وضمد الجراح» 
والتوجه بالسودان فى طريق البناء والرفاه فى ظل تعايش متناغم بين أبنائه . ولكن استمرار 
الحرب نصف قرن من الزمان بعد خروج الاسدعمار يظه رأن ثمة شيئاً متعفناً فى 


31 


مملكةالدنمارك (اتمصمعدحآ ]ه دتملعمكا عطا صا معام عمتطاعدره؟ ذ5ز عوعط1) هذا 
العفن عجزت أنوف الطبقة الحاكمة فى الشمال عن شميم رائحته الساطعة. 

وعندما بدأ الجنوبيون يطالبون بمكانهم تحت الشمسء باعتبار أن ذلك حق مشروع لهم » 
لم ير أهل الحل والعقد فى الخرطوم فى تلك المطالب إلا تعدٌ على خصوصيات الشمال » بل 
وعلى حقه الموروث فى أن يقرر بمفرده مصير القطر كله بدلاً من اهتبال تلك الفرصة 
لإصلاح الأخطاء التاريخية. من تلك الخصوصيات الشمالية» كما قلناء اعتبار رواد الحركة 
السياسية منذ ثلاثينيات القرن الماضى أن الثقافة الإسلامية العربية» المحدد الوحيد والمكون 
الأساس للهوية الوطنية السودانية. ولوجاء ذلك الطرح فى بيئة أكثر معافاة من البيئة التى 
تسودها ثقافة الاسترقاق » وتطغى عليها النظرة الاستهجانية لغير العرب ‏ بمن فيهم أبناء 
وأحفاد الأرقاء فى شمال السودان والذين أصبحوا شماليين بكل ما تعنى الكلمة من معنى - 
فلربما كان لرواد الحركة الوطنية ما أرادوا. ولكن فى ظل الثقافة الشمالية الاستعلائية» 
والنظرة البطرقية الطاغية من جانب الشمال للجنوب » كان رد فعل أهل الجنوب هو 
الاستمساك بخصائصهم الثقافية ودياناتهم المحلية وعاداتهم الموروثة . لم يتحملوا الألم فى 
صمت كما افترض السادة ظناً منهم أن العبد ينبغى أن لا يعصى لسيده أمراً. 

تلك القضايا سنتناولها بتفصيل يؤلم الكاتب أكثر مما يؤلم القارئ. وقد قطع هذا الكاتب 
على نفسه عهداً ‏ فى زمان الحديث عن المناطق المحررة فى السودان ‏ بأن يظل عقله هو 
المنطقة المحررة دوماً من سيطرة الأوهام التى تخالف البدائه » والتكاذيب التى تودى 
بأهلها إلى النار. وفى ذلك لا يدعى الكاتب الانفراد بمعرفة حقائق غير مبسوطة للكافة؛ ما 
يملك أن يدعيه هوأنه يجد ويجتهد لتعريض تلك الحقائق لغربال ينقى حبها من شوائبه. 
فالذى لايملك القدرة على نبش نفسه» يستحيل عليه أن يعيد صياغة إنسانيته كلما تبدلت 
الأحوال وتغيرت الظروف. هذا أمر استحصدنا العزم على السعى فيه؛ رغم ما قد يثير من 
رياح عواصف خبرناها من قبل» حتى خلنا أننا حيثما تكون عين العاصفة نكون. نقول 
قولنا هذاء ونحن لا نستعير فضلا من أحدء ولا نرضى بسلطان على عقلنا غير عقلناء 
فالعقل كما يقول شيخ المعرة خير مشيرء والعقل نبى: 


32 


فشاور العقل واترك غيره هدراً 
فالعقل خير مشير ضمه النادى 
أيها الغرإن خصصت بعقل 
فقاسأئنه فكل عقل نبى 

وسنكون أكثر الناس سعادة لو أبان لنا الآخرون ‏ بالبرهان لا بالحدس ‏ الخلل فيما 
نرتئىء أو الخطل فيما انتهينا إليه من رأى. ديدننا فى هذا رأى لبق موقق (كناماكءزا)) 
للإمام الشافعى: ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ» فرأيى صواب يحتمل الخطأء ورأى 
غيرى خطا يحتمل الصواب. 

هذا بعد كل هذا الخاريخ لاتقل بأوعناز ا الناتى ؟ راذا معدء فى كلل وعى يتمد 
0 الأوضار؟ هل يمكن للسودان؛ أن يصبح أمة واحدة ؟ نطرح هذا 
السؤال » ونبذل قصارى الجهد فى الإجابة عليه فى هذا الكتاب. حقيقة» لقد جعلت السياسة 
السودانية منذ الاستقلال من السودان بلدين؛ ومن هنا جاء العنوان الفرعى للكتاب: 'قصة 
بلدين. نقبل على الإجابة على السؤال بغير قليل من التفاؤل؛ ولا نريد من القارئ أن يرى 
فى العنوان القرعى حكماً استباقياً. التفاؤل» كما قال الإسكندر بوب » ينيع على نحو سرمدى 
فى قلب الإنسان .(1733 ,24328 00 '(8558) ومصدر التفاؤل» فى هذه الحالةء هو أن الذى 
نحن بصدده صراع وطنى ذو جذور تاريخية» والذى يقدم على مثل هذا الصراع متشائماً؛ 
عليه أن يعترف بهنة البذاية نوةيمته ريظن النناحة ولك اناس من النس» كما له لتقن 
أملنا فى الوطن رغم كل العثرات. وفى قول الأستاذ العميد طه حسين: "اليأس من الوطن 
يهدر الكرامة» واليأس من النفس يسقط الهمة. 

قلناء فيما سلفء, بأن ثمة بدائل توافرت للسياسات المدمرة التى انتهجتها الحكومات 
الشمالية تجاه مشكلة الجنوب منذ الاستقلال. عوضاً أن امتحان هذه البدائل والحوار مع 
أصحابهاء آثرت تلك الحكومات الحوار المغلق مع ذاتها حواراً مونولوجياً لا يبتغى منه المرء 
عبن سما عرضتوتة :لهذا كلما اذلؤمت الخطرب وامٍطرتك الأحراك امتطرارا لقوق ما اتابيت 


33 


عن قبوله بالأمسء اكتشفت أن الظروف قد تجاوزته وأن الطرف الآخرء نتيجة لمراوغاتهاء 
ازداد تشدداً فى مواقفه. وبدلاً عن استقصاء جذور هذا التشدد الجديد تذهب الحكومات 
الشمالية» مرة أخرىء إلى حوارها المونولوجى المغلق. 

خلال متابعتنا فى هذا الكتاب لجذور الحرب سنتعرض للجهود والأفكار المُلهمة التى كان 

من الممكن أن تعين على تحقيق السلام والوحدة والاستقرار من الجنوب جاءت أم من 
الشمال. وفى تحليلنا لهذه الجهود سنتوقف عند خمسة 000 (ككاتهمط اعمع6)تاريخية : 
إعلان الاستقلال وقبول الجنوب لذلك الاستقلال شريطة اعتراف الشمال بنظام فيدرالى 
لحكم الجنوب )١155(‏ ء مؤتمر المائدة المستديرة )١510(‏ » اتفاق أديس أبابا (1915) » 
إعلان كوكا دام »)١11487(‏ قرارات أسمرا »)١1155(‏ هذا الرصد الكرونولوجى للأحداث قد 
يكون أوفق من التحقيب العسفى لمراحل السياسة السودانية. مع ذلك لجأنا إلى مثل هذا 
التحقيب بلا عسف فى تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أبواب وفق اعتبارات موضوعية تتعلق 
بالطبيعة المشتركة للقضايا المطروحة. 

التحليل القائم على رصد الحقائق والوقائع التاريخية المثبتة » والاستنتاج المنطقى من 
هذه الحقائق والوقائع يؤكدء أن تحميل ساسة الشمال للاستعمار وحده مسئولية خلق مشكلة 
الجنوب» إنما هو حجة واهية لمداراة خيبتهم فى التعامل مع الأزمة. الاستعمارء بلا شك» 
اصطنع المشكلة» إلا أن الحكومات الوطنية ‏ على مدى نصف قرن من الزمان ‏ لم تعمل إلا 
على استفحالها. ونصف قرن من الزمان ليس بالزمن البسيطء ففى خلاله قامت دول ونمت 
وتفرهدت. فى خلاله أيضاً تجاوزت دول نوازع التفرق التى تشبه ما يعانى منه السودان؛ 
ولم تفلح تلك الدول فى عبور أزماتها إلا بانكباب حكامها وحكمائها على تقليص الفوارق 
وتكثيف الجوامع بين أقوامها. لم يلهها عن ذلك صراع طائفىء أو نزاع حزيى؛ أو طموح 
شخصى بائرء فحبهم لبلادهم هو الذى هداهم للطريق السوى. ترى كم من الزمان يحتاج 
إليه حكام السودان وحكماؤه لكيما تطيب نفوسهم لحب الوطن؟ إن حب الوطن أكثر رحابة 
من الخصوصيات التى ينفرد بهاء أو يميل لها بعض أهله مثل الدين والعرق» ناهيك عن 
الطموح الشخصى . هذا إن كان الوطن السودانى الذى نتحدث عنه هو حقا المنطقة الواقعة 


34 


بين خطى العرض الرابع فى الجنوب والثانى والعشرين فى الشمالء وبين خطى الطول 
السادس والثلاثين فى الشرق والرابع والعشرين فى الغرب. فعلى مدى ما ينيف على 
الأربعين عاماً بعد الاستقلال» اتسمت نظرة الطبقة الحاكمة فى الشمال بقصور فصاح» 
بحيث لم ترأن ثمة خطأ فى دولة منقسمة على نفسها. بدلاً عن التملى جلياً فى دواعى 
ذلك الإنقسام ذهبت تلك الطبقة من الحاكمين إلى الإمعان فى تعذيب شعبها بتطبيق سياسة 
قوق تسوه وف يعض الأخكان فرق لكيهنا. تحمرطاف ناض الرقك انتقات تلك الليقة 
بصراعها الداخلى إلى كل صقع فى الوطن العربى لتصور الصراع الداخلى وكأنه مؤامرة 
خارجية على الكيان العربى الإسلامى. ومن المذهل أن نفس الطبقة الحاكمة جاءت بعد 
ثلاثين عاماً من الاستقلال لتقبل ما لو قبلته عند الاستقلال (النظام الفيدرالى للجنوب)» 
فاريما قد اليؤذان على كجاوق مكف من المذهل أرما أن :ليكول واهد من الألهزات 
التى أدارت ظهرها لفكرة الفيدرالية عند إعلان الاستقلال ليعبر فى نقد ذاتى شجاع عن 
مسئولية الحزب الذى ينتمى إليه عن التدمير الذى حاق بالسودان على مدار الأربعة عقود 
التى انصرمت بسبب المماطلة إزاء تلك القضية. حتى نميرى الذى اقترب من إرساء أساس 
لوحدة السودان عقب اتفاق أديس أباباء أرجع عقارب الساعة إلى الوراء عشرة أعوام بعد 
توقيع ذلك الاتفاق التاريخى. 

نجىء من بعد على الانقسام الدينى» خاصة فى تجليه الجديد فى فترة ما بعد الاستقلال. 
الانقسام بين يسار علمانى ويمين دينى ليس انقساماً زائفاً فحسبء بل هو أمر شابه ختلان 
مبين. فمنذ منتصف الستينيات أشعل الإخوان المسلمون نيران حرب وهمية ضد العالمانية 
(العلمانية) بوصفها إلحاداً. لم يكن الإخوان بالدرجة من الجهل التى يصدقون فيها ذلك 
التخليط؛ ولكن الدين كان أداة ناجعة فى إلهاب المشاعر وتجييش العواطف ضد الآخر إلى 
درجة أبلسته. استخدم الإخوان المسلمون تلك الأداة فى العام ١9727‏ صد الحزب الشيوعى 
لطرد أعضائه من البرامانء وحل مؤسساته؛ والحكم بإلحاد ناشطيه مما قاد إلى نفيهم مجازاً 
إلى سيبيريا سودانية . استخدموه أيضاً فى العام ١985‏ لإرهاب كل من طالب بإلغاء القوانين 
الهزلية التى أصدرها نميرى ونسبها للشريعة. ودون إنكار لتباين الأمس المعرفية بين 


235 


الخطاب الدينى والخطاب العلمانى» نقول إن كل الذى قال به المنادون بعلمنة الدستور فى 
السودان هو أن وحدة أى قطر متعدد الديانات لن تتحقق مع تديين السياسة؛ أو استغلال 
الدين لخدمة ماربها. فالعالماتية» بهذا الفهم لا تلغى الأديان وإنما تتيح فضاء سياسياً تنعم 
فيه كل الأديان بمعاملة متساوية. فى هذا الشأن» نزعم أن الإسلام نفسه قد يكون علمانياًء 
هذا الرأى انتهى إليه موضوعياً الإسلامويون فى عام ١115‏ عندما أصدروا دستوراً يلغى 
النص على دين الدولة ويجعل من المواطنة أساساً للحقوقء الأمرالذى أنكروه على أنصار 
العلمانية فى عام 1174 . مع ذلك أبقى الإسلامويون على التهمة مسلطة كسيف ديموقليس 
على الرؤوس. وتماماً كما سعى الإسلامويون إلى نزع الصفة الإسلاميةء أو الدينية بوجه 
عام؛ عن خصومهم السياسيين» لجأت طائفة من العلمانيين إلى إنكار مشروعية الإعلام 
السياسى والحقته بالعمالة للامبريالية نتيجة لتحالفات ظرفية مع القوى الغربية» هذا الختل 
المبين سنتتبعه فى الفصول المناسبة ونزيد من التمهيد له فى هذه المقدمة . 

لماذا ارتد نميرى عن اتفاق السلام؟ كان من وراء تلك الردة أصحاب التوجه الإسلاموى 
كما سنبين فى الفقصل الخامس من الكتاب. ولعلنا نكتفى فى المقدمة بالإشارة إلى أن نميرى 
اعتقد خاطتاً أنه قد أفلح فى تحييد الجنوب وإخضاعه لنفوذه ونزواته عبر اتفاق أديس أباباء 
وجاء دوره ‏ بعد أن وقع الصيد فى الحبالة - لفرض أجندة منسوبة للإسلام على السودان 
كله . زاد من تفاقم الأمور تنصيب تسزتي تعنحة اماما قد عام ١187‏ فى ملهاة سوداء؛ إلا 
أن نميرى لم يدرك؛ كما عجز عن الإدراك من سبقه» أن وحدة الشعوب لن تتحقق وفق 
أجندة تستوعب هذاء رتقصطى ذاك بناء على أحكام ذاتية» بل نزوية . فما الذى أبقاه نميرى 
للجنوبيين بعد أن قطع اللّجام بالحسام؟ ردة نميرى عن اتفاق أديس أبابا كانت سبباً مباشراً 
لظهور الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان كحركة سياسية ‏ عسكرية ذات 
منبت جنوبىء إلا أتها تدعو لتوحيد السودان على أسس جديدة. وقد أوقع بروز الحركة فى 
ساحة السياسة السودانية بمفاهيمها تلك» كلا من الساسة الشماليين الواهمين» والساسة 
الجنوبيين الذين حملتهم ردود الأفعال على النظر إلى الصراع بحسبانه صراعاً بين الشمال 
كله ضد الجنوب كله فى شراك أعمالهم الخؤونة. 


536 


لم تلجأ الحركة إلى السلاح لتعيد السودان إلى المربع الأول؛ أو لتحيى الوحدة القديمة 
المزعومة من رميمء فرب العباد وحده هو الذى ينشر عظام الميت ويكسوها لحما. ما أعلنت 
عنه هو خلق سودان جديد منعتق من ظلامات الماضى ومتصالح مع ذاته. سودان لا 
تتنازعه الأوهام حول هويته الوطنية» أو حول الروافد العرقية أو الثقافية التاريخية التى 
غذت هذه الهوية . وكما إشركا فى الامكيلان يدا رنينن فلك الحرقة ركتسرير نشد من 
متلازمة الرفض (060121 04 5(006006)التى لم ينج منها أغلب ساسة الجنوب فى 
الماضى . تجاوز قرنق تلك العقدة ليصبح رائداً للتجديد السياسى والوحدة الوطنية فى إهاب 
جديد. تلك الدعوة راقت لكثشير من المحرومين من سودانيى الأطراف (النوبة» الفور» 
الفونج) فتداعوا إلى الحركة التى أنشأها. وكان الذى حال دون انضمام أهل الأطراف 
للحركات المسلحة الجنوبية فى الماضى هو توجهها الإنفصالى. فالنوبة» على سبيل المثال» 
كانوا عماداً للجيش السودانى الذى ظل يحارب فى الجنوب طوال الفترة منذ الاستقلال 
وحتى اتفاق أديس أباباء وما كسبوا لأهليهم شيئاً من انغماسهم فى حروب حكومات 
الخرطوم ضد الجنوب. نضيف أن جماعات الأطراف الأخرى فى الشمال» مع كل ما ظلت 
تضطغنه على حكوماته لعدم مبالاتها بمطالبهاء لم تناد فى أية مرحلة من مراحل تطورها 
بالانفصال. ْ 

شاءت الصدف الجغرافية أن ينتمى كل أهل الأطراف هؤلاء إلى قبائل غير عربية مما 
ولد انطباعاً خاطئاً أو مفتعلاً بأن الذى تبتغيه الحركة الشعبية هو خلق تحالف زنجى صد 
العرب؛ فى حين رأى مهمشو الأطراف فى الحركة أداة أكثر نجاعة من كل ما خبروا من 
أدوات للدفاع عن قضاياهم . وزاد من يقينهم فى ذلك إفلاح الحركة فى أن تصبح قوة فاعلة 
على الساحة السياسية الوطنية ‏ ليس بسلاحها فحسب ‏ وإنما أيضأ بأطروحاتها السياسية. 
الشكاكون من أهل الشمال تابروا على إثارة الريب حول أهداف الحركة:» بل إن واحداً منهم: 
الصادق المهدىء ابتدع لتحالف الأطراف هذا اسماً لم يحالفه التوفيق فيه: الانقلاب 
الإثنوغرافى. ذلك قول بعيد عن الفهمء لأن الإثنوغرافية منهج علمى وصفى وليس حالة؛ 
يسميه العلماء البريطانيون بالأنثروبولوجية الاجتماعية» فى حين يسميه العلماء الأمريكيون 


37 


الأنثروبولوجية الثقافية . ضالة ذلك المنهج هى تصوير الظروف الحياتية والمجتمعية للأقوام 
التى توصف بالبدائية» أى التى تحيا فى مرحلة الضرورة. وإن تركنا مبنى الاصطلاح 
ومعناه لنذهب إلى التداعيات المنطقية لإطلاقه على الحركة» نجد أن ما أراد الصادق قوله 
هو رأى شائع ب بين الجزء الغالب من القيادات السياسية والفكرية للشمال النيلى. هؤلاء يظنون 
أن الله قد فرض عليهم وحدهم تحديد الهدف ووقع الخطى لمسار أهل السودان أجمعين» 
بحسبانهم الأعلون. فكينونة السودان» فيما قدرواء تستمد حصراً من كينونتهم» وهنا مربط 
الفرس. 

تلك الصورة الوهمية استراح لها الكثيرون؛ ولم يفيقوا منها حتى بعد أن هز صراع 
القوميات العالم كله هزاً. وعندما طرق ذلك الصراع أبوابهم أخذوا يراغمون الحقيقة بصورة 
تشل العقل؛ إذ ما بالك بقوم يظنون أن فى مقدورهم توجيه التاريخ كما يريدون. هذا 
الموضوع تقاوله فى أكثر من فصل من الكتاب» وبخاصة الفصل الثامن لنبين أن موضوع 
الهوية الذى أتخم بالجدل يخفى وراءه - - بوعى كان ذلك أم بغير وعى ‏ حرصاً على الإبقاء 
عل اند قاف تبر عجره الويضة الاقتساازة والشياسة كماتيوين كيف عر سيك هده 
الفئة الأمور على نفسها حتى بلغت غايتها من الحدة. أقوام الأطراف هؤلاءء لا يعانون مما 
نعانى منه نفسياً فى الشمال النيلى. فهم متصالحون مع أنفسهم؛ بمن فيهم الذين وثّق 
الإسلام من ارتباطهم بإخوتهم فى الوسط دون أن يحملهم ذلك على تبخيس أعراقهم. 
فالفور فى الغربء والنوبة فى الوسطء ونضيف إليهم البجة فى الشرقء والنوبيون فى 
أقاصى الشمالء لا يعانون من أزمة أصالة ذات طابع عرقىء أولاً لأنهم أصلاء فى 
الأرضء وثانياً لأنهم ‏ بعد تمسلمهم أو استعرابهم ‏ لا يستقبحون أصولهم ومواريثهم 
الثقافية» بل بها يفاخرون. 

مهما يكن من أمرء كان للتلاحم بين قوى الحركة الشعبية التى نشأت فى الجنوب. 
وروافدها فى الشمال الجغرافى (النوبة والأنقسنا) أثران: قلوص النزعات الجهوية عند 
الجنوبيين » وإشاعة الوعى بين عدد كبير منهم حول التهميش كظاهرة لا تقتتصر على 
الجنوب وحده . كما كان لاحتكاك هذا النفر من الجنوبيين بالمقاتلين الشماليين من أهل 


38 


الشمال والشرق ‏ خاصة البجة وعرب الرشايدة ‏ دور كبير فى توعية أولئك المقاتلين 
بطبيعة المشكل الجنوبى بعيداً عن التلبيسات التى أحاطتها به أنظمة الحكم الشمالية 
المتعاقبة» وغلاة الانفصاليين فى الجنوب. فالالتحام بالرشايدة» مثلاء وهم المجموعة 
العربية الوحيدة فى السودان التى لم تختلط بغيرها أو تتهجنء كان مفاجأة للكثير من 
العناصر الجنوبية فى الحركة» حتى أخذ بعضهم يصف تهكماً رفاق السلاح من أبناء الشمال 
بينهم ب عرب فالصو. تلك التجربة ‏ بما فيها من جد وهزل ‏ كانت مدرسة تعلم فيها 
الجنوبيون ‏ بمن فى ذلك بعض عناصر الحركة ‏ ما تنطوى عليه من مغالطات كثيرة» 
الأفكار الموروثة حول استغلال الشمال كله للجنوب كله» أو توصيف الصراع الشمالى ‏ 
الجنوبى بأنه صراع بين العرب وغير العرب. فسيطرة الشمال النيلى على الأطراف ليستء 
بأى وجه من الوجوه» سيطرة مجموعة عرقية على مجموعات عرقية أخرىء وإنما هى 
يطرة شريحة اجتماعية شمالية على مفاصل الحكم وقمم الاقتصاد. هيمنة هذه الشريحة 
أدت إلى تهميش جماعات أخرى حتى فى الشمال النيلى نفسه. وما دعاوى تلك الشريحة 
حول الهوية المدميزة والغالبة؛ كما أسلف الذكرء إلا مبرر لتكريس الهيمنة السياسية 
والاقتصادية» وخلق بنية تحتية ثقافية» إن لم نقل أيديولوجية » تدعم ذلك التبرير. 
هذه الشريحة الاجتماعية تضم عناصر من "القوى الحديثة المدينية (ضباط الجيشء 
والموظفين بالدولة) . ومع استهجان هذه العناصر لسيطرة الأحزاب التقليدية على السياسة 
والاقتصاد ء إلا أنهم ظلوا يفيدون من سياسات الأحزاب التى يستهجنون» ويصطنعون 
التبريرات للإبقاء على الصور المعرفية السائدة حول أقوام السودان» بل التشكيك فى أى جهد 
فكرى أو سياسى يهز تلك الصور. هذا النمط من التفكير ذى المنبت الإقطاعى ثقيل الوطأة 
على العقل لن يقلل من لا علميته تبنى تلك الشريحة لشعارات تحررية زائفة . التناقض 
الكامن فى هذا النوع من التفكير يضفى بعداً آخر يزيد من تعقيد أزمة السودان. مع ذلك؛ لا 
نشك لحظة فى أن الغالبية العظمى من القوى الحديثة تتبنى فكرة خلق سودان جديد خال 
من ظلامات الماضىء بما فى ذلك التهميش الاجتماعى والاقتصادى لسودانيى الأطراف» 
كما تستميت فى الدفاع عن وحدة السودان على أسس جديدة . أزمة هذه الشريحة تكمن أولاً 


539 


فى تمركزها فى الذات» وثانياً فى طغيان التحليل الشكلى التبريرى على خطابها السياسى. 
من ذلكء التشكيك بصورة غريزية فى الأطروحات السياسية لأهالى المناطق المهمشة 
وعلى رأسهم الحركة الشعبية» التى ما انفكوا ينظرون إليها كحركة سياسية إقليمية . 

إن أية قراءة موضوعية لمطالب أهل الأطرافء أو لما تدعو إليه الحركة» تبين أن ليس 
بين تلك الجماعات مهضومة الحق من يبتغى ثارات كليب. ما يناضلون من أجله هو إنهاء 
هيمنة ثقافية واقتصادية واجتماعية لها جذورها التاريخية. على أن الذى يصيب العقل 
بالرهق هو تبنى تلك الشريحة لكل الأفكار والمفردات الجديدة على الخطاب السياسى والذى 
بسطته الحركة: التهميش السياسى والاقتصادىء السودان الجديد » العودة لمنصة التأسيس 
لوضع دستور جديد؛ فى ذات الوقت الذى تنكر فيه حق الحركة فى أن يكون لها رأى حول 
مستقبل السودان ككل. أو ليست المطالبة بأن يكون للحركة الشعبية رأى فى مصير القطر 
كله» نتيجة منطقية للادعاء بأن السودان بلد واحد لا يتجزأ؟ أولم يظل الشمال بمفرده يقرر 
على مدى أربعة عقود من الزمان مصير أهل الجنوب؟ أو لم يبادر الشمال بحمل السلاح 
غازياً الجنوب لترسيخ الوحدة؟ فلماذاء إذن» الاستكبار ثم الإنكار لحق الجنوبى الوحدوى فى 
أن يكون له رأى ورؤية فى تكييف السودان الجديد؟ أيعود هذا لأن الجنوب قد شب عن 
الطوق ولم يعد هو ذلك الفتى "الانفصالى المشاغب؟ أم لأنه أخذ ينادى بالوحدة ويبدى 
الرأى حول مقوماتهاء تماماً كما ظل ساسة الشمال يفعلون منذ مؤتمر الخريجين؟ تأمل» قوم 
يستشف المرء فى مطاوى حديثهم يقيناً تامأ بضرورة تخليق سودان جديد » وتثبت 
الأحداث خلال عقدين من الزمان بأن هناك حركة سياسية فاعلة قدرت ‏ رغم كيف 
الاجتماعى لمركز انطلاقها ‏ على أن تجعل من فكرة السودان الجديد عملة رائجة فى سوق 
المعاملات السياسية» ما برحوا عاجزين عن السمو على معتقداتهم الفطرية! من تلك 
المعتقدات أن أى حركة سياسية جنوبية المنبت يقودها سودانيون غير مسلمين وغير عرب 
ليست مؤهلة» بطبعهاء لأن يكون لها رأى على الصعيد الوطنى. هذا الموقف المضطرب 
الرجراج » وتلك الأفكار المتهافتة التى ينقض بعضها بعضأء لا تعبر فحسب عن فقدان 
الوعى بدينامكية السياسة الراهنة» وإنما أيضاً عن غياب كامل للعقلانية» بل العقل» ففضيلة 
العقل الكبرى هى إحكام الفكرة. 


40 


الذى يفتقد هذه الفضيلة يلجأ دومآ إلى اصطناع المبررات لدعاواه الواهنة . يقولون: نعم 
نحن مع السودان الجديدء ولكن لا نقبل أن يفرضه جون قرنق على الناس بحد السلاح. لا 
جدال فى أن قرنق قد لبس السلاح منذ عام »١1387‏ وما زال يلبسه حتى اليوم . على أن 
أطروحة الحركة تنطوى على عنصرين: الأول هو نظرتها الخاصة لمقومات الوحدة على 
أسس جديدة؛ والثانى هو دعوتها للعودة لمنصة التأسيس لكيما يتوافق كل أهل السودان على 
أسس الوحدة . قالت الحركة من بعدء إن عجز أهل السودان عن الاتفاق على شرائط تلك 
الوحدة» أو ظن فريق منهم أن السودان القديم قد ولد ليبقى» فلا محيص من أن يكون فراق 
وبينونة» إذ من الظلم أن يحمل ذلك الفريق غيره على أن يعيش فى بلده مواطناً من الدرجة 
الثانية. فى الفصول المناسبة سنتناول مسار الأطروحة التى جاءت بها الحركة. وكيف تم 
إجهاضها ‏ فى كل الحالات ‏ من أنظمة الحكم الشمالية؛ أو عكفت على التدليس عليها 
تدزوطة من نخدي الفسان: تزيد؛ أنه امن الكير لا الاقتطاق إلى أن الذى :دغر ل#الحرعة 
ليس فقط مشروعاً اجتماعياً شاملا لا يقبل التجزئة» وإنما يمتل أيضأً الفرصة الأخيرة لبقاء 
النودان موحدا + ولخ 'فقل تلك المشروع يصعت على أى.واعدا منا في الشمال أن مدكر 
على الجنوبيين حقهم فى التخلى عن دولة وطنية لا تضمن لهم حقوقاً مشروعة» أو تنبنى 
على قيم مشتركة. كما أن انهيار الوحدة بين الجنوب والشمال قد تتبعه عواقب وخيمة» إذ 
ليس هناك ما يضمن أن يقف التمزق عند حدود الجنوبء بل سيكون لانفصال الجنوب أثر 
الدومينو ()ع00701270-2116) على كيان السودان السياسى الذى أقامه محمد على باشا. 

نقول هذا بصراحة وعن يقين؛ فالصراحة ضرورية لتعرية الواقع؛ واليقين بلغتاه 
بقراءتنا الموضوعية لما يدور فى السودان» ولما يتكشف كل يوم فى العالم من حولنا. فحرب 
الجنوب تعود إلى قرابة نصف قرن من الزمان؛ هى أقدم من الحرب الإريترية؛ ومن 
حروب البلقان الحديثة . أوهل نجهل ما حدث فى إريتريا التى ما فتكت الروابط الثقافية بين 
أهلها وبين الأثيوبيين أمتن بكثير من روابط أهل الشمال النيلى بالاستوائيين والنيلويين فى 
جنوب السودان؟ أم نجهل ما حدث فى ولايات يوغسلافيا القديمة» بل وفى داخل واحدة 
منها (البوسنة والهرسك) ٠‏ رغم مابين البسنوى المسلم والبسنوى الكاثوليكى من علاقة دم 


41 


لانظير لها بين الشمالى والجنوبى؟ نعلم أيضاً أن أهل البوسنة الذين وقف مسلمهم إلى 
جانب مسيحييهم فى صف واحد ضد الغزو النمساوى؛ أمسكوا بخناق بعض بعد انهيار دولة 
تيتو. حبنا لبلادنا كثيراً ما يوهمنا أن السودان الذى أنجبته صدف تاريخية هو نسيج وحده 
بين الأمم. ولكن السودان ليس استثناء بين الأمم فى التاريخ القديم والحديث؛ سينهار إن 
تضافرت عليه عوامل الانهيارء وسيتمزق إن تواطأت عليه نوازع التمزق. على أن الذى 
يصيب المرء بخبال هو أن الحالة السودانية» على خلاف كل النماذج التى أشرنا إليهاء هى 
حالة متميزة . تميزها فى أن المقابل الموضوعى فى السودان لدعاة الانفصال فى الدول التى 
أشرنا إليهاء هم الذين يبحثون عن الوسائل التى تبقى القطر موحداًء فى حين تصر جماعات 
مؤثرة فى الشمال على الإبقاء على الأوضاع والمفاهيم التى تكرس التمزقء وتغلّب 
الخصوصى على العمومى. هؤلاء» دون وعى منهمء هم الانقصاليون الحقيقيون لأن كل 
السياسات التى ينهجونء والأفكار التى يدعون إليهاء لاتقود إلا إلى الانفصال. 

أثر الحرب على السودان» بل على البلاد المجاورة» أثر مدمر. فالإحصائيات تقول أن 
حكومة السودان تنفق ما بين 1,5 إلى ؟ مليون دولار كل يوم على تمويل الحرب. إلى هذا 
تنضاف الأموال التى ينفقها الطرف الآخر (الجيش الشعبى فى حربه ضد جيش الحكومة 
وحروبه الصغيرة ضد الجماعات المنشقة عنه) . تلك تكلفة لا طائل من ورائهاء بل هى 
عامل أساس - إن لم تكن العامل الأساس ‏ فى تعميق التخلف الاقتصادى والاجتماعى 
بالسودان. ولا تقف خسائر الحرب عند الإنفاق المباشر عليهاء بل تشمل تبديد الموارد 
الطبيعيّة والبشزية »وإهدانفرصن الكنمية . من :جاتب آخرء تفزع إحصائيات. ضحايا الحرب 
من يطلع عليهاء إلا أن حجم الخسائر وحده لا يعبر عن الوحشية التى اتصقت بها الحرب. 
الوعى بهذا الواقع المؤلم قاد إلى اتفاقين هامين: إعلان كوكا دام الذى وقعته الحركة 
الشعبية مع القوى الاجتماعية والسياسية الشمالية فى ربيع عام ١187‏ بعد عام من سقوط 
نظام نميرى» ومبادرة السلام السودانية التى أبرمها السيد محمد عثمان الميرغنى مع 
الدكتور جون قرنق فى نوفمبر ١188‏ ء استغرقت المحاولات الجادة بين السودانيين 
للوصول إلى إعلان كوكادام عاماً كاملاً بسبب ابتزاز الجبهة القومية الإسلامية للأحزاب 


42 


"التقليدية باسم الدين» وتردد تلك الأحزاب فى مواجهة ذلك الابتزاز مواجهة حاسمة. تمامآً 
كما يعود تعطيل تنفيذ مبادرة السلام السودانية لتلكؤ رئيس الوزراء» الصادق المهدى, لمدة 
ستة أشهر فى الاستجابة لها. وأخيراً عندما تهيأ ساسة الشمال لتنفيذ الشروط التى نصت 
عليها الإتفاقيتان اندلعت الكارثة . كان ذلك فى التلاثين من يونيو ١985‏ عندما انزلق من 
رحم الغيب انقلاب الجبهة القومية الإسلامية كما تدلص الحامل ابن السفاح. منذ ذلك اليوم 
اتخذ الصراع السودانى منحى جديداً وأ أناخت الظلماء بكلكلها على الأمة. 

أهداف الجبهة المعلنة كانت هى إقامة نظام إسلامى فى السودان ونشر الإسلام فى 
السودان أولأء ثم من بعد إلى ما وراء حدوده . ولكن النظام الجديد لم ينتظر دخول مشركى 
السودان (أهل الجنوب) فى دين الله أفواجاً حتى يندفع إلى نشر الإسلام على العالمين. 
انتقل النظام فى التو واللحظة بحملته الرسالية إلى البلاد المجاورة» خاصة مصر المسلمة» 
ودول الجوار الأفريقى فى الشرق والجنوب. أما فى الداخل فقد اتجه نظام الجبهة باسم 
الإسلام؛ ووفق تفسيره له» نحو التحكم الكلى فى حياة البشرء وكان فى هذا على غير 
مثال. فأنظمة الحكم فى العالم أجمع تكرس كل جهدها فى إدارة (أو سوء إدارة) اقتصاد 
وسياسة من تحكم, إلا أن نظام الجبهة أضاف إلى تلك الواجبات شيئاً جديداً: التوغل فى 
خصوصيات البشر ومحاسبة العباد على والتحكم فى» سلوكهم الاجتماعى حتى فيما يتعلق 
بالرداء الذى يتشح به الرجال والنساءء أو باختلاط النساء بالرجال. فى ذلك التوغل فى 
الخصوصيات إهدار للإنسانية لأنه يقتل كل ما يجعل من الأفراد ‏ نساء ورجالاً ‏ أشخاصاً 
مختلفين. أما الاختلاط بين الجنسين فهو سنة من سنن ألحياة فى ريف السودان حيث 
الأغلبية الغالبة» وفى مدنه منذ أن أصبح للمرأة مكان فى سوق العمل. رغم ذلك؛ جعل 
النظام من نفسه قَيْمأ على أخلاق الشعب وفق منظور ذاتى ومنغلق للأخلاق. ذلك منهج 
تجاوز يه النظام حدود مسئوليات اى دولة (ياستثناء دولة طالبان) . فى ذلك التوغل 
الفضولى أيضأ تصوير ظالم لحياتنا الاجتماعية: إذ كاد يوحى بأن السودان أضحى 
مستوطنة للآثام . ومع أنا لاننكر حق أى فرد فى أن يتخذ له منظومة قيمية يطبقها على 
نفسهء وعلى من يملك حق القوامة عليه بموجب ما سرت عليه العادة (مع استنكارنا للكثير 


43 


من العادات)» إلا أنا ننكر على أى بشر أن يقسر غيره على ما ارتأى أن فيه خيرهم. كما 
ليس من حق أى حاكم ‏ حتى وإن جاء للحكم برضا الناس وإختيارهم ‏ أن يتدخل فى 
خصوصيات البشر إلا فيما يتعلق بسلامة المجتمع ككل؛ وفى قوانين السودان التى ارتضاها 
الناس وعملوا بها زماناً طويلاً مايكفل سلامة المجتمع. هذا التوجه الطهرانى لا يتسق مع 
عوائد أهل السودان كما سنوضح فى الكتاب . وبوجه عام» فإن حساب المسلمء حتى وإن 
ارتكب ما يحرمه الشرع أو يكرّهه: هو دوماً عند ربه الذى زوده بنفس لوامة؛ كما أن أولنك 
الطهرانيين قد أرادوا أن يضفوا على أنفسهم صفة لم يخص بها رب العباد نفسهء وهذا هو 
معتى الآية الكريمة ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة فى الأرض يخلفون (الزخرف؛ )1١/47‏ . 
إضافة إلى ذلك فإن نزوع الإنسان عما يشين لا يكون إلا ابتغاء لمرضاة ربه: 
وإذا نزعت عن الغفواية فليكن 
للهناكالنزعلا للناسن 

وبما أن النساء هن أكثر طوائف المجتمع السودانى تعرضاً لآثار الطهرانية الخرقاء؛ لا 
معدى لنا عن تناول حقوق المرأة فى هذا الكتاب. ولا يعود اهتمامنا بقضية المرأة لما عانته 
فى ظل نظام الجبهة فحسبء وإنما أيضاً لأن تحرير المجتمع يبدأ بتحرير المرأة . وقطعاً لا 
نصدق القول إن زعمنا أن معاناة المرأة بدأت بنظام الجبهة» فالمرأة السودانية ظلت طوال 
العهود واقعة تحت سيطرة كائن وهمى يسمى المجتمع» وهو وهمى لأن المجتمع المعنى 
ليس هو إلا البطرقية الذكورية السائدة» ولا تنتج البطرقية إلا ثقافة تسلطية. على أن نظام 
الجبهة تطور بتلك الثقافة التسلطية إلى حد واد المراة» والواد ليسىء ضرورة» هو دفن البنت 
حيةء وإنما يتم أيضاً عبر حرمانها من تحقيق ذاتهاء أو الإنتقاص من قدراتها باعتبارها 
ناقصة عقل ودين» أو بحسبانها عورة ينبغى أن تستر استنكافاً أوحياء . لم يكتف نظام 
الجبهة بتكريس تلك الهيمنة الدكتورية» بل أخذ يلوح بسلطة النص الدينى لإضفاء طابع 
مقدس عليها. فى هذا ظلم للإسلام» لأن الإسلام أكثر رحابة من هذا الفكر الزميت» وأكثر 
حرصاً على الستر. ولا فسحة للستر مع التوغل الغشوم فى خصوصيات البشر. وعلى كل 
فإن هذا الضعْث للأمور (خلط بعضها ببعض) يعبر عن غيبة كاملة للوعى بجوهر الحكم 


44 


وأولوياته . فأهل السودان الجوعى يترجون من حكومتهم أكثر ما يترجونء أن تملا بطونهم 
الخاوية قبل أن تشبع فراغهم الروحىء والمسلمون منهم لا يتمنون من حكومتهم شيئاً غير 
أن تطعمهم من جوعء وتأمنهم من خوفء قبل أن تزيل عنهم الرجس والاثام . 

على مدى ثلاثة عقود بشر الإخوان المسلمون بنموذج إسلامى يفضى بالسودان إلى ما 
يقارب الفردوسء إلا أنهم انتهواء عقب استيلائهم على الحكمء إلى شىء لا يختلف فى كثير 
عما يفعله غلاة المطوعين فى المملكة العربية السعودية . الكثيرون ‏ والكاتب من بينهم ‏ 
كانوا يظنون خيراً فى بعض قادة الجبهة الذين أوتوا من العلم غير قليل » وتيسرت لهم 
أدوات المعرفة الحديثة التى تمكنهم من استبصار حقائق العالم الذى نعيش ويعيشون فيه. 
الكثيرون كانوا يظنون أيضا أن المدركات المعرفية لهؤلاء ستلجمهم . مهما بلغت بهم 
الغلواء» عن تسليم الدولة الإسلامية إلى طغاة صغار جعلوا من الفردوس الموعود جحيماً 
يذيقون فيه الناس ما لا عين رأتء ولا أذزن سمعتء ولا خطر بقلب بشر. وصدق توجه 
الإسلامويين أو كان كاذبأء لا يمكن بحال أن ينسب أحد إلى الله تعالى الجرائم الكبرى التى 
ارتكبت باسمه ضد الأفراد والجماعاتء والتى لم يسبق لنظام حكم فى السودان ارتكاب ما 
يدانيها فى بشاعته. يصعب الظن بأن مثل تلك البشائع يمكن أن تصدر من قوم نواهم الله 
بخيرء ناهيك عن أن تكون باسم الله الرحمن الرحيم . فالمسلمون يعلمون علم اليقين أن الله 
الرحمن؛ أى كثير الرحمة (والرحمن صفة موقوفة عليه تعالى) لا يرضى باستغلال اسمه 
لتبرير الاستبداد» أو لقتل النفس بغير ذنب جنتء أو للمثلى بالآدميين. الأشرار من الرجال 
وحدهم هم الذين يبررون الشرور باسم الله. 

الغريب فى الأمرء أن نظام الجبهة لم يدرك فى سنوات حكمه الأولى أن تمة تناقضآً 
كبيراً بين ممارساته الدموية» وبين دعواه بأنه يقيم دولة ترتكز على أصول الإسلام التى 
تنبنى عليها الأحكام. من تلك الأصول: العدلء والإحسانء والسلام» والرحمة» والتسامح» 
والنهى عن الغدرء وجماعها الاستقامة ومخافة الله. ففى الحديث سأل عبد الله الثقفى 
رسول الله: قل لى يا رسول الله قولاً.فى الإسلام لا أسألك بعده ؟ قال 2: "قل آمنت باالله 
ثم استقم. ولا تكون الاستقامة إلا فى دواخل الإنسان» فالذى لا يخاف الله فى دواخله: 


45 


قمين بارتكاب أقسى الجرائم. قال عمر بن عبد العزيز عندما ولى الخلافة لعبد بنى 
مخزوم: أخاف الله فيما تقلدت. قال عبد بنى مخزوم لعمر:لست أخاف عليك أن تخاف. 
وإنما أخاف عليك ألا تخاف. تلك الخشية من الله هى التى جعلت من عمر خليفة تضرب 
الأمثال بعدله» وإن اختلف الناس فى قدراته الإدارية . كان عمر رفيق الوطأة على الناس؛ 
سأله ابنه عبد الملك: "لماذا لا تقذ الأمور بعنف؟. قال عمر: لا تعجل يابنى» فإن الله ذم 
الخمر فى القرآن مرتين؛ وحرمها فى الثالثة. وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة 
فعوه جملة. الجبهة» بلا مراء. حملت الناس على ما تراه حقاً جملةء فكادوا أن يدفعوا 
ا 
تداخلت الأمور أيضأ على النظام حتى لم يعد يدرك أن قمة تفارك يوق إحتزالة الإسلام 
كله فى الشكليات» حتى تلك التى لا يسندها حكم إسلامى وة ثيق (لبس المرأة» الاختلاط 
بين الجنسين) » وبين عجزه الكامل عن الخروج بفكر إسلامى سديد حول أمهات القضايا 
التى تعنى الناس: وحدة الوطنء الارتقاء بأهله» أمن المرء فى داره » طمأنينته فى مجتمعه. 
انغماس النظام فى تلك الطهرانية الشكلية الغريبة والمنسوبة للإسلام؛ فى ذات الوقت الذى 
أخذ يلطخ فيه يديه بالدماء» يعود بذاكرتنا إلى قصة عبد الله بن عمر مع أحد الطائفين فى 
الحج. أوقف الرجل ابن عمر ليستفتيه فيما ظنه خطبأ جللاً حين وطلت قدمه؛ وهو فى 
الطوافء برغوثاً فمات. سأله ابن عمر: "من أى بلاد الأرض أنت؟. قال الرجل: من بلاد 
الرافدين. فشخص ابن عمر ببصره للرجل وقال: ما أغرب أمركم أهل العراق: تستحلون دم 
الحسين بن على» ويكدركم دم برغوث . نظام الجبهة؛ فيما يبدوء ألهته دماء البراغيث ع 
دماء البشر. وهكذا مضى نظام الجبهة يضرف الأنوو ركان سنالك هه كلق 
ومحتكرهاء بل زين له أن أقواله وأفعاله هى مبتدى الحكمة ومنتهاها لأنهاء فيما ادعى» 
امتتال لأمر الله. ونقطع بأن النظام لم يرد بإقحام اسم الله على سياساته الدنيوية إلا إضقاء 
شرعية موهومة على تلك السياسات حتى تصبح أمراً معصوماً صبغه الله بصبغته؛ «صبغة 
الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له ععابدون» (البقرة 178/7). على أن احتكار 
الحقيقة أمر نهى الله عنه النبى المعصومء فما بالك بالبشر الفانين. ففى قوله تعالى: «لكل 


46 


أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. 
وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون» 
(الحج 77//او58و55) . 

ظل نظام الجبهة أيضاً يردد شعارين ذاعا بين الإسلامويين فى كل مكان دون تدبر 
لدلالتيهما: "الإسلام دين ودولة» ولا بديل لشرع الله. القول الأخير قول مشبوه » ليس فقط 
بسبب استغلال اسم الله من أجل أهداف دنيوية» وإنما أيضاً لأن ذلك الشعار أوقع المسلمين 
فى ضيق وشدة منذ أن اختلف الخوارج مع الإمام على لقبوله التحكيم مع معاوية باعتبار 
أن فى قبول تحكيم البشر إنكاراً لحاكمية الله. لم يختلف الخوارج مع الإمام على فقط » بل 
كفْروه حتى اضطر لحربهم وهزيمتهم فى النهروان. وكان الخوارج واثقين كل الثقة بأنهم 
قد خرجوا من ديارهم مهاجرين إلى الله (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم 
يدركه الموت فقد وقع أجره على الله» (النساء )3٠١/4‏ ومن ذلك جاء اسم الخوارج. ليت 
خوارج اليوم كانوا كخوارج النهروان » قال عنهم عبد الله بن عباس عندما أرسله على 
لمحاورتهم أنه رأى منهم جباهاً قرحة ة لطول السجودء وأيدى كثفنات (مبارك) الإبل» عليهم 
قمص مرحّضة (غسلت حتى بليت) وهم مشمرون. خوارج خ انوع الاكلة عضب رين لد 
يفطموا نفوسهم عن عرض الدنيا بل أوغلوا فيه. وهكذا عدل خوارج اليوم عن المحجة إلى 
طريق طامس لا منفذ فيه. ولذا سننازلهم فى احتكارهم لدينناء كما ظلنا نصارعهم فى 
الاستئثار بدنياناء كما فعل عمار بن ياسرء مع خوارج الأمس: «سننازلهم فى التأويل كما 
نازلناهم فى التنزيل . 

الشعار القانى: الإسلام دين ودولة أطلقه العالم القانونى المصرى الدكتورعبد الرزاق 
السنهورى قبل أن تتبناه جماعة الإخوان فى مصرء ودون أن يرد فى أمهات كتب الأحكام 
أو الأيالات السلطانية (القانون الدستورى الإسلامى) . ونقول ابتداء أن كلمة الإسلام لم ترد 
فى كتاب الله مرة واحدة 5 لتشير إلى أنه دولة» هو دين فحسب فى كل الآيات الخمس التى 
وردت فيها الكلمة: (إن الدين عند الله الإسلام» (آل عمران )١19/7‏ #ومن يبتغ غير 
الإسلام ديئاً فلن يقبل منه» (آل عمران ”/550) ؛ «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره 


47 


للإسلام» (الأنعام )١15/5‏ ؛ (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه» 
(الزنمرة77/7)؛ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام» 
(الصف١5/١)‏ ؛ «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا» 
(المائدة ©/") . ولم يكن الإسلام الذى تحدث عنه السنهورى (وهو ليس من رجال الدين 
التقليديين) يشيرء بأى وجه من الوجوهء إلى الفقه الموروث والموضوع: بل قال فى مقدمة 
القانون المدنى أن أعمال الفقهاء لا تختلف عما وضعه فقهاء الرومان وقضاتهم ليصبح 
أساساً للقانون الرومانى. السنهورىء إذن» لايرى فى الفقه الذى أصبح عند الإسلاميين هو 
شرع الله» إلا جهد بشر يقيل الدحضص. 
كما أنه ليس فى كل مواريث الفكر الإسلامى السياسىء والفقه على اختلاف مذاهبه» 
ما يشير للدولة. أو الوطن. بل إن اللغة العربية نفسها لم تكن تعرف شيئاً اسمه الدولة أو 
الوطن بالمعنى المتعارف عليه فى العالم منذ ظهور القوميات فى أورويا. فالدولة فى اللغة 
العربية هى انقلاب الزمان وجمعها دولء وتداولوا الأمر أخذوه بالدول؛ ومنها هكذا دواليك » 
كما منها دالت الأيام أى دارت» (الفيروزايادىء القاموس المحيطء باب اللام؛ فصل الدال) . 
وفى الكتاب الكريم: «وتلك الأيام نداولها بين الناس» (آل عمران "/ »)١4١‏ وفيه أيضاً عن 
الفىء «كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم» (الحشر )١/55‏ . أما كلمة الوطن» عند نفس 
المصدرء فهى منزل الإقامة أو مربط البقر والغنم» وجمعها أوطان؛ وتوطين النفس» أى 
تمهيدها. وفى قول الشريف الرضى: 
في كل أرض إذا يممتها وطن 
مابين حر وبين الدار من نسب 

فالوطن عند الشريف عالى الهمة ليس عقاراً نسبته إليه صدف الجغرافياء وإنما هو 
الحرية» فحيتما كانت الحرية كان وطنه . وتجدر الإشارة إلى أن كلمة أمة وردت فى ثلاثة 
وستين موقعاً فى القرآن: (أمة) فى تسع وأربعين مرةء (أمتكم) مرتين» أمم (إحدى عشرة 
مرة) » فى حين لم يرد تعبير دولة إلا مرتين بالمعنى الذى أشرنا إليه. 


48 


الجدل حول مفهومى الوطن والدولة يصبح عقيماً إن أخرجناه من إطاره التاريخى. ذلك 
التاريخ سنستنطقه فى صلب الكتاب ولا نتوقف عنده فى المقدمة إلا لنقول أن أية محاولة 
لنسبة ظواهر اجتماعية مستحدثة لها مفاهيمها الخاصة» لفكر موروث لم يكن يعرفها حتى 
بالإسمء هو تلفيق. فنظام الحكم الإسلامىء أسميناه الخلافة» أو الديوان» أو الدولة» كان 
نظاماً أمميا (أى تجاوزت رسالته حدود الوطن الواحد) » كما كان شموليآ (أى لا يتسع 
للتعددية السياسية كما نعرفها اليوم) . وبصرف النظر عن أن ذلك النظام كان متقدماً على 
أنظمة الحكم السائدة فى زمانه بسبب المثل العليا التى دعا لها الإسلامء والقيم المعيارية التى 
كانت تهدى الحكمء إلا أنا نعيش اليوم فى عالم تسوده قيم كونية تتلخص فى احترام التنوع 
الثقافى» والتعدد السياسىء وحرية الأديان » وخضوع الحاكم لمساءلة المحكومين بصورة 
دورية (الانتخابات) » وسيادة حكم القانون» والفصل بين السلطات؛ وعدم التمييز بين 
الذكور والإناث فى كل المجالات. هذه المفاهيم تتجاوز الفقه الموروث ويرفضها التيار 
الدينى السلفى وهوء فى ذلك» منطقى مع أفكاره الموروثة. أما الإسلام السياسى المعاصر 
فيدعى قبول تلك القيم الكونية بأسلوب حلزونى: محاولة الالتفاف عليها بالادعاء بأن كل 
هذه المبادئ مصونة فى مواريث الإسلام. ولوكان الهدف من هذا الزعم هو إيجاد نسب 
إسلامى لمؤسسات ومفاهيم الحكم المعاصرة لهان الأمرء ولكن هدفه الحقيقى هو الانفلات 
منها باسم التأصيلء ومراوغة الآخرين. 

لامهرب إذنء من الاستطراد فى جدل فقهى نعود فيه إلى تجارب الإسلام التاريخى 
التى لعبت دور كبيراً فى تكييف الفقه الإسلامى لكيما نذلقى ضوءاً على القصور المعرفى 
الذى شاب التجربة الإسلاموية الأخيرة» تلك التجربة جعلت للنصوص الجامدة سلطة مطلقة 
على الواقع الإنسانى» بصرف النظر عن الزمان والمكان. كما تبنت اجتهادات الفقهاء 
الأوائل» وكأنها أصل من أصول الإسلام. ذلك خلط بين الشريعة من حيث هى سنة 
ومنهاجء وبين الفقه الموروث من حيث هو اجتهاد بشر لاعصمة لهم. فالفقه ليس علماً من 
العلوم التى لا يمكن انكارها (دء501600 13:0!)» كما أن أحكامه ليست أحكاماً مطلقه لا 
استثناء فيها ولا شذوذء كحقائق علم العدد (©311151:0611) فحقائق علم العدد هى وحدها 


49 


الخالية من الشذوذ والعلل. لهذاء نقول إن الكثير من أحكام الفقهاء - على صحة بعضها فى 
الظروف التى طبقت فيها - ستصبح ذات عوار كبيرإن فسرت على واقع جديد لم يعرفه 
أولتك الفقهاء. بسيب من هذاء استنهك شعار ١لا‏ بديل لحكم الله حتى تأكل #وطندها تفلن 
أن القرآن نفسه باياته التى تبلغ الستة آلاف ونيف لم يتضمن أحكاماً تشريعية إلا فى مائتين 
منها (أى واحداً على ثلاثين من الآيات) » ندرك أن فى القول بأن تون القرآن أو أن 
«الإسلام دين ودولة؛ زيفا كبيراء خاصة إن كان الطريق لإدراك معانى القران هو القراءة 
الشكلانية لآياته . فالقران ليس مدونة تشردٍ يع كالتوراة» بل هو كتاب منيرء ونبراس هاد إلى 
قيم إنسانية سامقة تصلح لكل الدهور. وحين نعرف أن تلك الآيات المائتين» تتناول قضايا 
لا تفهم إلا بمنطلق زمانهاء كما تنحصر الأحكام القاطعة فيها على أمور مثل الميراثء الرباء 
الزواج والطلاق» الوصيةء الحدودء يدرك القارئ لماذا تجاسرنا على وصف أحكام الفقهاء 
القدامى بالعوار» وعلى نعت دعاوى الإسلامويين الجدد بعدم الاستواء. فحياة إنسان اليوم 
تتجاوز ما جاءت به هذه الآيات بكثير إلى شبكة معقدة من العلاقات بين الدول والدول» 
وداخل الدولة عا ا بموجب إنسانيته. مع ذلك يلح الفقهاء 
«المجددون».: كما يلح الفقهاء التقليديون» على افتعال نسب لكل حكم يصدرونه مع كتاب 
الله. وفى حديث لرسول الله إن الله قد فرض فرائض فلا تضيعوها » ونهى عن أشياء فلا 
تنتهكوهاء وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها (أى لا تبحثوا عنها فى 
كتاب الله) (الصحيحان) . 1 
يظلم الإسلامويون دينهم» كما يظلمون أنفسهم كمجتهدة » باستنفاجهم الأحكام من 
أجحار التاريخ لكيما يطبقوها على عالم اليوم. ولوكان مجتهدة الجبهة مثل الفقهاء 
المتنطعين الذين لا يملكون وعياً بحقائق العالم من حولهمء وبالتالى يتقاصر سقفهم العقلى 
عن إدراك عالم اليوم» لما عنانا أمرهم. ولكن لابد لنا من الاعتناء بأمر المجتهدة المحدثين 
فى السودان: ليس فقط لأنهم أخذوا الحكم عنوة لتطبيق نموذج إسلامى بديعء وإنما أيضا 
لظننا انهم لن يقدموا على قطيعة إرادية مع الكيان المعرفى السائد (ادوات المعرفة الحديثة) 
الذى نموا فى رحابه» وظلوا يتمثلونه فى كل وجوه حياتهم. يزيد الأمر خطورة احتكار 


30 


الجبهة للحقيقة» وما يصحب ذلك من تداخل بسيكولوجى بين الدعاة والدعوة. فدعاة 
لابديل لشرع الله لم يقنعوا بقهر الناس على مكره منهم على ذلك "الشرعء بل خالوا أنفسهم 
تجسيداً للشرع . هذا التداخل بين الذات والموضوع ليس غريبآً على أهل الأيديولوجيات. أي 
كانت مشاربهم الفكرية. فكثيراً ما بحرن هؤلاءء دون وعىمتهعء الذعوة تقنسيهنا لكل 
جوانب القصور فى الإنسان. ولكن على خلاف الأيديولوجيين الآخرين يسبغ الإسلاموى 
على أقواله وأفعاله عصمة لم يدعها الرسول لنفسه» فما الرسول إلا نذير: (أولم يتفكروا ما 
يصاحبهم من جنة إن هو إلا تين ده (الأعراف 65/1 ) ء «وقل إنى أنا النذير 
المبين» (الحجر )85/١5‏ وليس مصادفة أن يرد وصف الله لرسوله بالنذير المبين فى ست 
عشرة آية من القرآن الكريم» هو نذيرء لا جبار ولا متكبرء فتلك من صفات رب العياد. 
أخطر ممارسات الجبهة الدموية كانت فى ميدان الحربء لم تقنع بالإبقاء على الحرب 
الأهلية مستعرة بإلغائها للاتفاق الذى كاد أن يوقف الحرب فى نوفمبر ١588‏ وأبريل 
5 بل زادت من ضرامها. فللمرة الأولى فى تاريخ السودان الحديث حول تظام الجبهة 
حرب السودان الأهلية السياسية إلى حرب دينية جهادية » أى ديّن الحرب كما دينت 
السياسة . وهكذا أوزن النظام نفسه على أمرين لا يقدم عليهما إلا مغامر: إعادة أسلمة شمال 
السودان» ومحو الشرك فى جنوبه. ولا يجترئ على الأمر الأول إلا من ركبه غرور شديد 
ولا يجنح إلى الثانى غير الجاهلين بحكم الكتاب: «ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا 
تكونن من الجاهلين4 (الأنعام» )١١/5‏ فى تلك الحرب الجهادية أصبح المحاريون من 
الجنوبيين كفاراً يخضعون لضرب الرقاب» فى حين رفع خصومهم الشماليون إلى مرتبة 
المجاهدين» وحسب الذين قتلوا من بينهم شهداء مثواهم الجنة يثابون فيها على التو بحور 
عين !هود عن ال الموعودة»ء يرقد أولتك "الشهداء الآن فى بيداء جنوب السودان 
وأرواحهم تسائل شيوخ الجبهة » مثلما ساءلت أرواح شباب أثينا شيوخاً حمقى ساقوهم للهلاك 
فى الحروب مع أسبارطة: اذهبوا إلى أولنك الرجال الناعمين الذين يغطون نوما فى أسرّتهم 
وقولوا لهم: نفذنا أوامركم وكلنا اليوم موتى. حزننا على أولئتك الفتية كبيرء ولنعترقف بأنهم 
ضحوا بحيواتهم فى سبيل ما يؤمنون به. محنتهم هى غسيل المخ الذى علمهم كيف يصبح 


51 


الإضرار بالنفس متعة؛ وكيف يضحى إيذاء الآخرين إيمانا بالله. وفى هذا لا فرقان بين كل 
أهل الأيديولوجيات المتطرفة» كلها تعطل ملكة التفكير» وكلها تشل العقول. إلا أن نظام 
الجبهة أمعن فى الأمر حتى سلب هؤلاء الفتية إنسانيتهم بحيث أصبح كل واحد منهم بندقية 
يوجهها من يوجه إلى حيث شاء وأنى شاء. يقول لهم الترابى فى عام 2159٠‏ جاهدوا فى 
سبيل الله حق جهاده فى جنوب السودان» فيقولون سمعاً وطاعاً. ويقول لهم بعد عقد من 
الزمان نفس الترابى أن حرب الجنوب ليست جهاداًء بل هى غدرء فيقول البعض منهم سمعاً 
وطاعاً. ويأتى دور البشير ليقول لهم إن قرنق وحدوىء وسيكون حليفاً لى فى بناء السودان 
الجديدء فيقولون بخ بخ . ثم يأتى نفس البشيرء ولم يمض شهر على بيانه ليقول: هيا إلى 
الجهاد ضد الكافر قرنقء فيقولون آمين. فأى احتقار هذا لعقول الفتية الأيفاع» وأى استهانة 
تلك بالدين» وأى عبث بأقدار الشعوب . تعلمنا الكثير عن الأحاسيس الدفينة لنظائر هؤلاء 
الفتية عندما قرأنا كتاباً لخالد البرى عنوانه الدنيا أحلى من الجنة؛ أجلته على الناس دار 
النهار فى بيروت. خالد البرى ليس مفكراً إسلامياء ولا فيلسوفاً يحاج المؤمنين فى ثوابت 
دينهم» بل هو فتى مصرى محددود التعليم شاءت له الظروف أن ينخرط فى الجماعة 
الإسلامية منذ صمياه . وقد لخضت اله الجماعة الحياة فى الطاعة والمعضية؛ وفى الحلال 
والحرامء وفى الكفر والإيمان. وفى الكتاب وصف مثير ومؤس للتشويه النفسى الذى لحق 
بالفتى» خاصة فيما يتعلق بالمرأة . النظر إليهاء كما علموه» معصية» ومصافحتها زنى» 
والاختلاط بها (حتى فى دور العلم) فاحشة وساء سبيلا. قال خالد. بعد أن قطع الشك 
باليقين» إنه كان يعيش حلماً مازال يشعر بأثره ولا يستذكر تفاصيله» وخرج من جنة 
الجماعة ليعيش حياته كما يعيشها أبناء جيله فاكتشف عالماً آخر. 

أين هم الذين ساقوا نظراء خالد فى السودان إلى الموت فى جبال النوبة وفى جنوب 
السودانء بعد أن أصبح بين النوبة والجنوبيين» وبين من كانوا يحضون الشباب على 
الزحف عليهم غير مثاقلين» عهد وميثاق ترعاه دول الاستكبار. فئة منهم آثرت أن تمشى 
فى مناكبها لتقطف من ثمارها ٠‏ القصى قبل الدانى. هؤلاء هم العباسيون الذين شغلتهم 
الإبل عن رعاية دين الله» فللدين رب يرعاه. وفئة أخرى أخذتها خفة من الزهو بالسلطان 


52 


حتى أصبح السلطان مستقراً لها ومتاعاً إلى أن يشاء الله. وإمعاناً فى خداع النفس توهمت 
تلك الفئة أن ذلك المتاع الظنين عطاء من الله حساباً. خداع الفكتين للنفس اشتد قبحه 
عندما أخذا يصوران السودان فى عهد الجبهة وكأنه جنة الله فى الأرض ونوره الذى 
يضىء الأمم. ذلك كان ظنهم رغم الحرب العارمة» والتدهور المتفشى فى كل مناحى 
الحياة» والفقر المدقع» والانهيار الكامل للمرافق العامة. لاعجبء إذنء إن اتجهت مهزلة 
السودان فى عهد الجبهة نحو حلقتها الأخيرة ٠‏ إن مخادعة النفس ومراغمة الحقيقة ظاهرة 
مرضية تنتاب كل من لا يرى من الألوان غير الأساسئ منهاء ولا يتبين ما بينها من 
فروقء وما يتخللها من ظلال. وسيبقى المصابون بعمى الألوان هؤلاء عاجزين على الدوام 
عن استبصار بانوراما السودان السياسية متعددة الألوان. 

فلل كر هن الحابو» فى نظاء الحجهة فى الحكع قزانة الأريعه سفر هاما يزعن :فده 
التعاسيفء لا يبالى. وكان لبقائه وثباته هذه الفترة الطويلة أثران: الأول هو شعور شرائح 
مختلفة فى المجتمع الشمالى بأن النظام أضحى نظاماً لا يقهر. ذلك شعور انتاب حتى 
بعض كبار معارضى النظام فهرولوا إلى رحابه. ذلك الوهم الأورويلى يعبر عن قراءة 
خاطئة للخارطة السياسية؛ وهى خاطئة لإغفالها حقائق لم يتدبرها القانطون الذين أسقطوا 
من حسابهم التجارب التاريخية المماثلة . نعم» للنظام سلطان وعنفوان» ولكن سلطانه 
وعنفوانه لن يبلغاء مهما حاولء ما ابتدعه بول بوت بعقله الشيطانى من وسائل للتعذيب. 
كما أن استقواء النظام بقبائل أمنه» وأرخبيل ميليشياته العسكرية» لن يتناهى إلى ما انتهى 
إليه شاوشيسكو رومانياء ابن الإسكافى الذى حسب نفسه نبياً رسولاً. كلاهما ارتكب نفس 
الخطأ الذى ظلت تكرر ارتكابه كل الأنظمة الفاشية عبر التاريخ: تكليف الناس فوق ما 
يطيقون. وفى نهاية الأمر» لم يجد بول بوت الذى حمل أهله فوق طاقاتهم مخرجاً لنفسه 
غير أن يأخذ روحه بيده ويهلك مع الهالكين. أما ابن الإسكافى الذى جعل من تفسه نبي 
معصوماً- دون وحى أو بلاغ سماوى- فقد انتهى إلى قبر مجهول بلا رمز ولا علامة بعد 
أن أفرغت ثلة من الجنود الذين كانوا يحمونه كل رصاصة كانت تحملها على جسده وجسد 
زوجه. تلك المثلى يستقبحها دينناء ولهذا نستقبحهاء إذ نهى الرسول عن المثلى ولو بكلب 


55 


عقور. ولكنها أيضأ تعبر عما يولده الظلم من غيظ مكتوم وغضب حنيق لا رحمة معهما 
فى نفوس المضطهدين . وإن نسبنا الطاغية الرومانى لحرقفة أبيهء فإنما فعلنا هذا »أولاً لأنه 
النعت الذى ظل يشير به الإعلام الرومانى لحاكمه البروليتارى الذى طغى واستعلىء وثانياً 
لما فيه من درس. فنحن لا نميزء وينبغى أن لا نميزء بين الرجال بحسبهم ونسبهم وأقدار 
آبائهم» فالرجال يتمايزون بفضلهم وإنجازهم وقدراتهم. لهذا لا يعنينا من أمر الحاكم ‏ وربما 
لا يعنى الكثيرين من أهل السودان ‏ أن لا يعرف هو ولا أبوه . وقطعاً لا تعنينا هذه الأمور ‏ 
وينبغى أن لا تعنينا- إن جاء هذا الحاكم لسدة الحكم بإرادة الشعبء وبقى فيه برضائه . على 
أن الأمر يختلف فى حال الحاكم الذى يتملك الحكم اقتدارأء ويستفرغ جهده» من بعد فى 
التمكين لنفسه حتى وإن كان فى تمكنه هلاك العباد. الذى يفعل هذاء عليه أن يقبل نبش 
الناس لأصلهء وتمحيصهم لفصله. ولأهل السودان فى تبرير هذا الأسلوب غير السوى فى 
تقويم أعمال الرجال حكم وأمثال. من هذه الحكم: الفعل الشين» يجيب الكلام الشين. 

لم يكن المحبطون صحايا لفقدان الحس التاريخى فحسب, بل كانوا أيضاً ضحايا لأزمة 
توقعاتهم لم0 ماءعمكة 6ه 5أولن)فما أذ شرق صياح أو افص مساء على السودانء إلا 
وكان أهله يمنون أنفسهم بين كوابيس النوم وأحلام اليقظة أن ينقشع عنهم ذلك البلاء . 
والأحلام ‏ بالمعنى الفرويدى للكلمة ‏ تعبير عن الرغائب الدفينة والأمانى المكبوتة. ولا شك 
فى أن لوعجاط ساكرة جره الخاضة الى قد تتفم ره الإبجاة أمخف الطمزرات لذ 
يحيط به من بلوى. قرأنا رسالة ساخرة لمواطن سودانى (حامد محمد فقير) نشرتها جريدة 
الحياة ١(‏ فبراير )3٠٠١‏ قال فيها إنه ظل يرفع يده كل صباح يدعو ربه قائلاً: إن شا الله 
نصبح ما نلقى الحكومة. تلك دعوة لم يستجب الله لهاء فطفق الداعى يقول:إن شا الله 
تصبح الحكومة ماتلقانا. وبغض الطرف عما فى تلك الكلمات من سخرية» إلا أن فيها أيضاً 
ما يشين الحكام والمعارضين على وجه سواء. فهذا مواطن تطيب نفسه إلى الموت بدلاً من 
العيش فى ظل نظام لم يذق فيه أهل السودان من غير نصرائه إلا التفجع . وما دقع الرجل 
إلى استطابة الموت إلا عجز المعارضين فى الشمال عن أن يأخذوا بالوثيقة فى أمرهم, إما 
بسبب استقالتهم عن المسئولية وتركها لغيرهم, أو لأن بعضهم دربء مثل الصقور الجارحة؛ 
على الانقضاض على الثور الجريح متى ما أوقعته طريحاً على الأرض نصال الغيرٍ أي 


54 


كان هذا الغير ‏ أو نفق بفضل من الله تعالى. هذه الألغوزة (وليس فى السياسة ألاغيز) هى 
تعبير عن جدلية القوة والضعف فى السياسة السودانية الراهنة» ضعف القوة فى حالة 
التجمع المعارضء واستقواء الضعف فى حالة الحكومة. وعلنا نتناول هذا فى الفصلين 
الأخيرين من الكتاب. فنظام الجبهة ‏ نظام شمولى فاشىء» نسب نفسه للإسلام أو المجوسية؛ 
والأنظمة الفاشية لا تنقشع أبدا بالتى هى أحسن: عد عن هذاء وخلاك ذم. الفاشيون لا 
يرون فى العسف والطغيان أمراً ذميما بل يذهبون فى طغواهم إلى دفع الناس؛ كما قلناء 
إلى ما لا يطيقون. حينئذ يدنو عذابهم» إن جازت لنا الاستعارة . 

يلها من مفارقة» بسبب من ذه لها عن تجارب التاريخ» وتغافلها عن الواقع الذى 
يحدق بهاء تحيط هذه الأنظمة د. - ' عناقها بشناق لا فكاك منه» ولملك الظالمين موعد. 
ولربما أحسنا الظن بقلة فى ذلك النظام كانت تؤمل فى الانتقال بالسودان إلى نموذج مثالى 
فى الحكم والحياة. ولكن عندما يستكشف المرء أن ذلك النموذج المثالى عصى على التطبيق 
فى واقع تاريخى مغاير» وأن التطبيق العملى لذلك النموذج أصبح أبعد ما يكون عن المثالية 
والنقاء» ينبغى عليه ان يقول: فى هذا ما يكفى (6201081 15 ا220118) قله فعلت هذاء فى 
حين آثر الآخرون أن يكونوا شركاء فى الجرم بالإغضاء. هؤلاء بلغوا مرحلة أسمتها حنا 
ارندت ابتذال الشر (ذلاء 041 /62821109)ففى كتابها الذى يحمل نفس العنوان روت ارندت 
قصة السفاح الألمانى ايخمان الذى قتل الآلاف من البشر فى العهد النازى دون أن ترمش 
له عين. وعندما جىء له فى سجنه بقصة نابا كوف (لوليتا) ليتسلى بها رفض ذلك فى 
إباءة لأنها قصة غير أخلاقية . أولا تتفق نظرة ايخمان المريضة للأخلاق» مع نظرة أولتك 
الذين ما برحوا يختزلون القساد فى تسرول النساء بالجينزء وفى شرب الخمر ولعب الميسرء 
فى حين يغضون الطرف عن القتل والتعذيب. قد لا يكون هؤلاء صائدى ثروات مثل 
آخرين» ولكن حسابهم» فى شرائع السماء وقوانين الأرضء أشد قسوة من حساب أكالى 
السحة» وكأنا بهم لآ ييدقون بأفاعيلهم غير اقتحام جرائيم جهلم: 

الأثر الثانى خارجى يتمثل فى إفلاح النظام - خاصة بعد إقصاء الشيخ الترابى فى 
ديسمبر ١91959‏ في تحسين صورته على الصعيد الإقليمى حين نسب كل المغامرات التى 
المة الأكليه كتوم ارون كود غلب عل أسر. ويصدرت النظز عن ميتضنة اليا الذن 


535 


وجهته القوى الخارجية للترابى أوعدم صحته؛ فات على تلك القوى أمر جوهرىء هو أن 
بغض أهل السودان للنظام لا يعود لتأذيهم من مغامراته الخارجية» وإنما قبل ذلك لجرائره 
فى الداخل. فالإرهاب الداخلى ‏ قبل الإرهاب الخارجى ‏ هو الذى ظل يؤرق بال أهل 
السودان. إلى جانب القوى الإقليمية وقعت بعض الحكومات ‏ خاصة فى دول الاتحاد 
الأوروبى وشمال أمريكا (كندا) - فريسة لحملة التجميل التى قام بها النظام؛ مثل ادعائه 
الجنوح للسلم ورغبته فى الاستعانة بهذه الدول على تحقيقه. ولريما ارتأت بعض تلك 
الحكومات أن نطانا محمرنا قنطام الجنبهنة لأندان سكالك بحص يمكن الدتخرل نع فى 
حوار هادف أسماه الأو روبيون .(اسعممعع دعم ادعنتاتفى) 
لا يغيب عن البال أيضاً أمران: الماسى الإنسانية التى خلفتها الحرب فى الجنوب؛ 
والمصالح الاقتصادية لهذه الدول؛» والتى نشأت بعد استغلال النفط وما ارتبط به من مناشط 
اقتصادية . وحول الأمر الأول نقول أن هذه الدول هى وحدها التى ظلت تعنى عبر مؤسساتها 
الرسمية والطوعية بتلك المحنة. ظلت هى التى ترفد الجوعى بالغذاءء وتمد المرضى بالدواء , 
وتوفر المأوى والغطاء للنازح واللاجئ. لهذا لا يدهش المرء إن جعلت من إنهاء الحرب هدفاً. 
أما حول الأمر الثانى » فلسنا بحاجة للقول أن السياسات دوماً تحكمها المصالح. ولكن» مع 
الاعتراف بأثر المصالح فى تكييف السياسات؛ أخطأ الأوروبيون المؤمنون بالسياسة الواقعية 
(1161ذادم 631:)عندما أخذوا النظام بما يقول. فالنظام خشوم بيوت (أى أسر مختلفة) كما 
يقول أهل السودان. ففيه من أدرك أن للسلام ثمناء وأن السلام شرلا بد منه» كما فيه من 
يسيطر عليه شعور غريب بالغلبة» وبالقدرة على خداع كل الناس؛ كل الوقت .هل يسعى هؤلاء 
المتغلبة للسلام؟ نعم. ولكن أى سلام يريدون؟ يريدونه سلاماً رومانياً (فصسفده؟! نددط) 
يدخل الجميع تحت عباءة الجبهة فى حين تبقى هى المهيمنء الجبار, المتكبر» وتعالت اسماؤه 
الحسنى. فإن كان ما يؤمله الأوروبيون حقاً هو الوحدة العادلة» والسلام الدائم» والاستقرار ‏ 
وليس فقط إخماد حريق غابة ( 55556ناا) اندلع فى البيداء الأفريقية » أو نزع فتيل الأزمة 
حتى يسير العمل فى مساره الطبيعى ([3نا5نا 85 610518655) فإن المنهج الذى سلكه البعض 
منهم فى التعامل مع المشكل ما كان ليحقق سلاماء كما لا يعكس إدراكاً واعياً لمصالحهم 


الذاتية . (ا5ء,عاص! اعد لعصعاطع تلمع) 


56 


فى ديسمبر ١113‏ افترق الترابى والبشير فراقاً كانت له مقدماته» وتبغته تداعيات. من 
أبرز التداعيات تبارى الزعيمين الإسلاميين فى الكشف عن المستور. فالانقلاب الذى أنكر 
كلاهما نسبته للجبهة حتى ذلك الحين؛ أخذ الزعيمان يتقادحان حول نسبته: من منهما كان 
صاحب القدح المعلى فى صنعه. ذلك الإنكار هو الذى حملنا على نعت حركة "١‏ يونيو 
بالانقلاب السفاح» فأى نعت يمكن أن يطلقه المرء على وليد يتبرأ منه عند ولادته أبواه . 
تلكا وزاوة ولمعي عاد ,تقلع تلهها الأسيات متوطلى كل , لونيين كنييما إن الشاك الذ 
يكذب على شعبه فى بلاد الاستكبار والكفر يحاكم كما حوكم كلنتون؛ ويطرد من سدة الحكم 
كما طرد نيكسون» ويخرج طواعية ‏ وهو ذميم مدحور ‏ من الحكومة والبرلمان كما خرج 
وزير الدفاع البريطانى جون بروفيمو بعد إنكاره للعلاقة بينه وبين كريستين كيلرء ثم 
اضطراره للاعتراف بتلك العلاقة بعد أن فضحت الأمر تحقيقات اللورد ديننق. ولولا علمتا 
بحقيقة الإسلام لقلنا أن دستور الإسلام لا يقادر أو يقارب دساتير دول الكفر والاستكبار من 
حيث توفيره للحكم الصالح. إلا أنا نعرف جيداً أن فى تاريخ الإسلام نماذج وضيئة للحكمء 
كما فى أصوله مبادئ خالدة. من تلك المبادئ قول الرسول: لن يسترعى الله تيارك وتعالى 
عبداً ولى رعية فيموت وهو لها غاش إلا حرم الله عليه الجنة. هذا أدنى ما يعنيناء خاصة 
والأمرلم يقف على كشف المستورء بل أخذ النظام ينزع ثوابته الواحدة بعد الأخرى كما 
ينزع المرء تويجات الزهرة الذابلة. وبعد إفلاس الخطابء ونزع الثوابت» لم يبق من تمرهم 
الااحقف ما فد تكشهو سو كيل 

أسوأ الكيل هو إرغام النظام أنفه على الاستجابة للضغوط الأمريكية والتخلى عن أم 
توابته: نشر الإسلام عبر القارات ومناطحة دول الكفر والاستكبار. ويوم كنا ننادى 
بالاعتراف بالواقع الدولى السائدء ونقول بضرورة الحكمة فى التعامل معهء كان 
الإسلامويون يسمون هذا تهافت متخاذلين بهرهم الاستغراب. على أن كراهية الجبهة 
لأمريكا لا يمكن أن تعادل: دعك عن أن تفوق كراهية كويا لهاء ومع ذلك أبقت كوبا 
بنصح من الاتحاد السوفيتى ‏ على أكبر قاعدة عسكرية أمريكية داخل أرضها (قاعدة 
قوانتنمو) » وما أدراك ما قوا نتنمو ! على مضض قبلت كوبا تلك الإهانة لأنها أدركت أن 


57 


أى استفزاز للوحش الكاسر (والمستفز أصلا بوجود دولة شيوعية فيما يسميه حديقته الخلفية) 
سيقود إلى تدمير الجزيرة كلها. كره أهل الجبهة لدولة الاستكبار ليس ككره كاسترو لهاء بل 
هو كره مشبوه . فقد ظلت تلك الدول محجة لهمء للحج والحاجة. فى ذلك الحجيج تلبيس» 
خاصة عند من يقسم العالم إلى فسطاطين: دار الإسلام ودار الحرب » وكأنه يعيش فى 
زمان الإمام ابن تيمية. ولعلهم يعرفون كما نعرف أن أحكام دار الإسلام ودار الحرب؛ فى 
فقه ابن تيمية» لا تبيح للمسلم المتمسك بشرع الله البقاء فى دار الحرب إلا أياماً عشرة:ء إما 
للسفارة (تبادل الرسائل مع الأعداء) » أو لتبادل الأسرى. أو لا يرى هؤلاء وجوه التناقض 
التى يوقعون أنفسهم فيها عندما يطلقون شعارات لا تتوافق مع العصرء ويسقطون أحكاماً 
تاريخية على حياة راهنة لا تقبلها ولن تقبلهاء ثم لا يمضون بتلك الأحكام إلى نهاياتها 
المنطقية . سبحان الله » بقوا على رغائبهم الوهمية تلك حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى» 
وحملتهم أوهامهم على الظن بأنهم ورثته» بل ظنوا أنهم أصحاب الفكر البديل للشيوعية بعد 
انهيار دولتها النموذجية. بيد أن تلك الدولة التى تمنوا بعون الله وراثتها كانت تملك عند 
سقوطها ثلاثين ألف رأس نووى كان من الممكن أن تدمر بها العالم كله عدة مرات. تلك 
الرغائب الحمقاء سنؤكدها بالدليل فى صلب الكتاب. وكم كنا نود أن نحسن الظن ونقول» 
بعد أن استكان الإسلامويون لدول الاستكبار: مرحباً بتهافت التهافت؛ ومرحبأ بالوعى 
المتأخر بحقائق الحياة. ولكن القوم لم يدعوا مجالاً لذلك الظن غير الآثم. تهافت التهافت 
أضحى تهافتاً على التهافتء أى تهافتاً على تهافتنا نحن المستغربين. أبلغ تعبير عن ذلك 
خيانتهم لجيش الفتح الإسلامى الذى كانوا يعدونه للقضاء على دول الاستكبار. لم يقفوا عند 
خيمتهم كما وقف هانى بن قبيصة الشيبانى فى موقعة ذى قار(") يقول: «والله لا أفر حتى 
تفر الخيمة . تلك هى ثمار الأربعة عشر عاماً من الخيلاء الزائفء والتزيد متناهى الحماقة. 
وفى إنجيل متىمن ثمارهم سوف تعرفونهم» (الإصحاح السابع/الآية1١)‏ . 

علم الله لا نعبر بهذا عن فرح ببلية » فنحن جد سعداء بعود أحمد للحقء ولكن كم تمنينا 
أن يلحق العائدون للحق باعتراقهم الضمنى بخيبة تجربتهمء اعتذارً لأهل السودان عن كل 
الأقعال التى ارتكبت ودفع السودان وأهله ثمنها من أجل الفتح الإسلامى العالمى. من تلك 


58 


الأفعال استباحة أرض السودان زماناً من جانب جيش الفتح الإسلامى القاعدى(نسبة 
لجماعة القاعدة)» واستغلال مؤسساته» واستخدام عدة جيشه وعتاده ووسائل نقله» ثم 
تسخير كل مقدرات الوطن لجيش الفتح ذلك. وعندما ندعو لذلك الاعتذار لا نبتغى من أهل 
الثوابت اعترافاً بالذنب» أو جلداً لظهورهم بسياط من حديد كما يفعل الشيعة فى ذكرى 
كربلاء. ما نبتغيه أبسط من هذا بكثير: اعتراف القوم فى داخل ذواتهم بأنهم خطاؤون. 
ولوم المرء نفسه أمر عادله الله فى القسم بيوم الهول الأعظم: «لا أقسم بيوم القيامة» ولا 
أقسم بالنفس اللوامة4 (القيامة )5-١/100‏ . وإن كان فى الإشارة للنفس الانسانية فى تلك 
الآية تشريف لهاء ففيها أيضاً حض للإنسان على لوم نفسه ندماً على ما ارتكب من 
خطيئة . وأقمن بالذى يرتكب الخطأ الجسيم؛ أن يكف عن الادعاء بأنه مالك الحقيقة 
المطلقة . لم يبق للإسلامويينء بعد هذا الاعتراف. شماعة يعلقون عليها الأخطاء مثل 
شماعة الاستعمار التى نهكها استخداماً من سبقهم من الحكام. ذنبهم» كما يقول أهل 
اوداق أصتكن: فى عضم زقتدهم: لأ لما أصابتكم مضيية كه أصتيض مكليها فلك اتن هذا 
قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شىء قدير» (آل عمران»؟/116). رغم ذلك لم 
تكف القلة المهيمنة على مقاليد الأمور عن التصريحات الاستفزازية حول الاستمساك 
بالثوابت» بعد أن افتضح الأمر وانتشرت الشهرة بما يعاب. فبأى حقائق الحياة يتمارون. 
النظام» مثل غيره من أنظمة الحكم الفاشى» مقدر له أن يذهب بسبب عوامل الضعف 
والوهن والتناقض التى اعترته» والتى كان له فى صنعها نصيب الأسد. ولهذا فلئن لم يكن 
فى الفشل الاقتصادى الذريع» والتخبط السياسىء والنكبات العسكرية» والإفلاس 
الأيديولوجى ما يكفى لإقناع الذين راهنوا على بقاء النظام خارج السودان» بأن نظاماً كهذا 
سيقدر على الاستمرارء فلا شك فى أن فى قانون الأرجحية ( ]11ز635م/م ,ه :1.38آ )ما 
هو كفيل بتخييب ظنهم. هذا بالتأكيد لا يعنى إغلاق الطرق أمام حل سلمى للصراع فى 
السودان» أو رفض معارصى النظام الحوار معه. ذلك ليس من الحكمة فى شىء» لأن 
الجنوح للسلم فى كل الأحوال خير من الحرب. كما أن بين قيادات النظام نفسه. كما بين 
مفكريه» من أدرك خبال السياسات التى اتبعها نظام حكمهم خلال ثلاثة عشر عاماً من 


59 


أعوام الجراد. نعم؛ هؤلاء يعدون على أصابع اليد الواحدة» ولكن رأيهم جدير بالاعتبار لأنه 
يمثل شهادة شاهد من أهلهم. من هؤلاء لا نستثنى أب الحركة» الدكتور الترابى» وكما 
سنبين» فرأيه فى توسيع الوعاء السياسى يعود إلى ما قبل ديسمبر 1154ء أى قبل أن يجعل 
منه النظام شماعة لأخطائه» ويسلقه من كادوا يوماً أن يعبدوه دون الله بألسنة حداد . أولئك 
قوم لا يطمئن لهم عدوء ولن يجلبوا خيراً لصديق «أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم 
ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم يألسنة 
حداد أشحة على الخير» (الأحزاب .)١19/57‏ ليت القوم قرأوا إلياذة هوميروس. فلريما 
تعلموا منها أن الحصون دوماً تهزم من داخلها. 

هناك بلا شك جماعة تهيمن على أجهزة القمع فى النظام » ولها نظائر فى كل أنظمة 
الحكم الاستبدادية عبر التاريخ. بعض هؤلاء تتكدس أضابيرهم بالهياكل العظمية ٠‏ ولهذا 
يخشون التغيير» بل بلغت الجرأة ببعضهم التعبير عن مخاوفه هذه فى بعض اللقاءات مما 
سنفصل فى الكتاب. لارجاء فى هؤلاء الايخمانيون إذ: «فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم 
وكثير منهم فاسقون4 (الحديد )١15/51‏ . هم فاسقون رغم غلوهم فى الشعائر» وكيف لا 
نلحق بالفسق من لا يتقى الله فى عباده» فتقوى الله فى خلّقه معيار ذهبى للحكم فى 
الإسلام كان الكو السدديق شيع (لأسدهل الأمصار يتيك رالعذ وك وه علننها 
شيئاً: "اتق الله فى السر والعلانية فإن من يتق الله يجعل له مخرجاً. الله؛ الله» كم من 
الجرائم ارتكب باسمك فى بيوت الأشباح أيتها الشريعة. بعض آخر جاء من المجهول. 
وتعتريه خشية من العودة إلى ظلمة الخمول ودنيا المجهول؛ متى أطفتت أضواء السلطة من 
حوله. أصحاب الدوافع الذاتية هؤلاء يتمنون أن تتواصل الحرب حتى آخر دباب7؛؟) وإن 
فرضت عليهم نهاية الحرب فسيضعون العصى فى دولاب الحل السلمى. لن يرضيهم غير 
سلم رومانى يكفل الأمان للمرعوب منهمء ويبقى على السلطان متاعاً إلى أبد الآبدين لمن 
ازدهاه السلطان. 

يقع الكتاب فى ثلاثة أبواب. الباب الأول يتضمن خلفية تاريخية لأزمات السودان 
المتعددة » نرد فيها تلك الأزمات إلى أصلها فى بدايات السودان الحديث (أى السودان 


60 


بحدوده المعروفة اليوم) ٠‏ ألا وهى الحكم التركى والشورة المهدية. فتخليق السودان إبان 
الحكم التركى غرس بذور الصراع الحالى» ثم جاءت المهدية لتعمق جذور الصراع» رغم 
دورها فى تحرير السودان من نير ذلك الحكم :هده التريخكلة امن تاريخ السودان السياسي 
غطتها ببراعة أبحاث أكاديمية عديدة سوف نشير إليهاء ولهذا فقد يضجر سردها من جديد 
الضليعين فى الأمر. يدان خناقة كذ لخرين يضرو لمر التردان» إلا انهم ا يتيتطمرا فى 
تاريخه» ولهذا لا يرون فى تناقضاته الراهنة إلا ألغازاً تستعصى على الفهم. لأجل هؤلاء لا 
مناص من استعراض العوامل التاريخية والاتجاهات الخفية التى ساعدت علىء أو قادت 
إلى» التلغيز. واحد من أسباب هذا التلغيزء كما أومأنا هو تعفية المؤرخين على جوانب من 
ذلك التاريخ» أو اقترابهم منه اقتراباً رومانسياً هزهز الصورة الحقيقية للواقع . 

نتناول أيضاً فى ذلك الباب» مرحلة حاسمة فى تاريخ الصراع بين الجنوب والشمال: 
الفترة التى سبقت الاستقلال مباشرة وتلك التى تلته. أسمينا هذه المرحلة» والتى تمتد من 
الحكم الذاتى ال حكوملة أكتوبر ١3754‏ فترة إهدار التوقعات ومأساة حسن النوايا امل 
السودانيون خيراً كثيرا أفى قادتهم آباء الاستقلالء ولهذا أولوهم الثقة. والآمال دوماً تسبقها 

ثقة فى المأمول 5030 بالأمير كثير والأمير الذى بها المأمول إلا أنهء لسوء طالع أهل 
السودان» لم يكن بين كل من أولوهم الثقة مأمول واحد يسعد الآملين. هذا الباب يشمل 
تفصيلاً لما نادى به بعض الشماليين؛ وما تمناه الجنوبيون الذين وثقوا بساسة الشمال» حتى 
يبقى السودان موحداً. تلك الأمانى والرؤى أجهزت عليها سياسات غير مستبصرة؛ كما 
صحبها اختيان» وما درى الذين اختانوا غيرهمء إنهم كانوا يختانون أنفسهم, تاب الله 
عليهم؛ (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم» (البقرة» 7 187) . فى هذا الباب أيضاً قضايا 
تناولناها من قبل فى بعض ما كتبنا (النخبة وإدمان الفشل» السودان فى النفق المظلم؛ 
جنوب السودان فى المخيلة العربية) » وفى تكرار تلك المقالات ما يضجر القارئ الذى أطلع 
عليها. إلا أنا ارتأينا أن الإشارة إلى ما ورد فى تلك المقالات فى هوامش بهذا الكتاب» قد 
لايعين كثيراً القارئ الجديد, إما لعسورة العودة للمراجع» أو رغبة منا فى أن لا ينقطع حبل 
متابعته للكتاب بإحالات تعسر عليه الأمور. 


61 


الباب الثانى يتتبع ظهور حركة الإسلام السياسى المعاصر ومارافقته من جلبة سياسية 
منذ منتتصف ستينيات القرن العشرين وإلى حين استيلاء الجبهة الإسلامية على السلطة. 
ومع أن هيمنة الدين على السياسة فى السودان تعود إلى فترة المهدية» إلا أنها خبت كثيراً 
عند بزوغ الحركة الوطنية فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضىء رغم اعتماد 
القوى السياسية الرئيسية فى الشمال على دعم الجماعات الدينية الطائفية. فالدين ‏ من 
حيث هو دين لم يلعب دوراً أساسياً فى تشكيل رؤى الأحزاب طوال فترة النضال السياسى 
ضد الاستعمارء بل إن واحداً من قادة التيارات الإسلامية (السيد على الميرغنى) دعا 
صراحة لعدم تدخل الزعماء الدينيين مباشرة فى السياسة حتى يترك للسودانيين تقرير ما 
يريدون بانفسهم» كما دعا الثانى (السيد عبد الرحمن المهدى) إلى تآلف السودانيين بعيداً 
عن الشيع والطوائف. ولعل هذا هو السبب فى أن الدين لم يكن ذا موضوع فى النزاع 
الجنوبى ‏ الشمالى خلال تلك الفترة. ولكن منذ الستينيات ‏ حين برز الإخوان المسلمون 
كقوة سياسية فاعلة ‏ أقحم الدين إقحاماً أسطورياً فى الحياة العامة كلهاء بما فى ذلك 
السياسة . ما هى الأسباب وما هى النتائج؟ سؤالان نرد عليهما فى ذلك الباب من الكتاب. 

وأخيراًء نتناول فى الباب الثالث» والذى يضم الجزء الأكبر من الكتابء ثلاث قضايا 

وثيقة الصلة ببعضها البعض: 

هوية السودان الثقافية التى استعر الجدل حول ماهيتها مؤخراً. 

- تصعيد الحرب لأبعاد غير مسبوقة مما نجمت عنه كوارث إنسانية مرعبة» وعنف 
شنيع» واهتمام دولى متزايد. 

تطور الاهتمام الدولى إلى مداخلات متعددة بهدف إيقاف الحرب. ما هى هذه 
المبادرات؟ وما هى دوافعها المعلنة والخفية ؟ وإلى أين انتهت ؟ كل هذه أسئلة نتساعى 
للإجابة عليها فى هذا الباب. 

ونختتم ذلك الباب بفصل حول وعى السودانيين المتأخر فى الشمال كما فى الجنوب ‏ 
بأن المنهج السياسى الذى ظل يجسد الخصائص الأساسية للسودان القديم لم يعد ملائماً لخلق 


62 


سودان موحدء كما لم يعد ملائماً الظن بأن تلك الوحدة يمكن أن تتحقق رغم إرادة الشعب» 
أو فى ظل انقسام السودان على نفسه طبقاً لحدود عرقية ودينية وثقافية صارمة. وبحكم 
طبيعة القضايا المطروحة فى هذا الباب» كان لزاماً علينا التطرق إلى طروحات نظرية 
مختلفة حول الأصول الفكرية لتلك القضايا مما حملناء فى أكثر من فصلء على الاستطراد. 
هذا أمر ضرورى اقتضته مقاصد الحاجة:» إذ يدور فيه البحث والتقصى حول النظريات 
المطروحة» لكيما نستكشف إن كانت النظريات ضهية للواقع الماثل الذى أبتناه عليها 
قينا كفو 

فى الاستهلال أشرنا إلى دور صادق المهدى وحسن الترابى فى دفع نميرى ‏ بوجه أو 
آخر ‏ لإلغاء اتفاقية أديس أبابا. أفكار ودوافع الزعماء الثلاثة سنوليها اهتماماً خاصاً فى 
الكتاب,» دون أن نقول أن ثلاثتهم يتحملون وحدهم المسئولية عما حاق بالسودان من محن؛ 
فالمسئولية دمتد إلى زعماء آخرين. لماذاء إذن» نوليهم هذا الاهتمام؟ 

أولاً: أتيحت لنميرى والترابى فرص فى الحكم لم تتح لغيرهما: الزمن الممتد والسلطة 
المطلقة؛ فما الذى فعلا لإيقاف الحرب وتوحيد السودان؟ 

ثانياً: فى مرحلة هامة من مراحل حكم نميرى نجمت عن تضامن الثلاثة آثار ضارة 
بقضيتى الوحدة والسلام: ما هى وجوه هذا التضامن؟ وما الذى قاد إليه؟ 

ثالثاً: تبنى الصادق والترابى فلسفة ومفاهيم تركت أثراً دامياً فى جسم السودان السياسى» 
ماهى هذه المفاهيم التى قادتهما للإنحدارفى عقبة زوج لم ينج السودان بعد من 

رابعاً: إن كان فشل الآخرين من رجال الطبقة الحاكمة فى الشمال يعزى إلى قصر 
النظرء فإن قصور المهدى والترابى يعود إلى إضفاء طابع أيديولوجى نخبوى على السياسة. 
هذاء بالضرورة» يقتضى التفحص فى هذا البعد الأيديولوجى. 

نميرى» من جانب آخرء لا يملك سعة اطلاع صاحبيه ولا وعيهما المفترض بالتاريخ؛ 
لهذا لم يترج منه الناس الكثير. ابن اكقي يما حفن أو تحقق كن عهدة جنل لو عقة ونضيف 


63 


عقد من الزمان . عوضاً عن ذلك عاد الرجل من غرية مستحقة وهوعازم على أن يلعب 
ورا على المنااحة التسودائية انسة أن كه سوقه عمقت كارت . تلك هى أزمة الذين 
يواظبون على النظر إلى وجوههم فى مرايا خادعة. 
كل امرئ فى تنفسه عاقل 
ياليت شعرى من هو الجاهل 

أما فشل الزعيمين المفكرين» فلا يعود فقط إلى عدم اتساق سياساتهما مع واقع السودان 
الراهنء بل أيضاً إلى عدم تهيؤ السودان لتلك السياسات. بالرغم من هذاء رفض الزعيمان 
تقبل الحقيقة المرة بأن السودان ليس هو الأرض الصالحة لغرس أفكارهما النخبوية؛ مهما 
كانت درجة إيمانهما بها. كان واضحاً منذ مؤتمر المائدة المستديرة )١975(‏ » خاصة عقب 
إعلان مشروع الدستور الإسلامىء أن انقسام السودان على نفسه بسبب ذلك المشروع أمر لا 
يهز مضاجع الزعيمين. ليتهما تذكرا قول يسوع للفريسيين «فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم 
كل مماكة معلمة حلى ذاتها تحرنكة كله جدينة أر بيت عفان على ذانه لاجد يتبت» (متى» 
الإصحاح القانى عشر 75/75). على النقيضء أعطى الزعيمان انطباعاً ‏ مثل كل 
الأيديولوجيين ‏ بأنه إن لم يكن السودان مهيئا لقبول أطروحاتهماء فلا بد من إعادة تشكيل 
واقعه حتى يلائم الأطروحة .هذه المغالطة للواقع هى التى جعلت منهما مثقفين تراجيديين» 
كما جعلت أقوالهما تتلوى كما تتلوى الحية » كل قول لهما يناقض ما سبقه» وكل فعل ينقض 
من بعد قوة أنكاثاً ما تقدمه. مثال ذلك مشروعات الدولة الإسلامية المختلفة والتى وصفت 
طوراً بأنها تمثل العودة للجذور الإسلامية السودانية (الصادق)» أو تتمثل دولة النبوة 
(الترابى) . ولعل الصادق كان أكثر قربى بالواقع» لأنه اتخذ من المهدية - وهى تجرية 
سودانية ‏ نموذجاً لحكمه . ثمة قصور يكمن فى طيات ذلك النموذج» ذلك القصور سنبينه 
فى الموقع المناسب من الكتاب» ونكتفى بالقول فى المقدمة أن الذى يسعى لرد الفرع إلى 
أصله عليه أن يدرك أن الأصل يلازمه أثره . وبالتتحرى عن ذلك الأصلء» نكشف عن أن 
عودة الصادق إلى نقطة البدء (الثورة المهدية) هى عودة مثقلة. 


64 


وإن تركنا التجرية المهدية جانبأ» نجد أن تجارب الدولة الإسلامية الثلاث: تجربة 
الدستور الإسلامى فى عام »١154‏ وتجربة نميرى فى عام ١1587‏ » وتجربة الإنقاذ فى عام 
4 لم تزد السودان إلا تمزقاًء بل كادت أن تبَعْض المسلمين فى دينهم. ليس أدل على 
فشل الأولى من تنكر فلاسفتها لها بعد ثلاثة عقود من الزمان. وليس أدل على فشل الهزالة 
التى جاء بها نميرى فى عام 154817 ء من إجماع كل أهل السودان على استنكارها. أما 
الثالثة - دولةقريش التى أقامها الترابى فى عام ١197‏ فيكفى أن قريشاً نفسها نكقصت 
عنها بآخرة عندما أدركت بأن النوبة ليسوا يهود خيبرء وأن الدينكا ليسوا بنى قينقاع» وأن 
التمثل ‏ بل التطبيق الحرفى ‏ لصحيفة المدينة لا يغنى عن الالتزام بالإعلان الدولى لحقوق 
الإنسان وتوابعه» إذ سيظل ذلك الإعلان والعهود التى صحبته معياراً قاطعاً لاحترام حقوق 
الإنسان فى هذا الزمان. ورغم الفشل المكرور الذى منيت به مشروعات الدولة الدينية» برع 
دعاتها فى تبرير كل فشل بأسلوب لا يستسيغه عقل. فالصادقء مثلاً» لم يرفى دولة نميرى 
إلا عبثاً مسيخاً لا محل له من الإعراب. والترابى لا يرى فى صحوية الصادق إلا بهلوانية 
له فيها أوصاف. والصادق مرة أخرى لا يرى فى دولة الترابى الإسلامية غير انحراف 
بالدين عن الطريق السوى. فإلى متى تستمر معاناة السودانيين على يد الأيديولوجيين 
الإسلامويين حتى يستكشف السودان النموذج "الإسلامى الصحيح؟ ليت كل الأيديولوجيين 
السودانيين أدركوا بأن كل ما يتغياه مسلمو السودان وغير مسلميهم من حكامهم هو تحقيق 
السلام الامن وهناءة العيش. 

وعلى خلاف كل التوقعاتء جاهر الترابي بالارتياب فى سلامة مشروعات الدولة 
الدينية» وهذا أمر يشكر عليه . كان ذلك فى مذكرة التفاهم التى وقعها حزبه ‏ باتفاق كامل 
معه ‏ مع الحركة الشعبية فى فبراير١١٠7.‏ ما هى أسباب هذا التحول؟ سؤال سنرد عليه 
فى الفصل التاسع من الكتاب. مع ذلكء لا مناص من تناول دور الترابى بالتفصيل خلال 
الفترة التى هيمن فيها على الحكمء إن لم يكن لشىء فلأن الجبهة جاءت إلى الحكم على 
صهوة جواد أبيض وهى ترفع راية مكارم الأخلاق. والذى يفاضل غيره بالخلق القويم: 
يتوجب عليه التزام أمهات الفضائل: الحكمة والعفة والشجاعة والعدل. هذا هو المقياس 


605 


الذهبى الذى يقاس به مسلك كل من حسب أنه غالب غيره فى الفضل فغلبه. صحيح أن 
نظام الحكم الذى أسسه الترابى ليس هو النظام الاستبدادى الأول فى سودان ما بعد 
الاستقلال» ولكن - دون أدنى تحفظ ‏ لن يستطيع أى كتاب أن يستوعب الدموية التى 
وخطت ممارسات نظام الجبهة» وسنأتى فى هذا الفصل السابع على صور من هذه الدموية 
يقشعر لها البدن ويرتعج الجسم. 

لن يكون التحليل جاداً أو موضوعياً إن قدنا القارئ إلى الاستنتاج بأن كل مشاكل 
السودان سوف تحل بابتعاد الصادق والترابى عن الحكم والسياسة. دور كل واحد منهما 
تحكمه اعتبارات موضوعية لن تلغيها الوهوم؛ كما أن مشاكل السودان أكثر تعقيداً من أن 
تجل بتنازل هذا الزعيم أو ذاك. مشاكل السودان تشوبها تحيزات وعصبيات وشروخات لا 
نهاية لها فى البنى التحتية. وإذ يقف السودان اليوم فى مفترق الطرقء يأمل المرء أن يكون 
الوعى المتأخر بنوازع التفرقة هذه؛ والذى انعكس فى قرارات أسمرا وفى اتفاقيات 
ماشاكوسء بداية لفجر جديدء ورؤية جديدة . فالضوء مهما كان خفيتاً قادر على إزالة بعض 
العتمة ؤانت التتفية فن كمال النودان وجلوية :لين هو شمهد الفنظلة الت اوفشك من اها 
بالرعاية حتى تصبح سراجاً وهاجاً فحسب. وإنما أيضاً التملى الموضوعى فى واقع السودان 
الراهن. تلك هى المسئولية التاريخية للنخبة» خاصة فى الشمال. ومهما كان خيارها فإن 
ذلك الخيار سيحدد مصير السودان للا جيال القادمة. 


لالالا 


66 


هوامشن وإحالات 





(1) يبلغ عدد الناخبين فى الهند ٠٠١‏ مليون شخصء وهذا العدد أكبر من مجموع الناخبين فى 
الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبى. وظلت الانتخابات فى الهند تجرى منذ الاستقلال تحت 
إشراف لجنة انتخابات وطنية والهيئة القضائية الهندية دون إشراف خارجى. 

(2) الصوةء العلامة التى يضعها المساح على الأرض لتحديد الموقع. 

(3) الموقعة بين العرب (شيبان) والفرس بقيادة كسرى أبرويز قبل الإسلام. 

(4) الديابون فصيل من ميليشيات الجبهة العسكرية أعدت لتقتحم الأهوال كدبابات بشرية. 


لالالا 


67 


٠‏ البابالأول 
لالآا 


جدورالاأزمة 


صحب الئاس قيلئًا ذا الزمانا 

وعناهم من شأنه ما عنانا 
وتولوابقصة كلهممنته 

وإن سربعضهمأحيانا 
كلما تبت الزمان فئاة 


ركب المرء للقناةسثئانا 
أبو الطيب المتنبى 
لآلا 


1 


1١920 1١441١ 


الازدواجيات الممزقةه 
والتشويش الاستعمارى 


69 


م ل 


ممح 


نعمة السودان أو نقمته ‏ حسب نظرة الرائى ‏ هى موقعه الجغرافى. يقع السودان على 
الجانب الغربى من البحر الأحمر محاذياً للجزيرة العربية» ومن ثم الشرق الأوسط. وعلى 
الشمال تحده مصر وليبياء وكلاهما يطل على الساحل الجنوبى للمتوسط؛. كما تحيط به شرقآ 
وجنوباً أقطار شرق أفريقيا النيلية التى تسيطر فى مجموعها على حوض وادى النيل. إزاء 
هذه المفصلية الجغرافية» كان من الطبيعى أن لا تغفل القوى الاستعمارية التى حكمت مصر 
من الأتراك حتى البريطانيين ‏ بلاداً تحتل هذا الموقع الإستراتيجى. كل هذه القوى سعت 
لبسط نفوذها على السودانء إما بحثأ عن ثرواته فى شكل رقيق أو ثروات معدنية» أو للتحكم 
فى الموارد المائية التى تتخلله أو تعبر أرضه. من جهة أخرىء ما كان السودان» فى عهد 
التدافع الاستعمارى نحو أفريقيا (هء1ى 10 »اده 5)» لينجو من الوقوع فى فخ 
متازهات الذول:الانسكمارئة وخاضية تنك الذى لم حمق طمويحيا فق المقطوة حلى متملقة 
المعور انها الككوى نكن فركنا وولمتكا ويويظانبا .الا خيرةات على الأكفين- أبدت وغبة 
جامحة فى السيطرة على البلادء خاصة عندما أفلحت الدولتان الاستعماريتان الأخريان فى 
التوغل فى منطقة البحيرات الكبرى.!١)‏ 
السودان كما نعرفه اليوم» لم يبرز إلى الوجود إلا فى القرن التاسع عشر. فالرقعة من 
الأرض التى تتضام فيها خمسمائة جماعة قبلية» بجانب جماعات فزعية أخرى تتحدث 
جميعها ما يقرب من مائة وخمسين لغة(")؛ لم تتوحد تحت ظل حكومة مركزية واحدة إلا 
على يد المستعمرين الأتراك فى عام »187١‏ وهكذا بقى السودان حتى سقوط دولتهم فى 
العام 1845 . توحيد الأتراك للسودان لم يكن هو الغاية من غزوهم لتلك الرقعة من الأرض» 


71 


وإنما كانت لهم فيها غايات أخريات: اقتناص العبيد لتزويد جيش الخديوى بالجند 
واستغلال مناجم الذهب لتمويل خزينة حربه. وكان لتوحيد ما عرف لاحقاً بالشمال 
والجنوب» واستشراء حملات الاسترقاق فى الجنوبء أثر كبير على مستقبل القطر الجديد. 
وقبل توحيد السودان والتصاعد بتجارة الرق فيه» كان البحث عن الذهب والعاج وريش 
النعام بهدف التصدير إلى مصر وتركيا أكثر ما يجتذب التجار الشماليين إلى الغرب 
والجنوب» فى حين كان اقتناص العبيد يتم فى الغرب (دارفور) من بين القبائل المستضعفة 
فى ذلك الإقليم» أكثر منه فى الجنوب. 

يرجع الفضل للأتراك فى إرساء قواعد الدولة المعاصرة وبناء الاقتصاد الحديث فى 
السودان» غير أن إدارتهم للاقتصاد (خاصة جباية الضرائب واقتسار الإتاوات) أرهقت كاهل 
الشماليين وحملتهم ما لا طاقة لهم به. وقاد الرهق الذى لحق بأهل الشمال» بجانب العتف 
الذى لازم اقتناص الرقيق فى الجنوبء إلى تأليب الشمال والجنوب معاً ضد الحكم التركى» 
مما أدى بدورهء إلى ثورة وطنية (المهدية) كان لها أثر بالغ على التطور السياسى للسودان. 
فالمهدية؛ رغم إبقائها على السودان موحداً كما خلفه النظام التركى» أصبحت مصدر فرقة 
وتمزق لاحتكارها الدين أولآء ثم للمنهج الممعن فى القساوة الذى حكمت به السودان مما أثار 
عليها سخط أغلب السودانيين. كما تلازم العنف المهدوى الداخلى مع عدوانية غريبة على 
الدول المجاورة» ولكن تنتفى الغرابة عندما ندرك أن تلك العدوانية كانت تتساوق مع توجه 
المهدية الرسالى ونظرتها الوحيوية للحياة. رغم هذه الحقائق ما انفك أغلب المؤرخين 
السودانيين يتداولون فى أمر المهدية من منطلق تعتوره رومانسية تعشى الأبصارء إذ لا يرون 
فيها إلا الجانب الوطنى التحريرىء ويغفلون ما فيها من عناصر سلبية كثيرة . فى هذا الفصل 
سننخل التاريخ المهدوى» نختار أصفاه وننبذ ما فيه من شوائب؛ لا سيما تلك التى تركت أثرأً 
باقياً. فعبادة الذكريات لا تعين أبدأ على الإدراك الموضوعى للحقائق 

بتضافر الرفض الداخلى مع التدخل الخارجى سقطت الدولة المهدية لتحل مكانها شراكة 
استعمارية وهمية بين بريطانيا ومصر عرفت بالحكم الثنائى (602001010110150)» وذلك 
مصطاح خداع وجديد على فقه القانون الدولى. وكان اللورد كرومرء صانع تلك الشراكة 


172 


الخادعة» أول من أسماها وهماً. وبغض الطرف عن وهمية الشراكة » كان للازدواجية 
الصورية للسيادة على السودان أثر ملموس فى مسيرة الحركة الوطنية . اتسمت أيضاً السياسة 
الاستعمارية نحو الشمال والجنوب بالارتباك» فمن ناحية أفلح الحكم الاستعمارى فى ترسيخ 
وحدة القطر عبر نظام مركزى متين, إلا انه»ء من ناحية اخرىء ذهب إلى إزاحة وسائط 
التواصل الثقافى والحياتى (مثل اللغة والتجارة) بين الجنوب والشمال. من أوجه الإرياك 
الأخرى انهماك الاستعمار فى ترقية الشمال» فى ذات الوقت الذى أهمل فيه تنمية الجنوب» 
وهى المنطقة التى ظل يدعى حتى الاستقلال مسئوليته عن رعاية أهلها. ولم يبتغ الحكم 
الاستعمارى باتباعه لتلك السياسات المربكة والمرتبكة؛ تحقيق مصالح الشمال أو الجنوب» 
بقدرما ابتغى تحقيق مصالحه المحدودة. نقول محدودة لأن السودان كله» مع أهميته 
لإنتاج المواد الخام لتغذية الصناعات الناشئة فى انجلتراء لم يكن هو الجنة التى ينشدون من 
وراء احتلالهم؛ كما يتوهم بعضنا. فالذى كان يبتغيه البريطانيون هو السيطرة على منابع 
النيل وروافده بهدف إحكام السيطرة على مصر. 

800 


نشأة السودان الجديد 


فى عام 187١‏ قام محمد على باشا والى مصر يضم السودان اسماً إلى محيط السيطرة 
العثمانية. نقول اسماً لأن محمد على لم يهدف من غنزو السودان إلا لخلق إمبراطوريته 
الخاصةء وتمويلها من الثروات التى كان يؤمل فى الحصول عليها منه. ومهما كان من أمر 
طموحاته الملتوية؛ أفلح الباشا فى تحقيق مالم يكن يدور بخلده: خلق دولة جديدة هى السودان 
الذى نعرف بحدوده اليوم» بل تجاوز تلك الحدود. فبعد اختراق جيوشه الجنوب حتى مدينة 
قوندوكرو (جوبا الحالية) والتى سميت فيما بعد بالإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل باشاء اتجهت 
قوات الباشا بقيادة صاموئيل بيكر إلى منطقة البحيرات الكبرى وسط أفريقيا وضمت إلى 
جنوب السودان منطقة كاباريقا فى مملكة بونيورو( 0:0ا8105)؛ وألتى تتبع الآن ليوغندا. 
وحين امتد نطاق حكم محمد على غرياً حتى دارفورء بعون الزبير باشا رحمة» بسط الباشا 
سلطانه فى الشرق للحد الذى توسعت به حدود مصر الجنوبية إلى منطقة القرن الأفريقى. 


713 


كان لتلك الانتصارات الباهرة أثرآخر هام هو إيقاف النمو الطبيعى للممالك السودانية 
الأصلية: الفونج ودارفورء فالأولى كانت تسيطر على السودان الوسيطء والثانية كانت ذات 
علاقات وارفة مع مصر وتركيا على عهد سلاطين الكيرا. وقد حاد مؤرخ مصرى عالم عن 
الصواب حينما برر غزو محمد على للسودان باعتباره غزوا لأرض واسعة لا مالك لها -20) 
(20ة1[ مقلم ولم يبتغ من غزوه لها غير لملمة أطرافها.(؟) فمملكتا سنار ودارفور كانتا 
يومذاك دولتين قائمتين امتد نفوذهما بعيداً عن حاضرة الملكء إذ بسطت الأولى نفوذها 
المباشر حتى سوبا فى الشمال؛ وسيطرت الثانية على الغرب بما فى ذلك أجزاء من التشاد» ثم 
امتدت فى ععهد الملك تيراب إلى وادى النطرون شمالآًء وبحر الغزال جنوباً» كما شملت 
كردفان. وكان للدولتين تواصل تجارى وثقافى مع مصرهء وأبرز وجوه الأخير هو إقامة 
رواقين فى الأزهر للطلاب الوافدين من هاتين الدولتين: رواق السنارية ورواق الفور. 

مقا جه محمة عل لم يرى الدويطاليدن كمع طفهم الصو من تددن معدم فى 
وادى النيل من جانب القوى الأوروبية الأخرىء؛ استشعروا أيضأ تهديداً جديداً لمصالحهم 
العالمية الواسعة» خاصة فى الهند. لأجل ذلك سعوا للحيلولة دون تحكم هذا الطامح الجديد 
على تلك المناطق النائية التى تجاور الطرق الحيوية المتجهة إلى الهندء درة التاج فى 
الشرق. ولتحييد أى خطط كانت تعتزمها القوى الطامحة للسيطرة على السودانء والتأثير 
على الباشا فى هذا الصددء تمكن البريطانيون من إقناع الآستانة بكبح جماح الباشاء وإجباره 
على التراجع عن طموحاته التوسعية فى منطقة البحيرات. كثمن لهذاء استقر الرأى على 
اعتبار الباشا حاكماً لمصر حكماً يورثه لأبنائه من بعده على أن يمتد حكمه إلى مقاطعات 
النوبة ودارفور وكردفان وسنارء بموجب فرمان السلطان عبد الحميد الذى جاء فيه: إن 
سدتنا الملوكية تثبتكم على حكم مصر بطريق التوارث بشروط معلومة» وقد قلدتكم؛ فضلاً 
عن ولاية مصرء ولاية مقاطعات النوبة ودارفور وسنار وكردفان وجميع توابعها.(؟) ودرج 
بعض المؤرخين على تسمية الحكم التركى للسودان بالحكم المصرىء إلا أن فى إطلاق ذلك 
الوصف إجحافا بالحقيقة» فكما يقول هولت» كانت مصر نفسها آنذاك ولاية تتبع 
للإمبراطورية العثمانية» ويتولى زمام أمورها رعايا عثمانيون يتحدثون اللغة التركية.(0) 


74 


الحكم التركى لم يكن كله وبالاً على السودان» بل كان له أيضأ أثر كبير وعميق على 
التطور الإدارى للسودان. أهم مظاهر ذلك التطور هو خدمات النقل البرى (سواكن ‏ كسلا) 
و(سواكن - بربر)ء والنقل النهرى حتى الجنوب؛ وخدمات البرق والبريدء وإنشاء المحاكم 
الحديثة؛ وسك النقود» وإدخال التعليم النظامى المدنى والعسكرى(') وقد أشرف على التعليم 
المدنى العبقرى المجدد رفاعة الطهطاوى.(") وكان للطهطاوى رأى حول أقوام السودان, لا 
يختلف كثيراً فى جانب منه عن رأى البلدانيين العرب» ويفيد أن نشير إليهء خاصة وهو 
يناقض الرأى القائل بأن السودان كان منطقة خلاء.!*) إلى جانب هذه الإنجازات» حقق 
الحكم التركى تطورأً ملحوظأ فى مجال الاقتصاد بتحديثه لحقوق الانتفاع بالأراضى الزراعية 
فى شمال السودان وإدراجها فى شبكة الاقتصاد النقدى. هذا ليس بالإسهام اليسير فى تطوير 
اقتصاد السودان قبل الرأسمالى» إذ وسع نظام ملكية الأراضى الجديد من فرص الانتفاع 
بالأرض إلى ما وراء حدود المناطق الجغرافية التى كان يعيش فيها المالكون:!') كما أكسب 
الأراضى التى لم تكن تستخدم إلا من أجل الاقتصاد المعيشى قيمة مضافة. ابتدع الأتراك» 
أيضا ‏ ولأول مرة فى سودان العهد الوسيط ‏ المشروعات الزراعية الضخمة مثل مشروع 
التاكا على نهر القاشء» وشجعوا الاتجار بمحصولات هذه المشروعات عبر المدن الكبرى فى 
السودان الشمالى . وهكذا أسهمت الزراعة والتجارة» بقدر إسهام النقل والتعليم» فى توحيد أقوام 
الشمال. ولكنء مع النجاح العسكرى والإدارى للغازى التركىء اتسمت إدارته للسودان ببعض 
ما اتسمت به الدولة العثمانية الكبرى فى تلك المرحلة من تاريخها من عدم كفاءة فى الإدارة 
العامة وسوء تدبير للمال. ذلك الإخفاق الإدارى صحبته خشونة لم يألفها السودانيون من قبل 
فى جبى الأموال مما حمل قرابة الستة آلاف من مزارعى دنقلاء حسبما قال مكى شبيكه» 
إلى هجران مزارعهم والنزوح إلى الخرطوم والنيل الأزرق.(''أهذا سرعان ما استيأس 
السودانيون من النظام وانفضوا من حوله رغم نجاحه فى التحديث الإدارى للدولة» ورغم كل 
الإصلاحات والمميزات التى أكسبته تأييد عدد كبير من شخصيات السودان البارزة وعلمائه. 

من جانب آخرء استمال الأتراك المسلمين والمسيحيين من السودانيين عن طريق 
أسلوبهم المتسامح إزاء الأديان. والتسامح الدينى ‏ أو على الأقل التعايش السلمى مع أهل 


115 


الملل الأخرى ‏ ليس بالأمر المستغرب من ذلك الحكم. فخلال فترات استعمارهم للدول غير 
المسلمة» أبقى العثمانيون على الكنائس والصوامع والبيع فى الدول التى بسطوا عليها نفوذهم 
فى وسط أوروبا وفى البلقان» لاسيما فى عهد سليمان القانونى. ومما تجدر الإشارة إليه» أن 
السلطان العثمانى الحنفى آثر تطبيق القانون الفرنسى فى المعاملات التجارية بدلاً من 
المدونة الحنفية» علماً بأن أحكام أبى حنيفة فى البيوع والمعاملات التجارية هى أكثر 
الأحكام الإسلامية تطوراً بين كل مدارس الفقه فى ذلك الزمان. وما كان للعثمانيين الذين 
امتذماطائه إلى أعفات أوروا السسيدية أن يكشهوا عدا مومهم اويا هل أحكاء »مهيا 
كانت نجاعتها فى زمانها لا تعنى شيئاً فى ذلك العالم الجديد. لهذاء لم يكن غريباً أن يقلع 
الأتراك فى السودان» رغم حكمهم الصورى له باسم خليفة المسلمين» عن فرض قوانين 
مستمدة من الدين على شعبه المسلمء إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية للمسلمين. أباح 
الأتراك أيضاً للمسيحيين ‏ على اختلاف طوائفهم ‏ ممارسة طقوسهم الدينية وإنشاء 
كنائسهم فى أغلب مدن شمال السودان؛ من دنقلا حتى الأبيض. وبهذا أبقى الأتراك 
المسلمون على تقاليد موروثة منذ القرن السادس» عندما دخلت المسيحية السودان» واستقر 
عليها نفر من أهل السودان الشمالى كالأقباط.('') يلفت النظر أيضأ أن انتقال الإرساليات 
المسيحية الكاثوليكية لجنوب السودان بدأ فى عام 1844 فى العهد التركى . فالمسيحية؛ فى 
تجليها الجديدء ليست ظاهرة دينية طرأت على الجنوب مع دخول الاستعمار» وإنما غرست 
فيه فى ظل دولة إسلامية . وكان أول من قاد الإرساليات الكاثوليكية للجنوب فى العهد 
التركى أباء مازا ثم تبعهم آباء فيرونا الكمبونيون» فتاريخ معاهد كمبونى فى السودان يرجع 
للعهد التركى. يلفت النظر مجدداً أن كلا من الخرطوم والجزيرة كان يحكمها إيان حكم 
الأتراك. حاكم مسيحى هو الأرمنى اراكيل بك. 

اتجه الأتراك أيضا إلى تحديث المحاكم وأقاموا على رأسها قاض مصرى أسموه قاضى 
القضاةء فى الوقت الذى سعوا لتقليص الخلاوى!'') القرآنية بدعوى عدم ملاءمة منهجها 
التعليمى لحاجات المجتمع . بذلك: أخطأ الأتراك خطأ كبيراً لأن هذه الخلاوى لم تكن فقط 
دور علم؛ بل كانت هى مدار الحياة الاجتماعية كلها فى مملكتى سنار ودارفور. على أن 


76 


الهدف الحقيقى من تدخل الأتراك لم يكن كما زعمواء الرغبة فى الارتقاء بالتعليم» بقدر 
ما كان هو الخشية من الإنفاق المتزايد على الخلاوى والمعاهدء خاصة فى عهد الحكمدار 
جعفر مظهر باشا. لتحقيق ذلك الهدف دعا مظهر إلى تقليص عدد الطلاب بقصر التعليم 
على الصغارء كما أخذ يحدد شروطأ لكفاءة المعلمين. وكان لذلك التدخل أثر ضار على 
النظام إذ جعل من الفقهاء أرضاً خصبة للثورة على النظام. وفى نهاية الأمرء دفعت قسوة 
الأتراك المتزايدة أهل السودان لإعادة النظر فى تاييدهم للحكم التركى: ففى الشمال 
والحتوب ذاق السودانيون الأمرين من الممارسات الوحشية للحكم التركى. أفنحون قصعت 
ليور الماليين كران المتزايدة التى كانت تحصل ممن يملك ولا يملك لإشياع طاحودة 
الحربء أصبح نير العبودية أمرأً فوق طاقة الجنوبيين. زاد الأمر ضغتاً على إبالة فى الشمال 
قرار إلغاء الرق الذى أثار ثائرة الوجهاء العاملين فى تلك التجارة وأغليهم من ذوى السطوة 
والنفوة: 

الرق فى العهد التركى 

للرق تاريخ طويل فى السودان يعود لما قبل الحكم التركىء إلا أن التوسع والتحديث فى 
الاقتصاد الزراعى فى ذلك العهد واكبه نمو ملحوظ فى امتلاك الرقيق الزراعى؛ كما 
اصطحب قيام الدولة المركزية نمو متزايد لظاهرة الرقيق العسكرى. فامتلاك العبيد فى 
عهد الفونج (العهد الذى سبق الحكم التركى) كان مقصوراً على النبلاء الإقطاعيين» كما 
اقتصر دور الأرقاء على القيام بالأعمال المنزلية» والمعاونة فى الزراعة المحدودة» والتسرى 
(الإماء) . استخدم الرقيق أيضا فى العهد السنارى؛ وبصورة واسعة» لحراسة الثغور النائية 
للمملكة» والتى أخذت فى التوسع بعيداً عن حاضرة الملك فى سنار. فالرقء إذن» كان 
مؤسسة بارزة فى المجتمع الشمالى المسلم قبل مجىء الأتراك» وكان ذلك المجتمع يشبع 
حاجته للعبيد باصطياد غير المسلمين من الجزء الشمالى من جنوب السودان (خاصة 
مناطق الشلك) . وجبال النوبة» وجنوب النيل الأزرق على حدود أثيوبيا . حتى أثيوبيا نفسها 
لم تنج من قناصة الرقيق السودانيين» خاصة لاستجلاب النساء المكاديات (ومكادا اسم 
عربى قديم لبلاد الأحباش) . 


77 


على أن اقتناء الأتراك للعبيد لم يكن لأداء الأعمال المنزلية أو الزراعية» بقدر ما كان 
للتجنيد العسكرى فى المقام الأول. فى هذا الشأن » لم يخف محمد على باشا نواياه» إذ كتب 
لنائيه فى السودان يقول: إن غرضنا الوحيد من إرسالك لتولى هذه المهمة الصعية» ودعمنا 
لك بالجند وبالكثير من الأموال هو استجلاب أكبر عدد ممكن من الزنوج. أرنى حماسك 
وهمتك ولا تتوجل» اذهب إلى كل مكان؛ هاجم واضرب واخطف )١"(.‏ 

القولات الوق ويدف عتكرفف ليس تمع الفدعوا لي 6 بل يتفق مع تقليد 
قديم عرفته الخلافة الإسلامية منذ العهد العباسىء إلا أن عسكرة الرقيق فى تلك العهود لم 
تكن تعرف التمييز بين الألوان. فعلى سبيل المثالء بدأ تجنيد الرقيق العسكرى الأبيض من 
الصقالبة (أوروبا الوسطى والشرقية)» والأتراك (هضاب آسيا الوسطى) منذ العهد العباسى؛ 
وشجع خلفاء بنى العباس على ذلك الفضل بن يحيى البرمكى. وفى ذلك العهد كان أمير 
خراسان يدفع للمعتصم ألفى رقيق تركى لحراسته كل عام؛ وقد أصبح بعض من هؤلاء 
كاذه للعتة ركلتوا بمكة شرقمهم التعدن فد الخليقة. ووزراقه يلطورم على العامة مر لزي 
حتى بلغ استياء العرب منهم حداً جعلهم يحسبون أن تلك هى نهاية الدنيا وينتحلون 
الأحاديث النبوية لتوكيد دعاواهم . فعلى 22009 روى عن أبى هريرة: لا تقوم الساعة 
حتى يجىء قوم عراض الوجوهء صغار الأعين» فطس الأنوف» حتى يربطوا خيولهم 
يشاطئ دجلة.(4') ذلك واحد من أحاديث عديدة انتحلت لتبرير» أو دعم موقف سياسى» 
سنأتى عليها فى الفصل السابع. من جانب آخرء كانت أغلب القوى الضاربة فى جيوش 
الخلافة إيان الحروب الإسلامية ضد التتار والصليبيين من هذا الرقيق التركمانى والصقلبى» 
فى حين كان أغلب الإماء يستجلبن لافتراشهن إما للمتعة أو الولدء من وسط وجنوب أورويا 
(الروميات)» ومن إيران (الفارسيات) ؛ ومن أفغانستان (القندهاريات)؛ ومن شمال أفريقيا 
(البريريات) . 

أما رقيق أفريقيا (اسم أفريقيا وقتها كان يطلق على بلاد البربر) ؛ ورقيق السودان (أى 
رقيق أفريقيا جنوب الصحراء) فظاهرة جديدة ت تبعت تجفيف منابع الرقيق الأبيض بعد 
إسلام التركمان؛ وتنصر الصقالبة. ومن الغريب ١‏ الإسلام الذى حمى الترك من الرق بعد 


78 


تمسلمهم, لم يحم البربر بعد إسلامهم من ذلك المصيرء إذ استمر العرب فى سبى نساء 
البربر مع إسلامهن مما دفع عبد الرحمن بن حبيب حاكم القيروان (من نسل عقبة بن 
نافع) ليكتب للمعتصم رافضاً دفع الحصة السنوية من الرقيق والإماء لأن السبى قد انقطع 
عنهم بعد دخولهم الإسلام. نفس الرأى أبداه أحمد بابا التمبكتاوى (أحد فقهاء مالى) حول 
سبى أهله بعد أن دانوا للإسلام؛ ومع ذلك ظلوا يعاملون كفىء جماعى. وحين كان أغلب 
سبى البربر للافتراش» فى حين» كان سبى السودان موجهاًء على الأكثرء للزراعة بجانب 
العمل الخدمى. وكانت الغالبية العظمى من ذلك الرقيق تجىء من الحبشة . والسودان 
(النوبة» البجة» دافور) » وبلاد تكرور. نتيجة لذلك» وبخلاف ما كان عليه حال الرقيق عبر 
الأطلسى فيما بعدء لم يشكل أولئك العبيد العامل الأهم فى الإنتاج. وكما يشير سيقال كان 
هذا الرقيق يمثل عامل استهلاك لا إنتاج إذ أن الجزء الأكبرمنه ظل يعمل فى القطاع 
الخدمى: الخدمات المنزلية» الخدمات الترفيهية (الجوارى) : حراسة الأسر (الأغوات) . 
ويدلل سيقال على صحة زعمه هذا بأنه» مقابل كل عبد ذكر فى الرق عبر الأطلسى. 
كانت هناك أنثيان في الرق عبر الصحراءء أى الرق إلى البلاد الإسلامية.(5') 

ولكق سسوعفاق نا أخاطك وعهارة الركدى ثقاقة حاصية نيا رسفي قن خسوا 
وألوانهم . تلك الثقافة تجلت فى رسائل جعل منها المحتسبون (المسئولون عن دار الحسبة) 
نبراساً للأحكام. فقد كتب السيوطىء مثلاً» رسالة أسماها نزهة العمر فى التفضيل بين 
البيض والسمرء كما كتب المتطبب أبو الحسن بن عبدون البغدادى؛ وهو طبيب مسيحى 
بغدادى انتقل إلى مصر ولقب بابن بطلان» رسالة أسماها رسالة جامعة لفنون نافعة فى 
شرى الرقيق وتقليب العبيد.('') ولعل خلفية ابن بطلان الطبية قد مكنته من التصوير 
الفسيولوجى الدقيق لخصائص الرقيقء إلا أنه تجاوز التمايز الخلقى(بفتح الخاء). بين 
الأرقاء وساذكهن إلى تمانو حلقى:( يهم للضاء) ف ترستيفة لطوائك الأرقاء» ونعدن 
الطرف عن اختلاف الأذواق بين البشر فيما تهفو إليه قلوبهم» وتحن إليه أنفسهم. وتطيب 
إليه أمزجتهم, إلا أن توصيفات ابن بطلان كانت ممعنة فى العنصرية. يقول عن 
الزنجيات» مثلاًء كلما زاد سوادهن قبحت صورهن.. وخيفت المضرة منهن.. والغالب 


79 


عليهن سوء الأخلاق وكثرة الهربء والرقص والإيقاع فطرة فيهن. ويقول عن الحبشيات 
"الغالب عليهن نعمة الأجساد ولينها... وفيهن انقياد.. يخصهن قوة النفوس» وضعف 
الأجباء :كمسا يكن التودهاقوة الأجبداء :وضيمت الاقرس رع التجارياك قال تمزفيات 
الألوان» حسنات الوجوه» ناعمات البشرة» جوارى متعة» (أما رجالهم) فالشجاعة والسرقة 
فيهم طبع وغريزة ولهذا لا يؤمنون على مال ولا يصلحون أن يكونوا خزاناً. وهكذا وظّف 
الطبيب ابن بطلان الفيزيولوجيا لخدمة الإثنولوجياء وتلك هى العنصرية بعينها. 

تاريخ تجنيد الرقيق العسكرى الأسود فى الجيش الإسلامى يعود إلى القرن التاسع 
الميلادى حينما قام الاغالبة فى تونس باستيعاب السودان (السود) فى جيشهم بهدف تحييد 
الجنود البربر» خاصة بعد الصراع الذى إحتدم فى القيروان بين عبد الرحمن بن حبيب 
وأخيه قائد الجيش» الياس بن حبيب. وعلى نهج الأغالبة لجأ الفاطميون إلى تجنيد الرقيق 
التركى والتوبى فى جيوشهمء من بعد اعتمادهم فى البدء على المغاربة. وكان للرقيق 
اللو المسكر وصفع ميرو هه جره الفتفلى #نخاضة بعد تجاع يكاز الفزنئ :فى “تايب 
العصاة فى الصعيدء وإخضاعهم للفاطميين. وفى عهد المعز لدين الله أصبح هؤلاء الجند 
قوة لا يستهان بهاء وصفهم المقريزى وهم يسيرون فى طرقات القاهرة على ععهد المعز 
يقول "عليهم أقبية سود» وعمائم سودء فيخالهم الناظر بحرا أسود يسير على وجه الأرض 
لسواد ألوانهم وسواد ثيايهم. ذلك التقليد اتبعته الممالك الإسلامية فى مصرء حتى إنه عند 
وكا احم بن طولون كان قوام جيشه 51٠٠٠‏ جندى أبيض قبالة جندى أسودء 
اتدجله متسل يم من يلاد النوبة» ودارفورء وبلاد تكرورء والقرن الأفريقى . على ذلك 
المنوال استمر الحال في عهود الأيوبيين» والإخشيديينء والمماليك. ومنذ ذلك التاريخ أصبح 
الاسم الشائع للمستعبدين البيض هو المماليك؛. فى حين أطلق على السود منهم اسم العبيد. 
ومن الطريف أن أحد عسكر النوبة (كافور عبد الإخشيد) أصبح وصيآ على ابن الإخشيد 
محمد بن طغج ثم ولى حكم مصر من بعده» كما تولى الحكم فى عهد الفاطميين أحد أبناء 
الإماء (الخليفة المستنصر)؛: وقضى فى الحكم فترة أطول من تلك التى قضاها أى من 
الحكام الفاطميين. تلك بالطبع ظاهرة فريدة غير مألوفة فى حالة الرقيق عبر الأطلسى 


50 


الذين لم يعترف لهم بالانخراط فى الجيش الأمريكى إلى عهد هارى ترومان. وتكشف 
ظاهرتا كافور والمستنصر عن قدرة المجتمع العربى على استيعاب عبيده وترفيعهم. 

ذلك تاريخ يعود إلى عهد الرسول الذى جعل من العتق عملا تعبديأً» ورقى اجتماعيآ 
عبيده أنس بن مالك» وعبد الله بن مسعودء وزيد بن حارثة. ولا شك فى أن فى أصول 
الإسلام ما يحض على تحرير العبيد؛ وينهى عن استغلالهم وتحقيرهمء ولكن الإسلام لم 
يذهب أبدأ إلى إلغاء الرق الذى كان يمثل قاعدة هامة للإنتاج فى المجتمع العربى وغيره 
من المجتمعات فى ذلك الزمان. فقد نهى القرآنء» مثلاء عن التكسب بأثداء الإماء» وكانت 
العرب تدفع بإمائهن إلى البغاء للتكسب من أجورهن: #ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن 
أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا4 (النور 55/14)("') كما دعا الرسول سادات 
قريش إلى الرفق بعبيدهم فى حديث دلالاته الكبرى هى أن الاسترقاق ليس قدراً محتومأ 
على قبيل دون قبيل» أو عرق دون عرق. قال: اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» أطعموهم مما 
تأكلون» واكسوهم مما تلبسون, لقد ملككم الله إياهم ولو شاء لملكهم إياكم. هذا قول لا 
يصدر ممن يميز بين البشر بأعراقهم» ولكن ما كان للرسول أن يجابه ظاهرة متجذرة فى 
المجتمع إلا برفق» وإلا لانهار المجتمع؛ وانفض عنه ساداته . فبمفاهيم ذلك الزمان» ارتقى 
الإسلام على النظرة السائدة يومذاك حول العبيدء ليس فقط فى بلاد العربء بل فى كل 
العالم القديم. ولعل أبرع ما جاء به القرآن لتقليص ظاهرة الرقء العتق. فالعتق كفارة فى 
الحنث باليمين» وفى القتل الخطأء وفى الإفطار عمداً. كما وفر الإسلام للعبد الحق فى شراء 
حريته» وللعبدة حريتها إن ولدت من سيدها. ففى حديث الرسول عن ماريا القبطية بعد أن 
أنجب منها ولدها إبراهيم: "أعتقها ولدها. هذه الأحكام يتوسل بها دوماً الإسلامويون 
المحدثون لإثبات إنكار الإسلام للرق» وللرد على التهم التى توجه لبعض الدول الإسلامية 
التى أبقت عليه . ولكن الناقدين لا يحاكمون النصوص والسننء وإنما يستجوبون مجتمعات 
بعينها عما جنته» ويخاصمون الفقه الموروث لجنايته» هو الآخرء على المبادئ التى أرساها 
الإسلام. فالإسلام لم يلغ الرق؛ إلغاء الرقء وإزالة القوانين التى أباحته وعمقت منه؛ 
ومعاقبة الذين يمارسونه أو يفيدون منه» وهدم البنى التحتية التى يرتكز عليهاء كل هذه 


831 


صناعة غربية. ولكن الإسلام» خاصة فى سنن الرسول وضع أسساأً معيارية تعين المجتهد 
الذكى على استيعاب كل المفاهيم المعاصرة حول الرق. هذا ما لم يفعله الفقه والذى ما زال 
فى كل واحد من أمهات كتبه فصل عن أحكام الرق. 

نعود بعد استطراد إلى موضوع الرقيق السودانى لمصر وتركيا لنقول أنه كان» على 
الأكثرء يجىء من بلاد النوبة وما جاورها (البجة)؛ ودارفور (ممن اقتنصهم ملوكها من 
المستضعفين)» وسنار (من الشلك والأحباش وأهالى جبال النوبة ومناطق النيل الأزرق 
العليا) . ذلك الرقيق كان يسيّر إلى مصر فى قافلتين: قافلة سنار وقافلة دارفور. لهذا يصح 
القول بأن انتقال الرق إلى أعماق جنوب السودان ظاهرة جديدة بدأت مع الحكم التركى. 
وفى ذلك العهد كانت أكثر قبائل السودان تعرضاً للاقتناص هى قبائل ثلاث عرف أهلها 
بشدة المراس: الدينكا والشلك فى الجنوبء والنوبة فى السودان الوسيط. والطائنفتان 
الأخيرتان (النوبه والشلك) كانتا دوماً عرضة للاسترقاق فى عهد سنار. 

لا شك إذن» فى أن توحيد القطر فتح الباب واسعاً لتجار الرقيق فى الشمال» حتى كاد 
توحيد القطر أن يكون لعنة على الجنوبيين. ونتيجة لازدياد حملات الرق فى الجنوب أصبح 
الرقيق العسكرى هو الغالب فى الجيش التركىء إذ كان ذلك الجيش يضم 5 
أورطة(كتائب)من الأتراك ( 7٠٠١‏ جندى)» فى حين بلغ عدد الجنود السودانيين ١7‏ أورطة 
٠٠٠٠١‏ جندى) . وقد لعب هؤلاء الجنود دوراً رئيسياً فى الحروب التركية ضد روسياء وفى 
حروت أخريات أهمهن حرب النكسيك غندما أعاز الترك أوطة من المحتدين السوذانيين 
بقيادة البكباشى جبر الله محمد والصاغ محمد الماظ للعمل فى جيش ماكسميلايان على 
عهد نابليون الثالث. وللامير عمر طوسون كتاب صغير اشاد فيه ببلاء الاورطة السودانية 
فى المكسيك. ومهما كان ما عناه الأمير ببلاء تلك الأورطةء فقد كان إسهامها فى تلك 
الحرب بلية على أهل المكسيك لا يسعدهم استذكارهاء كما لا تشرفنا المباهاة بها. 

رغم مفاخرة الأتراك بشجاعة الرقيق العسكرى. إلا أن ذلك الرقيق كان أيضاً ضحية 
لمعاملة قاسية» وازدراء كبير من جانب المفاخرين بقوتهم ومناعتهم . تلك المعاملة دفعت 
الرقيق العسكرى إلى العصيان أكثر من مرة فى الفترة ما بين عامى ١854‏ 6765١؛‏ وفى 


352 


حاميات عديدة مثل كسلا وود مدنى.(*') و لولا دربتهم على استخدام السلاح وفنون القتال 
التى أكسبتهم ثقة بالنفس واجتراء على التصدى لمسترقيهم. فإن كانت القوة فى فوهة 
البندقية» كما يقول ماوتسى تونجء لما كان فى مقدور هؤلاء الجنود اللجوء للعصيان فإن 
الظن بإمكان استعباد شخص مسلح يصبح ظناً واهياً.!"') ومع ذلك بل ريما بسبب ذلك. 
م ا و ا ا ات 
تمرد كسلا هلك نصف الكتيبة التى كانت معدة للارتحال إلى مصر (عشرة آلاف رقيق 
عسكرى)» إما من الإعياءء أو نتيجة تنفيذ حكم الإعدام عليهم؛ أوجوعاً فى منقاهم 
بالتاكا. وحسب قول برونيير كانت معدلات الاستنزاف بين هؤلاء بالغة العلو يسبب سوء 
التغذية والسكن غير الصحى مما جعل منهم ضحايا سهلة المنال للأوبئة الفتاكة.('؟) 

على أن اقتناص الرقيق لم يكن وقفاً على قوات الحكومة؛ء بل منحت الدولة أيضاً 
امتيازات خاصة (202065510256) للجلابة (جالبى الرقيق) من السودانيين وغير. ه.('") . 
لمباشرة ذلك العمل المستقبح نيابة عنها او لمصلحتهم الخاصة. تلك هى الفترة التى برز فيها 
الزبير رحمة منصور كقناص للعبيد» وكان فى البداية شريكا لعلى أبى عمورى المصرى 
(من نجع حمادى)»ء ثم اختلف معه وقاتله. الزبيرء بلا منازع» هو أكبر قناص للعبيد من 
عمال السودان» اله انا أركنا كان وجل طمرها غريت الأطوانهر ةا همق اشر مويك 
الهموم عزمه على بناء إمبراطورية يقيمها بجيش من العبيد ليتسيد عليهاء مثله مثل 
الفاتحين (201010156120015) الأسبان المغامرين الذين اقتحموا بيرو والمكسيك . لم يقف 
الزديق يعزواقه تلك حدة الجدوب: ( تحن القؤال) + يل سان مجيقه الكتونى المسترق إلى الغوات 
فهزم البقارة من بعد أن تعاهد مع شيوخهم بالقرآن على حماية طريق التجارة إلى الشمال 
والغرب ثم نقضوا العهد. ويروى نعوم شقير قصة مستطرفة عن رجل يدعى عبد الله محمد 
ود تورشين أصبح له شأنء فيما بعدء كان يقرأ التعاويذ لمحاربى البقارة حتى لا يصيبهم 
رصاص الزبير. ولما سقط الرجل فى يد الزبير انتوى قتله؛ إلا أن صحبه منعوه بحكم أن 
قتل الأسير لا يحل فأقطعه الزبير أرضاً وطلب منه الكف عن الدجل.("”") 


مطامح الزبير أثارت حنق الأتراك خاصة بعد أن وشى به بعض منافسيه على الثروة 
فى المناطق التى افتتحها.("") وبسبب هذه المخاوف من طموحات الزبير لاحقه حكمداريو 


053 


الأتراك فى السودان فارتحل إلى مصر ليشكو إلى الخديوى مضايقات حكمداريه فى 
السودان» وينفى عن نفسه ما أشيع عنه من وشايات حول رغبته فى الاستكثار بالمناطق 
التى فتحها. وحسب رواية شقير كان الزبير راغباً فى كسب ود الخديوى بالزلفى 
والرشاء .(') وخلال إقامته بمصر تطوع الزبير للتعاون مع الأتراك فى حربهم على روسيا 
(14877)» حيث قاد معركة صارى واستبسل فى القتال فيها. فى تلك المعركة تمكن الزبير 
من فتح ثغرة فى جيوش الأمير الأسكندر الأول» ولى عهد القيصرء مما مكن الأتراك من 
اقتحام معاقل الروس والانتصار عليهم. رغم هذه البطولات لم يحفظ الأتراك جميلا للزبير 
إذ تآمروا أولاً على قتل ابنه سليمان7”")» ثم نفوه من بعد إلى جبل طارق . وما زال أهل 
الشمال حتى اليوم يحسبون الزبير واحدأً من أبطالهم» ويتوسلون المعاذير لولوغه فى 
النخاسة . من تلك المعاذير إفلاحه فى نشر الإسلام فى الجنوب وإقامته دولة فيه» وبسالته 
فى حروب الأتراك . وما أقام الزبير إلا سلطنة بطرقية» هو بطريقها الأكبرء ومثل كل البنى 
البطرقية كانت تحكمها تراتبية اجتماعية يهيمن فيها الأكبر على الأصغرء والذكر على 
الأنثى» والسيد على العبدء وأدنى طوائفها العبيد. ولا شك فى أن الإسراف فى تمجيد الرجل 
- رغم شجاعته وطموحه ‏ يوشى بفقدان للحساسية تجاه ضحاياه» خاصة وما زالت 
ممارسات الرق تلقى ظلا كثيفاً على العلاقات الشمالية الجنوبية» أى العلاقات بين الورثة 
المعنويين للزبير والورثة المعنويين لخصومه. 

أيآً كان الأمرء لا نستطيع تفهم مؤسسة الاسترقاق فهماً صحيحاً إن لم تضعها فى سياقها 
الموضوعى ومسارها التاريخى الصحيح. يحسن بنا أيضاً أن نزيح عنها الأقاصيص التى ما 
فتكت تأسطرهاء وننفى عنها الانقباضات الانفعالية التى ظلت تصاحبها. إن فشلنا فى هذاء 
فلن ننصف التاريخ: ولن يتسم حكمتا بالموضوعية. كما لن نسهل الأمر على أنفسنا فى 
معرض بحتثنا عن حل للمشاكل التى ورثناها عن تلك المرحلة المخزية من تاريخ السودان 
إن لم نتوخ المقاربة الموضوعية للمشكل. لهذا نبدأ القول بأن الاسترقاق فى الشمال النيلى 
فى ععنهوده الأولى لم ينحصر على النوبه والأحباش والشلك؛ وإنما كان الشماليون أنفسهم 
يغزون بعضهم البعض من أجل السبى» ومثال ذلك حملات النوبه ضد المستضعفين من 


54 


حولهم. ووراء حملات النوبيين على من جاورهم تاريخ طويل منذ أن أخذوا يدفعون 
بالقادرين من بنيهم وبناتهم إلى الحاكم الإسلامى فى مصر امتثالاً لاتفاق مذل تعاهد فيه 
حاكمهم قليدرون مع عبد الله بن أبى السرح على أن يعطيهم الأمان لقاء مد الدولة 
الإسلامية بثلاثمائة وستين رقيقاً كل عام ليس فيهم شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ 
الحلم . للإيفاء بذلك الاتفاق الذى ظل سارياً لمدة ستمائة عام حتى العهد الإخشيدى. لجأ 
النوبة لاختطاف الرجال والنساء من الأقوام المستضعفة التى تحيط بهم. شهد السودان 
الشمالى أيضاً غزو ملوك الفنج لمملكة تقلى المسلمة على عهد بادى أبودقن لسبى نسائها 
واستعباد رجالهاء كما شهد حملات المك (أى الملك) عدلان على الهمج واسترقاق بناتهم 
بمن فيهن بنات شيخهم أبو لكيلك. وينسب شبيكة قبيلة الهمج الذين كان يستهجنهم ملوك 
الفونج إلى الجعليين العوضية .('") على أن الهمج عندما ملكوا زمام أمرهم فى عام 2107557 
ثاروا على سادتهم الفنج واقتلعوهم من عرشهم وولوا محمد ابو لكيلك نفسه على الملك. 
ظاهرة تعدى المجتمعات القوية على المجتمعات الضعيفة من حولهاء كما قالت المؤرخة 
الاجتماعية ويندى جيمزء ليست فقط تتاجاً لدوافع سياسية أو اقتصادية» وإنما أيضاً هى 
تأكيد لقوة المجتمعات المعتدية» وضمان لتلاحمها الإتنى» وتماسكها السياسى .('") 

وإن اتجهنا إلى غرب السودانء نجد أن ظاهرة الاسترقاق كانت متفشية فى دارفور منذ 
عهد ملوك الكيرا. ويروى مؤرخ نابه أن دارفور كانت تصدر فى العام الواحد ما بين ثلاثة 
إلى أربعة آلاف رقيق إلى تركيا ومصر.!”*") وللمؤرخ أوفاهى رأى فريد نفذ فيه إلى ما 
نفذت إليه ويندى جيمز من أن الفورء بعدوانهم على القبائل المغلوبة على أمرهاء كانوا 
يسعون أيضأ لتأكيد منعتهم وإثبات سيادتهم .(؟') عرفت الرق أيضاً فى غرب السودان 
سلطنة المساليت, حيث كانت طبقات المجتمع تصنف تصنيفأ صارماً. حسب ذلك 
التصنيف كان الماجير (العبيد الذكور) يحتلون الدرك الأسفل من طبقات المجتمع بعد 
الحكام ثم المساكين (عامة الشعب)»ء (') أغلب هؤلاء العبيد ينحدرون من قبيلة الداجو. 
ومع أن المساليت كانوا يصنفون كل غريب عليهم فى خانة العبيدء إلا أن التقافة السائدة 
بينهم كانت تتيح لهذا النوع من "العبيد فرص الترقى حتى يصبحوا جزءاً لا يتجزأ من 


55 


النسيج العام للقبيلة.('") أما فى الجنوب» فقد اشتهر الزاندى بالإغارة على قبائل الفرتيت 
الأقل شأناً فى بحر الغزال» لا بغرض الإتجار وإنما لأداء الخدمات المنزلية فى مساكن 
ساداتهم. ولكن سرعان ما انخرط الزاندى فى تجارة الرقيق بعد وصول الجلابة حيث أخذ 
الزاندى يقايضون عبيدهم لقاء السلع الضروريةء وبوجه خاص الأسلحة النارية. وانتهى 
الأمر بالزاندى للعمل فى وحدات تجار الرقيق العسكرية المعروفة ب البازنقر.("؟) 

الاسترقاق لم يكن ظاهرة موقوفة على السودان» بل عرفته كل الدول الأفريقية؛ فى 
الشرق كان ذلك أو فى الغرب. فمثلاًء كانت قبائل الأشانتى والداهومى؛ وهى قبائل 
محارية فى غرب أفريقياء تستعبد القبائل الضعيفة التى تحيط بها. وفى الشرق بقى 
الاسترقاق مؤسسة معترقا بها فى الحبشة حتى الأربعينيات من القرن الماضى 
(0.)1147"") ومع إلغاء الرق فى ذلك العام؛ استمرت قنانة الأرض فى أثيوبيا فى صور 
مختلفة طوال العهد الإمبراطورى؛ وكان ضحايا ذلك الاسترقاق» فى الأكثرء من بين 
القبائل التى تعيش عند منحدر النيل الأزرق وتعرف بالشانكلاء أى الدهماء. من جانب 
آخرء شاعت تجارة الرقيق أيضأ بين عرب الساحل الأفريقى الشرقى خاصة فى زنجبار 
وكان فارسها تيبو تيب» الذى سارت بذكره الركبان» رجلا من نسيج الزبير رحمه. 

فى تكثيف غير مخلء تلك هى الصورة العامة لظاهرة السب الاسترقاق فى السودان 
وأفريقيا . وبرسمنا لهذه الصورة نبتغى الخروج بظاهرة الرق.من مريع الانفعالات جد انآ 
نذَكّر فى ذات الوقت بأن الموروثات الثقافية من تلك الظاهرة» والتى تتمثل فى ظواهر 
إجتماعية أتينا على بعضها وسنأتى على البعض الآخرء هى التى تجعل من استرقاق 
الشماليين للجنوبيين أمراً مؤرقاًء وتزيد من غليان الانفعالات. 

وعلى أىء» فبحلول أغسطس 1677 تم إبرام معاهدة إلغاء الرق الإنجليزية المصرية والتى 
أجبر الخديوى ‏ وفق نصوصها ‏ على تحريم الاسترقاق وتجارة الرقيق فى المناطق الواقعة 
تحت سيطرته. وكانت الدولة العثمانية نفسها قد أعلنت إلغاء تجارة الرقيق فى عام 141/4» 
وأغلقت كل أسواق الرقيق فى اسطمبول. للإشراف على تنفيذ هذا القرار عين الخديوى, 
بإيعاز من بريطانياء كلا من صاموئيل بيكر وتشارلز غوردون فى عام 1875 . وفى أول 


56 


تقرير له أورد غوردون أن السودان قد صدر ما بين ثمانين ومائة ألف عبد فى الفترة ما 
بين ©1487 - 1875 . ولكنء؛ مع تظاهرهم بالالتزام بإلغاء الرق» ظل وكلاء الخديوى فى 
السودان يغضون الطرف عن الاسترقاق زاعمين بأن أى محاولة لإطلاق سراح الأرقاء لن 
تجدىء إذ سرعان ما يستعيد السادة عبيدهم القدامى . حقيقة الأمر» أن الخديوى نفسه لم 
يكفء حتى بعد الإلغاء» عن إصدار أوامره بالتجنيد العسكرى للزنوج فى الجيش .(؟") لا 
عجبء إذ ظل قصر الخديوى فى مصر يكتظ بعد إلغاء الرق والدعوة لتسريح الأرقاء؛ 
بمدات الجوارى من الروميات والشركسيات ممن كن يعرفن بالقلفاوات. وحيث كانت 
محاربة الرق ممكنة (جنوب السودان) فإن حملات بيكر الضارية ضد تجار الرقيق 
ومصادرة ما يملكون من عبيدء كانت ذات أثر سلبى على الحكم التركى إذ عبأت كل تلك 
الجماعات ضده . 


ظهور المهدية 

الظروف المختلفة التى قَادت لإضعاف النظام التركىء. تضافرت للتمهيد لنجاح ثورة 
الإمام المنتظر. ظهور المهدى المنتظر الذى يملا الأرض عددلاً ونوراً من بعد أن ملكت 
ظلاماً وجورأء فكرة متجذرة فى عقول عامة المسلمينء كما أن فكرة المخلص الذى ينهض 
أو يتنزل فى آخر الزمان لينقذ البشرية» ويحيى السنن» ليست غريبة أيضأ على المسيحية أو 
اليهودية . ففى العهد القديم تنبأ أشعياء (الإصحاح الحادى عشر من سفره) بظهور المخلص 
لذن لذتة ون محافة الردية قلا يقصى كسان نظن عينيه» ولا يحكم بحسب سمع أذنيه» 
بل يقضى بالعدل للمساكين» ويحكم بالإنصاف لبائسى الأرضء ويضرب الأرض بقصّيب 
فمهء ويميت المنافق بنفخة شفتيه (حتى يعم الأمن والأمان) ويسكن الذئب مع الحمل, 
ويريض النمر مع الجدى. ذلك هو الفردوس بلا مراء. أما فى العهد الجديد فقد وردت 
بشارات ظهور المخلص فى أكثر من موقع مثل رؤية يوحنا اللاهوتى» وإصحاحات متى. 
ففى إصحاحه الرابع والعشرين أورد متى أوصافا بليغة للظواهر التى تسبق النهاية وتهيئ 


لعودة المسيح . 


37 


ومع شيوع الاعتقاد بظهور المهدى عند كل الفرق الإسلاميةء إلا أن الاعتقاد فى ظهور 
أمام ا ينحدر من صلب النبى محمد يعودء فى الأساسء إلى الميراث الشيعى. ففى 
أدب الشيعة أن الإمام الغائب» محمد بن الحسن العسكرى (نسبة لمدينة عسكر بالعراق)» تنبأ 
بموت الوكيل الرابع للإمام الغائب الذى سبقه وأوصاه بأن لايوكل بعده أحداً. قال 
العسكرى للوكيل: فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام» فاجمع أمرك ولاتوح إلى أحد ليقوم 
مقامك بعد وفاتك. وهكذا اكتملت غيبة الإمام العسكرى وسيظل فى غيبته حياً مختفياً فى 
سرداب حتى يظهر بإذن الله بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراًء كما يقول 
الشيعة . وصف الحافظ ابن كثير تخيلات الشيعة هذه بأنها ضرب من هوس العقول السخيفة 
وتوهم الخيالات الضعيفة. وبسبب كل هذه "الخيالات الضعيفة» لم يكن غريباً أن يكون 
أغلب المشهورين من مدعى المهدوية من الشيعة» مثل محمد النفس الزكية» والمهدى بن 
تومرتء والعباس الفاطمى. ومن المدهش أن لايجد المرء فى القرآن إشارة؛ بوجه مباشرء 
إلى ظهور هذا المنقذ فى آخر الزمان» بالرغم من إشارات الكتاب الكريم لظهور المسيح 
وإعتباره علما(بفتح العين)؛ أو علماً (بكسرها) للساعة. وكان القرآن أكثر وضوحاً فى 
الحديث عن هذه الظاهرة فى 17 النساء: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته 
ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (151/4). ولئن كان شيخا المفسرين (الطبرى 
والنمخشرى) قد أخذا بظاهر الآية» أى أنه ليس بين اليهود أحدء عند حلول موته؛ إلا 
ويؤمن بعيسى ويشهد أنه رسول الله» إلا أن الآية أيضاً تنبئ بقيام المسيح ليكون شهيداً على 
البشر بما فعلوه . ويلفت النظر أن وصف الزمخشرى7”') لنزول عيسى فى آخر الزمان لا 
يختلف كثيراً عن نبوءة أشعياء فى العهد القديم. قال الزمخشرى أنه ينزل فى آخر الزمان» 
فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به» حتى تكون الملة واحدة وهى ملة الإسلام: 
ويهلك الله فى زمنه لمشي الدجال» وتقع الأمنة خدئ تزتع الأسود مغ الإبل+ والنمومع 
البقر والذئاب مع الغنم» ويلعب الصبيان بالحيات. 

خلاصة القولء أن الميراث الشيعى؛ بصرف النظر عن الجانب الأسطورى فى قصة 
الإمام الغائب» لم يعتمد على دلالات قطعية لإثبات فكرة المهدوية؛ بل كان جل اعتماده 


58 


على أحاديث لا يخلوالغالب منها عن الاختراعء أو التلوى بالآيات. وقد أورد ابن خلدون 
فى المقدمة فصلا كاملاً عن دعاوى ظهور المهدى وعن الأحاديث النبوية التى اتكأ عليها 
أصحاب تلك الدعاوى لتبرير دعاواهم (الفصل الثانى والخمسون) . إلى مثل هذا التلوى 
ذهب بعض المشاهير من علماء السنة .(8؟) وإلى هؤلاء انضم شيخ الصوفية» محيى الدين 
بن العربى الذى أبدع شعراً فى الفتوحات يصف فيه المنتظر: 
الا إن ختمالأولياء شهيد 
وعين إمامالعالمين فقفيد 
هو السيد المهدى من آل أاحمد 
هوالصارم الهندى حين يبيد 
هوالشمس يجلو كل غم وظلمة 
هوالوابل الوسمى حين يجود 
ولعله كان للشيخ محيى الدين أثر كبير فى التهيئة الصوفية للمهدى السودانى؛ إلا أن 
المهدى. كما هو بينء لم يتسع وعاؤه لاستقبال كل الملل والأديان» كما اتسع وعاء شيخه. 
قال سيدى محيى الدين: 
وأصبح قلبى قابلاً كل صورة 
فمرعى لغزلان ودير لرهيان 
وبيت لأوثان وكعبة طائف 
وألواح توراة ومصحف قرآن 
أدين بدين الحب أنى توجهت 
ركائبه؛ فالحب دينى وإيمانى 
بسيب هذه الفتاوى السنية» والخيلان الصوفى؛ اشتقت فكرة المهدية طريقها إلى 
المخيال الشعبى فى المجتمعات السنية فى أفريقيا وأواسط آسيا. وفى أفريقياء بوجه خاصء» 
شاع الحديث بين أهلها عن اقتراب ظهور المهدى منذ القرن الثامن عشر(الثالث عشر 
الهجرى) . فإلى جانب مهديى الشمال الأفريقى مثل بن تومرتء ادعى المهدية فى العام 


59 


فوتاوى من منطقة فوتا جالون (غنيا) ؛ كما سعى أنصار عثمان دان فوديو الذى كان 
يلقبه الهوسا بأمير المؤمنين للتبشير بمهديته . بيد أن دان فوديو كان أدرى بقدراته ولهذا أبى 
له تواضعه قبول ذلك التكريم. ويروى عنه قوله لأنصاره: كيف أكون المهدى المنتظر وقد 
ولدت فى بلاد السودان فى منطقة تدعى ماراتا. إننى على يقين بأن المهدى سوف يظهر 
ولكن فى المدينة.(") ولعل هذا هو السبب الذى جعل أمراء كاستينا فى نيجيريا يصفون 
مهدى السودان بالدجال. 

لم يكن مهدى السودان بالرجل العادىء إذ اجتمع فيه العالم الفقيه» والمصلح الاجتماعى, 
والصوفى العرفانى . وبغض الطرف عن الميثولوجيا التى أحاط بها الأنصار إمامهم, إلا أن 
اجتماع هذه الصفات فى رجل تؤهله بلا مراء للقيادة. ومن الجلى أن محمد أحمد المهدى 
كان يعد نفسه لهذه القيادة منذ صباه» ولهذا حرص على طلب العلم من لدن أشهر شيوخ 
ذلك الزمان: الغبش فى بريرء والشيخ حسيب المجذوب فى الدامرء وود البدوى فى أم 
درمان؛ وعلى البوشى فى مدنى. تلك السياحة المعرفية انتهت به إلى شيوخ السمانية: 
القرشى ود الزين ومن قبله محمد شريف نور الدايم. وفى طريق السمانية انخرط المهدى 
عشرين عاماً من العمرء كان يظهر فيها لشيوخه أكثر مما يضمر. لهذاء مع اعتراف شيوخه 
السمانية بعلمه وصيامه وقيامه إلا أن ادعاءه المهدية كان فاخا محيرة لهم. عن ذلك 
عبر الشيخ محمد شريف وهويصف المهدى: 

فقام على نهج الهداية مخلصاً 
وقد لازم الأذكار فى السر والجهر 
وافرغ فى نهج المحامد جهده 
فرقيته جهلا بعاقبةالأمر 

فى مارس 188١‏ جهر المهدى بدعوته منادياً بالجهاد ضد الدخلاء الأتراك. وكان فى 
ذلك؛ "منتظراً بحق» إذ بلغت الروح التراقى من ظلم الأتراك. بيد أن المهدى لم يرفع راية 
الثورة كمحرر قومىء أو ينادى بالتجديد كمصلح اجتماعىء وإنما أعلن نفسه منذ البداية» 
خليفة لرسول الله المكلف بحمل رسالته إلى عامة المسلمين» فى مشارق الأرض ومغاربها. 


90 


أعلن أيضاً أن ذلك التكليف جاءه فى هواتف ربانية وإخبار مباشر من سيد الوجود أى من 
الرسول 6 . فى تلك الدعوة إفراط لا يسيغه العقل اليوم» ولم تطب له قلوب جزء كبير من 
علماء السودان بالأمين : إلا أن عامة لأسوداتيين وجزم) آيس باليسير من فقهائهي الثقوا 
بالمهدى على الفورء وباءت بالفشل كل محاولات الأتراك والعلماء الدينيين لإثناء العامة 
عن الوقوع فى شراك المهدى. حتى الفتوى التى أصدرها الأزهر بأمر من الخليفة العثمانى 
ينكر فيها ويستنكر ادعاءات المهدىء لم تلق أذناً مصغية . 

نجاح المهدى الساحق يرجع إلى سببين: الأول هو الجو الصوفى السائد فى السودان الذى 
هيأ التربة لاستقبال أفكاره» والثانى هو شخصيته المؤثرةء ودهاوه السياسى» وبراعته فى 
استغلال الرموز الدينية التى كان لها فعل السحر فى عقول عامة مسلمى السودان. وصف 
ونجت باشا ذلك النجاح وصفاً بارعا عند ما قال: بكلمات رنانة سريعة ألهب صدورهم 
وجعل رؤوسهم تنحنى كانحناء الزرع عند العاصفة. (")وكان لتشرشل وصف آخر 
للأوضاع التى قادت لنجاح المهدىء قال قبل عام 188١‏ لم يكن هناك أى تعصب دينى 
فى السودان. وبسيب البؤس هجر الناس عباداتهم ووصلوا لحالة من اليأس كانوا مستعدين 
بعها لانيدقنال أىامخامن يكلمتهم من عيوديةا الغاضيو. كانوا فق فى انقتقاز القائة الملهم 
الذى يستطيع جمع الشمل والكلمة ورفع الروح المنكسرة. وفى صيف ١68١‏ ظهر 
القائد.("") وهكذا وقع السودان كله؛ بحلول عام 1846» فى قَبضة الحكم المهدوىء واستمر 
كذلك حتى انتصار القوات البريطانية الغازية فى معركة أم درمان عام 18948 . 

طوال الفترة التى بقى فيها متحكماً فى دفة السفينة» كان المهدى رباناً بارعاً فى الحرب 
والسياسة» كما فى الكلام والمجادلة . لكن لم ينقض وقت طويل حتى انقلب المهدى على 
الفقهاء والوجهاء إما لإنكارهم مهدويته؛ أو لارتيابهم فى أسلويه الإحيائى للإسلام. فقد حرم 
المهدىء مثلاء كل المذاهب ولم يعترف إلا بالقرآن والسنة» كما أمر بإحراق أمهات الكتب 
الإسلامية التى كانت عماداً للفقه الإسلامى فى السودان يومذاك. مستبدلاً إياها براتب 
المهدى. استأثرالمهدى أيضا بتفسير القرآن وإحياء ما أراد من سنن الرسول مما أفضى إلى 
احتكاره المطلق للحكمة والسلطةء أى للدين والدولة. هذا الاحتكار ‏ ربما أكثر من أى شىء 


91 


آخر ‏ هوالذى عبأ شيوخ المسلمين ضده بمن فيهم شيخه ومعلمه محمد شريف. فادعاءات 
المهدى عن الهواتف الربانية والإخبار المباشر عن سيد الوجودء ما كانت لتثير وحدها علماء 
السودان عليه» إذ لهم فيها مواريث. فالسيد محمد عثمان الميرغنى (الختم) سجلء كما 
روىء مجموعة فتح الرسول بإذن مباشر من المصطفى بعد أن وقف بين يديه يستأذن. 
والشيخ المجذوب الصغيرء المعروف بالنقرء أعد كتابه أسنى المطالب فى مختصر المناقب» 
حسبما ورد عنهء فى حضرة من الأنبياء والأولياء المتقدمين والمتأخرين؛ أمدوه فيها 
"بإتحافات شريفة وأنوار لطيفة وهنأوه على كتابه وشكروه. أما الشيخ إسماعيل الولى فقد 
جاوز صاحباه إذ روى أنه ألف كتابه مشارق شمس الأنوار فى معنى عيون العلوم والأسرار 
بأمر مباشر من الحضرة الإلهية وفى حضور النبى فى رؤية حقيقية. ولربما كان للمهدى 
دواعيه فى إبطال الكتب والتركيز على الراتب» وهى فى حقيقتها دواع سياسية لادينية. 
فمثلاًء عندما سأل أتباع المنا ود إسماعيل الذين ناصروا المهدى شيخهم عن منعه لهم من 
قراءة دلائل الخيراتء فقال إنه لا ينكر فضل الصلاة على النبى ولكنه يرى فى أسلوب 
الذلائل ما فرقق الشعور ويضعف: الحَماس الجهاد: 

احتكار المهدى للدين والسياسة كان خروجاً على المألوف فى ممالك السودان الإسلامية. 
فخلال فترة حكم الفونج والفور كانت العلاقة بين الملوك والفقهاء علاقة ذات طبيعة 
خاصة. لم يتسم الملك فى ذلك العهد بالطابع الدينى البحتء كما لم يتوغل الفقهاء فى أمور 
السياسة. ولعل زهد الفقهاء فى أمور الدنيا دفع بهم إلى تحاشى الاحتكاك المباشر بالعالم 
الدنيوى» رغم ثباتهم فى نصح الحاكمين بالنأى عن كل ما ينتهك حقوق الإنسان» ويخل 
بالعدالة» ويجافى الاستقامة. وكانت نصائحهم ‏ بل تحذيراتهم فى بعض الأحيان ‏ تلقى 
قبولاً حسناً من الحكامء ربما لأن الفقهاء ‏ رغم مكانتهم المعنوية الرفيعة ‏ لم يكونوا يشكلون 
تهديداً مباشراً للسلطان. وكان الحكام يولون الفقهاء اعتباراً خاصاًء فمثلاًء كان من تقاليد 
البلاط فى دارفور أن يخلع زوار السلطان- بمن فيهم أبناؤه ‏ نعالهم أمام مدخل مجلسه ثم 
يزحفون على ركبهم حتى يبلغوا المجلس؛ من هذا التقليد لم يستثن إلا العلماء. كما كان 
ملوك تقلى منذ عهد قيلى أبو جريدة يستقصون أنباء العلماء عبر السودان ويوجهون إليهم 


202 


الدعوات للإقامة فى المملكة لنشر العلم بين أبنائها ويقطعون لهم الأراضى ويزوجونهم 
بناتهم . من ذلكء تزويج السلطان قيلى ابنته للولى مكى الدقلاشى الذى طلب من السلطان 
أن يزوجه أمتين» فزوجه أمة واحدة . وعندما سأل الدقلاشى عن الثانية» قال قيلى الأمة 
الثانية هى ابنتى. وهكذا ابتنى الولى الدقلاشى ببنت السلطان وأنجب منها إسماعيل صاحب 
الربابة.!' *) من جانب آخرء ترك الحكام فى سنار وتقلى ودارفور ومملكة العبدلاب حرية 
واسعة للعلماء للتنقل عبر القطر لإنشاء خلاويهم» كما سعوا إلى العلماء فى النجوع النائية 
يطلبون العلم. ومما يجدر ذكره أن المرأة فى ذلك العهد كانت تتصدر مجالس العلم وتبرز 
لنشره . لم تكن المرأة يومذاك عورة» كما يقول فقهاء عهود الظلام» إذ برزت منهن فاطمة 
بنت جابرء أخت أولاد جابر التى تتلمذ على يديها أربع وعشرون فقيهأء وعائشة أبو دليق 
التى أوكل إليها ‏ دون إخوانها - والدها الفقيه أبو دليق أمر رعاية خلوته. 

من هذا الاستعراض المكثف للثورة المهدية: جذورهاء ودواعى نجاحهاء نخلص إلى 
أربعة أشياء ذات أثر مباشر على موضوع الكتاب. الشىء الأول هو إبقاء النظام المهدوى 
على وحدة السودان كما أرساها محمد على باشا والأسلوب الذى انتهج للإيقاء على تلك 
الوحدة . الثانى هو فرضه لحكم دينى صارم لأول مرة فى تاريخ السودان وبصورة لم تألفها 
الممالك الإسلامية السودانية القديمة مثل الفونج والفور وتقلى . والثالث هو احتكارها المطلق 
للدين» بل للتعبير عن الحقيقة بوجه عام. أما الرابع فهو التوجه الرسولى للنظام ‏ ليس داخل 
السودان فحسب ‏ بل وإلى ما وراء حدوده . 

كان من البدهى أن يستثير احتكار المهدى للدين واستكثاره بالأحكام, ثائرة علماء 
السودان» خاصة بعد أن حرمت المهدية الطرق الصوفية رغم انخراط المهدى من قبل فى 
واحدة منها. ذلك موضوع أوفاه حقه الكاتب المحقق عبد الله على إبراهيم.('؟) وكان على 
رأس الطرق التى حرّمتها المهدية وطاردت شيوخهاء الطريقة الختمية مما دفع شيوخها إلى 
اللجوء إلى خارج السودان والبقاء فيه حتى سقوط الدولة المهدية. وأول من بادر بالخروج 
منهم» السيد محمد عثمان الميرغنى الذى توجه إلى مصر عبر مصوع قى عام 2١68454‏ 
ولحقه خلفه السيد بكرى بن السيد جعفر بعد انهيار الدفاعات التى أقامها حول كسلا. وكان 


543 


لشيوخ الشكرية (الشيخ عمارة ود أب سن) دور كبير فى حمايته للوصول إلى سواكن عبر 
مصوع. ثم عبر البحر إلى جده حيث لقى ربه. فالعداء بين الختمية والأنصار عداء ذو 
جذور بعيدة . هذه الجذور هى السبب المباشر للتنافر التاريخى بين الزعماء الوارثين لقيادة 
الجماعتين» وهو تنافر استمر حتى مطالع الاستقلال ومازال له أثر باق. هذا التنافر الطائفى» 
أكثر من أى سبب آخرء أعاق مسيرة الحركة الوطنية» وشل قدرتها على خلق دولة سودانية 
فاعلة ومستقرة. 

أما المنحى الأصولى الدينى للحركة المهدية وتوجهها الرسولى الذى يتجاوز حدود 
السودان» فقد جعل منها حركة إحياء للأمة الإسلامية كلهاء وليس حركة تحرير وطنى كما 
ينعتها المؤرخون السودانيون. فمع تخليص المهدية للسودان من براثن الحكم التركىء إلا أن 
غيوم منظورها الوطنى الاستراتيجى؛ وطموحها الذى لا يستمد مشروعيته إلا من تلك 
النظرة الغائمة» أودى بالسودان لبلاء أصم. فإنقاذ السودان من الترك لم يكن هدفأ للثورة 
المؤذية؛ بل كان واحداً من تداعياتهاء كما لم يكن بناء السودان وتطويره هو بغيتها. ولهذا 
لم تعن الدولة المهدية؛ فى كثير أو قليل» بتطوير ما ورثته من المؤسسات التى وحد أو طور 
بها الأتراك السودان . جهاداها وغاية أمرهاء كانت مغامرات خارجية وحروب داخلية من 
أجل تطبيق مشروع دينى ذى طابع وحيوى متوهم. وقع كل هذا فى وقت تفشى فيه 
الجوع» وشاع وياء الجدرى (1885)» حتى أخذ بعض أهل السودان يعادلون بين النظام 


والوباء. ففى قول احد شعرائهم: 
قل للوبا أنت و "ابن دُتقل” 
قد حِرْبما الحد فى النكاية 
ترفقا بالورى قليلاً 
فى واحد منكما كفاية 


غطضبة الغاضبين على النظام يدركها المرء عندما يعرف ما كان يستغرق هموم الحاكم. 
فمن سدة حكمه المجدورة كتب خليفة المهدى إلى الخديوى توفيق فى مصرء والسلطان عبد 
الحميد فى اسطنبولء والملكة فكتوريا فى لندن (عام 18417) يدعوهم جميعاً للإذعان 


94 


لسلطانه؛ ويمنى فكتوريا بالزواج منها إن هفا قلبها للإسلام. كما كتب إلى كل قبائل العرب 
فى المشرق - من قريش إلى هذيل الشام ‏ يبشرهم بالمهدية ويسمى عليهم الولاة. سمى 
حذيفة بن سعد واليأ على جزيرة العرب حتى يلحق به جيش الإسلام»أى جيش الخليفة. كما 
سمى تاجراً سورياً محتالاً يدعى عبد الله الكحال واليآً على الشام.("؟) وكان التعدى هو 
منهج الخليفة أيضأ مع أمير سوكوتو (نيجيريا) فى الغرب. ومع النجاشى منليك؛ والملك 
يوحنا فى اثيوبيا. 

ولعل فى رسائل الخليفة لملوك الحبشة وفى ردودهم عليه ما يبين مدى طغيان الوساوس 
الدينية على الحكم المهدوى. كما يبين أيضاً اختلاف الحس السياسى العملى بين الطرفين. 
أبلغ تعبير عن ذلك هو رسالة الملك يوحنا الرصينة إلى حمدان أبى عنجة التى طلب منه 
فيها وقف الاحتراب بين الطرفين. أشار يوحنا فى رسالته إلى محاولات الأتراك غزو بلاد 
التيقرى عبر مصوع وهزيمته لهم مرتين فى منطقة حماسين » ثم دلف للرد على دعوة 
المهدى له لدخول الإسلام وتهديده إياه بالحرب إن لم يفء إلى الله فيئة حسنة. يوحنا 
-الذى لايقل تعصبه لمسيحيته عن تعصب المهدويين لدعوتهم - لم يطلق لعصبيته العنان» 
بل أرزن رده حين قال: ليس لنا رغبة فى التعدى من حدودنا إلى حدودكم فلا تكن لكم 
الرغبة فى الخروج من حدودكم إلى حدودنا . بل نحن وأنتم (أى الحكام) قارون فى مواقعنا 
حين يهلك المساكين» ومن الخير أن لا نهلك المساكين فى الباطل .إن الإفرنج أعداء لنا 
ولكمء فإذا غلبونا وهزمونا لن يتركوكم بل سيخريوا دياركم. الرأى الصواب هو أن نتفق 
عليهم ونحاربهم ونغلبهم ويتردد التجار من أهل بلادنا بالتجارة إلى بلادكمء وكذلك يتردد 
تجار بلادكم فى قندر لأجل المعايش والمكاسب لأهلنا وأهلكم . بلغة العصرء كان يوحنا واعياً 
بمبادئْ حسن الجوارء والتعايش بين الديانات» والمصالح المشتركة للشعوب. والكفاح ضد 
العدو المشترك ا ا د يام اي ا ا 
المهدى من أعظم الشقاء عليك. وإنه ما جاء (بالأنصار) إلى هذه الجهة ليس هو حب مال 
ولا جاه؛ بل جاءوا لقطع دابرك وجميع الكفار» فانتبه من الغفلة واصحٌ من النومة وفق من 
السكرة . وإن رمت الصلح فقل مخلصاً من قلبك أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً 


205 


رسول الله وإلا فإنا نقاتلكم, ونخرب دياركم؛ ونيم بإذن الله» أطفالكم» ونغتم أموالكم كما 
وعدنا الله فى كتابه العزيز. يتساءل المرء إن كان كاتب هذه الرسالة قرأ شيئاً عن نهى عمر 
بن الخطاب للمسلمين عن غزو الحيشة "لأنها بلد صديق. 

أدعى للعجبء رسالة المهدى للخديوى توفيق. قال الإمام :أخبرنى سيد الوجود بأنى 
أملك جميع الأرض وبأن من شك فى مهديتى ققد كفر بالله ورسوله» ونفسه وماله غنيمة 
للمسلمين. وقد حررت إليك هذا الكتاب وأنا بالخرطوم شفقة عليك؛ وحرصاً على هدايتك. 
فأرجو الله أن يشرح صدرك لقبوله ويدلك على صلاحك ورشادك فى الدارين. وها أنا قادم 
على بلدك بجنود الله عن قريب. فإن أمر السودان قد انتهى. فإن بادرتنى بالتسليم لأمر 
المهديةء والإنابة إلى الله رب البرية» فقد حزت السعادة الأبدية» وأمنت على نفسك ومالك 
وعزضك. وإن أبيت... فإنما عليك إثمك وإثم من معكء ولابد من وقوعك فى قبضتنا ولو 
كنت فى بروج مشيدة. وهذا إنذار منى إليك وفيه الكفاية لمن أدركته العناية. كان المرء 
ليفهم هذه الرسالة لوجاءت من ثائر إسلامى يسيطر على أرض الحرمينء أو يسود 
العراقين» أما أن تجىء من حاكم بلد حديث عهد بالإسلام (القرن الرابع عشر أى بعد سبعة 
قرون من الهجرة) » وأكثر حداثة بنظام الدول (الحكم التركى) » فأمر يبعث على الحيرة . 
رسالة المهدى لتوفيق كانت بلاشك أقل تجاسراً من رسالة هارون الرشيد لملك الروم عندما 
قرر الامتناع عن الجزية وبعث بخطاب للرشيد يبلغه فيه بما استقر عليه رأيه. كتب هارون: 
من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم. قرأت كتابك والجواب ما تراه دون ما 
تسمعه . وكان لهارون ما يسمعه لنقفورء فقد كان يجلس فى سدة الخلافة التى سيطرت على 
بلاد الروم والفرسء وكانت عراقه هى مخزن غلال الإقليم كله منذ الإمبراطورية 
الرومانية» وكان العلماء الذين يستهدى برأيهم هم الليث بن سعدء وأبو يوسف ومحمد بن 
الحسن صاحبا أبى حنيفة» وأسد الكوفى من أصحاب أبى حنيفة:» والكسائى شيخ القراء 
والنحاة . وبفضل كل هذه الميزات التفضيلية كان فى مقدور هارون أن يرعد بالمنايا لهرقل 
الروم كما قال أبو العتاهية: 


96 


ألا نارت هِِرَّقَلَة بالخراب 
من الملك الموفق للصواب 
غدا هارون يرعد بالمنايا 
ويُبرق بالمذكرة العيضاب 
ورايات يحل النصر فيها 
تمر كأنها قطع السحاب 
لكن» مع كل هذا النصر المؤزر ضد الروم ذهب الرشيدء أمير المؤمنين» من موقعة ذلك 
إلى مصادقة شارلمان ملك الفرنج فى زمانه» وأعانه فى حربه ضد دولة إسلامية هى 
مملكة الطوائف فى سرقسطة (قرب برشلونة)» لما رأى أن فى ذلك التحالف مع النصارى 
ما يعود بالخير على دولته. 
تبعاً لما سبق» فإن الحكم على مغامرات المهدية الخارجية لا ينطلق من معايير راهنة 
حول علاقات حسن الجوار وواجبات الدول الأساسية نحو رعاياهاء وإنما من سوابق فى 
تاريخ الإسلام كنهى عمر عن غزو الحبشة» وتحالف الرشيد مع الفرنج المسيحيين؛ أو من 
وقائع معاصرة للمهدية مثل رسالة يوحنا. تلك السوابق لم تكنء فيما يبدوء ذات بال عند 
المهدىء أو عند خليفته»ء بل تجافى كلاهما الوقائع المعاصره . ولهذا فإن تواتر حديث 
المؤرخين عن الطابع الوطنى التحررى للثورة المهدية مع إغفال كامل لما صحبه من 
مغامرات مدمرة: فيه إهدار للحقيقة. حقيقة أن تحرير السودان من سطوة الحكم التركى 
أصبح معين إلهام للأجيال المقبلة فى السودان» بل وعامل استنهاض لبعض الدول 
المجاورة ؛ إلا أنه كان واحداً من تداعيات تلك الثورة» وليس دافعاً من دوافعها. ولو كان هو 
الدافع لما انتهت الثورة المهدية بتمزيق أهل السودانء بعد أن وحدتهم . ذلك التمزيق كان 
نتاجاً لتمسكها بدوافعها بل دافعها الأساسى: إقامة دولة دينية وحيوية الأصل تشمل السودان 
وتعبر القارات. 
من الأكاذيب المتواترة أيضا الأقاصيص التى نسجت حول نية المهدى افتداء عرابى 
قائد الثورة المصرية بغوردونء أو حول صلة الثورة المهدية بثورة أحمدعرابى فى مصر 


507 


بهدف افتعال نسب بين الثورة المهدية والثورات المصرية. (5؟) هذا التمويه للحقائق 
تفضحه رسالة المهدى الواضحة للخديوى والتى تكشف عن أن نوايا المهدى الحقيقية من 
غزو مصر لم تكن تحريرها من الهيمنة الخديوية» وإنما اتخاذها نقطة ارتكاز لنشر ثورته 
ودعواه . وإلى هذا السبيل» كما سنرىء اتجه متمهديو نهايات القرن العشرين (الجبهة 
القومية الإسلامية) عند ما وطنوا أنفسهم لغزو مصر بالإرهاب» وغزو أثيوبيا وإريتريا 
بالتسلل» وغزو دول الاستكبار بالاستطالة فى الهتافات الزاعقة. 

فى سبيل إقامة تلك الدولة أباحت المهدية أيضاأً سبى المسلمين المتنكرين لدعوتها بعد أن 
قررت إن إنكار المهدية والكفر سواء. ففى قول المهدى:من لم يصدق بمهديتى كفر بالله 
ورسوله . ونقر أن تكفير الخصوم بين الفرق والفقهاء أمر معروفء فالشيعة كفروا النواصب 
(من يناصبون آل البيت العداء)» والفقهاء ‏ على امتداد التاريخ الإسلامى ‏ لم يترددوا فى 
تكفير بعضهم البعض عند الاختلاف الحادء خاصة خلافات المعتزلة وأهل السنة والجماعة. 
وفى هذا فجر بعض الفقهاء فى خصومتهم» بل ذهب أدنى أهل السنة والجماعة لتكفير من 
لا يوازنه فى التحقيقء ولا يعادله فى علم الكلام من المعتزلة (؟؟). ومع أن حملات التكفير 
بلغت مداها الأقصى فى خلافات المعتزلة وأهل السنة والجماعة» إلا أن الخلافات بين كبار 
أهل السنة أنفسهم لم تخل من تهم التكفير إذ كفر الحنابلة شيخ المفسرين الطبرىء كما اتهم 
الظاهرية بالإلحاد الإمام الباقلانى» مجدد المائة الرابعة. بيد أن الذى يعادى ويكفر فى حالة 
المهدية» ليس فقيهاً ولا خصماً فكرياً بل حاكم يحيى ويميت ٠‏ ويعز ويذل. 

كان من وجده الإذلال سبى المسلم بالرغم من أن قواعد سبى الحرب فى الإسلام 
معروفة. ذلك هوما حمل شيخ السمانية» محمد شريف ود نور الدايم للقول عن المهدى: 

يبيح حرام الدين كا مال والزنى 
وسفك الدما والبيع للمسلم الحر 

وبالرغم من أن ليس فيما وصل إلينا ما يؤكد إباحة المهدية للزنى» خاصة وفى بيعتها 
عهد بأن لايسرق الأنصارى ولا يزنى ولا يأتى ببهتان. إلا أن فى التاريخ شواهد موجعة 
على إباحة سفك الدماء وبيع المسلم الحر. فمنشور المهدى فيما يتعلق بالاسترقاق كان 


528 


واضحاً: أن يسترق بحد السيف كل من لم يهده الله إلى الإسلام من غير المسلمين أو ينكر 
الاعتزاف بالمهدى المننظرء مسلماً كان أم غيز مسلم: وبهذا اتجهت المهدية بالجهاذ وسبى 
الحرب اتجاهاً غير مألوفء بل مبتدعء إذ يحرم الإسلام سبى المسلم للمسلم . . ويروى شقير 
أن محمود ود أحمد قد بعث للخليفة ب ٠74‏ جَازَية من المتمة ينكان حمين!التنجى الذى ليتناد 
من فتيات الجعليين» مما حمل إخواتهن ٠‏ حسب رواية شقيرء على إلقاء أنفسهن فى النيل 
تفضيلاً للموت على حياة الفضيحة والعار.(”*) وكان سبى النساء والرجال بين القبائل 
المسلمة التى أنكرت المهدية كالكبابيش والشكرية والجعليين أكبر عامل فى تبغيض المهدية 
لقبائل الشمال حتى للحد الذى دفع بعضهمء كالشكرية مثلاًء للتضرع إلى النصارى لكيما 
ينقذوهم من دولة الإسلام التى أذلت قومهم وألحقت بهم الهونى. عن أولئك عبر شاعرهم 
الحردلو: 
اولاد ناس عزَاز مثل الكلاب سوونا 
يا يابا التقس. يا الإنكليز الفونا(!؛) 

استقصى نعوم شقير أيضاً تسرى المهدى بثلاث وستين فتاة من بنات الأسر 
الفدماليلة!("؟) سبيق فى الحربء فى حين لم ينسر الرجول رغم كل حروبه إلا بأربع. 
اثنتان منهن من سبايا الحرب: ريحانة بنت يزيد من سبى بنى النصير وقعت فى سهم ثابت 
بن يزيد فكاتبها على تسع أواق لم يؤدها فأداها عنه الرسول وتزوجهاء وجويرية بنت 
الحارث (من سبى بن المصطلق)» واثنتان أهدين إليه (ماريا) أم ولده إبراهيم أهداها 
المقوقس عظيم القبط » وأخرى أهدتها له (زينب بنت جحش) . وفى حقيقة الأمرأهدى 
المقوقس إلى رسول الله جاريتين؛ تأمى بواحدة منهن هى مارياء وأهدى الثانية (سيرين) 
إلى شاعره حسان ين ثابت» وكانت تجيد الغناء ونقر الدفء ولعل رسول الله اختار لها من 
يدغان بشجره: . كما كان الرسول رحيماً حتى بالمشركاتء فعندما لاذت بحماه ابنة حاتم 
الطائيى عند ما وقبعت فى السبى وقالت: هلك الوالد (حاتم) وغاب الرافد (أخوها عدى) 
فامنن على؛ من الله عليك؛ لم يأمر الرسول بسبيها عقاباً لها على لزومها الشركء بل قال: 
قد فعلت »فلا تعجلن بخروج حتى تجدى من قومك من يكون له 5 ثقة حتى تبلغن بلادك. 


99 


ما أسماه شيخنا ود نور الدايم سفك الدماء جعل كثيرين من أهل السودان يختزنون 
جراحهم ويستبطنون آلامهم . يعض من هؤلاء لم يعذء يسبب من تلك الجراحء يرى فى 
المهدية إلا الشر المحض. ونستذكر قصة مع ميرغنى حمزة» رحمه الله. كان ميرغنىء 
بين أبناء جيله؛ رجلا شامخاً لا يلحق شأوه فى النظرة العقلانية للأمور العامة» إلا أن تلك 
العقلانية لم تسعفه فى حالة واحدة: نظرته للمهدية. سألته: لماذاء مع عقلانيته» يبغض 
المهدية اتغضا غريزيا لم يرق له الفتوال»ثل تكهم وجهه واخذ يمساق فى ركان رقول :ما 
00 حي 0 كانت تعتريه دوماً عند الغضب) قبل أن 
ينطلق: إنت... إنت... إنت ما عارف أنا أتولدت وين ؟ ولدتنى أمى فى الصحراء تحت 
طل مغر جح كاج رون تمن الكيية عنما لتر ديا ممااتدق كد وف عن داف 
الجعليين. 

لماذا نورد هذا التاريخ؟ لا نورده لنثير المواجع القديمة أو لننكأ الجراح» فكفانا ما بنا من 
مواجع وجراح. وإنما نستذكره لننبه الذين ينظرون للماضى بمنظار وردىء أو الذين 
يسعون لإلصاق بطاقات ايديولوجية على ماض يمجدونء لكيلا يفلت عن فهمهم ما فى 
ذلك الماضى من ماسى. فما ارتباك الخظاب الصحوى الإسلامىء أو الوطنى الرومانسى» 
إلا لعدم اتساقه مع الواقع الذى يصورون بطريقة كاريكاتيرية تختزل التاريخ . لا ضير فى 
أن نستلهم كل ما هو طيب ومجيد فى الماضىء شريطة أن لا ننسى ما صحب ذلك الماضى 
من أخطاء حملت السودانى لأن يستنجد بغير السودانى» وحملت المسلم للاستقواء بغير 
المسلم؛ وحملت جموع المسلمين لأن تتنكر لدولة الإسلام التى لم يلقوا فيها غير الذل 
والمهانة . نقول هذاء حتى إن افترضنا نبل الغايات» فنبل الغاية من نبل الوسيلة . وحده؛ 
التناول العقلانى الأمين لأصل وأهداف ومسار الثورة المهدية هو الذى يعين على استواء 
مهاد البحثء لا سيما عند الاقتراب من تحليل واقع مراهن, هو بالمهدية لصيقء ألا وهو 
اتخاذ دعاة الصحوة الإسلامية» أوالمشاريع الحضارية المهدية نموذجاً للحكم الإسلامى. 
فحفيد المهدى (الصادق) لا ينفلك يتحدث عن مشروع سياسى ‏ دينى (مشروع الصحوة 
الإسلامية) يستهدى فيه بميراث جده الأكبرء لا بمواريث المهدية الثانية التى أسسها السيد 


100 


عبد الرحمن المهدى واقتفى أثره فيها ابنه الصديق. فكلا الرجلين أجهدا نفسيهما فى إزالة 
الأوجاع التى خلفتها المهدية فى نفوس أهل الشمالء إذ ما زال منهم حتى ذلك التاريخ 
وجاعى . لهذا حرص الزعيمان؛ فى تدبيرهما لأمر السياسة» وبوجه خاص فى تعاملهما مع 
غير الأتصارء على الابتعاد عن الرموز المهدوية. فالمهدية ليست رواية أخلاقية -3110:211) 
(213 لإاء وإنما كانت مشروعا سياسيا ذا بعد دينى أنكره أغلب علماء السودان» كما كلف 
أهل السودان كلهم ثمناً باهظأً. 

حفيد المهدى ليس هو المسحراتى السياسى الوحيد فى السودان الذى يدعو لصحوة 
إسلامية يعيد بها السودان إلى جذور اصطفاها. إليه انضم مسحراتية آخرون أخذوا يدعون ‏ 
صدقاً أو كذبا العودة لنفس الجذورء ويقدمون التجربة المهدوية كسابقة ينبغى للسودان 
المعاصر أن يحذو حذوها. من أولتك الأستاذ العالم الدكتور الترابى. قال الترابى فى خطاب 
له أمام المؤتمر الإسلامى فى عهد الإمام النميرى أن مبداً اتحاد الدين والدولة استقر بوعى 
تام (فى المهدية) وقامت مؤسسات متطورة للحكم الإسلامى كالقضاءء وقضاء المظالم 
وبيت المال. كما عزا الترابى سقوط تلك الدولة إلى "تركيز سلطة الحاكم بعد وفاة المهدى فى 
يد فرد. ولا نشك فى أن الشيخ العالم كان على دراية كافية بالأحزان التى ألحقتها المهدية 
بقبائل الشمالء ناهيك عن أهل الجنوب. ولا نشك أيضاً فى معرفته الكاملة بالأعباء الباهظة 
التى ألقت بها تلك الثورة على كاهل أهل السودان يسبب معاركها الخارجية» وما تبعها من 
سنوات جوائح استأصلت المال وأهلكت الولد. ولا نستريب لحظة فى إدراكه الواعى للطابع 
الوحيوى للمهدية والذى؛ حتى إن صح فى زمانه؛ فلن يصح فى هذا الزمان. أو هل نفهم 
من قول الترابىء إذنء ان اية دولة ترفع راية الإسلام؛ هى دولة صالحة حتى وإن اهلكت 
الحرث والنسل. فى حديث الترابى أيضاً هرطقة بالمعايير المهدوية. فخليفة المهدى لم يكن 
كردا مركرة كه الملطة في يقد بن هن وزيك الدصيوة والريسالة تزه أزرد نويد :فى 
منشوراته :اعلموا أيها الأحباب أن الخليفة عبد اللهء خليفة الصديقء المقلد بقلائد الصدق 
والتصديق هو خليفة الخلفاء» وأمير جيش المهدية المشار إليه فى الحضرة النبوية. هو منى 
وأنا منهء وقد أشار إليه سيد الوجود. فتأدبوا معه كتأدبكم معى» وسلموا إليه ظاهراً وباطتآ 


101 


كتسليمكم لى. فجميع ما يفعله بأمر من النبى # ... واعلموا يقيناً أن قضاءه فيكم هو قضاء 
رسول الله تعالى. عجبىء الرسول 6 الذى لم يخلف أحداً بعده» أمرالمهدى أن يجعل له 
خليفة. على أن تلك الخلافة لم تجىء فقط بأمر الرسولء وإنما جاءت أيضاً بأمر أولياء الله 
جميعأء قال المهدى فى إحدى رسائله إن أولياء الله اجتمعوا فى بيت المقدس يقولون الحمد 
لله الذى أظهر المهدى وجعل عبد الله وزيره. وكنا قد أشرنا فى هذا الفصل إلى زجر الزبير 
باشا للخليفة عند ما وقع فى قبضته. وإلى تلك الإشارة نضيف أن الخليفة عبد الله الذى 
اجتمع أولياء الله فى بيت المقدس لمباركة خلافته للمهدى قال للزبير: "رأيت فى الحلم أنك 
أنت المهدى المنتظرء وإنى أحد أتباعك. فأخبرنى إن كنت مهدى الزمان لأتبعك. رد عليه 
الزبير: استقم كما أمرتك وإلا أعملت السيف فى رقبتك. إننى لست المهدى المنتظرء وإنما أنا 
واحد من جنود الله يحارب من طغى وتمرد.(*؛) 

لا غروء إذن» أن أسمى أنصار الترابى حروبه الداخلية جهاداًء وسخروا كل إمكانات 
السودان الفقير لنشر الإسلام فى الشرق والغرب. لا نرى وجه فرق كبير بين ما ابتغى 
حمدان أبو عنجة فعله فى بلاد التيقراى؛ وبين مغامرات الجبهة على الحدود الشرقية» أو 
بين دعوة الخليفة لفكتوريا أن تدخل فى دين الله وبين تهديد الجبهة لأمريكا بعذاب دنا. 
الفرق هو أن غلواء القرن التاسع عشر يمكن أن تفهم فى إطار الظلامية الكابية التى كانت 
تحدق بالعالم » أما فى زمان ميثاق الأمم المتحدة» وإعلان حقوق الإنسانء والمبادئ الدولية 
التى تحكم الحربء ومبادئ التعايش بين الشعوب على اختلاف نظمها الاجتماعية؛ وسنأنة 
الإعلام» نسبة إلى (/0.51.2))» ومبادئ حسن الجوار؛ وفوق هذا وذاك الصواريخ العابرة 
للقارات. من المحزن والمخزى فى أنء أن يظن أى عاقل فى هذا الزمان» .كما ظن المهدى 
وخليفته فى غابر الأزمان أن فى مقدور السودان أن يصبح سرة الدنيا وقطبها الأوحد. 

المهدية والجنوب 

مع تمكنها من فرض هيمنتها الكاملة على الشمالء لم تنجح المهدية فى تحقيق سيطرة 
تامة على الجنوب »٠‏ إذ ترقفت سيطرتها جدويا عند مناطق فى بغر الفزال وأعائن النيل. 


12 


بعض هذه المناطق (مثل الرجاف) أصبحت حاميات يعزل فيهاء أو ينفى إليها المنشقون 
عن المهدية. وبوجه عام فإن أكثر ما يستذكره الجنوبيون من المهدية هو سعيها لفرض 
إسلام طهرانى قاس عليهمء وإطلاق العنان من جديد لتجارة الرقيق. تلك النظرة السلبية 
للمهدية لدى أهل الجنوب سبقها شهر عسل قصير بينهم وبين الدولة المهدية: لاسيما وقد 
توسموا فيها الخيرء وحسبوا أن لهم فيها منجاة من عسف الأتراك. فى شهر العسل ذلك» 
يقول فرانسيس دينق» نظم الجنوبيون الأماديح فى المهدىء وعنده الدينكا تجليآ لأحد آلهتهم 
هب لتحريرهم من نير الحكم التركى.(؟؛) وفى حواراته مع شيوخ الدينكا روى دينق أيضآً 
قولاً للزعيم قيرديت جاء فيه: على الرغم من أن المهدى قد بدأ كمحرر للناس إلا أن حكمه 
أصبح سيئاً حيث أراد أن يستبعد الناس. أما الزعيم ماكوى بيلكوى فقد أشار إلى معاناة 
الدينكا من الأتراك الذين أتوا مهاجمين وما أن استولوا على قبيلة حتى استعبدوها ثم 
استخدموها لغزو قبيلة أخرى. ويضيف ماكوى أن الدينكا تبعوا المهدى فى البداية باعتباره 
قائدأ عفيفاً ومستقيماً ولكنهم عندما اكتشفوا الطبيعة التدميرية لحكم المهدى قالوا له: لقد 
خذلت شعبنا.("0) 

لا شك فى أن المهدية قد حرمت تنجارة الرقيق التى كان يمارسها الجلابة ولكن» فى 
حقيقة الأمرء لم تفعل هذا بسبب الطبيعة اللاإنسانية للرق؛ وإنما خشية من إنشاء تجار 
الرقيق جيوشاً خاصة بهم من العبيد (بازنقر) يتحدون بها الدولة» أوأن يجد الرقيق طريقه 
لمصر فيستعين به الأتراك لإعادة فتح السودان. ذلك هو السبب الذى دفع الخليفة لمنع 
تصدير الرقيق لمصرء وتوجيهه لقائده فى الشمالء ود النجومى باعتراض قوافل الرقكيق 
المتجهة إليها. لهذا وجهت منشورات الخليفة بإخضاع التداول فى الرق لقواعد يضعها 
الحاكم وعلى أن لا يتم التصرف فيه إلا عبر بيت المال. بهذا الفهم» أصبح منع التجارة 
الخاصة فى الرقء» فى حين الإبقاء عليها تحت أمرة الدولة» تأميماً لتلك التجارة» لا إلغاء 
لها.('”) أما موقف المهدى نفسه حيال التحريم فقد كان واضحاً لا لبس فيه؛ ففى رسالة 
لمحمد خير عبد الله خوجلى فى بربر كتب المهدى معاتباً وكيله لتردده فى إعادة الرقيق 
الذى حرره الأتراك إلى مالكيهم "الشرعيين. ("*) 


103 


وفى جنوب السودان لم يختلف الوضع كثيراًء إذ استعرت من جديد نيران الاسترقاق 
التى أطفأها غردون وبيكر. لم يكن ذلك أمرا لا ينبغى أن يفاجئ أحداء خاصة والرجل الذى 
ولاه الخليفة على بحر الغزال كان هو تاجر الرقيق القديم» كرم الله كركساوى. وكان على 
رأس المهام التى أنيطت بكرم الله تجنيد المشاة السابقين (الجهادية) فى الجيش التركى 
للاستعانة بخبراتهم فى جيش المهدى. سعت المهدية أيضأً لتوسيع حملتها إلى الاستوائية» 
والتى كان يديرها يومذاك حاكم ألمانى يدعى ادورد شنيتزر أطلق عليه اسم أمين باشاء 
رغماً عن النصيحة الحكيمة التى قدمها للخليفة عمر صالح» قائد جيوش المهدية فى تلك 
المنطقةء ودعاه فيها لإيقاف الهجمات على قبائل الاستوائية لانهم بعاداتهم وتقاليدهم 
الموروثة لا يستسيغون الأنموذج الدينى الطهرانى الذى فرضته المهدية.(””). ولعل الخليفة ‏ 
بجانب حرصه على اقتناص قدامى المحاربين الذين تمرسوا على الرماية والقتال فى جيش 
صموئيل بيكر كان يروم أيضاً محو آخر أثر للترك فى السودان: المديرية الاستوائية. 
وصدق حدس عمر صالح حول عدم إستساغة الجنوبيين للطهرانية المهدوية» رغم كل ما 
منحته المهدية للرقيق العسكرى من امتياز. فعلى سبيل المثال» تمرد فريق منهم بين عامى 
1887-6 فى مدينة الأبيض صد الحكم المهدوىء وقاموا برفع العلم التركى تعبيراً 
عن عدم شعورهم بالرضاء كما انتقوا من بينهم قائداً أطلقوا عليه؛ بحماقة متناهية » لقب 
الياشا. تلك الثورة أخمد نارها بعنف حمدان أبو عنجة. 

فى نهاية المطاف وجدت المهدية نفسها أمام عقدة مزدوجة » ففى الشمال زادت 
سياسات النظام من اغتراب العلماء عنه: وحقد القبائل عليه. وفى الجنوب تحول الذين 
استقبلوا المهدية بالابتهاج فى بداياتها إلى أعداء بسبب عودة الاسترقاق وفرض نموذج 
دينى غريب عليهم. من ذلك نخلص إلى أن المهدية قد تركت آثاراً على الجنوب والشمال 
حافلة بالنقائض. فمن ناحية » خلقت فى الشمال بؤرة من الكرامة الوطنية توحد حولها 
السودانيون رغم كل مآخذهم عليهاء وفى ذات الوقت دمرت المهدية روح التسامح الدينى 
والسياسى فى الشمال الذى تميزت به الممالك الإسلامية السابقة مما خلق انقسامات قبلية 
حادة استغرقت إزالة آثارها سنين طوالاً» وجهداً جهيداً من قادة المهدية القانية. أما فى 


14 


الجنوب فقد قوضت سياسات الأسلمة القسرية المجتمعات القبلية» كما خلقت صورة للإسلام 

فالدولة المهدية قبل أن يدمرها الاستعمار دمرت نفسها بسياساتها. ومن الغريب أن يورد 
كاتب إسلامى معاصر أن تدمير الدولة المهدية هونتاج مباشر لتدخل القوى الأجنبية 
ورغبتها فى تصفية المشروع المهدوى .(؟*) هذا المشروعء فى رأى الكاتبء اتجه إلى إزالة 
الحواجز بين أقاليم السودان وقبائله وإحلال السودان موقعاً متميزأً بين الأمم. وكأن كل 
المغامرات الخارجية والعنف الداخلى» والأوهام الأيديولوجية» والذهول الكامل عن القضايا 
الحياتية لأهل السودانء لا يد لها فى ذلك الفشلء أو كأنها أمور يخلق بالسودانيين نسيانها 
مادامت الدولة قد نسبت نفسها للإسلام . هذا النوع من التبرير هو الذى يفقد كل دعاوى 
الإسلامويين أية صدقيةء ويفضح تكاذيبهم عن السماحة فى إسلامهم. فالعنف الذى 
مورس ضد القبائل التى رفضت المهدية لا يمكن أن يكون هو الأسلوب الذى توحد يه 
الأممء والاعتداءات على الدول المجاورة والتحرش بالدول النائية ليسا هما السبيل الأمثل 
لأن يكون للسودان اسم ومكان على النطاق الخارجى . فطوال ستة عشر عاماً من الحكم 
كانت الوظيفة الوحيدة للحاكم هى شن الحروب الداخلية لقمع الآخرين»: وتعبئة الموارد 
المحدودة لنشر الإسلام المهدوى فى العالمين» وتحريض القبائل على بعضها البعض حتى 
فقد شعب السودان نصف أهله بنهاية الحقبة المهدية ( من 8 إلى 7,5 مليون نسمة) . 

تدخل بريطانيا العظمى 

موقف بريطانيا من السودان كان متناقضاً إلى حد كبير. فمع رغبتها فى السيطرة على 
السودانء إلا أنها لم تكن راغبة فى أى استثمار لهذا الغرض . لهذا أخذت تبحث عمن يمول 
حملتها الاستعمارية» لا سيما فى مصر. ولكن الدولة المصرية آنذاك لم تكن فى وضع مالى 
يمكنها من تمويل حرب خارجية» رغم المرارة التى كانت تحس بها نحو النظام المهدوى 
الذى أهانها وسلب منها أغلى ممتلكاتها. ومن الغريب أن البريطانيين الذين سعوا لمصر 
مستنجدينء كانوا لوقت طويل ينصحون مصر بأن السودان عبء غير ضرورى على 


1]5 


الخزانة المصرية» ويوعزون للخديوى بأن بريطانيا لن تشارك فى فتح جديد؛ كما لن تسمح 
باستخدام قوات تركية فى ذلك الفتح » باعتبار أن مصر كانت تخضع نظرياً لتركيا وقتذاك. 
إزاء هذا استكان الخديوى لقدرهء وكلف الجنرال البريطانى تشارلس غردون بالإشراف على 
انسحاب ما تبقى من قواته التى أخذت تتساقط أمام المد المهدوى. 

لم يكن غردون متيماً بالسودان؛ فعندما كلف بمحارية تجارة الرق فى الاستوائية قال: 
أكثر من أى شخص آخرء أناهض الاسترقاق. ذلك أمرتؤكده تضحيتى بالعيش فى هذه 
البلادء وهى ليست بجنة. على أنى هنا لأداء ما يرضى ربى ويرضى إنسانيتى ولا أبتغى 
شيكاً من أحد .(*”) هذا الموقف المتشدد تجاه تجارة الرق لا يتفق بحال مع موقف آخر 
لغردونء فعندما طلب غردون من السير ايفلين بيرنق (اللورد كرومر فيما بعد) ٠‏ القنتصل 
العام البريطانى لدى القاهرةء تجنيد الباشا الأسود (الاسم الذى كان يطلق على الزيير باشا 
رحمة) ليقود المعركة ضد المهدى بدلاً عنه» وصف الزبير بأنه بلا جدال أكبر قناص للعبيد 
فى السودان ولكنه ‏ فى ذات الوقت ‏ قائد مقدام ومن أكثر الرجال نفوذاً فى السودان. وكان 
فى تقدير غردون أن أتباع المهدى سينفضون عنه الواحد تلو الآخرعند رؤيتهم للزبير فى 
موقع القيادة . إلا ان غردون خشىء بحقء ان لا يستجيب الزبير لطلبهء إذ قدران الزبيرلن 
يتسى له مقتل ابنه سليمان فى بحر الغزال .(أ”) وبالفعل لم يستجب الزبير وبعث برسالة 
لغردون جاء فيها «قد تشرفنا بورود تلغراف سعادتكم المتضمن تعييننا من طرف سعادتكم 
وكيلاً لحكمدارية عموم السودان .ونعرف سعادتكم أننا فى غاية التشكرء ونهاية الممنونية 
ويؤسونى أن أعرف جنابكم» مع غاية الأسفء بأن الحالة الحاضرة لا تسعف الآن 
بالمرغوبء وأرجو الله تعالى أن يديم سلامتكم ويتم نجاحكم بما فيه الخير والصلاح 
العمومى . أفندم» .("”) ياللسخرية! دفعت عجلة القدر غردون نفسه لأن يواجه المهدى ويلقى 
مصرعه تبعاً لذلك .ويقول تشرشل أن اللورد بيرينق كان مؤيداً لتعيين الزبير» وآزره فى ذلك 
نوبار باشاء رئيس وزراء مصرء إلا أن حكومة صاحبة الجلالة لم تكن راغبة حتى فى 
مناقشة فكرة تعيين تاجر الرقيق الشهير حاكماً على السودان. (08) 

مقتل غوردون على يد أنصار المهدى لم يغير كثيراً من موقف بريطانيا تجاه السودان » 
إذ أنهم لم يولوا السودان أهمية كبرى ولم يشجعوا مصر على غزوه . ولعل هذا يقسر عدم 


106 


اكتراث البريطانيين بتطور السودان فى السنوات التالية. ولكن بحلول عام ١645‏ تغير 
الموقف تماماً إزاء تكشيف الوجود الفرنسى والبلجيكى فى وسط أفريقيا بالقدر الذى أصبح 
معه اندياح ذلك النفوذ نحو السودان مسألة وقت. نتيجة لهذا الموقف. ولحرصهم على منع 
أى من القوى الأوروبية من السيطرة على منابع النيل» قبلت بريطانيا التدخل فى السودان. 
ويؤكد هذاء مرة أخرىء أن دوافع بريطانيا الحقيقية لم تكن هى الاستكثار بثروات السودان 
الكامنة» كما يحلو القول ليعض المؤرخين الوطنيين» وإنما للسيطرة على منابع النيل؛ 
وبالتالى السيطرة على مصر. 

وهكذا فى الرابع من سبتمبر ١614‏ قام اللورد كتشنر برفع العلمين المصرى والبريطانى 
على العاصمة المهدية» أم درمان. وسرعان ما ترك كتشنر أم درمان بعد أسبوعين فقط من 
احتلالها (التاسع عشر من سبتمبر)؛ ليتجه إلى الجنوب لملاقاة الفرنسيين فى فاشودة بقيادة 
مارشاندء ودحرهم . تلك العجلة تؤكد الهدف الرئيس من حملة كتشنر لغزو السودان». كما 
تؤكدها الرسالة التى تسلمها من رئيس وزراء مصرء مصطفى فهمى باشا. كتب فهمى 
يقول: لقد عرفتم بثاقب فكركم مصالح مصر وما بذلته فى الماضى من التضحيات فى 
سبيل سيادتها على وادى النيل وأنكم لم تضيعوا وقتأً لتعيدوا إلى مصر المديريات التى تحفظ 
لها كيانها والتى لم تخرج منها إلا وقتيآ.(1*) 

رغم ذلك الانتصار الساحق» خلق فتح السودان مشكلات أخرى لبريطانياء فالدولة 
الغازية لم تكن لتجاهر بضم السودان لممتلكاتها لما فى ذلك من استعداء للفرنسيين 
والمصريين والعثمانيين» علاوة على ما سيضيف ذلك من أعباء على الخزانة البريطانية. 
كما لم تكن ترغب فى تسليم السودان على طبق من فضة للمصريين أو العثمانيين. للخروج 
من هذا المأزق اهتدى البريطانيون إلى خدعة ماكرة يتم عن طريقها تحمل مصر بالكامل 
لكل تكاليف حكم السودانء بينما تتولى بريطانيا الحكم نيابة عنها. تبلورت تلك الخدعة 
فى اتفاقية الحكم الثنائي ()2816151 2020011110173) معام 18415 التى وقعتها حكومة 
بريطانيا مع خديوى مصر بالرغم من أن الفرمانات السلطانية لا تخول للخديوى سلطة 
التوقيع على الاتفاقيات مع الدول الأجنبية. هذه العقبة القانونية تجاهلها البريطانيون لأمر 


107 


فى نفس يعقوبء ولربما كان هذا هو السبب فى إغفال الاتفاقية لأهم موضوع يعنى مصر: 
مياه النيل. فموضوع مياه النيل ترك أمره لبريطانيا لتقرر فيه مع الدول الأخرى عقب 
اتفاقية الحكم الثنائى. مثال ذلك البروتوكول البريطانى ‏ الإيطالى عام »١1894‏ اتفاقية 
بين بريطانيا وأثيوبياء واتفاقية ١105‏ بين بريطانيا ودولة الكونغو الحرة . وهكذا 
أصبح السودان المستعمرة الأولى والوحيدة فى أفريقيا التى تخضع لسيادة مزدوجة؛ على 
الاقل من الناحية الشكلية . الرجل الذى أشرف على ميلاد ذلك الاتفاق» اللورد كرومرء هو 
أول من وصفه بالخدعة. ففى كتابه مصر الحديثة (0لاع58 8400655) وصف كرومر الحكم 
الثنائى بقوله: "لم تعرف البتة قبل»عبقرية كتلك التى ابتدعت أسطورة يمكن اغتفارها مثل 
تلك التى أريد بها التوفيق بين الواقع المعاش والحقائق المفترضة. ولكن بريطانيا لم تدرك 
مجالاً للشك فيمن هو حاكم السودان الفعلى» ففى أول حديث له لشيوخ أم درمان» أعلن 
اللورد كرومر: من الآن فصاعداً سوف تخضعون لحكم ملكة إنجلترا وخديوى مصر فى 
شراكة بين البلدين ستكون لإنجلترا فيها اليد العليا.('') وبالفعل كان لبريطانيا اليد العليا إذ 
أوكل أمر حكم السودان إلى حاكم عام ترشحه بريطانيا ويعينه الخديوى (المادة الثانية من 
الاتفاقية)» وبالطبع» كان جميع الحكام الذين تم تعيينهم من البريطانيين. مع ذلك كان 
على مصر أن تتولى الإنفاق كاملا على إدارة السودان. ذلك الوضع الهازل جعل اللورد 
ونجتء الذى خلف كتشنر كحاكم عام للسودان» يرد على سؤال من أحد وزراء حكومة بلفور 
عن حجم إسهام بريطانيا فى إدارة السودان بكلمات مفعمة بالسخرية. قال ونجت: حسب 
نصوص الاتفاقية لابد من رفع العلمين المصرى والبريطانى جنبا إلى جنب. ولسنوات 
عديدة وجدت صعوبة فائقة فى أن تمدنى إمارة البحر (40171121)90) بالقماش الدى 
تصنع منه الرايات (5]108ناط)ء فهلا أعنتنى على هذا. 

السياسة الاستعمارية لتفسيم السودان 

السياسة البريطانية نحو جنوب السودان اتسمت منذ بدايتها بالخبث والغباء والاستعلاء. 
وهذا مزيج قتال. لم ير البريطانيون فى الجنوب ‏ بسبب من طبيعته وتضاريسه الجغرافية 
ومناخه وبعده عن البحر ‏ أرضا صالحة للاستيطان مثل كينيا أو روديسيا. لهذا فإن ظن 


105 


أغلب أهل الشمال بأن تبنى البريطانيين لقضية الجنوب كان ناجماً عن رغبتهم فى 
الاستكثار به ظن مستراب. ولا نحسبن أن البريطانيين الذين تركوا الجنوب ‏ بل السودان 
كله فى عام ١157‏ كان يخامرهم الظن بأنهم تركوا وراءهم فردوساً مفقوداً. واقع الأمر 
غير ذلك إذ كان بريطانيو الحواضر الشمالية يطلقون على رفاقهم الذين استمرأوا العيش 
فى الجنوب» وتولوا الدفاع عن أهله؛ اسم بارونات المستنقعات. إذن» ما الذى دفع 
البريطانيين للحماسة فى تبنى قضية الجنوب؟ 

فيما نرى» كانت تتنازع السياسة البريطانية نحو الجنوب عوامل شتىء أغلبها يرتبط 
بضغوط خارجية. فمن ناحية» كانت هناك جماعات مناهضة الرق والتى جعلت من 
موضوع الرق فى السودان قضية تدق لها الطبول. من ناحية أخرى كان هناك الإرساليون 
المسيحيون الذين رأوا فى جنوب السودان أرضأ خصبة لغرس الصليب ونشر الإنجيل» 
والإرساليات المسيحية الغربية» كما نعرفء ظلت دوماً لصيقة فى أفريقيا بالحاكم المستعمر. 
ذلك أمر فطن له حاكم أثيوبى عظيم: الامبراطور تيودروس يوم جاءه من جيبوتى أحد آباء 
الكاثوليكية يستسمحه فى إرسال آباء مبشرين من الفرنسيين ليعلموا الأحباش دينهم. رد 
عليه تيودروس بالقول: لا تحسبنى فى غنباء مهراجات الهندء فبعد المبشرين يجىء 
القنلاصلء ويعد القناصل تجِىء الأساطيل. دعنى أقول لك بأننى أفضل مجابهة الأساطيل 
منذ البداية. 

ومع أن البريطانيين كانوا يتعاملون مع أهل الجنوب بشفقة كبيرة إزاء ما لحق بهم من 
استعباد وعنف على يد مسلمى الشمالء إلا أن تلك الشفقة: كان يصحبها أيضأ ازدراء غير 
خفى بالجنوبىء لا يقل عن ازدراء الشمالى له. ذلك الازدراء رافقه عسف وشدة فى 
الحملات التى نظمها الاستعمار لإخماد الهبات الجنوبية ضد الاحتلال. وكان للورد كرومر 
رأى فى هذه الهبات مترع بالظلال العنصريةء ففى كتابه لوزير الخارجية؛ قال كرومر أن 
الهدف من تلك الحملات هو تعليم هؤلاء المتوحشين شيئأً من الحصافة وحسن الخلق 
وطاعة الحاكمين.('') لهذاء ودون إعفائهم من الدوافع الخفية (وهى كثر) تبنى الحكام 
البريطانيون ومن تبعهم من الإرساليين المسيحيين قضية الرق. وفى سبيل هذاء طبعوا فى 


19 


قلوب الجنوبيين بخبث ماكر المرارة ضد الشمال قاطبة» باعتبار أن الشمال كله يتحمل 
المسئولية المباشرة»ء لا الضمنيةء عن تجارة الرق. وقد أطلقت الحكومة الاستعمارية العنان 
للإرساليات فى الجنوب لكيما تبث هذا الشعور العدائى نحو الشمال فى قلوب أهل الجنوب» 
فى حين كانت حذرة غاية الحذر حيال العمل الإرسالى المسيحى فى الشمال لكيلا تثير 
حتق المسلمين. تلك الإرساليات كانت لها غاية أخرى: تقليص النفوذ العربى الإسلامى فى 
الجنوب والحيلولة دون انتشاره فى أفريقيا ظنأ منهم أن الإسلام والثقافة العربية وجهان 
لعملة واحدة . لهذا الغرض سعوا للقضاء على العربية وإحلال اللغة الإنجليزية محلها. ومن 
الطريف أن هذا الرأى حول تقليص النفوذ العربى ‏ الإسلامى ذهب إليه اللورد كتشنر قبل 
أن يصبح حاكماآً على السودان.("') ومما استفدناه حديثاً حول هوس كتشنر الدينى ما جاء 
أخيراً فى كتاب حول قيام الدولة الهاشمية فى الحجاز ذكر فيه مؤلفه (جوشوا تيتلبوم) (') 
أن أكبر مؤثر على أفكار كتشنر حول مخاطر المد الإسلامى كان هو القاص البريطانى جون 
بوكان (مؤلف قصة الثلاث وتسعين خطوة التى جعل منها الفرد هيتشكوك فيلماً كلاسيكيا) 
خلال موقعه كمدير لمركز الأبحاث البريطانى خلال الحرب العالمية الأولى.(؟') أيآ كان 
الأمرء نجحت الإرساليات المسيحية فى أن تجعل من اللغة الإنجليزية فى العام 1918» اللغة 
الرسمية فى الجنوب» كما أصبح يوم الأحد ‏ بدلا من يوم الجمعة ‏ هو يوم العطلة الرسمى. 

مع ذلكء لا يصح القول بأن الموقف البريطانى الرسمى فيما يتعلق بانتشار المسيحية 
كان موقفاً عقائدياً. يؤكد زعمنا هذا موقف البريطانيين المتشدد ضد انتشار الإرساليات 
المسيحية شمال خط العرض العاشر (أى شمال السودان)؛ كما يؤكده أن البريطانيين لم 
يعرفوا طوال تاريخهم الاستعمارى بالتعصب لدينهم, وإنما عرفوا بنزعتهم القتالية 
الإمبريالية. الموقف البريطانى الرسمىء نحو الأديان» كان؛ بالدرجة الأولى. موقفأ نفعيا 
سياسياً. فحيث يحتمل أن يقود التبشير المسيحى إلى إثارة المسلمين ذهبوا للحد منه» وحيث 
حسبوا الأرض مهيأة للاستقطاب الدينى أطلقوا له العنان.(*') تمثلت النفعية السياسية أيضأ 
فى حرصهم على إرضاء مجموعات الضغط المناصرة للإرساليات فى إنجلترا وأمريكا. 


عزز من النفوذ المسيحى الأوروبى فى الجنوب منهج الحكم غير المباشر الذى أخذ 
البريطانيون يطبقونه فى ذلك الإقليم منذ العشرينيات بعد أن أثبت ‏ فى تقديرهم ‏ نجاحاً فى 


110 


نيجيريا على يد اللورد لوقارد فى عام 7415'). منهج لوقارد فى الحكم غير المباشر 
يعنى تولى القيادات التقليدية الحكم تحت إشراف المستعمرء إلا أن تطبيقه فى شمال السودان 
اختلف كثيراً عنه فى جنوبه . ففى الشمال ‏ خاصة بعد تمرد الضباط السودانيين بمساندة 
النخبة المتعلمة فى العام ١15175‏ قرر البريطانيون عقاباً لتلك النخبة تسليم مقاليد الحكم: أو 
بالحرى السلطات المحدودة التى كان يمارسها الأفندية» إلى الزعماء القبليين والتقليديين. 
ولم يكن الزعماء التقليديون أقل حنقاً على تلك التخبة المتعلمة من الاستعمار بسبب تجاسرها 
على تحديهم. أما فى الجنوب» فقد كان منهج الحكم غير المباشر صورياً؛ فالسلطات التى 
منحت للسلاطين المحليين كانت محدودة للغاية بحيث بقيت السلطة كاملة فى يد الحاكم 
الأجنبى» وبصورة غير مباشرة فى يد الكنائس. ولو كان البريطانيون حقأ راغبين فى خلق 
إدارة محلية مؤهلة»ء لاهتبلوا الفرصة للأخذ بيد القيادات الجنوبية التقليدية بهدف تطوير 
أدائهاء ولكن لا يتوقع أحد من الحكم الاستعمارى الذى بدأ عهده بتحطيم أكثر ممالك 
الجنوب تطوراً (مملكة الزاندى)»؛ أن يولى بالا لأنظمة الحكم التقليدى الأخرى التى لايملك 
أى واحد منها مقومات مملكة الزاندى. عوضاً عن تطوير الإدارة الأهلية فى الجنوبء كان 
لسياسة الحكم غير المباشر أهداف أخرى: محو السمة العربية فى الجنوب. فبناء على نصائح 
حاكم منقلاء المستر أوين» أنشئت الفرقة العسكرية الاستوائية فى عام 151717 واقتصر 
التجنيد فيها على أبناء القبائل الجنوبية بدعوى أن الشغل الشاغل لعسكر الشمال العاملين فى 
الجنوب يومذاك كان هو نشر اللغة العربية والتبشير بالإسلام. وهكذا أصبحت اللغة الرسمية 
للفرقة العسكرية الجديدة هى الإنجليزية» وأصبحت المسيحية دينها الرسمى. وفى ديسمير 
من نفس العام بدأ سحب كل الشماليين من الفرقة الاستوائية » وبقيت الفرقة على ذلك 
الوضع حتى وقوع التمرد فى عام .١96©‏ 

يلفت النظر فى هذه السياسة العقيمة أمران: أولاً عجزها عن إدراك أن اللغة العربية ‏ 
أكثر من كونها وجهاً للإسلام ‏ قد تطورت فى فضاء التفاعل التاريخى بين أقوام السودان 
لتصبح الأداة الرئيسية للتكامل بين الناطقين بالعربية والناطقين بغيرها فى شمال السودان 
نفسه مثل البجة والفور والنوبة والنوبيين. هذا التفاعل لم يؤثر فقط على اللغات غير العربية 


أو الهوية الثقافية للجماعات الناطقة بغير العربية» وإنما أثر أيضاً على اللغة العربية نفسهاء إذ 
ما أكثر التعبيرات السودانية ‏ لكيلا نقول الأعجمية ‏ التى وجدت طريقها إلى الخطاب 
العربى فى السودان . ثانياً: الرؤية القاصرة للمبشرين وبارونات المستنقعات الذين افترضوا 
تقسيماً وهمياً لأفريقياء جزء منه مسلم فى الشمال» وجزء تستأثر به المسيحية فى الجنوب. 
قصور هذه الرؤية يكمن فى أنها لم تلق بالاً على الواقع الأفريقى. فالإسلام ظل قائماً فى 
القرن الأفريقى وكل سواحل أفريقيا على المحيط الهندى؛ كما كان واسع الانتشار فى الغرب 
الأفريقى من غانا إلى فرغانة كما يقول الأخباريون الاقدمون. تلك النظرة القاصرة للطبيعة 
التركيبية للسودان هدمها جيل متأخر من الحكام البريطانيين فى الخرطوم مثل دوقلاس 
نيويولد وسى .د.د هندرسون7"") كان له إدراك مختلف لطبيعة المجتمع الشمالى» وعلاقة 
الشمال بالجنوب وبالمحيط العربى. ولربما يشى هذا التباين فى الآراء بين جيلين من 
الاستعمارين بأن السياسة الجنوبية (/إء28011 501041678) يومذاك لم تكنء بالضرورة» تعبر 
عن موقف صادر عن دوائر هوايتهول. حقيقة الأمرء لم تكن هناك سياسة بريطانية نحو 
الجنوب على الإطلاقء وإنما كانت هناك سلسلة من القرارات الفردية يصدرها كبار الحكام 
فى الخرطوم بناء على نصائح بارؤنات المستنقعات»ء أو ضغوط الإرساليات. ولكن» رغم 
نشاطها المكثفء لم تستطع الإرساليات أن تجعل من اللغة الإنجليزية لغة للتواصل بين 
الجنوبيين كما لم تتمكن من استئصال الثقافات المحلية . 

تلك اللا سياسة أخذت منحى آخر عقب الحرب العالمية الأولى. فبادئ ذى بدء دخلت 
بريطانيا فى حرب مع تركيا (1118-1915)» ولهذا أصبحت فى حالة حرب مع شريكها 
الوهمى فى حكم السودان. ثانياً: فى محاولة منه لتعبئة المسلمين ضد بريطانياء نادى السلطان 
العثمانى بالجهاد د "الإنجليز الكفرة وتم إصدار فتوى فى هذا الصدد فى ١١‏ فبراير عام 
:تلك القتوئ ؤحدت أرفاً خصية بين الوطنيين المصريين خاصنة» والمسلمين عامة. 
لهذا تميزت فترة ما بعد الحرب مباشرة بالجهود المتلاحقة من البريطانيين للحد من النفوذ 
المصرى فى السودان كله؛ ومن النفوذ الشمالى فى الجنوب. وتلخصت الاتجاهات العامة 
للسياسة البريطانية الجديدة فى المذكرة المشهورة التى أصدرها السكرتير الإدارى: السير 


112 


هارولد ماكمايكل فى عام 117١‏ . تلك المذكرة حددت كهدف للسياسة الاستعمارية تقسيم 
السودان إلى جزءين: جزء يضم الشمال الجغرافى المسلم والمنسوب للعرب» وجزء ثان ذو هوية 
غير عربية وغير إسلامية. لتحقيق تلك السياسة أصدرت الإدارة البريطانية سلسلة من 
القوانين» وفرضت حزمة من السياسات الصارمة» تهدف فى مجملها إلى: 

- إدارة الجنوب ككيان منفصل عن الشمال(*) 

إصدار قانون فى عام ١177‏ يجيز لمديرى (حكام) المديريات الجنوبية منع السودانيين 
الشماليين وغير السودانيين من دخول الجنوب بحسبانه منطقة مغلقة (اع5)6ال ل6دملء). 

- إصدار قانون ذى طابع حصرى يلزم التجار الشماليين المسلمين الذين تزايدت 
أعدادهم وتضاعف نفوذهم فى الجنوب بالحصول على أذونات خاصة لممارسة التجارة فى 
الإقليم. 

سياسة الفصل تلك» كانت مفضوحة إلى حد كبيرء فإلى جانب الحد من دخول الشماليين 
إلى الجنوب خشية تعريبه» حرم البريطانيون دخول الفلاته النيجيريون المسلمون من الغرب 
خوفاً من أسلمتهم للجنوب» وأمروا بترحيل من نزح منهم واستقر فى منطقة كافيا كنجى 
(مركز إدارى فى غرب بحر الغزال) حتى وإن اقتضى ذلك إغلاق المركز.(؟') تلك 
السياسة أخذت منحى عبثياً عندما حث الحكام الاستعماريون المحليون الدينكا المقيمين فى 
جنوب كردفان على العودة إلى الجنوبء واتجهوا لاختزال الاتصالات بين الشماليين 
والجنوبيين فى مناطق الرعى المشتركة إلى الحد الأدنى. وكانت قمة هذه العبثية القرارات 
التى حرمت على الجنوبيين تبنى الأسماء العربية أو ارتداء اللباس المنسوب للعرب.("") 

أكثر فعالية من كل هذه الإجراءات فى تكريس الانقسامء كان هو التعليم. فالتعليم فى 
الجنوب؛ منذ البدء؛ وجه نحو غاية بسيطة: تخريج أكبر عدد من الجنوبيين (المسيحيين) 
ليحلوا محل نظرائهم الشماليين. لتنفيذ هذه السياسة أرفدت الدولة» كما قلناء المدارس الإرسالية 
بمنح سخية:, وتخلت تخلياً شبه كامل عن قطاع التعليم. وكجزء من محاولات الإدارة 
والإرساليات لمحو أثر اللغة العربية فى الجنوبء انعقد مؤتمر الرجاف للغات فى عام ١1978‏ . 


113 


فى رحاب ذلك المؤتمر تلاقت وفود من جميع الإرساليات فى يوغندا والكونغو وشرق أفريقيا 
البريطانية (كينيا) بجانب ممثلين للمعهد الدولى للغات الآفريقية . وكان من أهم قرارات ذلك 
المؤتمر تطوير اللغات المحلية الجنوبية» وتشجيع استخدام اللغة الإنجليزية لقفل الطريق أمام 
اللغة العربية. لتحقيق الهدف الأول اعتمد المؤتمر تسع لغات محلية كوسائط للتعليم الأساسى 
هى البارىء الدينكاء الكريشء اللوتوكوء الموروء الاندجوء النوير» الشلكء والزاندى. الاهتمام 
بالثقافات المحلية ولغاتها أمرمحمودء بلا شك: ومحمود أيضأ السعى لإعادة الإحترام لهاء 
خاصة إن جاء ممن وصموا كل مواريث الجنوب الثقافية بالتخلف والبدائية . كما أن استخدام 
اللغات المحلية كوسائط للتعليم فى مرحلته الأساسية واجب حث عليه الكثير من علماء التربية 
لنجاعته فى عملية التعلم. هذا كله حسن وصائبء ولكن اللجوء لمثل هذه السياسة» لا لسبب إلا 
التحكم فى انتشار اللغة السودانية الوحيدة التى وحدت كل السودانيين» فأمر فى منتهى الحمق» 
خاصة وصناع هذه السياسة كانوا يدركون أن ليس من بين اللغات الجنوبية التسعء بما فى 
ذلك لغة الدينكا التى يتحدث بها حوالى نصف سكان الجنوب ٠‏ لغة واحدة استطاعت أن 
تتجاوز حدودها القبلية لتصبح لغة تواصل بين قبائل الجنوب الأخرى. من أوجه غباء تلك 
السياسة أيضاً لجوء الإدارة البريطانية » التى أفلحت فى توحيد السودان من خلال إدارة 
مركزية مهيمنة فى الخرطوم بصورة لم تتحقق من قبل (تحت حكم المهدية أو التركية)» إلى 
اتباع سياسة ثقافية تعيق التفاعل التاريخى الذى وحد الشمال؛ وبدأ يصبح أداة فاعلة للتوحيد 
بينه وبين الجنوب. وفى مرحلة متأخرة فطن الاستعماريون إلى غباء تلك السياسة لأن التعليم 
الإرسالى ركز كل اهتمامه على الجانب التبشيرى وأغفل إغفالاً كاملا التدريب على المهارات. 
نتيجة لذلك قامت الإدارة الاستعمارية بمراجعة كاملة للتعليم فى الجنوب؛: تلخصت فيما عرف 
بتقرير كوكس. وفى ذلك التقرير أوصى المستركوكس برفع مستوى التعليم فى الجنوب بهدف 
ضمه إلى نظام التعليم العام» وتوفير فرص التعليم للإناث» وإنشاء مراكز لتعليم المعلمين» 
وإدخال التدريب على المهارات فى مناهج التعليم.(١")‏ 

مهما يكن من شىء.؛ فمع نجاح التعليم الإرسالى فى خلق طبقة من المتعلمين الجنوبيين 
أصبحوا فيما بعد رأس رمح للحركة السياسية الحديثة فى الجدوبء إلا أنه أيضاً عمق من 


114 


مشاعر العداء نحو الشمال كله مما جعل من سياساته نذير شؤم على مستقبل السودان. 
التعليم الإرسالى أفرز أيضاً شعوراً متبادلاً بعدم الثقة» إن لم يكن العداء» بين متعلمى الشمال 
ومتعلمى الجنوب. ففى الوقت الذى عمق فيه تعليم الإرساليات شكوك الجنوبيين إزاء 
الشماليين بسبب ما غرسه فى نفوسهم من مرارة تجاه الشمال» أخذ الشماليون» يدورهم. 
ينظرون إلى كل المتعلمين الجنوبيين باعتبارهم عملاء للإستعمارء ومخالب قطط للكنيسة . 
وهكذا طغت الشكوك على عقول الطرفين» بالدرجة التى غيبت الحقائق» وطمرت المشاكل 
الحقيقية فى مغارات التهم المتبادلة . 

السياسة البريطانية لم تخل من خبث. هذا يظهر بجلاء فى رسائل السكرتير الإدارى. 
ماكمايكل لمديرى المديريات. فقد كتبء مثلاًء إلى مدير بحر الغزال يقترح عليه أن يكون 
اقتلاع شوكة العرب بطريقة ملائمة حتى نكون فى حالة الضرورة القصوى قادرين على 
الإجابة الكاملة على أى شكاوى ترد من الجهات المعنية("") . وبإشارته للجهات المعنية لم 
يكن ماكمايكل» فى تقديرناء حريصاً فقط على ألا يثير غضب أهل الشمالء بل أيضاً من لا 
يشاركه الرأى من رؤسائه. وكان ماكمايكل واضحاً فى التعبيرٍ عما انتواه» قال يدون تحفظ 
إجمالاًء بينما تعتبر اللغة العربية حالياً هى اللغة الرسمية والسائدة وسط كثير من الجنوبيين 
فإن هدفنا جميعاً يجب أن يكون إبطال هذه الفكرة عن طريق أساليب عملية('). ونشك 
كثيراً فى إن كان هذا الرأى هو الرأى الغالب بين الحكام البريطانيين فى الخرطوم ‏ هذا 
الظن يدعمه الراى الذى ابداه السير جون مافى 5 الحاكم العام (اكبر موظف فى الإدارة 
البريطانية بالخرطوم) حين قال: أينما ذهبت» سواء فى أعالى الايماتونق أو عند حدود 
الكونغو البلجيكية» أجد الجميع يتحدث اللغة العربية يمن فيهم الناطقون الرسميون باسم 
القبائل. إزاء هذه الحقيقة الواقعة أولا يجب علينا أن نتملى جيداً فيما نبذله من جهد ومال 
لقمع اللغة العربية . وبالفعل» أولا يجب علينا أن نتفكر فى أن العربية ‏ بالرغم من المخاطر 
التى سوف نواجه بسببها ‏ يمكن أن تصبح هى الأداة الفعالة لإنجاز سياساتنا.(؟") 

نخلص من هذا إلى أن دعاوى الحكم الاستعمارى حول حماية الهوية الثقافية للجنوب لم 
تكن صادرة عن رغبة صادقة فى الارتقاء بأهله» بل كانت حلقة من حلقات سياسة 


115 


مضطرية لا يحكمها منظور إستراتيجى. تلك الرعاية المزعومة للجنوب لم يصحبها أى 
تطوير اقتصادى للمنطقة أو جهد للارتقاء بأهله. لهذا كان غريبأ أن ينبرى المندوب 
البريطانى فى مجلس الأمن بالأمم المتحدة» السير الكسندر كادوقان:(*") ليدافع عن قانون 
المناطق المغلقة حين طالبت مصر بحقها فى السودان امام المجلس. بدفاعه عن ذلك 
القانون الذى اعتبره قانوناً حامياً للجنوب» استخدم كادوقان سلاحاً صدئاً؛ وهو صدئ لأنه 
إن تعرض لامتحانء لما كان ليكون فى مقدوره أن يأتى بإنجاز واحد للحكم البريطانى 
لتطوير تلك المحمية التى كان يدعى الدفاع عنها. ومن أكبر المفارقات أن اهتمام 
البريطانيين كان أكبر بتطوير الشمال: فى حين أغفلوا الجنوب الذى كانوا يدعون حمايته . 
لم تكن تلك مصادفة:ء وإنما كانت سياسة مقصودة . فوفقاً لقول كرومر: لن يسهل من الناحية 
الأخلاقية أى تبرير لدرك ذلك القطاع الكبير من السكان المسلمين السودانيين فى الحالة 
التى هم عليها الآن دون بذل كل جهد لمساعدتهم. أما عن الجنوب قال: لا يمكن تقديم أى 
خدمة له أكثر مما هو ضرورى لتسيير دولاب الحكم وصيانة القانون.('") وكان لكرومر 
أوضاف مهيئة لأفل الجنتوق("؟) تكن حدق الاستعمارئ اليد على المقاؤمة الصلية الت 
واجه بها الجنوبيون الاستعمار حتى الثلاثينيات(”"): وقد أتينا على وصف كرومر لتلك 
المقاومة . المؤرخون الشماليون والجنوبيون لم يعيروا اهتماماً كبيراً لتلك الصفحة من تاريخ 
الجنوب باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الكفاح الوطنى المناهض للاستعمار. وإن جاز القول 
بأن المؤرخين الشماليين لم يروا فى تلك المقاومة إلا عناداً بدائياً ضد التحضر (كما رآها 
كرومر)» فلا عذر للمؤرخين الجنوبيين (باستثناء قليل منهم)(؟')ء خاصة أولئك الذين ما 
انفكوا يتحدثون عن استلهام ماضى أقوامهم فى سبيل تشكيل وعى جديد. من جانب آخرء 
يجافى الحقائق المحللون السياسيون فى الشمال عندما يتحدثون عن الجنوب وكأنه الابن 
المدلل للاستعمارء إذ كان ابنهم المدلل حقاً هو الشمال؛ على الأقل فيما يتعلق بالتنمية. 
اهتمام الاستعمار بالجنوب اقتصرء إذن» على شىء واحد: استقرار الحكم بأقل تكلفة 
ممكنة . وبعد أربعة عقود من الزمان بدأت الإدارة الاستعمارية فى تنمية صورية للإقليم 
تمثلت فى مشروعات الاستوائية التى قام بالتخطيط لها الدكتور توتهل (أصبح فيما بعد مديراً 


116 


للزراعة وأول مدير لجامعة الخرطوم) . مشروع توتهل ورد فى مذكرة حافلة بالإيماءات 
العرقية عنوانها تجربة فى النهوض الاجتماعى بالعرقيات الأهلية فى المناطق النائية 

(جدععظ عامطدعظ ما كععد] ذباموعع نلم]1 ]0 عوعع تعسظ أوزعه5 عطا مأ أمعسمستعميعظ مك 
وحين أوصت خطة توتهل الأصلية بزراعة أريعة محاصيل نقدية: السكر ونخيل الزيت 
والبن والقطنء وقفت الإدارة المحلية عند القطن وحدهء لأنهاء كما زعمتء لا تعرف شيكآ 
عن المحصصولات الأخرى (البن والسكر) . ومن المدهش أن تصبح يوغنداء والتى تبلغ 
المنطقة المؤهلة لزراعة البن فى السودان قدر مساحتها (مساحة يوغندا) الكلية» هى أكبر 
منتج للبن فى القارة الأفريقية. 

أو ليس من المناسب إزاء كل هذا » أن يتساءل المرء عما إذا كان العزل السياسى والثقافى 
للجنوب لم يقد أيضاً إلى خسائر اقتصادية لذلك الإقليم خاصة بسبب الحد من التواصل 
التجارى بين المنطقتين. وماكذا لنثير مثل هذا التساؤل لو كان للاستعمار سياسة تنموية 
لجنوب السودان. عن هذا الرأى عبر ببلاغة أكاديمى محيط بتاريخ السودان قال: لوذهب 
الحكم الاستعمارى إلى توفير استثمارات أوروبية كبيرة فى الجنوب» لأصبحت الحكومة 
البريطانية فى الخمسينيات فى موقع أفضل لحماية المنطقة» ولكنها تعاملت مع جنوب 
السودان كتعاملها مع قفار الامبراطورية البريطانية الأولى التى يمكن التخلص منها كما 
تخلصت من ان الجديدة (101250نا1*0 7[6) ؛ أكثر من تعاملها معه كرقعة من 
الأرض يتحمل الاستعمار الأبوى (03:67121)المسئولية عنها. عوضاً عن ذلك الاهتمام: 
أغاق الجتوت غلن نفسة حتى أصيم متحفاً معلا فى الهواج ,(:8) 

مخلفات ثقافة الاسترقاق 

رغم كل شىءء لا مهرب من الإشادة بدور الحكم البريطانى فى القضاء على الاسترقاق 
فى السودان. نقول هذا دون إغفال لتهاون ذلك الحكم فى الإبقاء على الرقيق فى الشمال 
حتى منتصف العشرينيات فى القرن الماضى خوفاً من الأثر المدمر الذى كان سيحدثه 
تحريرهم وتسريحهم على الاقتصاد. فى تبرير ذلك؛ استعان الحكم البريطاتى بفتوى 


17 


أصدرها أحد علماء الشمال المرموقين.!'*) ذلك التهاون مع مؤسسة الرق فى الشمال؛ 
صحبته شدة وغلظة فى التعامل مع تجار الرقيق فى الجنوب» إذ أعدم فى عام ١104‏ تاجر 
الرقيق إبراهيم ود محمود الذى قبض عليه متلبساً جرمه فى منطقة قمبيلا. كما لم يتخل 
عن تلك التجارة المرذولة حتى بعض الذين أولتهم الإدارة الاستعمارية أمر الناس فى 
الشمال» ففى مطلع العشرينيات أبلغ السلطان على دينار (دارفور) حكومة الخرطوم بأن عبد 
الرحيم أبو قل الذى بعقه كتشئر لتعقب المهدويين نهب منهم مائتين وتسعين رأسأً من 
الرفيق وباعهم لحسابه. 

فى تناولنا لظاهرة الرق وآثارها فى فترتى الحكم التركى والدولة المهدية» أولينا اهتماماً 
لطبيعة مؤسسة الرق وجذورها التاريخية» أما فى هذا الجزء؛ سنولى الاهتمام لظاهرتين 
أخريين مترابطتين: الأولى هى تسريح الرقيق العسكرى وتكدسه فى عواصم الشمال مما قاد 
لتلاحم غير مسبوق بين السادة والعبيدء والثانية هى الأثر المعلن وغير المنطوق به لثقافة 
الرق السائدة فى ذلك الزمان. ففى رواية لأحد المؤرخين المعاصرين أدى تسريح الرقيق 
العسكرى إلى خلق شتات (08م8135) جنوبى فى الشمال كان له أثتره البالغ فى علاقات 
الشمال والجنوب من ناحية الثقافة» وتعميق النظرة العرقية» والتراتبية الطبقية.(”*) ظواهر 
هذا الصراع أخذت فى البروزعندما أمر المفتش العام للحكومة؛ سلاطين باشاء بوضع 
المسرحين من الجنود ذوى الأصول الجنوبية وغير العربية الأخرى (النوبة) فى مناطق 
سكنية خاصة عرفت فى بعض مدن الشمال ب "الرديف؛ وفى الجنوب ب الملكية؛ وكأن 
النؤيطاتييتة تإتجهد لي الجماعات فى جيتوهات معزولة» قد تغيأوا هذا العزل. وحين 
أصبحت أحياء "الملكية مركزاً للحياة الاجتماعية فى الجنوب؛: صار الرديف فى الشمال 
ملاذا ل العبيد الهاربين ومصدراً للعمالة الرخيصة التى كانت توظف إما فى الزراعة أو 
الخدمات المنزلية . وبحلول عام ١1177‏ كان هناكء حسبما أورد دالى» خمسة وثلاثون من 
هذه الجيتوهات يقطنها العبيد السابقون فى كردفانء والنيل الأبيض» والفونج» كيال 
النوبة .('*) وفى ظل الظروف بالغة السوء التى كان يعيشها الرقيق المسرّحون تحولت 
الجيتوهات إلى بور للجريمة . وكان واضحاً أن البريطانيين قد أرادوا بهذا العزل تحمقيق 


18 


أمرين متناقضين: الأول هو تعطيل اندماج المسرحين فى المجتمع الشمالى؛ والثانى هو 
حماية المجتمع الشمالى نفسه من ثقافة تحتية لا تجد التقدير الكافى سواء من الإنجليز!؛*) 
أو من السودانيين الشماليين أنفسهم. وبسبب تمايزهم الثقافى عن المجتمع من حولهم. 
والازدراء الذى يبديه نحوهم ذلك المجتمع كما يبديه الحكام » تضاعفت أزمة النازحين 
الجدد. وكانت الصفة التى أطلقها البريطانيون على المحاربين القدامى من أهل الجنوب هى 
المجندون السود (<1ن2اط 20115)60): مما يوحى بأن السواد فى السودانء فى نظر 
البريطانيين» كان مقصوراً على الجنوبيين والنوبة. ولا شك فى أن كثيراً من أهل الشمال 
كانوا فرحين بهذا التمييز اللونى الموهوم لأنه يرسخ فى أذهانهم خراقة الاسترقاق حسب 
اللون. بل إن الاستعمار الذى كان يميز عرب الشمال بأصولهم القبلية (الجعليين» الشايقية؛ 
الدناقلة)» لم يجد وصفا يطلقه على أبناء الجنوب والوسط (جبال النوبه) النازحين إلى 
الشمال غير الزنوج المنبتين (7687505 06165811260)» وكأنه بذلك أراد إلغاء أصولهم 
القبلية . ومن المذهل أن لا يكون موضوع الاسترقاق العسكرى وتبعاته (خاصة كما انعكست 
فى مورفولجية المستوطتات البشرية فى المدن الشمالية» ومواقف المجتمعات الشمالية من 
تلك المستوطنات) » رغم أهميته؛ محل اهتمام من الباحثين إلا قليلاً. ذكر جونسونء!(*”) 
أحد الباحثين الذين أسهموا بشكل كبير فى إماطة اللثام عن جوانب هامة من الموضوع؛ أن 
كلا من الانتشار الجغرافى للاسترقاق العسكرى فى السودان» وبشكل عام موضوع الرق فى 
السودان وبعض الدول الأفريقية الأخرىء لم يلقيا الدراسة الصريحة والبحث الشامل بسبب 
الحساسية المفرطة نحو الموضوع. 

إن تركنا جانباً ما كان يهدف إليه الاستعمار من العزل بين المجموعتينء فإن ذلك 
العزل لم يصبح حائلاً دون التواصل بينهماء وفى كثير من الأحيان بأسلوب غير مرئى. 
فبجانب إسهام سكان "الجيتوهات فى دفع اقتصاد الشمال (توفير العمالة)؛ أضافوا شيئاً آخر 
لم يكن فى الحسبان: التأثير على الثقافة الشمالية» خاصة فى الرقص والغناء عبر الموسيقى 
العسكرية (كنجى وبرنجى)» وعبر التام تام الأفريقى بإيقاعه الساخن:(7*) مما مثل إضافة 
هامة إلى النغم والإيقاع فى موسيقى الشمال. فحتى ذلك الوقت كان الطابعان الغالبان على 


١19 


الغناء فى السودان الوسيط هماء أولاً الدوبيت وحداء البدوء ومع روعة شعرهما إلا أن 
موسيقاهما اتسمت بالوتيرية والرتابة . كانا أقرب للمناجاة (17220]2]1005) ولم يتأثراء فيما 
يبدوء بالإيقاعات المركبة (©0001الاط]لااهم) التى كانت تتمتع بها أغانى النوبيين فى 
الشمال. الثانى هو الأماديح النبوية» والتى كانت أماديح سودانية خالصة لأنها نشأت فى 
بيئة مختلطة (مملكة سنار) وتمددت منها شمالاً. تلك الأماديح متحت من ميراث الغتاء 
الشعبىء وتأثرت كثيراً بأغانى العمل فى سنارء وبالتالى لم تعد كالأماديح النبوية المشرقية: 
لافى الجرس ولا الإيقاع. ومما يطرف ذكره أن الأثر الأكبر على الموسيقى العسكرية 
السودانية جاء به أبناء الشلك والنوبة فى الجيش لأنهم كانوا الأكثر عدداً بين جنوده من 
"المجندين السودء كما كانوا أول من تعلم الموسيقى الحديثة من البريطانيين ودونها. فجميع 
مارشات الجيش الأولىء والتى مازالت تردد إلى اليوم مثل شلكاوى واحد وشلكاوى اثنين» 
هى فى أصلها إما أغان شعبية لتلك القبائل؛ أو تفريعات عن تلك الأغانى. فشلكاوى رقم 
واحدء مثلاًء هو نفس النشيد الحربى الذى يردده الشلك عند الاستعداد للمعركة ويطلقون 
عليه اسم أجاك قوج طومء أ أجاك أقرع الطبل لإعلان الحرب لأن البلاد أصبحت مهددة 
بالعدوان. وظل أثر النوبة باقياً حتى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضىء إذ كانوا 
هم الفئة الوحيدة فى الجيش السودانى التى كانت عماداً لسلاح الموسيقى. من موقعهم ذلك 
قام النوبة بتدريب كثير من العازفين الذين صار لهم صيت ذائع فيما بعد, بل إن واحدأ 
منهم زُقلء هو الذى أوكل له تلحين النشيد الوطنى السودانى» والذى صاغه أساساً الأستاذ 
أحمد محمد صالح ليكون نشيداً للجيش , إلا أن الأزهرىء فى عجلته لإعلان الاستقلال» 
قرر اختياره نشيداً وطنياً. وكان زقل» فى تقدير من عرفه؛ واحداً من أعظم عازفى البوق 
(4©م12نس) فى الجيش السودانى. 

على أىء كان التأثير الثقافى متبادلاًء إذ دخل أبناء وأحفاد هؤلاء المنبتين فى النسيج 
الاجتماعى الشمالىء فتبنوا لغته ودانوا لديانته» واتخذوا عوائد أهله الاجتماعية فى الملبس» 
والأسماء» وأنماط الطعام. كما تبنت بعض الأسر الشمالية أبناءهم » أو تسرت من بناتهم 
دون أن تتبع هذا التبنى بمنحهم حقوقا أصلية مما يمنح للأبناء والبنات مثل حق الميراث» 


00 !ا 


أى لم يعنقهم من الرق أولادهم كما عتق إبراهيم ماريا. هؤلاء الأبناء والبنات ظلوا عاكفين 
داخل الأسر التى تبنتهم يقومون بالواجبات التى يأنف من أدائها السادة مثل جلب المياه 
ودفن الموتى. وكان السهم الأخير فى جعبة أناس تملكهم الخوف من الضياع فى عالم 
غريب عليهم هو انتحال نسب عربى لهم والتنكر لأصولهم. من بين هؤلاء برز نوابغ فى 
الأدب والشعر(”*) إلا أن ذلك النبوغ لم يصبح البتة السمة المميزة الوحيدة لهم عند أهل 
الشمال؛ فالصفة الألصق بهم ظلت هى أصلهم العرقى. ولسوء حظهم العاثر لم تقف معاناة 
أولتك المنبتين عند استهجان أهل الشمال لأصولهمء وإنما أصبحوا أيضأ محل استرابة من 
أهلهم؛ كما سنوضح. 

هذا الجانب فى تاريخ التنافر الشمالى ‏ الجنوبى غيبه المؤرخون السودان فى تناولهم 

ترة التى نتحدث عنهاء قصداً كان ذلك أو استحياء» علماً بأن الحقائق حول هذه الفترة 
مبسوطة» والشواهد عليها حية؛ والتعبير عنها يصفع المتلقى فى كل مجلس من مجالس أهل 
الشمال يغيب عنه المنبوذون. ففى مجالسهم الخاصة يسرف أهل الشمال فى إطلاق النعوت 
التهجينية على الآخرين؛ أما فى حضور هؤلاء الآخرين فيطوون أفندئهم على الأمر. فى 
ذلك شية من جبانه» وغير قليل من التهيب على الأقدام على أمر أو قول لا ينيغى للمرء أن 
يخشاه إن كان يؤمن حقاً بصدقه أو جدواه. هذا أمرلا يقوم عليه فاضل , ففضل المرء 
يقاس بأن لا يقول أو يفعل فى السرء ما يستحى عن قوله أو فعله فى العلانية . وإن تركنا 
عامة الناس لأوهام اصطنعوها وغذاها جهلهم» فلسنا بتاركين أهل العلم؛ أو من يدعون 
الانتماء إليه» فليس أشد إيلاماً للنفى من جبانة العارفين. كما أن إدامة على اختزال شخص 
أى شخص ‏ فى صفة واحدة » لا تعبرعن موقف لحظى انفعالى وإنما هى أمر قصدى 
يعكس دلالات راسخة فى الوجدان العام. فالتعبيرات السائدة» كما يقول علماء اللسنيات: 
تسكن قصلدية اللغة: 

لا وهمء إذنء من الإلماح إلى مخلفات ثقافة الرق» من بعد تتاولنا لجذوره التاريخية. 
تلك المخلفات تركت جرحاً غائراً فى العقل الجمعى لمن كانوا أوكان أسلافهم ضحايا 
للاسترقاقء ولولا بقاء تلك المخلفات لاندمل الجرح. صحيح أن النعوت ذات الطابع 


١21 


العنصرى التى يطلقها أهل الشمال العربى النيلى لا تقتصر على الجنوبيين وحدهم؛ بل 
يلاحقون بها أغلب أهل السودان من غير بنى جنسهم. إن صح التعبير. فمن ينحو لون 
بشرته إلى البياض (ذوو الأصول المصرية أو التركية) يسمى حلبياً (لا نسبة لأهل حلب 
وإنما للغجر الذين يعرفهم أهل السودان بالحلب أو الحلبه) . ومن يفد إلى مدنهم من البادية 
ينعتونه بالعربى أو العريبى (أى البدوى) وكأنهم يردون عرب السودان ‏ أى أنفسهم ‏ إلى 
البداوة. ومن الغريب أن هذا الدعت الذى يطلق على البدو الرحّل لايجىء فقط من أهل 
المدن, بل يطلقه عليهم أيضاً أهل الريف القارون ( (560602437)؛ مثال ذلك هجاء مقذع 
لإحدى شاعرات الشايقية وصفت فيه عرب البادية بالدونية: 
وكت جانا الزمان المدّن الدون 
خلينا ادن ما فيهاقاتون 
عرييى الوادى سوا الطبلة كيلون 
أهل الشمال النيلى أيضاً يصفون فى ازدراء من جاء إلى حماهم من غرب السودان 
بالغرابى» كما يطلقون على الدنقلاوى ‏ استغباء له حلاب التيس» وعلى النوبة من أهالى 
وادى حلفا لفظ "البرابرة. أما النعت المميز للجنوبيين فهو العبيدء وليته كان كتعبير أهل 
الشام الذى لا يعنون به غير اللون الأسود. فى السودان لا يحتمل التعبير إلا معنى واحداءٌ 
العبد الرقيقء لأنه كثيراً ما تكون بشرة العربى الذى يصدر عنه هذا التعبير النابى أسود من 
حبة البركة»؛ ولا بركة فيه. 
مثل هذه النعوت يتداولها عامة الناس فى المجتمعات الأخرى ضد بعضهم البعضء 
ولكنها ليست بالشيوع الذى نراه لنظيراتها فى السودانء وقلما تدور فى مجالس المستنيرين 
منهم. فالإنجليزى كثيراً ما يرمى الاسكتلندى بالبخل» والأوروبيون البيض كثيراً ما ينعتون 
أهل ت شرق آسيا بالصفر أو ذوى العيون الضيقة المستطيلة (5عإ© 5116) كما يشيع بين عامة 
البيض فى أمريكا ‏ خاصة فى الولايات الجنوبية ‏ تعبير العبد الزنجى مصغراً (معععذم) 
إشارة للمواطن الأسود ذى الأصول الأفريقية. ولكن رغم شيوع ذلك التعبير عند العامة 
يتعرض المتفوه به» خاصة إن كان يحتل موقعاً عام أو اجتماعياً لمحاسبة عسيرة حتى ولو 


122 


جاء التعبير همسأً. كما فعل نيكسون مع أحد وزرائهء(**) وكما فعل الرئيس بوش هذا العام 
مع واحد من أكبر زعماء حزبه» ترينت لوت» زعيم الأغلبية فى مجلس الشيوخ . (5*) 
وسرعان ما انضمت إلى تلك الحملة كل الصحافة» بما فيها الصحف اليمينية . المجتمعات 
التى تحاسب مواطنيها على مثل تلك التجاوزات لا تفعل هذا لأنها أفضل من مجتمعاتناء أو 
أكثر احتراماً للإنسانء وإنما لأنها تدرك أولاً التداعيات السياسية والاجتماعية لتجاوز حدود 
اللياقة العامة» وثانياً لاهتمام المجتمع المدنى فيها بأمور جدها جدء وهزلها جد لما لها من 
انعكاسات. ولكنء عندما يشارك أهل ذلك المجتمع المدنى (المعلمون »الصحفيون ءالسياسيون) 
فى الصمت عن هذه الرذائل» بل فى بعض الأحيان الانغماس فيهاء يصبح التواطؤ جماعياً. 
من جانب آخرء لا تترك النعوت التهجينية التى يطلقها أهل الشمال النيلى على إخوتهم من 
ذوى الأصول المصرية أو التركية أو على النوبيين والدناقلة» أثرأ فى تفوس هؤلاء ٠‏ بل 
يستخفون بها لأنهم أصحاب أياد سابقة وسابغة على السودان. منهم من أسس أسلافه 
الحضارة السودانية الوحيدة التى يفاخر بها السودان» ومنهم من ساد أسلافه السودان الشمالى 
وخكمنوة» ومنهم من غلم أهل السودان الشمالى أضول دينهم . آمنا الجنوبى فعد كان دوم 
مكان احتقار عند الشمالى منذ أن توحد السودان على يدى محمد على باشاء هو صالح 
للاسترقاق فحسب. هذه هى الحقائق التى تلاحقنا حتى اليوم؛ فبأى آلاء الحقيقة تكذبون! 
أخلد بنا التعافى النفسى من الأوضاع المترسبة فى العقل» فبهذا وحده يكون التصالح مع 
الذات. وبدون تصالح مع الذات لن يكون هناك تصالح مع الآخر. 
600 


زمه 


خلاصة 
خلال حكمهم الذى دام أربعة وستين عاماً لم يفلح الأتراك فى تهدئة قبائل الشمال 
تمامأء وبدرجة أكبر كان إخفاقهم فى تهدئة الجنوب. مع هذا لا بد من الاعتراف بنجاحهم 
أولاً فى إقامة حكم مركزى فى السودان؛ وثانياً فى توحيد الشمال والجنوب والغرب والشرقء 
وثالثاً فى التطوير النسبى للبنى التحتية الاجتماعية والمادية. تلك المركزية الإدارية قربت 


13 


الجنوب من الشمالء إلا أنها قادت لتصعيد تجارة الرقيق » خاصة فى العقود الثلاثة الأولى 
من نظام الحكمء بصورة تركت أثراً عميقاً فى نفوس الجنوبيين. وحين لقيت مرحلة المهدية 
ترحيباً كبيراً فى بداية عهدها من السودانيين الحانقين على استبداد الأتراك» إلا أنها 
أجهضت عمليات التطوير التى شرع فيها النظام التركى المبادء إذ لم يكن ذلك التطوير من 
أولوياتها. فالمهدى مع عبقريته؛ء والخليفة مع ذكائه؛ لم يتعاملا مع حقائق الحياة كما هى 
على الأرضء وما كان لمن يتوهم أن أحكامه كلها كانت تصدر بإرادة سماوية» أن يهتم بما 
يجوس فى صدور أهل الأرض . امتثالاً لتلك الوهوم اندفع النظام فى مغامرات خارجية» 
وجنح إلى قسوة داخلية غير مسبوقة» ليس فقط ضد القبائل التى والته أوكان لها دور فى 
محاربة الأتراك»!'') وإنما أيضاً ضد بعض الرجال الذين استماتوا فى الدفاع عنه.('1) 
هكذا فشلت الدولة المهدية فى خلق أمة مترابطة تجمع قبائل الشمال المسلم» ناهيك عن أهل 
الملل الأخرى. 

العهد الاستعمارى الذى تلى المهدية قام بجهد لا ينكر فى تركيز الوحدة وإنشاء الدولة 
الحديتة»ء خاصة فى الشمال. إلا أنه أيضاً عمق من التنافر بين السودانيين فى الشمال» وبلغ 
بالتنافر أقصى درجاته فى العلاقة بين الشمال والجنوب. ففى الشمال لجأ الحكم الاستعمارى 
إلى استغلال وتعميق الخلافات الموروثة بين القيادات التقليدية بالقدر الذى راه ضروريا : 
لتكريس بقائه وحماية مصالحه؛ كما لاذ إلى نفس الحيلة لاصطناع الخلافات بين النخب 
التقليدية والنخب المتعلمة الحديثة عندما اشتد عودها. أما فى الجنوبء: فقد استحدث 
الاستعمار قوانين وإجراءات كان لها أثر مدمر على البلاد كلهاء وعلى الجنوب بوجه 
كاسن 

على الجانب الاقتصادىء ركز الاستعمار جهده فى تطوير الشمال النيلى ‏ لا حبأً فيه 
وإنما لأنه يمثل الرقعة الوحيدة فى القطر التى توافرت فيها البيئة الملائمة للاستثمار. فى 
تلك المنطقة أنفق الكثير من المال على إنشاء البنى التحتية: السكك الحديدية» النقل النهرى. 
الغوانى البخَرَية»:اللتعاهد الخلمية :فى :حون أغفل الجدوب: وكل للنتاطق الثائية عن العامة 
إغفالاً تاماً. ولم يكن ذلك نتيجة سياسة متعمدة لإفقار الجنوب أو المناطق الأخرى التى 


124 


تجاوزتها التنمية الاقتصادية»ء بقدر ما كان تداعياً طبيعياً لتخطيط اقتصادى استعمارى 
يهدف لتحقيق أكبر عائد للاستعمار بأقل تكلفة. وفق هذا المنظور كان الجنوب أرضاً 
محرمة» يعسر استغلالها دون إنفاق ضخم لإزاحة معوقات الاستغلال وتوفير البيئة الصالحة 
للاستثمار وذلك إنفاق محفوف بالمخاطر ولا يحقق العائد الامبريالى السريع. لهذاء ركز 
الاستعمار التنمية فى الشمال النيلى وهمّشتء بسبب هذه السياسة؛ المناطق الأخرى بما فيها 
الجنوب, الوسط (جبال النوبة) . والغرب (دارفور) ؛ والشرق (أرض البجة)» والجنوب 
الشرقى (مناطق الفونج) . بل لعلنا نضيف أيضاً أقاصى الشمال التى لم يصبها من فيض 
التنمية إلا وشل» بسبب ما يسميه رجال الاقتصاد نظرية الأثر الانتشارى «ندهل 18عء1,]) 
.101 هذا البعد الاقتصادى للأزمة لم يلق نصيبه الكامل من التمعن فى معظم 
المناقشات التى تدور حول التهميش الاقتصادى للجنوب أو أطراف السودان الأخرى . لذلك» 
مع الاعتراف بدور السياسات الاستعمارية فى خلق ظاهرة التهميشء لا تملك إعفاء الحكم 
الوطنى من المسئولية عن تعميق التهميش بإبقائه على مناهج التنمية الموروثة من 
الاستعمارء ولعدم استشرافه للآثار التى ستترتب على ذلك. 
ينبغى أيضأ أن لا يغيب عن الذاكرة أن التهميش الاقتصادى (والذى له نظائر فى أقاليم 
أخرى بالسودان) ليس وحده هو أصل الصراع بين الشمال والجنوب؛ إذ عمقت من الصراع 
عوامل أخرى مثل العرق والدين والثقافة . هذه الظواهر التلاث ليست؛ بطبعهاء مدعاة 
للنزاع أو التصارعء ولكنها أخذت بعداً آخر فى السودان لما صحبها من تضخم فى الذات. 
من جانبء وإحساس بالدونية من جانب آخر. وكان لثقافة الرق وما خلفته من مواريث؛ أثر 
كبير فى إذكاء ذلك الصراع. وإن كان للاستعمار دور فى إلهاب مشاعر الجنوبيين ضد 
الشماليين بسبب الرقء فإن للشماليين أنفسهم دورا فى الإبقاء على المفاهيم الموروثة من 
ثقافة الرق » مما قاد إلى استفحال الأمور. أما الاضطهاد الدينى فتعود جذوره إلى المهدية» 
أول نظام إسلامى للحكم فى السودان سعى لإعادة أسلمة المسلمين» وكأنهم خرجوا من ملة 
الإسلام؛ وفرّض الإسلام على غير أهل ملته كارهين. (هروب ثلاثة آلاف قبطى سودانى 
إلى مصر فى ذلك العهدء ومصر بلد إسلامى وإرغام من تبقى منهم على الخروج عن 


125 


ملته) . خلط الحاكم بين مسئوليته عن إدارة الوطن» ودوره كداعية تتجاوز رسالته الوطن» 
أوهن الوطن» وأضر بالدعوة . لكل هذه الأسباب يصبح التذرع بالعامل الخارجى (بما فى 
ذلك الاستعمار) » كسبب أوحد للأزمة السودانية» طمساً للتاريخ. 

ممع 


هوامشل وإحالات 





(!) كتب اللورد كرومر فى رسالة منه لروزبيرى (الايرل ارشبولد روزييرى رئيس وزراء 
بريطانيا بين مارس 1844 و يونيو 1415) إذا لم يستول المصريون على السودانء فيوماً ما سيقدم 
على ذلك الإيطاليون أو الفرنسيون. وإننى لعلى شك كبير فى قدرتنا على إقصائهم عن السودان 
باتفاقيات ورقية. والذى أخشاه اليوم هو أن يفرض علينا نشاط الفرنسيين خطوة مبتسرة . ولتذكر 
أنهم» وإن اعترضوا على احتلال إنجلترا للسودانء إلا أنهم لا يستطيعون الاعتراض على إعادة مصر 
لاحتلاله . وثائق وزارة الخارجية البريطانية. 189512 انرمله 580/50/633/7.12 أبريل 1894 . 
. تأصدع مصطاع عط1 جع ناك أنمطتاءآ أه عأستاكم1 عمعصصسسك (2) 
(3) يونان لبيب رزقء التوابت والمتغيرات فى العلاقات المصرية ‏ السودانية»ء دار الهلال» 
4 وص ص99/384. 
(4) فرمان السلطان عبد المجيد ١>‏ فبراير 2١84"‏ 
50 عط أ جرماذ !11 ى .نولدجآ 51-13 لمد 1أ10] .لام 
(5) نفس المصدر. 
(6) أنشأ محمد على لأول مرة فى تاريخ السودان مدارس للتعليم المدنى النظامى فى دنقلاء 
الخرطومء التاكاء سواكنء كما أقام مدرسة عسكرية فى أسوان لتدريب العسكر السودانيين. 
(7) لريما كان إيفاد الطهطاوى إلى السودان نقياً له عن مصرء نسبة لتوجهاته النهضوية التى لم 
تكن ترضى الخديوىء ولهذا أفاد السودان كثيراً من حيث لم يحتسب. 
() فى معرض توصيفه للأمم فى كتابه الأبريز فى تلخيص باريز قسم الطهطاوى الأمم إلى 
همل متوحشينء و برابرة خشنين » وأهل الأدب والظرافة والتمدن. ومن الطريف أنه وضع من بين 
أهل التمدن مصر والشام واليمن والروم والعجم والأفرنج والمغرب وسنار(أول مملكة سودانية 
إسلامية) وبلاد أمريكاء فى حين وضع السودان (الأفارقة السود) بين الهمل المتوحشين الذين هم 
كالبهائم السارحة» لايعرفون الحلال من الحرام. 
الفلناك طحطيظ1" متعطتملط! مز ذعهلت لمهكن50 لته لمعنماذك ,عر 1 لمها .عمتل اندم برؤل رف) 
ويشير الكاتب الى أن وثائق فى حوزته تعود للعهد السنارى تفيد أن بعض وجهاء سواكن كانوا يمتلكون 
أرضأ فى بربرء وأن بعض الأسر الغنية فى المتمة انتقلت بتجارتها إلى الفاشر وكسلا. صفحة؟. 


17 


(10) مكى شبيكه: السودان عبر القرون» صفحة ١514,‏ 
(11) دخلت المسيحية السودان إبان مملكة علوة على يد القس لونغينيوس وبقيت حتى القرن 


الخامس عشر كدين رسمى للدولة. 
(12) الخلوة هى المكان الذى يعتزل فيه الفقيه الناس ويختلى بربه» وقد تطورت مواقع الاختلاء 
هذه إلى كتاتيب لتحفيظ القرآن. 


(13) المصدر ؛ أعلاه» صفحة 59؟. 
(14) ياقوت الحموىء» معجم البلدان» الجزء الثانى ص 77١,‏ 

1 آاآلب2100) 200 05ا10ا5,عدعة ,و5127 عاعداظ لسة صسهاذا :أدعءد5 .2 (15) 
(16) تلك الرسالة النادرة أجلاها على الناس المحقق المعروف عبد السلام هارون فى عام 


41 
(17) تنزلت الآية عند ما شكت أمتان عبد الله بن أبى لرسول الله لأنه يرغمهما على البغاء 
(ابن حجر الإصابة) 8 
2 لوع 510 لإمقاتائل/ا عدعصدلناد .لممعوناه[ خداعناهما (18) 
(19) نفس المصدر. 


مقلن5 عطا مذ نرمعء 51 بصفاتانك8] .ععتصسسط لعدع0 (20) 

(21) بجانب السودانيين المشهورين بتجارة الرقيق مثل الزبير رحمة منصورء والنور عنقره 
وكرم الله كركساوى اشتغل بتجارة الرقيق من المصرين أحمد العقاد. على أبو عمورىء أبو السعود. 
محجوب البصيلى وغطاس؛ ومن الشوام خليل الشامى؛ ومن الفرنسيين بلزاك. 

(22) نعوم شقير» تاريخ السودان» صفحة 77١‏ . 

(23) من هؤلاء محمد البلالى الذى قابل الخديوى فى مصر وأبلغه إن بيده وثيقة تملكه حفرة 
النحاس (منطقه غنية بالنحاس فى دارفور)» ودعا الخديوى لاحتلالها قبل أن تقع فى يد الزبير عز 
الدين اسماعيلء الزبير باشا ودوره فى السودان فى عهد الحكم المصرى. 

(24) حمل الزبير معه لكبير مصر ألف جندى مدجج بالسلاح» ومائة مثقال من الذهبء ومائة 
جواد عربىء ومائة وخمسين قنطاراً من سن الفيل» وأربعة أسود» وأربعة نمورء وست عشرة ببغاء . 

(25) قتل سليمان الزبير على يد حاكم بحر الغزال» الإيطالى روميلو قيسى بتعليمات من 
غوردون باشا. ومما أثار ثائرة الزبير مقتل ابنه رغم استسلامه لقيسى باشا. 

128 


(26) مكى شبيكةء السودان عبر القرون»ء صفحة27 والجعليون قبيلة من قبائل السودان 
المستعربة التى ترد أصولها إلى العباس بن عبد المطلب. 
اع اأضمعظ عمأحواك مدع كلم له سوعط كممتامععمء2 مدرو[ جلوئئ8ا (27) 
9 ع1 مامز 5121065 .مع ننه طئك ه.ىة (28) 
33م تعلاط عقنا مز غ120 عنإداك له نوع داك .بإعطدا"0 مدعد (29) 
2138-2 تعانصةأناد االهدكد]/1 .كمازءأمد؟ا «عز دللا (30) 
1_0 أو دوععووط ع1 .زإاأن] كتصوغعط 31) 
129 وعنان1 عط لدملاع8 نهآ .كدتااه © امعطهه 32١‏ 

. بلغ الرق أوجه فى عهد الامبراطور منليك » وظل الأحباش الأمهراء حتى عهد قريب‎ )33١ 
يطلقون على الاورومو أسم القالا وهو اسم تهجينى.‎ 

(34) يقول برونيير ٠١(‏ أعلاه) إن التعليمات ظلت تصدر من قصر عابدين لحاكم الخرطوم 
تحثه على الاستمرار فى تجنيد القادرين من الزنوج فى الجيش حتى بعد معاهدة الرق. صفحة 
8 

. (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل)‎ 15١ 

6 )الإمام السيوطى (العرف الوردى فى أخبار المهدى). الإمام القرطبى (التذكرة) » 
البرزنجى (الإشاعة فى إشارات الساعة) » الإمام الشعرانى (اليواقيت والجواهر). الصابونى (المهدى 
وأشراط الساعة) » والشوكانى ( التوضيح فى تواتر ما جاء من الأحاديث فى المهدى المنتظر والدجال 
المسيح) . 

(37) محمد أحمد الحاج 8.130 46,163 ذأ مقلن5 

,اذ 15 85/120150 .عتدع مالالا لأمداععظ8 ر38 

(30) ونستون تشرشيل» حرب النمرء ترجمه عز الدين محمودهء الهيئه المصرية العامة للكتاب» 
0٠"‏ يصفحة ه" . 

(40) جاء فى ذكره فى الطبقات أنه عندما ولد تكلم فى المهدء فقالت أمه يا دقالشة جاكم 

(!4)عبد الله على إبراهيم » الصراع بين المهدى والعلماء . 


129 


(42)كان الكحال يغدو ويروح بين الإسكندرية وغرب السودان ببضاعة تاجرة استولى عليها 
محمد خالد زقل » فلجأ إلى المهدى يطلب نصرته؛ وفى سبيل ذلك أعلن بيعته للمهدى. كمكافأة 
على هذه البيعة » لم يرد له المهدى بضاعته فحسب, بل قلده الولاية على الشام. وادعى الكحال» 
من بعد أنه صائر إلى الشام لتولى أمرها إلا أنه انتهى إلى الأسكندرية ‏ بعد أن اطمأنت نفسه ‏ 
ليعود ليقلب المال والسلع . 

(43) أشار الصادق المهدىء فى بعض محاضراته فى مصرء إلى مبايعة أحمد العوام للمهدى 
فى الخرطوم لتأكيد هذه الأسطورة. والعوام خطيب من خطباء الثورة العرابية نفاه الإنجليز إلى 
السودان وتوافق نفيه مع ظهور المهدية فتشيع لهاء وكان له فيها رسالة مشهورة تعرف ب نصيحة 
العوام أعلن فيها كرهه للنظام الخديوى. 

(44) من ذلك قول ابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث عن إمام المعتزلة فى زمانه؛ إبراهيم بن 
سيار النظام؛ أكثر شيوخ المعتزلة معرفة بالكتاب » وإلمامأ بالفلسفة » وقدرة على المناظرة» وبراعة 
فى توليد المعانى. قال عنه ابن قتيبة: شاطر من الشطار يغدو على سكرء ويروح على سكرء ويبيت 
على جرائرهاء ويدخل فى الأدناسء, ويرتكب الفواحش والشائنات. 

(45) نعوم شقيرء تاريخ السودان» صفحة 4887. 

(46) النقس هو نجاشى الحبشة » وألفوتا أى أدركونا. 

(47) المصدر 4 5 أعلاه » صفحة 504. 

(48) نفس المصدر » صفحة 70١‏ . 

لامعل أن 5ن تصسمصلامآ .عوعد] حنممط ره4) 

صفحة 38 . يقول فراتسيس أن الدينكا أسموا المهدى, فى بعض ترانيمهم . ابن دينق. 

(50) فرانسيس دينق : أفارقة بين عالمين»ء ص .١١4‏ 

(51) محمد إبراهيم نقدء علاقات الرق» صفحة 777 . يشير نقدء فى مبحته القيمء بأدلة لا 
يتطرق إليها الشك إلى كيف كان الرقيق يصنف فى سجلات بيت المال حسب السن والجنس 
ويضاف إلى قائمة غنائم الحرب كالأبقار والحمير والأغنام . 
نأك .من بورع كلك عمالعدعع1 كمملندعلاكده) لوعوعوءط لم لمع ماعل! .عنطسلما اععطو) 0كدط ردي 


1883-6 لفل ناك اينهذ .خدتأاه) .2.0 77ط. 53 


(54) عبد الوهاب الأفندى» 5ماناأو/ء2 5أطمه)با1» صفحة 955 . 

(55) المصدر 5١‏ أعلاه» صفحة 48؟ 

(56) صفحة "١‏ عط .00ل002) .وعالطبة© معط .نووع 5130 لقة مجليك 

(57) إشارة» المصدر 7١‏ أعلاه» صفحة 747 . 

(58) المصدر 95" أعلاه» صفحة .0١‏ 

(59) المصدر" أعلاه؛ إشارة صفحة .٠١7‏ 

املاعظ ممعلن1ة .معوو 0 لما 2.248 (160 
(!6)رسالة كرومر إلى وزير الخارجية البريطانية » التقرير السنوى للحاكم العام (5١6١)ء‏ دار 
الوثائق السودانية. 

(62)فى محاضرة للورد كتشنر فى يوغندا (سبتمبر1817) (قبل فتح السودان قال أن لم يقبت 
المسيحيون أوضاعهم فى أفريقيا سيبقى المجال مفتوحاً أمام المحمديين العرب ليجعلوا من تلك القارة 
مرتكزاً لحملتهم لإقصاء المؤثرات الحضارية إلى الساحل حتى ينتهى الأمر بالبلاد إلى الرق وسوء 
الحكم: كما هو الحال فى السودان اليوم. 

اك .مه .ؤ5وع0ان1 غط) عوملاء8 لمما .كمرالم0 17ط 
منطدكم أن دردملعسصتكا عاتستعطكوط عط أه الوط لمد ع1]15 ع1 .سسحطاعنع1]1 منالاده[ (63) 

(64) بوكان ينحدر من أسرة اسكتلندية عريقة» وكان والده قسأء إلا أنه عمل بالدبلوماسية» 
والسياسة» والبرلمان؛ والصحافة . 

(65) فى رسالة إلى هنرى لانسداون (وزير الخارجية) كتب كرومر لا اعتراض لى على ترك 
مجال واسع للمبشرين وسط السكان السود الوثنيين فى المناطق الاستوائية» ولكن إطلاق العنان فى 
الوقت الحاضر للمبشرين للعمل وسط المسلمين المتعصبين فى الشمال» فأمر يقارب الجنون. وثائق 
وزارة الخارجية البريطانية طنتعة/720/50/633/1 ,1١9:٠‏ 

(66) اللورد فريدريك لوقارد عسكرى وإدارى بريطانى عمل فى الهند وأفريقيا » وذاع صيته بعد 
أن أصبح حاكماً على نيجيريا وكلف بتوحيد القطر. وكان أكبر إنجازاته» من وجهة نظر 
الاستعماريين» إدخال نظام الحكم غير المباشر والذى لخصه فى كتابه (ا2د<1 ع1 مذ ع)دلهدالا 
ةلم اذعامه1 نشر فى عام 19157 . 


131 


(67) كتب هندرسونء وكان واحداً من الحكام الإستعماريين المستنيرين يقول: من الشمال إلى 
الجنوب يمثل السودان مقتطفا نموذجيا ( هه6011: 55م0) لشمال أفرب يقياء قاعدته النيل 125172 
.نك اطنامعظ صدلن5) ,و«مذرعلم116 وفى هذا الرأى شارك هندرسون معلمه السير دوقلاس نيوبولد» ففى 
محاضرة لنيوبولد بالمركز العربى بالقدس (أكتوبر147١‏ (قال اللغة والدين والوعى الوطنى يربط شمال 
السودان» دون شكء بالمجموعة العربية وليس أى جماعة أخرى. ولكن رغم استعرابهم ما تزال بعض 
وجوه الثقافات الأفريقية مغروسة فى عروبتهمء كما فى إسلامهم. وفى لسانهم العربى مازال هناك أثر 
لمؤثرات أفريقية ونوبية وحامية. «مد,ءلمع2.]81.؟1 .466 2 ,مدلن5 دمعله81 1ه ومتعلدالز 112 

(68) على سبيل المثال أعفى مديرو المديريات الجنوبية عن الالتزام بحضور الاجتماعات 
التداولية السنوية التى كانت تضم حكام الجنوب والشمال معأء كما وجهت الخرطوم حكام المديريات 
الجنوبية لبناء جسور التعاون بينهم وبين الحكام البريطانيين فى المناطق المحاذية لجنوب السودان 
فى شرق أفريقيا ويوغندا. 

3 1889-1956 نعاناكآ اعتاوفظ ععل0ول] لدجقط أه عتطحظ معان /الا :نمودتف ]ك5 .ذح (60) 
8 ,لاد تلهمه2)1]! لكة لمكتله رتعمم] .صنتطمظ اعلطه عتطتملبك8 . 707) 

(71)المصدر 75 أعلاهء ص ص .1191/-1١5‏ 

(72) المصدر 7٠١‏ أعلاه . 

(73) نفس المصدر . 

(74) مذكرة من الحاكم العام فى ١"‏ يونيو3977١»ء‏ دار الوثائق السودانية . 

(75) محاضر مجلس الأمن » المحضر 47 لعام ١1551‏ . 

(76) المصدر١/‏ أعلاه » صفحة١/.‏ 

(77) فى تقريره السنوى )١104(‏ كتب كرومر لا أظن أن أكثر المتحمسين للدفاع عن المساواة 
فى الحقوق بين أهل كل الأعراق والديانات سيستطيع عملياً تطبيق إجراءات كتلك التى تتبع فى 
محكمتى ليون وباريس فى حالة الشلكاوى كوات واد أو يتنق الذى قتل اجوك واد دينق لأن الأخير 
أصاب ابنه بالسحر فأكله التمساح. 

(78) فى عام ١1١١‏ هاجم الدينكا اقارمركز رمبيك؛ وفى ععام ١1١‏ ثار الزاندى ضد 
البريطانيين عقب مقتل واحد من زعمائهمء وبين ١17١ ١1١١‏ دخل الدينكا اتوت فى حروب 
متقطعة ضد الحكم البريطانى؛ وفى 117١‏ هزم الأنواك قوة بريطانية تضم 554 جنديأ وبقيت 


132 


مناطق الأنواك مستقلة عن السودان الإنجليزى ‏ المصرى لمدة ثمانى سنوات؛ وفى ١114‏ هاجم 

الدينكا عالياب حامية بريطانية وقتلوا قائدها كما قتلوا مدير مدقلا . 
(79)على سبيل المثال :14218 داءع.1 كنا0ة2تر1ء فله دراسات فى هذا الموضوع نشرتها جامعة جويا. 
نولوط ./1ا.34 (80) 

فى ورشة عمل حول السودان بمركز كارترء اتلانتا فى عام 155٠‏ . 

(81) بطلب من ونجت أعد الشيخ مدثر الحجاز فتوى جاء فيها أنه لا يحق شرعا لأى رقيق أن 
يترك سيده دون أن يثبت أن السيد أساء معاملته» وأن على الحكومة أن تلتزم بهذه السياسة لمدة سبع 
سنوات حتى يدبر ملاك العبيد امرهم . رسالة من كرومر إلى اللورد سالسبرى فى ١١‏ ابريل ١655‏ . 
وثائق الخارجية البريطانية 280/50/406/151 

23-4 طط .. بمعنيها5 بمماناتل8 تمعمدن!ز5 هه (82) 
3 ,يعاال! عط مه عرتمصوط .نزلددا (83) 

(84) كتب جاكسونء أحد الإداريين الاستعماريين» يقول إن إطلاق العنان من جانب الحكومة 
للسود المسرحين سيعرض المجتمع لآلاف من الرجال والنساء الذين لا يملكون أى حس بالمسئولية 
الاجتماعية؛ وسيمثلون خطراً على الأمن العام والأخلاق .11 . ,هةلن5 80060 لمنطاء8 .موي13 
93-4 مم[ 

(85) المصدر ١8‏ أعلاه . 

(86) المصدر 7١‏ أعلاه 

(87) محمد وعيد الله عشرى الصديقء» عبد النبى عبد القادر مرسال 

(88) أعفى الرئيس نكسون ايرل بتزء وزير الزراعة فى حكومته» عند ما أذاع صحفى حديثآ 
خاصاً (ل:وده: ١56‏ 016) وصف فيه بتز الأمريكان السود بال .25ء188م 

(89) فى تصريح له خلال الاحتفال بمناسبة بلاغ ستروم ثيرموند عضو مجلس الشيوخ عن 
جنوب كارولايناء مائة عام» قال زعيم الأغلبية: لوو نجح ثيرموند فى انتخابات الرئاسة عام ١5144‏ 
لتغير الحال إلى أحسن فى الولايات المتحدة . وكان برنامج ثيرموند يقوم على الفصل العرقى فى 
أمريكا. وفى الحال قاد بوش وكبار رجالاته حملة على لوت ودعوا إلى عزله من موقعه. 

(90) مثل قبيلة الجعليين التى كان لها موقف مشهود ضد الأتراك أدى إلى استباحتها من 
جانبهم بقيادة محمد الدفتردار. رغم هذاء قاد إنكار الجعليين لدعوى المهدية إلى شبه إبادة لأهل 


13 


المتمة على يد محمود ود أحمد. وتقول الوثائق أنه لم يبق فى تلك المدينة بعد كتلة» أى موقعة المتمة 
غير ١٠٠١‏ شخص- 

(91)بسبب خلافه مع قائده الزاكى طملء أودع الخليفة الزاكى فى السجن ثم قتل رجمآً 
بالحجارة فى عام 1487ء وكان الخليفة قد أوكل للزاكى من قبل قتل الأشراف (أبناء عمومة 
المهدى)» ولم يجد الزاكى وسيلة للقضاء عليهم غير ضريهم بالنبابيت. وكان أحسن القواد حالة 
محمد خالد زقل وأبو قرجة اللذين نفيا إلى الجنوب وأفلحوا فى الهرب منه بعون من البلجيك. 


لالالا 


14 


«احذرممن لاييادلك 
الصمّعة النى وجهتها إليه . 
فهولنيسامحك.ولن 
يدعك تسامح نمعسك , 
60ت 300 8130 
ج.ب لللو: 

لآلا 


2 


١905-55 


الوطنية السودانيه 
منطفة محظورة على 
غيرالشماليين 


]5 


طوال فترة تنامى الحركة الوطنية فى أربعينيات القرن الماضى وحتى عام ».١1578‏ لم 
ترتكن السياسة السودانية إلى أيديولوجية دينية:» إلا أن الطابع الطائفى الدينى ظل يلقى 
بظلاله الكثيفة على السياسة فى الشمال. فالعداء الناجم عن الخلافات العميقة بين البيوتات 
الدينية» خاصة الطائفتين الكبيرتين (الختمية والأنصار)؛ كان ذا أثر مدمر على السياسة 
السودانية . تلك الخلافات» والتى ظلت خلافات شخصية أكثر مما هى مذهبية» لم تعمق 
فقط أزمة الدولة السودانية» بل أصبحت قوة دفع ذاتية إضافية للتذمر السياسى فى الجنوب» 
خاصة عندما اتجه البعضء داخل هذه الأحزاب وخارجهاء إلى العمل على أسلمة الدولة. 
وفيما نعلم» كان تأثير الدين على الحياة العامة حتى ذلك التاريخ» ذا طبيعة خاصة نظرأ 
للجوهر الفريد لإسلام أهل السودان. فالإسلام فى السودان مزيج بديع من العبادات 
والمعاملات الإسلامية» والالتزام بالقيم المعيارية للإسلام وغاياته النبيلة» مع تمسك غريب 
ببعض الموروثات الأفريقية من عادات وتقاليد. ويتفق المؤرخون(') على أن أهل السودان 
أخذوا الإسلام وطوعوه وفقا لعوائدهم الخاصة التى لا تتفق مع روح الإسلام مثل إحياء 
الموتى(")؛ بل كان بعض منها يتعارض مع أحكامه مثل الجمع بين الأختين فى الزواج 
(النساء 72/4؟)» ودخول الرجل على المرأة قبل انقضاء العدة(البقرة ١/؟54).‏ كانوا 
يفعلون ذلك بحكم ما ألفواء رغماً عن أن الحكم فى الحالتين قطعى فى كتاب الله. ومما 
يطرف ذكره أن أبابكر تجاوز ذلك الأمرفى حالة واحدة ولسبب سياسى() . ومن العوائد 
التى لا تتفق مع روح الإسلام ما أسماه ترمنجهام السحر الأبيض!*)؛ أى. الطقوس التى 
ظل يمارسها الفقهاء للتطبيب مثل المحاية والبخرة والعزيمة» ومع ذلك تنسب إلى الإسلام. 


1]37 


وفى رأى ترمنجهامء تؤكد تلك الممارسات الحضور الدائم لعالم الروح وتغلغل الطبقة التحتية 
للسحر والخرافة داخل النظم العاطفية للتقوى7”) . ليس غريباء إذن» أن تصبح قباب الأولياء 
أهم بكثير فى ترسيخ الانتماء الدينى من المساجد. الاستمساك بالموروثات القديمة (النوبية 
والزنجية) بين مسلمى الشمال يتمثل أيضاً فى طقوس الانتقال من حالة إلى حالة مثل 
الميلاد والزواج والموت. ولود ضيف الله» أكبر مؤرخ إخبارى للإسلام الشعبى السودانى» 
روايات كثر حول هذا ولا شك فى أن أولياء السودان كانوا يقاربون بين الدين والعادة 
ويقضون فى أحكامهم بما يحفظ سلامة مجتمعهم حسب مفاهيم زمانهم» حتى وإن كان فى 
أحكامهم تحرر من قيود الشريعة . كانوا أيضاً جد سعيدين بوضع منحهم سلطة غامضة على 
أتباعهم هى البركة. من جهة أخرىء داوم الحكام فى أعلى مستويات الدولة الإسلامية 
الأولى (مملكة سنار) يمارسون العوائد الروحانية الأفريقية» ويروى ترمنقهام أن بلاط سنار 
كان يضم أحد كجور (عرافى) النوبة ليستعين به الحاكم فى تصريف الأمور.(١)‏ 

انتشار الإسلام بين قبائل الشمال مثل النوبة والبجة يعود إلى الأسلوب الذى سلكه 
المهاجرون الأوائل من العرب المسلمين لمحاياة أهل موطنهم الجديد. فعبر مئات السنين 
هاجر البدو الأعراب والتجار والوعاظ الدينيون من شبه الجزيرة العربية إلى السودان: إما 
يهدف الدعوة للإسلام» أو بحثا عن الكل والمراعى الخضراء. ومن خلال هؤلاء المهاجرين 
تمكنت الإمبراطورية الإسلامية من تحقيق مراميها بالطرق السلمية لا بالفتح» كما حدث 
فى بلاد أخرى. ولربما لم يكن الحكام المسلمون راغبين فى غزو تلك المناطق لأنهم لم يروا 
فيها ما يشجع على الغزو. يؤكد هذا قول عبدالله بن سعد عندما استنكف غزو البجة وهو 
يقول: هؤلاء قوم لا يستحقون عهداً ولا صلحاً.(") ولربما كان أيضاً لإخفاقهم من قبل فى 
نشر الإسلام فى السودان عن طريق الفتح» كما حدث إبان حملة عقبة بن نافع على أرض 
النوبة» أو حملة عبد الله بن أبى السرح من بعده على عهد عمرو بن العاص لاقتحام 
دنقلاء سبب فى ذلك.(4) 

وعلى كلء اتجه المهاجرون إلى الجنوب حيث تتوافر الأراضى الخضراء والموارد المائية 
الوفيرة» وهناك غرسوا بذور لغتهم وثقافتهم. بعبارة أخرىء تركوا المناطق القريبة من 


1355 


أوطانهم والتى قدموا إليها عبر البحر الأحمر (أراضى البجة فى الشرق والنوبة فى الشمال) 
واتجهوا إلى مناطق الوسط حيث الماء أكثر وفرة» والمرعى أكثر اخضراراً. ولعل هذا يفسر 
انتشار العربية فى الوسط أكثر منها فى بلاد النوبة والبجة. فحين تعرب جميع أهل الوسط 
واتخذوا العربية لغة وثقافة» لازم النوبة والبجة (وهم أول من وطئ العرب أرضهم) لغتهم 
وثقافتهم الأصلية. جدير بالملاحظة؛ أن أولئك المهاجرين لم يذهبوا إلى هدم البنية 
الاجنماعية التقافية فى السودان الوسيط بقدرما قاموا بإعادة تشكيلها من الداخل إلى 
الخارج(؟). إعادة التشكيل هذه ما كانت لتتحقق لو نهجوا طريق المجابهة؛ وفى روايات ود 
ضيف الله قصص مذهلة عن تغليب الفقهاء القدامى للعادات المحلية على أحكام الفقه 
المتعارفة . هذه الإيماءة التاريخية تكذب ما ذهب إليه دعاة إعادة أسلمة السودان بعد قرون 
من ذلك الزمان لتأصيل الإسلام فى السودانء إلا إن كان المعنى بالتأصيل هو رده إلى نقاء 
الووفة لاس هية الأول أى إلى اشللاء فريش على أن أهل البودان وقريت يت ا يد 
وفتوره التادوااهن قوو] ها ان غريكيه الانتلايقة الأراى لهت سيف الردالا سلا 
الفرقى : وستاكان الإمبلام لدوسة فى السوفان لور شادد فيه الدعاة الأول .كما بشاده فى 
اموه الأشلا قيزر المحد و0 : 
أفلح المهاجرون أيضأً فى أن يجعلوا من العربية لغة تواصل بين شعوب البلاد المتباينة. 
كما أصبحت العربية لغة للتعامل مع العالم الخارجى»؛ خاصة فى مجال التجارة مع مصر 
وتركيا والحجاز. وقد عزز من مكانة اللغة العربية أنها كانت اللغة الوحيدة التى مكنت 
المسلمين من قراءة وفهم القران» الكتاب المقدس للعقيدة الجديدة . ففى ذلك الزمان الخالى 
لم تكن هناك تراجم للقرآن أو تراجمة له فى سودان النوية» علمأ بأن هناك ما يفيد بأن 
حكام دولة النوبة المسيحية قد ترجموا الإنجيل إلى لغتهم. ومع شيوع العربية كلغة أخذت 
الأشكال التعبيرية المختلفة باللغة العربية مثل الأحاجى والأماديح النبوية والشعر الصوفى 
تحتل مكانها فى الفضاء الثقافى والوعى الشعبى فى السودان الشمالى. 
فوق هذا وذاكء قام المهاجرون العرب بمصاهرة النوبيين وعاشوا فى حماهم وكان لهم 
بذلك معهم نسب وصهر؛ حتى أصبح الكثير من القيم والطقوس الإسلامية جزءا لا يتجزأ من 


139 


ثقافة المجتمعات النوبية دون أن يلجأ المهاجرون إلى محو تلك الثقافة أو تشويهها. يدل على 
هذاء كما أسلفت الإشارة» رسوخ بعض التقاليد النوبية الأفريقية حتى اليوم فى الطقوس 
المتعلقة بالزواج والميلاد والموت. لهذا يختلف الإسلام السودانى عن الإسلام الشرق أوسطى 
لتمازجه ‏ على المستوى الشعبى ‏ مع الكثير من العادات الحامية والحامية ‏ الزنجية: لدرجة 
يمكن معها القول بأن الإسلام فى السودان يختلف اختلافاً جذرياً عن إسلام عرب الشرق 
الأوسطء بل هوء فى بعض جوانبه» غير إسلامى من المنظور الأصولى للإسلام. وكانت 
الطرق الصوفية هى أكثر المؤسمات نفاذاً فى الإسلام السودانى» كما كان للذين يطلق عليهم. 
لزهدهمء اسم الفقرا أى الفقراء» القدح المعلى فى نشر الإسلام. نفوذ هؤلاء» فاق إلى حد كبير 
نفوذ الفقهاء (علماء الدين) لأن أسلوب الفقهاء الجدلى (015112ا085)» واستخدامهم المكتف 
للفقه للتقرير بشأن السلوك الإنسانى» كان أقل جذبأ للسودانى العادى. لهذا السبب» كانت 
جهود المتصوفة» بكل ما صحبها من رياضات روحانية ومعالجات باطنية» هى القوة الدافعة 
لتوحيد المسلمين فى السودان؛ أكثر بكثير من تعاليم الفقهاء. ولعب محمد على باشا دور كبير 
فى تجذير الطرق الصوفية فى أرض السودان لما أولاه لها من رعاية» وأحاطها به من عناية . 
غير أن الطرق الصوفية تطورت إلى ما هو أكبر من ظاهرة دينية؛ أصبحت مؤسسات 
للتنظيم الاجتماعى بالدرجة التى خلقت بؤرة جديدة للولاء تتجاوز القبلية والإقليمية . فبيتما 
كانت القبيلة فى السودان قبل ظهور الطرقء؛ كما ظلت فى الدول الأفريقية الأخرى؛ هى 
النواة التى يتوحد حولها الوعى الاجتماعى» قامت الطرق الصوفية فى السودان ينفس 
الوظيفة؛ وبشكل وحد بين قبائل السودان الشمالى. عملية التكامل هذه لم تتحقق فى 
الجدزفة4 ولزانما :سان سائن: ناذا عتجزت التسيحنة ع ترحيد الكنوؤيين بالقدن الذي تيم 
من تجاوز الانتماءات القبلية؟ السبب هو أن الإسلام فى شمال السودان كان دينا شعبيأء فى 
حين ظلت المسيحية فى الجنوب» كما كانت فى الشمال فى الماضىء دينأ نخبوياً. فعلى 
سبيل المثال كانت المسيحية النوبية فى الشمال بعيدة كل البعد عن حياة الناس رغم أنها 
كانت هى الدين الرسمى للدولة. وفى الجنوب دامت المسيحية أيضاً ديناً للنخبة ولأعداد 
قليلة ممن تحلقوا حول تلك النخبة» أما أغلبية أهل الجنوب فقد بقيت على أديانها التقليدية . 


40 


الطرق الصوفية بدأت كجماعات تتبع لبيوتات دينية معروفة» يرعى كل واحدة منها 
شيخ يتوارث أبناؤه القيادة» أى أنها التقت حول مؤسس تحمل اسمهء ويتعاور أبناؤه» كابراً 
عن كابرء قيادة الطريقة من بعده . بهذا الأسلوب ظل ولاء وإخلاص المتطرقين ينتقل إلى 
هؤلاء الورئة جيلاً بعد جيلء مما مكن الطرق من المحافظة على وحدتهاء وأيضاً على 
القداسة (0ا5010111) الموروثة لقياداتها. كان ذلك هو الحال حتى مع الجماعات الدينية التى 
حرمت الطرق الصوفية» كالمهدية. فرغم أن المهدى لم يؤسس طريقة صوفية يتداول 
قيادتها نسله من بعده ‏ شأن الطرق الصوفية الأخرى - إلا أن ابنه وخليفته؛ السيد عبد 
الرحمن بدأ هذه العملية» واقتفى أثره فيها بعد وقاته أبناؤه وأبناء أبنائه» ومازالوا فى هذا 
يصطرعون حتى اليوم . 

يرمى بنا هذا إلى ما هو أقرب لبحتنا: دور الطرق فى السياسة المعاصرة . وهنا نركز 
على مجموعتينء الأولى هى الطريقة الختمية التى أسسها السيد محمد عثمان الميرغنى 
(الأب) فى القرن السادس عشرء والأنصار التى أسسها أتباع المهدىء وطورها أبناؤه 
وأحفاده » إلى أن أصبحت شبه طريقة صوفية » رغم انتماء الأنصار لأصول معادية 
للصوفية . فخلال الحكم التركى كان الختمية على علاقة ودية مع ذلك الحكم» الأمرالذى 
لم يكن محل رضاء من الأنصارء بل تطور عدم الرضى إلى خصومة واحتراب دفعاء كما 
أوردناء إلى هجرة قيادات الختمية إلى مصر. من تلك الهجرة لم يعودوا إلا بعد انتهاء الحكم 
المهدوى. ومن التبسيط المخل أن يقول قائل أن قيادات الختمية خرجت من السودان مع 
استعمار وعادت إليه مع استعمار آخرء دون اعتبار لأثر السياسة النافية للآخر التى اتبعها 
الحكم الوطنى فى الفترة بين الاستعمارين. نضيف. أن الإدارة الاستعمارية الجديدة» مع 
سماحها للطرق أن تمارس نشاطها من جديدء لم تكن مطمئنة كل الاطمئتان للختمية الذين 
عادوا معها بسبب علائقهم الوثيقة مع مصر. وتشير الوثائق البريطانية إلى إيعاز الإدارة 
لبعض شيوخ الطرق الصغرى لمتابعة نشاط الختمية('') رغم تأييدها لهم؛ بحكم موقفهم 
المعادى للمهدية . تأييد السلطات الجديدة للختمية زاد من شكوك الأنصارء وتضاعفت تلك 
الشكوك باستمرار الختمية فى التعاطف مع مصرء فى وقت كان فيه الأنصار لايخفون 


141 


مخاوفهم من دعاوى مصر حول حق السيادة على السودان. نتيجة لهذه المخاوف والشكوك 
والاختلافات فى الرؤى عقب حلول الحكم الثنائى: وللاضطهاد خلال فترة حكم المهدية 
فى الثمانينيات من القرن التاسع عشرهء اتسم الحوار بين الطائفتين بالخصومة والصراع مما 
أغرق النظام السياسى فى عداوات تجاوزت الحدء ولم يكن من ورائها ثمة طائل. 

بيد أن المرء يلمس اختلافاً واضحاً بين أسلوب الطائفتين فى التعامل مع أمور السياسة: 
فقيادة الأنصارء من جانب» تبنت كل الجماعات السياسية المؤيدة للاستقلال. وقدمت لها 
كل الدعم المادى والمعنوىء إلا أنها أيضاً بنت سياستها التعبوية على أمجاد المهدية. من 
جانب الآخرء تركت قيادة الختمية مجال التنظيم السياسى مستقلاًء مكتفية بتقديم دعم 
أنصارها الجماهيرى للحزب الذى يقع عليه اختيارها('')؛ وكانت قيادة الختمية حريصة 
كل الحرص على إبراز تلك الخصوصية للطائفة» فعندما أخذء مثلاً. بعض السياسيين 
الموالين للطائفة (الدرديرى محمد عثمان ومحمد الحسن دياب وميرغنى حمزة وخلف الله 
خالد) التداول فى أمر المشاركة فى مؤسسات الحكم الثنائى» وأشاروا فى لقاءاتهم الجماهبربه 
بما يفيد تأييد قيادة الختمية لهم؛ أصدرت تلك القيادة بياناً يقول: "الختمية طائفة دينية 
تنتظم سواداً أعظم من الشعب السودانى ولم تكن هيئة سياسية ولا تمثلها هيئة سياسية وإنما 
بعض الختمية ينتسبون بصفاتهم الشخصية كمواطنين وآراؤهم هى آراء أحزابهم النى 
ينتمون إليها وأنهم لا يمثلون بتلك الآراء الطائفة الختمية("'). أكثر وضوحاً فى التعبير عن 
التمايز بين الطائفة والأحزابء الرأى الذى أبداه السيد على الميرغنى عندما أوفد 
الاستقلاليون وفداً إلى الأمم المتحدة بقيادة السيد صديق المهدى لينقل رأى أبيه وجماهبر 
الاستقلاليين حول مستقبل السودان. جاء فى برقية الميرغنى: كنت أرى أنه من مصلحة 
السودان ألا يتدخل زعيم دينى فى مسائل السياسة» الأمر الذى أطال إحجامى عن الخوض 
فيهاء وذلك حرصاً على أن يمارس جمهور الشعب حقه السياسى بحرية تامة من غير نأثير. 
أما الآن وقد تطورت الأهدافء. وتدخل زعيم دينى بإيفاد مندوب عنهء فنبدى أنه لا يمثل 
إلا أقلية('') . تلك البرقية دفعت محرر جريدة النيل» الأستاذ عبد الرحيم الأمين ليقول أن 
الميرغنى لم يخرج من صمته إلا ليقول أنه لا يريد أن يتكلم وأنه لا يريد غيره من القادرين 


42 


على الكلام أن يتكلموا أيضأ[*'). ولربما لولم يكن الصديق المهدى على رأس ذلك الوقد. 
لما نبس السيد على ببنت شفة.ء مما يبين مدى تمكن روح التنافى من عقول القيادات 
الطائفية. مجمل النشاط السياسى الذى كان يدور يومذاك كان بدعم من السيدين. 
وازدحمت به الساحة السياسية فى الشمال» كان مقصوراً على برنامج شمالى؛ فى حين كان 
الجنوب كله حتى عام ١175‏ فى حالة من السبات السياسى. 

على أن فترة الحرب العالمية الثانية كانت نقطة حاسمة فى تطور السودان السياسى لعدة 
أسباب: أولاً لأنها شهدت بدايات نهضة فكرية بين المتعلمين فى السودان. وثانياً لتساوق 
تلك النهضة مع نمو ملحوظ فى ثروات قيادات الطوائفء مما أكسب القيادات سلاحاً جدبدا 
وهاما فى معاركها السياسية. هذا الثراء لم يجىء من فراغ» بل كان نتيجة سياسة بريطانية 
محكمة. فرغم مخاوف البريطانيين من الأنصار باعتبارهم انقوة الأكثر تعبئة وحشدا 
لقواتهاء وكذلك الأشد خطراً بين الطوائف السودانية» آثروا أن يستخدموا مع زعيم الأنصار 
سياس الاستمالة بدلا من العزل .ومن القريب أن السيد عية الرحمن المهدى لم بيذ أي 
مناهضة مكشوفة للنظام حتى يقابل بذلك الجفاء. مبلغ الظن أن تلك المخاوف كانت تعود 
لتعصب أنصار المهدى وعدائهم الظاهر للأتراك الجدد. وكما ذكرنا من قبل؛ أشعلت تركيا 
نيران ثورة إسلامية ضد بربطانيا عندما دخلت ضدها فر الحرب العالمية الأولى. ولريما 
رأى البريطانيون أن التعاون مع المهدى باعتباره خصماً تقليديا للأتراك واستمالته لجانيهم. 
قد يفيد فى تحييد القوى المناصرة لمصرء وتبعاً لذلك لدولة الخلافة . وبالفعل أصدر المهدى 
بيانا لأنصاره ذكر فيه أن أعداءهم الحقيقيين هم الأتراك وليس البريطانيين. وكانت بداية 
الاستمالة هى السماح للمهدى بالعودة إلى الجزيرة أباء وإقطاعه أرضأ كبيرة استغلها بمهارة 
فى الزراعة وبدعم غير منكور من السلطة. ومع فرص الرخاء التى وفرت لزعيم الأنصار. 
اتجه الحكم الاستعمارى إلى دعم القيادات الدينية الأخرى: السيد على الميرغنى والشريف 
يوسف الهندىء إما فى صورة مشروعات زراعية: أو بمساندة طبقة التجار التى تنتمى 
غالبيتها العظمى للختمية. وهكذا تجمعت للنخب التقليدية (قادة الطوائف الدينية وزعماء 
القبائل الذين يدورون فى فلكهم) كل أدوات النفوذ. فإلى جانب السلطة الدينية - وهى سلطة 


|4145 


مرتضاة من الناس جعلت منهم قادة طبيعيين ‏ أضيف سلاحان آخران: السيطرة على 
وسائل الإنتاج» والقرب من السلطة الإدارية النافذة . 

ذهب البريطانيون من بعد إلى تكريم الزعامات الدينية تكريماً معنويأء فمنحوا الميرغنى 
واحداً من أرفع الأوسمة فى الامبراطورية البريطانية (6846©)؛ فى رتبة فارس (0طعذم)!) . 
وفيما روى لورد كرومر كان الزعيم السودانى سعيداً للغاية بهذا التكريم إذ عبرء كما قال اللورد؛ 
عن تقديزه لمآ نامث به بريطآئيا من أجل رفاهية السوقان (2') وبعينة ذلك التكرم معد 
المهدى أيضأ رتبة فارس من قبل التاج البريطانى؛ ولكن فى مستوى أقل (16815) .وفى إشارة 
إلى تقديره لذلك التكريم أهدى المهدى لمليكة بريطانيا سيف والده (المهدى)ء ولعله أرد أن 
يقول لصاحب التاج البريطانى: انتهى عهد الجهاد بالسيف؛ وجاء عهد تعاطى السياسة. 
وامتداداً لسياسة الإغراء البريطانى تلك؛ عين أحد أبناء الخليفة عبد الله (خليفة المهدى) 
كضابط معاون فى حاشية الحاكم العام. ذلك التقدير المشبوه للخصوم عبر عنه ونستون 
تشرشل فى ملاحظة محتشدة بالسخرية: كم هى رائعة أساليب إنجلترا » فابن المهدى أصبح 
فارساً تقديراً لخدماته للإمبراطورية» وابن الخليفة أصبح ضابطأ معاوناً للحاكم العام 
17 ل#اطع تنا ذا تاطقللا عط أه مود عط .لمداممع أن دلاود عط ععه الاتعلدةلاا) 
)للخ غطا عمروءة6 مقط مأتلفطعا عط أه عمد عط لهه .ععتمصط عط ما حعن | فج دارا 

(أمتعدةءن) تمدتكت 0 عط أن 

كثير من كتاب الشمال يسرفون فى الحديث عن استخدام البريطانيين لسياسة فرق تسد 
بين الجنوب والشمال بهدف شق الشمال عن الجنوب؛ ولكنى زعيم أن هذه السياسة قد 
استخدمت فى الشمال بدرجة أكبر من الجنوب» وأتت أكلها. 

600 

الأصول الغكرية الزائعة للقومية السودانية 

مع حلول الأربعينيات استطاع الشمال التعبير عن ذاته بشكل متجانس عبر الطرق 
الصوفيه التى وحدته فوق النعرات القبلية» وكانت بمثابة القابلة التى ولدت على يديها تلك 


144 


الوحدة . ومع أن الطرق الصوفية لم تتجه إلى تكوين أحزاب سياسية: إلا أنها قدمت تأييدها 
وسندها لطليعة المتعلمين (106111860]518) الذين أصبحوا العقل الموجه للحركة الوطنية. 
إزاء هذا السندء كان طبيعياً أن تتحول الأحزاب إلى واجهات سياسية لطائفتين دينيتين 
متعارضتين . هذا التعارض هو الذى أعجز النخبة الجديدة» منذ بدايات الحركة الوطنية» 
عن أن تقدم لأوطانها ما قدمته حركات التحرير الوطنية الأخرى : الوحدة الوطنية حول 
هدف مشتركء الرموز الوطنية المشتركةء المنظور الوطنى الموحد لقضايا الأمة. 

داخل تلك الطليعة كان لخريجى كلية غردون التذكارية الأثرالأكبر فى دفع الحركة 
الوطنية بالصورة التى تركت أثراً راسخاً على التطور السياسى للسودان. هذه الطليعة أوكلت 
لنفسهاء وهم أو حقيقة» مسئولية قيادة العمل الوطنى بقدر لا يتفق مع حجمها العددى. 
ومازال ذلك الفهم من جانب المتعلمين لدورهم فى المجال العام» مركوزاً فى عقولهم حتى 
اليوم . ولكن» تمشياً مع الطبيعة الانقسامية للسياسة السودانية (على أساس الازدواجية الطائفية 
وازدواجية التوالى مع طرفى الحكم الثنائى)؛ برزت نواتان للحركة الوطنية فى شكل منتديين 
فكريين» يتبادل أعضاؤهما الأفكار» ويتداولون فى مستقبل البلاد. ولعل اتجاه النخبة إلى 
العمل الفكرى كان انعكاساً لروح الإحباط التى اعتراها بعد فشل حركة الاتحاد السودانى 
وجمعية اللواء الأبيض7""'). المجموعة الأولى أسمت نفسها مدرسة أبى روف (منطقة بمدينة 
أم درمان على نهر النيل)؛ وكان لها فرع فى مدينة واد مدنى (فى إقليم الجزيرة)(""), 
وأغلب أعضائها كانوا ينتمون إلى الختمية» مع أن واحدأ من أكبر أقطاب ذاك المنتدى وآخر 
من رواده الدائمين كانا من أبناء الأنصار: عبد الله ميرغنى فى أم درمان وعبد الله عبد 
الرحمن نقد الله فى واد مدنى ثم أبى روف من بعد. وبطبيعة تكوينها كانت جماعة أبى 
روف تبدى تعاطفاً ملحوظأً مع التيارات الثقافية والحركة الوطنية فى مصرء كما اتخذت 
موقفاً عدائياً واضحاً ضد الإنجليز. ومع توجهها العروبى؛ أو بسبب منه؛ تجاهلت تلك 
المدرسة تجاهلاً تاماً كل التيارات الثقافية غير العربية» بما فيها تلك التى منحت إسلام 
السودان وعروبته طبعتهما الخاصة. وللباحث المرحوم خالد الكد دراسة أجاد تحقيقها (رسالة 
الدكتوراه لجامعة ريدنق)» عبر فيها بأمانة فكرية نادرة عن توجه تلك الجماعة ونعى عليها 


145 


عجزها عن إدراك الطبيعة الخاصة لإستعراب السودان الشمالى. تلك الرسالة لخصها فى 
إحدى دوريات جامعة الخرطوم» نشير إليها فى المراجع . أمانة الكد الفكرية صحبتها شجاعة 
أدبية» إذ أن مؤسسى تلك الجماعة هما أبوه وعمه حسن وحسين الكدء (وكان يناديهما أبوى 
حسن وأبوى حسين) . المجموعة الثانية أطلق عليها اسم مجموعة (الموردة ‏ الهاشماب) » 
وكانت أكثر شمولاً فى تمثيلها إذ ضمت بعض من يحسبون من الزنوج المنبتين» وكان بينهم 
نوابغ مثل الأخوين محمد وعبدالله عشرى الصديق.(*') ورغم الأصول الطائفية الأنصارية 
لكبار أفرادهاء إلا أن تلك المدرسةء كرصيفتهاء ضمت أيضأ بعضاً من أبناء الختمية» وكان 
على رأس هؤلاء السيد الفيل. ولكن مع تكوينها العرقى المتنوع» والجسارة الفكرية التى كانت 
تتناول بها بعض الموضوعات مثل قضية القومية السودانية» إلا أن تلك المدرسة لم تفلح فى 
تخطى حاجز التحيز العرقى» كما لم تفلح فى التصالح مع النفس حول قوام القومية السودانية. 
ولعلنا سنشير لاحقاً إلى مقولات اثنين من الرواد فى تلك الجماعة: محمد أحمد محجوب فى 
القصل الثامن وعرفات محمد عبد الله فى هذا الفصل . وقد نبه الباحث الكد إلى أمرينء الأول 
هو الترف الفكرى الذى شاب مناشط المدرستينء والثانى هو عمق روح التمايز العرقى حتى 
فى المدرسة التى كانت أقرب إلى فكرة القومية السودانية (مدرسة الهاشماب) . قال :ساد فيها 
(أى المدارس) فى البداية شىء من الترف العقلى والروح النخبوية حلقت بهم فى سماوات 
من التجريد المتعالى على واقع الصراع السياسى والاجتماعى ولكنهم أجبروا فى نهاية 
المطاف على الهبوط إلى أرض الواقع؛ (الأفندية ومفهوم القومية ص:١١)‏ . أما حول الجانب 
الثانى فقد أشار إلى الصراع بين (أبناء الهاشماب)»؛ أى المستعربةء و«أولاد الموردة:؛ أى ذوى 
الأصول الزنجية (محمد وعبدالله عشرى) . وإمعاناً فى تهجين أولاد الموردة صدرت مجلة 
النهضة التى كان يشرف عليها الهاشمابيون محلية صدرها بصورة للزبير باشا رحمه 
«المغفور له فى جنان الخلد.» مع نبذة عن سيرته فى بحر الغزال وإشادة يما قام به من 
«جلائل الأعمال؛ فى الجنوب. تضمن المقال أيضاً إشارة للهدايا التى حملها لخديوى مصرء 
ومنها ألفا رقيق مجندء ولعل تلك إيماءة للأصول التى انحدر منها رفاقهم المثقفونء إذ أن 
أغلبهم كان ينحدر من أبناء الضباط الذين عملوا فى جيش الخديوى وتم تحريرهم بعد إلغاء 


146 


الرق. (مجلة النهضة العدد ”187 أكتوبر )197١‏ . ويستنتج الكد أن هذا التوجه العنتصرى 
طرأ على الجماعة بعد إنضمام عرفات محمد عبدالله إليها. لهذا لا عجبء إن قدم عرفات 
جمعية اللواء الأبيض إلى أهل السودانء بالطريقة المشينة التى قدمها بها. اللواء الأبيض لم 
تكن تتمتع بتأييد النخبة الشمالية التقليدية لاستحقارها لبعض قيادتها مثل على عبد اللطيف. 
وعبد الفضيل الماظ بسبب أصولهما العرقية. ولهذا كتب عرفات ليجعل الجرعة مستساغة 
(ع0) عمندمعءععدئن؟ [اثم) يقول أن الجمعية تضم أيضاً رجالا من ذوى الأنساب.(9١)‏ 
وتقسيم أهل السودان إلى ذوى الأنساب وغير ذوى الأنسابء يبين عمق النظرة العنصرية 
لأبناء الوطن الواحد عند بعض الآباء الأوائل المؤسسين. 

وعلى كلء فمن خلال هذه الجماعات انبثقت الأحزاب السياسية التقليدية فى السودان. 
فالجماعة التى اختارت أن يكون للسودان كيان مستقل عن مصر اتجهت إلى طائفة الأنصار 
وكونت معها حزب الأمة؛ و تلك التى أعلنت تأييدها للوحدة مع مصر سعت إلى مساندة 
الميرغنى مما تمخض عنه قيام أحزاب اتحادية عديدة» توحدت فيما بعد تحت مظلة 
واحدة بدفع من مصر. على أن فى هذا القول اختزالا للحقيقة» فمحمد أحمد محجوبء 
ملاء والذى كان بمثابة الدينمو الدافع لمدرسة الهاشماب» خاض أول انتخابات مستقلاً وفاز 
فيها بتلك الصفة؛ ولم يجىء إنضمامه لحزب الأمة إلا عقب نجاحه. كما أن حزب 
الأزهرى (الأشقاء) ظل يتأرجح بين أحضان السيد عبد الرحمن والسيد على حتى استقر 
فى النهاية إلى الجانب الختمى. لهذا لم تكن القناعات السياسية دوم هى العامل المؤثر فى 
انضمام أهل الفكر إلى هذه الطائفة أو تلك» وإنما كان للنفعية السياسية دور مهم فى 
ذلك .('") 

ولعلنا نظلم تلك الطليعة إن عزونا كل مواقفها السياسية للانتهازية» إذ لاشك أنهم كانوا 
يدركون ماللطوائف من نفوذ جماهيرى لا يمكن تجاهله. علينا أيضا أن لانقلل من حرص 
جزء كبير من قيادات تلك الفترة على إرفاد العمل السياسى فى الشمال بأبعاد فكرية تنأى به 
عن الغوغائية. وسواء نجحوا فى ذلك أم فشلوا فتلك مسألة أخرى. قد يقول قائل أن فشل 
القيكية برمذاك فى تمفيق الأمان الذن عنقت ليها إننا يعو لأتتتصان خسبوماتها كن 
الجانب الطائفى التقليدى أو التنابذ الشخصىء حتى أصبحت المعارك تدور حول الشخصيات 


17 


أكثر منها حول الأفكار.وقد يعزى آخر العجز الفكرى إلى طبيعة التعليم الذى كان سائداء 
خاصة وقد كان التعليم الرسمى آنذاك موجهاء فى الأساسء لتخريج كوادر وسيطة تعين على 
التغلغل الاستعمارى؛ لكنء من الظلم بمكان إدانة كل ما أنتجه التعليم فى تلك الفترة . فذلك 
التعليم» مع قصورهء هو الذى مكن الأندية الثقافية من البروز ولعب دور هام فى قاد بعد 
فكرى على العمل الوطنى؛ مهما كان نوعه وحجمه؛ ورغم ماتسبنا إليه من نواقص. ذلك 
التعليم أيضاً لم يحل دون ظهور مفكرين قاموا بتعليم أنفسهم فأحسنوا التعليم» ومسئولين 
حكوميين أضحت نزاهتهم مضرب الأمثال. مرد قصور الآباء المؤسسين عن النظر إلى 
المشكلة السودانية فى شمولها وتعقيداتها ليس هو ضحالة التعليم» ولا انعدام الجرأة الفكرية: 
ولا النفعية السياسية» وإنما هوء فى تقديرناء العزلة الفكرية (ا)1221نا125 1ذنااء106116) التى 
فرضها على ذلك الجيل نسق فكرى مغلق كما سنبين فى الفصل الثامن. يكفى أن نقول هنا 
أن النخبة فى تلك المرحلة كانت أسيرة لثقافتين: ثقافة محلية سودانية ترفدها الثقافة العربية 
الإسلامية بكل مافيها من ذخائر معرفية ثرةء وانحيازات واضحة» وصور محددة ‏ وفى 
أغلب الأحيان ظالمة ‏ للآخرين؛ أى غير العرب. إلى جانب ثقافة طارئة جاءت مع 
المستعمرء وكان لتلك الثقافة أيضاً قيمها المعيارية ورؤاها الظالمة للآخرء هى الأخرى. تلك 
الرؤىء يا لسخرية الأقدارء كانت تطول فى منظار أصحابهاء السودانيين الشماليين أنفسهم . 
من ناحية أخرىء لم تتوفرء بأية صورة من الصورء للنخبة فى ذلك الزمان الفرصة:ء ولربما 
لم تكن لديهم الرغبة» فى الإلمام بثقافات أخرى تحيط بهم وتتخللهم (الثقافات الأفريقية) , 
كما لم يحرصوا على دراسة ثقافات محلية كان لها أثر كبير فى تكوينهم مثل الثقافة النوبية» 
بدعوى وثنيتها. ولعلنا لا نغالى إن قلنا أنه لم ينصرف أحد من أبناء ذلك الجيل إلى الاهتمام 
الفكرى بما يدور فى فضائهم الجغرافى والتاريخى (الأفريقى) غير رجلين: يعقوب عثمان 
الذى حملته علائقه فى بريطانيا مع جورج بادمورا'*) وكوامى نكروما على الاهتمام 
بحركات التحرر الأفريقى؛ وجمال محمد أحمد الذى وجه جانباً كبيراً من نشاطه لإجلاء 
الثقافات الأفريقية على السودانيين. 

ومع أننا سنعالج هذا الموضوع بصورة ة أوفى فى الفصل الثامنء إلا أنه يفيد التوقف قليلاٌ 
للفحص فيما نعنيه بالمنظار المستعار الذى كانت تنظر به تلك النخب للرجل الأسود. كانت 


148 


صورة الأفريقى الأسود عند المثقف الشمالى حينئذ (ولربما لا زالت فى أذهان البعض) 
مثقلة بالإيماءات العنصرية التى يشوبها قدر كبير من الاستعلاء. تلك الصورة والإيماءات 
تعود إلى الأوصاف النابية للسود فى الأعمال الكلاسيكية العربية وفى الثقافة الأوروبية 
بوجه عام .ويبدو أن أهل الفكر فى شمال السودان آنذاك قبلوا ذلك الافتراض كحقيقة مسلم 
بهاء خاصة وقد أغراهم الوهم بأن تلك الأوصاف الزرية العنصرية لا تنطبق عليهم. فمن 
جانبء رسخ البلدانيون (الجغرافيون) والأخباريون (المؤرخون) العرب. صورة قاتمة 
وشائهة عن السودان (أى السود) . تلك الصورة رسموهاء بكل تأكيدء بناء على الظن 
والتخمينء لا على الإدراك المباشر القائم على الملاحظة والاستنتاج. فالسودان الذى وصفه 
البلدانيون لم يكن كياناً جغرافياً محدداًء بل رقعة واسعة من الأرض ضعت الزنج (الاسم 
الذى أطلقه العرب والفرس على مواطنى شرق أفريقيا وشعوب القارة التى تتحدث اليانتو 
بصفة عامة)» والأحباشء والنوبيين. من أولتك المسعودى صاحب مروج الذهب ومعادن 
الجوهر الذى قال إن خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم إنما هو لضعف أدمغتهم وما 
نشأ عنه من ضعف عقولهم. هذه الملاحظات والأحكام لم تصدر فقط من البلدانيين بل 
شارك فيها مؤرخون وعلماء مشاهير مثل ابن خلدون وابن سينا. فمع إتكارابن خلدون 
للأوصاف التى أطلقها المسعودى على السودان لأنهاء على حد قوله كلام لا محصل له ولا 
برهان فيه» إلا أن المؤرخ الإسلامى العظيم ذهب للقول فى المقدمة الثالثة لديوان العبر أن 
أخلاق السودان قريبة من خلق الحيوانات العجم ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك. 
ويناقض أبن خلدون نفسه فى ذات المقدمة عندما يتحدث عن اعتدال نفر من السودان وهو 
الأقل النادر ‏ مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام وما بعده 
لهذا العهدء وأمثال مالى وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا 
العهد. بهذا الحكم يقرابن خلدون أن العادات والأحوال الاجتماعية والأخلاق تكتسب 
بالتمثل؛ لا بالأصل العرقى الموروث بدليل تأثر بعض السودان بالديانتين. ومن الغريب أن 
ينزلق لهذا الرأى الضيقء الشيخ الحكيم ابن سينا حين أفتى أن درجتى الحرارة فى أقصى 
طرفى التناسب (الحرارة الشديدة والبرودة القارسة) تؤهلان المرء للإستعبادء وكأن هذا 


149 


العالم الجليل المتطبب قد جعل من الصفات التى يكتسبها الإنسان بسبب عوامل الطبيعة؛ 
منبعاً أيضأ لصفات خلقيةء رغم أنه القائل فى أرجوزته الطبية: 
للزنج حَرٌَغَيرٌ الأجسادا 
حتى كسى جلودها سوادا 

رأى ابن سينا هذا طوره القاضى سعيد الأندلسى (توفى فى طليطلة عام ١7١٠)ء2‏ 
بصورة بالغة الفحش. قال إن السلاف والبلغار لبعدهم عن الشمس يتصفون بالغباء وعدم 
وضوح الذهنء كما أن الذين يتعرضون للحرارة المفرطة يصبحون سوداً حادى الطبع» 
لايملكون القدرة على ضبط النفس واستقرار العقل» كما يتصفون بالسخف والغباء» وهؤلاء 
هم النوبيون والأحباش والمتوحشون فى غانا وحقالة البشر من الزنج("") هؤلاء الثقاة لا 
يمكن أن يكونوا بهذه الدرجة من السخف والغباءء لولا أنهم أرادوا أن يختلقوا بناء فكرياً 
يبررون به استغلال مجتمعاتهم للآخرين. 

تلك الصورة أيضاً يحفل بها ديوان العرب (المتنبى مثلا)؛ كما تحفل بها الروايات 
الشعبية مثل ألف ليلة وليلة . والصور فى الروايات الشعبية» على الأخصء تعكس حقيقة ما 
يدور فى المخيال الشعبى. ففى حكايات الصيادء وحكايات السندباد البحرى صور زرية 
للأسود مثلء له عينان كأنهما شعلتان من نارء وله أنياب الخنازيرء وله فم عظيم الخلقة مثل 
البئرء وله مشافر مثل مشافر الجمل مرخية على صدره؛ وأظافر يديه مثل مخالب السبع. 
بل إن قوام كل الرواية هو القدرات الجنسية الخارقة للعبد الأسود. ذلك وهم ظل يلاحق 
شهريار الملك منذ أن وجد زوجته تعانق عبداً أسود فى فراشه . هذه النظرة المذلة تسربت 
حتى إلى الفقه الإسلامى وظللك ياقزة :فى المدوتات حكن اليم قطلى تسيل المكال» يفول 
مالك فى المدونة الكبرى أنه إن قيل لعربى يا حبشى أويا بربرى يقع الحد لأن فى ذلك 
القول قطعا للنسبء ولكن إن قال أحدهم لواحد من الموالى يارومى وهو فارسىء أو قال 
لبربرى يا حبشى لا يقع الحد. وكأن مالكا يريد أن يقول أن العرب وحدهم هم ذوو 
الأنساب» ولعل عرفات قد استمد رأيه التهجينى لصحبه المناضلين من غير ذوى الأنساب 
من الفقه المالكى. 


]50 


أما الصورة الأوروبية للأسود فترتكز على تفسير خاطئ للنظرية الداروينية» يصنف فيها 
السود كبشر متخلفين لا طريق لهم للنشوء والارتقاء إلا بتمثل المعايير الأوروبية للحضارة . 
تلك النظرة التحقيرية للسود أصبحت فلسفة ‏ إن لم تكن أيديولوجية ‏ لعقلنة العنصرية» 
بمعنى تكريس التمايز بين الأجناس على أساس موروثات بيولوجية لا صفات مكتسبة. ولا 
خلاف فى أن بين الأجناس تبايناًة تتوارثه جينياً مثل لون البشرة ونسيج الشعرء إلا أن هذه 
اناهن الحلقية له يستسبحيه ا نسب طقها: تابن حلقى . رغماً عن ذلك أصبح هذا التمايز 
المفترض أساساً أيديولوجياً لتبرير الاستعمار فى أفريقيا. فالمنطق الذى برر به المستعمرون 
غزوهم لأفريقيا لاشبيه له فى مناطق العالم الأخرى التى استعمروها مثل الهندء والشرق 
الأوسطء والصينء وأمريكا الجنوبية. فى أفريقيا وحدها برر المستعمر غزوه بأنه رسالة 
تحضيرية للرجل الأسود الذى يمثل عبئاً على الرجل الأبيض (7علعناط 'صهد عانط) . 

من الواضحء أن تلك الصور الازدرائية للرجل الأسود قد تركت أثراً لا ينكر فى أذهان 
أغلب مثقفى تلك الفترة» بل تبنوها دون تمحيص. لو فعلوا لأدركوا أن ذلك التوصيف 
المهين للسود ‏ ما جاء منه فى مقالات العرب أو الأوروبيين - ليس بعيداً عنهم: وإنما 
يشملهم أيضأء فالسودان عند العرب يشمل النوبة والبجة. وكأنا بأولئك الروادء دون وعى 
منهمء يحطون من أقدار أنفسهم . حتى الجاحظ الذى تشمر للدفاع عن السودان (رسالة فخر 
السودان على البيضان) لم ير فى فتيات النوبة إلا الجمال والجهل. قال للبيضان (العرب) : 
من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكفاء فى الجاهلية فى نسائكمء فلما جاء عدل الإسلام رأيتم 
ذلك فاسداً. وما بنا الرغبة عنكم مع أن البادية ملأى منا بمن تزوج ورأس وساد ومنع 
الزمار وكنفكم (ستركم) عن العدو. ومضى الجاحظ يقول: "وأنتم لم تروا الذين هم الزنج 
قط وإنما رأيتم السبى يجىء من سواحل قنبلة» جمال ولا عقول . وقنبلة» مكل دمقلة» اسم 
لدنقلا. يتضح من هذا أن متعلمى ذلك الزمان لم ينحوا فقط منحى قصدياً إلى القطيعة مع 
فضائهم الثقافى الأفريقى» بل أسوأ من ذلكء كانوا لا يعون بوجوده . ولا نبالغ إن قلنا أن 
ذلك الجيل من مستعرية السودان قد استراح لتلك الصورة لأنه كان على يقين تام بأنه 
عربى خالص. فى ذلك الوضع المريح وجد أبناء ذلك الجيل أيديولوجيتهم التى يبررون بها 


151 


الانشل «الإمرق اغلر جدن السودانافن خرن الغرت الكلمى مما كل عن :تلك المتسيرية 
الدفينة البؤرة التى تلاقت عندها كل الأفكار حول الجنوبيين والغرابه» وريما البجه والنوبيين 
«البرابرة:. 

من جانب آخرء لم يجهد أنفسهم مثقفو الشمال فى تلك المرحلة للتفطن فى حقائق 
بسيطة . واحدة من هذه الحقائق هى أن الثقافات لا تختلف فى جوهرهاء وإنما فى أشكالها 
ودرجة تطورها. كما أن الثقافات الفطرية لاتوصم بالبدائية لأن فى ذلك الوصف حكما 
معياريا ( :067اءع ناز 7216 )» ولا تستقيم الأحكام المعيارية إن لم يكن هناك توافق على 
المعيار. فالفطرة حال طبيعى؛ بل هى أصل الأصول. وعندما نقول فطر الله الأمر نعنى أنه 
أوجده ابتداء» تماماً كقولنا فطرت المرأة العجين» أى خبزته دون أن يختمر. فالنظرة للسود. 
خاصة الجنوبيين الذين لم يتعربوا أو يتمسلمواء لم تكن أبداً نظرة لكائنات بشرية وهبها الله 
سمات وخصائصء واتخذت لنفسها عادات اجتماعية وأنماط ثقافية تختلف عما ألفناه فى 
الشمالء وإنما لكائنات بدائية لم تروّض. هذه النظرة الاستعلائية لم تكن بنفس الحدة تجاه 
المجموعات السودانية غير العربية التى دانت للإسلام ولكنها أ أبقت على خصائصها الثقافية 
مثل الفور. بعبارة أخرىء كان هناك انطباع سائدء بل 5 32 يقين» بأن الجنوبيين غير 
المسلمين وغير العرب لا يمتلكون المهارات الإدراكية المعرفية (5ءاأناءة! 86 أأتمعمء) 
التى يمتلكها البشر الآخرون» مما يفرض على الأخ الأكبر (8ذط 0:0:56) أن ينقذهم من 
وهدتهم . هذه الدعوى ‏ مع افتراض نبل دوافعها ‏ فيها جرأة على الحق. فمن الذى قال بأن 
أهل تلك الثقافات الأخرى لايعتزون بثقافاتهم ويفخرون بهاء بصرف النظر عن القيمة التى 
يمنحها الآخرون لتلك التقافات؟ المثير للحيرة أن الموقف الذى اتخذت فيه النخبة الشمالية 
دور الأخ الأكبرالذى يتوجب عليه فرضأ رعاية إخوته الصغار فى الجنوب» كان مماثلاً 
تماماً لموقف المستعمرين من أفريقيا: الرسالة التحضيرية. ومن الصعب على المرء أن ينفى 
أن وراء هذه النظرة الرعوية» رغبة فى توكيد هيمنة الأكبر على الأصغرء وبالتالى إدامة 
مكاسب اجتماعية واقتصادية وسياسية حظى بها الأخ الأكبر. على أن استسلام النخبة 
المتعلمة للرؤية السائدة حول الجنوبى والتى تأسطرت حتى أصبحت من الثوابت 


152 


(0053]5) فى العقل الجمعى الشمالىء وركون تلك النخبة إلى ذلك الغطاء الاستعلائى 
الخادع» أفقد تلك الشريحة القدرة على التمرد الفكرىء ولا يبلغ المرء المرمى البعيد دون 
التمرد على أوهامه. 
وما بلغ المرمى البعيد سوى امرئ 
يروح ويغدو عرضة للجواذب 

قصارى هؤلاءء كان هو الاسترخاء النفسى بإلغاء الوجود الثقافى للآخر من الذاكرة لأن 
المظهر الخارجى لذلك الوجود يمثل تهديداً داخلياً لمن يسعى لإلغائه . كان من نتائج تلك 
النظرة أن 0 الوطنية الصغرى للشمال (]220108811 ناناذ متعط011ل2) هى 
الوطنية المفترضة لكل القطرء مما دفع غيرهم من المواطنين غير العرب وغير المسلمين 
للظن أن الوطنية السودانية أصبحت حيزاً مقفولا على الشماليين ومحظوراً على غيرهم من 
أقوام السودان. ولا ريب أن فى استرخاء النخبة لتلك النظرة تسطيحا للأمورء وتهوينا من 
تعقيدات السودان. ولو كانت تلك النظرة تنحصر عند عامة الناس من أهل الثقافة السماعية 
ممن عقولهم فى أذنيهم لأمكن إيجاد المعاذير لهاء ولكن أن يتبناها المنقفونء بل أن لا 
يحترز من الجهر بها بعضهم, فهذا خطب جلل. وكما أوردنا فى كتاب سابق7'')؛ من بين 
أولتك خضر حمدء رائد من رواد الاستقلال» وشاعر الوطنية الملحمى (مؤلف نشيد للعلاء 
للعلا)» ونجم من نجوم مدرسة أبى روف التقدمية. ففى مذكراته التى نشرت بعد عشر 
سنوات من رحيله روى خضر حمد قصة دارت عند زيارته للحجاز فى ١154‏ كأمير للحج 
(أى الرئيس الرسمى للحجيج السودانى إلى مكة)!؟"). بلا تحرج أورد صاحب المذكرات 
قصة سعيه لدى المسئولين السعوديين ليبين لهم الفرق بين السودانيين المرافقين له (أى 
العرب السودانيين) من جهة: والتكارنة(”")؛ من جهة ثانية. أغضب خصرء فيما روى» 
أن السعوديين لم يلحظوا بون شاسعاً بين الجماعتين. ذلك الخلط والالتباس» حسب رواية 
خضرء ما كان ليحدث لولا منح الاستعمار للتكارنة تأشيرات حج سودانية. 

أولنك التكارنة لم يجمعهم مع السودانيين الشماليين (أهلنا وأهل خضر حمد) الرباط 
الأفريقى فحسب » بل جمعت بينهم الديانة. وكان من المفترض أن يعين النسب الدينى 


153 


على تقريب التكارنة من المسلمين الشماليين؛ لأن الإسلام لا يفرق بين عربى وعجمى إلا 
بالتقوى. كان من المفترض كذلك ان لا تمثل الثقافة التحتية (ع5]أدات-0ا5؟) لمجموعات 
التكارنة التى استقرت بالسودان عائقاً يحول دون اندماجهم فى مجتمعات الشمال؛ أو فى 
اعتراف النخبة الشمالية بهم» خاصة وهم يشاركون تلك المجتمعات فى واحد من أهم 
خصائص الثقافة السائدة» ألا وهوالدين. ولكن حسبما أكد أحد الباحثين النيجيريين من 
الصعب فى السودان تبرير فكرة وجود ثقافة تحتية غرب أفريقية ككيان قائم ومختلف عن 
الثقافة المهيمنة أو السائدةء والتى هى القطب المتباين الذى تحدد بموجبه الثقافات التحتية 
الأخرىء إلا أن للسودان منظوراً آخر للثشقافة» بصرف النظر عن الإسلام. ذلك المنظور 
يستثنى النوبيين» وأهل جبال النوبة» والجماعات النيلوية والاستوائية . وبهذا الشكل فهو 
منظور عنصرى بالضرورة؟!"). لا أحسب أن صاحب هذا الرأى قد قرأ مذكرات خضر 
حمدء فلوفعل لمنى بشلل عقلىء إذ أنه ما كان ليظن بأن فى مقدور مثقف أفريقى أن 
يصدر أحكاماً يستهجن فيها شعبأ أفريقياً بأكمله بناء على أصلهء ناهيك عن يكون ذلك 
الاستهجان لشعب قدم لأفريقيا بعضاً من أفضل أدبائها وموسيقييها وجنودها. نتيجة لهذا 
التحيز اضطرت الأجيال الجديدة من التكارنة الذين اندمجوا فى المجتمع السودانى وشقوا 
طريقهم إلى مواقع مرموقة فى الدولة والبرلمان؛ إلى التظاهر بالانتماء لنسب عربى تخفيا 
من هويتهم الأصلية. هذا مافعله» كما أشرنا من قبلء أبناء الزنوج المنبتين فى شمال 
السودان. فأى إذلال للنفس هذا الذى يحمل الرجل على الاستحياء من أصله» بل على التنكر 
له؟ هذه الدرجة من العنصرية الحمقاء يمكن تجاهلها إن جاءت من شخص غير متعلم من 
الشمال» وليس من الذين اعتبروا صفوة الصفوة: أو كما كان يطلق عليهم البريطانيون 
يومذاك الشباب الذهبى (0*0566 6556 ناء[ 13) فوق ذلك لم يكن خضر حمد وزيرا أفى 
عدد من الحكومات التى كونت بعد الاستقلال؛ بل أصبح أيضاً عضواً فى مجلس رأس 
الدولة فى السودان» وهو الموقع الذى كان يتيح له المشاركة فى قمة منظمة الوحدة 
الأفريقية» والتباهى فى رحابها بدور السودان فى أفريقيا. أترى مدى التناقض الكامن فى 
تلك الرؤية والمواقف؟ 


14 


توحيد متسرع ومنحوس 1907-1940 

مع نهاية الحرب العالمية الثانية كان السودان يدار كدولتين منفصلتين. ذاك موقف لم 
ينل استحسان النخبة السياسية فى الشمالء ولهذا دعا مؤتمر الخريجين فى مذكرته الشهيرة 
عام 771147"') إلى إلغاء قانون المناطق المغلقة» وانفتاح الجنوب على الشمال» وتوحيد 
نظام التعليم فى القطر كلهء وأخيرأً منح السودانيين الحق فى تقرير مصيرهم. ما هوهذا 
المؤتمر؟ فى الثانى عشر من فبراير (شباط) ١954‏ اجتمع فى أم درمان ما ينيف على 
الألف من خريجى المدارس الثانوية (وهو عدد كبير من الخريجين بمقاييس ذلك الزمان) 
لإطلاق إشارة البدء بالكفاح الوطنى. وكان الأستاذ أحمد خير هو أول من عبر عن ضرورة 
وجود كيان يبلور رؤية السودانيين لمستقبلهم السياسى حتى يجتمع أمرهم على رأى موحد. 
ومن البداية» كان واضحاً ما يعنيه خير بالسودانيين» عندما أشار إلى الطبقة المستنيرة 
ودورها فى استغلال منابع القوة والنضال فى السودان. كنموذج لذلك الكيان المرتجى أشار 
أحمد خير إلى تجارب شين فين فى أيرلنداء والمؤتمر الهندى؛ والمجلس التركى (الكمالى) . 
وحزب الوفد المصرى.(*') ومن الغريب أن جميع الكيانات التى تمنى خير الاستهداء بها 
هى منظمات جماهيرية استمددت قوتها من سند قاعدى عريضء ولم تك تجمعات للطيقات 
المستنيرة فى بلادها. ولريما كان أحمد خيرء وهو صاحب الدعوة لنضال وطنى شاملء لا 
يدعو لتنظيم نخبوى تقتصر عضويته على الطبقة المستنيرة» وإنما أراد لهذه "الطبقة أن 
تكون الطليعة ورأس الرمح فى ذلك النضال. وعلى كل» استقر رأى المتعلمين الذين 
اجتمعوا فى فبراير58؟19 على إطلاق اسم المؤتمر على كيانهم الجديد تيمنا باسم المؤتمر 
الهندى. كما سجلوا صوت شكر لأحمد خير على فكرته .('') ويؤكد استقرار رأى المؤتمرين 
على إختيار إسم المؤتمر أن تجارب المؤتمر الهندى فى النضال السلمى (العصيان المدنى) 
ضد الإستعمار كانت مصدر إلهام لخريجى السودان. هذا ليس باستنتاج» بل هو أمر توثقه 
رواية محمد أحمد محجوبء عن أن مقولات غاندى ومؤلفات نهروء خاصة رسائله من 
السجن لابنته كانت من بين المقروءات الأكثر تداولاً بين أعضاء الأندية الثقافية.('؟) 
وجاء فى مذكرات أحمد محمد يس التى نشرت أخيرآء أن الضباط الباكستانيين الذين وفدوا 


135 


للسودان إبان الحرب العالمية الثانية كثيراً ما كانوا يدهشون من رؤية صور الماهاتما غاندى 
وجواهرلال نهرو معلقة على الحيطان فى مساكن مستضيفيهم من الخريجين» ويبدون 
غضبهم لأن مسلمى السودان لا يمجدون أهل دينهم من الهنود مثل محمد على جناح. 
يقول يس أن الرد على أولئك الغاضبين كان هو أن المهاتما يدعو لوحدة الهندء فى حين 
يدعو جناح وصحبه المسلمون إلى قيام بلدين منفصلين('"). فالتوافق فى الفكر السياسى 
والرؤى الوطنية فيما هو جلىء كان هو العنصر الحاسم لتحديد المواقف الوطنية لآباء 
الاستقلالء أكثر من الانتماء لأمة الإسلام. 

على أن تمثل الخريجين السودانيين بالمؤتمر الهندى؛ فيما يبدو لناء كان شكلياً واسميآ 
أكثر مما هواقتفاء للمضمون والمحتوى. فالتدقيق فى الحوارات التى دارت فى جلسات 
المؤتمر الأولى يكشف عن طغيان العموميات على الأطروحات السياسية التى كان يدور 
حولها النقاش في المؤتمر. قلة تلك هى التى كانت ذات رؤى واضحة حول مقومات 
الشخصية السودانية» وكيفية إزالة الانقسامات الأفقية والعمودية فى البلاد كما فعل الهنود. 
عن أذهان هذه القلة» لم تكن تلك القضايا غائبة» ففى حديث للمؤتمرينء مثلاًء قال جمال 
محمد أحمد: «السودان شعوب لا شعبء فنوبى الشمال؛: وعربى الوسطء وزنجى الجنوب 
والشرقء كل هذه عناصر متنافرة لا تألف بينها ولا تعاضد ولا تداخل.. ومضى جمال 
يقول: «إنها ليست عصبية» إذ ليس بيننا ثارات قديمة ولا أحقاد كامنة. ولست أرى أنجع 
من التقريب المادى بالتجارة» والرباط المعنوى بالخريجين خاصة. والمتعلمين عامة. وليس 
بضائر أن يطول الزمان فى صهر هذه الوحدات. .!"") تلك دععوة لوضع برنامج طويل 
المدى لإزالة العقبات فى طريق الوحدة الوطنية. وإلى حديث جمال نضيف دعوة عبد 
الماجد أحمد لخلق قومية سودانية» ودعوة محمد عامر بشير فى أوائل اجتماعات المؤتمر 
لنبذ القبلية ومطالبة الخريجين برفض الانتساب إلى قبائلهم فى الوثائق الرسمية كما كان هو 
الحال يومذاك. هذه الآراء تكشف عن رغبة فى النزوع عن كل ما يفرق. على أن أبلغ 
تعبير عن ذلك النزوع كان هو دعوة إسماعيل الأزهرى لتبنى رابطة المواطنة وإعلائها 
على كل رابطة. قال أزهرى: «أما أن لنا أن نثبت وجودنا ونعتز بسودانيتنا. إذا قسمت بلاد 


156 


الله إلى هند وصين ومصرء وساكن ذلك هندىء وهذا صينىء؛ وذا مصرىء فأنا وأنت 
سودانى وهذا سوداننا. وإن لم نكن سودانيين فماذا نكون؟:.("") وفى ملاحظة أكثر وضوحاً 
دعا أزهرى المواطنين لأن لا ينسبوا أبناءهم عند الولادة إلى قبائلهم لأن هذا عار على 
شعب يريد الوقوف على قدميه. ثم ناشد الشعب قائلاً: هيا ابن حلفاء يا سليل الجعليين» وأنت 
يا ابن الجنوب؛ يحق لكم الاعتزاز بمواطتكم وأصولكم. ولكن لا تنسوا أن الجميع يعيشون 
على ما تنبته الأرض السودانية. وأمام الأجانب كلكم تنسبون إلى وطنكم السودان. وأيام 
الشدة تحتملون المصائب كسودانيين. فسجلوها منذ الأن قومية واحدة وكلمة واحدة, ألا 
وهى سودانى:.(4") ورغم أن جون قرنق لم يطلع على سجلات تلك الفترة من تاريخ 
السودان, إلا أن اللافت للنظر أنه استخدم نفس التعبيرات فى مؤتمر كوكا دام )١9145(‏ وهو 
يدعو للمواطنة السودانية ‏ أىالسودانوية ‏ ككيان يعلو على الانقسامات القبلية والإثنية» 
والثقافية» والدينية . وبطريقة عابرة تناول أحد مناصرى المؤتمر أيضاً قضية أخرى هامة 
هى قضية الرقء وصف فيها الرق بأنه نقطة سوداء يجب أن تمحى من تاريخ 
السودان(*") . تلك الإشارات تبين أن القضايا التى نشرحها اليوم» لم تكن بعيدة عن أذهان 
بعض المؤتمرين» ولواتجه المؤتمر إلى خلق بؤرة ولاء للوطن يتجاوز التمايزات العرقية 
والفوارق الدينية» كما فعلت الطائفية بخلق ولاء يعلو على القبلية والعشائرية (الولاء 
للطرق)» لتغيرت الأوضاع. التيار السائد وسط الخريجين ‏ رغم الأفكار النصيحة التى أبداها 
بعضهم ‏ أبعد فى أمر فرض الهوية العربية ‏ الإسلامية على من هم ليسوا عرياً أو مسلمين. 

ومع الإقرار بأن الثقافة العربية الإسلامية هى النواة التى بسق منها التماسك 
الاجتماعى والثقافى فى الشمال» يستفز عقلنا كثيراً أن يشوب تلك الثقافة فى قطر متعدد 
الثقافات استعلاء ثقافى جهير. فعلى سبيل المثال كتب عرفات محمد عبد اللهء هذه المرة 
فى صحيفة الفجر الناطقة باسم إحدى المدرستين الفكريتين (مدرسة الموردة ‏ الهاشماب) 
أن الوطنية السودانية والانتماء لها لا يستقيمان إلا بإعادة كتابة (تأكيد من المؤلف) تاريخ 
السودان لتطهيره من الأفكار المعيبة» ودعم أركان الدين» والتسامى عن القبلية» والعناية 
باللغة العربية لتأكيد تفوقها (تأكيد من الكاتب) على اللغات الأخرى. هذه الأوصاف 


137 


لمقومات الوطنية السودانية لا تلغى السودانى غير المسلم وغير العربى فحسبء وإنما تلغى 
التاريخ السودانى كله فى فترة ما قبل الإسلام» وتنم عن استعلاء غير محبوب ولا مرغوب. 
فهى من ناحية تلغى وجود الحضارة النوبية» أى تلغى البعد العمودى للهوية بإفتراضها أن 
تاريخ السودان بدأ بدخول العرب والإسلام إليه. وهى من ناحية ثانية» تباهى ‏ دون حاجة 
لمباهاة ‏ بالعربية» فانتشار اللغة والثقافة العربية فى السودان ليس حتمياً لأنها لغة متفوقة» 
وإنما لأنها ضرورية لحياة الناس فى مجتمع آخذ فى الانتقال من مرحلة الضرورة إلى 
مراحل أعلى فى التطور الاجتماعى. هى ضرورية أيضاً للتواصل بين أقوام لا يربط بينهم 
لسان واحد. فى تعليق على ذلك المقال كتب مؤخراً باحث شمالى يقول إن بناء الوطنية 
على وحدة العقيدة والتفوق العرقى عمل معيب إلى أبعد الحدود لأنه يكشفء فى الواقعء 
عن رغبة لتبرير الهيمنة السياسية والاقتصادية لجماعة معينة على بقية المجتمع من غير 
بنى جنسهم.(١')‏ عن هذا الرأى عبر أيضأ بقول متقن الدكتور عبدالله على إبراهيم حين 
قال إن الجماعة العربية الإسلامية فى السودان تعاملت مع الجماعات المساكنة لها فى 
الوطن (السودان) كرجرجة بلا ثقافة ولا دين. اتهمت لغتها بالعجمة» ودينها بالوثنية» 
واتصلت دعوتها الفكرية المدعومة بإجراءات الدولة الوطنية لكسر المقومات الدينية واللغوية 
لهذه الجماعات الأفريقية لتستبدل لغتها باللغة الصواب (العربية)» والدين بالدين الصحيح 
(الإسلام)» نتيجة لهذا الموقف نشأ سوء تفاهم بين الجماعة العربية والإسلامية والجماعات 
الأفريقية فى السودان» وهو سوء التفاهم الذى تفجر فى حرب أهلية مازالت مستعرة .("") 

لا عجب إذنء إن تقلص السودان متعدد الأعراق والثقافات والديانات إلى مجرد حيز 
جغرافى بدون أمة موحدة. إن عملية بناء الأمة» بل فكرة الأمة ذاتهاء معضلة كبيرة. 
فالأمم ليست مؤسسات عضوية ملموسة بقدر ماهى مؤسسات تخيلية إلى حد كبير. ولربما 
كانت أيضأً فكرة طوبائية» والأفكار الطوبائية ليست حقيقة إلا بقدر إيمان المرء بها. فى 
نفس الوقتء ليست هناك أمة على وجه الأرض تشكلت من شعب متجانس تمامأ باستثناء 
هو الصين التى تمثل ععرقية الهان فيها أكثر من تسعين بالمائة من السكان. ولكن مهما 
نظرنا للأمرء فإن تكوين أمة أو وطن يستلزم» فى البدء» وعياً داخلياً من جانب المجموعات 


158 


الإنسانية التى تعيش فى حيز جغرافى محدد بضرورة وجود رباط بينهم. ويعرف 
البروفيسيور كيلاس الأمة بانها جماعة من الناس يشعرون فى قرارة أنفسهم بأنهم مجموعة 
موحدة تريط بينها روابط تاريخية وثقافية وتشترك فى سلسلة نسب واحد.("") ويذهب 
كيلاس إلى تقسيم الأمم والأوطان إلى أمم إثنية (والتى يمكن أن ينطبق عليها التعريف 
السابق), وأمم اجتماعية وهى التى تتشكل من أكثر من جماعة عرقية. وقد يكون رأى 
كيلاس حول الأمم الإثنية مقبولاً إلى حد معقولء لكن تطبيقه على مجتمعات تضم أكثر من 
جماعة عرقية ينذر بكارثة إن أصبحت الإثنية التى تتقرر على ضوئها ماهية الدولة هى 
إثنية الأغلبية المهيمنة. هذا بلا شك» ينطبق على السودان حيث تتخلل الجماعة العرقية 
المهيمنة جماعات عرقية أخرى. بل حيث يختلف الأقوام داخل الإثنية المهيمنة نفسها حول 
الصيرورة التاريخية التى أنتجت الهوية العرقية المزعومة للبلد. فالإثنية» بعكس الأصل أو 
النسب الذى يقوم على خصائص جسمانية موروثة» تتحدد ثقافيأ وفق صيرورة تاريخية. 
وربما يكون هذا التناقض الداخلى فى أطروحة كيلاس هو الذى قاد باحثين آخرين 
للاعتراض على تعريفه للوطن أو القومية . من أولئك الباحتين باريش الذى أكد أن الأهداف 
القومية المتفق عليهاء أو توافق وجهات النظر حول التاريخ الوطنى» ليست ضرورية لتكوين 
الأمة.(؟") فالأهداف القومية المتفق عليهاء حسب رأى باريشء تخضع دوماً لجدل وإعادة 
تعريف مستمرينء كما أن وجهات النظر حول التاريخ هى على الدوام عرضة لأقوال 
وتفسيرات متباينة تنقسم حولها الآراء. ولربما أضفنا لرأى باريش أن التاريخ القومى دوماً 
هو تاريخ أيديولوجى» بل شوفينى لأنه لا يركز إلا على أمجاد الأمة كما يصورها المؤرخ . 
هذا المنهج فى كتابة التاريخ لا يعين أبداً على الوصول إلى الحقائق المجردة. علاوة على 
ذلكء هناك دوماً عنصر اختيار وطوعية فى تشكيل الأمة» فلكيما تصبح وحدة الأمة أمرآً 
قابلاً للتطبيق» ينبغى أن تبنى على الإرادة الحرة وعنصر الاختيار. لهذا الرأى انتهى بعض 
الباحثين الذين دعوا بحماس شديد إلى بناء الأمة (114108ا7130100-8) عبر استراتيجية 
التحديث والتعبئة الاجتماعية كنا حاول الحكام والمفكرون الشماليون فى عهد ماقبل 
الاستقلال) . من هؤلاء كارل دوتش أحد آباء تلك الإستراتيجية:» ورائد فكرة التنحديث 


19 


والاتصال المتبادل كأدوات رئيسية لتحقيق التماسك القومى.('؟) إلا أن دوتش اعترف 
مؤخراً بأن التعبكة الاجتماعية قد تعزز اندماج الدول التى يشترك أهلها بالفعل فى اللغة 
والثقافة والبنية الاجتماعية» ولكنها فى نفس الوقت قد تضعف أو تدمر وحدة الأمة التى 
ينقسم سكانها عملياً إلى جماعات متعددة» مختلفة اللغى والثقافات وأساليب الحياة.(١؛)‏ 

نتيجة لهذه الصور الذهنية التى تشكلت فى عقول طبقة المتعلمين تجاه الجماعات العرقية 
السودانية الأقل نمواً على المستوى الاجتماعى» حصرت تلك الطبقة من المتعلمين أصحابها 
ناكل مجون كرية مقعددة » ولم تعد ترى فى الجماعات العزقية غير العربية» خاضة فى 
الجنوبء إلا قبائل متخلفة لاترقى إلى مستوى معاملتها كقوميات. وتعبير القبيلة (ع150) 
نفسه هو أحد المسكوكات اللفظية ذات الدلالة التهجينية التى اصطنعها الباحثون الغربيون 
والإدارات الاستعمارية لتوصيف الجماعات العرقية الأفريقية. هذا التوصيف يفترض أن هذه 
الجماعات لا تمتلك المقومات اللازمة لكيما تعتبر أممأ قائمة بذاتها أو نواة لأمم. بيد أن بعض 
هذه الجماعات تتمتع باستقلال واضح عمن حولهاء كما تتمتع بتنظيم اجتماعى فائق مثل 
الهوسا فى نيجيريا (وهم مجموعة ثقافية لا عرقية) » والدينكا فى السودان» والزولو فى جنوب 
أفريقيا. تلك المقومات تجعل من هذه المجموعات مشروع قوميات ناضجة:» أو كما يقول 
كونور قوميات احتمالية (20]6214121) بذاتها وفى حد ذاتها ©اءئ)ز مذ لص ؟اءكاز برط)("؟) 
وتؤكد التجربة الأفريقية أن هذه القوميات الكامنة متى ما جوبهت بقوة أكبر منها (كالمسيحية 
أو الإسلام ) تلجأ أما إلى الانصهار الانتقائى فى ثقافة القوة الجديدة (عن طريق اعتناق 
بعض ملامحها ودمج تلك الملامح داخل ثقافتها)» أو الإصرار على توكيد ثقافاتها الضعيفة 
نسبيأء وبخاصة عند ما تحاول القوة الأكبر منها فرض ثقافتها عنوة. كما أثبتت التجارب 
الأفريقية أيضاً أن محاولة استيعاب (35510112]109) القبائل أو القوميات المختلفة داخل ثقافه 
قوية » أمر يسهل تحقيقه أن صحبت محاولات الاستيعاب هذه سياسات تقنع تلك الجماعات 
بأن انتماءها إلى الثقافة الأوسع يخدم مصالحهاء ولا يلزمها بالتخلى عن الخصائص التى 
تعتز بها. 

وحدة شعب السودان المتنوع الأعراق ما كانت لتمثل أدنى مشكلة لوانتهج دعاة الوحدة 
فى الشمال السبيل الذى انتهجه أسلافهم فى نشر العربية والإسلام؛ عوضاً عن ذلك آثروا 


160 


لغة الاستعلاء وطريق الحرب. تلك هى البدايات التى انتهت بالسودان إلى ما انتهى إليه؛ 
أقمناه على ساق أعوجء والساق الأعوج عصى على الاعتدال حتى وإن توفر على علاجه 
أنطس جراحى العظام. وحتى اليوم ما زلنا عاجزين عن تحديد ماهية الوطنية السودانية» 
وجعلنا الصغار منا فى بلبال من الأمر. فمثلاً» يؤرقنا كثيراً ما تحفل به الصحف العريئة ‏ 
خاصة جريدتى الشرق الأوسط والحياة ‏ من لجاج بين المغتربين السودانيين حول من هو 
السودانى. فقلما نقرأ مساجلات تدور بين اللبنانيين ‏ مع خلافاتهم الطائفية والدينية - حول 
لبنانيتهمء أو نقرأ عن نزاع بين الجزائريين؛ مع الحدة الأخيرة التى صاحبت دعوة 
الأمازيغ للاعتراف بكينونتهم الثقافية» حول جزائريتهم. استمرار طرح هذا السؤال بعد 
مرور ما ينيف على الأربعين عاماً على الاستقلال أمر يكشف على التهويش والإختلاط 
الذى تفشى بين ناشئة السودانيين بسبب الأفكار الملتبسة التى أشاعها كبارهم, والذين لايقل 
اضطرابهم الفكرى عن ذلك الذى أعترى الناشئة. ومؤخراء ذهب أحد الباحثين المتعمقين 
فى دراسة التاريخ السودانى إلى طرح نفس السؤال آملا فى التوصل إلى هوية ذلك الإنسان 
الجديد المسمى بالسودانىء الذى لا هو بعربى صراحء ولا أفريقى صرف.('*) يقول المؤرخ 
أن هذا المخلوق لا يمكن أن يكون إلا سودانياً. تلك الحقيقة البدهية ما برحت غائبة عن 
أذهان كثيرين فى شمال السودان» وليس أدل على ذلك من تلاحيهم حول أصولهم على 
صفحات الصحف. أما بالنسبة ل "ابن الجنوب الذى كان مطالباً بالافتخار بسودانيته من 
جانب إسماعيل الأزهرى فى مؤتمر الخريجين: فلريما لا يملك منذ استقلال السودان وحتى 
اليوم جواباً على السؤال: هل أنت سودانى ؟» غير أن يقول: ريما أكون ذلك يوماً ما. 

على مستوى السياسة الفعلية تجلى فقدان الحساسية نحو الآخر (غير العريى وغير 
المسلم) فى ظاهرة تجدر الإشارة إليها , إلا وهى أسلوب الاختيار للمواقع العليا فى مؤتمر 
الخريجين فى الفترة .)١1147- ١934(‏ كان المؤتمر يدار عبر لجنة من 7١‏ عضواً (اللجنه 
الستينية) يتم اختيارهم من بين المتعلمين العاملين فى المكاتب الحكومية والتجارة . وخلال 
السنوات الست الأولى من انعقاد المؤتمر لم يقع الاختيار على أى عضو من الجنوب أو 
الغرب أو جبال النوبة أو وذلك هو الأهم ‏ من أبناء الزنوج المنبتين الذين تشمألواء لشغل 


161 


أى منصب قيادى فى المؤتمر. غياب أبناء الجنوب عن أى موقع فى المؤتمر أمر مفهوم إذ 
لم يكن الجنوبيون يومذاك جزءاً من التيار الوطنى» وحتى إن أراد واحد منهم ذلك لما سمح 
له الاستعمار. ذلك الحال لا ينطبق على المنبتين الذين أصبحوا جزءا لا يتجزأ من النسيج 
الاجتماعى الشمالى» وشارك الكثيرون منهم فى الكفاح الوطنى وأندية الحوار الأدبى. ومما 
يجدر بالذكر إشارة أحمد محمد يس فى مذكراته إلى أن اختيار أعضاء اللجنة الستينية كان 
يتم بالتشاور والانتقاء بهدف توحيد كل ألوان الطيف السياسى7؛؟) . تلك الألوان» فيما 
يبدوء لم تكن تتسع لغير أولاد البلد.(”؛) بمفردات تلك الفترة (وهى مفردات مازال 
البعض يستخدمها حتى اليوم) ظلت القيادة فى هذا الوطن الإسمى مقصورة على أولاد 
البلد. ذلك الاصطلاح يفترض أن من فى خارج نطاقه لا ينتمى للبلد. وفى هذا كان محمد 
عشرى الصديق محقاً عندما كتب: ٠«يقولون‏ أن السودان مهد التعصب. وأصدقكم أن هذا 
القول لا يفقد قيمته عند البحث والاستقراء. فلماذا نحن متعصبون؟ مايزال بيننا قوم 
يتعصبون للجنس (العرق) واللون والمعتقد. ومايزال بعضنا منقسمين بطوناً وأفخاذاً لا يفيدنا 
وجودها ولا يضرنا عدمهاء (آراء وخواطر) . تلك الاستهانة من الخريجين دفعت بأبناء 
الأرقاء إلى التقوقع داخل محارتهم؛ والبحث عن وسائل أخرى للتعبير عن مصالحهم كما 
سنبيين فى الفقرات التالية. 

تبعات الاسترقاق العسكرى 

نمو نظام الاسترقاق العسكرى الذى أشرنا إليه فى الفصل السابق» كان له تداعيات هامة 
فى هذه المرحلة تدعونا للعودة إليه » خاصة فيما يتعلق بموقف النخبة السياسية فى الشمال 
من أسلاف الرقيق القدماء أو الزنوج المنبتين الذين أصبحوا جزءاً من المجتمع الشمالى. 
فالمشاعر تجاه أبناء الأرقاء الذين استقروا فى المدن الشمالية لم تكن تتسم بالارتياح من 
جانب الشماليين » بل ظلت تتراوح بين الازدراء (علاقة السيد ‏ بالعبد)» والخوف. ثم 
القلق الفوبائى. زال هذا القلق وضعفت حدة الإزدراء تدريجياً نتيجة لاندماج تلك الفئة 
منكودة الحظ فى المجتمع الشمالى » ولحراكهم الاجتماعى المتزايد الذى ارتقى بهم إلى 
مستويات عليا داخل المجتمع . وبمضى الوقت اصبحوا شماليين بكل ماتحمله الكلمة من 


12 


معانء إذ اعتنقوا الإسلام دينأ» وتشربوا الثقافة العربية» وهجروا تماماً كل مايتصل بأسلافهم 
من معتقدات وثقافات وأنماط سلوكية:» بل أسهم البعض منهم إسهاماً وافراً فى الحياة 
السياسية والثقافية فى السودان فى الشمال. وكان من الممكن أن يصبح هؤلاء رموزاً 
ونماذج يقتدى بها الآخرون. لولا أن الاستعراب ظل عند الكذير من الشماليين انتسابآً 
عرقياء أكثر مما هو مكتسب ثقافى. ولهذا فإن لم تقر النخبة الشمالية للنابغين من تلك 
المجموعة بالجدارة » فليس هذا لأنهم كانوا يفتقدونهاء أو كانوا ينكرون أو يستنكرون الثقافة 
العربية والإسلاميةء وإنما لأن هناك لعنة أبدية ظلت تلاحقهم: أصلهم العرقى. 

فى القصل السابق أشرنا إلى الطريقة الحمقاء التى تعامل بها الإنجايز مع من أسموهم السود 
المجندين بتوزيعهم فى كانتونات عرقية حول المدن الشمالية. ومن جانبهم ثابر أهل السودان 
الشمالى على المفاضلة بين أقوام السودان المختلفين على أسس عرقية من أجل غايات نفعية. عبر 
تلك المفاضلة تشكلت صور ذهنية ميثولوجية عمن هو السيدء ومن هو المؤهل بأصله لأن يكون 
عبداً. تلك الصورة الذهنية» فيما نظن» هى التى قادت الطبقة السياسية فى الشمال للاستهانة --ا2)) 
(لعاصومع 106 عم بأبناء الأرقاء» ودفعتء بدورهاء المؤهل للاستعباد ( فى ظن أهل الشمال ) 
إلى التقوقع فى ذاته وإنشاء تنظيماته السياسية الخاصة به أى المقصورة على بنى جنسه من 
المسترقين تاريخياً والمؤهلين للاسترقاق أبداً. ولا نحسب أنه دار بخلد الطبقة السياسية فى الشمال؛ 
أنه كان لنظرتها لتلك المجموعات دور كبير فى نشوء تلك التنظيمات. مع هذاء كان توجه تلك 
الجماعات المهمشة لتنظيم نفسها على أمس عرقية محل تعريض واتهام من جانب الشماليين» 
ولسوء الحظ موضع شكوك وريب أيضاً من جانب أهلهم فى الجنوب. فعندما قرر الجنوبيون الذين 
وفدوا للخرطوم فى منتصف الخمسينيات إقامة ما أسموه اللجنة السياسية الطارئة لجنوب السودان» 
رفضوا أن ينضم إليهم ذوو الأصول الجنوبية المقيمون فى الشمال بدعوى أنهم لم يعودوا جنوبيين. 
يتأسى المرء كثيراً على ما حاق بأولئك "المنبتين. حقأً لا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا. 

آثر أسلال العبيد السابقين تأسيس حزب سياسى خاص بهم أسموه الكتلة السوداء؛ كما 
أسسوا صحيفة باسم الحزب أسموها أفريقياء وللاسمين دلالتان لاتخفيان على لبيب. 
وتشكلت قيادة الكتلة من مجموعة من الضباط المتقاعدين والمهنيين المنتمين لسلالات غير 


13 


عربية» أى من الذين انحدر أسلافهم من الجنوب» وجبال النوبة» ودارفور(' ؟) . أول اجتماع 
للكتلة انعقد فى ١147‏ وشارك فيه ثلاثة آلاف شخص (مايزيد على ضعفى الذين شاركوا 
فى افتتاح مؤتمر الخريجين)» إلا أنهم لم يكونوا جميعاً ممن أسماهم أحمد خير الطبقة 
المستنيرة» وبالقطع لم يكونواء فى نظر أهل الشمال؛ من أولاد البلد. وعندما رفضت الإدارة 
الاستعمارية الاعتراف بالكتلة كحزب سياسىء استصدرت قيادتها قراراً من الجمعية العامة 
بتشكيل جمعية الوحدة السودانيه التعاونية بمقتضى قانون الجمعيات التعاونية» ويذلك تم 
تسجيل الكتلة كجمعية تطوعية اجتماعية تعمل على الرعاية الاجتماعية لأعضائها. تلك 
الجمعية تعرضت لهجوم عنيف من قبل أولاد البلد ياعتبارها مؤامرة عنصرية دبرها 
المستعمرون» رغم أن هؤلاء المستعمرين رقضوا السماح لهذه الجماعة بالتعبير عن قواعدها 
كتنظيم سياسىء مثلما سمحوا للجماعات المشابهة فى الشمال. وفى تجليها السياسى الأخير 
بعد ست سنوات »)١148(‏ أعلنت الكتلة برنامجها السياسى والذى تلخص فى تكريس 
الجهود لتعزيز وحدة السودانء والحد من التفرقة بين السودانيين» وضمان العدالة 
الاجتماعية لمؤيديها. ولا نحسب أن فى هذه الأهداف ما يؤرق بال السياسى الشمالى الذى 
يعنيه أمر وحدة السودانء أو يقلق الديموقراطى الذى يؤمن أن الديموقراطية حق للجميع؛ أو 
الليبرالى الذى يدرك أن الليبرالية دون عدالة اجتماعية طحن بلا طحين. 

من بين القضايا الاجتماعية التى أثارت قلق الكتلة بعض الممارسات المهينة للبشرء 
والتى كان أداؤها مقصوراً على أبناء جبال النوبة (كسح فضلات الإنسان من المراحيض 
العامة والخاصة) . وكان قدر أبناء النوبة أن يحملوا تلك القاذورات على رؤوسهم. تكليف 
بعض الجماعات المستضعفة بأداء أعمال ينظر إليها المجتمع المعين كأعمال حقيرة» لم يكن 
و قفأ على الشمال. فصناعة الحديد (7ء058 2مما) » مثلاء مهنة يزدريها الدينكاء ولهذا 
كانت ومازالت ‏ توكل لأبناء قبائل البانتو (الفرتيت) الذين يعدهم النيلويون أدنى منزلة 
منهم. غير أنه مهما شطح الخيال بالمرء لا يمكن مقارنة تلك المهنة أوأى مهنة يدوية 
أخرىء بعملية نقل الفضلات البشرية على الرؤوس. تلك مهنة تجرد العاملين فيها من 
آأدميتهم. ولعل الاستعمار قد جاء بتلك الفكرة من الهند حيث كانت طائفة المنبوذين 


164 


(الداليت) تقوم بذلك العمل. ولكن حين ألغت حكومة الهند بعد الاستقلال تلك الممارسة 
المذلة» استمر النوبة يمارسونها فى السودان طوال فترة ما بعد الاستقلال وحتى مايو ١579‏ 
عندما أوقفتها حكومة النميرى باعتبارها نشاطاً مهيناً للبشر. 

بالطبع لا تقتصر الظلامات الاجتماعية التى قامت الكتلة لتصحيحها على هذه الظاهرة 
وحدهاء وإنما أيض ا وربما بقدر أكبرٍ لظلامات أخرى عديدة بدأنا نصفها مؤخراً ب 
التهميش الاقتصادى والاجتماعى. مع ذلك لم تر الطبقة السياسية الشمالية فى تصدى 
المتعلمين من أبناء الطبقات المقهورة لتلك الظلامات الاجتماعية ء إلا مؤامرة للجنوح 
بالعملية الديموقراطية عن مسارها. ومن المذهل أن واحداً من القضايا التى أعلى المؤتمر 
رايتهاء هى تحقيق الرفاهية للسودانيين (البند التاسع من مذكرة المؤتمر للإدارة 
البريطانية) . ولكن» كما تبين المذكرة» لم تتجاوز الرفاهية المقصودة رفاهية الموظفين 
والتجار ممثلة فى إعطاء الأولوية للسودانيين فى الوظائف» ووضع قانون يلزم الشركات 
والبيوتات التجارية بتحديد نسب معقولة من وظائفها للسودانيين» وتمكين السودانيين من 
استثمار موارد البلاد التجارية والزراعية والصناعية. وتعبير السودانيين لا يعنى» فيما نظن» 
غير أولاد البلد من التجار الشماليين. 

أيا كان الأمرء فإن موقف الطبقة السياسية الشمالية كان مدفوعاً بعاملين» كلاهما مخز . 
العامل الأول يتمثل فى أن الجماعات التى بدأت الكتلة تتحدث ابابنها كانت؛ فى رأى 
الأحزاب آنذاك؛. مخزوناً استراتيجياً لها فى معركة الانتخابات المقبلة . وبالتالى » فمن الخير 
للأحزاب أن تبقى تلك الجماعات فى سباتها السياسى» لاسيما وة وقد كانت الأحزاب غابطة 
كل الغبطة من غييوبة تلك الكتلة البشرية عن مصالحها الحقيقية. السبب الثانى» فيما يبدو 
لناء هو أن الطبقة السياسية الشمالية لم ترفى الديموقراطية غير وجهها الإجرائى» إذ جهلت 
أو تجاهلت المعنى الأعمق للديموقراطية. فالديموقراطية ليست تزاويق دستورية» كما أنها 
لاتتوقف عند حدود الإعلانات الدستورية والحكومات والتحالفات. جوهر الديمقراطية هو 
توقير كرامة الإنسان» وما النصوص الدستورية حول الحقوق الأساسية» واستقلال القضاءء 
وطرائق محاسبة المحكومين لحكامهم؛ والتعبير عن الإرادة الشعبية» إلا أعراض أو وسائل. 


165 


الجوهر هو توقير الإنسان وتمكينه من تطوير ذاته » والتعبير الحر عنها. بعبارة أخرى, أهمل 
"الديموقراطيون الغايات واكتفوا بالوسائل التى يتوسل بها المرء بلوغ غايته. وبانصرافها عن 
المحن والآلام الاجتماعية التى تعانى منها جماعات حسبتها مخزوناً بشرياً لهاء لم تظهر 
الأحزاب فقط قصوراً هائلاً فى إدراك المعنى العميق للديموقراطية» بل كشفت أيضاً عن 
استهانة ما بعدها استهانة بمؤيديها. 
مرة أخرى نمسك بتلابيب تلك الطبقة الحاكمة لنعود بها إلى تجربة الهندء ففيها درس 
مفيد لمن اتخذ التجربة السياسية الهندية مناراً هادياً. فمن القرارات الأولى التى اتخذها آباء 
الاستقلال فى الهندء التخلص من نظام الطوائف الاجتماعية الذى يعود إلى ثلاثمائة سنة 
قبل الاستقلالء ونصت عليه التعاليم المقدسة للهندوس7"؟) . صحيح أن المنبوذين مازالوا 
محل إحتقار على المستويات الشعبية» خاصة بين غلاة الهندوسء إلا أن الذى يعنينا - فى 
الهند كما فى السودان ‏ هو مقاصد العقل الرسمى. فى هذا ٠‏ يحق لآباء الاستقلال الهندى 
المباهاة بما قاموا به لإلغاء ظواهر اجتماعية مرذولة لها جذورها فى ديانتهم: أعلنوا لا 
دستورية نظام الطوائف الاجتماعية»ء وأصدروا القوانين التى تجرم استغلال البشر على 
أساس التمييز الطائفى» ووضعوا السياسات الرامية إلى الارتقاء الاجتماعى عبر توفير فرص 
التعليم والتدريب والعمل لمن عانوا من وطأة نظام الطوائفء وأتاحوا فرص الترقى السياسى 
للطوائف الدنيا بمن فيهم المنبوذين» أدنى طائفة فى تلك التراتبية الغريبة. نعم من حق آباء 
الاستقلال أن يفاخروا بأنه بعد خمسين عاماً من الاستقلال تقلد واحد من الداليت (ناريان) 
منصب رئيس الدولة » رغم ما نصت عليه التعاليم الهندوكية المقدسة عن نبذ تلك الطائفة . 
فالمظاهر الاجتماعية الشائهة تحتاج» بلا شكء, إلى وقت كبير لعلاجها عبر التنوير والتوجيه 
والإرشادء ولكنها لا تعالج أبداً بإنكار وجودها أو تجاهلها. وواجب السياسيين الراشدين 
لايقتصر فقط على الاعتراف بالظاهرة » بل يمتد إلى صوغ القوانين التى تحقق التمكين 
(6123001613601) لتلك الطوائف حتى تعبر عن ذاتهاء وتحتل المكان الذى تؤهلها له 
قدراتها. قال الرئيس الهندى ناريان بمناسبة العيد الخمسين للاستقلالء إن الهند أنجزت 
الكثير فى خمسين عاماًء ولكنها إن فشلت فى إزالة كل الرواسب المتبقية ضد الداليت(أهله) » 


166 


لأصبحت الديموقراطية مثل القصر الذى يقوم على كومة من الروث . صحيح أن محنة 
جامعى فضلات الإنسان في السودان لم تكن» مثل محنة الداليت؛ ففى الهند يظهر أفراد 
الطبقات العليا أيديهم عندما تلام يد أى فرد من الداليت. ولكن صحيحا أيضأء أن الطبقة 
الحاكمة فى الشمالء بتجاهلها للتهميش الاقتصادى والسياسى الذى عمق من مشاعر عدم 
الرضا أولاًء ثم استنفج الغضب أخيراً بين أهل الأطراف؛ جعلت من الديموقراطية السودانية 

قصرأ على روث. 

استرضاء الشمال 

فى تجاوبها مع مؤتمر الخريجين آثرت الإدارة البريطانية؛ بعد تردد» سياسة الاسترضاء 
بدلاً عن المجابهة» ودعت إلى تأسيس مجلس استشارى لشماأل السودان كمنبر لاستشارة 
السودانيين فى إدارة بلادهم . هذه الدعوة تناولت واحداً من مطالب المؤتمر (الحكم الذاتى 
والترقى الإدارى) إلا أنها أغفلت مطالب سياسية أخرى مثل الحفاظ على وحدة السودان. 
ولا مشاحة فى أن يزيد من مخاوف النخبة الشمالية من نوايا الإدارة الاستعمارية فى تقسيم 
البلأذة خاق مجلا اسستشارئ لشمال السودان يستتيعة منة الجكوت ٠‏ حافت فكرة المجلس 
الإستشارى فى وقت بدأت تلوح فيه فى الأفق إشارات تنبى ببداية النهاية للاستعمار 
كمؤسسة . تلك كانت هى الفترة التى أخذت تعلو فيها الأصوات مطالبة برحيل الاستعمار 
عن شبه القارة الهندية » وبزغت فيها نهضة فكرية بين الأفارقة الذين كانوا يعيشون فى 
بريطانيا آنذاك (كوامى نكروما ومدرسة مانشستر) تدعو لتوحيد أفريقيا وتحريرها. جاءت 
الفكرة أيضاً فى وقت خرجت فيه بريطانيا منهكة من الحربء للحد الذى جعلها تبدأ فى 
إعادة النظر فى علاقاتها بمستعمراتها القديمة. وكان لحزب العمال الذى كان شريكا فى 
الحكم يومذاك دور كبير فى هذا التوجه الجديدء وبخاصة الب الأكثر تفتحا فيه» والذى 
كان بعض رجاله مثل السير ستافورد كريبس على صلة وثيقة بقيادات حركة التحرير فى 
الهند قبيل إعلان استقلالها. وليس مصادفة أن زار كرييس الهند تلك الأيامء كما توقف فى 
السودان فى طريقه إليها. بدا واضحاً يومكذ أن اللحظة قد حانت لكى تتخذ بريطانيا قراراً 
نهائياً بشأن مصير السودان» وتبعاً لذلك» قدم السير دوقلاس نيوبولد السكرتير الإدارى إلى 
167 


مجلس الحاكم العام فى عام ١146‏ مجموعة من الخيارات تمثلت فى: 

١‏ توحيد الجنوب والشمال. 

١‏ - ضم الجنوب إلى شرق أفريقيا. 

" - حل وسط بين الخيارين السابقين يتم بمقتضاه تقسيم الجنوب بين السودان الشمالى 
وشرق أفريقيا. 

الجو العام آنذاك كان يشير إلى أن الخيار الأول هو الأفضل بسبب عدم رغبة حكام شرق 
أفريقيا فى تبنى مشاكل الجنوب والذى لم يكن ليمثل ‏ بسبب ضعف بنيته التحتية ‏ إلا 
عبئاً إضافياً لهاء ناهيك عن معارضة تلك الخطة فى شمال السودان ومن جانب مصر. 
ولربما اختلفت الأمورء كما يقول إدارى استعمارى » إن لم يكن العامل المصرى عنصراً من 
عناصر القرار(”؟). وكان الحكام البريطانيون يدركون جيداً أن السودان الجنوبى» فى حالته 
التى كان عليهاء لن يكون قادراً على الوقوف بمفرده كدولة مستقلة. عن هذا التحول عبر 
للمرة الأولى» السير جيمس روبرتسون,ء السكرتير الإدارى الذى خلف نيوبولد» خلال انعقاد 
مؤتمر إدارة السودانء» وهو المؤتمر الذى دعت إليه الإدارة الاستعمارية للتداول حول 
الإجراءات التمهيدية لإشراك السودانيين فى إدارة بلادهم. سئل روبرتسون فى ذلك 
المؤتمر عن موقف بريطانيا تجاه الجنوب» فأجاب قائلاً: أن سياسة الحكومة السودانية تتمثل 
فى أن السودانيين الجنوبيين أفارقة وزنوج بصورة لاتقبل الشك, ولكن تقف الجغرافيا 
والاقتصاد معاً (وهو ما يمكن ملاجظته حتى الآن) ليجعلا السودانيين الجنوبيين مرتبطين 
ارتباطاً متشابكاً مع السودان الشمالى المستعرب والشرق أوسطى. هذا ما يمكن قوله فى هذه 
اللحظة.(؟؟) فى ذات الوقت؛ كان البريطانيون يعتقدون أنه إذا ما تركت الأمور فى يد 
الشمال فسوف يبسط سيطرته على الجنوب» ولهذا تولد لديهم انطباع قوى بأن الحكم 
الفيدرالى أو الحكم الذاتى الإقليمى هو الضمان المناسب لحماية مصالح الجنوبيين. 

عقد مؤتمر إدارة السودان أول جلساته فى ؟١‏ يونيو (حزيران) ١147٠‏ تحت رئاسة 
روبرتسونء, ومثل الجنوب فيه مديرا أعالى النيل والاستوائية البريطانيان. وحين شارك 


165 


عدد من علية أهل الشمال فى المؤتمر('”)» وكان الجنوبيون بارزين فيه بغيابهم. وتشير 
الوثائق أنه لولا ضغوط السفارة البريطانية فى القاهرة» والتى كانت ترى أن الوقت قد أزف 
لسودنة بعض الوظائفء لما استجاب حكام الخرطوم لمذكرة الخريجين حول الرفاهية؛ لأن 
كل اعضاء مجلس الحاكم العام باستثناء ايريك بريدى ٠‏ مدير الصحة ‏ كانوا يرون غير 
ذلك.(1”) ومن المفارق أن تستنجد الإدارة الاستعمارية التى كانت تستنكف تعيين 
السودانيين فى مراقى السلطة العليا لعدم جدارتهمء بالمادة 7/١١‏ من المعاهدة المصرية 
البريطانية »)١1914(‏ والتى تنص على تعيين السودانيين من ذوى المؤهلات فى الوظائف 
العلياء لإحلال سودانى مكان مصرئ كقاض لقضاة السودان. وكان ذلك المنصب شاغراً 
منذ تقاعد الشيخ حسن مأمون (مصرى) فى ديسمبر1947 . ولكن فى أكتوبر ١147‏ عين 
السير توماس كريدء السكرتير القضائىء الشيخ أحمد الطاهر قاضياً للقضاة» وأصبح بذلك 
أول سودانى يحتل موقعاً رفيعاً فى الدولة. 

اتضح للبريطانيين عند انعقاد المؤتمر أن الشماليين الذين شاركوا فى الاجتماع لم يكونوا 
يرضون عن وحدة بلادهم بديلاء أو يقبلون ضم أى جزء منها لبلد آخر. وكان ذلك المؤتمر 
نفسه (مؤتمر إدارة السودان) وليداً لمجلس آخر اقتصرت عضويته على الشماليين:("*) 
المجلس الاستشارى لشمال السودان والذى كان يهدف فيما زعم صانعوه» لتقديم النصح 
للحاكم العام ومجلسه حول إدارة السودان. وعندما ووجه السير جيمز رويرتسون بسؤال فى 
المجلس الاستشارى حول عدم إشراك الجنوبيين فى مؤتمر إدارة السودان» جاء رده غريبآ 
ومريباً قال إن عدم مشاركة الجنوبيين تعود إلى بعد المسافة بين الخرطوم والجنوب؛ وإلى 
أنهم لا يألفون المشاركة فى اجتماعات كبيرة.(””) ومع ذلك» توحى الدلائل بعد خطاب 
نيوبولد فى ععام ١145‏ أن رأى الإدارة البريطانية فى تلك اللحظة قد استقر على بقاء 
السودان موحدآأء ولريما كان هذا هو الذى حدا بالبريطانيين لعقد اول اجتماع سياسى بين 
الشمال والجنوب مباشرة عقب مؤتمر إدارة السودانء ألا وهو مؤتمر جوبا. 

مؤتمر جوبا كان حدثآ هامآء إذ اجتمع فيه الشماليون والجنوبيون لأول مرة للتشاور حول 
توحيد شقى القطر.(؛”) فى ذلك المؤتمر أعرب الجنوبيون عن كل ما يعترى نفوسهم من 


169 


مخاوف من الشمال؛ وعلى رأسها تلك التى سببتها صدمات تجارة الرقيق » كما أبانوا قلقهم 
البالغ من الهيمنة الشمالية إذا ما تركهم الإنجليز فى أيدى إخوتهم الشماليين. وقد حاول 
محمد صالح الشنقيطى التخفيف من وطأة تلك المخاوف. تصدى الشنقيطى» وكان سياسياً 
ذا طرف طامحء ومحدثاً بليغآًلا يدلى بالرأى إلا وعنده شىء» بعنف ملحوظ إلى محاولات 
المستر اوين» مدير بحر الغزال» إثارة موضوع تجارة الرقيق والإيحاء بأن ضم الجنوب إلى 
الشمال سيعرضه من جديد للنخاسة. لم يمضغ الشنقيطى الحروف عندما قال لاوين: نعم 
هنالك صفحات مقيتة فى تاريخنا إلا أن أسلافك أيضآً كانوا أكبر تجار رقيق فى 
التاريخ.(*”) ومن الغريب أن الجماعات السياسية التى قاطعت مؤتمر إدارة السودان 
باعتباره عملا تخديرياء لم تكن ترى فى مؤتمر جوبا أيضا إلا محاولة استعمارية لتكريس 
الوضع الذى كان قائماء كما لم تكن ترى فى الشنقيطى وأمثاله إلا أيادى للاستعمار. ولعل 
شنقيطى قد ظلمء كما نقول» ظلم الحسن والحسين» فإلى جانب شكوك الشماليين» ظل بعض 
الجنوبيين يتهمونه بإغواء الأعضاء الجنوبيين فى مؤتمر جوبا على قبول الوحدة . وعلى 
كلء لن تجدى البلاغة ‏ مع صدق قائلها ‏ فى إقناع الجنوبيين» دون تقديم أية ضمانات 
محددة يلتزم الشمال بإدراجها فى الدستور الذى سيصاغ مستقبلاً. هذه الحقيقة بدت جلية 
فى الكلمات المنذرة التى صدرت من الزعيم الجنوبى لوليك لادو. ولكن عجزت تلك 
الكلمات عن إقناع الأعضاء الشماليين فى المؤتمر بضرورة هذه الضمانات»؛ فمن العسير أن 
يقنعهم أى شىء آخر. قال لادو :إن أسلاف السودانيين الشماليين لم يكونوا محبى سلامء 
كما لم يكونوا فى وداعة الأبقار المدجنة» ولكن الجيل الجديد من الشماليين يقول بأنهم لا 
يسعون لضرر الجنوب . الزمن وحده سيظهر حقيقة ما سيفعلونه على أرض الواقع».(1”) لم 
يستوعب تلك المخاوف من الاعضاء الشماليين سوى إبراهيم بدرى الذى قال: ان هذا 
الموقف موقف نفسى متجذر لا يغيره الاسترضاء الشفهى مهما بلغت جديته.(”) وكان 
بدرى صريحاً فى نقده لظاهرة الإسترقاق وآثارها الباقية فى نفوس الجنوبيين. وكما سنرى 
ضمن بدرى آراءه تلك فى مذكرة تقدم بها للجنة تعديل الدستور (لجنة القاضى 
البريطانى ستانلى بيكر) كانت فريدة فى رأيهاء بعيدة النظر فى توجهاتهاء وبالغة الأمانة 
فى التعبير عن الوضع الذى كان سائداً. 


1/0 


خرج مؤتمر جوبا ببعض القرارات التى كان لها أثر بعيد المدى على مجرى الأحداث» 
إذ أكدت القرارات على عدم رغبة الجنوب فى الانضمام إلى يوغنداء مع عدم دقة التعبير. 
فجنوب السودان تزيد مساحته عدة مرات عن مساحة يوغنداء ولهذا فضمه ليوغندا كان 
سيعنى ابتلاع الجنوب لهاء لا ضمه إليها. تم الاتفاق أيضاً على بقاء الجنوب متحداً مع 
الشمال » لما فى ذلك من فائدة للشقين» شريطة ألا يملى الشمال أسس تلك الوحدة . ولكيما 

تتحقق تلك الوحدة على الوجه الأمثل طالب الجنوب بالحصول على ضمانات تكفل لهم 
تحقيق رغباتهم المشروعة فى ظل أى نظام سياسى يقوم فى المستقبل. كما طالب العضو 
بوث ديو بتعزيز تعليم اللغة العربية فى الجنوب حتى يتمكن الجنوبيون من اللحاق بإخوانهم 
فى الشمال: 

الإدارة الاستعمارية فى الجنوب أبدت قلقاً ملحوظاً من التطور السريع للأحداث» وادعت 
أن المضالج الجدوبية فد أهدرت نتيجة لصغوْظ الشعاليين . كما ذكر بعض الإداريين أن 
التمثيل الجنوبى فى المؤتمر كان معيباً. وفى دعوى هؤلاء أن ممثلى الجنوب الذين تم 
ختيارهم بعلي ائقة من جانب حكام الخرطوم لتمئيل كل ابل الجنوبية عبر سلاطينهم 
وتمثيل النخبة الجنوبية الجديدة عبر البارزين منهما كانت تنقصهم الخبرة»ء ولهذا كانوا 
عرضة للابتزاز والتحريض. هذا لني لاتؤكده سجلات الاجتماعء بل فى السجلات ما 
يؤكد نقيضهء فالنخبة الجنوبية (التقليدية منها والحديثة) لم تتنازل عن مطالبها الرئيسية فى 
مؤتمر جوياء بل ظلت توكد تلك المطالب بإصرار حتى إعلان الاستقلال. ولكن من الواضح 
أن الجنوب» مع موافقته على الوحدة مع الشمال» ظل متخوفاً من سيطرة الشمال عليه 
رغم كل الوعود الشفاهية فى مؤتمر جوبا. ذلك هو الإطار الذى يندرج داخله إصرار 
الجنوب على إجراءات وقائية تضمن له حقوقه فى إطار القوانين التى كان النظام بصدد 
استصدارها آنذاك حول إدارة السودان خلال مرحلة انتقالية تسبق الحكم الذاتى (قانون 
الجمعية التشريعية) ٠‏ وكان من رأى الجنوبيين أن يمنح رأس الدولة (الحاكم العام) »فى إطار 
هذه القوانين» حق النقض (فيتو) لأى قانون يمثل اعتداء على حقوق الجنوب. إلا أن 
الشمال كان موحداً فى رفضه لمثل تلك الضماناتء وكان له ما أراد. مع ذلك تضمن قانون 


171 


المجلس التنفيذى والجمعية التشريعية نصاً (المادة 54) يعتبر الموضوعات المتعلقة بالأقليات 
الدينية والعرقية موضوعات خاصة لا يحق لأى عضو التقدم حولها بمشروع قانون إلا 
بموافقة المجلس التنفيذى. هذا النص لم يقنع الجنوبيين» ولهذا سارع ثلاثة عشر عضواً من 
الأعضاء الجنوبيين فى الجمعية التشريعية بمجرد انعقاد دورتها الأولى بتقديم مشروع قرار 
ينص على ضرورة توفير مزيد من الضمانات للجنوب» ويطالب ببقاء البريطانيين فى 
الحكم ريثما يصبح الجنوب ندا للشمال. وبالطبع» قوبل مشروع القرار بالرفض التام من قبل 
النواب الشماليين فى الجمعية» التى كانوا يمثلون الأغلبية فيها. 

ومع دعاوى البريطانيين بالحرص على الأخذ بيد الجدوبيين والارتقاء بهم فى مدارج 
الإدارة العلياء إلا أن المؤسسات التنفيذية التى أقيمت بعد مؤتمر جوبا (المجلس التنفيذى) لم 
تع الجذوبى واحداء قغلى سبيل للمقالء صم ذلك المجائن 'الذى أحدين عقب قيام الجسعية 
التتريدية ضنة أعنداء » تصفهو يدن الإتكلير نجانت أريعة من الستودائيين .(54) > أخدين 
عدد من الموظفين من ذوى الدربة لمعاونة المجلس كوكلاء للوزارات» وكانوا جميعاً من 
الشماليين7؟”). وفيما نرىء لم يكن الشماليون الذين شاركوا فى أعمال مؤتمر إدارة السودان 
الذى أفضى لخلق الجمعية التشريعية» ولا البريطانيون على ثقة يومذاك بأن الجنوبيين كانوا 
يملكون مايؤهلهم لشغل أى موقع تنفيذى» حتى كوكلاء للمصالح. ولو كان للبريطانيين 
رأى غير هذا فى الكوادر الجنوبية لما اختاروا للتعبير عن راى الجنوب فى إدارة السودان» 
المستر ماروودء مدير الاستوائية. 

الجمعية التشريعية نفسها كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون انعكاساً لإرادة الأمة؛ بل 
كانت تعبيراً عن النواقص المفجعة داخلها. فمن جهة:؛ اقتصر تمثيل الشمال على زعماء 
القبائل وحزب الأمة والعناصر المستقلة التى كانت تتجه نحو الاستقلال (محمد أحمد 
محجوبء أحمد يوسف هاشمء دكتور محمد آدم أدهم)» أو التمثيل الشكلى للعمال (فضل 
بشير) بسبب النهوض البازغ للحركة العمالية؛ أو العناصر الإدارية غير الحزبية والتى لا 
تنكر كفاءتها (سليمان حسينء عبد الله مسعودء مكاوى أكرت) . أما دعاة الاتحاد مع مصر 
فقد قاطعوا الجمعية وكان لهم رأى حاسم فى كل المؤسسات الدستورية التى أقامها 


172 


الاستعمار. عن ذلك الرأى عبر الأزهرى بقوله لن ندخلها ولو جاءت مبرأة من كل عيب. 
الموقف السياسى (رفض المشاركة فى الجمعية) موقف له دواعيه السياسية؛ وريما الوطنية 
فى راف أسلحابة» ولكن القزية فيه زولر جاعت مبرلة من كل عيت) يغرب البفل ناما 
وبالعقل وحده تستدرك الأمور. تلك سمة ورثناها عن الحركة الوطنية فى مصرء حيث كانوا 
يقولون (إمعاناً فى التزيد) : الاستقلال التام أو الموت الزؤام (من زام زاما أو زؤاماً أى مات 
موتة سريعة) . نعم » المرء يجود بالنفس من أجل الغايات الكبرىء تلك فضيلة يمارسها 
المرء بنفسه فى المقام الأول» ولكن لماذا الموت السريع؟ أسمينا هذا فى المقدمة» غلبة 
الفصاحة على الرأى والتملى. وكان للأستاذ بشير محمد سعيد تعليق شائق على تعبير 
أزهرىء قال بشير: إن حزب الأشقاء لايؤمن بالمفاوضات,ء ولايؤيد التطورات الدستورية ولو 
جاءت مبرأة من كل عيبء ولا يمتشق الحسام فماذا يريد ؟ الكلمة الآن لحزب الأشقاء الذى 
ادعى لنفسه زعامة الحركة الوطنية وقيادة النضال للحرية. الكلمة له فليبعثها قوية واضحة» 
وكفى الله المؤمنين شر الغموض.('") 

رغم كل النواقص التى أشرنا إليهاء لم يكن المجلس التنفيذى والجمعية التشريعية أدوات 
طيعة فى يد الاستعمار بصورة مطلقة» إذ شهدا صراعات حادة بين بعض الوزراء ورأس 
السلطة التنفيذية حول القضايا التى أثارها مؤتمر الخريجين» خاصة فيما يتعلق بتمكين 
السودانيين من الوصول إلى مراقى الحكم العلياء والتعليم فى الجنوب. مثال ذلك إصرار عبد 
الرحمن على طه على سودنة وظيفة مدير المعارف المسترد. ه. هبرت عند تقاعده . 
اقترح طه تعيين الأستاذ عوض ساتى مديراً للمعارف وإنشاء وظيفة نائب له ليشغلها الأستاذ 
نصر الحاج علىء إلا أن الحاكم العام رفض المقترح» ولعله كان يخشى أن تصبح تلك سابقة 
يطالب الآأخرون باحتذائهاء خاصة فى الوظائف التى لم تكن الحكومة على استعداد 
لسودنتها مثل وظائف الإدارة. إزاء ذلك تقدم طه باستقالته فى خطاب قوى ختمه بالقول: 
يساورنى شك فى إن كان المجلس التنفيذىء فى الواقع وحسب القانون» هو الجهاز الذى 
يسديكم النصحء أو أنكم فى هذه الحالة» آثرتم الاستماع لنصائح من دوائر خارجية غير 
سودانية وإن صح أنكم قد قررتم أن تلقوا جانباً نصائح المجلس لمصلحة نصائح من جهات 


1/3 


أخرىء وإن كان هذا فى رأيكم هو الإجراء الدستورى الصحيح ٠‏ يؤسفنى أن أقول بأن 
ضميرى لايطاوعنى على أن أكون عضواً فى حكومة ترى صواب مثل هذه الممارسات. 
أرفق طه مع الخطاب رسالة باستقالته» وما أن فعل حتى أبلغ إبراهيم أحمد الحاكم العام بأن 
يعتبره مستقيلاً من منصبه» هو الآخرء أن قبل إستقالة طه. هذا الموقف حمل الحاكم العام 
على العدول عن قراره والإلتزام بتوصيات الوزير. 

من جانب آخرء تحرك المجلس التنفيذى لإزالة بعض آثار السياسة الإستعمارية فى 
الجنوب» خاصة فيما يتعلق بالتعليم فى ذلك الإقليم» وذلك أيضأ مطلب من مطالب المؤتمر 
(البند ١7‏ من مذكرة المؤتمر) . فبناء على مذكرة قدمها عبد الرحمن على طه للمجلس 
التنفيذى أقر المجلس جعل اللغة العربية لغة رسمية للسودان وإدخالها فى مناهج التعليم 
بالجنوب» كما أوصى بأن تقوم مدارس المبشرين بتعليم تلك اللغة. وفى خطابه أمام الجمعية 
التشريعية ١(‏ نوفمبر1143١)‏ أعلن عبد الرحمن على طه بما أن السودان قطر واحد تشترك 
جميع أجزائه فى مؤسسات سياسية واحدة فإن أول ما يجب تحقيقه هو أن تكون للبلاد لغة 
واحدة يفهمها ويتحدث بها جميع أبنائها ل اللغة غير العربية. كما 
أشار إلى توجيه أصدره بموجب قرار من المجلس التنفيذى جاء فيه أن واجب الوزارة هو أن 
تعمل كل ما فى وسعها لتنفيذ هذه السياسة» وأن تتخذ الخطوات المناسبة لجعل اللغة العربية 
مادة أساسية فى مدارس المديريات الجنوبية بأسرع ما يمكن. أضاف البيان أن اللغات 
المحلية ستظل تستخدم كوسيط تعليمى فى المدارس الصغرى وفى الفرق الأولى من 
المدارس الأولية. هذه القرارات لم تحقق فقط ما دعا له المؤتمرء وإنما كانت تتفق تماماً مع 
ما طالب به بوث ديوفى مؤتمر جوبا حول إتاحة الفرصة للجنوبيين لتعلم العربية . ولكن 
بوث ديولم يكن قطعاً ينظر للعربية كأداة سيطرة على الجنوب» بل كخطوة مهمة لتمهيد 
الطريق لأبناء الجنوب حتى يشقوا طريقهم فى سلم الدرقى الاجتماعى مع نظرائهم 
الشماليين. فاستخدام اللغة العربية كلغة مشتركة تحقق التواصل بين الناس فى حياتهم 
اليومية يما يعود لهم بالنفع؛ أمر مرغوب وضرورىء ولكن الأمر يختلف عندما يجىء ذلك 
الاستخدام فى نسق سياسى مغلق قائم على مفاهيم توحى بالتفوق العنصرى )'١(.‏ 


1/4 


ذلك وجه من الصراعات التى كانت تدور فى أروقه الحكم فى الشمالء أما حول 
الجنوب» فقد اجتمع رأى الشماليين داخل الجمعية» كما فى خارجهاء على أن مطالب 
الجنوبيين ليست إلا مؤامرة استعمارية لتقويض وحدة السودان. وفيما يبدوء كان لدى كليهما 
ثقة واسعة بقدرتهما على تحقيق الوحدة على الطريقة التى يرتأون متى ما خرج الاستعمار 
وأحكموا القبضة على الجنوب. من الناحية الأخرىء برز الجنوبيون ككيان سياسى ضعيف 
تملؤه مشاعر الامتعاض والاستياء؛ بل الإحباط من العجز عن التأثير حتى على مصير 
أهليهم . ذلك الضعف تبدى بصورة .أكثر وضوحاً أثناء مسيرة السودان أو مسيراته المتعددة 
نحو الاستقلالء إذ تقدمت تلك المسيرة عبر خطوط متوازية لم يكن للجنوب فى أى منها 
دور. فأولاً تم استبعاد الجنوبيين من أول مؤسسات الحكم الذاتى (المجلس التنفيذى) ولو 
بصورة رمزيةء ثانياً لم يشرك الجنوبيون فى مباحثات الاستقلال بين الأحزاب الشمالية 
ومصرء وثالثاً تم حل الجمعية التشريعية فى أكتوبر (تشرين اول) ١1607‏ قبل إتمام دور 
انعقادها. ومع الضعف الذى اعتراهاء كانت الجمعية هى المنبر الوحيد المتوفر لممتلى 
الجنوب للتعبير عن آرائهم ومخاوفهم. ومهما كان السبب الذى دعا الإنجليز إلى حل 
الجمعية التشريعية إلا أنهم كانوا أول من أدرك حجم المشكلات التى نجمت عن ذلك القرار 
فيما يتعلق بأمر الجنوب.('') لهذا لم يجانب الحق كثيراً المعلق الجنوبى الذى كتب: إن 
الجنوب قد صلب على يد العرب الشماليين ولعب الإنجليز فى ذلك دور يهوذا.(؟") ليته قال 
أن الجنوب صلب على يد الطبقة الحاكمة فى الشمال بدلاً من العرب الشماليين. 

من الجانب الشمالى» كان هناك يقين بأن السياسة البريطانية فى السودان لاتبتغى شيئاً 
غير فصل السودان عن مصر ثم الاستكثار به وبخيراته. على أحسن الأحوالء تلك هى 
نصف الحقيقة» لأن الحكومة البريطانية كانت تتعرض آنذاك لضغوط مستمرة من الولايات 
المتحدة للاعتراف بالسيادة المصرية على السودانء إن لم يكن التخلى عنه كلية لمصر. 
دوافع أمريكا الحقيقية كانت هى كسب ود جمال عبد الناصر للاشتراك فى حلف شرق 
أوسطى لاحتواء المد الشيوعى يضمء بجانب الولايات المتحدة» بريطانيا وفرنسا وتركيا 
ومصر. وتعود قصة هذا الحلف إلى عام ١15١‏ عندما أبلغت بريطانيا وزير خارجية 


1/75 


مصرء الدكتور محمد صلاح الدين عن رغبتها فى انضمام مصر إلى ذلك الحلفء. حسبما 
تشير وثائق الخارجية البريطانية(؛؟"). لتحقيق ذلك الهدف حثت الولايات المتحدة 
بريطانياعلى الاعتراف بضم السودان إلى مصر تحت التاج المصرىء حتى وإن كان ذلك 
بصورة رمزية. تلك الفكرة أحيتها الولايات المتحدة عقب استيلاء الضباط الأحرار على 
السلطة» وفى سبيل هذا ظلت تدفع بريطانيا للوصول إلى اتفاق مع مصر حول السودان» ولا 
ترى سبباً لما أسمته التمسك البريطانى بقضايا تفصيلية مثل السودنة والانتخابات. (15) 
الموقف الأمريكى نحو السودان دفع عبد الله خليل للقول: ٠إن‏ كانت أمريكا مهمومة بما 
سيحدث فى قناة السويس» ففى مقدورنا أن نخلق لها جحيماً أشد ضراماً فى السودان؛ وكالة 
السودان للأنباء (558 ٠١‏ يناير1557) . 

مع نهاية الأربعينيات اشتد الصراع بين البريطانيين والمصريين حول السودان» 
وسارعت بريطانيا باتخاذ الإجراءات اللازمة لكيما يتوجه السودان نحو الاستقلال. الدافع 
الأساس لتسريع الخطى نحو الاستقلال كان هو القفز على مطالبة مصر بالسيادة على 
السودان» خاصة فى عهدى محمود فهمى النقراشى ومصطفى النحاس. وكان النقراشى 
باشا قد انتقل بقضية السودان إلى مجلس الأمن فى الخامس من أغسطسء. ١147‏ مطالباً 
بريطانيا بالاعتراف بسيادة مصر على السودان. وبمجىء حكومة الوفد للحكم» أعلن 
النحاس باشا فى الثامن من أكتوبر ١10١‏ إلغاء اتفاقيتى الحكم الثنائى ٠١(‏ يناير و ٠١‏ يوليو 
18» والمعاهدة المصرية البريطانية )١1975(‏ لأنهماء فى رأيه» تمتا تحت ظروف لم 
تكن مصر فيها تملك أمر نفسها. فى ذات الوقتء قرر النحاس تعديل المادتين ١5١.165‏ 
من الدستور المصرى بحيث يصبح الملك المصرى ملكا لمصر والسودان» على أن يكون 
للسودان دستوره الخاص ومجلسه النيابى الديموقراطى» وحكومته التى تباشر كل السلطات 
باستثناء الشئون الخارجية والنقد والدفاع.!"') وفى خطابه الذى قدم به مشروع القانون قال 
النحاس: بإلغاء هذه المعاهدة من جهة» وهاتين الاتفاقيتين من جهة أخرىء يعود الوضع 
فى السودان من تلقاء نفسه إلى ما كان عليه قبل الاحتلال» فتستبعد كل علاقة للإنجليز 
بالسودان» ولا تبقى إلا الوحدة الطبيعية التى تربطه مع مصر على مر الزمان. 


176 


ذلك القرار كان مصدر شقاء لدعاة الاستقلال فى السودان» كما كان موضع حبور عند 
للاتحاديين» خاصة إسماعيل الأزهرى الذى شهد النحاس وهو يلقى الخطاب من شرفات 
البرلمان المصرى. وعقب الاجتماع قال أزهرى أن قرارات النحاس تعبر عن أمانى الشعب 
السودانى» فى حين قال سكرتير حزب الاتحاديين» عبدالله ميرغنى» بأن إلغاء الاتفاقية لن 
يؤتر على جهاد السودانيين لنيل حريتهم الكاملة» وأن السودان يصر على قيام حكومة 
سودانية حرة لها برلمانها الكامل.("') هذا التضارب فى الآراء بين قطبين اتحاديين حول 
موضوع الوحدة يكشف عن البون الشاسع بين رؤية الأشقاء ورؤية الاتحاديين لتلك الوحدة. 
وسنرىء بعد قليل» ما الذى فعله أزهرى ب (أمانى الشعب السودانى) . حقيقة» للطبقة 
السياسية الشمالية» حسبما أظهرت أكثر من مرةء سمة غريبة يعجز المرء عن وصفها. فهى 
تعمل سوياً ضد عدو مشتركء ومتى ما انهزم ذلك العدو انقلبت على بعضها البعض نظرأ 
لخلافاتها ذات الجذور الطائفية» وفى كثير من الأحيان تبعاً لصراعاتها الشخصية. 
فالسياسيون السودانيون قد أثبتوا مراراً أنهم أكثر أهل الأرض قدرة على تدمير ذواتهم . ذلك 
النقص المريع أعجز الحركة الوطنية» كما قلناء عن أن تصبح مثل الحركات الوطنية 
الأخرى أداة لتعزيز التكامل الوطنىء ولخلق قيم مشتركة يستهدى به المواطنون على 
اختلاف انتماءاتهم الفرعية. وما كان لمثل هذا التكامل أن يتحقق فى ظل صراع الديكة» 
وهو صراع دام وغبى. 

بلغ النزاع البريطانى المصرى شأواً جعل الإدارة الاستعمارية تفكر فى تعديل قانون 
الجمعية التشريعية بهدف منح السودانيين مجالاً أوسع فى إدارة بلادهم. لأجل هذا تكونت 
لجنة لتعديل القانون أطلق عليهما اسم لجنة تعديل الدستورء وتولى رئاستها قاضى المحكمة 
العليا البريطانى» ستانلى بيكرء وعمل إلى جانبه كمستشار فنى البرفيسور فنسنت هارلوء 
أستاذ التاريخ الإمبراطورى بجامعة إكسفورد. ولكن ما أن ألغى النحاس اتفاقية الحكم الثنائى 
حتى رأى بعض أعضاء اللجنة أن الحكم الثنائى قد سقط فعلاً ولهذا طالبوا باستقالة الحكم 
العام وإحلال لجنة دولية محلة لتشرف على إعداد السودان للحكم الذاتى» كما كلقت اللجنة 
عضوين شماليين من أعضائها (الدرديرى محمد عثمان و محمد أحمد محجوب) بمتابعة 


]/77 


الأمر. فى خلال كل هذا الجدل اللاجب بين الساسة الشماليين» باتحادييهم واستقلالييهم. 
وبنخبهم المدينية وزعماء عشائرهم؛ كان الصوت الوحيد الذى أولى اعتباراً لقضية الجنوب 
هو صوت إبراهيم بدرى. ففى مذكرة:ء أعادت إلى الأذهان القضايا التى طرقها فى مؤتمر 
جوباء أستاف بحري أبعاداً أخرى عندما ذهب إلى توصيف بليغ للأوضاع فيما نسميه اليوم 
"المناطق المهمشة . لاعجبء والحال هذهء أن ينضم العضو الجنوبى الوحيد فى لجنة تعديل 
الدستور (بوث ديو) مع رفاق آخرين: سيرسيوايروء ستانسلاوس بياساماء إدوارد ادوك؛ إلى 
الحزب الذى أنشاه بدرى؛ الحزب الجمهورى الاشتراكى. 

بالنسبة للشمال» اتخذت الأمور منحى آخر حين أطيح بالملك فاروق وحل مكانه اللواء 
محمد نجيب. وكان لنجيب» ذى النسب السودانى المعروف؛ أسلوب مختلف فى التعامل مع 
القضية السودانية . عبر نجيب عن رأيه هذا فى مذكراته عندما قال إن الخط الوطنى لجميع 
الأحزاب والمفاوضين المصريين فى السابق هو فرض سيطرة مصر على السودان مستندين 
إلى أسباب تاريخية وحق الفتح. ولكنى كنت معارضاً لهذا الأسلوب؛ مؤمنا بأنه لايجوز إكراه 
شعب السودان على قبول مالم يستشر فيه. كنت» فى نفس الوقتء وائقأ أن الديموقراطية 
والاستفتاء الحر سوف يصلان إلى نفس النتيجة وهى ارتباط شعب وادى النيل ولهذا جرؤت 
على إعلان موافقتى على تقرير المصير.!"') هذا بلا شك تطور ملحوظ فى الموقف 
المصرىء إذ يروى أحمد حمروش عن فؤاد سراج الدين باشا قصة تبين الفوبائية التى كانت 
طاغية على السياسة المصرية فى موضوع تقرير المصير. قال الباشا أن وزير الخارجية. 
محمد صلاح الدين» أنبأ مجلس الوزراء بعزمه على أن يفجر قنبلة فى وجه البريطانيين 
بإعلانه موافقة مصر على استفتاء السودانيين فى مصيرهم شريطة أن يخرج الانجليز. وكان 
فى نية صلاح الدين إعلان هذا الأمر خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة فى قصر 
شايو بباريس عام 1157 . على ذلك الاقتراح اعترض سراج الدين» وكان السبب الوحيد 
لإعتراضه هو خشيته من أن تقود ممارسة حق المصير إلى انفصال السودان عن مصر.("') 

وعلى أىء انطلاقاً من الفهم الجديد» أبلغ نجيب الأحزاب السودانية الشمالية فى عام ١5157‏ 
اعترافه بحق المصير للسودانء إلا أن ثمة مناورات كانت تدور خلف الستار قبل إعلان نجيب 


7 


لقراره . ففى ربيع عام ١107‏ بعث الحاكم العام بمشروع دستور الحكم الذاتى الذى أعدته لجنة 
ستانلى بيكر وأعطى مصر مهلة ستة أشهر للرد عليه تنتهى فى الثامن من نوفمبر من نفس 
العام . تلك المذكرة جاءت فى فترة عصيبة؛ ألا وهى الفترة التى فرضت فيها الأحكام العرفية 
فى مصر عقب حريق القاهرة فى يناير1157 . ويقول نجيب أن موضوع السودان كان أول 
موضوع أولاه الاهتمام بعد توليه الحكم إذ طلب من حسين ذو الفقار صبرى إعداد مذكرة للرد 
على رسالة الحاكم العام قبل انتهاء المهلة.('') وتأكيدأً لعدم إدراك بعض زملائه لجسامة 
الموقف وتعقيدات المشكل السودانى؛ كلف نجيب حسين ذو الفقار بإعداد وثيقة حول السودان 
واتباعها برد على رسالة الحاكم العام . وفيما يروى نجيبء أعد ذو الفقار المذكرة على أحسن 
وجهء إلا أنها جاءت ضخمة الحجم. وعندما طلب ذو الفقار من أمين شاكر طبع المذكرة على 
الرونيو لتوزيعها على أعضاء مجلس قيادة الفورة» حسبما ذكر نجيبء رد شاكر: كل الورق 
ده؟. أجاب ذو الفقار: هى مشكلة السودان تتحط فى سطرين!. هذا الرد لم يقنع شاكر فقال: 
طيب اختصرها شوية» وعندما رفض ذو الفقار ذلك الطلب أيضأء قال شاكر: أمرنا لله ٠‏ ولكن 
باقول لك إيه.. والله ما حد حيلاقى وقت يقراها('”) ولعل تلك الرواية تكشف عن قدر من 
الاستهانة غريب بقضية ينبغى أن تكون هى قضية مصر الأولى. 

سعى نجيب من بعد فى أكتوير ١157‏ لتلمس رؤى السودانيين فبدأ بالاتحاديين حيث 
قامت اجنة ثلاثية تضم الدرديرى أحمد إسماعيل وميرغنى حمزة وخضر حمد بوضع من 
الاتفاق وفق تفويض وقع عليه كل رؤساء الأحزاب الاتحادية نصه: أقبل قيام الحمزب 
الواحد بأى وضع ترتضيه اللجنة الثلاثية.("") وكان لدرديرى إسماعيلء فى البدء رأى 
مختلف هو ضم جميع الأحزاب الاتحادية ومؤتمر الخريجين (الذى كان يسيطر عليه 
الأشقاء يومذاك) فى تنظيم تفتح أبوابه لجميع السودانيين ويطلق عليه اسم مؤتمر السودان. 
على غرار المؤتمر الهندى. ذلك الرأى لم يكن بالجديدء وإن اختلف الإطار الذى قدم فيه. 
ففى بدايات المؤتمر رفض الحزب الجمهورى (محمود محمد طه) الانخراط فى المؤتمر 
لأنه لا يعبر إلا عن مطامح وأفكار النخبة» وقال إن الحزب سيعيد النظر فى موقفه عندما 
يصبح المؤتمر مؤتمراً للسودان يفتح أبوابه لكل السودانيين. 


179 


اتجه نجيب من بعد للتواصل مع الاستقلاليين عندما التقى بوفد يقوده السيد عبدالرحمن 
المهدىء وكان لقاؤهما فى نهايات نفس العام فى قصر لطف الله (فندق ماريوت حاليا) . 
ويوحى نجيب فى مذكراته بأنه كان ينتوى عقد لقاء بين الميرغنى والمهدى فى تلك الفترة 
إلا أن الميرغنى اعتذر عن زيارة مصر فى الشتاءء واعداً بأن يزورها فى الصيف”(”") . 
ومن الواضح أن الميرغنى لم يكن راغبأء حتى تلك اللحظة:؛ فى لقاء مباشر مع المهدى. 
حتى وإن كان ذلك اللقاء فى رحاب مصر وتحت رعاية رئيسها ولمناقشة اهم قضايا 
السودان: تقرير مصيره . تلك المرحلة غطاها بأمانة وإبانة الدكتور فيصل عبد الرحمن 
على طه فى كتابه الحركة السياسية السودانية والصراع المصرى البريطانى بشأن السودان. 
ولكنء ريما يفيد أن نقف هنا عند جانب هام من الصراعات المصرية التى كانت تدور 
حول الكواليس. فحسبما روى نجيب» ضم الوفد المصرى الذى كان يتفاوض مع المهدى. 
رئيس الوزراءء على ماهرء والمستشار القانونى لمجلس قيادة الثورة عبد الرزاق السنهورى. 
وعضوين من الضباط الأحرار هما صلاح سالم وحسين ذو الفقار صبرى. ورغم موقف 
نجيب وصحبه العسكريين المناصرين لمنح السودان حكماً ذاتياً مباشراً على التوه بجانب 
منح شعب السودان حق تقرير المصير بعد تهيئة المناخ لذلك؛ كان للسنهورى رأى مناهض 
كاد أن يجهض الوفاق مع المهدى. ويبدو أن القانونى الضليع» حتى ذلك الوقت, كان متلبتاأ 
عند الحجج والمسببات القانونية التاريخية التى كان يتمسك بها النقراشى والنحاس لتبرير 
سيادة مصر على السودانء وبالتالى إنكار حق أهله فى حق تقرير المصير. وفيما روى 
نجيب كان السنهورى يرى ضرورة النص فى مذكرة مصر للحاكم العام على أن لمصر 
حق السيادة على السودان» فى حين كان ذو الفقار يقول أن النص شكلى لا معنى له» وأن 
الحل المصرى المقترح هو الحل الوحيد لجذب القوى السودانية للتحالف مع مصر ضد النفوذ 
البريطانى. أضاف ذو الفقار أن خروج الإنجليز هو بيت القصيد. وهذه المذكرة هى سبيلنا 
إلى ذلك ولا سبيل سواها فى ظل ما تحيط بنا من ظروف حتى نعمل متكاتفين مع 
السودانيين» فنكسب ثقتهم وإلا تحولنا إلى أعداء لهم.(؛") وفى النهاية أقصى السنهورى من 
المفاوضاتء واستبدل بثلاثة من أهل القانون والدبلوماسية هم حامد سلطان» محمود فوزى. 


10 


على زين العابدين. وقتها فقطء تم الاتفاق مع المهدىء كما تم مع الاتحاديين» على قبول 
المذكرة كأساس للتفاوض مع بريطانيا. 

تلك الاتفاقات مهدت للأحزاب الاتحادية الدخول فى مؤسسات الحكم الثنائى التى 
رفضها الأزهرى وإن جاءت مبرأة من كل عيب. وكان للأزهرى رأى طريف برر به هذا 
القبول» قال أزهرى: "عندما كانت المؤسسات تقوم على الوحى البريطانى (رفضناها) أما 
الآن ومصر الرشيدة تقود المعركة فنحن مطمئنون كل الاطمئنان إلى الهدف القريب 
والبعيد.(*") وكما سنرى فإن الأهداف التى انتهى إليها الأزهرى: خاصة البعيدة منهاء لم 
تكن بحال هى تلك التى اتفق عليها مع نجيب أو كانت مصر تتوقعها من زعيم التيار 
الاتحادى فى السودان. تلك هى المقدمات التى أفضت للمفاوضات البريطانية المصرية. 
وانتهت فى فبراير (شباط) ١167‏ إلى الاتفاقية المصرية البريطانية حول السودان والتى 
وافق فيها الشريكان على منح السودان الحكم الذاتى. 

لا يملك المرء إلا الاعتراف بالدور الذى قامت به حكومة الثورة فى مصر بتوحيد أهل 
الشمالء والتمهيد لاستقلال السودانء إلا أن استبعاد الجنوبيين استبعاداً كاملاً من مباحثات 
القاهرة كان أكثر القرارات كارثية من بين كل القرارت التى اتخذتها مصر والأحزاب الشمالية. 
ذلك القرارء حسبما كتب أحد المعلقين الجنوبيين» يمثل قمة اللامسئولية» فما هى الحكمة من 
تجاهل رغبات وآمال أناس يمثل عددهم أكثر من ثلث سكان السودان؛ ويعيشون فيما يقرب من 
ثلث المساحة الكلية للقطر.("") لذلك كان من البدهى أن يشعر الجنوبيون أن الحكم الذاتى لا 
يحمل فى طياته ما يعود عليهم بالفائدة» بل اعتقد بعضهم أن الاستقلال لا يعنى أكثر من 
استبدال سيد أوروبى مستعمر بآخر أطلقوا عليه اسم العربى. وهنا يتضح أن مخاوف الجتوبيين 
الراهنة» سواء كانت حقيقية أم مدركة حسياً (لءااءعءمعم) هى مخاوف عميقة الجذور. زاد من 
تلك المخاوف إلغاء النص الذى ورد فى التشريع المتعلق بالحكم الذاتى والذى كان يهدف 
لحماية الجنوب. فالمادة ٠٠١‏ من المشروع الذى أعدته لجنة تعديل الدستور كانت تنص على 
منح الحاكم العام سلطات تكفل له التدخل فى حالة وضع أى قانون يضر بمصالح الجنوبيين» أو 
يحرمهم من المعاملة المنصفة. ولكن؛ نتيجة لضغط مصر والأحزاب الشمالية عدل ذلك النص 


١|‏ ذا 


بحيث أجيز للحاكم العام رفض الموافقة على أى قانون يضر بمصالح الجنوبيين شريطة أن يبلغ 
اعتراضه للطرف الثانى (مصر) لإبداء رأيها. هذا التعديل لم ير فيه الجنوبيون إلا محاولة ‏ 
من بعد تغييبهم عن لقاءات القاهرة ‏ لاستبعاد الضمان الوحيد الذى طالبوا به كشرط للانضمام 
إلى إخوانهم الشماليين فى السير نحو تقرير المصير. زاد من تلك الشكوك أن استبعاد النص جاء 
نتيجة لضغوط نفس الأحزاب الشمالية التى طلب الجنوبيون الحماية منها. ونقر أنه ربما كان 
يساور مصر والأحزاب الشمالية قلق من فكرة منح الحاكم العام سلطات خاصة لحماية الجنوب. 
خشية أن يسيئ استغلال السلطات رد له ليحبط عملية الحكم الذاتى نفسها. ولكن كان 

من الممكن أن يتخذ السياسيون الشماليون ترتيبات أخرى فى هذا الشأن» إن توفر لهم إدراك 
أوسع لمخاوف أخوانهم السد وف ل . حتى الطلب المتواضع الذى تقدم به بوث ديو 
لتأسيس منصب وزير للشئون الجنوبية فى الحكومة المرتقبة يضطلع بمهامه جنوبى قوبل 
بالرفض من قبل لجنة تعديل الدستور والجمعية التشريعية. ولم يكن موقف بوث ديو موقفا 
فرديأء بل كان موقفاً جماعياً إذ سبقته جولة قام بها عضوان من أعضاء الجمعية التشريعية 
(زكريا جامبو وستانسلاوس بياسما) فى الجنوب لتنوير أهله عن الاقتراح؛ وكسب تأييدهم له؛ 
ثم اطلاع الجمعية التشريعية على اتجاه الرأى العام .("") 

كل هذا يعبر عن فشل الطبقة الشمالية السياسية فى وضع مرتكزات قوية لوحدة السودان 
التى كافحوا من أجلها منذ عام ١1556‏ كما يعكس قصوراً عن إدراك مفهوم الإجماع الوطنى 
(00105115105 [02100:1) فى بلد بمثل تنوع السودان» وتعدد مكوناته . فبدلاً من انتهاج سبيل 
الإجماع الوطنى» ظن ساسة الشمال أن حكم الأغلبية العددية يغنى عن الإجماع؛ مما يكشف 
عن جهل محزن بفن المعمار الدستورى (غ5تااءء]أاععة [11002نا)5)1م00) فالدستور: فى أية 
دولة مثقلة بالتنوع العرقى والدينى والثقافى؛ لايهدف إلى تنظيم المجتمع كما هو موجود 
وقائم؛ وإنما يقصدء فى المقام الأول» إلى تحقيق إجماع على القضايا الرئيسية التى لاسبيل 

لتنظيم المجتمع دون التوافق بشأنها. كما أن الإلتزام بسياسة الأغلبية الآلية كمنهج لوضع 
الدساتير وصوغ القوانين لن يكون» بحال؛ هو السبيل الأمثل لبناء وطنء لأنه يضع الأقلية 
دوماً تحت رحمة الأغلبية. 


|8032 


قشل لجنة تنديل الدسكور فى الاتتباء لهلاه المحائير كان محيراء بعد أن تؤافرت لهاد 
بجانب آراء الجنوبيين ‏ مذكرة إبراهيم بدرى التى أشرنا اليها. كان من الممكن أن تكون 
تلك المذكرة نقطة انطلاق جيدة» خاصة وقد صدرت عن رجل خدم فى الإدارة بالجنوب 
لفترة طويلة» وامتزج بأهله حتى صار صهراً لهم. لم يجد ما قاله بدرى آذان مصغية من 
قبل الأحزاب الشمالية الرئيسية» ومن المرجح أن تلك الأحزاب كانت تنظر إليه كعميل 
استعمارىء تماماً مثلما اعتبرت السياسيين الجنوبيين عملاء للكنيسة . وجدير بالذكر أن 
بدرى ركز فى مذكرته على نقطتين: الأولى هى تأثير الرق على الجنوبيين وضرورة عمل 
الشمال على تصحيح ماضيه وإزالة كل ما خلفه ذلك الماضى من آثار سيئة؛ والثانية هى 
نظرته البصيرة إلى المشهد السودانى كله. قال بدرى أن التخلف الاقتصادى والاجتماعى 
ليس حكرأ على الجنوب وحده بل يشمل أقاليم أخرى لابد من إيلائها الرعاية والاهتمام 
كجبال القوئة وجنوب النيل الأزرق :لقد أنتهى بخرى إلى تلك اللاخطة النافذة طنة ثلاقة 
عقود من الزمان قبل أن يجازف جون قرنق بطرحه لقضية المهمشين. 

السياسة الاستعمارية البريطانية فى السودان؛ حتى فيما يتعلق بحماية مصالحهاء اتسمت 
بالازمياك والتتحيظ هما حعلها عرضة الك الشديدك 6( اناير الشتماق والكتوبى: :زاك 
من الازتباك:الضغوط المتخارضة التى كانت تتعرضن لها الإدارة الاستعصارية من الداخل 
والخارج. فى معرض هذه الضغوط روى المستشار القانونى لوقد حكومة السودان فى 
المفاوضضات المصرية البريطانية المستر جاك مافر وقرداتو(؟"') كيف أصيب السفير 
البريطانى بالذهول من تعليق السفير الأمريكى جفرسون كافرى حول السودان . قال كافرى: 
إننى لا أقهم الأسباب التى تدفع أى شخص للانزعاج أوالقاق على مصير عشر. 0 
زنجى (ذانع غ51 3و1أ!!21 مع))ء وكان كافرى يشير بذلك إلى المجموع الكلى لاهل 
السودان . بمن فيهم المستعربة . وجلى أن الأمرالذى كان يهجس فى ذهن كافرى آنذاك» لم 
يكن هو استقلال السودان بقدر ما كان إنشاء قيادة مشتركة للدفاع عن الشرق الأوسطء 
ويأى ثمن كان. 

ومن المثير أن وزارة الخارجية الأمريكية» عقب استقلال السودان مباشرة أصدرت بياناً 
ترحب فيه بالاستقلال وتفرد فيه ل العشرة مليون زنجى دوراً عربياً فى ساحة السياسة 


| 83 


الإقليمية. جاء فى ذلك البيان: أن السودان كدولة جديدة سيلعب دوراً مؤثراً فى مستقبل 
أفريقياء باعتباره دولة شرق أوسطية» كما سيكون أيضاً جسراً لأفريقيا تنتقل عبره الأفكار 
والفلسفات التى سيكون لها أثر كبير على مستقبل القارة الأفريقية.(؟") بالطبع» يسهل إدراك 
مبررات هذه الملاحظة الأمريكية فى سياق جغراسى (0110121م8+0) لأن السودان ليس 
دولة شرق أوسطية بالمعنى الجغرافى. ليس هذا هو المهم؛ فالذى نرمى إليه أولاً هو عدم 
توافق هذه الملاحظة مع تصريح كافرى»: بصرف النظر عن الطابع العنصرى لحديثه 
والذى لا يرى فى أهل السودان غير كم من الزنوج يمكن الاستغناء عنه من أجل تحقيق 
مصالح أمريكية أوسع فى الشرق الأوسط . ثانياً أن كلا التصورين: تصور كافرى وتصور 
الخارجية الأمريكية للسودان» ينفيان نظرية المؤامرة الغربية لفصل السودان عن مصرهء أو 
إقصاء السودان عن لعب دور فى المحيط العربى. فرؤية وزارة خارجية الولايات المتحدة 
للسودان المستقل وضعته داخل محيط عربى إقليمى أوسعء وأوكلت له مهام تتجاوز حدوده. 
لما يفلح بعد فى تحقيقها بسبب الماسى التى ألحقها بنفسه. أما رؤية كافرى فكانت تتجه إلى 
تقديم السودان فى طبق من ذهب لمصر. مع ذلك مضى كثير من السودانيين الشماليين 
والمعلقين العرب يرددون الأساطير عن خطط الاستعمار الجديد لتقسيم السودان على أساس 
عرقى وقطع الحبل السرى الذى يربطه بمصر. والانخداع بالمؤتمرات الخارجية أو اللواذ 
دوماً بأسطورة كيد الخارج بناء ماهما إلا أقرب المسالك للهروب من التحليل السياسى 
المنضبطء والتعمق فى الذات. 

أما حول السياسة البريطانية تجاه السودان» فمن الصعب أن يقول المرء بأنها كانت 
سياسة متسقة» خاصة منذ الأريعينيات. كان يتجاذب تلك السياسة قطبان: القطب الأول هو 
دوائر هوايتهول التى كانت تنظر للسودان من منظور إستراتيجى واسع تلعب فيه مصر الدور 
الأهم. والقطب الثانى يمثله الإداريون البريطانيون فى السودانء والذين كانوا يحسبون 
أنفسهم أوصياء على السودانيين. عن هؤلاء عبر السيرجيمس روبرتسونء السكرتير 
الإدارى» فى رسالة مليئة بمشاعر الحزن. قال روبرتسون أنه أحس بمرارة عميقة عندما 


شهد بعض السياسيين السودانيين الذين كان يعتبرهم حلفاء قد خدعوا بألاعيب مصر 


154 


ووقعوا فى الشرك الذى نصبته لهم القاهرة ولندن7'*) . كانت تلك إشارة إلى الاتفاق الذى 
عقده المهدى مع مصر وشارك فى صوغه عبد الرحمن على طه. ويتضح من هذا أن كبير 
الاستعماريين البريطانيين لم يكن غاضباً على مصر فحسبء بل أيضاً على حكومته. 

ما هى دوافع هؤلاء البريطانيين» التى حملتهم على نقد رؤسائهم فى لندن؟ فى تقديرناء 
لم تكن تلك الدوافع سياسية بقدر ما كانت رومانسية»ء فلوكانت سياسة استراتيجية لما 
حاريوا رؤساءهم فى لندن. كان أولتك الحكام البريطانيون الاستعماريون» خاصة فى 
مشارف مرحلة الحكم الذاتى» يحسبون أنفسهم شركاء للسودانيين فى مشروع واحد هو 
الاستقلال. ففى قول واحد من هؤلاء الحكامء!('*) جوهر التاريخ هو العلاقات الإنسانية التى 
كانت قائمة بين السودانيين والإنجليز. كل هذا صحيح على المستوى الإنسانى» غير أنه من 
سخرية الأقدارأن يصبح الحكام الاستعماريون الذين سعوا بكل ما أوتوا من قوة فى 
ثلاثينيات القرن الماضى لإحداث انقسامات مدمرة بين الطوائف والقبائل فى السودان 
الشمالى» هم أنفسهم الذين أخذوا يرفعون فى الأربعينيات شعار السودان للسودانيين. 

808 


هه 


خلاصة 

نتيجة للانقسامات التاريخية» الطبيعى منها والذى افتعله الاستعمارء تطور الشمال 
والجنوب خلال الحقبة الاستعمارية بشكل متفاوت. نتيجه لذلك التفاوت أصبح الشمال 
النيلى هو الإقليم المفضلء بينما ظلت أطراف السودان فى الشمال النيلى نفسهء ناهيك عن 
الجنوب» مناطق مهمشة . ومع نهاية الاستعمار أصبح السودانيون سادة أنفسهمء وكان على 
الطبقة السياسية التى تسلمف مقاليد الأمور من البريطانيين أن تتجه لإعادة النظر فى 
السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى انتهجها الاستعمار» خاصة وقد اتخذ الإستعمار تلك 
السياسات بوعى تام لخدمة مصالحه. بدلاً عن ذلك اعتبر الحكام الشماليون التباينات 
التاريخية بين الشمال والجنوب من جهة:» وبين المركز والأطراف من جهة ثانية» أمراً 
مسلماً به» رغماً عن أن جميع الدول حديثة العهد بالاستقلال (الهند » نيجيريا) اتجهت أول 


155 


ما إتجهت إلى إزالة تلك التباينات. فمثلاً كان الإهتمام بتطوير الطوائف الاجتماعية 
المضطهدة » ورعاية المناطق المهمشة:ء ومنح الحكم الذاتى للولايات؛ على رأس أولويات 
الحكومة الهندية عقب الاستقلال؛ كما كان موضوع التوازن الإقليمى بين الشمال والجنوب» 
وبين الولايات الثرية (المنتجة للنفط) والولايات الفقيرة أوالأقل ثراء» على رأس هموم 
حكام نيجيريا منذ استقلالها أيضاً. 

الاهتمام بالتباينات الإقليمية عند تأسيس دولة جديدة يعبر عن تفهم مؤسسى هذه الدولة 
لحقيقة بدهية هى أن نمو الأقاليم المختلفة داخل الدولة الواحدة بصورة متباينة أو متفاوتة 
يجعل من الأقاليم الضعيفة عبدئاً على الكل فى النهاية. يؤدى التباين أيضأ إلى قلق 
اجتماعى وتوتر سياسى دائم» إذ لايرى فيه المستضعفون تاريخياً إلا إدامة للهيمنة 
الإستعمارية» إن لم يكن استبدالاً لهيمنة المستعمر القديم بمستعمر جديد. الإغفال الكامل 
لتلك التباينات الإقليمية كانء بلا شكء دافعاً إضافياً لتأجيج نيران الحرب. ذلك الإغفال لم 
يكن قصديا؛ بل أضل سبيلاً. فقضايا التنمية» بوجه عامء والتنمية الإقليمية على الأخصء 
لم تكن الشغل الشاغل للأحزاب» حيث إنها لم تحتل أى مكان فى برامج الأحزاب ورؤاها. 
الاهتمام المحدود الذى لقيته تلك القضايا جاء من قلة من السياسيين ذوى الأصول 
البيروقراطية فى الأحزاب» مثل مشروعات ميرغنى حمزة لتطوير التعليم وتوسيع الرقعة 
الزراعية (مشروع المناقل)» أما الإدارة العامة فقد تركت بحكم القصور الذاتى (106,012) 
لتدار على نفس النهج الذى خلفه الاستعمار. 

فى ذلك العهدء ساعد على إغفال الجنوب أيضاًء انعدام أية كيانات سياسية منظمة 
وقادرة على التعبير عن مصالح أهل الجنوبء مما أعطى السياسيين الشماليين دوراً غير 
محدودء ليس فقط فى تقرير مصير البلد بأكمله؛ بل وفى أخص ما يخص الجنوبيين. من 
جهة أخرىء أدى التناقض البريطانى المصرى إلى حصر قضية السودان كلها فى إخراج 
العسكريين والمدنيين البريطانيين من السودان» دون توقف او تمعن فى الاهداف التى 
سيعمل على تحقيقها لمصلحة السودان ورثة هؤلاء البريطانيين. فإن اتجه السودان إلى 
الاستقلال أو الاتحاد مع مصر فثمة مشاكل لابد أن ينصرف لها الحاكم الجديد. 


156 


التنافس البريطانى ‏ المصرى هو واحد من الازدواجيات التى أشرنا إليها فى مقدمة 
الكتاب؛ ومع أهميته فى التسريع بخروج الاستعمارء إلا أن آثاره الضارة تجلت فى أمرين 
هامين. الأول هو إدخال أساليب على العمل السياسى مثل رشاء الأحزاب واللجوء 
للممارسات الفاسدة فى الانتخابات. هذه الأساليب تركت ميسمها على الحياة السياسية 
السودانية طوال تلك الفترة والفترة التى تلتء مما سنعود إليه فى الفصل التالى. والثانى هو 
اختصار كل العمل السياسى السودانى فى قضية واحدة هى من يحكم السودان؟ وليس كيف 
يحكم السودان؟ فبدلاً عن معاونة السودانيين على توحيد بلدهم قيل الوحدة مع مصرء 
كانت قضية مصر الأولى هى وحدة شقى الوادىء علمآً بأن السودان المنقسم سيكون كل 
على أصدقائه» وعبئاً ثقيلاً على نفسه. ذلك الأمرما كان ليتحقق بدون إشراك الجنوبيين 
فى الإجراءات التمهيدية للحكم الذاتى. وحول الأمر الأول قد يظلم المرء مصر إن نسب 
إليها كلها أخطاء صلاح سالم. ففى مذكراته» مثلء كتب عبد اللطيف البغدادى يقول: أنه 
استمع إلى آراء عدد من المصريين العاملين فى السودان مثل محمد خليل إبراهيم مدير 
الرى المصرى فى الخرطوم» وإلى صحفى مصرى مرموق كان قد زار السودان (أحمد 
قاسم جودة) وخرج بانطباع مفاده ان رشاوى صلاح سالم قد اضرت بسمعة مصر واثارت 
الشكوك حول الأحزاب الاتحادية.("*) إلى ذلك الرأى أيضاً ذهب الأستاذ أحمد حمروش 
فى كتابه عن تاريخ ثورة يوليو.(”*) وكان نجيب أشد إقذاعاً فى وصفه لدور صلاح سالم. 
قال: تصور صلاح سالم أنه بالرقص والنقود يمكن أن يكسب السودانيون» وكانت النتيجة 
أنه بعقر النقودء وبعثر احترامنا فى السودان. ومن المؤسف أن ما أسماه البغدادى رشاوى 
صلاح سالم قد طال أيضا الجنوب حيث امتد فيضه ليشمل عدداً غير يسير من سلاطين 
الجنوب وسياسييه . ولو اتجهت مصرء إلى العمل على إنشاء المدارس والمستشفيات وتوفير 
البعتات التعليمية لأبناء الجنوب؛ فلربما كان سيكون لذلك أثر كبير أولاً فى الارتقاء بالإقليم» 
وثانياً فى خلق قاعدة أمتن للوحدة» وثالثاً لتحبيب مصر لنفوس أهل الجنوب. 


لالالا 


17 


هوامش وإحالات 





(!) سبنسر ترمنجهامء الإسلام فى السودان» ترجمة فؤاد محمد عكود. ومحمد النور ود ضيف 
الله» كتاب الطبقات فى خصوص الأولياء والصالحين» تحقيق يوسف فضل حسن. 

(2) روى ود ضيف الله أن الشيخ حسن ود حسونة أحيا رجلا غرق فى النهر وبقى ثلاثة أيام. 

(3) يروى ابن كثير أن عمراً طالب أبابكر بعزل خالد بن الوليد لقسوته؛ ثم رجمه لقتله خالد بن 
نويرة وابتعاله بزوجته قبل أن تستبرأً. وكان إلى جانب عمر أبوقتادة الذى حارب جنباً لجنب مع 
خالد ثم فر منه الى المدينة ليشكو إلى أبى بكر بغى خالد على مالك وأهله. قال ابوبكر لعمر وأبى 
قتادة إن خالداً قدر فأخطأ وما كنت لأغمد سيفآ سله الله .تاريخ ابن كثير7/7؟3 . هذا حكم سياسى» 
لا شرعى» وكان حب خالد لزوجة مالك أمراً شائعاً قال فيه أبو نمير السعدى: 


قضى خالد بغي عليه لعرسه 
وكان له فيها هوى قبل ذلك 
فأمضى هواه خالد غير عاطف 
عنان الهوى عنها ولا متمالك 
فأصبح ذا أهل وأصبح مالك 
إلى غير أهل هالك فى الهوالك 
)4) ترمنجهام» صفحة ١١7‏ . 
(5) نفس المصدر 
(6) المصدر ١‏ أعلاه. 
(7) ابن عبد الحكم» فتوح مصر والمغرب. 
(8) وكانت هزيمة المسلمين فى دمقله (دنقلا) هزيمة نكراء قال فيها الشاعر: 
لم ترعينى مثل يوم دمقله 
والخيل تعدو بالدروع مثقلة 
(9) يوسف فصل حسنء» 44,1962 110 ,/21.17 .آو/ا ,ولووعع 18 لسة 5م8101 مدلناك 


(10) كانت الإدارة الاستعمارية قلقة من كل الطرق الصوفية خشية أن ينبعث من وسطها مهدى 


1558 


جديدء ولهذا استغلت الختمية ضد الأنصار وضد المجاذيب الذين عرفوا باستقلاليتهم» كما حرضت 
الأدارسة على مراقبة الختمية. ففى رسالة لجاكسون باشاء مدير دنقلاء أمر ونجت المدير بأن يرضى 
الادارسة ويلاطفهم #نامصلاط 00مع هذ مرء!) مءع) لاهمية الدور الذى كانوا يلعبونه فى مراقية 
الختمية . ا ,عأدعه7/1ا ,عل9ل] مدلن5 ,عسسطعة/الا أعفطة0 


20 ,5020 تمتعغطاءه]! صده؟ كتعفصسع1 ,تطهطد لذ لعصسطة (11) 


0 


(12) السودان الجديد 7١ابريل .١56٠‏ 

(13) الأهرام 77 أغسطس 19147 . 

(14) فيصل عبد الرحمن على طه (فيما بعد فيصل)ء الحركة السياسية السودانية» صفحة ©"؟ . 

(15) رسالة كرومر للملكة فكتورياء وثائق وزارة الخارجية البريطاتية /520/50/633 

304 29, 0 

(16) نشأت جمعية الاتحاد السودانى فى مطلع العشرينيات كجمعية سرية انتظمت بعض 
خريجى المدارس والشباب والعاملين فى الأعمال الحرة لمناهضة الاستعمارء أما جمعية اللواء 
الأبيض فقد كانت أكثر جسارة وتحدياً للسلطات البريطانية وللقيادات التقليدية» وتاريخها ومسارها 
ارتبط كثيراً بتاريخ قائدها على عبد اللطيف. راجع جعفر محمد على بخيتء الإدارة البريطانية 
والحركة الوطنية فى السودان. وتوحى المصادر أن الأب المؤسس للاتحاد هو الشاعر توفيق صالح 
جبريل» وضم إلى جانبه الأمين على مدنى؛ سليمان كشة» خلف الله خالدء عبدالله خليل»ء حسن 
نجيلة» عبيد حاج الأمين» خليل فرح» صالح عبدالقادرء حسن نجيلة . راجع الكدء ٠الأفندية‏ ومفهوم 
القومية . 

(17) ضم الأبروفيون حسن وحسين الكد (وهما الأبوان المؤسسان)» مكاوى أكرت: إبراهيم 
يوسف سليمانء النور عثمان» الهادى أبو بكرء عبد الحليم أبوشمهء حماد توفيق» عبد الله ميرغنى» 
خضر حمدهء التجانى أبوقرون» حسن زيادة. كما ضمت مدرسة مدنى: أحمد خيرء عبد الله نقد 
الله» الطاهر النيلء مصطفى الصاوىء؛ أحمد مختارء إسماعيل العتبانى» إبراهيم عثمان إسحق» 
إبراهيم يوسف سليمانء وقد التحق الثلاثة الأخيرون بمدرسة أبى روف عند انتقالهم إلى الخرطوم. 

(18) تكونت مدرسة الهاشماب من أحمد يوسف هاشمء عبد الحليم متمد محمد أحمد محجوب» 
محمد عشرى الصديق» عرفات محمد عبدالله» عبد الله عشرى الصديقء» يوسف عبد الغنى» السيد 


الفيل» يوسف مصطفى التنى . 


159 


(19) فيصلء الحركة السياسية» صفحة 54 

(20) ينسب أحمد خير للأشقاء خصلتين » الأولى هى الديماغوجية التى مكنتهم من استنفار 
الشارعء والثانية هى الدكتاتورية والتى تمثلت فى تركيز كل السلطات فى يد زعيمهم. كفاح جيل» 
صفحة 9؟95. 

(21) جورج بادمور اشتراكى من أصل تريندادى لعب دوراً هامأ فى إنشاء حركة عموم أفريقيا 
(أسعمء 110 مدءنح-مدط)فى بريطانيا فى الثلاثينيات من القرن الماضى. 

(22) أورده شيخو فى طبقات الأمة» طبعة بيروت» 1517 

(23) جنوب السودان فى المخيلة العربية. 

(24) خصر حمدء الحركة الوطنية للسودانيين. الاستقلال وما بعده» الشارقة 1١94٠‏ 

(25) التكارنة ينسبون إلى بلاد تكرور التى تقع على نهر السنغال وجل أهلها من الفلانى وهم 
أقرب صلة بالبرير منهم بالزنج. ولكن فى السودان يطلق الاسم _ كما يطلق أيضاً تعبير الفلاتة ‏ 
على مجموعات الهوسا والبرقو والكانورى التى نزحت إلى السودان» أو عبرته فى طريقها للحج. 
وكان أول نزوحهم إلى دارفور فى عهد السلطان تيراب وقد أصبح بعضهم فقهاء للبلاط فى زمانه. 
أما نزوحهم إلى السودان الوسيط فقد ازداد فى بدايات القرن الماضى حيث استقروا فيه كعمال 
زراعيين فى المشروعات الزراعية الجديدة . جاء أيضأً بعضهم مهاجراً من نيجيريا بعد أن وطأها 
الكفر (الحكم البريطانى) ء حسب اعتقادهم. وكان على رأس هؤلاء بيلوماى ورنوء ابن محمد الطاهر 
ماى ورنوء أمير سوكوتو الذى هزمه البريطانيون. وقد أنشأ الرجل قرية مازالت تحمل أسمهء مع 
شىء من التحريف (مايرنو) تقع على النيل فى الجزيرة. 

2١ 7‏ .وططلرع لا العمم مع ,وطصصدلا وحوظ (26) 

(27) مذكرة مؤتمر الخريجين للإدارة البريطانية فى ” أبريل ١147‏ والتى وقعها رئيسه آنذاك» 

(28) حسن نجيلة» ملامح من المجتمع السودانى» ص 7١5‏ . 

(29) جريدة النيل 5١1/؟5177/15١1.‏ 

20 ,1821 هه لإعومعصصع12آ ,طننهزطمل/ة لعصطة لعسهطه21 (30) 


(31) مذكرات أحمد محمد يس» صفحة ٠١‏ 


190 


(32) فيصلء الحركة السياسية» صفحة ٠١8‏ 

(33) فيصل» صفحة ٠١9‏ . 

(34) المصدر أعلاه» صفحة ١76‏ . 

(35) النيل» ١94 ٠رياربف 7١‏ » عن نفس المصدر 

(36) معتصم أحمد الحاج» مجلة الفجر ودورها فى بعث الوعى الوطنى» ندوة عن تاريخ الحركة 
الوطنية» معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية» جامعة الخرطوم: ١987‏ . القدال: الإسلام والسياسة 
عن نواد 

(37) محاضرة فى المنتدى الثقافى لمهرجان الشباب العربى فى الخرطومء نوفمبر147١‏ . 


0 كتتائآه50 عط1' ,لاإاأزومعلازولا بامعكةات) ,كعناتله 01 «مووع)و ,كدااعكظ1 د5عمهمدل[ (38) 
.8 .2 ,1998 مهلمومآ ,مدللنق8 علطا ,بن نصطاط لسه سسكتتهمم ندل[ 


أدهه21]! عمتصاء2آ ,لإازوع الول األنشط ,بصمعط]”' لهع0ناه20 )ه بمدوع1مءط ,طأعععدط تنطعلئ8 (39) 
.6 2 ,لإااع500 أمعنغانهء اللا د مز قوعل1 


0111 لم501 20 لاتكتلة113)1002 .طأعايع2آ] أعدكا (40) 


أدعنائله مقن تعصة .أمعمرمماءنء12 لوعتائأ20 لسة صنن)2دلتط8540 أداء50 .طاعنيع7ا اعدكا (41) 
2501 ,1960 معط مرعامع5 . اعابع] ععمعل50 


1100 بععء0011) لاإالملكة ,ععمعككء5 لمعن0نامط 06 عوووعءامعط .مموم0 عع1[[دللا (42) 
طط .1994 ,ردوعع8 لإاأزومعلازونا «مأععمء8 ,عمتلممدمع50تا عه؟ أذعن) ع1 تسكصممعءمصطاط 
107-38 


اععدع5 صل" :لعلأتاضء مم1أدء550ة كعنلنا5 مقلند 0 طعععم5 عأمسلزعك1 ركم اام أرع105 (43) 
,ذا امهم ,.ه/ا ,ععناطكدصدة11ز/الا ,"عدعمدلن5 عط 1ه 


تساءل كولنز فى محاضرته عمن هو السودانى» مستدعياً تساؤل سان جون دى كورفيكير قبل 
قرنين من الزمان عمن هو الأمريكىء هذا المخلوق الجديدء فلا هو أوروبى ولا هو من نسل أوروبى. 
ثم اجاب سان جون بنفسه على سؤاله: هو أمريكى. 
(44) مذكرات أحمد محمد يس» ص ص ١207-١١52‏ . للاطلاع على أسماء أعضاء لجان 
المؤتمر الستينية فى الدورات المتعاقبة ‏ راجع عفاف أبو حسيو ....5ءنا1ه00 لقومناعة*1 
(45) تعبير أولاد البلد أطلقه عرب الشمال النيليون فى عهد المهدية على أنصار خليفة المهدى 
من البقارة وأهل الغرب باعتبارهم أوباشاً متخلفين سطوا على الحكم والسلطة. وبالرغم من أن 
المحاربين من البقارة قد مارسوا عنفاً شديداً وألحقوا خسائر جمه بأهل الشمالء إلا أن إطلاق مثل هذا 


191 


الوصف على جماعات بأسرهاء يسبب أخطاء جسيمة ارتكبها بعض أفراد منهاء يعبرعن عنصرية 
واضحة. 

(46) ترأس الكتلة الضابط المتقاعد عثمان متولى (من قبيلة الداجو بدارفور)» وكان نائبه زين 
العابدين عبد التام (دينكاوى الأب شمالى الأم)» وهو الآخرء ضابط متعاقد كانت له علاقة حميمة 
بعلى عبد اللطيف. ضمت قيادة الكتلة أيضآ الدكدور محمد آدم أدهم (طبيب متقاعد ذو أصل 
نوباوى)» وعبد النبى عبد القادر مرسال (من أب شلكاوى وأم مصرية) . -40 تلخ ,قاءممك! معانطدملا 
5 ,11)داءل0 

(47) ينقسم المجتمع الهندىء حسب شرائح الكهنوت الأريع. إلى رجال الدين والمحاربين» 
والحكام ومالكى الأرضء والتجارء والشاندلاس المنبوذين.هذا الموروث الدينى الذى عرفته الهند منذ 
القرن الرابع الميلادى يحرم الزواج المختاط بين الطوائف باعتبار أن الزواج المختلط لا ينجب إلا 
أوغاداً. وفى حالة المنبوذين تعتبر حتى رؤيتهم تلوثا. فالمساواة» فى منظور الطوائف الهندية العلياء 
ازدراء للعدالة الطبيعية» حيث إن الأرواح تتناسخ. وحول هذا المفهوم نسجت أساطير بهدف تعميق 
الفوارق الطبقية. 

07 ,لقدك هه 520015 ,ااع8 ونه للدنان) رزك (48) 

(49) مذكرة السكرتير الإدارى للسكرتير المالى» السكرتير القضائى» ومديرى المديريات 
الجنوبية» ١7‏ ديسمبر ١147‏ ء دار الوثائق السودانية. 

(50) تشكل المؤنمر برئاسة السير جيمز رويرتسون وشارك فيه من السودانيين الشماليين: 
الصديق المهدىء بابونمرء مصطفى أبوالعلاء عبد الله خليل» محمد على شوقىء مكى عباس» 
الزبير حمد الملك. نصر الحاج على» سرور رملىء الدرديرى محمد عثمان» محمد صالح الشنقيطى» 
أحمد حسن خليفة» محمد أحمد محجوبء مكاوى أكرت. 

4 22 ه412 19 132511013 رللمكارع50 13:05[ (51) 
(52)ضم المجلس كعضوى شرف السيدين على الميرغنى وعبد الرحمن المهدى» ومن زعماء 
القبائل يحيى أحمد عمرء عبد الله بكرء محمد الأمين تركء إبراهيم موسى مادبوء محمد بحر الدين» 
ايوبيه عبد الماجدء الزيير حمد الملكء حسن ععدلان؛ فحل إبراهيم فحل. كما ضم من التجار 
والموظفين خليل عكاشة» مكى عباسء مصطفى أبو العلاء» حامد السيدء عثمان عبد القادرء أبوشامة 
عبد المحمودء أحمد السيد الفيل» عبد الكريم محمدء نوح عبد الله. 
(53) فيصل» صفحة .7١1‏ 


122 


(54) شارك فى مؤتمر جوبا من الشماليين محمد صالح الشنقيطىء إبراهيم بدرى» حسن أحمد 
عثمان الكدء سرور رملى» د. حبيب عبد ألله . كما مثل الجنوبيين لوليك لادوه شير ريحان» بوث 
ديوء كلمنت امبوروء جيمس طمبرة» فيلمون ماجوك. 

(55) مداولات مؤتمر جوباء دار الوثائق السودانية. 

(56) نفس المصدر. 

(57) نفس المصدر. 

(58) جيمس روبرتسونء السكرتير الإدارى؛ لويس تشيك, السكرتير المالى؛ شارلس كمدقزء السكرتير 
القضائى ؛ أرثر جيتسكل (مدير مشروع الجزيرة)» هيلارد» مدير سكك حديد السودان.عبد الله خليل» 
وزير الزراعة؛ عبد الرحمن على طه وزير المعارف؛ على بدرىء وزير الصحة؛ إبراهيم أحمد كعضو بلا 
أعباء. وعقب استقالة آرثر جيتسكل حل محله شمالى هو محمد أحمد أبوسن كعضو بلا أعباء. 

(59) عبد السلام الخليفة للداخلية» مكاوى أكرت للمالية» عبد الماجد أحمد للتجارةء عبد الله 
مسعود للسكك الحديدية» عبد القادر حميدة العجبانى للأشغال» سليمان حسين للبريد والبرق» 
الدرديرى نقد للبيطرة» محمد على شوقى للعدل. 

(60) السودان الجديد .١501/1/7١‏ 

١ 0‏ ,لإوعء0آ 0 أناء-اتمط5 ,أالكء1' عزوع1 (61) 

(62) وصف السير جميز روبرتسون» صاحب فكرة حل الجمعية التشريعية» ذلك القرار بأنه أكبر 
خطأ ارتكبه . قال: منذ أكتوبر ١907‏ (تاريخ حل الجمعية) وحتى يناير 1104 لم يكن هناك منبر 
سياسى يعبر عن كل أهل السودان. وبسبب هذا النقص افتقد الجنوبيون وأهل الريف كل فرصة 
للتأثير على الأحداث. .147-48 25 بعكم ما مهم لاأتكمةرط' تومكلعطامخ]1 

.67 .2 ,510325 100 01 د5عنائلهط ع1 :/زدنت1 (63) 

(64) رسالة السفير البريطاتى ستيفينسون إلى الخارجية البريطانية /371 150 /50مط 
1951 عع طسمعامء 140,5 95 

(65) مذكر. ة من السفارة البريطانية بواشنطون إلى وزارة الخارجية 371/102741 250/10 

(66) عدلت المادة 4 لتنص على مايلى: تجرى أحكام هذا الدستور على المملكة المصرية جميعها؛ ومع 
أن مصر والسودان وطن واحد يقرر نظام الحكم فى السودان بقانون خاص. كما عدلت المادة ١١‏ لتقرأ المنك 
يلقب بملك مصر والسودان. وقد وقع الملك فاروق فى قصر للمنتزه (/ أكتوبر١110)‏ قانوناً خاصاً لحكم 
السودان يتضمن خمس فقرات. 

(67) فيصل » الحركة السياسية» صفحة 4٠7‏ . 


13 


(68) كلمتى للتاريخ الطبعة السادسة ١977‏ ص 584» من بعد كلماتى. 

(69) أحمد حمروش» قصة ثورة 7 يوليوه صفحة 5١5؟.‏ 

(70) محمد نجيب» كنت رئيساً لمصر ص 777» المكتب الحديثء» الطبعة ١195‏ » من بعد كنت. 

(71) نجيب» كنت..» ص 778 . 

(72) وقع على ذلك النصء بجانب محمد نجيب وصلاح سالم» كل من إسماعيل الأزهرى. 
محمد نور الدين» الدرديرى أحمد إسماعيلء؛ الدرديرى محمد عثمان» حماد توفيق» خضر حمد. 
مبارك زروقء» ميرغنى حمزة؛ يحيى الفضليء وعلى الشيخ البشير. نجيب» كنت.. ص 78١‏ . 

(73) نجيب» كنت .. ص 277/9. 

(74) نجيب كنت ... ص 7586١‏ . 

(75) الأهرام /1381/11/1. 

256 ملإهناكآ صز ل0116) ,لع] عد عأنلآ ع1 عمدلا .831.ى (76) 
(77) المحضر الأسبوعى للجمعية التشريعية» 4 فبراير ١561,‏ 
.6 2 ,وعمءن5 عط لمتاعظ :0ند10مع 1/2070 كاعد[ (78) 
اك م0 29 ,قل للهء 1‏ تامعل1 01 كعامتهملاآ .عمع7آ وعموع (79) 
6 2 .5اناكهممنمع عط 01 أكقآ عط .كمفصمط! سنقطدري (80) 
فى رسالة من رويرتسون إلى جراهام توماس جاء ما يلى: رغم كل ما قلناه عن مخاطر 
مقايضة السودان بموضوع قناة السويس إلا أن السفارة فى القاهرة والمستر إيدن وشركاه رأوا غير 
ذلك. هذا هو السبب الذى جعل إيدن يتصح السيد عبد الرحمن بالذهاب إلى مصر فى أكتوبر ١197‏ 
لأجل التوصل لاتفاق مع نجيب. وحاولت جهدى مع السيد عبد الرحمن وعبد الرحمن على طه 
وشوقى لإقناعهم, إلا أنهم فيما يبدو ظنوا أن نصائح إيدن ونجيب أجدى لهم من نصح الموظفين 
البريطانيين بالخرطوم. 
قهلن5 عا صا يلعقطألمدذ .لإعاسدط لاددهوما 1 8) 
(82) مذكرات عبد اللطيف البغدادى الجزء الأول» ص 537١‏ . 
(83) حمروشء قصة ثورة 1” يوليوء الجزء الثالث. 


لالالا 


194 


«عندمانتعلم 
ممارسة الخداع.. 
يالهامن شبكة 
معقدةتلكالتى 
ننسج خيوطها.. 


(2ه1لضة14) 


سير والترسكوت 
لآلا 


6 


100 
الوطن 
يخسرالرهمان 


125 


شهد السودان فى الفترة ما بين عام ١167‏ وعام ١576‏ أنظمة حكم مختلفة تراوحت ما 
بين النظم الديكتاتورية العسكرية والحكومات المدنية الائتلافية. تلك الأنظمة» كانت تعانى 
جميعها من انشطارات أفقية وعمودية لم تمكنها من أداء أهم واجبات الحكم: تحقيق السلام 
والاستقرارء وإدارة شئون البلاد. وكما شهدنا فى الفصل السابق » كانت الخصومات 
الشخصية والحزبية الطائفية» لا الفوارق الأيديولوجية أو التباين السياسى فى الفك ر أو 
المنهج» هى أكثر ما يفرق بين الأحزاب السياسية فى الشمال؛ وبدرجة أقل فى الجنوب. 
فعلى الأقل» كان الجنوب كله على اتفاق حول هدفه النهائى. ففى الفترة من مطلع يناير 
65 إلى السابع عشر من نوفمبر108١‏ والفترة من ١516‏ إلى مايوة57١‏ استقر نظام 
الحكم على نهج ديموقراطى على غرار ديموقراطية ويستمنسترء أما فى الفترة من تهايات 
إلى أواخر ١1754‏ فقد كان السودان فى قبضة ديكتاتورية عسكرية محضة. فى هذا 
الفصل نقبل على تحليل تجارب الحكم فى هذه الفترات » خاصة فيما يتعلق برؤيتها لقضية 
البلاد المحورية (الحرب والسلام)؛ ومساعيها للبحث عن حلول لتلك القضية. وكما سنبين» 
لعبت الخصومات الحزبية والشخصية الشمالية» ربما أكثر من أى سبب آخرء دوراً رئيسيا 
فى إطالة أمد الحرب فى الجنوب» وتدمير الديموقراطية فى القطر كله. 

فى لهفتهم العجلى على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان فى الأول من يناير ”155 ء 
متجاوزين إجراءات تقرير المصير بالصورة التى حددتها الاتفاقية المصرية البريطانية» لم 
يكن لدى الحاكمين الجدد فى الشمال الوقت الكافى لإصدار دستور يستجيب للخصائص 
السياسية والاجتماعية والثقافية للسودان. بدلاً عن ذلك قرروا اتخاذ الدستور الذى وضعه 


17 


القاضى ستانئلى بيكر للحكم فى مرحلة الحكم الذاتى دستوراً للسودان المستقل مع إدخال 
بعض التعديلات الشكلية عليه . وكان مشروع ذلك الدستور "الاستعمارى قد رفض رفضآً 
تام من قيادات "الحركة الوطنية فى الخمسينيات . ولعل أبرز إدانة لتلك الحركة الوطنية» 
تبنيها لنفس دستور بيكر الذى رفضته بسبب مما أسمته طبيعته الاستعمارية. وبذلك الدستور 
ظلت القيادات الوطنية تلوذ» وإليه تحتكم؛ منذ الاستقلال. هذا التناقض لا يعكس فقط 
قصور) فكرياً فادحأًء بل يعبر أيضاً عن فقدان تام للجدية فى تعاطى أمور السياسة» خاصة 
ورفض الدستور لم يكن لأسباب موضوعية تتعلق بمحتواه؛ وإنما لعدم رضاها عن 
المؤسسات التى صاغته»؛ حتى وإن جاءت مبراة من كل عيب. ولم يكن وراء ذلك الحرون 
غير رفض مصر لتلك المؤسساتء وما أن قبلتها حتى رضيت عنها الحركة الوطنية. 

بغض الطرف عن ذلك التناقض» أقر الحاكمون الجدد ثوابت دستور ويستمنسترء دون 
تمييز للقيم التى تحكمه؛ فلا البنى الثقافية ‏ الاجتماعية للسودان» كانت تحتمل البنى الفوقية 
الوستمنسترية» ولا القيم السياسية السائدة كانت تقبل المفاهيم التى ارتكزت عليها تلك 
الديموقراطية» أو تذعن للضوابط التى تقيد مسارها. لم تحرص الأحزاب؛ أيضاء على 
تشكيل ذاتها حتى تواجه التحديات التى تفرضها القيم والأفكار والأعراف التى ترتكز عليها 
تلك الديموقراطية المستعارة. على رأس تلك القيم والأعرافء المساواة الكاملة بين 
المواطنين دون أدنى تفرقة على أساس الدين أو الأصل الإثنى أو الجنس» وخضوع القيادة 
للإرادة الشعبية» ورضوخ القيادات لمحاسبة قواعدها فى داخل الأحزاب نفسها. هذه المعايير 
لم تكن تتوافق مع واقع رضى فيه المحكومون بالامتثال لقيادات سياسية ذات أصل 
عشائرى أو منبت دينى» بل ارتضى أغلبهم بكامل قواهم العقلية تقديس تلك القيادات؛ أو 
على الأقل الظن بعصمتها عن الوقوع فى الخطأ. غير أن الأمور لم تكن لتبلغ الدرجة التى 
بلغتها من السوء لو كان الحزيان التقليديان على وفاق بشأن قضايا الوطن الرئيسية. عوضاً 
عن ذلك الوفاق كان الطرفان منهمكين فى شجار تلاحمى لا صلة له بمصالح البلاد العليا 
أوالدنيا. وكان محور الشجار بينهما قضية واحدة هى التمكين فى الحكم عبر التحالفات 
والانتخابات. أما قضية الحرب والسلام فقد قررا أن تبقى فى المؤخرة», ريئما فرغا من 
كبريات الأمور: التحالفات والانتخابات. 


1538 


بسبب من قصورها السياسى فى معالجة مشكلة الجنوب - أكثر مشاكل السودان إلحاحاً - 
أقحمت الأحزاب الجيش فى المعمعة » وأضفت بذلك الإقحام غير الحكيم طابعاً عسكريآ 
على السياسة. لذا لم يعد أحد يندهش لقيام الجيش» أكثر من مرةء بانتزاع زمام السلطة من 
المدنيين» والإعلان فى كل مرة عن أن أول واجباته هو وضع نهاية للحرب فى الجنوب. 
وبما أن الجيش هو أكثر مؤسسة شمالية عانت من ويلات الحربء ظن قادته ‏ من عبود إلى 
نميرى والبشير بأنهم الأقدر على إدارة الأزمة والحد من حسائر الحرب. فتدخل الجيش فى 
السياسة ما كان ليصبح ممكناًء أو على الأقل أمرأ يسيراء لولا عجز الأنظمة المدنية عن 
وضع تهناية للحوت: وكنانت تلك الاتقلابات تسدقبل» فى الغالب الأغمء يجاب من 
المواطنينء أو يتلقاها المواطنون بدرجة لافتة من اللامبالاة. والانقلابيون ليسوا فى حاجة 
لموافقة الشعب من أجل الإطاحة بالحكوماتء بقدر احتياجهم لعدم اكتراثه لإطاحتهم بنظام 
حكم مدنى. وفى النهاية» كان كلاهما ضيفاً ثقيلاً على أهل السودان كأضياف البهاء 
زهير: 

وثقيل ما برحنا 

نتمنى اليعد عنه 
غاب عنا ففرحنا 

جاءنا أثكقل منته 

ولعل هذا هو الذى يحدو بأهل السودان كلما ضاق بهم الأمرمن حاكم لا يطاقء إلى 
الخروج إلى الطرقات يهتفون: استقيل يا ثقيل. بدلاً من أن تدفع تلك الظاهرة السياسيين 
للتأمل والتفكيرء استمرت العجلة فى الدوران حتى أصبح الحكم فى السودان مخيماً للعابرين 
مدقت 1130516» يتبادله المدنيون القاصرون أو المترددون» والعسكريون غير الأكفاء لأن 
الحكم واجب لم يعدوا له أصلاً. ومع أن التجارب العديدة أثبتت أن الحكم العسكرى كان 
أكثر وبالاً على السودانء إلا أن بقاء الجنود فى ثكناتهم لن يتحقق بالوعظء بقدر ما يتحقق 
بحل جميع المشاكل التى قادت إلىء أو سهلت منء اعتدائهم على السلطة المدنية. 

لأالا 


199 


الاستقلال: مقدمة كا هو أسوأ 

أدت الخصومة بين مصر وبريطانيا (طرفى الحكم الثنائى) إلى تطورات سياسية داخلية 
كان من شأنها دفع خطى السودان تجاه الاستقلال. إلا أنه جاء استقلالاً ملنيسا . كانت 
النخبة السياسية منقسمة بشكل ضار بين القوتين الاستعماريتين من ناحية» وبين بعضها 
البعض من ناحية أخرى. وبالرغم من أن مصر ظلت تؤكد أن لا مطمع لها فى السودان إلا 
أنها فى» ذات الوقتء كانت راغبة فى توحيد مصر والسودان» وطامعة» كما أفاد محمد 
نجيب فى مذكراته» فى أن تقود ممارسة حق د تقريرالمصير إلى تلك الوحدة . لهذاء لم يكن 
الدفع القوى الذى أعطته للسودان كيما يجتاز العتبة إلى الحكم الذاتى يهدف إلا لإخراج 
بريطانيا من المعادلة لتمهيد السبيل إلى وحدة نهائية بين البلدين. هذا هو السبب الذى 
دفعها للتأييد المطلق للقوى الاتحادية فى انتخابات ١1167‏ » ودعمها المباشر لهاء بل وعدم 
الاستحياء من الكشف عن أسباب الدعم.(') هذا الدعم لم تنكره حتى قيادات الحزب:(؟) 
ولكن إلى أين انتهى المطاف بالاتحاديين؟ وما هى النتائج التى ترتبت على ذلك؟ 

عقب انتصار الوحدويين» أصبح الزعيم السابق للأشقاءء إسماعيل الأزهرىء أول رئيس 
وزراء للسودانء وأوهم الجميع ‏ قبل الانتخابات وبعيدها ‏ بأنه كان يؤدى دوره جيداً وفقأ 
للسيناريو المصرى. حقيقة الأمرء أن الأزهرى كان يضمر فى أعماق نفسه طموحاً خاصاً 
بحصول السودان على الاستقلال؛ رغم إيلاغه صلاح سالم وعبد الحكيم عامر عندما زارا 
الخرطوم فى يناير ١164‏ لتهنئته بتوليه رئاسة الحكومة أن الاتفاقية ستنفذ نصاً وروحا.(") 
من بين نصوص تلك الاتفاقية الاحتكام للشعب ليقرر بإرادته الحرة عبر ممارسة حق تقرير 
المصير إن كان راغباً فى الاستقلالء أو الاتحاد مع مصر. بيد أن الأزهرى الذى حمل لواء 
الوحدة مع مصر على مدى عقدين من الزمنء لم يمكث فى الدعوة للوحدة بعيداء بل كان 
أول المسارعين من بين الاتحاديين إلى التخلى عن لوائها. ذلك التغيير أتى على مراحل 
عدة . ففى البدء » مهد الأزهري لما يكنه من مشاعر وطموحات عندما أطلق تصريحآً 
موجزاً لجريدة الأيام خلال زيارته الرسمية لبلاط سانت جيمسء أعلن فيه لأهل السودان إن 
الذين يحكمونكم اليوم لن يسلموكم إلى المصريين أو إلى الإنجليز.!؛) ذلك التصريح , ولا 


200 


سيما صدوره من المكان الذى صدر فيه أثار غضب مصر الشديد. على أن أول إشارة 
لتغيير الأزهرى لموقفه كانت فى تصريح أدلى به لجريدة الختمية مبدياً بصراحة تامة 
رغبته فى إعلان الاستقلال.(*) 

كيف حقق الأزهرى هدفه الجديد (استقلال السودان) ؟ وما الذى دفعه إلى ذلك؟ قرر 
أزهرى أولا الالتنفاف على الشرط الذى وضعه الاتفاق البريطانى المصرى”557١‏ حول 
الطريقة التى يمارس بها السودانيون حق تقرير المصيرء إما باختيارهم الاستقلال أو الوحدة 
مع مصر. وينص الاتفاق على أن يصدر البرلمان السودانى قراراً يعبر فيه أعضاؤه عن 
رغبتهم فى الشروع فى ترتيبات تقرير المصيرء وعلى الحاكم العام أن يخطر الحكومتين 
الموقعتين على الاتفاق بهذا القرار (المادة التاسعة) . كما تنص المادة العاشرة منه على ما 
يلى: عند إبلاغ الطرفين المتعاقدين (بريطانيا ومصر) بذلك القرار تقوم حكومة السودان 
الموجودة آنذاك؛ بصياغة مشروع قانون لانتخاب جمعية تأسيسية تقرر مصير السودان فى 
موعد أقصاه ١‏ ديسمبر 1155 . النص إذن واضح: البرلمان السودانى (برلمان الحكم 
الذاتى) لا يملك أن يقرر مصير السودان بل هو مكلف بأن يعلن دولتى الحكم الثنائى 
برغبته فى البدء فى إجراءات تقرير المصيرء وإحاطة الطرفين المتعاقدين بتلك الرغبة. 
ومتى تم ذلك تتولى الحكومة السودانية القائمة ساعتئذ صياغة قانون لجمعية تأسيسية لتقرير 
مصير السودان. تلك الشروط الواضحة لم تكن تعنى شيئاً للحكومة التى تعهدت بتنفيذ 
الاتفاقية» إذ قرر البرلمان السودانى الذى كانت تسيطر عليه بالإجماع فى 74 أغسطس 
5 أن رغبات الشعب السودانى ستتحقق بصورة أفضل من خلال إجراء استفتاء عام 
وليس عبر جمعية تأسيسية ‏ على الخيارين المطروحين: الوحدة مع مصر أو الاستقلال. 
ومع تعارض القرار مع نصوص الاتفاقية التى أعلن الأزهرى لعبد الحكيم عامر وصلاح 
سالم أنها ستنفذ نص وروحاء إلا أن المرء قد يفترض حسن النية ويقول أن الحزب الحاكم 
والغالب أراد أن يعطى مشروعية أعلى للقرار بترك الأمرللشعب. مصدر كل السلطات» 
ليقرر فيه عبر استفتاء شعبى. ولكن؛ فى تغيير مفاجئ » قام نفس البنرلمان فى منتصف 
ديسمبر ١165‏ (بعد مرور أقل من أربعة أشهر على قراره الأول) بإلغاء ذلك القرار الذى 


201 


سبق أن وافق عليه بالإجماعء واستبداله يقرا رآخر ( بالإجماع أيضا) يقضى بأن تتم 
ممارسة حق المصير عبر البرلمان المنعقدء أى أن البرلمان منح نفسه حقأ لم تمنحه له 
السلطة التى أوجدته» بل نهته ضمناً عن ممارسة ذلك الحق. الإجماع على القرارين يعنى 
تواطؤ كل الأحزاب على نقض الاتفاقية . تلك المناورات المتعارضة لا تعبر فقط عن غياب 
كامل للرؤية اللاستراتيجية» بل تكشف عن قدر كبير من الاستهانة بموضوع خطير وذى 
أهمية لكل شعب السودان. ولسوء الحظء أصبحت تلك الاستهانة سمة ملازمة للسياسة 
السودانية» ونموذجاً سارت عليه السياسة البرلمانية فى السودان. 

فى إطار قانونى بحت يعد قرار البرلمان فى ديسمبر ١105‏ عملا خارجاً على الشرعية 
الدستورية لأسباب عدة: 

أولاً :خرج القرار عن بنود الاتفاق المصرى البريطانى الذى تم الاتفاق عليه برضاء كل 
الأطراف الشمالية مما يمثل استخفافاً بهيبة الاتفاقات الدولية. 

ثانياً:كشف القرار عن نقص كامل فى الجدية والتعقل فى معالجة كبريات الأمور كما 
تفعل المجالس النيابية فى مناطق أخرى فى العالم عند تداولها للقضايا الأساسية. فمثلاً لا 
يستقيم عقلاً أن يكون لنفس البرلمان رأيان» ينقض الواحد منها الآخرء خلال أربعة شهور. 
وحول أهم واجباته فى تلك المرحلة. 

ثالثاً :أحبط قرار البرلمان إرادة الشعب فى تقرير مصيره؛ فالبرلمان السودانى» حسبما 
نص القانون الاساسى الذى تشكل بمقتضاه, لم ينتخب لممارسة حق تقرير المصير نيابة 
عن الشعب السودانىء وإنما ليصدر التشريعات ويضطلع بالإشراف على الحكم خلال فترة 
الحكم الذاتى. 

مع ذلكء كان تحول الأزهرى, بلغة السياسة الواقعية (01101م 21©) عملا بارعا من 
لاعن يجيد ذلك الضزب عن السناسة: سفعل الأزهرئ مماتدة عضر للخلا سن من 
الإنجليز» ثم ما لبث أن برز للناس بدوافعه الحقيقية. هذا تقويم موضوعى محايد لموقف 
الأزهرىء ولكن ربما استخدم مؤيدوه الذين آمنوا بالوحدة مع مصرء أو وضعوا ثقتهم فيه 


202 


كزعيم للتيار الوحدوى» تعبيرات أخرى فى وصف ذلك التحول المفاجئ. وبعيداً عن 
السفسطة» فإن الخداع ونكران الجميل فى عالم السياسة الواقعية» أداة هامة من أدوات 
المهنة . سكل أمير النمسا شوارزينبرج عما إذا كان يدين بالفضل لروسيا لأنها ساعدته فى 
قمع الانتفاضة المجرية عام 21444 فأجاب قائلاً:سوف تذهل النمسا العالم بجحودها. 
وهكذا كان موقف الأزهرى مع كل من مصر والوحدويين الحقيقيين داخل السودان. 

نتيجة لتحول الأزهرىء لجأ صلاح سالم لمناورات عديدة لزعزعة نظام حكمه. 
وبخاصة داخل حزيه. ومن البدهى ألا يكون ذلك التحول مصدر غبطة لمصرء ولعلها 
أرادت تجاوز الأزهرى بضغوط على الحزب الوطنى الاتحادىء إن لم يكن بانقلاب حزيى 
داخلى. زاد من إرباك الأزهرى لمصرء كما قلناء صدور التصريح حول نواياه فى إعلان 
الاستقلال فى لندن؛ مما دفع خبراء نظرية المؤامرة فى مصر والسودان للقول بأن الزعيم 
السودانى اتخذ موقفه ذاك نتيجة لتحريض من البريطانيين. ذلك زعم ليس هناك مايؤيده. 
فبين الأزهرى والبريطانيين ود مفقود تفصح عنه الوثائق الرسمية والتى سنشير إلى جزء 
منها. وعلى كل» إن صدقنا رواية محمد نجيبء فإن مصر قررت قبول الأمر الواقع . يروى 
نجيب أن صلاح سالم عاد من إحدى زياراته للسودان ليبلغ مجلس الثورة بعد اعتقال نجيب 
بشهور (75 أغسطس )١1155‏ بأن السودان ضايع ضايع ويعترف بأن السودانيين يرفضون 
الاتحاد بسبب الأخطاء التى وقعنا فيها.(') ووفقاً لرواية نجيبء اقترح سالم على عبد الناصر 
السفر فوراً إلى الخرطوم ليعلن استقلال السودان حتى يصبح بطل استقلال السودان.(") ولا 
شك فى أن فى مذكرات عبد اللطيف البغدادى وأحمد حمروش التى سبقت الإشارة إليها ما 
يفيد أن أساليب صلاح سالم فى السودان لم تكن تلقى التأييد المطلق من زملائه الضباط 
الأحرار. 

كان أخلد بقادحى الأزهرى الذهاب لسبب أدنى من التهمة الغليظة التى وجهت له: 
العمالة لبريطانيا. نعم هناك الدافع الوطنىء كما هناك ما هو أدنى من الأسباب» حتى لمن 
لا يريد أن يعترف بدوافع الأزهرى السياسية الوطنية. لقد ظل إسماعيل الأزهرى طوال 
فترة مؤتمر الخريجين يلقب بصاحب الرئاسات.ء إذ كان يتراس كل اللجان القيادية للمؤتمر 


203 


كما يترأس بالطيع حزبه. وصاحب الرئاسات اسم كان يتندر به الاتحاديون (حزب حماد 
توفيق) على الزعيمء خاصة الأستاذ الهادى أبو بكرء الرجل الذى نحت التعبير. ومكافأة 
على أدواره تلك فى مؤتمر الخريجين أصبح الأزهرى رئيسآ لأول حكومة وطنية» وأول 
زعيم وطنى يمتع بالحكم فى السودان» بعد أكشر من نصف قرن من الحكم الأجنبى .ولا 
شك فى أن الأزهرى قد سر بالحكم سروراً بالغأ ومن الناحية النفسية» يصعب على رجل 
يحتل الموقع الأول فى بلاده أن ينتهى فى مغامرة غير محسوبة إلى رقم آخر لا يعلم إلى 
أين ستتدلى به مراجيح السياسة. و لا نظن أن الأزهرى كان سيرضى لنفسه بموقع المواطن 
الأول فى دولة وادى النيل. ويحدثنا أبو بكر بن زكريا الرازى أن من أمارات الإقبال والدولة 
عشق الرئاسة» وفرط محبتها حتى أنه (أى الرئيس) لا يرى عيشأ إلا بهاء ولا يعلم أمرأ 
سواها .(4) 

وللواء محمد نجيب الذى أطاح به جمال عبد الناصر بعد وقت قصير من عودته من 
زيارة غير موفقة للسودان» تفسير آخر لموقف الأزهرى. جاء فى مذكراته أن إبعاده عن 
الحكم كان هو الدافع الأساس فى تحول الأزهرى عن الاستقلال. ومع إقرارنا بأن نجيباً كان 
محل تقدير وإعجاب من جانب السودانيينء وبأن السودانيين كانوا يبادلونه إعجاباً 
بإعجاب. إلا أن فى القول أن إبعاده عن الحكم كان سبباً مباشراً لتحول الأزهرى عن 
الاتحاد فروط. نعم» حببت نجيباً إلى قلوب أهل السودان مواقفه الأخوية» وتواضعه» وحبه 
للسودان وشعبه» وحرصه على العلائق الطيبة مع كل قياداته» وتأكيد انتمائه إليهم . لكل هذا 
قوبل إقصاء نجيب بغضب شديد من جانب السودانيين على اختلاف توجهاتهم . ففى اليوم 
الذى تلى إقصاء نجيب عن الحكم قال القطب الاتحادىء: مبارك زروق لجريدة الأيام أن 
قرار الإقصاء يؤثر على الفهم العاطفى للوحدة . كما قالت الصحيفة فى افتتاحيتهاء وبلغة 
بعيدة كل البعد عن الدبلوماسية التى اتسم بها تصريح زروقء إن الديكتاتورية الفاشية التى 
تحكم مصر بقوة الحديد والنارلا يرضيها أن يرتفع صوت واحد ينادى بالديموقراطية. 
وكانت جريمة نجيب أنه لم يخضع لحكم البكباشية ولم يرض سيطرة الديكتاتورية . أضافت 
الأيام أن الشعب السودانى الذى يؤازر شعب مصر فى محنته لن يرضى مطلقاً أن يتحد مع 


204 


ديكتاتورية. تدافع أيضاً شعراء السودان للوقوف مع نجيب» ومن بينهم شاعر حزب الأمة» 
صالح عبد القادر والذى مازالت بنفسه غصة منذ تخلى الجيش المصرى عن أعضاء حركة 


اللواء الأبيضء والتى كان صالح عضواً فيها.(') قال صالح: 


فمن عهدناء عهد اللواء ونحن ما 

نزال نعائى ما تماتى وتغرم 
وكنا ترى فيها الصديق وعتدما 

اطمأنت بدت اطماعها تتجسم 
إذا هان مثلك يا نجيب فماهو 

الضمان بأنا لا نهون وتَهضّم 
وهاهى اقدارالرجال تدهورت 

فويل لمن يستاء أو يتبرم 
وقد ألفيت فيها العقول فكل من 

يشير إلى جرم العساكر مجرم 


غير أن أهم القصائد التى نظمت فى تأييد نجيب هى قصيدة الشاعر الفذ أحمد محمد 
صالحء والذى أصبحء فيما بعدء عضوأ فى أول مجلس للسيادة (رأس الدولة) بعد الاستقلال. 
وتكتسب القصيدة أهمية ليس فقط لجزالة شعرهاء وإنما أيضأ للظروف التى واكبتها. قال 


الشاعر: 

ماكنت غدارا ولا خوانا 

كلا ولم تكيا نجيب جبانا 
يا صاحب القلب الكبيرتحية 

من آم ةأوليتها إحسانا 
ياويح مصرماددهى ابتاءها 

فمضوا على أحفادهم عميانا 
ركبوا رؤوسهم فكانت فتنة 

هوجاء ما تركت لهم إخوانا 


205 


قالوا أردت تسلطا وتجبرا 
ومشيت تبغى الجاه والسلطانا 


كذبوا فعرشك فى القلوب مكانه 
أتريد من بعد القلوب مكاناة 
أمل البلاد وصوتها الرنانا 
هذا جزاء الملحسنئين وقلما 

تلقى على إحسانك الإحسانا 
تلك القصيدة حملها الوزير الاتحادى خضر حمد إلى مصر لطباعتها ودوهم وهو فى 
المطبعة مما خلق أزمة كبيرة بين البلدين.('') مع كل هذاء بل ومع المخاوف التى أبداها 
كثيرون من أن الاتحاد مع مصر قد يقود إلى انقضاض العسكر على الحكم وإجهاض 
الديموقراطية» نرجح أن لا يكون لاستبعاد نجيب من الحكم تأثير مباشر على قرار الأزهرى 
فى واقع الأمرء يعتقد كثيرون أن إلتزام عدد كبير من الوحدويين بالوحدة مع مصر كان 
التزاماً زائفاً من البداية. فالدعوة للوحدة لم تكن إلا خدعة لإحباط ما كان يشاع عن نوايا 
الأنصار لتنصيب المهدى ملكا على السودان. ولربما كانت هذه المخاوف وراء تعاون 
مؤتمر الخريجين بعد اكتساح حزب الأشقاء (حزب الأزهرى) لانتخاباته فى عام ١9155‏ 
مع السيد على الميرغنىء وتبنيه فى أبريل ١145‏ لمبدأ الوحدة مع مصر تحت التاج 
المصرى. ويبين قبول استبدال تاج محلى بتاج من الخارج أن القضية ليست هى رفض 
الملكية من حيث هى نظام للحكم (كما رفضتها مصر نفسها بعد أقل من عقد من الزمان) . 
وإنما هى صاحب التاج والمواريث التى يحملها. فعلى سبيل المثال رفض الوحدة 
الجمهوريون فى السودان على عهد مؤتمر الخريجينء» دون أن يلحقوا ذلك بدعوة للوحدة 
مع مصر. وكان للجمهوريين رأى فريد حول تلك الوحدة عبزواعنه» فئ إحدي رسائلهم 
بالقول للمصريين: : نحن لم نفهمكم كما ينبغى أن تفهمواء ولم تفهمونا كما ينبغى أن نفهم. 


206 


نحن لم نستقلء وأنتم لم تستقلواء والشرق جميعاً لم يستقل لأننا كلنا آثرنا أن نفكر برغباتنا 
ومخاوفناء بدلا عن عقولناء ونحن فى معترك لعمالقة الفكر فيه سلطان ودولة.(١١)‏ 
لايعنى ذلك قطعاء أن الطبقة السياسية السودانية لم تكن مدركة لأهمية العلاقة الوثيقة 
مصرء فعلى النقيضء كان السودانيون الشماليون على اختلاف مشاريهم الفكرية يطمحون 
لمثل هذه العلاقة» بل يرونها أمراً لابد منه» ولا محيص عنه. ذلك الرأى تجلى بوضوح فى 
مناقشات مؤتمر الخريجين» حيث أشارت إحدى النقاط فى مذكرة المؤتمر الشهيرة التى 
رفعتها النخبة الشمالية لحكومة الاستعمار فى عام ١147‏ إلى الحق الطبيعى للسودانيين فى 
إيرام اتفاق خاص بين البلدين . فى ذات الوقت كان جانب كبير من أعضاء المؤتمر على 
وعى دائم بأهمية الحفاظ على هويتهم الخاصة فى مواجهة ألهوية المصرية . ولهذا كان 
الخلاف بينهم حاداً حول حدود العلاقة مع مصر؛ أهى اندماج كما يرى البعضء أو وحدة 
بين بلدين تحت تاج واحد كما يرى بعض آخرهء أو علاقة صداقة متينة بين بلدين ندين 
مستقلين» كما ترى جماعة ثالثة. على أن المفارقة المذهلة هى أن ذلك الوعى الشديد من 
قبل السياسيين الشماليين بهويتهم الوطنية الخاصة؛ وحرصهم على الحفاظ على 
خصوصيتها فى مواجهة هوية إخوانهم فى الشمال (المصريين) » صاحبه إنكار مطلق 
للطبيعة الخاصة لهوية إخوانهم الآخرين فى الجنوب (السودانيين الجنوبيين) . 

المخاوف من الطموحات الملكية المهدوية كانت سائدة آنذاك حتى بين بعض الأصدقاء 
البريطانيين للمهدى نفسه. هذه المخاوفء فى تقديرناء أسهمت فى إثارتها بقدر كبير 
شخصية المهدى نفسها أكثر من طموحاته أو تصريحاته. كان المهدى رجلا شامخاًء يسعى 
لكسب البعيد وتقريب الأبعدء كما كان خصب الجناب» فضفاضاً فى عطائه. وعندما تجتمع 
هذه الصفات لرجل ذى زهاء (سند) تزداد شكوك خصومه فيهء لاسيما فى ظل الصراع 
المعلن والدفين بين الجماعات السياسية ذات العمق الدينى. تلك المخاوف لم تنتب دعاة 
الوحدة مع مصر فحسبء بل أصابت بعض دعاة الاستقلال كالجمهوريين» والجمهوريين 
لإشتراكيين» ولم تهدأ حتى بعد أن أصدر المهدى إعلاناً واضحاً فى أغسطس ١107‏ أيد فيه 
قيام نظام ديموقراطى جمهورىء ونفى بذلك على نفسه تهمة السعى لإقامة ملكية مهدوية. 


207 


وكحال مصرء لم يكن حزب الأمة سعيداً باختيار الأزهرى الاستقلال؛ إذ كان يظن بأن 
إيكال أمر الاستقلال لحكومة مشكوك فى نواياها نحوه مغامرة غير محمودة المغبة. من بين 
الشكوك الأخرى التى كانت تتردد أن إعلان أزهرى للاستقلال مرتبط بحلف دفاعى مع 
مصرء وكان هذا هو رأى الحزب الشيوعى. ففى تحالفات السودان السياسية التى لم يكن 
يحكمها منطقء؛ وقف الحزب الشيوعى السودانى إلى جانب حزب الأمة ضد تحول 
الأزهرى نحو الاستقلال: لابغضاً فى الاستقلالء وإنما لمقارية الحزب لتلك القضية من 
منظور أيديولوجى سياسى. عن ذلك الرأى عبر بيان أصدره اتحاد طلبة جامعة الخرطوم 
الذى كان يسيطر عليه الشيوعيون يومذاك» ونشرته جريدة الأمة. قال البيان أن الاستقلال 
مطلب طبيعى لا يقبل الجدل ولكن "ارتباط السياسة الخارجية والدفاعية والتجارية مع 
مصر يعرض سيادة السودان لمخاطرء خصوصا إذا كان مع حكومة استبدادية كالحكومة 
التى تحكم مصر والتى حددت موقفها نهائياً مع المعسكر الاستعمارى بعد أن وقعت معه 
عدة اتفاقيات خائنة كاتفاقية التقطة الرابعة. وهى فى طريقها الآن إلى إبرام اتفاق دفاعى 
عدي يكيل اعت اللنسترى لزنه فين الأغلول!17) موقت الحرّت التروع يون شك 
كان أكثر علقة بالصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتىء منه بقضايا السودان 
الداخلية. 

ومن المفارقاتء أن البريطانيين» رغم نظرتهم السلبية لأزهرى:('') لم يكونوا يشاركون 
حزب الأمة نفس الشعور. فعقب الانتخابات أجرى السير وليام لوس» مستشار الحاكم العام 
تحليلاً ضافياً لتلك الانتخابات جاء فيه أنه» بالرغم من أن محور الاتنخابات هو قضيتا 
الوحدة والاستقلالء إلا أن الصراع الحقيقى كان حول المخاوف من عودة مهدية ثانية» 
والرغبة فى التخلص من استعمار جاثم. ودون تقليل من شأن التدخل المصرى فى 
الانتخابات» قال لوس "إن تركيز حزب الأمة على العدو المصرى كان أمرأ غير موفق لأن 
مصر لم يعد لها وجود فى السودان منذ عام »١175‏ ولهذا فإن الدعوة للتحرير من المحتل 
لا تنطبق إلا على البريطانيين» فالمصريون شريك 00 (5عمع221 ع 1ازمء»51) كما 
أشار لوس إلى أن السيد عبد الرحمن المهدى ومستشاريه فى حزب الأمة خاضوا المعركة 


208 


فى الساحة التى اختارها الميرغنى إذ جرهم جرأ لمحاربة مصر (العدو الوهمى) بدلاً من 
التركيز على منافع الاستقلال.(4١)‏ 

قيادة الأزهرى لشئون البلاد لم تكن قيادة سهلة فى بادئ الأمرء فقد أدت أحداث الأول 
من مارس 1154 (') إلى تأجيل افتتاح أول برلمان فى السودان. تلك الأحداث؛ كان لها ما 
بعدهاء إذ بدأ البريطانيون عقبها فى تغيير اتجاه عجلة القيادة وتوجيهها إلى الأزهرى. 
بالرغم من الأوصاف المقذعة التى سبق أن وصفوه بها مثل تلك التى وردت فى كتاب 
بيل. بعبارة أخرىء كانت أحداث الأول من مارس بمثابة حد فاصل فى العلاقات بين 
حزب الأمة والبريطانيين. وتفيد التقارير أن رأى البريطانيين إستقر على أن هزيمة حزب 
الأمة فى الانتخابات ( بصرف النظر عن تدخل مصر السافر فيها)» كانت تعبيراً عن 
مخاوف السودانيين من عودة المهدية التى لا زالت ذكرياتها عالقة فى أذهان الكثيرين 
منهم . تفيد الوثائق أيضأ أن وليام لوس كان هو القوة الرئيسية الدافعة نحو ذلك التغيير فى 
السياسة البريطانية . ويستشف الباحث من تلك الوثائق أن المهدى كان غاضبا أشد الغضب 
من موقف لوسء ففى لقاء بينهما طالب المهدى لوس بأن لا يترك السودانيين الحقيقيين 
(الأنصار) للختمية الذين جاء بهم المصريون من الخارج.!'') وفيما يبدوء استقر رأى 
البريطانيين على أن فشل حزب الآمة فى الانتخابات» رغم التدخل المصرىء كان نتيجة 
لإصرار الأنصار على خوض النعركة على أساس طائفىء الأمرالذى حذر منه 
البريطاتيون كما يزعمون.!"') ومن الغريب أن واحداً من البريطانيين المقربين للمهدى 
كان قد نصحه بأن لا يرشح ابنه صديق فى الانتخابات لما يوحى به الترشيح من عودة 
للحكم المهدوى.(*') تلك النصيحة أغضبت السيد عبد الرحمن أيما غضب لأن ابنه 
الصديق كان مؤهلا بكل المعايير ليكون نائباً برلمانياً. 

تبنى الحاكم العام الموقف الجديد نحو الأزهرىء كما تنبئ بذلك مذكرته إلى وزير 
الخارجية البريطانية» أنطونى إيدنء والتى جاء فيها: إذا تحقق الاستقلال عبر الختمية 
والحزب الوطنى الاتحادى سيكون هذا أفضل ولن يكون لحزب الأمة أى دافع سياسى مقبول 
يبرر به الاعتراض على القرارء وحينئذ سيصبح حزب الأمة مضطرأء مرة أخرى, لإحداث 


209 


انقسامات طائفية غير مقنعة تماماً يبرر بها استخدام العنف:('') والعبارة الأخيرة تشير 
بجلاء إلى أحداث الأول من مازس. كان من الممكن أن تؤدى تلك الأحداث إلى التعجيل 
بإنهيار الدستور بمقتضى المادة ٠١7‏ من قانون الحكم الذاتى المتعلقة بسلطات الحاكم العام 
التقديرية فى حالات الانهيار الدستورى. إلى هذا الرأى ذهب وزير الخارجية سيلوين لويد 
بناء على نصيحة رئيس القضاء البريطانى جون اوبرين ليندسىء ولكن الحاكم العام كان له 
رأى آخرء اعتمد فيه على توصية سير وليام لوس» ونصيحة مستشاره القانونى» جاك ما 
فروقور داتوء ومستشارييه الإداريين كيرنك ودنكان. 

قبل أحداث الأول من مارس وتوجه الأزهرى لإعلان الاستقلال» كانت حكومته بعيدة 
كل البعد عن الاستقرار أو الأداء الجيد لسببين: السبب الأول هو أن الأحزاب الاتحادية التى 
تاملك اتكون لزت الوطني الاتمادئئ هنا برخت وقيية أنه الآتتبنام من جل “من 
وحدتها المعلنة غطاء مصطنعاً. لهذاء لم يكن غريباًء أن تشهد الحكومة مؤامرات عديدة 
للإطاحة برئيسها بلغت ذروتها عندما أقصى الأزهرى ثلاثة من وزرائه بعد تأييدهم لقرار 
بسحب الثقة من حكومته فى البرلمان. الوزراء الثلاثة برروا حجبهم الثقة عن رئيسهم بسيب 
مراوغته فيما يتعلق بمسألة الاستقلال» مما يعنى أن تياراً هاما فى داخل الحزب الذى أسس 
لدعم الوحدة مع مصر كان يرفض هذه الوحدة» أو على الأقل يفضل علاقة ودية بين ندين. 
ولم يتبلور مطلقاً مشروع الوحدة فى داخل ذلك الحزب الاتحادى المظلى» بل كان يتراوح بين 
قطبين قصيين: قطب يدعو لدمج السودان فى مصر تحت تاج واحد ( محمد نور الدين 
والدرديرى أحمد إسماعيل)» وقطب استقلالى يقوده ميرغنى حمزة . وبين القطبين كان هناك 
من يدعو لاتحاد أقرب إلى الكونفيدرالية» ويقترب من موضوع الوحدة اقتراباً حضارياً (أى 
وحدة ترتكز على مقومات حضارية تاريخية) وعلى درجة من الصدقية كبيرة (حزب 
الاتحاديين بقيادة حماد توفيق) . ولربما كانت هذه المجموعة داخل البيت الاتحادى هى أكثر 
الجماعات الاتحادية سعياً لأن تطعم السياسة بالفكرء إلا أن مشكلتها الأساسية داخل السودان 
كانت تكمن فى نظرتها الدونية لثقافات السودان الأخرى (الثقافات غير العربية) . بيد أن هذه 
الجماعةء كانت منطقية فى اقترابها من المشكل إذ أنها كانت لاتبالى» فى سبيل الإبقاء على 


210 


هوية السودان العربية» من أن ينفصل الجنوب. وفى هذا كانوا أكثر أمانة مع أنفسهم من الذين 
عمقوا من أزمة السودان بسعيهم للحفاظ على هوية عربية فى ظل وحدة بحد السلاح 
مفروضة. المجموعة النازعة نحو الاستقلال» رغم اللافتة الاتحادية للحزب الذى انتمت إليه» 
هى التى قادت حملة حجب الثقة عن أزهرى ثم انشقت لتؤلف حزياً جديداً هو حزب 
الاستقلال الجمهورى. تلك المجموعة ضمت من أقطاب الحزب الوطنى الاتحادى ميرغتى 
حمزةء خلف الله خالدء الشيخ محمد الحسن دياب»؛ عثمان أبو العلاء وسيد أحمد عبد الهادى. 
وكان الرقم الغامض فى المعادلة الاتحادية هو الفريق الذى يتزعمه الأزهرى. ذلك الفريق. 
كما قلنا وأثبتت التطوراتء لم يلجأ للخيار الوحدوى إلا لحشد قوى مصر ضد بريطانياء ومن 
بعد سيدبر الله الحال ويقضى أمراً كان مفعولا. 

السبب الثانى هو النقص فى عناصر الخبرة الإدارية داخل القيادة الجديدة . فباستثناء 
بعض البيروقراطيين الذين اكتسبوا خبرة فى العمل فى مواقع عالية نسبياً فى الخدمة العامة 
أو فى ميادين العمل الخاص (ميرغنى حمزة» حماد توفيق» مبارك زروقء أمين السيد) . 
كان أغلب من تستنموا ذروة الحكم من الذين جاءت بهمء إما تضحياتهم السياسية» أو دورهم 
الوطنىء أو رغبة الحزب فى تحقيق توازنات قبلية أو إقليمية. وقد جاء حين من الدهر كاد 
فيه عدد الوزراء والوكلاء البرلمانيين أن يصبح بقدر عدد النواب. فى إطار تلك الإدارة 
العبتية أصبحت مصلحة النقل الميكانيكى وزارة» وأصبحت مصلحة المخازن والمهمات 
وزارةء ووقى الله من ذلك الشغب الإدارى مصلحة الوابوراتء ففى السودان بين المخازن 
والوابورات نسب. إن لم يكن فى المهام» ففى الغناء الشعبى والتنافس الكروى. هذا فى حد 
ذاته ما كان ليكون عائقاً لنوع من الحكم الصالح, لولا فقدان النوايا الحسنة» فى وقت كان 
يتطلب الوضوح فى السياساتء والدبلوماسية البريعة فى التعامل مع القضايا المتفجرة مثل 
قضية الجنوب. من هذا نخلص إلى أن انغماس الحكم فى الصراع البريطانى ‏ المصرى ثم 
فى صراعاته الداخلية» والغياب الكامل للإستراتيجية الهادية بسبب التنافر حول أهم 
الأهداف التى انتخب الحزب لتنفيذها (الاتحاد مع مصر)ء لم يوفرا له حضور الذهن 
للتركيز على قضية الوحدة الوطنية» ناهيك عن صياغة سياسات المستقبل. 


جاءت من بعد عملية السودنة (أى استبدال الحكام الأجانب بالسودانيين) وفقما نصت 
عليه الاتفاقية البريطانية ‏ المصرية. ولا شك فى أن الحزب الحاكم أولى الاعتبارات 
السياسية اهتماماً أكبر من الاعتبارت الوطنية» وذلك عن طريق بسط نفوذه على عملية 
توزيع الوظائف بما يعود بالفائدة على مؤيدى الحزب والمقربين منه. وقد يجد المرء عذرا 
لحكومة الأزهرى فيما يتعلق بالشمال إذ أن أغلب الموظفين المؤهلين نسبياً للترفيع كانوا من 
أبناء الشمال النيلى» ومن أبناء المجموعات التى تنتمى تاريخياً للختمية أو تتعاطف مع 
الأزهرى. إضافة إلى هذاء فإن الرجل الذى أوكلت له رئاسة لجنة السودنة (الدكتور عثمان 
لبر عكن لسدالله.من جضره) كان رغم اانتمانه العزي :رودا ذا نصفة وله قن ذلك 
مواقف جليلة إيان خدمته فى جنوب السودان. لهذا فإن الآثار الضارة التى ترتبت على 
عملية السودنة فى جنوب السودان لا تتحملها لجنه السودنة بقدرما يتحملها السياسيون 
الذين أفرطوا فى إطلاق الوعود. فقد وعد الأزهرى, مثلاً؛ فى حملته الانتخابية فى ذلك 
الإقليم بأنه"سيعطى أولوية للجنوبيين عند توزيع الوظائفء ليس فقط فى الجنوب وإنما فى 
السودان كله. ولكن» عند إكمال السودنة» لم يحظ الجنوب إلا بست وظائف من مجموع 
ثمانمائة وظيفة . بيد أن اكثر الوعود مغالاة» حسب تقرير القاضى قطران7” ') هوما وعد به 
صلاح سالم الموظفين الجنوبيين فى لقاء له معهم فى جوبا. فى وعده ذلك أعلن صلاح 
سالم أن الموظفين الجنوبيين- ولا أحد سواهم ‏ هم الذين سيرثون الإنجليز عند مغادرتهم 
البلاد. وعندما سأله عامل طبى (4:65564) فى مستشفى جوبا عما إذا كان بإمكانه تولى 
وظيفة ال (0584011) أى حكيمباشى المديرية» أجاب سالم بالإيجاب (ربما دون اكتراث 
لمعرفة معنى الاختصار الذى أشار إليه العامل الطبى) . 

لا شك فى أن الذين كانوا يطلقون تلك التصريحاتء قد ذهب بهم الوهم إلى أن الوعود 
الانتخابية ذريعة آنية لكسب الأصواتء لا جزءاً من استراتيجية سياسية لتنفيذ مشروع 
وطنى . ولو كانت الوعود جزءآ لا ينجزأ من أية استراتيجية محكمة لوجه الأزهرى لجنه 
السودنة للالتزام بتلك السياسة»ء تماماً كما لوكان إعلان صلاح سالم يعبر عن سياسة 


مصرية رصينة نحو الجنوب لوجه مندوب مصر فى لجنة السودنة» عبد الفتاح حسن. 


212 


لاتباع تلك السياسة. وكثيراً ما يدعى بعضنا فى الشمال أن تجاهل لجنة السودنة للجنوبيين 
فى توزيع الوظائف يعود إلى نقص الكفاءات التى تتطلبها تلك الوظائف بين موظفى 
الجنوب. مثل هذه الدعوى لا تنفى؛ بل تؤكد خطورة قلة المبالاة بكبارالأمور» فإن كان 
ذلك هو الحال حقاً فلماذا أطلقت الوعود؟ 

باختصار كان لسياسات أول حكومة وطنية ديمقراطية ثلاثة آثار رئيسية على الجنوب: 

١‏ استياء واسع النطاق ضد الإدارة الجديدة فى الإقليم» والتى أصبحت بصورة شبه 
كاملة فى أيدى موظفين شماليين. حتى منصب مدير المشروع الاقتصادى الوحيد بالجنوب 
(مشروع انزارا)ء لم تجد الحكومة جنوبياً واحدأ وفيهم من صار نائباً برلمانيا ومن أضحى 
وزيراً- توليه عليه. شغل ذلك المنصب خليفة محجوب وهو ضابط بوليس شمالى كفء 
ومقتدر. لكن تلك ليست هى القضية. 

١‏ - إحساس الساسة الجنوبيين بإقصاء الشمال لهم عن عملية انتقال السلطة أثتاء 
المفاوضات البريطانية زاد من إحباطهم وعدم ثقتهم فى ساسة الشمال» وفى مصر أيضاً. 
فخلال تلك المفاوضاتء كما أسلف الذكرء غيبت القوى الجنوبية تغييباً كاملاً. ريما لظن 
ساسة الشمال بأنهم يملكون الجنوب بحق الشفعة. كان قصاراهمء هو استمالة الجتوب برشا 
النخبة الجنوبية» الحديثة والتقليدية» بهدف إحقاق الباطل وإيطال الحق. ومن الواضح أن 
أولنك الساسة لم يكونوا يرون فى الجنوب إلا شيئين: رصيد إستراتيجى للانتخابات» 
ومجموعات من النخب خلقها الاستعمارء وبالتالى لا مكان لها ولا سلطان بعد خروج 
الاستعماز: 

"' - عدم الانتباه للحقائق التى لاتخفى على عينء ناهيك عن التقيارات الخفية 
المضطرية التى أدت فى النهاية إلى اندلاع العنف وبداية التمرد فى الجنوب. 

القيادة السياسية الجديدة فى الجنوب لم تكن صامته إزاء هذه الأحداث بل واظبت على 
إثارة انتباه الساسة الشماليين خلال المفاوضات ويعدها. فمثلاًء فى ديسمبر ١107‏ اعترض 
تجمع جنوبى أسمى نفسه لجنة جوبا السياسية» وضم ست وثلاثين من قادة الجتوب» على 


213 


اتفاقات القاهرة بين مصر والأحزاب الشمالية لأنها تمت دون مشورة الجنوب؛ كما اعترض 
و 

على التعديل الذى أدخل على المادة ٠٠١‏ من قانون الحكم الذاتى والذى يمنح الحق للحاكم 
العام للتدخل فى حالة اتخاذ أى سياساتء أو سن أى قوانين تضير بمصالح الجنوب. وكان 
الحزب الشمالى الوحيد الذى وقف بجانب هذا الرأى هو الحزب الجمهورى الاشتراكىء إذ 
تحفظ على التعديل عند توقيع ممثليه (إبراهيم بدرى ومحمد أحمد أبوسن) على الاتفاق 
البريطانى ‏ المصرى مع حسين ذو الفقار صبرى فى الخرطوم فى نوفمبر ١157‏ . وذكر 
الموقعان بوضوح أن الجنوبيين لا يثقون فى ساسة الشمالء ولهذا فمن الضرورى الإبقاء 
على تلك الضمانات أو إبدالها بضمانات أخرى حفاظاً على وحدة القطر.(١")‏ 

من جهة أخرىء قام حزب الأحرار الذى كان يتزعمه ستانسلاوس بياسما بتوحيد كل 
البرلمانيين الجنوبيين للعمل تحت مظلة واحدة. وبالفعل التقت تلك الجماعة فى أبريل ١126‏ 
بمدينة جوبا وكان على رأس مطالبها تشكيل حكومة فيدرالية . ذلك المطلب لم يسترع اهتمام 
الحكام فى الخرطوم؛ أو يخفف من الاندفاع فى سودنة الوظائف فى الجنوب دون أدنى 
اعتبار لآراء أهله. لو فعلوا فلربما كان فى مقدورهم وضع حجر الأساس لسودان مستقر موحد 
غداة يوم الاستقلال. وحرف لود فى وجه من وجوهه - يعبر عن امتناع الجواب لامتناع 
الشرط. ذلك الشرط أدركه السيد عبد الرحمن المهدى وكان له فيه قالة حكيمة. روى 
السياسى الجنوبى ستانسلاوس بياسما فى سيرته الذاتية التى نشرت عام ١13٠‏ قصة لقائه 
المذهل بعبد الرحمن المهدى والأزهرى وعبد الله خليل. وكان الأزهرى يومذاك رئيساً 
للحكومة الائتلافية التى ضمت كل الأحزاب؛ فى حين كان عبد الله خليل يشغل منصب 
وزير الدفاع فى تلك الحكومة. سأل المهدى ستانسلاوس فى حضور الزعيمين مع 
شخصيات شمالية مرموقة: ماذا يريد الجنوب؟ أجاب بياسما قائلاً إن الجنوب لا يسعى 
للانفصال عن الشمالء ولكنه ينشد حكماً ذاتياً لإدارة إقليمه . وهنا التفت المهدىء, حسبما ذكر 
بياسماء إلى الحضور من رجال السياسة وقال: "اذهبوا وأعطوهم ما يريدون. لقد عجز 
الأتراك عن هزيمتهم» ولم يستطع والدى المهدى أن يفعل ذلكء ولم يتمكن الإنجليز من 
هزيمتهم إلا بصعوبة.("") وقبل إعلان الاستقلال بعام واحد تسلم رئيس الوزراء» إسماعيل 


214 


الأزهرى صورة من خطاب رئيس المؤتمر الجنوبى فى جوباء بنجامين لوكىء الذى وجهه 
لوزيرى خارجية مصر وبريطانيا مؤكداً فيه حرص الجنوب على بقاء السودان موحداً 
شريطة أن يكون هناك إقليمان فى دولة فيدرالية واحدة.('") لا جديد فى هذا المطلبء وإنما 
الجديد هو ما أختتم به لوكى رسالته . قال: إن تعذرت الفيدرالية» فلا مناص من أن ينفصل 
الجنوب بالطريقة التى انفصلت بها باكستان عن الهند؛ وأضاف: لسنا متعصبين دينيين» 
ولكننا نكره الخضوع لاستعمار شمالى فى الجنوب. وقد بعث لوكى بصورة من ذلك الخطاب 
إلى رئيس الوزراءء الأزهرى. الكتابة» إذن» كانت واضحة على الجدرانء بالنسبة للأزهرى 
ولمصرء ولكن عقلية التحكم الاعتباطى طغت على الحكمة ونبل المشاعر. هذا حكم غليظ. 
وما على الذى تؤذيه غلظة الحكم بعيداً عن الرومانسية التى سرقت الاهتمام من الجوهر إلى 
العرضء ونأت بالبعض عن الحقيقة إلى الأوهام والأباطيل؛ إلا أن يتمعن من جديد الوقائع 
التى سردنا ورددنا إلى مصادرها. 

نمضى بالقول إلى واقعة أشد فظاعة: الوحشية التى تعامل بها بعض الإداريين الذين 
تسلموا السلطة من الحكام البريطانيين فى الجنوب. روى القاضى توفيق قطران فى تقريره 
قصة مساعد مفتش مركز يامبيو الجديد( بعد السودنة) مع ثلاثين من زعماء الزاندى حينما 
أكرههم على إبراق الخرطوم مستنكرين ما قرره البرلمانيون الجنوبيون (أى الممثلين 
الشرعيين لإرادة أهل الجنوب) . ترى ما الذى كان سيتلقاه هذا المفتش الشمالى إن أقبل 
على مثل هذا الفعل فى إقليم شمالى؟ لا نشك لحظة فى أنه كان سيدان على ولوغه فى 
السياسةء ويوبخ على مسلككه الذى لا يتسم بالكياسة» ويؤنب على مناهضته للقواعد 
الأخلاقية لمهنته. ولكن الحال لم يكن كذلك مع الإدارى الشمالى فى الجنوب. وكأن ذلك 
الإجراء الفظ لم يكن كافياً فى حد ذاته» أصدر نفس الإدارى تعليماته للسلاطين بم 
النائب البرلمانى عن دائرة يامبيوء ايليا كوزىء لتنظيمه حشداً سياسياً لأبناء دائرته يطلعهم 
فيه على نتائج اجتماع جوبا. وبالفعل تمت إدانة النائب البرلمانى كوزى وحكم عليه 
بالسجن عشرين عاماً بموجب المادة 44١‏ من قانون العقوبات السودانى (الإرهاب 
الجنائى) . وحسب المادة يتراوح الحكم فى حالة إدانة المتهم بين السجن عامين كحد أدنى» 


215 


وسبعة أعوام كحد أقصىء مما يعنى أن المحكمة تجاوزت الحد الأقصى للحكم بما يقارب 
ثلاثة أضعاف. ومن الغريب أن تتم تلك المحاكمة دون أن يسعى الاتهام لرئيس البرلمان 
ليطلب منه رفع الحصانة البرلمانية عن النائب. تلك القضايا التى نثير لم تكن تمثل عند 
المفتش إلا تفاصيل (81061165)» فى الوقت الذى يعتبر فيه أهل القانون أن الاهتمام 
بالتفاصيل القانونية (165)ع210 [1652) هو إحكام للقضاء» وتاكيد على الحرص على إتقانه . 
وبعيداً على أى تقعر قانونى» يسأل المرء؛ ما هو الحق الأدبى الذى يبيح لأى نظام حكم 
يستهين يمثل هذه الممارساتء أن يدّعى الالتزام بسيادة حكم القانون؟ لقد كان القاضى 
قطران الفاسطينى أكثر إحساساً بجذر المشكل منأهل الوجيعة. وصف قطران ذلك العمل 
الطائش الذى قام به مساعد مفتش يامبيو بأنه عمل سيئ للغاية من الناحية الأخلاقية 
والإدارية . هل نحن بحاجة» إذن؛ لأن نقول بأن لتلك الأعمال الاستفزازية الحمقاء دورا 
كبيرا فى تصعيد مخاوف الجنوبيين من الشماليين» وفى مضاعفة إحساسهم بعدم الرضا 
عنهمء وإثارة مشاعر الغضب ضدهم . 

من المؤسسات الجنوبية التى تأثرت بشكل مباشر من جراء فرض الهيمنة الشمالية» 
الشرطة والفرقة العسكرية فى الاستوائية. فمن بين الثلاث والثلاثين وظيفة من وظائف 
الضباط فى تلك الفرقة» خصصت أريع وعشرون للضباط الشماليين» فى حين أبقى على 
تسع وظائف فى المستويات الدنيا للجنوبيين. تم أيضاً طرد ثلاثمائة عامل جنوبى من 
مشروعات انزارا؛ ورغم أنه ريما كانت لذلك القرار بالذات دوافع إدارية مثل تقليص العمالة 
الزائدة عن الحاجة» إلا أن الجنوبيين حسبوه محاولة أخرى لتفريغ الوظائف لكيما يسَكٌن 
فيها عمال شماليون. كان ذلك القرار سببأ مباشراً لاندلاع التظاهرات فى انزارا » وإطلاق 
الشرطة النار على المتظاهرين مما أدى إلى قتل ثمانية جنوبيين. وبدلاً عن معالجة الموقف 
بما يتطلبه من حكمةء سيطر على الحاكمين فى الخرطوم شعور بأن جميع عناصر الأمن 
والشرطة فى الجنوب تقف إلى جانب التمردء ولا سبيل لمعالجة الموقف إلا بنقل تلك 
العناصر إلى الشمال» وإحلال وحدات عسكرية شمالية مكانها. وبمجرد توجيه أمر التحرك 
شمالاً للجنوبيين» اندلعت نيران التمرد فى كل من توريت وييى وجوبا ويامبيو ومريدى. 


216 


وعندما تم القضاء على التمرد خلف وراءه 7٠١‏ قتيلاء وتبع ذلك إعدام من تم القبض عليه 
من قادة العصيان. ذلك موقف كان من الممكن تفاديه منذ البداية» لو فطن حكام الخرطوم 
إلى أن وجود قيادات جنوبية فى بعض المواقع المفصلية فى الجهاز الإدارى بالجنوب قد 
يعين على استقرار الأمور. على ذلك تشهد بحر الغزال؛ إذ تمكن من إحكام السيطرة عليها 
والحيلولة دون استشراء العصيان إلى حدودهاء مفتش الشرطة الجنوبى قوردون مورتات. لا 
يقل أهمية عن هذا القصور الإدارى؛ عجز السلطة الحاكمة عن التعمق فى وقوف كل رجال 
الأمن والجيش فى الجنوب بجانب أهليهم» تماماً كما وقف البرلمانيون بالأمس. أو لا يعنى 
هذا أن سياسة الرشوة والإغواء ليست هى السبيل الأمثل لإدارة الأزمة: «رينا هؤلاء الذين 
أغوينا أغويناهم كما غوينا4 (القصص»:7/78١1)‏ . العلاج السليم للأزمة كان يقضى 
بمعالجة الموقف من جذوره مع من يهمهم الأمرء بدلاً من إيهام النفس بأن فى مقدورها 
القفز على الواقع . لخص القاضى قطران المشكلة الجنوبية ببراعة عندما وصفها بأنها مشكلة 
سياسية وليست دينية . وأوضح دليل على ذلكء كما قال؛ هو مشاركة الجنوبيين المسيحيين 
والمسلمين والروحانيين فى التمرد. كما أفاد فى تقريره أن من بين قادة الحملة ضد 
الشماليين كان هناك جنوبيون مسلمون. هذه ليست تفاصيل يستهين بها أى حاكم: كما 
استهان مساعد مفتش يامبيو بتفاصيل أخرىء وإنما هى حقائق دامغة ينبغى أن يدركها 
غير الألباءء لأن اللبيب يفهم بالإشارة . 

ما يصعب تصديقه فى هذا الجو المشحون بالعنف أن مصر التى بذلت من قبل قصارى 
جهدها لتقليص استخدام الحاكم العام لسلطاته الاستثنائية فى قانون الحكم الذاتى» أيدت 
استحساناً لتدخله إيان أحداث الجنوب فى عام ١156‏ . ففى خطوة لم يحسن حسابهاء طلب 
صلاح سالم من سفير بريطانيا فى القاهرة إرسال قوات بريطانية -. مصرية إلى ليرا من 
أجل استعادة حكم القانون والنظام . اللافت للنظرء أن ذلك الاقتراح جاء بعد مرور عام واحد 
فقط على جلاء القوات البريطانية المصرية من السودان» والذى حدث بدقع من مصر. 
وحسبما ذكر السفير البريطانى فى القاهرة» السير همفرى تريفيليان!؟') لم يؤخذ الاقتراح 
مأخذ الجد سواء من جانب السفير نفسه» أو من الحكومة البريطانية فى لندنء أو الحاكم العام 


217 


فى الخرطوم. ولا ريب لدينا فى أن صلاح سالم لم يتخذ تلك الخطوة إلا نكاية فى الأزهرى 
بعد أن توجه نحو الاستقلال» وبما أن التوجه كان محموداً فى رأى البريطانيين» آثروا ألا 
يعيروا الطلب المصرى دنى اهتمام. 

على المستوى السياسى ثابر البرلمانيون الجنوبيون حتى عشية إعلان الاستقلال على 
طلبهم الخاص بتأسيس حكومة فيدرالية» باعتبار أن تلك هى الصيغة الوحيدة التى ترضى 
الجنوب» وتزيل مشاعر الاستياءء وتحفظ للسودان وحدته. إلا أن حكومة الأزهرى وساسة 
الشمال لم يروا فى المطلب الجتوبى إلا محاولة لتغتيت السودانء ولذا هددت الحكومة 
باستعمال الحديد والنارإذا ما أصر الجنوبيون على مؤامراتهم. نتيجة لذلك قام نواب 
البرلمان الجنوبيون فى الحزب الوطنى الاتحادى الحاكم» (داك داى وبولين ألير» الجنوبيان 
الوحيدان فى حكومة الأزهرى) بترك الحكومة والحزب. وسرعان ما رأى حزب الأمة فى 
تلك التطورات فرصة للمزيد من التشويه لصورة الحزب الوطنى الاتحادى بين أهل 
الجنوب» وأدى هذا التطور إلى قيام حلف جديد بين حزب الأمة وحزب الأحرار الجنوبى 
هدفه شن حملات ضد حكومة الأزهرى فى جنوب السودان. من جهته» قام الحزب الوطنى 
الاتحادى بإطلاق حملة مضادة فى الجنوب يحذر فيها الجنوبيين من عودة الاسترقاق 
المهدوى إن مالوا لحزب الأمة.(5") 

لتهدئة مخاوف الجنوب» وتمهيد الطريق أمام الاستقلال الذى بات إعلانه وشيكاً؛ أقدمت 
الطبقة السياسية الشمالية على إطلاق كذبة أخرىء وكانت بلقاء. ففى 77 ديسمبر ١150‏ قرر 
البرلمان أن تنظر الجمعية التأسيسية المرتقبة بعين الاعتبار للمطلب الجنوبى حول الفيدرالية. 
تلك الصيغة كانت رد من الأحزاب الشمالية على المقترح الواضح الذى قدمه بنجامين لوكى 
للمؤتمر الذى ضم جميع الأحزاب (الشمالية والجنوبية) فى ١7‏ ديسمبر ١100‏ بهدف الاتفاق 
على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان. قال لوكى لذلك الاجتماع: إعلان الاستقلال يجب 
أن يرافقه إعلان بتأسيس ولايتين فيدراليتين داخل سودان موحد. وفى تقديرناء لم يك تأجيل 
النظر فى أمر الفيدرالية إلى حين تكوين جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للسودان إلا 
تحايلاً ظاهراً للخروج من المأزقء إذ لا يستقيم عقلاً أن تملك الأحزاب الشمالية الجسارة على 


218 


تجاوز الاتفاقية البريطانية ‏ المصرية» وحرمان الشعب كله من ممارسة حقه فى تقرير 
المصير كما ورد فى تلك الاتفاقية» ثم تجد غضاضة فى اتخاذ قرار يتعلق بنظام الحكم 
(501 01 5]613لا5) فى إطار سودان موحد. وعلى كل» فقد قبل الأعضاء الجنوبيون فى 
البرامان مقترح الأحزاب الشمالية بمعناه الظاهرى (عدالة؛ 120 ]3): ولكن ليس قبل سماعهم 
لكلمات منذرة من زعيم المعارضة فى مجلس الشيوخ»؛ ستانسلاوس بياسما. قال بياسما أن 
الجنوبيين لن يرضوا بما هو أقل من الوضع الفيدرالى للجنوب؛ وأضاف إن المستقيل وحده هو 
الذى سيبين عما إذا كان الوضع سيؤول إلى ذلك أو إلى شىء آخر. ولم يبد الحزبان الرئيسيان 
(حزب الأمة والحزب الوطنى الاتحادى) اهتماماً كبيراً بتلك النذارة» وربما كانا يعتقدان بأنهما 
كسبا الجولة وسيكسبان الجولات الأخرى بمزيد من المكر والخداع. فجوهر الاستقلال منذ 
البداية كان جوهراً كذاباً» كما كان القسم الذى أدئ لدستورة: قسَمًا كاذب مادرق المكسلمونة أن 
اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع» كما جاء فى الأثر : 

بقبول الجنوب لذلك التعهد انتقل السودان إلى الاستقلال فى مطلع يناير عام ١151‏ إلا أن 
الوضع لم يستقر طويلاً. فبعد مضى أسابيع قليلة قادت الأحزاب الشمالية التى أعلنت التزامها 
بالنظر بعين الاعتبار لمطلب الفيدرالية حملة ضارية ضد فكرة الفيدرالية نفسها ووصفتها بأنها 
مخطط استعمارى نسج خيوطه سير وليام لوس.7'") أشد إيلاماً من هذا وقوف قانونيين 
مرموقين (محمد أحمد محجوب ومبارك زروق) ليقولا أمام لجنة الدستور التى أنشئت عقيب 
إعلان الاستقلال بأن الذى اتفق عليه فى ديسمبر ١150‏ ليس هو منح الجنوب الفيدرالية وإنما 
"النظر بعين الاعتبار لمطلب الفيدرالية» وما بمثل هذا التبسيط المراوغ» تعالج القضايا 
المصيرية. القدح فى هذين القانونيين البارزين يؤلمنا كثيراًء ولكن ما حيلتنا إن اعترفا بأن 
استقلال السودان كان نتاجاً لمزاعم زائفة (218)1005ءوعمع2 ع215؟), أو إن تجافيا مبدأين 
أساسيين فى العهود والاتفاقات: الأول هو أن العهود باستيفائهاء والثانى هو أن هذه العهود ‏ أيآ 
كانت الصورة التى قدمت بها تقرأ وتفهم فى إطار الأعمال التمهيدية التى قادت إليها. 

حقاًء اكتنف الجو السياسى العام فى الشمال إنكار غريب لحقائق الحياة فى العالم» وتجاهل 
غير رشيد للواقع الذى كان ماثلاً أمام الجميع. حتى الحزب الشيوعى السودانى الذى كان 


219 


أكثر وعياً من غيره بطبيعة المشكل الجنوبى شارك الأحزاب التقليدية فى التحامل على 
الفيدرالية» رغم تأييده الواضح لمنح الإقليم الجنوبى حكماً ذاتياً. وعلنا نرد موقف الحزب 
الشيوعى إلى الهلع المرضى (000612)؛ من أى شىء دعا له الاستعمار. غير أن الاستعمارء 
إن صح أن الفيدرالية هى واحدة من بنات أفكار وليام لوسء لم يخلف لنا الفيدرالية وحدهاء 
وإنما صاغ أيضاً للسودان دستوره الذى ظل يحكم به طوال العهود إلى عام 2157 وترك لنا 
إلى جانب ذلكء القضاء المستقل» ومبدأً الفصل بين السلطاتء واستقلال الجامعات» ونظام 
الحكومات المحلية. تلك أفكار ورؤى ومؤسسات لم نرثها من مملكة العبدلاب أو الدولة 
المهدية» وإنما أورثها لنا الاستعمارء وحسن بها حالنا. استعمار أو لا استعمارء كان فى مقدور 

ساسة الشمالء نتاج مؤتمر الخريجينء أن يتمثلوا مرة أخرى تجرية الهند. فما كان للهند أن 
تستقر دون اتباع نظام اللامركزية فيها وتقسيمها إلى ولايات ذات سلطات واسعة؛ بعضها 
بالتأكيد» كان أوسع بكثير مما كان يتطلع إليه الجنوبيون فى السودان مثل سلطات دول 
الاتحاد (5ع5121 1[2108) كان فى إستطاعة الشيوعيين تمثل التجربة التى اتبعها لينين فى 
الاتحاد السوفيتى ومنح بمقتضاها سلطات للولايات تصل إلى حد ممارسة حق تقرير المصير. 
ومن المفارقات أن نهرو غير الشيوعى استعان بدستور لينين لإقامة النظام الفيدرالى فى 
الحكم (دون أن يسميه فيدرالياً)» فى ذات الوقت الذى استعان فيه بالدستور الأمريكى فى 
قضيتى الفصل بين السلطات وإعلان الحقوق (كاناع11 04 8111) كما وردت فى تعديللات 
ذلك الدستور. لهذا أفلح نهرو وصحابه فى إقامة نظام فيدرالى مكن الحزب الشيوعى الهندى 
نفسه من تولى السلطة فى بعض الولايات (كيرالا مثلاً) برضى الشعب واختياره لفترات 
عديدة» فى حين ظلت السلطات التى منحها لينين للولايات السوفيتية حبراً على ورق نتيجة 
لسعى المركز لروسنة كل الأطرافء؛ ولهيمنة الحزب الشيوعى على المركز والولايات اعتماداً 
على نظرية إعمال سيادة الدولة .(562]6 04 3500ع6) وسواء كان فى الهند أو كندا أو الاتحاد 
السوفيتى أو الولايات المتحدة» أصبحت الفيدرالية أساساً لإدارة الدول واسعة الأرجاء» متعددة 
الشعوب»ء متنوعة الثقافاتء لأنها أكثر أنظمة الحكم المعروفة قدرة على التوفيق بين 
المتناقضات. وللقاضى الأمريكى المعروف أوليفر وندل هولمز رأى جدير بالإشارة. قال 


220 


هولمز خلال إدلائه بحكم المحكمة العليا للولايات المتحدة فى قضية لوتشر ضد نيويورك عام 
: إن الدولة الفيدرالية تضم كيانات مختلفة اختلافاً جوهرياً. لهذا فإن الغاية من إنشاء 
نظام فيدرالى هى السماح بوجود أشكال سياسية محلية متدوعة داخل حدود قومية عريضة. 
تلك التفصيلات ‏ القانونى منها والسياسى الدستورى ‏ ما كان يجب أن تغيب عن عقول 
السياسيين ورجال القانون فى فترة ما بعد الاستقلال مباشرة» لو كانوا أقل شوفينية فى تتاولهم 


أثبتت الأحداث» فيما بعدء أن الخرطوم تتمتع بقدر كبير من صفاقة الجلد» فلا التمرد فى 
الجنوبء أو التوصيات الحكيمة التى جاءت فى تقرير القاضى قطرانء أو النصيحة الصادقة 
التى وجهها إمام الأنصار إلى الحكومة الانتلافية» أفلحت فى إقناع الحكام الجدد بأن ثمة 
خطأ يشوب الطريقة التى أداروا بها الأزمة. كان من المفترض أن يعى أولئك الحكام النتائج 
الخطيرة التى قد تترتب على عدم تنفيذ توصيات قطرانء أو على الأصح. المراوغة حولها. 

حكومات الاستقلال ١904-1950"‏ 

عندما نحى العلمان البريطانى والمصرى من ساريتيهما فى قصر الحاكم العام وارتفع 
مكانهما علم السودان الجديد بألوانه الزرقاء والخضراء والصفراءء غمرت الفرحة كل أرجاء 
السودان. يا لشدتها من فرحة تلك التى جعلت السيد عبد الرحمن المهدى يسقط مغمى 
عليه . وراء تلك الفرحة كانت هناك آمال وترقبات» فمع انتقال السلطة إلى أبنائهم توقع أهل 
السودان أن ينصرف الحكام الجدد للعمل على تحسين مستوى حياتهم؛ ولأم جراح بلدهم 
الممزق بالانقسامات. تلك الآمال والتطلعات المليكة بمشاعر الثقة والتفاؤل بيددها صراع 
عبثى حول السلطة بغية تحقيق مطامح شخصية:» أو مكاسب حزبية» دون أن يكون هناك 
من يقول: صعف الطالب والمطلوب. ذلك أتهام خطير لكل أنظمة الحكم فى عهد ما بعد 
الاستقلال» وعلينا أن نثبته بالدلائل وفق منهج امبريقى ضابط. 

لندع الحقائق تتكلم. بدأ الصراع والتنافس على السلطة بعد الاستقلال مباشرة؛ حين دعا 
رئيس الوزراء» إسماعيل الأزهرىء بمهارة لاتنكرء وزراء الختمية الذين أقصاهم من قبل 


221 


للعودة إلى الحكومة . الدعوة منطقية»ء وقبولها أكثر منطقية إن كان الدافع لخروجهم أو 
إخراجهم من الحكم هو الخلاف حول صدق توجه أزهرى نحو الاستقلال. فها هو الأزهرى 
لم يتجه إلى الاستقلال فقطء بل أصبح رافع علمه. ولكن كان وراء الأكمة ما وراءها. ففى 
تقدير أولتك الوزراء» حسبما كشفت مجريات الأحداثء لم تكن دعوة الأزهرى لهم للعودة 
لحكومته إلا قبلة موتء فالهدف الوحيد من الدعوة كما ظنوا كان هو إحكام قبضته على 
الدولة . لهذا لم تلق دعوة الأزهرى قبولاً منهم» كما لم تؤجل الأمرالمحتوم إلا قليلاً. ففى 
نهاية يونيو”15١‏ تخلى الوزراء المنسوبون للختمية عن حزبهم السياسى (الحزب الوطنى 
الاتحادى) ليشكلوا حزياً جديداً (حزب الشعب الديموقراطى)» وكان حزياً غريباً. وجه 
الغرابة فى ذلك الحزب أن التناقض فى داخله؛ كان أكثر بكثير من التناقض بينه وبين 
الحزب الذى انشق عنه . فالفريقان اللذان انشقا على الأزهرى همء من جانبء الاندماجيون 
(دعاة الاندماج فى مصر)ء بقيادة محمد نور الدين وعلى عبد الرحمن العربى الناصرى, 
ومن جانب آخر الاستقلاليون مثل ميرغنى حمزة وصحبه. وإلى هؤلاء انضم أيضاً حماد 
توفيق وصحابه الاتحاديون. هذه الخلطة يطلق عليها السودان تعبير لحم راس. وللمرة 
الأولى فى تاريخ السياسة المعاصرة أعلن الميرغنى تأييده ومباركته لذلك الحزب» وخرج 
بذلك عن الموقف الذى أعلنه فى الخمسينيات حول موقف الختمية من السياسة الحزبية . 
ففى بيان منسوب إليه ذكر الميرغنى أن جهازاً سياسياً قد تكون ليضم جماهير الختمية 
ومحبيهم من جماعات الطوائف الصوفية وغيرهم. منذ ذلك التاريخ برز فى الساحة 
ميرغنى جديد» يختلف عن ذلك الذى قال قبيل الاستقلال عن غريمه نبدى أنه لا يمثل إلا 
أقلية» كما قال أن من رأيه أن تنأى الزعامات الدينية عن السياسة. وسرعان ما ذهب 
الحزب الجديد إلى آخر ما كان يتوقعه الأزهرى: التحالف مع حزب الأمة. ذلك التحالف 
سبقه لقاء أصبح يؤرخ به: لقاء السيدين الغريمين فى الثالث من ديسمبر1557» والذى 
أعلن صاحباه أنه تم ابتغاء لمرضاة الله والوطن. ذلك اللقاءء دعك عما تبعه» كان مفاجأة 
كبرى لأهل السودان. وبموجب الحلف الجديد نزع الاتحاديون القدامى الذقة بالأزهرى 
ليتولى زمام الحكم الحليفان الجديدان. وفى التشكيل الوزارى الجديد أصبح سكرتير عام 
حزب الأمة» عبد الله خليل رئيسا للوزراء» كما أصبح ميرغنى حمزة نائبا له. 


222 


النظرة السطحية للحدثين الهامين قد تستدعى للذاكرة موقف الزعامات القبلية والطائفية 
من حركة على عبد اللطيف فى العشرينياتء إذ قامت تلك الزعامات بسحق الحركة الناشئة 
المعادية للطائفية والقبلية . بيد أن هذه القراءة ليست صحيحة:؛ لأن عداء أزهرى للطائفية لم 
يكن عداء فكرياًء بل عداء سياسياً مصلحيا . انطلاقاً من هذا الافتراض يتبدى لنا أن 
الأزهرىء مدرس الحسابء أخطأ فى حساباته هذه المرة» كما أخطأء مثل كثر غيره» فى 
الرهان على أن الوفاق بين راعيى الختمية والأنصار هو رابع المستحيلات باعتبار العداء 
التاريخى بينهما. ولكن يجب ألا ننسى أنه بالرغم من ذلك العداءء كانت قيادتا الطائفتين 
تملكان قدراً من الحكمة أو الدهاء (سمها ما شئت) يدفعهما للاتفاق كلما اقتضت مصلحتهما 
ذلك. فلا غرابة إن فعلا هذا ضد عدو جديد سحب البساط من تحت قدمى واحد منهما 
بتبنى قضية الاستقلال» ويريد أن يسحب البساط من تحت قدمى الثانى بالسيطرة الكاملة 
على الحكم. والسيطرة على السياسة والحكم تتبعها دوم السيطرة على الاقتصادء حيث 
كانت الدولة السودانية تتحكم تحكماً كاملاً فى المجال الاقتصادى: توزيع الثروة المائية» 
تصاريح التجارة» تراخيص الصناعة» قروض البنوك, الحصول على النقد الأجنبى» 
واستيراد الخبرة الأجنبية. 

أياً كان الأمرء ركز التحالف الجديد جل طاقته على ما يشغل الأحزاب دوماً: 
الانتخابات. هذا التركيز لم يبق وقتاً للتحالف الجديد لكيما يعنى فيه بكبرى قضايا الوطن: 
حل مشكلة الجنوب. وهكذا اندفعت الحكومة الجديدة فى نفس المسار الاختباطى الذى سلكته 
الحكومة السابقة. أما حول الموضوع الذى احتل المقام الأول من هموم الحكومة الجديدة: 
الانتخابات » فقد قام التحالف الجديد بإعادة تخطيط الدوائر الانتخابية لمصلحته بغية 
حصوله على أغلبية انتخابية تمكنه من الانفراد بالحكم» كما ألغى دوائر الخريجين والتى 
افترض أنها دوائر مقفولة لمصلحة الحزب الوطنى الاتحادى. نتيجة لذلك حصل حزب 
الأمة على 77 مقعدأء بينما حصل حزب الشعب الديمقراطى على 7١‏ مقعداً. هل كانت تلك 
النتائج تعبر تعبيراً حقيقياً عن قوة الأحزاب؟ ذلك مثار جدل واسعء فعلى سبيل المثال ظل 
الحزب الوطنى الاتحادى الذى حصل على 44 مقعداء يحاج بأن عدد فلناخبين الذين 


223 


صوتوا له كان أكبر مما حصل عليه أى من الحزبين منفرداً. هذا أمرله دلالاته السياسية 
الهامة» ولكنه لا يعنى شيئا فى ظل نظام دستورى لا يعترف بالتمثيل النسبى. 

يثير الدهشة أن أكثر سهام النقد لذعاً للتحالف الطائفى انطلقتء بآخرة» من جعبة أحد 
السياسيين الذين تسنموا موقعاً رفيعاً فى أحضان ذلك التحالف: محمد أحمد محجوب. 
وصف محجوب من واقع خبرته السابقة» الاتفاق بين زعيمى الطائفتين بلهجة عنيفة» 
أسماهأكبر كارثة فى تاريخ السياسة فى السودان.('') ووفقاً لما أوردته مصادر بريطانية» 
كان ميرغنى حمزة يشارك المحجوب الرأى حول مصير الطائفية . تقول تلك المصادر أنه 
كان من رأى ميرغنى أن الطائفية هى سبب كوارث السودان» وقد لا يكون لها مستقبل 
عند نهاية السيدين» على الميرغنى وعبد الرحمن المهدى.("') لا تثريب على المحجوب 
إن قال ما قال فى معرض تسجيل تجربته كما عاشهاء وتقويم مواقع الخيبة والنجاح فيهاء 
ولعله بذلك كان نان أيضاً ضرباً من النقد الذاتى . بيد أنا لا نرى أن الذى دفع السيدين 
للتحالف هو الغرور؛ فكلاهما لم يعرف بالغرور؛ وإنما فرض عليهما واقع تاريخى أن يكونا 
مكان احترام عند أهلهما احتراماً طوعياً يقارب التقديس. أما حب السلطة فأمرها مختلف». 
فبالرغم من أن كليهما لم يطمع فى سلطة مباشرةء إلا أن التحكم فيها ظل هاجساً لكليهما. 
واحد منهما أدرك تماما أن وطأة التاريخ على عقول كثير من أهل السودان تجعل من توليه 
السلطة أمراً مستحيلاً؛ ومع ذلك كان يلقى بظله على كل ما كان يقرر فى حزبه. والثانى 
كان عازفاً عن السلطة المباشرة» وما كان بحاجة إلى ذلك إذ ظل يمسك كل الخيوط من 
وراء ستار. ولعل هذا هوما عناه المحجوب بالنهم للسلطة أما المهندس ميرغنى حمزة» 
والذى عرف باستقلالية فى الرأى لا تخلومن معاندة فى بعض الأحيان» فقد قدر ولم يفلح 
فى التقدير. غاب عنه وعن المحجوب أن الطائفية مؤسسة متجذرة» ولهذا فستظل واحدة 

من المواد الخام الأساسية التى ننسج منها وطناً متماسكاأً. ومهما كانت براعة النساج أو جودة 
المنول ٠‏ فليس فى مقدورهما أن ينسجا من الجوت حريراً. ذلك موضوع سنعود إليه فى 
زمان الثورات التى ظنت أن فى مقدورها إلغاء الواقع الاجتماعى بالقرارات الفوقية. نكتفى 
هنا بالقول بأنه مهما كان تجذرها فى المجتمع فإن الطائفية لن تفلح فى توجيه التاريخ 


224 


حيث تريد. توافق أيضاً رأى خضر حمد مع رأى محجوب وميرغنى حمزة حيث قال فى 
مذكراته أن الأبروفيين كانوا يؤمنون أن «الطائفية وكر للإستعمار وسلاحه الذى يحارب به 
فى ميادين عديدة» . وفى هذا القول إفراطء قد تبيحه غوغائية السياسات الشعبوية» ولكن لا 
يجوز صدوره من مؤرخ سياسى يحكم القول. فخضرء مثلأء لم يوضح لقارئه كيف ولجت 
الحركة الوطنية كلهاء بما فيها الأبروفيون» ذلك الوكرء وبقيت تسدن على القيادات الرابضة 
فيه حتى انقلاب مايو. أبعث للحيرة أن أردف صاحب المذكرات قائلا «أن الطائفية قوية أو 
قل هى البلد كله:(؟") . وإن كان البلد كله وكراً للاستعمارء حق للاستعمار أن ينعم فيه بطول 
الرغائبء أو الظروف الآنية» أو ردود الأفعال. حقأء الرجل الوحيد الذى كان فى مقدوره أن 
يعيد تركيبة السياسة السودانية» خسر المعركة سياسيا وأيديولوجياً. فإسماعيل الأزهرى هو 
السياسى الوحيد الذى حاز على تأييد جماهيرى غير مسبوقء لا بفضل الطائفية بل بالرغم 
عنها. وفى معركته ضد الطائفية نحت الأزهرى شعاراً سارت به الركبان: مصرع القداسة 
على أعتاب السياسة. مع ذلكء آثر الأزهرى أن لا يسخر ذلك الدفع الجماهيرى لإعادة 
تجديد حزبهء مكتفياً بتسجيل رقم قياسى لأطول فترة قضاها رئيس وزراء فى نظام حكم 
برلمانى» وما كان ذلك ليكون ممكناً إلا بلجوته من جديد للطائفية (وكر الإستعمار) حتى 
يحقق مصرع السياسة تحت أقدام القداسة. لم يرض الأزهرى لنفسه أن يلعب دور المحفز 
الأساس لتيار سياسى جديدء حتى لواقتضى الأمر بقاءه معارضاً لأية فترة يتطلبها إصلاح 
السياسة السودانية. ذلك أمر لم يرق» على ما يبدو» لصاحب الرئاسات. 

نعود على بدء إلى حكومة السيدين لنرى ما فعلته بعد استيلائها على الحكم. أبلت تلك 
الحكومة بلاء حسناً فيما تجيده أحزابنا: التنافس والخصومة. كان النزاع يدور حول أمرين» 
الأول هو العلاقات مع مصرء والثانى قضية الجنوب. وحول الموضوع الأول كان عبد الناصرء 
فى تلك المرحلة» يقود صراعاً رهيباً مع الولايات المتحدة بشأن موضوع السد العالى وتمويل 
البنك الدولى لذلك المشروع وفق شروط حددتها أمريكا. ذلك الصراع؛ كما هو معروفء انتهى 
برفض عبد الناصر للمعونة الأمريكية وترجيح كفة الاتحاد السوفيتى فى صراع الدولتين 


2125 


العظميين لاستقطاب مصر إلى جانبهما. وكان لقضية السد العالى بعد آخر لا يمكن إغفاله: 
ضرورة موافقة دول الحوض العليا على المشروع قبل البدء فى تنفيذه؛ ومن هذه الدول 
السودان. ومع أن حكومة السودان الجديدة قد أعلنت,عند الاستقلال» التزامها بكل الاتفاقيات 
الموروئة من الاستعمار بما فى ذلك اتفاقية مياه النيل .١174‏ إلا أن تلك الاتفاقية وقوانين 
المياه الدولية » بوجه عام » لا تبيح لاى دولة نهرية (ع5)36 31130م1,) القيام بمنشات تؤثر 
على النهرء أو على تدفق المياه فيه دون إتفاق مع بقية دول الحوض. وكانت الحكومتان قد 
شرعتا بعد الاستقلال مباشرة فى إعادة النظر فى تلك الاتفاقية» إلا أن المفاوضات لم تحرز أى 
تقدم لثبات مصر عند موقفها حول بناء السدء وإصرار وزيرى الرى السودانى (ميرغنى حمزة 
وخضر حمدء وكلاهما اتحادى) على مشروع آخر يرتكز على إقامة عدد من السدود تبدأ فى 
جنوب السودان وتنتهى فى أسوان. 

زاد ذلك الموقف تفجراً أمرانء الأول هو إعلان عبد الله خليل» رئيس الوزراء قبول 
السودان للمعونة الأمريكية عقب زيارة قام بها نائب الرئيس الأمريكى رتشارد نيكسون 
للخرطوم. وكان قبول السودان للمعونة الأمريكية مصدر قلق كبير لمصرء بصرف النظر 
عما كان سيعود به من فائدة للسودان. ولا شك فى أن الإستراتيجيات الدولية لعبت دوراً 
هاما فى تكييف الموقف المصرى نجاه قبول حكومة السودان للمعونة» تماماً كما حدث فى 
إدانة الحزب الشيوعى السودانى لحكومة مصر ,العسكرية؛ على قبولها ما عرف باتفاقية 
النقطة الرابعة('"الأنهاء فى تقديره» جعلت من مصر حلقة من حلقات المخططات 
الإستعمارية. بررت مصر اعتراضها على القرار السودانى بأن برنامج المعونة الأمريكية 
يخلق موطئ قدم للولايات المتحدة فى العمق الإستراتيجى لمصرء وسرعان ما تبنى 
الموقف المصرى فى السودان الشيخ على عبد الرحمنء وزير الداخلية فى حكومة عبد الله 
خليلء كما تبناه الحزب الشيوعى السودانى. لنفس الأسباب التى حكمت موقفه من قبل ضد 
قبول حكومة مصر العسكرية لاتفاقية النقطة الرابعة. لن نتلكأ عند موقف الحزب الشيوعى» 
فقد كان محكوماً بنظرته الإستراتيجية للعالم: ضد الدكم العسكرى فى مصر إن كان 
أمريكى الهوى» ومعه إن أصبح سوفيتى المزاج» ولكن موقف الشيخ على مختلف جداً. وجه 


226 


الاختلاف أن الشيخ ‏ رغم صدق توجهه العروبى الناصرى على المستوى الشخصى ‏ كان 
ينتمى لحزب له رؤاهء كما كان عضوأ فى حكومة تضبط العمل فيها ضوابط المسئولية 
الجماعية. فالأمر لا يتعلق برؤى رجل واحد ومواقفه» بقدر ما يتعلق بالمصالح الوطنية كما 
يراها حزيه» وكما تقدرها الحكومة التى ينتمى إليهاء وبقدر ما يرتبط أيضاأً بانضباط العمل 
الحكومى والحزبى. كان غريبأء مثلاء أن يقود التيار المؤيد لقبول المعونة» بجانب رئيس 
الوزراء» نائبه ميرغنى حمزة» وهو عضو فى نفس الحزب الذى ينتمى إليه الشيخ. 
مشروعات المعونة جميعها على الشمالء باستثناء واحدء على الشمال النيلى. تلك 
المشروعات شملت إنشاء طريق الخرطوم ‏ واد مدنى» معهد الكليات التكنولوجية» إنشاء 
مسلخ ومطار فى نيالاء توسيع ميناء بورت سودان إلى جانب مشروعات أخرى. مع ذلك» 
مضى الشيخ على فى حملته على المعونة رغم ما نصح به راعى الحزبء السيد الميرغنى. 
وفيما نمى إلينا من مصدر وثيق الصلة بما دارء سأل السيد على الميرغنى الشيخ على: لماذا 
تعترض على المعونة الأمريكية وأهل السودان أحوج ما يكونون لتطوير بلدهم؟ رد الشيخ: 
الأمريكان لا يريدون إنشاء طريق مدنى ‏ الخرطوم إلا لاستخدامه كمهبط لطائراتهم التى 
سيغزون بها مصر. قال السيد: يا شيخ على الأمريكان غبيانين من مطار وادى سيدنا 
البنوه . لا نظن أن الشيخ كان غبياناً عن هذه الحقيقة» وإنما كان ينطلق من موقف 
أيديولوجى خاص به» وبمن كانوا يشاركونه الرأى فى حزبه. وكان الشيخ أشد عنافة فى 
معارضته لمشروع نيالا وهو مشروعء لوقيض له أن يتمء لتغير وجه الحياة فى غرب 
السودان. وكان عبد الله خليل» بحكم رئاسته للحكومة:ء وباعتباره نائباً من نواب دارفورء 
يولى ذلك المشروع اهتماماً فائقاً ولذلك أوكل أمره لإبراهيم عثمان إسحقء وكان من أقرب 
موظفى الخدمة المدنية إليهء ومن أكثرهم كفاءة. الهدفب من المشروع كان هو إنشاء مطار 
ومسلخ كامل التجهيز لتنقل منه اللحوم مباشرة من نيالا إلى جنوب شرق أسيا. إصرار 
إبراهيم عثمان على المشروع جعل وزيره الشيخ يتهمه بالعمالة» فتخاصما إلى راعى 
الحزبء السيد على الميرغنى الذى قال لهما: كلاكما ينتمى إلى بيت ختمى والتجريح 
لبعضكما البعض يؤذينا جميعاً. اذهبا واتفقا على ما يعود بالخير على السودانيين الذين أوكلوا 


227 


لكم أمر حكمهم . قبول المعونة الأمريكية أورفضها لم يكن ذا صلة مباشرة أو غير مباشرة 
بقضية الحرب والسلام إلا فيما يتعلق بإغفاله تنمية الجنوب. وعلى أى؛ فإن التخالف 
والتعارض اللذين صاحباها داخل الحكومة الواحدة» بل الحزب الواحدء حول أهم قضايا 
الحكم: التنميةء لا يطمئن أحداً على قدرة تلك الحكومةء أوالأحزاب على إحكام أى أمر آخر. 
نتيجة لهذا الخبط السياسى المقلق دخل التحالف فى مرحلة حاسمة: مرحلة تبديل المواقع 
والبحث عن تحالفات جديدة» انتهت بتسليم عبد الله خليل مقاليد السلطة إلى إبراهيم عبود 
فى ١7‏ نوفمير ١954‏ 

أما الأمر الثانى فهو قضية الجنوب نقسهاء فمن التجربة الأولى للحكم الوطنى التى كان 
السودان يترنح فيها كسفينة بلا دفات فى بحر هائج الأمواجء إلى التجربة الثانية التى تقاود 
المركب فيها أكثر من سفانء أضحت وحدة الحاكمين» لا وحدة الوطنء هى الغاية والنهاية. 
ففى أول برلمان حصل الجنوب على ربع المقاعدء إلا أن ذلك الوضع العددى لم يكن ذا 
قيمة فيما يتعلق بالتأثير على الحكومة:» أو إحراز تطور ملموس للإقليم. وأصبح فى حكم 
العادة انتقاء برلمانيين جنوبيين مطاوعين لتعيينهم فى وزارات هامشية» ومن ثم تقلصت 
مشاركة الجنوب فى السلطة إلى إرضاء النخب من بين أهله. ولريما وجد الشمال ضالته 
فى عدد من سياسيى الجنوب كانوا على أتم الاستعداد لتبديل مواقفهم بالسرعة التى يبدلون 
بها قمصانهم. وبلا ريبء أعان الطموح الشخصى والخلافات القبلية بين الجنوبيين» على 
انقسام النخبة السياسية الجنوبية على نفسها بحيث أصبح أعضاء البرلمان الجنوبيين فريسة 
سهلة لجوارح السياسة فى السودان» وكأن حكام الخرطوم كانوا ينفذون وصايا ونجت 
وكرومر بحذفارها. تمهروا فى تطبيق سياسة فرق تسد بغية كسر صفوف النواب الجنوبيين 
فى البرلمان» دون وعى بأن تلك السياسة لم تفد الاستعمار فى شىءء كان ذلك فى الجنوب 
أو فى الشمال. وكانت صحف الخرطوم تطلق على تلك العملية» بحقء اسم النخاسة 
البرلمانية. 

فى تلك المرحلة أيضأء نقض الشمال عهده الخاص بحصول الجنوب على الوضع 
الفيدرالى عندما قررت لجنة وضع الدستور فى مايو958١‏ بأغلبية آلية('") أن عيوب 


228 


الفيدرالية تفوق محاسنها. وهكذا ألحق قرار البرلمان حول الفيدرالية الذى طحن بالتكذب 
وعجن بالمراوغة: بغبن فاحشء وهذا غذاء تضوى به الأجسام. كان قرار لجنة الدستور 
حول عيوب الفيدرالية هو القشة التى قصمت ظهر البعيرء والمعيوب حقيقة هو ذلك القرار 
وليس الفيدرالية. السؤال الأول الذى كان يجب أن تتطرق إليه اللجنة (وهو ما لم تفعله): 
هل الفيدرالية أمر مشروعء أى له دواعيه السياسية» أو غير مشروع ؟ فإن كان مشروعاً فما 
على اللجنة إلا العمل على تطبيقه» وإن كان مشروعاء إلا أن عيوبه أكثر من محاسنه ( كما 
قالت اللجنة )؛ فعلى اللجنة أن تقترح على صاحب الحق المشروع بدائل مقبولة . نكاد نجزم 
أن صانعى القرار لم يولوا هذه القضايا أدنى اهتمام؛ بل تداولوا الأمر وكأنهم كانوا يختارون 
عرائس لأبنائهم حيث تقدر الأمور بمعيار المحاسن والعيوب. لا نغالى إن قلنا أن السودان» 
منذ تلك اللحظةء أصبح بلدا ممسوساًء أو كما يقول أهلنا بلدا مسكوناء أى يسكنه الجن. البلد 
وبسطاء أهله براء من ذلك المسء فالذين لحقت بهم مواس التخبط هم أهل الحل والعقد فيه. 
أبوا إلا أن يثخنوا وطنهم بالجراح» وكأن ليس فيما أرهقه به التاريخ من تناقضات ما يكفقى. 
ثار الغضب بالأعضاء الجنوبيين فى اللجنة نتيجة لهذا القرار السميج (القبيح)» وباسمهم 
تحدث الأب ساترنينو لاهورو حديثاً كان ينبغى أن يكون مصدر عذاب للأحزاب الشمالية 
التى آثرت المغالطة وخداع الذات؛ بدلاً من الاعتراف بالحق والجد فى الاستقصاء. قال 
ساترنينو:ليس لدى الجنوبيين أى نوايا سيئة تجاه الشمال» فالجنوب ببساطة يطالب بإدارة 
شئونه المحلية داخل سودان موحدء وليس لديه أيضاً أية نية للانفصال عن الشمال. وإن أراد 
ذلكء فليس هناك قوة على وجه الأرض تستطيع أن تحول دون مطالبته بالانفصال. 
الجنوب يطالب بالدخول فى وحدة فيدرالية مع الشمال وهو حق يمتلكه الجنوب وققاً لمبدأً 
حق تقرير المصير. أضاف ساترنينو أن "الجنوب سيقوم بالانفصال عن الشمال فى أية 
لحظة يقرر فيها الأخير استبعاد أهل الجنوب بطريقة مبُاشرة أو غير مباشرة عن أى قرارات 
سياسية» أو اجتماعية» أو اقتصادية تخص الإقليم أو تؤثر عليه!"") وفى آخر الأمر برز 
ساترنينو كقائد حقيقى للحركة الجنوبية» ولكن بدلاً من التعامل معه بتلك الصفةء قررت 
الخرطوم تصفيته. ففى ظروف غامضة خلال عهد الحكومة الثانية للأحزاب (155317) 


229 


٠. 4. . 4‏ . م . ِ ع 
اأغتيل ساترنينو على الحدود اليوغندية عبر تواطؤ بين حكومة السودان وقوات الآمن 
اليوغندية. 


فى ذات الوقت لم تشهد الأوضاع الاقتصادية فى الجنوب أى تحسن ملحوظ أو غير 
ملحوظ. فحين شهد الشمال ازدهاراً نسبياً نتيجة لارتفاع عائدات القطن خلال السنوات التى 
سبقت الاستقلال مباشرة وبعده بقليلء» اتجهت المكاسب إلى جيوب محدودة فى الشمال 
النيلى (الجزيرة» الخرطوم) » دون أن يفيد منها الجنوب أو مناطق الأطراف فى الشمال. وإن 
أضفنا إلى هذا إغلاق مشروع أنزاراء مشروع التنمية الوحيد الذى خلفه الاستعمار, نجد أن 
الج أصبح مهيئاً لتوليد المزيد من المرارة فى نفوس الجنوبيين. نتيجة لكل هذه الظروف 
أصبح عبد الله خليل عاجزاً عن الحكم وفقدت حكومته التأييد الذنى كانت تحظى به فى 
الجنوب . فالفيدرالية التى دعا لها الجنوبيون لم تلق تأييداً من حلفائه أوحتى داخل حزبه» 
ووزراؤه اتقسموا شيعا وطوائف حول قضايا السياسة الراهنة» أى قضايا السلطة. وجاءت 
ثالثة الأثافى عندما أقالت الحكومة ستانسلاوس من الحكم واتهمته بإثارة الكراهية ضد 
الدولة. وكانت التهمة التى وجهت لذلك السياسى الجنوبى المقتدرء والذى ما فتئَ يؤكد 
حرصه على وحدة السودان» هى دعوته للفيدرالية فى إحدى زياراته للجنوب. هذا الرأى 
انتهى إليه مدير إحدى المديريات الجنوبية (عبد العزيز عمر الأمين) وأبلغ رئيس الوزراء 
أن الوزير الجنوبى يقوم ب «نشاط هدام؛ فى الجنوب يحرض فيه الشعب ضد الحكومة. 
وهكذاء بقدرة قادرء أصبحت الدعوة للفيدرالية عملا تحريضياًء وكأن نظام الحكم بوزرائه 
ومديريه كان غافلاً عن حقيقة أن الفيدرالية هى واحدة من الأعمدة التى ارتكز عليها 
إعلان الاستقلال. ويستحيل منطقاً وقانوناً أن تكون الفيدرالية فكرة مشروعة؛ وتكون الدعوة 
لها عملاً غير شرعى . إزاء هذا الوضع كان من الطبيعى أن تبرز قيادات جنوبية أكثر تشدداً 
من رجال مثل بياساما ولوكى وبوث ديو. أول هؤلاء كان العضو البرلمانى الجنوبى ايزيونى 
مونديرى جوانزا الذى أمس حزياً أسماه الحزب الجدوبى الفيدرالى؛ واتسم برنائعجه 
بالتشدد والتعصب. وكان جوانزا يعتقد أن بياسما وشركاءه قد تساهلوا بشكل كبير مع 
الشمال. 


230 


فى وجه تلك الهزات المشؤومة استجابت الحكومة بكثير من الفتور وقليل من الحماسة 
لتوصيات لجنة قطران. إلا أن الإجراءات التى اتخذتها لم تتعد العمل التجميلى والتلميحات 
الاسترضائية . الهدف من تلك الإجراءات الشكلية كان هو إلهاء النخبة الجنوبية» فى ذات 
الوقت الذى تستمر فيه سياسة الاستيعاب (2هف) ذانذةةد 06 /إنذاوم) يعترى المرء ألم 
كثيف عندما يشهد إفلات البديهيات عن إدراك العقلاء»ء وإذعان ذوى الحجى للغرائز. 
فتوصيات القاضى قطران كانت واضحة وصريحة وصادرة عن تفكير صائب وضمير 
سليم. بدلاً عن تنفيذها كما وردت » قامت الحكومة بنقل بعض الإداريين الشماليين من 
الجنوب» وترقية عدد ضئيل من الجنوبيين فى وظائف متوسطة؛ إلا أنها أيضاً اتخذت قراراً 
بعدم ترقية الجنوبيين للوظائف الإدارية العليا بعد استشارتها لاتحاد الإداريين» والذى كانت 
الغالبية الغالبة من أعضائه من الإداريين الشماليين. وكان من رأى الاتحاد أن الجنوبيين 
ليسوا مدربين تدريباً كافياً يؤهلهم للاضطلاع بالوظائف العليا. مرة أخرى نجابه بتبلد 
الحس السياسىء وما يقود إليه ذلك التبلد من عجز عن إدراك جوهر المشكل. لم يدرك 
الاتحاد ولا الحكومة» المرتكزات الأساسية لتوصيات قطران والتى تتمثل فى تكافؤ القرص» 
والتمكين السياسى والإدارى للجنوبيين» وإزالة كل أشكال الإجحاف التاريخى الذى لحق 
بهم. ولو كان اتحاد الإداريين أو الحكومة ينظران لموضوع الكفاءة بمنظارلا تلطه 
الشوفينية لما رأوا جدارة أو قدارة فى عدد كبير من الموظفين الشماليين الذين حلوا فى 
مواقع الحكام البريطانيين. فالسودنة لم تكن عملية إدارية» بقدرما كانت عملية سياسية 
تهدف لضمان الحياد السياسى للموظفين الإداريين خلال الفترة الانتقالية . ولسنا بحاجة 
للقول بأن السلوك الذى يفتقد الحد الأدنى من الاحترام لأخلاقيات المهنة الذى سلكه مساعد 
مفتش يامبيوء يشير بوضوح إلى أن تلك الحيادية كانت مفتقده تماماً فى الجنوب. لكل هذه 
الأسباب عجزت الحكومة وإداريوها عن إدراك المعنى الحقيقى لتقرير لجنة قطران. ذلك 
المعنى تضمنته الكلمات التالية فى التقرير: إن الإدارة الشمالية فى جنوب السودان ليست 
استعمارية» ولكن أغلبية الجنوبيين يعتبرونها كذلك. ذلك هو السؤال الذى عجز الحاكمون 
عن التوقف عنده . لهذاء نقول فى جملة واحدة إن أول حكومتين مدنيتين أضاعتا أكثر 


231 


الفرص مواتاة لتوحيد السودان» وتفادى الحرب. ومع الفشل فى تحقيق ذلك خيبتا آمال 
السودانيين وتطلعاتهم . 

نظام حكم عبود 1901- 1١9115‏ 

اعترف رئيس الوزراء عبدالله خليل أمام مجموعة من البرامانيين الجنوبيين» حسبما 
ذكر كاتب جنوبى»(") بأنه تبين من خبرته أن هذا البلد ليس مستعداً بعد لتجربة 
الديموقراطية» ولذا قرر وفقاً لاقتراح مستشاريه تسليم مقاليد السلطة إلى الجيش. ومضى 
عبد الله خليل يقول:على الرغم من أن الأحزاب السياسية أصبحت محظورة الآن إلا أننى 
مازلت معتقداً بأن حزب الأمة وأهل الجنوب يستطيعان الدخول فى تعاون وثيق بينهما. 
ويمكن للمؤلف أن يقول ‏ بحكم قرباه يومذاك لعبد الله خليل -(4") أن المستشارين الذين 
أشار إليهم هم زين العابدين صالحء ودرديرى نقد (وكانا صديقين حميمين له)» وزيادة 
أرباب وزير التعليم والعدل فى حكومته والذى احتفظ بمنصب وزير التعليم فى الحكومة 
العسكرية أيضاً. من بين الأصدقاء أيضاً اللواء أحمد عبد الوهاب الرجل الثانى فى الجيش 
يومذاك» ويوسف مصطفى التنى سفير السودان فى مصر. وكانت للتنى مكانة رفيعة لدى 
عبد الله خليل» ولهذا كان لابد أن تكون نصيحته هى الأكثر حسماً. 

أبلغ التنى» رئيس الوزراء أن ثمة انقلاباً عسكرياً تسانده مصر سيقع وشيكاً فى السودان» 
كما أبلغه أن مصر ء فى ذات الوقتء تسعى لعقد صلح فى القاهرة بين إسماعيل الأزهرى 
وعلى عبد الرحمن. وكان الأزهرى يومذاك فى زيارة لبغداد لتهنئة عبد الكريم قاسم بتوليه 
الحكم. جاء ذلك الإبلاغ لرئيس الوزراء فى نفس اللحظة التى كان فيهاء بوصفه الأمين 
العام لحزب الأمة» يتفاوض مع السيد على الميرغنى لتقويم الائتلاف القائم بين الحزبين» 
وحين كان السيد صديق المهدى. رئيس حزب الأمة يتفاوضء وبدون علم خليل؛ مع 
إسماعيل الأزهرى لتكوين ائتلاف آخر بين حزب الأمة حزب الأزهرىء: وكان يشارك فى 
الحوار مع الأزهرى من جانب حزب الأمة» عبد الرحمن على طه ومحمد أحمد محجوب. 
ولا شك فى أن تقرير السفير التنى حول الانقلاب المزمعء والمناورات داخل حزيه» 
أغضبت عبد الله خليل غضباً لا حد له. وكرجل عسكرى النشأة والطبع والمزاج أقدم على 


232 


ما أوحت به طبيعته فالطبع لا يغلب التطبع. قام عبد الله خليل بتسليم السلطة للجيش على 
أمل ان يعيدها الجيش مرة اخرى متى ما اتفق السياسيون فيما بينهم على كيفية إدارة 
البلاد. 

ذلك شرح للظروف التى مهدت لقرار عبد الله خليل» وللتكوين النفسى الذى قاده إلى 
اتخاذ القرارء والشرح ليس هو التبرير. لهذا فإن المؤرخين ومحللى السياسة الذين ظلوا 
ينعون على عبد الله خليل تسليمه السلطة للعسكريين (ومن بينهم بعض وزرائه مثل محمد 
أحمد محجوب وأمين التومء وهو الأقرب له)(”') لم يجانفوا الحقيقة. مجانقة الحقيقة جاءت 
عندما صور البعض الأمر كلهء وكأنه قرار فرد واحدء يتحمل وحده المسئولية عنه . ذلك 
القرار سبقته أحداث أوفيناها حقها من الشرحء ولحقت به أحداث أخرى لا تقل جسامة . وفى 
مجملهاء لا تعبر تلك الأحداث إلا على أن ثقافة الديموقراطية لم تتجذر فى السودان» بل إن 
ثقافة الديموقراطية لما تتجاوز بعد الجانب الإجرائى منها مثل الانتخابات؛: والتحالفات 
البرلمانية» والتنظيمات الحزبية الصورية. 

التزام الطبقة السياسية بالديموقراطية كان» فى حقيقة الأمرء التزاماً سطحيأء ولا تعبر 
عن سطحيته فقط الطريقة التى سلم بها رئيس الوزراء الحكم للعسكر. فمثلاً؛ ما أن استلم 
عبود السلطة حتى سارع الزعيمان راعيا الديموقراطية لمباركة نظامه علنء مباركة المهدى 
قرأها فى إذاعة أم درمان عبد الرحمن على طه الوزير اللامع فى حكومة عبد الله خليل 
بينما قرأ بيان الميرغنى إبنه محمد عثمان فى نفس الإذاعة . الأكثر إثارة لعدم الارتياح» 
وتعبيراً عن الالتزام الواهن بالديموقراطية» موقف الشيخ على عبد الرحمن وزير الداخلية 
فى الحكومة التى أطيح بها. فبعد سنوات قليلة من الانقلاب قاد الشيخ وفداً من السياسيين 
الوحدويين الذين أطلقوا على أنفسهم لقب كرام المواطنين لتقديم الولاء للحاكم العسكرى. 
مصدر عدم الارتياح لا يعود لتأييد الشيخ لعبود فى حد ذاته فقد سبقه المؤيدون» وإنما لما 
بين سياسات عبود والسياسات التى حملت على عبد الرحمن لتدمير حكومته من رابطة 
وشيجة. ونذكر أن على عبد الرحمن كان هو صاحب الصوت الأعلى ضد المعونة 
الأمريكية» بل كان قد رأى فى قبولها خيانة للوطن» ووصم من دعوا إلى ذلك بالعمالة. 


2313 


مع ذلك لم يجد الشيخ غضاضة فى تأييد نظام عسكرى غير ديموقراطى؛ كانت أولى 
مبادراته فى السياسة الخارجية هى التوقيع على نفس الاتفاقية (اتفاقية المعونة الأمريكية) 
التى استنكر على حكومته توقيعها. ما هو السبب لهذا التناقض؟ الإجابة على هذا السؤال 
ليست بالأمر العسير: نجاح عبود فى إيرام اتفاق مع مصر حول مياه النيل. نال ذلك 
الاتفاق استحسان عبد الناصرء ولهذا اتجه الشيخ الناصرى إلى تأييد النظام . ونذَكر بأن 
الذى حال دون الاتفاق حول مياه النيل فى الماضى كان هو تضارب فى الرؤى بين فنيى 
مصر وفنيى السودانء وقد تبنى. رأى الفنيين السودانيين وزراء كانوا دوماً ينتمون للحزب 
الوطنى الاتحادىء حزب الشيخ على . فالعجز عن الاتفاق لم يكن بسبب مؤامرة إمبريالية» 
أو كيد صهيونىء أو عداء لمصرء وإنما كان لأسباب فنية بحتة وافق عليها حزيه . كل هذا 
يبين أن التضحية بالديمقراطية من جانب من كان يترجى منهم حمايتها ورعايتها تمت 
لاعتبارات لا تتصل مطلقاً بالحكم الصالحء أو المصالح العليا للوطن. يزيد من التعقيد فى 
هذه الأغاليط أن الشيخ على عبد الرحمن لم يجد بين كل أهل السودان من هم أكثر جدارة 
بأن يهدى لهم الكتاب الذى أصدره فى عهد نميرى تحت عنوان الديموقراطية والاشتراكية 
فى السودان غيرالضباط الأحرار البواسل الذين أطاحوا بنظام حكم عبود. أو نظلم أحداً إن 
قلنا بأن المسرح الذى كانت تدور فيه تلك الروايات هو أقرب إلى مسرح اللامعقول منه إلى 
مسرح السياسة . 

مهما يكن من أمرء جاء عبود إلى الحكم بسلسلة غير مترابطة من القرارات والأوامر 
الرسمية شملت إعلان حالة الطوارئ» وإيقاف العمل بدستور ١1107‏ ؛ وفرض الحظر على 
الأحزاب السياسية . كما خولت تلك الأوامر للمجلس الأعلى للقوات المسلحة مهام السلطة 
التنفيذية والتشريعية. وبدوره» فوض المجلس تفويضاً كاملا تلك السلطات للرئيس عبود. 
أصدر النظام أيضاً قانون الدفاع عن السودان والذى حرم فيه تأسيس الأحزاب؛ والدعوة 
للإضراب والعمل على الإطاحة بالنظام أو نشر الكراهية ضده؛ كما فرضت عقوية الإعدام 
أو السجن مدى الحياة لمن يقدم على تلك المحظوراتء ومنح القانون سلطات مطلقة لا 
تتناسب إلا مع دولة بوليسية لوزير الداخلية. وكان أحمد خيرء صاحب فكرة المؤتمره 


254 


ونصير الديموقراطية فى لجنة الدستور الأول وراء هذه القوانين. لا نحسب أن رجلا كخير 
لا يزدهيه السلطان قد وقف بجانب عبود حبأ فى السلطة. موقف خيرء فيما نعتقدء كان 
انتقاماً من التاريخ. فمع كل نضاله السياسى» وإسهامه الفكرى فى الحركة الوطنية؛ كان 
جزاؤه الفصل من الحزب الذى اختاره ووالاه ( الحزب الوطنى الاتحادى) بقرار فوقى من 
الأزهرى؛ دون محاسبة أو دفاع. ذلك نهج ظل الزعيم الأزهرى يتبعه مع كل من اختلف 
معه بدءاً بأحمد خير وخضر عمر وانتهاء بصالح محمود إسماعيل وعبد الوهاب موسى. 
حتى دينمو الحزب يحيى الفضلى تم فصله» عند خلافه مع الزعيم» على نفس المنوال. 
ولعل خيراً أرتاى أن الأحزاب "الديموقراطية التى لا تمارس الديموقراطية فى داخلها غير 
خليقة بالدفاع عنها. 

وفق نظام عبودء بادئ الأمرء إلى حد كبير فى إدارة الاقتصاد. حيث تم بيع مخزون 
القطن المتراكمء وتزايد تدفق المعونات الخارجية. على أن جانباً من تلك المعونات كان من 
الممكن أن يتدفق فى ظل الحكومة السابقة لولا أن بعضٍ الحاكمين غَلَّبوا انحيازاتهم 
السياسية والايديولوجية على واجبهم الآساسى نحو تنمية بلادهم. كما خرج نظام عبود 
بخطة تنموية عشرية متكاملة )1911/191706-1957/19571١(‏ بهدف تحسين الخدمات 
الاجتماعية والظروف المعيشية للشعب حسبما جاء فى الخطة . تلك الظروف والإجراءات 
تضافرت على خلق ازدهار اقتصادى فى الشمال النيلى» ولكن لم يمض وقت طويل حتى 
تعسرت الأوضاعء وتضاعف الإنفاق» وتنامى الاقتراض . وكان أكبر العوامل التى أدت 
لإنهاك الاقتصادء وطأة تكلفة الحرب» خاصة إزاء إصرار عبود ورفاقه على مواصلة الحرب 
فى الجنوب. ففى علاقته بالجنوب قام النظام العسكرى الحاكم بانتهاجء أو بالأحرى 
تطويرء نفس سياسات نظام الحكم المدنى الذى سبقه. اعتقد النظام العسكرى. بصورة 
هزلية» أن الأسلوب الأمثل للتعامل مع المشكل هو الأسلمة والتعريب القسرىء وفى سبيل 
تحقيق ذلك اتخذ أريع خطوات هى: 

١‏ إنشاء مدارس لتعليم القرآن ومعاهد إسلامية متوسطة فى الجنوب. 


١‏ - إصدار قانون فى ١95١‏ يلغى يوم الأحد كيوم للراحة فى الجنوب واهتبداله بيوم الجمعة. 


2355 


- إصدار قانون الجمعيات التبشيرية الذى بدأ تنفيذه عام ١157‏ وألزم التبشيريين 
المسيحيين بالحصول على تراخيص مسبقة» كما حظر التبشير فى الجنوب» وكأن التبشيريين 
ما جاءوا إلى ذلك الإقليم إلا فى رحلة سفارى. وفى ألفترة ما بين ١155 - ١57‏ تم طرد كل 
التبشيريين من جنوب السودان. 

كل هذه قرارات لا تعالج المشكل السياسىء؛ بل تتجاهله تماماً. فأسلمة الجنوب ليست هى 
البديل للحلول السياسية» خاصة وقد رأينا أن ما يسمى بحركة التمرد كان يقودها » بجانب 
المسيحيينء جنوبيون مسلمون , ومحاربة المبشرين المسيحيين ما كان ينبغى أن تكون حربأ 
على المسيحيةء وليت النظام سعى لسودنة الكنائسء, فالمسيحية ‏ رضى النظام أم أبى ‏ 
أصبحت ديناً لعدد كبير من الجنوبيين» بل ومن الجنوبيين ذوى النفوذ السياسى. أما إبدال 
عطلة الأحد بعطلة الجمعة فتزيد لا يخلومن السخف. فحتى اليوم» وبعد أربعين عاماً من 
ذلك القرارما زال يوم الأحد هو يوم العطلة الرسمية فى المغرب وتونس بلاد الأغالبة 
والمرابطين والموحدين. وعلى كل؛ فنتيجة لتلك القرارات غير الرصينة أصبح الجنوب 
مقاطعة تابعة للشمالء أو هكذا كان انطباع الجنوبيين من الوضع السائد آنذاك. فجميع 
التجارء وضباط الجيش والشرطة»ء وكبار الإداريين» ونظار المدارسء والقضاة كانوا من 
الشماليين. صحيح أن الجنوب كان فى حاجة ماسة للخبرة الشمالية فى ميادين عديدة إلا 
أن ذلك الوجود الشمالى الكثيف بدا للجنوبيين وكأنه احتلال شمالى. 

نظام عبود كان حقاً نموذجاً للاستبداد والطغيان فى الشمال والجنوب» ففى الشمال لم 
يعتغل النطاج وحود أى معارصة: أمااقن الحعوب ققد هدته حكمفه إلى أن السبيل الوحيد 
للتغلب على الصراع الجنوبى هو القمعء والمزيد من القمع. وكان من أهم نتائج هذا القمع 
شيكان: انتقال الجنوبيين للمرة الأولى بقضيتهم إلى الدول الأفريقية المجاورة؛ مما أعطى 
المشكل السودانى الداخلى بعناً أ إقليميء وبروز المعارضة المسلحة فى أشكال مختلفة تطورت 
فى النهاية إلى حركة انيانيا . كما أصبح موقف المنظمات السياسية الجنوبية أكثر تشد تشدداً نخو 
الانفصال. ومن جانبهم» اصطحب التبشيريون الحقيقة معهم إلى الخارج وقاموا بتعبدة 
الرأى العام ضد النظام لحربه ضد المسيحية. فى مناخ كهذاء لم يكن غريباً أن تبلغ كراهية 


256 


الجنوبيين لنظام الحكم الجديد فى الخرطوم ‏ والتى امتدت لسوء الحظ لتشمل الشمال كله 
أعلى درجاتها. 

فى الشمال كان السيناريو مثيراً للغاية. جاء العسكريون إلى السلطة بدعوة من رجل من 
الطبقة الحاكمة» وبقوا فيها بتأييد أودعم بعض آخر من نفس الطبقة. ولكن بمجرد أن أحكم 
رجال الجيش قبضتهم على زمام الحكم؛ بات واضحاً بشكل كاف أن ليس للجيش نية فى 
التخلى عن السلطة للمدنيين. حينئذ ازداد زخم المعارضة فى الشمال » وتشكلت جبهة لها 
بقيادة رئيس حزب الأمة» صديق المهدى طالبت بإنهاء الحكم العسكرىء وإلغاء حالة 
الطوارئ» وتشكيل حكومة وحدة وطنية لوضع الدستور وتنظيم انتخابات جديدة» مما أدى 
إلى إلقاء القبض على زععماء المعارضة باستثناء رئيسهاء ونفيهم إلى جنوب السودان. 
والنفى الداخلى للسياسيين أمر لم تقدم عليه حكومة وطنية من قبلء إلا حكومة المهدية 
على عهد خليفة المهدى. تلك المعارضة لم تكن مقتصرة على الأحزاب السياسية فقطء بل 
شملت جماهير المواطنين نتيجة لشعور المواطن العادى بوطأة الاقتصاد المتعثر. وهكذا 
تنامت مشاعر الاستياء» واندلعت الإضرابات» وتمت الإطاحة بعبود من السلطة فى ١155‏ . 
بيد أنا نظلم الحقيقة قبل أن نظلم عبود إن لم نقل أن الرجل» على عكس كل خلفائه 
العسكريين» كان يملك من الحكمة والتواضع ما جعله يتنحى عن الحكم فى اللحظة التى 
أدرك فيها أن الشعب متبرم بحكمه. فلم يكن عبود صاحب رسالة موهومة يفنى دونهاء أو 
حريصاً على سلطان يهلك فى سبيله. 

تلك أيضاً هى الفترة التى بزغ فيها نجم حسن الترابى على الساحة السياسية فى السودان 
كزعيم شعبى. فحتى ذلك الحين كان الترابى معروفاً بين الإسلاميين كأكاديمى متميز دون 
أن تكون له إسهامات تذكر فى الفكر السياسى لحركة الإخوان المسلمين التى كان ينتمى 
إليها. وكان أول ظهور للترابى فى ليلة سياسية جرت فى جامعة الخرطوم حول مشكلة 
جنوب السودان. وهى الليلة التى انطلقت منها الشرارة الأولى للثورة ضد نظام عبود. فى 
حديثه تلك الليلة» أكد الترابى أن مشكلة الجنوب هى مشكلة الشمال» وذلك رأى ذهب إليه 
أيضاً الأستاذ محمود محمد طه حينما كتب رسالته الشهيرة وللشمال مشكلة أيضاً. ولكن فى 


237 


الوقت الذى دقق فيه واستقصى محمود فى رسالته جذور المشكلء تناول الترابى جانباً واحداً 
منهء وهو جانب هام. قال الترابى أن قضية الجنوب تتمثل فى إنكار الحريات الأساسية من 
قبل "الطغاة العسكريين فى الخرطوم. ويالها من مفارقة حينما نجد الجنوب» بعد مرور 
مايربو قليلاً على ثلائة عمقود من الزمان: يردد أن مشكلته تكمن فى إنكار الحريات 
الأساسية من قبل الطغاة المستبدين فى الخرطوم. ترى من هم هؤلاء الطغاة المستبدون فى 
سودان ما بعد عبود؟ 

الخسائر ألتى ألحقها نظام حكم عبود بالعلاقات بين الجنوب والشمال خسائر فادحة» فخلال 
فترة حكمه تصاعدت حدة لجوء الجنوبيين العاديين (وليس السياسيين فقط) إلى الدول المجاورة 
كأثيوبيا وكينيا ويوغندا وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغوء هرياً من القمع والمذابح. وعلى 
المستوى التنظيمى تأمس فى عام 1175 على أيدى جوزيف اودؤهوء وليام دينق» ماركو روم 
ساترنينو لاهوروء وفيرديناند اديانج» الاتحاد الوطنى الأفريقى للمفاطق المقفولة 

46610و نآ لحصه دل كاعتراوامآ لع0105 موكلام معنو اتجه التنظيم 
الجديد إلى خارج السودان» وخاطب الأمم المتحدة يترجى عونها فى حل مشكلة الجنوب. 
خاصة فيما يتعلق بحصوله على الحكم الذاتى. تلك كانت طفرة بالقضية إلى الأقلمة أولا» 
ثم إلى التدويل. ونلاحظ هنا استخدام التنظيم الجديد لنفس التعبير الذى أطلقه الاستعمار 
على الجنوب: المناطق المغلقة . ولعل الذى يخفف من الروح الانفصالى الذى يوحى به ذلك 
التعبير هو إطلاق التنظيم وصف ال وطنى على اسمه. ومع عدم تهيؤ الظروف للعمل 
السياسى داخل البلادء ولجوء أَغفب السياسيين إلى الخارج» ساد شعور بين من بقوا فى 
داخلها بأن الخلاص الوحيد يكمن فى قوة السلاح. ففى سبتمبر؟157١‏ قررت الجماعات 
المسلحة المتفرقة فى الجنوب الاندماج لتأسيس جيش الأرض والحرية 54د 50انا) 
(لإ«دة «ولء16ء الذى أصبح فيما بعد حركة أنيانيا. لم تلق تلك الحركة العسكرية 
تشجيعاً من السياسيين الجنوبيين الذين اقتصر دورهم على تنوير الرأى العام الإقليمى 
والدولى بالموقف في الجنوبء وبالتالى لم يبذلوا جهداً لتوجيهها لتصبح أداة لتنفيذ 
إستراتيجية سياسية عسكرية واضجة:ء بل تركوا الصراع المسلح لخططه وتنظيماته الخاصة. 


2538 


اتخاذ حكومة عبود العنف سبيلاً لحل مشكلة الجنوب؛ ليس بالأمر الطارئ؛ إذ ظل هو 
موقف الطبقة الحاكمة» وشرائح هامة من نخب الشمال. نظرة هؤلاء جميعاً للمشكل كانت 
تتسم بسمة لافتة هى التظاهر بأن ليس ثمة مشكلة خطيرة فى الجنوب على الإطلاق» وكل 
ما هنالك هو مجموعات منالخوارج ‏ أى الخارجين على القانون (01385ا0)- تحرضهم 
جماعات المبشرين المسيحيين الأجانب. عبثية هذا الطرح بدت جلية؛ حتى لعبود نفسه. 
عندما وجد هو ورجاله أنفسهم أمام خيارين: إما الاستمرارفى خوض غمار حرب عالية 
التكلفة وبلا نهاية» أو التفكير فى تسوية سلمية ملائمة. هذا الموقف دفع نظام عبود لتكوين 
لجنة تحقيق حول مشكلة الجنوب فى سبتمبر 1175 ء كما لو كان هناك شىء جديد فى 
حاجة لاكتشاف. لم يكن نظام عبود بحاجة إلى محققين ودارسينء بل كان سيسدى خدمة 
جليلة لنفسه وللسودان إذا ما تمعن فى المدى الذى ذهب إليه الإداريون الشماليون فى 
الجتوقي يهدف تمي هوية الجدرت وثقاقة+ فطق سبي ل المتال».قام مدير الحدئ المذيريات 
انذاك (على بلدو) باستدعاء مسئول جنوبى إلى مكتبهء وناداه باسمه الإسلامى الجديد الذى 
أسبغته عليه الحكومة» وهنأه لأنه أصبح جزءاً حياً من الكيان الإسلامى» ودس فى يده مبلغاً 
من المال(عشرة جنيهات) ليبتاع بها رداءه الإسلامىء وأخيراً أبلغ المدير المسئول الجنوبى 
الذى أعز الله به الإسلام أن اهتداءه إلى الدين الجديد سيذاع فى راديوأم درمان.!'") أو 
ترى إلى أى مدى من البسور يمكن أن يصل المرء فى التعامل مع الأمور؟ لا يقل ذلك 
الموقف فى بواره عن موقف المفتش الإنجليزى فى راجا الذى حظر ارتداء اللبا سالعربى 
مما وردت الإشارة إليه فى الفصل الأول. لم يقف السخف عند الحد الذى أصيح معه 
اعتناق دين جديد أمرأ يتم بقرار إدارى» لا عبر اهتداء ذاتى» بل مضى المبشرون 
الإسلاميون الجدد إلى مسح جباه الأطفال بالرمال» وغسلها بالصابون لإزالة علامة 
الصليب عنها.("") فى جو الهوس هذاء أخذ الجلابة ( التجار الشماليون) ينذرون صغار 
التجار الجنوبيين بأن تجارتهم إلى كساد إن لم يدينوا بالإسلام. يسأل المرءء وما الذى 
حدث لقضية الفيدرالية التى أصبحت نغماً موسيقياً متكرراً فى سيمفونية الجنوب ؟ تلك 
النغمة أخرسها أيضاً بقرار إدارى مدير الاستوائية» على بلدو عندما أبلغ جمعاً من الشيوخ 


239 


الجنوبيين أنه خلال عهد البرلمان كان الأعضاء الجنوبيون يدعون لحكومة فيدرالية. تلك 
الأفكار قد رحلت إلى الأبد مع السياسيين لديل 


انتفئاضة أكتوير(1910-19515 ): حكومة الشعب 


مع القمع الداخلى فى الشمالء والانهيار الاقتصادى فى كل السودان» وتصاعد حدة 
الحرب فى الجنوبء أدت تلك الظروف مجتمعة إلى درجة من السخط وعدم الرضى لم يعد 
ممكناً معها للشعب أن يطيق بعده المزيد. ففى "١‏ أكتوبر ١174‏ اندلعت انتفاضة شعبية 
أطاحت بالجيش وأفضت إلى تشكيل حكومة انتقالية للإشراف على انتقال السلطة مرة 
أخرى إلى حكومة منتخبة. ومنذ البداية» ووجه العهد البرلمانى الثانى بمهمة ذات طبيعة 
ملحة. فعند توليه السلطة قام الجيش بإلغاء دستور”150١»‏ وأحل محله دستوراً بسيطأ لا 
يهدف إلا لتركيز السلطات فى يد العسكرء من ثمء لم يترتب على خروج الجيش من الحكم 
فراغ فى السلطة فحسبء بل أيضاً فراغ دستورى. لملء ذلك الفراغ اختارت حكومة أكتوبر 
دستور ١405‏ شبه العلمانى (مع تعديل شكلى بسيط) لتمهد به الطريق لانتخاب جمعية 
تأسيسية تضطلع بمهمتى وضع الدستور والإشراف على الحكم. ولا شك فى أن تبنى 
السودانيين للمرة الثانية بعد الاستقلال لدستور الحكم الذاتى الذى خلفه الاستعمارء أمر 
يدخل المسرة على روح السير جيمس روبرتسونء الأب الروحى لذلك الدستور. لا يرمين 
أحد الطبقة السياسية بالقصور الفكرى وفقدان الخيال» ولو أن لبعضهم قدرا كبيرا من تينك 
الخصلتين؛ أزمتهم الكبرى هى أنهم عصوا الحقيقة؛ فعصاهم الخيال. 

كانت حكومة أكتوبر - الاسم الذى كان يطلق على الحكومة الانتقالية - تختلف عن كل 
الحكومات التى شهدها السودان من قبل. هىء فى البدء؛ أول حكومة وضعت مشكلة الحرب 
والسلام على رأس أولوياتها. ثانياً هى أول حكومة أدركت أن مصالح الوطن لن تتحقق مع 
هيمنة القوى التقليدية على الحكم. على أن إقبالها على معالجة ذلك المشكل كان ذا مردود 
عكسى . فعند تشكيل الحكومة قررت القوى الحديثة؛ بأسلوب مستفز للقوى التقليدية» أن 
تمثل بثمانية أعضاء مقابل خمسة للأحزاب السياسية واثنين للجنوب. ثالث كان رئيس 


240 


الحكومة؛ سر الختم الخليفة» رجلا بلا ماض يرتبط بالسياسة الطائفية» كما كان على قدر 
من الخبرة فى الجنوب بحكم عمله فيه . رابع وضعت تلك الحكومة حداً للنهميش السياسى 
للنساء بمنحهن للمرة الأولى حق التصويت والترشيح فى الانتخابات. تلك الاختلافات بين 
حكومة أكتوبر والحكومات المدنية التى سبقتهاء أولحقت بهاء كشفت عن رغبة صادقة فى 
الإقبال الشامل على مشاكل السودان» رغم ما اعتور ذلك الإقبال من نواقص. ابتعدت 
حكومة أكتوبر أيضاً عن الأسلوب الصورى فى إشراك السياسيين الجنوبيين فى الحكم. إذ 
عينتء للمرة الأولى فى تاريخ الحكم الوطنى جنوبيين فى وزارتين هامتين: الداخلية والنقل 
والموصلات. إضافة إلى ذلك» سعت الحكومة إلى السياسيين الجنوبيين فى المنافى لكسب 
تقتهم مما قاد إلى قبول اتحاد السودان الأفريقى الوطنى (سانو) ‏ القوة السياسية الجنوبية 
الأولى آنذاك ‏ التعاون مع النظام الجديد. 
لم تكن تلك وحدها هى القضايا التى عزمت حكومة أكتوبر على تنفيذهاء بل كانت 
تتطلع أيضاً إلى إصلاح المؤسسات الحكومية وإرساء قواعد حكم صالح. ولا شك فى أن 
السودان كان بحاجة إلى بعض تلك الإصلاحات,. إلا أن جانباً مما انتوت الحكومة اتخاذه 
من إجراءات كان لابد أن يستثير القوى التقليدية لتأثيره المباشر على كياناتها. مثال ذلك 
إعادة النظر فى سلطات زعماء العشائر. كما اعتبر بعض السياسيين الذين لم يكونوا فوق 
مستوى الشبهات أن قانون الثراء غير المشروع الذى أعدت حكومة أكتوبر العدة لإصداره. 
قانون كيدى. من جانب آخرء اعتزمت حكومة أكتوبر إصلاح الخدمة العامة وفى سبيل 
ذلك اركذ حك سنافنة أسعتها تطوترر الخدمية العامنة :و" التطهين منشهوم اسعفين سن القوزة 
الناصرية» بدأته بمرسومها الصادر فى ١4‏ سبتمبر157١‏ بهدف تطهير الإدارة من 
العناصر الفاسدة دون توفير أى حق لهذه العناصر لاستئناف الأحكام ضدها. تلك العملية 
شابها فى مصر تسييس واضح إذ أوكلت لما يسمى ب لجان التطهيرء وكان أغلب من لحق 
بهم التطهير من الموظفين القادرين. إلا أنهم كانوا ينتسبون لأنظمة الحكم السابقة » أو إن 
شئت البائدة . وبالرغم من أن حجم التطهير فى السودان لم يبلغ ما بلغه فى مصرء إلا أن 
تطبيقه عاد بالضرر أكثر من النفع» أولأ بسبب نبوه عن تقاليد الخدمة العامة فى السودان. 
وثانياً لما أحاط به» فى حالات عديدة» من نزعات انتقامية. 
241 


فى ظل هذه الظروف كان لابد للقوى التقليدية - حماية لنفسها ‏ من أن تسعى لاسترداد 
زمام المبادرة لكيما توقف الدفع التجديدى الذى شرعت فيه حكومة أكتوبر. لهذا وقعت أول 
مجابهة لهذه القوى مع رئيس الحكومة حول الإعداد للانتخابات باعتبار أن تلك هى المهمة 
الأولى للحكومة . تأمل» حكومة تقول أن واجبها الأول فى بلد يكاد يهترئ من الانقسامات 
والحرب هو صنع السلام » فيقال لها أن الانتخابات هى الحل لكل مشكل ! فما الذى حققته 
انتخابات وانتخابات» و انتخابات» لحل ذلك المشكل المتجذر؟ ولكنء كقارئ لتاريخ 
السودان المعاصر لاتعترينى دهشةٍ من ذلك القول» "ولتعرفنهم فى لحن القول. 

من الطبيعى أن تحتج الأحزاب على ولوغ حكومة أكتوبر فى موضوعات يتطلب 
تحقيقها وفاقاً جماعياء وطبيعى أيضأء أن تعترض على بعض الممارسات غير المعافاة التى 
صحبت إجراءات تطهير الخدمة المدنية. كما من المتوقع؛ أن تحتج الأحزاب على رغبة 
المهنيين فى تأجيل الموعد المضروب للانتخابات؛ مما يعنى استمرار سيطرة أولئك 
المهنيين على الحكومةء وهى سيطرة اقتضتها ظروف استثنائية . أما القول بان الانتخابات 
هى الحلء فقول فيه عوجء وعوج كبير. مع ذلكء لم يكن أمام رئيس الوزراء» سر الختم 
الخليفة» وهو رجل بعيد كل البعد عن مناورات السياسة السودانية» إلا أن يستجيب لطلب 
الأحزاب بإجراء الانتخابات فى الموعد المحدد لها وفقاً لميتاق أكتوبر» أى فى موعد أقصاه 
مارس ١376,‏ جاء قبول سر الختم لضغوط الأحزاب بعد أن قدمت له إنذاراً صريحاً مفاده 
هو إما أن يجرى الانتخابات فى موعدها المحددء أو أن يقدم استقالته . ذلك أمر إن تمء كان 
سيدخل البلاد فى مأزق. ولتأكيد عزمه على الأمرء أخرج حزب الأمة عشرات الآلاف من 
الأنصار فى شوارع الخرطوم للضغط على الحكومة . إزاء تلك الضغوط اضطر رئيس الوزراء 
فى فبراير ١1755‏ لتقديم استقالته وتكوين حكومة جديدة. فى تلك الحكومة الانتقالية الجديدة 
وجدت الأحزاب السياسية بغيتها إذ سيطرت على الحكومة» فى حين ظل سر الختم فى 
رئاستها. ومع خروج حكومة أكتوبر الأولى توقف تيار الحماسة الإصلاحية» وتضاءلت 
احتمالات الوصول إلى مصالحة حقيقية» وتبخرت آمال تحقيق الاستقرار والرخاء؛ وهى 
آمال مرهونة بتحقيق السلام . 


202 


مؤذمر ال مائدة المستديرة عام 1١9850‏ 

بين السادس عشر والتاسع والعشرين من مارس ١1550‏ اجتمع» تحت رئاسة مدير جامعة 
الخرطوم» الدكتور النذير دفع الله» ثمانية عشر ممثلا عن الأحزاب السياسية الشمالية» 
وأربعة وعشرون من السياسيين الجنوبيين("”) بحضور مراقبين من غانا وكينيا ومصر 
ويوغندا ونيجيريا والجزائر» فيما سمى مؤتمر المائدة المستديرة حول جنوب السودان .(*؟) 
ذلك المؤتمر هو أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام. وما كان للمؤتمر أن يقوم 
لولا إفلاح حكومة أكتوبر فى إقناع القيادات الجنوبية بالجلوس على مائدة التفاوض. وكان 
رئيس الوزراء قد أعلن فى خطابه فى العاشر من نوفمبر ١174‏ أن مسألة الجنوب ستحظى 
باهتمام عاجل من حكومته. فى ذلك الخطاب أكد سر الختم مبادئ هامة: 

١‏ أن القوة ليست حلا لهذه "المشكلة الإنسانية الحيوية ذات الجوانب الاجتماعية 
المتعددة بل إن استعمال القوة زاد المسألة تعقيداً. 

١‏ - الاعتراف بكل شجاعة ووعى عميق بفشل الماضى بجانب الاعتراف بالقوارق 
الجنسية (العرقية) والتاريخية. 

" - ضرورة تهيئة المناخ للتفاوض- 

بالرغم من وضوح سياسات حكومة أكتوبر نحو الجنوبء لم يكن اللقاء سهلاًء إذ ما 
برحت الشكوك تراود يومذاك عدداً من القيادات الجنوبية فى المنفى حول جدية النظام 
الجديد فى التوصل إلى حل نهائى وسلمى للحرب. ذلك الخلاف فى الرؤى بين الجنوبيين 
قاد إلى صراع لاجب داخل أكبر الأحزاب الجنوبية» اتحاد السودان الأفريقى الوطنى 
(سانو)؛ وأدى إلى انقسام الحزب إلى مجموعتين: جماعة متطرفة يقودها اقرى جادين 
واققِك عن إجراء المفاوضات شريطة أن تتم خارج حدود السودان وعلى أن يكون الهدف 
منها هو انفصال الجنوب عن الشمال بصورة نهائية» وجماعة أكثر اعتدالاً تزعمها وليام 
دينق نيهال لم يكن يعنيها كثيراً موضوع مكان الاجتماعء بقدر ما كان يعنيها عقده 
ومحتواه . ويدعو للتملى أن جادين؛ داعية الانفصال» هو نفس الرجل الذى قام برفع علم 


243 


الاستقلال فى غرب السودان (الفاشر) حيث كان مساعدا لمفتش المركز. أو ترى هل كان 
فى مقدور جادينء رافع علم الاستقلال فى غرب السودان؛ أن يظن خيراً بذلك الاستقلال 
الذى بدأ بنقض الوعودء وانتهى بحبس من طالبوا باستيفاء العهود؟ نتيجة لموقف وليام 
دينق بعثت إليه الحكومة أحد الإداريين الشماليين المقتدرين (داود عبد اللطيف) » بصحبة 
اثنين من السياسيين الجنوبيين الواعدين (اكيج محمد ومو جير) للتشاور معه حول آليات 
المشاركة فى مؤتمر المائدة المستديرة . وما أن تم الاتفاق مع دينق» حتى سارعت الجماعة 
الثانية لتحذو حذو الأولى خوفاً من أن تجد نفسها خارج دائرة الأحداث. 

عند افتتاح المؤتمر ألقى رئيس الوزراء حكومة أكتوبر بياناً وضع فيه قضية الجنوب فى 
إطارها التاريخى الصحيح. من ذلك الخطاب نبرز ما يلى د 

- "مشكلة الجنوب لها نظائر وأشباه فى أفريقيا وبعض بلاد العالم الأخرى. 

- المشكلة ‏ مثل نظائرها ‏ مشكلة معقدة لأسباب طبيعية تتعلق بجغرافية القطر وتكوينه 
البشرى من جهة» ولأسباب سياسية تاريخية تعود إلى الاستعمار» وأخرى معاصرة على 
رأسها الأخطاء التى وقعت فيها الحكومات القومية المتعاقبة منذ الاستقلال. 

- إضفاء الصفة العرقية على الصراع الشمالى ‏ الجنوبى ينطوى على تعميمات وفروضص 
مضللة لا يمكن الاعتماد عليها فى أى نقاش جاد. فالعروبة التى يتصف بها السودان ليست 
صفة عنصرية بل هى رابطة لغوية ثقافية . ولو كانت العروبة غير هذا لخرج من نطاقها 
معظم العرب المحدثين فى أفريقيا بما فى ذلك سكان السودان الشمالى جميعاً. 

"السودان صورة مصغرة لأفريقيا فى تنوع سكانها وتباين ثقافاتهاء لهذا تمتزج 
العروبة والأفريقية امتزاجاً تامأ فى المديريات الشمالية ويشعر السكان» وهم فى ذلك 
صادقونء بأنهم عرب وأفريقيون فى وقت واحد وبدرجة متساوية. 

- "تجارة الرقيق المخزية التى قام بها أسلافنا كانت وصمة عارء ومع انقضاء ذلك العهد 
تركت شعوراً من الكراهية وعدم الثقة فى نفوس الجنوبيين أججه الاستعمار والأوروبيون 


- 


المنافقون . 


244 


- الظن الخاطئ من جانب الحكومة العسكرية بأن مشكلة الجنوبء أكبر مسألة سياسية 
قومية واجهت البلاد هى مسألة أمن ونظام . 

"التفاوت فى درجات النمو الاقتصادى لا يعانى منه الجنوب وحده بل تعانى منه 
مناطق أخرى فى الشمال مثل دارفور وكسلا . 

خطاب رئيس الوزراء لم يكن تفريعاً على نغم قديم» بل استعراض جديد للأزمة بصورة 
غير مسبوقة. ولا نحسب أن كل الحقائق التى أوردها سر الختم كانت خافية على دهاقنة 
السياسة» خاصة المتذاكين منهم الذين طبع الله على قلوبهم ولم يفتح بينهم بالحق. ولكنء ما 
أن بدأت المفاوضاتء. حتى طالب اتحاد السودان الأفريقى الوطنى فى جلسة الأحد "١‏ مارس 
5 بمنح الجنوب الحق لممارسة تقرير مصيره بنفسه عبر استفتاء لكيما يحدد أهله إن كانوا 
يرغبون فى الوحدةء أو الاتحاد الفيدرالى» أو الانفصال. فى ذلك القرار كان الاتحاد متأثراً. 
حسبما روى ابل اليرء بأفكار جبهة الجنوب؛ وهى تنظيم أسسته النخبة الجنوبية التى بقيت 
داخل السودان. ونتفق مع ابل الير فى أن المطالبة بحق تقرير المصير وضعت كل المطالب 
الجنوبية القائمة منذ الاستقلال داخل السياق التاريخىء بدءاً من مؤتمر جويا ومباحتات ما قبل 
الاستقلال حول الوضع الفيدرالى للجنوب؛ وإلى مارس ١155‏ . الإشارة لخيار الانفصال عند 
ممارسة حق تقرير المصير من جانب وليام دينق» داعية الاتحاد الفيدرالى» لم يقصد منهاء 
كما نقدرء إلا قطع الطريق على دعاة الانفصال الفورى (جادين وجماعته)؛ وحرمانهم من 
أى فرصة للتزيد على إخوتهم بتلك القضية. فباقتراحه ذلك أخضع وليام دينق القرار لإرادة 
أهل الجنوبء لا لرأى جماعة منهم. التاريخ الذى أشار إليه ألير» تاريخ طويل معروف للنخبة 
الحاكمة وغير الحاكمة فى الشمال؛ ولهذا يعجب المرء من اللجاجة ألتى ما برحت تدور فى 
بعض الدوائر الشمالية حول موضوع حق تقرير المصيرء ومن أين أتى؟ لو كلف هؤلاء أنفسهم 
مشفة العودة إلى أدنى مرجع موثوق به حول تاريخ المشكل لما أصبحوا من الممترين. 

خطاب رئيس الوزراء واقتراحات الجنوب حددت بوضوح خطوط المعركة ولكنء بدلاً 

من أن يكون الحوار بين جبهتين ( أحزاب الشمال وأحزاب الجنوب)» تغاوت الأحزاب 

التقليدية على المفاوضين الجنوبيين» لكسر شوكتهم وضعفهم وتعقيد موققهم بإدخال 


245 


مجموعة جنوبية ثالثة إلى ساحة الصراع. لتحقيق هذا الهدف شجعت الأحزاب جماعة من 
السياسيين الجنوبيين لتكوين تنظيم يدعو للوحدة» أطلق عليه اسم يحمل قدراً كبيراً من 
الالتباس» ويئير كثيراً من الريب: ظلال اخرئن للرأى .(ممتصضامه أ0 معلقطة تعطاه) 
لم يكن لذلك الحزب الأمبوبى وجود عند قيام المؤتمرء بل وقع على وثدٍ ثيقة ثيقة تأسيسه سانتينو 
دينق وزكريا اتيم (دينكا)» ومحمد يس بخيت وبوث ديو (نوير) إبان انعقاد المؤتمر. وما أن 
تكون حزب وحدة السودانء, والذى لم يكن له مكان على طاولة المفاوضات, إلا وأعلن 
رفض ما أسماه التنازلات الشمالية للجنوب» ورفض الفيدرالية وفكرة الاستفتاء أصلاً. ومن 
المثير حقّاً أن يجىء ذلك الرفض ‏ على الأقل لموضوع الفيدرالية - من سياسيين جنوبيين 
(بوث ديو وسانتيو دينق) شاركا فى كل البرلمانات الديموقراطية السابقة» ولم يشذ موقفهما 
بشأن القضيتين عن مواقف الأعضاء الجنوبيين الآخرين فى تلك البرلمانات. أعلن حزب 
الوحدة أيضاً تبنيه لفكرة إنشاء نظام لامركزى فى الحكم يشمل كل السودان» دون تعريف 
لهذه اللامركزية. وإلى جانب الأب المؤمسء. سانتينو دينق» ضمت جماعة ظلال أخرى 
للرأى» امبروز وول دهالء وكان الرجلان من أكثر الجنوبيين قربى بنظام عبودء فسانتينو 
هو الوزير الجنوبى الوحيد فى ذلك النظام» كما احتل امبروز موقعاً هامأ فى وزارة إعلامه . 
ولعل سانتينوء فى نظرته الجديدة للفيدرالية» قد اتخذ من قول على بلدوء عن قبر الفيدرالية 
مع السياسيين» إنجيلاً احتكم إليه. فاته أن السياسيين الذين قبرواء على حد تعبير بلدو قد 
بعثوا مثل عازر من جديدء "وسبحان من يحيى العظام وهى رميم. وعلى أى» فإن احتضان 
المؤسسة السياسية الشمالية للرجلين أمريبعث على الاستغراب؛. خاصة إزاء الشعارات 
الطنانة التى كان يرددها أهل الحل والعقد حول إقصاء أعوان عبود من أروقة السياسة. 

كان من بين الساسة الجنوبيين» حقيقة» من جاء إلى مائدة المفاوضات بذهن مغلق» 
دون استعداد للتمييز بين منابر الريطروطيقا التى يؤكد فيها كل طرف مواقفه ومنابر الحوار 
التى تسعى فيها الأطراف لاستكشاف آفاق السلام والبحث عن الوسائل المثلى للعبور إليها. 
أقرى جادين كان هو الصوت المعبر عن التوجه الأولء إذ بدأ بالإعلان فى المؤتمر أن 
الجنوب والشمال بلدين غير متكافئين لاعتبارات دينية وإثنية واضحة»ء كما ذهب للقول أن 


246 


هناك سودانين فى الواقع» لا أساس للوحدة بينهما. ففى تقديره لا توجد سمات مشتركة بين 
الكيانات المختلفة للمجتمع؛ أو هيكل مشترك للمعتقدات الروحية؛ أو وحدة فى المصالحء أو 
إشارات محلية تدل على وجود تلك الوحدة . وفوق هذا وذاك» قال» إن فشل السودان منذ 
استقلاله فى تشكيل مجتمع واحد لا يقود إلا لتلك النتيجة .!'؟) وفى تقديرناء كان هذا 
الموقف السلبى نتاجاً لكل السياسات الشمالية التى انحرفت على القصد. هذا الأمرأكده 
بوضوح سر الختم فى خطابه الافتتاحى للمؤتمر عندما أشار إلى الأخطاء التى وقعت فيها 
الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال.("؛) ولكن ما أسماه جادين فشل السودان فى تشكيل 
مجتمع واحد لايعود لأن الفوارق التى عددها تقود بالضرورة للانفصالء وإنما لأن الذين 
أوكل إليهم تدبير الأمور كانوا أسرى لوهوم أعجزتهم عن استبصار الحقائق. من جهتهاء لم 
تكن الأحزاب التقليدية أقل سلبية من جادين»ء سعت جميعها لتبرئة النفس من أية مسئولية 
عما حاق بالجنوبء رامية اللوم كله على الاستعمار والمبشرين ونظام حكم عبود. لم يملك 
واحد منها الشجاعة على الاعتراف بخطئه فى الماضىء مستلهماً الخطاب الناضج الذى 
افتتح به سر الختم الخليفة المؤتمر. فبعد كل التاريخ الذى سردناء فإن إلقاء اللوم كله على 
عبود والاستعمار لايعين على حوار هادفء بل هو مؤشر على فشل محتوم. وكما قال دوق 
ولينجتون الذى لا يجيد غير إختلاق الأعذار لأخطائه» لن يحسن أى شىء آخر. 

ولعل أكثر خطاب فى المؤتمر شد الانتباه إلى الانغلاق القكرى للساسة الشماليين كان هو 
خطاب الزعيم إسماعيل الأزهرى. ركز الأزهرى فى جانب من خطابه أمام المؤتمر(7١‏ مارس 
5) على المباهاة بأصول السودان العربية» ودور العرب فى الارتقاء بأفريقياء وكأنه كان 
يوحى بأن للشمال حق الوصاية على جنوب السودان حتى يرتقى إلى مصاف الدول 
المتنحضرة. قال الأزهرىء إن التهجم على العرب من دعاة الصليبية (ولعله كان يشير إلى 
اقرى جادين) يجعلنا أكثر اعتزازاً بأصلنا العربى؛ وبعروبتناء وبإسلامنا. ومضى قائلاً: لقد جاء 
العرب إلى هذه القارة الأفريقية كرواد لنشر الثقافة الحقة» والقيم الرشيدة التى نشرت الحضارة 
وأشاعت التنوير عبر أفريقيا فى وقت كانت فيه أوروبا تلج فى هاوية الظلام والجهل والتخلف 
المنهجى والعلمى7'؟). ذلك الاستهجان للثقافات الأفريقية يكاد يقارب ما ذهب إليه الاستعمارى 
العنيد» هارولد ما كمايكل فى تبخيس الأفريقى .(؟؟) 


217 
مي 


لااغضاضة فى أن يغار الأزهرى على العروبة» ولا ضير فى أن يرد على بعض 
التعبيرات التى وردت فى خطاب جادينء وكان فى بعضها مسفأ. ولكن يستعصى على 
القهم أن يحول الزعيم الأزهرى الأمر تن سجال يباقى فيه لضان العزبى على لصلكم 
الأفريقى. ذلك التعبير وحده يهدم الرسالة الرصينة التى وجهها رئيس الوزراء عند افتتاح 
المؤتمر وقال فيها إن عروية السودان عروبة ثقافية وليست عرقية» بل يتنافى مع نداء 
الأزهرى نفسه لأهل السودان فى مؤتمر الخريجين بأن يخلعوا عنهم أردية الانتماءات التى 
تفرق وينتسبوا جميعاً إلى سودانيتهم» وبها يفاخرون. جعل الزعيم الأزهرى أيضأ من مؤتمر 
المائدة المستديرة مؤتمراً عن الثقافات» وليس مؤتمراً سياسياً يهدف للوصول لقرار بشأن 
صراع ملتهب داخل وطن يتشظى ويقتل فيه الأخ أخاه. فبحصره للحوار حول ما قام به 
أسلافنا العرب للرقى "بأسلافكم الأفارقة» أكد الأزهرى أسوأ ما يعترى الجنوبيون من 
مخاوف. خطاب الأزهرى أيضأ عبر عن ضيق أفق بعض القادة الشماليين فيما يتعلق 
بالتنوع الثقافى داخل بلدهمء السودان» وكشف عن رغبة دفينة فى التغييب الكامل للثقافات 
والحضارات الأفريقية الأصلية التى سبقت وصول العرب للقارة» ومنها دولتا كوش ومروى 
فى السودان. وغريب حقأء أن يقول الوريث الروحى لبعانخى وترهاقا والملكة كانديس 
الذين أشادوا أولى حضارات أفريقياء أن أفريقيا لم تعرف الحضارة قبل مجىء العرب إليها. 
ولكن أزمة ذلك الجيل من آباء الاستقلال ‏ كما أوردنا فى الفصل السابق ‏ هى أنهم كانوا 
يستنكفون مستكبرين نسبتهم إلى مواريث حضارتهم القديمة» أولى حضارات البشرية؛ ولا 
يرون فيها ما يفاخر به المرء. عن هذا النوع من النرجسية الفكرية تنجم أكثر نواقص 
الإنسان سوءاً: تضخم الذات» وتحقير الآخر. ومن المفارقء أن المحصلة النهائية لذلك 
التمايز المصطنع (أجدادنا وأجدادكم) بين أقوام السودان هى توكيد قاطع لرأى جادين. 
بالمثل افتقدت تلميحات الأزهرى الازدرائية للإرث الثقافى لأفريقياء فى حضور المراقبين 
الأفريقيين» أدنى درجات الكياسة والدبلوماسية. ذلك أمر مؤسفء. خاصة وقد كان محرر 
خطاب الأزهرى هو شيخ الدبلوماسيين السودانيين» محمد عثمان يس. 

فى نهاية الأمرء اتفق رأى كل الأطراف على تقديم ثلاثة خيارات للمؤتمر تمثلت فى 
الفيدرالية؛ الوحدة غير المشروطة مع الشمالء الانفصال. فى ذات الوقت تعهد الجنوبيون 
248 


بإقناع حركة انيانيا بالتوقف عن القتال؛ إلا أنهم أصروا أيضأ على إيقاف القمع الذى يقوم 
به الجيش فى الجنوب . وكما أسلفت الإشارةء أبدى الجنوبيون رغبة فى أن يكون البت فى 
الخيارات الثلاثة عبر استفتاء عام. تلك الرغبة ما كان ينبغى أن تجعل نفوس الأحزاب 
الشمالية تجيش من الفزعء لا سيما وقد ظلت تؤكد حرصها على معرفة مايريده 
الجنوب(الجنوبيين عايزين شنو؟) . كما لا ينبغى أن تثير الدعوة للاحتكام إلى الشعب ثائرة 
الديمقراطيين الذين ما أنفكوا يكررون أن إرادة الشعب هى أساس الديموقراطية. على أن 
إجراء استفتاء عام يستلزم اتخاذ خطوات ضرورية تتضمن تعيين مراقبيين محايدينء وإلغاء 
حالة الطوارئ»؛ ونقل صلاحيات الأمن من الجيش إلى السلطات المدنية؛ وتلك كلها أمور 
أشار المفاوض الجنوبى إلى أهميتها. 
وقفت الأحزاب الشمالية جميعاً ضد فكرة إجراء استفتاء عام كما تلجلجت فى أمر 
الفيدرالية؛ فقصارى ما كانت على استعداد لمنحه للجنوب هو وضع خاص سمل قيام 
مجلس تشريعى للإقليم» ومجلس وزراء محلى تنحصر صلاحياته فى أمور التعليم والصحة 
والزراعة . وكما يتوقع المرء» رفض الجنوبيون ذلك العرض رفضاً باتأ وأعادوا للذاكرة 
مطلبهم الأصلى منذ الاستقلال: الفيدرالية. أحزاب الشمال ظلت ثابته على موقفها ذلك 
حتى بعد الانتخابات حيث تشير مداولات الجمعية التأسيسية حول مشروع دستور1574. 
إلى أن ذلك المشروع تضمن قيام جمعية تشريعية إِقَلدٍِ قليمية تخضع سلطاتها فى التششريع 
لموافقة البرلمان المركزى» وجهاز تنفيذى تختار الخرطوم رئيسه. إذن»ء صرفت حكومات 
الشمال النظر عن موضوع الفيدرالية الذى كان هو محور الحوار السياسى منذ يناير5 2٠١16‏ 
واستبدلته بمشروع دستور578١»‏ (قدم بعد تاجيل مؤتمر الدائرة المستديرة الذى أكد فيه 
الجنوبيون تمسكهم بمطالبهم الأساسية) . مشروع 2١1158‏ تضمن قيام نظام لا مركزى للحكم 
يمسق كل السردان: ويمس القظو علق اتانيه ال نيش لفالت. رحسي تضسنوضن ذلك 
المشروع تقتصر سلطة الحكومة الإقليمية فى الجنوب على الإشراف على الإدارة المحلية» 
والتعليم حتى المرحلة الثانوية (على ألا يمنع ذلك السلطة المركزية من إنشاء مدارس ثانوية 
فى الإقليم)» وحماية البيئة والصحة المدرسيةء والصناعات المحلية» والسياحة؛ وتطوير 


249 


الثقافات واللهجات المحلية. أما بالنسبة للرئيس الإقليمى فقد اقترح أن يتم تعيينه بواسطة 
رئيس الدولة من بين ثلاثة أسماء يقدمها هو للمجلس التشريعى الجنوبى لانتقاء واحد منهم. 
ومن ثمء تقلص دور المجلس التشريعى الإقليمى فى اختيار رئيس الإقليم على مجرد 
الموافقة الروتينية على تعيين شخص لم يرشحه ولا يملك سلطة تعيينه. فى وجه ذلك العناد 
الغريب صعد الجنوبيون الرهان» واقترحوا بالمقابل السماح لهم بالتحكم فى الأمور المالية؛ 
والتخطيط الاقتصادىء والشئون الخارجية:ء والقوات المسلحة» والأمن الداخلى للإقليم. 
ويمكن القول أن ما انتهى الجنوبيون إلى المطالبة به هو شىء أقرب إلى الكونفدرالية منه 
إلى الفيدرالية التى كانوا يطالبون بها. والمغالاة لا تقود إلا إلى المغالاة» ولكن ما الحيلة مع 
ساسة لا تنقضى عجائبهم» ولا يتدبرون أبدأ إلى أين تقودهم أرجلهم 
وكل طريق أتاه الفتى 
على قدَّر الرجل فيه الخطى 

الأمركان أسهل بكثير كما قال كليمنت امبوروء واحد من أبرز ساسة الجنوبء وأقواهم 
شكيمة» وأشدهم إيماناً بالوحدة . قال امبورو إن "التوصل إلى تسوية كان ممكنا لو كانت 
الأحزاب الشمالية على استعداد لقبول المطلب الجنوبى الأساسى. فإن وافقت الأحزاب 
الشمالية على وجهة نظرنا بأن يخول للمجلس الإقليمى الحق فى انتخاب رئيس الحكومة 
الإقليمية» لكان من الممكن أن تحل المشكلة الجنوبية منذ وقت طويل.(”؛) أضاف امبورو أن 
الحقيقة البسيطة المتمثلة فى اختيار الشمال لرئيس للجنوب لا يعنى سوى منح الجنوب 
حكومة صورية غير ديموقراطية» لأن الديموقراطية تستوجب اختيار المحكومين لحكامهم . 

ساد فى أوساط الشمال رأى بأن الجنوب فشل فى التقاط يد التصالح التى أمدها الشمال 
بصدق وإخلاصء وخلاصة ذلك الرأى هى أن المفاوضين الجنوبيين آثروا الانصياع 
للمطالب المتشددة لحركة أنيانيا ولجماعة جادين؛ بل افتقدوا الإرادة السياسية والقدرة على 
تحجيم هؤلاء. 5 أولتك السياسيون الجنوبيون أيضاً بالعجز عن تجاوز خلافاتهم 
الشخصية والسياسية والقبلية» بل بساحم لتلك الخلافات بأن تلقى ظلالاً كثيفة على 
المؤتمر أعاقت الرؤية عما هو أهم: ت تحقيق السلام . حقيقة الأمرغير هذاء فيما نقدرء ففى 


230 


تلك الأيام كانت أذهان السياسيين الشماليين ‏ لا الجدوبيين ‏ غائبة عن المؤتمر. أذهانهم 
وأبصارهم جميعاً كانت مشدودة إلى الانتخابات الوشيكة. وفى إطار الإعداد لتك الانتخابات 
أصبحت قضية الجنوب محلا للتنازع والتزيد بين الأحزاب. فى تلك البيئة المورودة 
(تعتريها الوردة أى الحمى)؛ كان كل حزب يتردد فى الدفكير فى تقديم أى تنازلات 
للجنوبء خشية أن يصبح ذلك سلاحا فى أيدى خصومه يستخدمونه ضده فى الانتخابات. 
عن ذلك الموقف نتج أمران: تشدد الجنوبيين فى مطالبهم القصوىء وسعى أحزاب الشمال 
لكسب السياسيين الجنوييين» لابهدف إنجاح المؤتمرء بل للتكثر بهم فى الانتخابات. ومع 
استعداد بعض الجدوبيين لتقبل الرشاوى؛ ولهف البعض الآخر للمناصبء أصبح المؤتمر 
روليتاً روسياً (4]ءاداه0؟ 12055131) سياسياً. 

إن استرجعنا أحداث الماضى وتأملناها بدقة لوجدنا أن أسلوب الإقبال على القضايا ما 
كان ليقود إلى غير ما قاد إليه. كان مجدوراً بالنقاش أن يتمحور حول القضايا التى طرحها 
رئيس الوزراء بدقة فائقة. بدلاً عن ذلكء ساد النقاشء أولأًء تعصب ثقافى أعمى صرف 
الأنظار عن الجوهر السياسى للمشكل. ثانياً افتقد بعض المشاركين فى المؤتمر من الجانبين 
أدنى درجات الكياسة فى التعامل مع القضايا المعقدة» وسادت الاجتماع التصريحات 
الطنانة» وسوء النواياء والمواقف المتطرفة. ثالثأء رغم إشارة رئيس الوزراء الأمينة لأخطاء 
الحكومات الوطنية منذ الاستقلال» أخذت رجالات تلك الحكومات عزة بالإثم أعجزتهم عن 
إدراك الرابطة السببية بين غضب الجنوب وسلسلة الخيانات التى اجترحتها الحكومات 
الوطنية منذ أوائل الخمسينيات. تبعاً لذلك: لم يكن انتهاء المؤتمر بالفشل فى 77 مارس 
6 ليثير دهشة أى مراقب موضوعى. 

وعلى كلء نجح المؤتمر فى اتخاذ قرارات محددة لم تكن لتشكل مجتمعة أساسا لإقرار 
سلام دائم وعادل. تقررء مثلاء إسناد الإدارة الإقليمية والشرطة والسجون وخدمات الإعلام 
فى الجنوب للموظفين المحليين. وفقاً لذلك القرارتم نقل عدد من الإداريين الجنوبيين 
العاملين فى الشمال وضباط الشرطة والسجونء وموظفى إدارة شئون الموظفين» وضباط 
الإعلام إلى الجنوب» كما تم الاتفاق على أنه» فى حالة عدم توفر عناصر جنوبية لشغل 


251 


المواقع الجديدة فى الإقليم» يرقى الموظفون شبه المؤهلين ويعمل على تدريبهم حتى يكونوا 
أكثر قدرة على أداء الواجبات المنوطة بهم. تلك كلمات يسهل قولهاء أكثر من وضضعها فى 
حيز التنفيذء خاصة إن كان الإعتماد على تنفيذها يتوقف على حسن نوايا الإداريين 
الشماليين» وهم أكثر من سيضار من الوضع الجديد. ولا تحسب أننا نرمى أحداً بباطل 
فاتحاد الإداريين هو الذى نصح حكومة عبد الله خليل بعدم تنفيذ القرارات الإدارية التى 
أوصى بها القاضى قطران. كما أصبح ذلك الحدس يقيناً عندما هدد كبار الإداريين فى 
الحكومة المحلية فى الخرطوم بتقديم استقالة جماعية إذا ما تم التنفيذ الفورى للتوصيات 
الجديدة المتعلقة بجنوية الإدارة ‏ وحتى إن تم تنفيذ تلك التوصيات يظل السؤال قائماً عما إذا 
كانت تلك الإجراءات ستحقق وحدة شقى القطر دون وجود أرضية سياسية متينة؛ ورؤية 
موحدة لماهية السودان. 

تناولت التوصيات أيضاً المجال الاقتصادىء إذ اقترح تأسيس مجلس وطنى اقتصادى 
يشم وكآئة تارعة لةافى الكتؤب» ولنشناءجامعة في جوياء كما اضيد قن مشروع انزازاء 
وأوصى بتأسيس معهد زراعى بيامبيو. أصحاب تلك التوصيات. وأولئك الذين قبلوها من 
الجنوبيين» لم يتعمقوا بشكل كاف فى معرفة الأسباب الحقيقية لتروى التنمية الاقتصادية 
فى الجنوبء أو فى أطراف السودان المهمشة. لا نتحدث هنا عن آثار الحرب وحدهاء وإنما 
عن مناهج التنمية بوجه خاص. فمخططات التنمية اللاقتصادية فى السودان؛ منذ 
الاستقلالء ظلت تكراراً غير فطين للنموذج الاستعمارى للتنمية» والذى ظل يمنح؛ كما 
أشرناء الأفضلية القصوى فى التنمية للشمال النيلى» باعتباره أكثر تهيؤاً للاستثمار. 
وبطبيعته» عمق ذلك النموذج التنموى من تهميش الأطرافء فمثلا بلغ إجمالى حجم 
الاستثمار فى التنمية فى الفترة من ١147‏ إلى ١4,5 1371١‏ مليون جنيه سودانى» 
خصص منها 1,7 مليون جنيه فقط للجنوب؛ بل لإقليم واحد فيه الاستوائية (مشروع 
الزاندى) . وخلال الفترة من ١157‏ إلى 195١‏ والتى تتصل بهذا الفصل بصفة أكثر ‏ 
بلغت مخصصات التنمية الوطنية 59,5 مليون جنيه سودانى» توجه معظمها إلى مشاريع 
الرى الكبرى فى الشمال: مشروع المناقلء توليد الطاقة الهيدروليكية فى محطة سنار 


252 


مشروع سكر الجنديدء إلى جانب مشروعات أخرى.٠'؟)‏ فى ذات الوقت» شهدت فترة ما 
بعد الاستقلال توسعا غير مسبوق فى مشروعات الرى الديمى (الزراعة الآلية المطرية) فى 
مناطق مهمشة تاريخياً مثل هبيلا فى جبال الدوبة؛ والرنك فى السودان الجنوبى» وأقدى 
والقرابين فى جنوب الديل الأزرق. ولا شك فى أن تشجيع الزراعة الآلية أمرمرغوب 
للتدنمية الزراعية فى السودان كله» فحتى ذلك التاريخ كان السودان ‏ باستثناء مشروعات 
الرى الكبرى ‏ يعتمد اعتماداً كاملاً على الرى بالطلمبات على ضفاف النيلء والزراعة 
المطرية فى القطاع التقليدى. كما كان الرى بالطلمبات محدوداً بمحدودية المياه المتوفرة 
للسودان بموجب اتفاقية مياه النيل. وقدء اقتصرت ملكية المشروعات الكبرى يومذاك على 
السيد عبد الرحمن فى النيل الأبيضء والسيد على فى شمال السودان» وبعض البيوتات 
التجارية المعروفة فى الشمال مثل آل أبى العلاء وعبد المنعم» وعثمان صالح. لهذاء كان 
قرار الحكومة بتشجيع القطاع الخاص على الزراعة الآلية("*) قراراً صائياً (رغم الهوس 
الذى جاء مؤخراً فى عهد الصادق المهدى حول تأميم المشروعاتء وهو قرار عارضه 
الشريف حسين الهندى معارضة كبيرة ) . 

الذى يعنينا هنا ليس هو القرار فى حد ذاتهء وإنما أثره على المناطق التى وقع عليها 
الاختيار. تلك المشروعات لم تكن ذات فائدة مباشرة لسكان تلك الأقاليم حيث تم تخصيص 
مساحات شاسعة من هذه الأراضى للشماليين وأغليهم من ضباط الجيش المتقاعدين؛ وكيار 
موظفى الحكومة. والتجار الشماليين» والوجهاء والسياسيين من سادة الشمال. ومن الغريب 
أن واحداً من هؤلاء الملاك الغائبين لم يسع لاستثمار جزء مما كسب فى أرض غيره 
ويعرق جبين أبناء تلك الأرض فى المناطق التى درت عليه الكسب وأربى ماله فيهاء 
فجميع عائدات الإنتاج فى تلك المناطق ذهبت إلى العاصمة (الخرطوم) لتستثمر فى 
العقارات» والصناعات التحويلية الناشئة؛ أو لتودع فى المصارف. حتى الزكوات انتقل بها 
الذين هم للزكاة فاعلون إلى مساقط رؤوسهم لتنفق فى بناء المساجد والمدارسء, ولم تذهب 
لليتامى والمساكين والعاملين عليها وأبناء السبيل الذين انقطعت عنهم النفقة حيث ربى 
المال. وإذ نقول هذاء لا ننكر على الخيرين أن يأتوا حقه يوم حصادهء أو ينفقوا من طيبات 


253 


ما كسبوا على أهليهم وأهلينا فى الشمال» أو نضطغن شيئاً على من جاد عليهم المنفقون؛ 
وإنما نسعى لإبانة حقائق وراءها ما وراءها. كنا أيضاً نحسب أن هؤلاء الخيرين؛ وعلى 
رأسهم من كانوا يسعون لأسلمة وتعريب غير العرب وغير المسلمين» يستدركون أن لأهل 
تلك المناطق سهما فى الزكاة بحسبانهم من المؤلفة قلوبهم. 

لجنة الاثنى عشر 

لكيلا تنطفئ الجذوة التى أشعلها مؤتمر المائدة المستديرة » تم تشكيل لجنة من اثنى عشر 
عضواً (ستة يمثلون الأحزاب الشمالية وستة آخرين يمثلون الأحزاب الجنوبية) لمتابعة 
أعمال المؤتمر وتقديم توصياتها لدورة انعقاد أخرى له كان من المقرر أن تتم بعد مضى 
ثلاثة أشهر على انفضاضه . بدأت اللجنة أعمالها فى 77" مايو بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه 
من قرارات المؤتمر الجوهريةء خاصة فيما يتعلق بنظام الحكم. ترأس اللجنة أولاً الإدارى 
عبد الرحمن عبد الله» وحل محله فيما بعد القانونى» يوسف محمد علىء وكان الاثنان 
يحظيان باحترام كافة أطراف الصراع نظراً لنزاهتهما وتعاملهما المهنى مع القضية. 
وانتهت اللجنة إلى مقترحات محددة لترقية الجنوب اجتماعياً واقتصادياًء وإلى النظر فى 
المطالب الجنوبية المكرورة بمنح الجنوبيين سيطرة أكبر على شئون إقليمهم. وفى هذا خطت 
اللجنة خطوات ما كان لها أن تخطوهاء أوأن تحقق ما حققته من نجاح جزئى دون حكمة 
ومثابرة رئيسيهاء رغم الضغوط السياسية التى تعرضا لها. 

فى داخل اللجنة سيطرت على أذهان الأحزاب الشمالية قضية واحدة: دفع الأحزاب 
الجنوبية إلى استنكار العنف الذى تمارسه حركة الانيانياء فى حين دعا الجنوبيون لاستنكار 
العنفء من أى مصدر جاءء وكانوا يعنون بذلك الجيش. وكان الصوت الأعلى فى المطالبة 
بشجب العنف الصادر من الحركة المسلحة الجنوبية» هو صوت الدكتور الترابى الذى نادى 
فى أكتوبر ١574‏ بالقضاء على طغوان العسكر. رأى الترابى» هذه المرة؛ كان هوأن أية 
إدانة لعنف الجيش ستضعف من معنويات المقاتلين. على أن أشد ما أدهش الجنوبيين فى 
اللجنة هو تأييد الحزب الشيوعى لذلك الموقف وانضمامه إلى الكورس الشمالى فى المطالبة 


234 


بالاستنكار غير المتكافئ للعنفء ولريما كان الحزب الشيوعى يومذاك خاشياً من تهمة 
الانمياز ل "التمرد على حساب الأقريين (الجيش السودانى) ؛ والمرء كما تقول العرب؛ 
يخشى سيل تلعته؛ أى شر أقاربه (التلعة المكان المرتفع من الأرض) . من المذهل أيضأء أن 
الموقفين جاءا فى وقت شهد تصعيداً كبيراً فى أعمال العنف من قبل الجيشء قوبل بالإدانة 
من جانب وسائل الإعلام المستقلة. فقد أعلنت جريدة الأيام مثلاً» إدانتها للقمع الأعمى 
الذى يمارسه الجيش واعتبرته قمعاً غير مبرر وضارا بقضية الوحدة.("؟) نتيجة لتلك 
الصرخات الداوية دعت اللجنة رئيس الوزراء »محمد أحمد محجوبء فى 7١‏ يوليو لإطلاع 
أعضائها على الموقف الأمنى. 

أشرنا قبل هنيهة إلى الرأى الذى ساد فى أوساط الشمال بأن فشل مؤتمر المائدة 
المستنديرة يعود إلى عناد الجنوب» وكان مبعث دهشة للكثيرين أن يشارك فى هذا الرأى 
الراحل محمد عمر بشيرء أمين المؤتمرء وواحد من قلة المفكرين الشماليين الذين عرفوا 
بحساسيتهم تجاه الجنوب. ذكر بشير أن غالبية أعضاء الوفود الجنوبية أثبتت شدة تمسكها 
بمبادئهاء مما جعل منهم مفاوضين غير أكفاء» يفتقدون الخبرة ويميلون إلى الشك فى دوافع 
الزعماء الشماليين بحيث كانوا يعتبرون أى تحرك شمالى شركاً منصوباً لهم.("؟) هذا 
التقويم لم ير فيه بعض المحللين الجنوبيين إلا "تعصبا أعمى. كتب رواى (صاحب هذا 
الرأى) يقول إن اتهام بشير يتساقط أمام أى تحليل أمبريقىء إذ ليس فى مضابط المؤتمر؛ أو 
التعليقات والتقارير التى صدرت عن صحفيين ومراقبين نزهاءء ما يؤكد هذا الاتهام. 
أضاف المحلل الجنوبى أن حكم بشير لا يفتقد فقط الأدلة القوية المقنعة» بل على النقيض 
تشبت الحقائق أن العكس صحيح. ففى تقدير رواى لم يمدث فى أى وقت من تاريخ 
الصراع بين الجنوب والشمال أن تمكنت غالبية الأحزاب الجنوبية من تناول المشكلة بالقدر 
من النضج وبعد النظر الذى تناولته بها فى مؤتمر المائدة المستديرة.('”) ومع استفكارنا 
لاتهام رواى لبشير بالتعصب. إلا أنا نوافقه على استنتاجه بأن وحدة الرؤى بين أصحاب 
الوزن الأثقل فى الأحزاب الجنوبية لم تكن فى أى مرحلة سابقة أوضح مما كانت عليه فى 
مؤتمر المائدة المستديرة. كما إنه» إن كان علينا توزيع اللوم على المتفاوضينء لنالت 


255 


الأحزاب الشمالية النصيب الأكبر منه. تلك الأحزاب لم تفشل فقط فى إدراك حقيقة 
الصراع وطبيعتهء وإنما أيضاً استنفدت أغلب طاقاتها فى إيقاع الشقاق بين صفوف 
الجنوبيين ٠‏ أوفى البحث عن مشاجب خارجية تعلق عليه أخطاءها. وبالطبع قام بعض 
الانتهازيين الجنوبيين» كما فعلوا مرات عديدة قبل وبعد مؤتمر المائدة المستديرة» بتسهيل 
مهمة تلك الأحزاب فى كسر الصف الجنوبى. فتأسيس حزب الوحدة؛ والمعاملة الاستثنائية 
لسانتينو وزملائهء جاءا تمشياً مع سياسة فرق تسد. ويعبر رواى عن البهجة والسعادة التى 
لاحت على وجوه القادة الشماليين عندما شهدوا حدة الانقسام تزداد فى صفوف الجنوب 
بقوله: "الاقتراح (أى الاقتراح بخلق ما سمى الظلال الأخرى) ما أريد به إلا إشعال نيران 
النزاع بين الجنوبيين. حينئذ يقف الجانب الشمالى فى المفاوضات ليقول بأنه عاجز عن 
عمل أى شيء لحل المشكلة الجنوبية» طالما أن الجنوبيين أنفسهم منقسمون حولها .('”) 
وعلى اية حالء فإن ذلك الخلاف فى التقويم لا يجدى شيئا؛ المهم هوان الاتهام المتبادل؛ 
والعجز عن النفاذ إلى جوهر المشكلء والإجراءات الشكلية الاستباقية» ما كانت لتكون أساساآ 
صالحاً لوفاق ينهى مشكلاً عميق للجذورء أو يرسى قاعدة راكزة لبناء وطنى ثابت. ومع 
الانهيار الفعلى لأعمال مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثنى عشرء صدرت شهادة وفاة 
أول مبادرة سلام سودانية لتحقيق السلام» وانصرفت الأحزاب لما تجيد فعله: الانتخابات. 

تمت الانتخابات كما أرادتها الأحزاب وجاءت بقانونى مرموق وسياسى ذى مراس: 
محمد أحمد محجوب كرئيس للوزراء فى حكومة ائتلافية ضمت حزب الأمة والحزب 
الوطنى الاتحادى. ولكن رغم مراسه؛ لم ير المحجوب فى المشكل الجنوبى أكثر مما رأى 
عبود: السيطرة على قلة من المتمردين» ومتى ما تم القضاء عليهم؛ ونزعت أسلحتهمء ساد 
السلام» وعاش أهل السودان فى تبات ونبات ليخلفوا أولادا وبنات. تلك الرؤية تبعث على 
الضحكء لا لأن التجارب الماضية قد أثبتت بطلانها فحسب. وإنما أيضاً لأن حركة أنيانيا 
كانت فى ذلك الوقت فى أوج قوتها. 

مه 


236 


خلاصهةه 


منذ عهد مؤتمر الخريجين عقد الشماليون؛ أو بالأحرى الطبقة المتعلمة منهم؛ العزم على 
الحفاظ على وحدة السودان. وكان لتلك الطبقة رأى صائب حول تشكيل وعى وطنى يعلو 
بالسودانيين على انتماءاتهم القبلية والجهوية» ويشمل الشمال والجنوب. ولكن» بسيب من 
النظرة المحدودة لمقومات الوطنية السودانية» عجزت تلك النخبة عن خلق إطار جامع 
يحتوى كل أهل السودان. وفى الطريق للحكم الذاتى أفلحت الطبقة السياسية الشمالية» عبر 
الضغط على البريطانيين والتأثير على المصريينء فى الحيلولة دون توفير أية ضمانات 
للجنوب فى حال استقلال السودان وبقائه موحدآء كما أفلحت فى عزل الجنوب عزلاً كاملا 
عن كل الاجتماعات التى تقرر فيها مصير القطرء جنوبه وشماله. وعند الاستقلال تعهد 
الحكام الجدد أن يأخذوا بعين الاعتبار مطالب الجنوب للحصول على الفيدرالية عند إقرار 
دستور السودان» ولكن» ما أن خرج البريطانيون من بؤرة الأحداث» حتى تراجع الزعماء 
الشماليون عما اعتهدوه » وشرعوا فى إدارة الجنوب كإقليم خاضع تقريباً لسيطرة الشمال. 
ذلك الوضع خلق انطباعاً لدى الجنوبيين بأنهم قد استبدلوا حاكماً بحاكم» لاسيما بعد أن 
أصبحت المطالبة بالفيدرالية خيانة عظمى للوطن. 

فى غمار التسابق نحو الاستقلال بدأت الأحزاب الشمالية مسيرتها نحو تلك الغاية بداية 
خاطئة. فبادئ ذى بدءء خاضت الأحزاب الانتخابات الأولى عام ١157‏ فى وقت كانت 
فيه عملية الحكم الذاتى كلها محل إستياء من الجنوبيين» أولاً: لإغفال الشمال ومصر لهم 
فى المحادثاتء وثانياً: للشعور الذى ساد بين قيادات الجنوب السياسية الناشئة بأن أحزاب 
الشمال؛ فى انشغالها بقضاياها الخاصة» قررت إستبعاد الجنوبيين عملياً من كل القرارات 
الحيوية . ثالثاً: سقوط قضية وحدة القطر نفسها من شاشة السياسة الداخلية» فبينما اتحدت 
الأحزاب السياسية مثل حزب الأمة والجمهوريين وحزب الأحرار للمطالبة بالاستقلال» 
انصرف الوحدويون بكل طاقتهم للعمل من أجل الوحدة مع مصر. رابعاً: فى إطار السعى 
لتحقيق نصر شامل للتيار الاتحادى ذهبت مصر ‏ عبر صلاح سالم ‏ للجوء لكل أساليب 
الإغراء المادى للناخبين والسياسيين فى الشمال والجنوب مما غرس فى الحياة السياسية 


2237 


بذرة فساد ظل السودان يعانى منها فيما بعد. ومن المدهش أن أهم عنصرين جاءت بهما 
الاتفاقية البريطانية المصرية حول الحكم الذاتى لكفالة سلامة الحياة السياسية؛ كانا هما 
ضمان حيدة الانتخابات بإيكال الإشراف عليها إلى لجنة مستقلة عن الحكومة7"”): إلى 
جانب قانون الممارسات الفاسدة الذى وضع لتحريم الضغوط السياسية علىء والإغراء 
المادى للناخبين. التدخل المصرىء قاد بدوره الطرف الآخر (الأحزاب الاستقلالية) 
للاستنجاد ببريطانيا(””): مما جعل من فكرة التخلص من الحكم الثنائى أغلوطة . خامساً: 
جنحت الأحزاب الشمالية» فى استهتار بالغ» إلى فتح الجروح القديمة وإثارة الفتن ضد 
بعضها البعض بغية الحصول على التأييد الجماهيرى بأى ثمنء كما أسرفت فى بذل الوعود 
للناخبين (خاصة فى الجنوب) بصورة تبعث على الاستهزاءء لا لسبب إلا لأن الأحزاب لم 
تكن تملك الإرادة السياسية أو القدرة العملية على الوفاء بتلك العهود. من ذلك التاريخ لم يعد 
الاستعمار هو العامل الوحيد الذى يعتذر به الساسة الشماليون عما صار إليه أمر الجنوب. 
فمنذ الأول من يناير ١157‏ أصبح حكام الخرطوم الوطنيون» هم صانعو محنتهم ومهندسو 

تاريخ السودان الحديث كله تاريخ صراع وكرب وعناء. وكثيراً ما نذهب فى الشمال 
لنرد هذا الصراع بكربه وعنائه إلى الانقسام العرقى والسياسى والثقافى فى السودان. هذا 
بلا شك؛ جزء من المشكلء ولكن ذلك الجانب من المشكل لم يكن ليستعصى حله لو أقبات 
الطبقة الحاكمة على علاجه بجدية» وأمسكت بتلابيب الأسباب الحقيقية للأزمة السودانية. 
وكان للإخفاق فى الإقبال على المشكل على هذا النحوء أثر كبير فى إطالة أمد الأزمة. 
فالفشل فى استبصار الأسباب الحقيقية للأزمة» ترك بنى الدولة الأساسية معرضة 
لانتهاكات عديدة . هذا الفشل تشاركته الأنظمة المدنية والعسكرية على حد سواءء وما كان 
تباريها فى الإمساك بزمام الأمو, ر إلا لعبة ذات محصلة صفرية 53106 17نا2670-5 فالزعم 
بأن الفشل يعود كلهء إلى العسكرء كما يقول المدنيون» زعم مضلل. مع ذلك؛ ما برح 
الساسة المدنيون يقولون أن تدخل الجيش فى السياسة؛ هو المسئول الأول عن جنوح سفينة 
الديموقراطية» وتخريب فرص التوصل إلى سلام فى السودان. ولكنء كما أبنا وسنبين» ظل 


258 


تدخل الجيش فى السياسة يتم دوماً إما بناء على دعوة الزعماء المنتخبين» أو مباركتهم له 
»)١11058(‏ أو بسبب الشلل الكامل الذى يعترى الحكومات المدنية بسبب الخلافات الشخصية 
بين عناصر. هاء أو الزهو الايديولوجى ((0109ة اهءفع106010) الذى كثيراً ما حمل بعض 
أهل السياسة على تغليب انحيازهم الايديولوجى على مصلحة الوطن» حتى وإن لم تكن 
تشاركهم فى رؤاهم أغلبية مقدرة داخل أحزابهم. هذا المنهج فى الأداء السياسى والحكومى 
يقود بطبيعته إلى مأساة حتمية. وأكبر دليل على تبرم الناس بالحكومات المدنية المضطرية 
والمنقسمة على نفسهاء هو استقبالهم لرحيل النظام الذى انتخبوه بقدر كبير من اللامبالاة . 
من ناحية أخرىء تعتبر الأحزاب هى المسئول الأول عن تسييس الجيش بإقحامه فى 
حرب أهلية سياسية متجذره. فنتيجة لعجز الأنظمة المدنية عن إيجاد حل سياسى فعال 
يوقف الحربء أقحمت العسكر فى تلك الحرب» دون وعى بأنها حرب يستحيل النصر 
العسكرى لأى من طرفيها. الحل السياسى وحده هو الذى يحقق وضعاً يكسب فيه 
الطرفان (51020100 10 - 910) نتيجة لذلك الإقحام أصبح الجيشء بالضرورة» هو الحكم 
فى تقرير مصير الأمة. هذا لا يعنى بأى وجه أن الأنظمة العسكرية كانت أكثر قدرة على 
إدارة دفة الأمورء أو على حل المشاكل التى استعصت على المدنيين. فالجيش قد يفلح فى 
تسيير القطارات فى مواعيدها المضروبة» وقد يفلح فى سفلتة طرق المدينة وتزيين 
واجهاتهاء وقد يفلح فى إرغام الموظفين على الحضور إلى مكاتبهم فى المواعيد المقررة. 
ولكنه لن يفلح قط فى حل مشاكل سياسية ‏ ثقافية ‏ اجتماعية عميقة الجذورء إن لم يكن 
لسبب فلأن التكوين المهنى والنفسى للجيوش لا يعين على هذاء رغم النوايا الحسنة لبعض 
رجاله فى تحقيق تلك الغاية. فالجيوش تعد لاستخدام العنف بهدف تحقيق نصر حاسمء 
وبأقل التكاليف . هذاء بالضرورة»ء يدفعها دوم للبحث عن حل مختطف(/ ع1ء1نال) 
لاتبالى فى سبيل تحقيقه فى قطع الزوايا (057615© 11038]نا©) حتى تصل إلى الهدف بأقصر 
الطرق. قطع الزوايا هذا قد يفيد فى تشييد الطرق والجسورء ولكنه لا يفيد ‏ بل يعمق ‏ من 
الأزمات السياسية. تعلمنا أيضاً من خبرتنا فى التعامل مع الأنظمة العسكرية» أن الجيش 
السودانى ‏ رغم القدرة التى آنسها بعض رجاله فى أنفسهم على حل مشاكل السودان ‏ 


259 


يعانى من نفس التصدعات والانقسامات التى تعانى منها الأحزاب. فالجيشء من الناحية 
السياسيةء لا يمثل مجموعة ذات بنيان متماسك وقدرة ذاتية نافذة» بل هو صورة مصغرة 
للمجتمع السودانى بكل اختلافاته . فالجيش والأحزاب نتاج مشترك لخبرات تاريخية واحدة. 

حكومة أكتوبر جاءت من بعد نظام عبود بأفكار جيدة وأولويات سليمة» إلا أنها افتقدت 
السيطرة المركزية القوية» ومن ثم كان تفككها أمراً محتوماً .كان لكل عنصر من عناصر 
حكومة أكتوبر ثوابته التى لا يتزحزح عنها. من بين تلك العناصر جبهة الهيئات التى 
كانت تمثل "القوى الحديثة وتسعى للإبقاء على هيمنتهاء خاصة بعد أن نجحت فى كسر 
حدة هيمنة القوى التقليدية على الحكم فى بدايات النظام. ذلك وضع لم ترض عنه القوى 
التقليدية» كما لا يتساوق مع الواقع الموضوعى على الأرض. ونزعم أن جبهة الهيئات لم 
توفق فى قراءة الخريطة السياسية السودانية» فلكيما تستطيع أى قوة سياسية السيطرة على 
مقاليد الأمور بفاعلية» يتحتم عليهاء قبل كل شىءء الارتكاز على قاعدة اجتماعية ذاتية 
محددة . والقواعد الاجتماعية فى السودان هى إما قواعد ذات منبع دينى أو سند طائفى: 
حزب الأمة (الأنصار)» والحزب الوطنى الاتحادى وحزب الشعب الديموقراطى (الختمية) . 
أو قواعد إثنية (البجة» النوبة» الأحزاب الجنوبية) . وكما أشرنا من قبل فان الاستثناء الوحيد 
لتلك القاعدة كان هو الحزب الشيوعى السودانى الذى أفلح فى أن يشق لنفسه مكاناً بين 
القوى العاملة متمثلة فى نقابات العمال. نضيف أيضاً أن هذا التقويم للكيانات الحزبية يتسم' 
بالعمومية» فثمة أحزاب فى السودان لم تكن تنتمى إلى هذا وذاك. تلك الأحزاب كانت 
أحزاباً صفوية تركز جهدها على التملى الفكرى والتعبكة المعنوية» أكثر من تركيزها على 
خلق قاعدة جماهيرية لها مثل الاتحاديين (حزب حماد توفيق)» والجمهوريين (أنصار 
محمود محمد طه) . بجانب هؤلاء كان هناك الحزب الوطنى الاتحادى الذى شق عصا 
الطاعة على الختمية فى مرحلة من المراحل إلا أنه عاد إلى بيت الطاعة بمحض اختياره» 
ولهذا أردفناه بالأحزاب التى تعتمد على قاعدة دينية الأصل. من جهة أخرى» سعت بعض 
الأحزاب ذات المنشأ الاثنى» فى مرحلة لاحقةء لأن تضفى على نفسها رداءً وطنياً مثل 
تنظيم جبال النوبة» الذى أصبح اسمه الحزب القومى السودانى؛ أو جبهة دارفور التى 


200 


أضحى اسمها الحزب الفيدرالى السودانى. تلك بلا شك» تطورات طيبة فى طريق التوحيد 
الوطنى. 

نعود إلى جبهة الهيئات لنقول بأنها سارت على نهج مؤتمر الخريجين عندما افترضت 
لنفسها دوراً قيادياً إقصائياً لا يتكافاً مع حجمها العددى ونفوذها الجماهيرى؛ فى حين سعت 
الأحزاب التقليدية» رغم نقاط ضعفها التى لا حصر لهاء للحيلولة دون تلك الهيمنة وبقيت 
راسخة فى ساحة السياسة السودانية» حتى إشعار آخر. مثل هذه المؤسسات لا يمكن 
تجاهلهاء أو نفيها بالتمنى (/(28/2 )1 08ذا115) فإن لم تكن فترة حكم عبود التى امتدت 
است سنواتء وفترة حكم النميرى التى دامت لست عشرة سنة» وحكم البشير من بعد لما 
ينيف عن إحدى عشرة سنة»ء كافية لخلع الولاءات الطائفية» يصبح الحديث عن نفى هذه 
القوى بالتمنى وهما باطلاً. التغيير يجىء عبر العملية الديموقراطية نفسها بما تتيحه من 
تلاقح بين الأفكارء كما يتم بإشاعة الوعى والتعليم بما يحقق التمكين السياسى والاقتصادى 
لجماهير هذه الأحزاب ويخلق واقعاً جديداً يحمل تلك الأحزاب على إعادة اكتشاف ذاتها. 
إن لم تفعل ستصبح خارج نطاق التاريخ» وليس فقط خارج إطار اللعية السياسية. 

ولريما ظنت جبهة الهيئات أن قاعدتها الشعبية الأولى والأخيرة هى النقابات. ذلك ظن 
لا يسنده دليل» ليس فقط لأن الولاء النقابى لا يعنى ولاء سياسياً أو حزبياًء وإنما أيضآ لأن 
تلك القوى فى مجموعها لاتمثل إلا اقلية مسحوقة بين أهل السودان» خاصة إن ارادت ان 
تتجاوز دورها الهام فى بث الوعىء والتحفيز السياسىء والضغط الشعبى على الانظمة 
الحزبية فى القضايا التى تشغل الرأى العام؛ باعتبار أن التنظيمات المهنية والنقابية هى أكثر 
عناصر المجتمع المدنى فى السودان فعالية. ولريما افترض أيضاً نقابيو أكتوبر أن القاعدة 
الاجتماعية التى يعتمدون عليها هى قاعدة الحزب'الشيوعى . وإن كان ذلك الافتراض 
صحيحاء فلا ريب فى أنها زادت الأمرتعويصاً على نفسها بإثارتها لمخاوف القوى 
التقليدية» والمجموعات السياسية الأخرى التى لا توالى ذلك الحزب. 

على أن أكثر الخرافات المضللة والباقية منذ انتفاضة أكتوبر ‏ رغم كل ما أضفينا على 
تلك الانتفاضة من تكريم وإستحسان ‏ هو وصفها بالثورة . فالثورات ليست انفجاراً عفوياً 


261 


غير إرادى؛ أو تشنجا جماهيريا غاضباء بقدرما هى عمل إرادى مركز مستدام لتحقيق 
غايات واضحة ومحددة. الفورات أيضاً تدميز دوماً بقيادة مستقرة لا يختلف عليها 
مناصروهاء ويعرفون جميعاً ما الذى سيجىء من بعدء ومن هوالذى سيرث النتائج. وقد 
أصاب تروتسكى الهدف عندما قال أن التمرد على السلطة فنء ولكل فن قواعده .(؛*) فى 
حين أن الانتفاضات التى نطلق عليها اسم الثورات» لا تعدوأن تكون تفريغاً لشحنات 
الغضب المكبوت. القضية هنا ليست قضية سيما نطيقية» بقدرما هى محاولة لإزالة 
الارتباك الذى تقود له الأوصاف العشوائية. فالثورات تتطلب؛ بجانب إحكام الفكرة 
والعزيمة» استشراف النتائج والقدرة على التحكم فيها.(5*) 

لهذاء فإن تقهقر القوى الحديثة من المواقع السياسية التى كانت تسيطر عليها فى خط 
الدفاع السياسى أثناء انتفاضة أكتوبرء لم يكن نتيجة تآمر من جانب الأحزاب التقليدية كما 
توحى بذلك أدبيات القوى الحديثة» وإنما بسبب التعددية الحزبية والانتخابات الحرة التى 
طالما دعت لها تلك القوى. فالقوى الحديثة تدعو لديموقراطية تعددية تتيح التعبير عن 
الإرادة الحقيقية للشعبء فى نفس الوقت الذى تصر فيه مسبقاً على تحديد دور ثانوى 
للأحزاب التقليدية بصرف النظر عن حجم التأييد الذى تحظى به. تلك وصفة تقودء 
لامحالة» إلى جنوح الأحزاب التقليدية لقتال بلا نهاية» وتجعل من الديموقراطية والتعددية 
الحزبية شيئاً بلا معنى» بل وتفتح الباب للمغامرات العسكرية. 

ممه 


262 


هوامشش وإحالات 





(1!) ذكر عبد الفتاح حسنء العضو المصرى فى لجنة السودنة» لقراهام توماس (موظف 
بريطانى عمالى كان على علافة ‏ ثيقة بالأحزاب السودانية) إننى لا أستطيع فهمكم أيها 
البريطانيون أنتم تنفقون ملايين الجنيهات لغزو الدول وتسمون هذا بطولة ووطنية . إن إنفاقنا لثلاثة 
ملايين جنيه مصرى لم يخلف وراءه أرامل أو يتامى» ومع هذا فهو مبلغ ضئيل لغزو أى بلد 
53-4 22 تروععجآ 2 أ0 طادع2آ1 ,كقصمط1 مسحطدرن 

(2)فى محاكمة جريدة الناس الأسبوعية بالخرطوم فى إحدى جرائم النشر (تولى الدفاع عها 
الأستاذان محمد أحمد محجوب ومحمد إبراهيم خليل) كان من بين شهود الدفاع خلف الله خالد 
وميرغنى حمزة. وقد أدلى الشاهدان ببينات دامغة حول الأموال التى تسلمها الحزب الوطنى 
الاتحادى (حزبهما) من صلاح سالم ومحمد أبونار. ومما يضفى على أقوال خلف الله أهمية أنه 
كان أميناً لخزينة الحزب. 

(3) أحمد حمروش» قصة ثورة 77 يوليوه صفحة 5١١‏ 

(4) تصريح لبشير محمد سعيد فى لندنء الأيام ١‏ سبتمبر 1584. 

(5) صوت السودان» ١١5‏ مارس .١566‏ 

(6) نجيب» كنت... ص 7581 . 

(7) نفس المصدر. 

(8) مقالات الرازى. 

(9) عقب أحداث ١574‏ ألقى الاستعمار بالضباط والموظفين الذين شاركوا فى تلك الأحداث 
فى غياهب السجون. وبعد خروجهم من السجنء اغفلت السلطات المصرية أمر الضباطء وكانوا 
جميعاً منخرطين فى الجيش المصرى. ظل ذلك حالهم حتى تولى النحاس باشا الحكم فقرر إعادتهم 
للخدمة؛ أو منحهم مكافات على خدمتهم بناء على وساطة كريمة من المؤرخ محمد عبد الرحيم. 
من بين هؤلاء اللواء على البنا الذى صدر ضده حكم بالإعدام فى عام 1174 ثم أفرج عنهء فأخذه 
الأمير عمر طوسون وعينه فى وظيفة مدنية ظل فيها حتى مجىء النحاس الذى أعاده للخدمة 
العسكرية. مآل هؤلاء. جعل كثيرين مثل صالح عبد القادر يديرون ظهورهم لمصرء فعهد اللواء 
الذى أشار إليه هو عهد اللواء الأبيضء الحركة الوحدوية التى قادها على عبد اللطيف. 


263 


(10) يبدو أن دوائر الأمن المصرية كانت تتربص بخضر حمدء لا بسبب تلك القصيدة: وإنما 
لمواقفه فى مفاوضات مياه النيل التى وصمتها مصر بالتشددء وكان خضر يومذاك وزيراً للرى. 

(11) فيصلء الحركة السياسيةء» صفحة 778 . 

(12) جريدة الأمةء الأحد يناير» 1562 . 

(13) رسم السير قوين بيلء السكرتير الإدارى بالنيابة» صورة غريبة للأزهرى. قال : ذلك 
الرجل رخى البال» ذو المظهر الخير يخفى خلف ععويناته المذهبة طموحاً يستقطب كل قواهء وحنكة 
سياسية» وانتهازية ماكرة. ومهما كانت درجة كرهى له وعدم ثقتى فى سياساته؛ ومهما كان من 
امر عدم مسئوليته وفقدانه للضميرء فلا مناص من كسب ثقتهء وإن امكن كسب صداقته حتى 
نمارس بعض النفوذ عليه. .211 2 5300 هه 582005 ,ااع8 

(14) فيصل» ص ص 55١0-5617‏ 
/ 371 /0© 1953 بلإططا800 0) معنلا جرمءع1 ,كمماععا8 أوعوءن) مقلناذ عط أن ذأدلالدم 

121336. 

(15) وقعت أحداث الأول من مارس إبان زيارة نجيب الخاطفة للسودان للمشاركة فى افتتاح 

أول برلمان سودانىء عندما تظاهرت جماهير حزب الأمة والأنصار لتعبر لنجيب عن تمسكها 

بالاستقلال. تلك التظاهرة خرجت عما أريد لها عند التحام المتظاهرين بقوات الأمن مما أدى إلى 
مقتل مسئولين فى الأمن؛ وبعض قيادات حزب الأمة نفسه. 

١ 3‏ ,لنمع215آ .عسطمد/لا اععطد0 (16) 

(17) كتب كيرنيك (إدارى بريطانى كان ملحقاً بمكتب الحاكم العام فى فترة الحكم الذاتى) 
يقول أن هزيمة حزب الأمة تعود فى الأساس إلى إصراره» رغم نصائحناء على خوض المعركة 
على أساس طائفى . فبدلاً عن أن يبينوا للسودانيين محاسن الاستقلال مقابل الهيمنة المصرية» 
صوروا الاستقلال وكأنه احتكار للأنصار. وثائق الخارجية البريطانية» ؟' ديسمبر ١46”‏ / 2120 . 
.60 3616 هاعن ذلك الرأى عبر أيضأ السير قوين بل فى مذكراته إذا قال أن حزب الأمة 
كان صخاباً فى دعايته الانتخابية للاستقلال فى الوقت الذى مازالت ذكرى المهدية حية؛ وكان 
هناك خوف حقيقى من عودتها إن تولى حزب الأمة الحكم. المصدر؟١‏ أعلاه» ص.ص 
0 


مع 3 أه طادع10آ1 ,كقم!1' تمنقطادءن )1١8(‏ 


264 


(19) وثائق وزارة الخارجية البريطانية. ,210/50/361/108381 ,لنالتهءمماء14 أنء5 مم11 
14 عع راءنء10 
(20) تقرير لجنة التحقيق فى الاضطرابات التى وقعت بجدوب السودان فى أغسطس ١550‏ . 
ضمت اللجنة خليفة محجوب (ضابط بوليس)» لوليك لادو (زعيم جنوبى قبلى شارك فى مؤتمر 
جوبا) » وتوفيق قطران (رئيسا) . وكان قطران (فلسطينى الأصل) يشغل منصب قاضى جنايات 
الخرطوم. كما ضمت اللجنة كمستشارين عسكريين القائمقام محمد بك التجانى والبكباشى على حسين 
شرفى . وطبع التقرير فى مطبعة ماكوركوديل بالخرطوم» وأعاد طباعته مركز الدراسات السودانية. 
(21) صوت السودان ‏ نوفمير؟56١.‏ 
(22) مذكرات ستانسلاوس عبد الله بياسماء صفحة 59. 
(23) وثائق الخارجية البريطانية 16.1954 6ءطدوء1083261107 / 361 2120/50 
.18 2 ,لمأن [ه ع1 مز أكمع 141001 ,لدنراء ع1 لإعوطامصسسطط عزذ (24) 

(25) تقرير القاضى قطران. 

(26) صوت السودان (لسان حال الختمية) ١5‏ فبراير565١.‏ 

(27) كتب محجوب فى عام 1174 يقول أن التحالف بين المهدى والميرغنى كان أكثر 
الأحداث كارثية فى تاريخ السودان السياسى. لقد دفع الغرورء والنهم للسلطةء والمصالح المكتسبة» 
الزعيمين المتخاصمين طول الحياة للتواطؤ بهدف الهيمنة على الساحة السياسية. 

.166 121.2" 00 لإعووعمووع12] .انامزاد14 .فلخ 

(28) فى مذكرة حول مستقبل الطائفية فى السودان كتب كنرك إلى وزارة الخارجية أن مصير 
الطائفية إلى زوال بعد وفاة السيد على والسيد عبد الرحمن» حسبما استشف من محادثاته مع 
المحجوب وميرغنى حمزة. 1953 'عطادمهه10/316/108336,51 ,ع»0111 مواعرهظ ها عأءممدعكا 

(29) مذكرات خضر حمدهء الحركة الوطنية السودانية» الاستقلال وما بعده . 

(30) تضمن مشروع ايزنهاور لخلق حلف شرق أوسطى لمحاصرة الاتحاد السوفيتى نص فى 
نقطته الرابعة حول تقديم المعونات الاقتصادية لدول الحلف. 

(31) انقسمت اللجنة إلى لجان فرعية: أوكل لواحدة منها التدارس فى أمر الفيدرالية. تلك 
اللجنة الفرعية تكونت من سبعة أعضاءء ثلاثة من الجنوب وأربعة من الشمال. ومثل الجنوب فى 
اللجنة ستانسلاوس بياسماء بوث ديوء سترنينو لاهورى. 


2065 


(32) محاضرة الجمعية التأسيسية لتعديل الدستور, .١584+‏ 
3 ,50305 100 )0 ون 1ازاوط ع1 .لإضيظ (33) 
(34) عمل الكاتب بصورة طوعية إيان عمله بالمحاماة كمعاون لعبد الله خليل فى مجال 
الاتصالات 7526013» وكان بتلك الصفة لصيقاً بالرجل على المستوى الشخصىء دون الادعاء بأنه 
كان فى وضع يمكنه من الإلمام بخفايا الأمور. 
(35) أمين التوم: ذكريات ومواقف فى طريق الحركة الوطنية السودانية . 
6 2 ,ققلناد طاناه50 01 تننءاتاووط ع1 ,عمع»آ مدذلاة/لا لمه عطنل0 معدن[ (36) 
(37) نفس المصدر. 
1 تلن:1/123 ,تانامأمقط؟! ,ودعلظ عم زوره384 (38) 
(39)ضمت أحزاب الجنوب: سانو والذى مثله ايليا لوبى» لورنس ول ول» جورج اكومبيك 
كواناىء اوليفر البينوء جورج لاموروء وليام دينق» هيلارى اوكالا اكوونوء نيكانورا اقويرء ايليا 
دوائق. وجبهة الجنوب التى مثلها: قوردون مورتاتء ابل اليرء قوردون ابيى» اوثوان بوقرء اوثوان 
داك» ناتالى الواكء: لوبارى رومباء بونا مالوال» رومانو حسن. وقد استقال ابل الير _ القاضضى 
الجنوبى الوحيد يومذاك _ من منصبه ليلتحق بالجبهة. أما أحزاب الشمال فقد تكونت وفودها على 
النحو التالى: جبهة الميثاق الإسلامى مثلها حسن الترابىء محمد يوسف محمدء عثمان خالد؛ جبهة 
الهيئات مثلها مكاوى مصطفىء سيد عبد الله السيدء إبراهيم أحمد مهيد؛ الحزب الوطنى الاتحادى 
مثله إسماعيل الأزهرى؛ محمد أحمد المرضىء محمد عثمان يس؛ حزب الأمة مثله الصادق 
المهدىء محمد داود الخليفة» د. عباس حمد نصر؛ الحزب الشيوعى مثله عبد الخالق محجوب. 
محمد إبراهيم نقدء د. الطاهر عبد الباسط؛ حزب الشعب الديموقراطى مثله الشيخ على عبد الرحمن, 
الهادى عابدون» الفاتح عبود. كما اختارت الحكومة عدداً من أعضاء المؤتمر يمثلون الإدارة فى 
الإقليم الجنوبى هم: فيليمون ماجوكء رينق لواك؛ شارلس بلال» جيمس بوك كالمالء أدورد اموم» 
قوردون سوروء يوسف ديكو. 
(40)فيليكس اوناماء وزير داخلية يوغندا؛ الحاجى يوسف ما يتاما سولى» وزير الطاقة والمعادن 
فى نيجيرياء الدكتور التجانى هدام وزير الصحة الجزائرى» فتحى الديب وزير الدولة المصرىء 
ماتانو» نائب وزير خارجية كينيا؛ ليبيكى نائب وزير خارجية تنزانيا؛ وويلبيك نائب وزير خارجية 
غانا. 


2066 


(41) محاضرة مداولات مؤتمر المائدة المستديرة» دار الوثائق المركزية» الخرطوم . 

(42) نفس المصدر. 

(43) نفس المصدر. 

(44) فى مقدمة كتابه المعروف قال الاستعمارى العتيد :من تاريخ المحيط الجنوبى» موطن 
الزنج» لا نعرف شيئآء وقليل يمكن توهمه. إلا أنه منذ بدء الخليقة كان أكلة لحوم البشر يرقصون فى 
أرتال» وكان الدم يزعق مع صفير النايات» الدم يزعق من أفواه المحاربين ومن فم الساحر النحيل 
ذى الوجه الذى يشبه الجمجمة. 21 2 ,هدلنا5 مدتامبرعظ-واعمة ع1 .اعددء ‏ الالعدك1 

.5 عدن .عن تبمع5 وبرعل1 وناو مقطا (45) 
قطن[ .(971]-1946) نزنزلو امعرممماءناء2آ1 ع5ع50020 12 مدلنك طاناه5 .عء,ه8 معدملا (46) 
ل تلعاء أده ن) اناا لإاتكمع الولآ 

(47) تقرير وزارة الزراعة عن الزراعة الألية, .١5©5‏ 

(48) افتتاحية جريدة الأيام» ١‏ يوليو ١578‏ . 

.9 2 باع ناأمهن) م لمناممعاعد8 عنطدء8 .381.0 ر49) 
.15 2 .ذهدلناد 0بناغ]' ]0 011165 غ11 .نإهنظا (50) 
(51)المصدر أعلاه. 

(52) تنص المادة السابعة من اتفاقية الحكم الذاتى وتقرير المصير على تكوين لجنة للانتخابات 
تضم ثلاثة سودانيين» وهندياًء ومصرياً وبريطانياً وأمريكيآء على أن يكون العضو الهندى رئيساً لها. 
وتكونت اللجنة برئاسة الهندى سوكومار سين وضمت عبد القتاح حسن ( مصر)» المستر بتى مدير 
الأمن السابق (بريطانيا)» واريك بيركينز (أمريكا)» وعبد السلام الخليفة» خلف الله خالدء قوردون 
بولى (السودان) . 

(53) فيصلء الحركة السياسية .. ص ص 570 _ 514 . ذكر المؤلف أن السيد عبد الرحمن 
طلب من المفوض التجارى البريطانيء؛ المستر ريتشز رهن قطنه للاستعانة بعائد الرهن فى 
الانتخابات» إلا أن الأخير رفض التدخل باعتبار أن هذا عمل تجارى بحت. كما طلب السيد 
الصديقء إبان زيارته للندن» ععوناً من بريطانيا لحزيه فى الانتخابات » إزاء التدخل المصرى 
لمصلحة الأحزاب الاتحادية. وكان الصديق فى حرج بالغ إذ قال للبريطانيين إن طلب العون 
الخارجى أمر ردئء ولكن لا مناص منه نتيجة للتدخل المصرى. 


267 


0 2 ,نان أ00ع1 سقأؤوذنا!]1 عطا 01 لزرماولط ,/اأئاه0؟1 ومعنآ (54) 
(55) ذكر تروتسكى أي صا إن الحركات الجماهيرية» حتى وإن كانت متوحدة حول عداء النظام 
القديم» ستنتهى إلى الفشل إن لم يكن لها هدف واضحء ووسائل محددة للنضالء وقيادة واعية 
بالطريق إلى النصر. صفحة ٠١1١5,‏ 
لالالا 


208 


الباب الثانى 
لالا 
الهداية فى الطريق 
إلى دمشق 


«اتركوهمهم عميان قادة 
عميان. وإذا كان الأعمى يقود 
الأعمى سقطا معافى حفرة, 

الإصحاح العاشر , الآين عا 


لالا 


1م 


1و1 19419 


عراك فى 
غيرمعترك 


269 


كر 
م وح 


«فى طريقه إلى دمشق شاهراً السيف ضد دين يسوع, شهد شاءول اليهودى ضوءا يبرق 
فى السماء فسقط على الأرض وسمع صوتا ينادى: شاءول؛ شاءول لماذا تضطهدنى؟ 
فقال: من أنت يا سيد؟ فقال الرب: أنا يسوع الذى أنت تضطهده فقال: يارب ماذا تريد أن 
أفعل؟ فقال له الرب قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغى أن تفعل:. (أعمال الرسل. 
الإصحاح التاسع) . دخل شاءول دمشق بعد أن قذف الله بنور فى قلبه فى طريقه إليها 
ليصبح بولس الرسولء هادى العباد إلى دين يسوع. هذا الباب يعالج فى أربعة فصولء 
القترات التى عمت فيها الهداية بعض قادة السودان فى طريقهم إلى دمشقء. فأصبح كل 
واحد منهم بولساً رسولاً. منهم من حمل الكتاب وهو يكذب بآياته مثل إسلاميى الستينيات. 
ومنهم من حمله بيدء كالحمار يحمل أسفاراء وبيده الأخرى سيف. حال نميرى 
الثمانينيات.ثم منهم من سعى لأن يقيم الدين بالكتاب والسيف والتكذب على العالمين ورب 

العالمين» كحكام الجبهة. 
فى الفترة ما بين سقوط حكومة أكتوبر الأولى وصعود نميرى كانت مؤسسة الحكم 
الشمالية تعانى قصوراً فى أوجه عدة»ء على رأسها الصراع المحموم من أجل السلطة بين 
الأحزاب. ولم يكن لذلك الصراع إلا هدف واحد: البقاء فى كرسى الحكم إلى أبد الآبدين. 
وقليلاً ما كان المصطرعون على السلطة على وعى بما يريدون صنعه بتلك السلطة عند 
الاستيلاء عليهاء حتى فيما يتعلق بالقضايا الوجودية للوطن. السياسة» فيما نعلم» غائية 
بطبعهاء ويقول العاقل إن غايات الحكم الوطنى ومقاصده التى لا يختلف عليها أحد هى 
السلام؛ والوحدة الوطنية» والاستقرار السياسىء والتنمية المستدامة التى تشيع العدالة بين 
271 


المواطنين. تلك هى الغايات التى يتوجب أن لا تغيب عن ذهن أى حاكم رشيدء بل إن 
الحاكم الذى يفتقد الرؤية الاستشرافية لهذه الغايات غير جدير بالحكم. غياب تلك الرؤية 
عند قادة السودان قاد إلى أخطاء جسام يعسر استدراك بعضها. ومن الغريب أن تلك الغايات 
لم تكن ذات أولوية فى القائمة السياسية للأحزاب فى تلك الحقبة» بل أشد غرابة من ذلك» 
تفوق الأحزاب على نفسها فى وضع العراقيل أمام أنفسها فى كل خطوة خطتهاء بصورة 
جعلت تحقيق تلك الأهداف أمرأ مستحيلاً. مع ذلك» ما برحت قيادات الأحزاب توحى 
لنفسها بأن الأمور فى السودان ستسير على مايرام؛ طالما ظلت تمسك بزمام السلطة. هذه 
الغبوة ذهب إليها حتى بعض السياسيين الذين كان يؤمل الناس فيهم خيراً باعتبارهم من 
أهل الدراية» ومن ذوى القدرة على التدبير. فشل هؤلاء كان مضاعفاًء خاصة فيما يتعلق 
بحرب الجنوب» إذ حا لخدي لك فى لو قسوة نظام عبودء بل ذهب اعتلال 
النظر بهم إلى تقويض كل الأعمال التحضيرية التى أرستها حكومة أكتوبرء والتى كان من 
الممكن أن تصبح أساساً متيناً لسلام عادل ومصالحة وطنية حقيقية. 

إضافة إلى ذلك» أجهض قادة تلك الفترة الديموقراطية نفسها. ففى تلك الديموقراطية 
المجهاض أهدرت إرادة الشعب عندما طرد من البرلمان أعضاء منتخبون انتخاباً بغرا 
وأبطلت سيادة القانون حينما رفضت الحكومة الالتزام بقرارات المحاكم . وغنى عن البيان أن 
احترام الإرادة الشعبية وسيادة حكم القانون هما جوهر الديموقراطية . شهدت تلك الفترة أيضا 
محاولة متناهية الحماقة لتديين السياسة دستوريأًء ولتحقيق ذلك أشعل السياسيون المتأسلمون 
ضرام فتنة دينية كادت أن تقضى على روح التسامح التى تميز بها إسلام أهل السودان. تلك 
كانت هى المرة الأولى منذ الاستقلال التى تبنت فيها الأحزاب التقليدية منهجاأ للحكم 
أيديولوجى المنحى . ولربما إن أحسنا الظن بمضرمى الفتنة الذين قادوا تلك المسيرة ( الإخوان 
المسلمين) ٠‏ نقول إن الغرور الفكرى أعماهم عن استبصار النتائج المترتبة على قسّر أهل 
السودان» بمسلمهم وغير مسلمهمء على فكر معين. والغرور الفكرى كثيرا ما يستبد 
بالأيديولوجى السياسى للحد الذى يجعله على يقين من ثبات أى أمرء لمجرد إبمانه بصحته. 
واليقين الأيديولوجىء كما يقول القاص البريع ماريو فارجاس لوساء هو ضرب من التطرف. 


21712 


والتطرفء بدورهء خيال يسعى لأن يفرض نفسه على الواقع باسم العلم. فما بالك إن تلفع 
ذلك الخيال برداء الدين. فى فصول لاحقة سنرى كيف استدار هؤلاء الأيديولوجيون فى حلقة 
مفرغة إلى حيث كانت بدايتهم» وانتهوا بعد ثلاثين عاماً )١1134(‏ إلى التنكر لمسلماتهم 
الأيديولوجية وتبنى نفس الأفكار التى وصفوها بالهرطقة فى عام »١1514‏ بل حسبوا المجاهرة 
بها خروجآً على الملة. مع هذا ما انفك بعض هؤلاء رغم ارتدادهم ععما آمنوا به وكفروا 
غيرهم بسببه؛ يتظنون أنهم واقفون فى قمة جبل أوليمبوس؛ مثوى الآلهة عند قدامى 
الإغريق» يقضون فى أمور الناس من عل بلغة خوارزمية (ءعقدعهدا! عتصسطمدعه1) لا 
يفهمها غيرهم. ما دروا أن الخاسر الوحيد من هذه الخوارزميات كان: وما زال» هو السودان. 

لآلا 

انتخابات زائفة وائتلافات متداعية 

انقسمت حكومة أكتوبر الانتقالية» كما رأيناء بشأن مسألة الانتخابات» وفيما بعد سعى 
كل من الحزب الشيوعى السودانى وحزب الشعب الديموقراطى إلى تأجيل الانتخابات 
بحجة أن الوضع الأمنى فيّ الجنوب لا يعين على إجرائها. وسواء كان هذا هو السبب 
الحقيقى لطلب التأجيل. أم مجرد ذريعة لأسباب أخرىء فقد كان رأى الحزبين صائياً. على 
ذلك المطلب؛ رد كل من حزب الأمة والحزب الوطنى الاتحادى بضرورة إجراء الإنتخايات 
فى الشمال كما هو مخطط لهاء على أن تجرى فى الجنوب متى ما سمحت الظروف بذلك. 
وبحقء أبدى الحزبان المعترضان أن هذه الصيغة سوف تضفى شرعية على تقسيم 
السودان. من جانبهاء عبرت الأحزاب الجنوبية عن مخاوفها من أن الانتخابات التى لن 
تشارك فيها ستتمخض عن جمعية تأسيسية يوكل لها وضع دستور جديد لا يدلى فيه 
الجنوبيون بدلوهم. وفى النهاية أحيل الأمرإلى مجلس السيادة (رأس الدولة) الذى أمر 
بتأجيل الانتخاباتء إلا أن الحزبين الكبيرين لم يلقيا بالا لذلك القرار. وهكذا أجريت 
الانتخابات فى 7١‏ أبريل عام ١1167‏ » وقاطعها حزب الشعب الديموقراطىء؛ فى حين قرر 
الحزب الشيوعى خوضها رغم اعتراضه على إجرائها. فى تلك الانتخابات فاز حزب الأمة 


213 


بخمسة وسبعين مقعدأء كما فاز فيها الحزب الوطنى الاتحادى باثنين وخمسين مقعداًء إلى 
جانب خمسة عشر مقعداً للإخوان المسلمين والذين أصبح اسمهم جبهة الميثاق الإسلامى. 
وكانت نتائج الدوائر الانتخابية للخريجين» ذات أهمية خاصة إذ حصل فيها الحزب 
الشيوعى السودانى على أكثر من نصف المقاعد ١١(‏ مقعداً من أصل١٠‏ مقعداً)» كما ذهيت 
خمسة من المقاعد التسعة المتبقية إلى جبهة الميثاق. وكان من بين الفائزين فى الدوائر 
الأخيرة حسن الترابى الذى حصل على أعلى الأصوات من بين المرشحين العشرين. ويقينآ 
لم يكن فوز الترابى الباهر نتيجة لتأييد الخريجين الإسلاميين لهء وإنما لموقفه الشجاع من 
مسألة الجنوب أثناء فترة حكم عبود . فعلى سبيل المثال» لم يحصل أى من مرشحى جبهة 
الميثاق فى انتخابات الخريجين على عدد يقارب ما حصل عليه الترابى؛ مما يؤكد أن 
مؤيديه لم يكونوا جميعاً من الميثاقيين (أنصار الترابى) أو مناصريهم. 

بالإضافة إلى هذاء وقع حدث غريبء حيث أعلن عن فوز واحد وعشرين مرشحاآً 
بالتزكية فى الجنوب (أغلبهم من الشماليين) » مما قاد إلى شعور طاغ بالإحباط لدى 
الأحزاب الجنوبية التى امتنعت عن تقديم مرشحين لها فى الانتخابات امتثالاً لحكم مجلس 
السيادة. نتيجة لهذا الوضعء أحيل الأمر إلى المحاكم التى قضت بأن الواحد وعشرين 
مرشحاً قد تم انتخابهم بشكل قانونى صحيحء فى حين دفع الجنوبيون بأن القضية ليست 
بتلك البساطة لأن الأمر ليس بالقانونى المحضء وإنما هو موضوع سياسى قد تتمخض عنه 
نتائج خطيرة . تلك النتائج الخطيرة» لم تعقلها الطبقة الشمالية الحاكمة»ء بل لربما لم تدر 
بخلدها ابتداء» أو لعل ثقتها المطلقة بالنفس أوهمتها أن فى مقدورها تجاوزها. وفى نهاية 
الأمرتم تمثيل الجنوب فى الجمعية التأسيسية عبر نواب شماليين ينتمون إلى الأحزاب 
الشمالية الحاكمةء وفق اعتبارات قانونية شكلية. ولا خفاء» فى أن الأحزاب الشمالية كانت 
معنية بزيادة أعدادها فى البرلمان» أكثر من اهتمامها بمشكلة الجنوب» ودون استبصار 
للعواقب التى قد تدجم عن الاستهانة بالمشكلة. وفيما يقولون ليس للأمور بصاحب من لم 
ينظر فى العواقب. الحزبان الكبيران» إذن» كانا يتسابقان على الوصول إلى الحكم بغض 
الطرف عن الضرر الذى سيلحقه هذا السباق بالسلام والوحدة فى البلادء إذ كان من 


214 


الواضح أن رفض الجنوبيين لنتائج الانتخابات الخادعة لم يقلقهما كثيراًء رغم تجاربهما 
وخبرتهما المريرة مع قضية الجنوب . هذا الفهم الشكلى للديموقراطية لا يعكس فقط فقداناً 
للفراسة والبصيرة» بل يعبر أيضاً عن سوء إدراك لكنه الديموقراطية » وكما قال ت. إس. 
إليوت: كانت لديهم الخبرة الكافية» ولكنهم عجزوا عن إدراك الكنه )١(.‏ 

عقب الانتخابات» شكل حزبا الأمة والوطنى الاتحادى ائتلافاً كان من نتائجه حصول 
الأخير على رئاسة مجلس السيادة» بينما حظى حزب الأمة برئاسة الوزراء. وبناء على ذلك 
الترتيب؛ عاد إسماعيل الأزهرى مرة أخرى للرئاسة إلا أنه لم يصبح هذه المرة رئيسآ 
للوزراء» بل صار رئيساً دائماً لمجلس السيادة . ونعيد إلى الأذهان أن رئاسة ذلك المجلس- 
وهو مؤسسة رمزية تمثل الأمة بأكملها ‏ كانت منذ الاستقلال رئاسة دورية يتداونها 
الأعضاء على النمط السويسرى مما يكفل لجميع أعضائه (بمن فيهم العضو الجنوبى) 
رئاسة أعلى مؤسسات الدولة عندما يحين دور كل واحد منهم. (') وظل أعضاء مجلس 
السيادة فى الديموقراطية الأولى وفى عهد حكومة أكتوبر يقومون بواجباتهم السيادية 
الرمزية حسبما يقضى به الدستورء ولا يتدخلون فى الشئون التنفيذية التى أوكلت كلها 
لمجلس الوزراء. ولا نخال رئيس الجهاز التنفيذى فى الديموقراطية الأولى: (إسماعيل 
الأزهرى) كان سيسمح لهم بهذا التدخل إن رغبوا فيه. ولكن الأزهرىء فيما اتضحء ما كان 
ليقبل أن يكون مرؤوساً لأحدء ولذلك تعدل الدستور لإشباع رغبته فى الرئاسة. فضلاً عن 
إلغاء الرمزية التى يعبر عنها نظام الرئاسة الدوريةء كان القرار أيضاً وخيم العاقبة إلى حد 
كبير فيما يتعلق بالإدارة السياسية. فرئيس الدولة الذى يفترض فيه أن يملك ولا يحكم - 
كما ينص الدستور السودانى على غرار دستور ويستمنستر ‏ امتنح نفسه دوراً آخر: القيام 
بدور تنفيذى فى الحكم مما أدى إلى نشوب مصادمات عديدة بينه وبين رئيس الوزراء . هذا 
النزاع كان يدورء على الأكشرء حول المناشط الخارجية مثل تمثيل السودان فى المحافل 
الدولية والإقليمية. ولا شك فى أن رئيس الدولة ورئيس الوزراء كانا على علم يتجارب 
الأنظمة البرلمانية عبر العالم» التى اقتفت أثر تجارب وستمنستر. فالهند مثلء كانت تمثلها 
فى المحافل الدولية والإقليمية أنديرا غاندى؛ رئيسة الوزراءء لا فخر الدين على أحمد. 


215 


رئيس الجمهورية»ء والباكستان فى فترات حكمها البرلمانى الديموقراطىء كان يمثلها رئيس 
الوزراء ‏ كان اسمه ذو الفقار على بوتو أو بنازير على بوتوء لا رئيس الجمهورية:» الذى 
نحسب أن الكثيرين لا يعرفون حتى اسمه. هذا هو أيضاً الحال فى دول الكمنولث الأخرى 
مثل سيريلانكاء كنداء استراليا. لماذا قبل رئيس الوزراء القانونى المتنمرس» محمد أحمد 
محجوب. هذا الوضع؟ فى تقديرناء لم يكن لقبول الجهاز التنفيذى لهذه التجاوزات 
الدستورية غير سبب واحد: الإبقاء على المحالفات الحزبية حتى وإن كان ذلك على حساب 
التقاليد الدستورية الراسخة. هذا أمرلا نستغربه من نظام عطل الإرادة الشعبية؛ وهدم سيادة 
حكم القانون. 

وعلى أىء أصبح محمد أحمد محجوب. بتنسيق داخلى فى حزب الأمة» رئيسا للوزراء 
بدلا عن الصادق المهدىء الوريث الافتراضى لجبة الأنصار السياسية. وكان من رأى 
الصادق أن رئاسة الحزب والحكومة هى حق مكتسب لهء ولكن بما أنه لم يكن مؤهلاً فى 
ذلك الوقت لعضوية البرلمان لعدم بلوغه السن القانونية للترشيح؛ لم يكن بوسعه أن يفعل 
الكثير بشأن رئاسة الحكومة»: فتركها للمحجوب. وتشير الدلائل إلى أن الصادق لم يكن 
متحمساً منذ البداية لرئاسة المحجوبء إذ ورد عنه تصريح أطلقه فى بيروت حيث كان 
يقضى إجازته (مايو1170١)‏ جاء فيه أن حزب الأمة سيجتمع لاختيار واحد من ثلاثة 
لرئاسة الحكومة: المحجوبء عبد الله نقد الله» محمد إبراهيم خليل.(2) 

توقع الكثيرون أن يقبل محجوبء القانونى النصيفء على معالجة قضية الجنوب معالجة 
سياسية دستورية» ولكن رؤيته للقضيةء للأسفء لم تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التى 
ارتأها عبود. عادت الحكومة التى ترأسها محجوب إلى الإنكار القديم لوجود أية مشكلة 
حقيقية فى الجنوب» وطفقت تردد العبارات المنهوكة عن "المتمردين» وعملاء الاستعمارء 
وأعداء الحضارة العربية والإسلام(؟). ففى واحد من أوائل تصريحاته بعد تولى الرئاسة» 
أعلن المحجوب أن حكومته سوف تواجه المشكلة الجنوبية التى خفها المستعمرون باتباع 
سياسة واضحة وحازمة من شأنها تأكيد وحدة البلاد وتحقيق رخاء الشعب دون تمييز بين 
أهله .(*) أضاف رئيس الوزراء أنه لن يسمح بأى تدخل أجنبى إزاء سياسته الرامية لتصفية 


216 


المنظمات الإرهابية.!') وإلى جانب تصعيد العنفء بلغت ريطروطيقا الحرب والكراهية 
المرضية للأجانب (760000513) ذروتها فى عهد محجوب. مثال ذلك التهم العشوائية 
التى وجهت إلى التجار الأجانب فى الجدوب» خاصة اليونانيين والمسيحيين السوريين» رغم 
أن غالبية هؤلاء كانوا سودانيين بالميلاد» بل إن العديد منهم استقر فى الجنوب منذ زمان 
وتزاوج مع أهله . تلك الاتهامات بلغت حداً لا يطاق من الغلوحين وصفت الصحيفة 
الناطقة باسم حزب الشعب الديموقراطى هؤلاء المواطنين بالتآمر مع المتمردين» ودعت إلى 
طردهم ومصادرة ممتلكاتهم.(")) ولا نجد تفسيراً لهذه الكراهية المرضية للأجانب 
المزعومين سوى التحيز العرقى» لأن ظاهرة رهاب الأجانب» هى فى حقيقتهاء تعبير عن 
تحيز عرقى كامن. وبالرغم من أن حزب الشعب كان حزباً معارضاً للحكم يومذاكء إلا أن 
الحكومة لم تتوان فى اتخاذ الخطوات اللازمة لطرد هؤلاء الأجانب من الجنوب» بل اتبعت 
تلك الإجراءات بفرض الرقابة على الصحف للتعتيم على ما يدور فى المنطقة؛ كما ذهبت 
الى تطهير قوات الأمن المتمركزة فى الجنوب من الجنوبيين باعتبار أن كل جنوبى أصبح 
طابوراً خامساً يتامر مع "المتمردين. 

لا عجبء إن تصاعدت العمليات العسكرية فى ذلك الجو المحموم بل تحولت إلى أعمال 
وحشية تجاوزت كل حدود الاستخدام المبرر للقوة لقمع "التمرد. هذا الأمرء حدا بكاتب 
جنوبى/*)) للحديث عن قدوم ساعة الرعب؛ ووصف أسلوب المحجوب فى تدمير أرواح 
الجنوبيين وممتلكاتهم بطريقة "مالزاك!؟) جديد مزود بأسلحة ووسائل مواصلات حديثة 
وأشد فتكآء وبجيش نظامى أعلى مستوى. ذهب نفس الكاتب للقول بأن المعاناة التى عاشها 
الشعب الجنوبى خلال فترة حكم محجوب لا مثيل لها فى تاريخ الجنوب. وبما أننا على قدر 
من الدراية بما كان يحدث إبان حملات الرقيقء لا نرى فى تشبيه محجوب بمالزاك إلا 
مبالغة لجذب الاهتمام. ولكنء الأمر سيان إذ أصبح كل جنوبى فى فترة حكم محجوب 
متمرداً. وكان محجوبء فى سياسته القاسية نعو الجدوبء مدعوماً يقرار إجماعى من 
الجمعية التأسيسية التى كان يسيطر عليها الشماليون» ويمثل الجنوب فيها عدد كبير من 
الأعضاء فاقدى الشرععية. بموجب ذلك القرار منح الجيش العامل فى الجنوب الحرية 


217 


الكاملة للتصرف لحماية النظام العام فى جميع المناطق الخاضعة لسيطرته. ومما أثار قلق 
الجنوبيين أن كلا من الإخوان المسلمين والحزب الشيوعى السودانى صوتا لصالح ذلك 
القرار('')ء وكان من المدهشء مثلاً» صدور تعليقين فى يومين متتاليين من الصحيفتين 
الناطقتين باسم الحزيين ينددان فيهما بعنف الحركات المسلحة الجنوبية دون إشارة 
لتجاوزات الجيش. ففى 7١‏ مايو175١‏ كتبت جريدة الميثاق الناطقة باسم جبهة الميئاق 
الإسلامى تقول أن "الأسلحة المتدفقة للجنوب تجىء من دول أجنبية عبر الكونغوء كما 
اتهمت وزيراً جنوبياً فى الحكومة (هيلارى لوقالى) بإفشاء أسرار الدولة للمتمردين لأنه 
شارك فى اجتماع بكمبالا لجبهة الجنوب. وحزب الجنوب المشار اليهء حزب سودانى 
شرعى كان يحتل موقعه مع بقية الأحزاب الجنوبية فى مؤتمر المائدة المستديرة . وفى اليوم 
التالى 5١(‏ مايو) أوردت جريدة الميدان أن الحل السلمى الديموقراطى لن يتحقق فى 
الجنوب إلا بازدهار القوى الوطنية فيه» وتأييدها من القوى الديموقراطية فى الشمال لحماية 
الوحدة . غير أن الميدان مضت تقول إن هذا غير ممكن طالما ظلت جماهير الجنوب واقعة 
تحت سيطرة أعداء الوطن الإرهابيين ودعاة الانفصالء والإمبريالية. مفاد هذا الحديث أن 
ليس للحركات العسكرية دافع داخلى؛ وإنما هى فقط إرهاب داخلى أو نتاج لمؤامرات يغذيها 
الخارج. 

نتيجة لقرار البرلمان صعّد الجيش من هجماته الانتقامية تحت مرأى ومسمع من 
الجميع؛ بل إن محجوب أصدر فى يونيو ١170‏ إنذاراً نهائياً للجنوبيين لكى يستسلموا فى 
غضون خمسة عشر يومأ. وعندما لم يستجب الجنوبيون لذلك الإنذار» أطلق محجوب 
العنان لإرهاب فاق إرهاب نظام عبود. قمة ذلك الإرهاب كانت هى المذبحة التى راح 
ضحيتهاء حسبما أعلنت وسائل الإعلام» ألف وأربعمائة مدنى جنوبى فى مدينة جوبا فى 
ليلة واحدة » وستة وسبعون موظفاً حكومياً فى مدينة واو» وكلهم من صفوة الجنوب. بدا 
واضحاً أن الحرية التى منحها محجوب للجيش ليحمى النظام العام فى الجنوب د فرت 
من جانب الجيش بأنها تفويض مطلق (علكن25اط 76د0) له لأن يفعل ما يشاء ويختار. 
وتشير الأحداث إلى أن رأى الجيش قد استقر على أن كل متعلم جنوبى يشكل تهديدا 


218 


محتملاً للحكومة؛ ولهذا فهو مشروع متمرد يجب استئصاله . نتيجة لهذا تعرض نفر كبير 
من متعلمى الجنوب للإبادة('')» كما فكت كل التنظيمات الاجتماعية فى الجنوب بالقوة. 
ولم يكن المتعلمون المسلمون الجدوبيون بمنأى عن هذا المصيرء فعلى سبيل المثال دفعت 
تجاوزات الجيش كلا من عبد الرحمن سولى وأحمد مرجان إلى أحضان المتمردين. هذا 
دليل آخر على صحة استنتاج لجنة قطران بأن لا علاقة للدين بمشكل الجنوب. فى إطار 
حملة الإبادة هذه أغتيل ويليام ديئق نيال (السياسى الجنوبى المعروف وأكبر مؤيدى 
الفيدرالية فى مؤتمر المائدة المستديرة) » ولذلك الحدث أدارت المؤسسة الشمالية الحاكمة 
بأكملها ظهرهاء بل اعتبرته مأساة يمكن تجاوزها بالصمت عنها. ولم تزل ذكرى اغتيال 
دينق تؤرق حليفه البرلمانى الحميم» صادق المهدى.!("') وعلى كلء أتتك بحائن رجلاه» 
إذاما تمض فترة وجيزة» حتى قاد هذا العنف الممعن فى الغلاظة إلى تسميم الموقف 
وإشعال جذوة الصراع. 

من البدهىء إذنء أن لايرى الجنوبيون فى محجوب يومذاك إلا رمز للشر. هذا أمر 
مؤسىء لأن المحجوب بطبعه وتكوينه رجل وديع مسائمء إلا أنه فى إقباله على موضوع 
الجنوب اختار التطبع بغير طبعه. على أن الأمور فى الشمال أيضاً لم تكن تسير على ما 
يرام بالنسبة له فى قاعدة حكمه؛ء فى إطار صراعات السلطة التى ليس لها نهاية فى 
الأحزاب التقليدية. فى الصراع الأخير انتفض الصادق المهدى على عمه إمام الأنصارء 
الهادى المهدىء وبالتالى على محجوب. وكانت إمامة الأنصار قد آلت إلى الإمام الهادى 
عند وفاة الإمام الصديقء والد الصادق. وعندما رأى الصادق أن زعامة الطائفة قد فلتت 
من بين يديه وانتقلت إلى عمهء قرر الاستيلاء على القيادة السياسية لحزب الأمة ومن ثم 
قيادة الحكومة. وكما أسلف الذكرء لم يكن ذلك فى مقدور الصادقء لاعتبارات دستورية 
(عدم بلوغه بعد سن الترشيح للبرلمان) . وفور بلوغ الصادق تلك السنء أقنع حزب الأمة 
واحداً من أنصاره (بشرى حامد ممثل دائرة كوستى الانتخابية) بالتنازل له عن مقعده . 
هذا فى جوهره ازدراء لكل من صاحب المقعد الأصلى وجمهور الناخبين. وهكذا أصبح 
الصادق عضواً فى الجمعية وأدى اليمين الدستورية فى ؟” يونيو,177١‏ ولم يكد شهر واحد 


279 


ينقضى على أدائه اليمين كعضو فى البرلمان حتى ذهب الصادق لتحدى محجوب فى 77" 
يوليو9”75١‏ وإسقاط حكومته إستناداً على الدعم الذى حشده من أتباعه فى داخل الحزب». 
ومن جبهة الميثاق الإسلامىء وجماعة ويليام دينق» ثم يا لسخرية الأقدارء من الأزهرى. 
لم يملك الصادق المهدى الصبر الكافى لانتظار دوره فى رئاسة الوزراء حتى حلول موعد 
الانتخابات التالية» كما لم يتحل بالحد الأدنى من الكياسة تجاه رئيس الوزراء الذى أفنى عمره 
فى خدمة الحزب. من ناحية أخرى؛: كشف الصادقء الذى كان وما فتئ ‏ يتحدث عن نظام 
صحوى إسلامى يهتدى بمواريث المهدية» عن معدنه. لم يستذكر بالأمس ‏ كما لا يستذكر 
اليوم ‏ أن المهدى الذى يسعى لتمدّله لم يجعل من حكمه ملكا عضوصاً يتوارثه الابن عن 
الأب. كما لم يتفكر مليآء وهو الداعية لإحياء الإسلام؛ فى أن خلافة الرسول القرشى آلت إلى 
اثنين (أبى بكر وعمر) ينتميان لأدنى فروع قريش الاثنى عشر. هذا المنهج وحده يجعل من 
صحوة الصادق الإسلامية صحوة هرقلية» لا إسلامية. وعلى أىء ما أن أصبح الصادق عضوآ 
بالبرلمان» حتى قرر أن لا يكون أول دخوله السياسة ٠‏ كبرلمانى حديث عهد يتعلم ممن هم 
أطول باعاً منه فى السياسة» وإنما ليصبح رئيساً فورياً للوزراء. وفى الدول الديموقراطية 
0 العضو الجديد بالبرلمانى الصغير (2098:6551331 7105ئا[) . كما ما كان ليدور بمخيلة 
أى عضو من أعضاء حزب الأمة من مجايلى الصادق أن يطمح لمثل هذا المنصب ‏ مهما 
بلغ من التعليم والفصاحة ‏ دون أن يكون اسمه مقترناً بالاسم الذى له مفعول السحر: المهدى. 
فتطلع الصادق إلى ذلك المنصب الرفيع يعود أولاً وأخيراً إلى اقتران اسمه باسم المهدى, 
وليس بفضل تأهيله الأكاديمى الذى لا ينكر. صحيح أن لمثل هذه الأسماءء حتى فى ظل 
الأنظمة الديموقراطية العلمانية» رنينا يسحر الجماهير. فأسماء مثل غاندى فى الهندء وكيندى 
فى الولايات المتحدة » وتشرشل فى بريطانيا كانت وراء ارتقاء الكذيرين من أبناء هذه الأسر 
إلى قمم السياسة. ولكن فى كل هذه الحالات كان الطامحون للحكم, أو الطامعون فيه» يسعون 
أولاً لإثبات قدراتهم. فأنديرا غاندى؛ مثلأء لم تطمح فى وراثة أبيها عند موته بل ظلت عضواً 
فى البرلمان الهندى أمداً طويلاًء ثم عملت كوزير فى حكومة شاسترى قبل أن تتطلع للرئاسة. 
والطامحون ة فى الحكم من أسرة كيندى لم يقدم واحد منهم على ترشيح نفسه للرئاسة قبل 


200 


سنين من الدربة فى الكونقرس الولائى أو الفيدرالى. ونوقن بأن هذه الأمثال لا تعنى لنا شيئاً 
لأنَا لابثون على الظن بأن السودان بلد لم يدسج على منواله ثوب ولعله كذلك» إذ لا نعرف 
بلداً واحداً على وجه البسيطة لا هم للمتصدرين لشئونه غير حمل المعاول لهدمه. 

رغم تحالفه مع الإمام الهادى ضد الصادق » خرج محجوب من السلطة بعد اقتراح 
برلمانى بسحب الثقة منه فى يوليو فى العام ١19477‏ . ولكن محجوبء لم يترك الحكم دون 
أن يقول فى الصادق ما قال مالك فى الخمر. نعت المحجوب خليفته فى الرئاسة بالشاب 
المغرور عديم الخبرةء وأبدى أسفه على أن الحكم أصبح ملكية عائلية يورثها الأب إلى 
الابن. يدعو للحيرة تعليل الصادق لانقلابه على محجوب بحاجة الحزب والحكومة إلى 
دماء جديدة » وهو نفس التعليل الذى بررت به فى عام 7٠٠١7‏ بعض قيادات حزب الأمة 
(مبارك المهدى وصحبه) حملتها ضد الصادقء وكأنهم يردون الحجر من حيث جاءء أو 
كأنهم يقولون إن كذباً نجى بالأمس فصدقا أخلق اليوم. بيد أن الصادق لا يكاد يذكر بعد 
مضى ثلاثة عفد من الراماة دعاوى التجديد التى أطلقها فى منتصف الستينيات: إذ مازال 
يتشبث حتى اليوم بالسيطرة على الدين والسياسة داخل حزب الأمة وجماعة الأنصارء ويعد 
نفسه للرئاسة لفترة ثالثة » والعودة الثالثة (010128 17150) مطمح لم يذهب إليه عيسى 
عليه السلام. 

تحدى الصادق أيضاً عمه؛ حين سعى إلى فصل الحزب عن الأنصارء أو يمعنى أخر 
الفصل بين ما هو روحى وما هو سياسى . إلا أن الإمام الهادى رفض التزحزح عن موقفه 
فى الجمع بين الاثنين» خاصة وقد سبقه إلى هذا الإمام الصديق (والد صادق) » وإن كان 
لم يتول قيادة الحكومة فى حياته. نتيجة لذلك شن الصادق هجوماً قاسياً على عمهء مما 
دعا العم أن يرى ابن أخيه الكواكب ظهراً . ففى الانتخابات التالية التى جرت أثناء فترة 
العداء المستحكم داخل العائلة » منى الصادق بهزيمة مهينة فى الدائرة الانتخابية التى تضم 
الجزيرة أباء معقل المهدية. وإن كنت تظن أن الصادق قد وعى الدرس بعد تلك الهزيمة 
فأنت مخطئ. على النقيضء اندفع الصادقء بعد أن تفرقت إيله على كل وجه؛ إلى تكوين 
ائتلاف أطلق عليه اسم تجمع القوى الجديدة ضمء بجانب الموالين له فى حزب الأمة» 


251 


أنصار الترابى» وحزب سانو. والغريق» كما يقولون» يتعلق بحبال الهواء. مع ذلك لم تدم 
طويلاً الثورة غير الناضجة التى أججها الصادق ضد عمه: إذ عاد المحجوب إلى الحكم بعد 
تسعة أشهر من إخراجه منه؛ ومن ثم لم يبق للصادق إلا أن يصبح زعيما لتجمع القوى 
الجديدة من خارج البرلمان. وأصبح الواجب الأول والأخير لذلك التجمع تخذيل الحكومة 
وإحباط جميع مجهوداتهاء خاصة فى سن القوانين. 

من الناحية الإيجابية بالنسبة للصادقء لاقت الشعارات التى رفعها مثل الفصل بين 
الدين والسياسة» وتمييز المقدس عن الدنيوى» هوى فى نفوس الشباب حتى أن العديد منهم 
لقبوا الصادق بأمل الأمة. من هؤلاء من لم يكن ينتمى إلى طائفة الأنصار إلا أنهم رأوا فى 
تحديات الصادق الجريكئة للمؤسسة الطائفية دلالات تشير إلى نبذ كل ما هو سلبى فى 
ماضى السودان السياسى » واستشراف واع لمستقبل مشرق . رأى الشباب فى الصادق» 
أيضاًء واحداً منهم أهلته ظروف خاصة لم تتوفر لأى منهم لكيما يتبنى قضايا المستقبل. ولو 
أقلح فى تحقيق جزء مما كانت الناشئة من أبناء جيله يتمنون من الله أن يفعل» لما حملنا 
على أن نقول ما قلناه عن الظروف التى جاءت به للحكمء وقد بلغ الثلاثين بالكاد. ففى سن 
الثالثة والثلاثين» مثلاًء قاد توماس جفرسون مع صحبه الثورة الأمريكية؛ وصاغ بمفرده 
إعلان الاستقلال فى عام 1775 . لكن مشكلة الصادق؛ كما أثبتت الأحداث؛ تكمن فى أن 
ماضيه هوالذى ظل يحدد حاضره. تلك كانت دوماً نقطة ضعفه التى لم يلق بال 
لإدراكهاء ناهيك عن الاعتراف بها . من تلك النقطة بدأ الصادق ينحدر فى عمود السياسة 
الزلق» ولا غرو إن أحزن أداؤه كل الذين عقدوا عليه الآمال من خارج طائفة الأنصارء كما 
كانت مواقفه اختباراً لجوهر معتقداته المعلنة بين أنصاره . 

فترة حكم صادق الأولى كانت مخيبة للآمال. ففى أول خطاب له أمام البرلمان هيج 
الصادق مشاعر السودانيين غير المسلمين » كما أثار مخاوف الجنوبيين. ففى حديثه عن 
هوية السودان الشقافية قال رئيس الوزراء الجديد أن الطابع المميز لأمتنا هوالطابع 
الإسلامىء والسمة العربية هى السمة الغالبة عليه. ولن تتحدد هوية السودان الثقافية وتعزز 
هيبته وكرامته إلا فى ظل نهضة إسلامية.(') وعندما تجىء هذه الكلمات من رجل كان 


252 


يدعو إلى فصل ما هو روحى عما هو دنيوى» بل من رجل اختلف مع عمه فى الجمع بين 
الأثلين ولم يجفل عن وصف هيمنة إمام الأنصار على الدين والسياسة بالبابوية» يعسر على 
المرء فهم ما يريد. فجميع قواميس السياسة » وسير الدول والملوك؛ لا تعين كثيراً على فك 
شفرة مقاصد رجل يقول الشىء بلسان؛ وضده بنفس اللسان. دون أدنى شكء لم يعبأ 
الصادق المهدى بالجوانب الأخرى فى الهوية الثقافية للسودان» كما كان؛ فيما يبدوء أقل 
اكتراثا لأثر نظرته لتلك الهوية على الصراع الدائر فى بلاده. ذلك التصريح لم يكن مجرد 
ملاحظة عابرة صدرت عن قائد متحمس ذى أصل دينىء ولكنها عكست أيضآ توجهآ 
عاماً بين أنصار الصادق. فعلى سبيل المثال» أكدت الصحيفة اليومية الناطقة بلسان 
جماعة الأنصار هذا الانطباع فى إحدى افتتاحياتها عندما ذكرت أن إحياء الثقافة العربية 
الإسلامية فى الجنوب لا يعنى استعماراً عربيأء وإنما هو إسهام ثقافى يمثل الطريق الطبيعى 
لنقل الجنوبيين إلى الحضارة.(؟') وبغض النظر عن مصداقية كلمة "إحياءء فإن هذا الزعم 
قد لخص رؤية شائعة فى أوساط المفكرين الشماليين بأنهم يعرفون ما ينفع أهل مكة أكثر 
ممن هم أدرى بشعابها . ولريما كان أصحاب هذه الرؤية قوماً حسنى النية فى إعتقادهم 
بنفعية الحضارة العربية للجنوبيين» ولكن الذى يجعل ذلك الإعتقاد محل شبهة هو 
إصطحاب هذه النوايا الحسنة لسياسات تقوم على الهيمنة وزرع الفتن والشقاق بين 
الجنوبيين. زاد من شكوك الجنوبيين فى الصادقء تواتر تصريحاته حول الأسلمة والتعريب» 
وإيحاءاته المتكررة عن ضغوط أفريقية ومسيحية للحيلولة دون تطبيقهما. ففى أعقاب بيان 
رئيس الوزراء فى البرلمان » نقلت عنه صحيفة يومية تصدر فى الخرطوم باللغة الإنجليزية 
أن ثمة مؤامرة أفريقية تدور لتجريد السودان من هويته العربية.(١)‏ 

قلنا إن النوايا الحسنة لنشر العربية فى الجنوب شابتها الشبهات لأنها ارتبطت بتلقيح 
الفتن بين الجنوبيين» ومثال ذلك كتاب للصادق بعنوان التوقعات المستقبلية للعروية 
والإسلام فى السودان الذى أقصح فيه عن خطته لتغيير الخريطة الثقافية فى الجنوب بعدة 
وسائل من بينهما استغلال الخلافات (التأكيد من الكاتب) الناشبة بين القادة الجنوبيين» 
خاصة أولئك المنحدرين من قبائل رعوية» وكذلك عبر إرسال علماء مسلمين وتجار من 


263 


الشمال إلى الجنوب بشكل ودى.("') فالذى كان يدور فى ذهن رئيس الوزراءء إذن » لم 
يكن هو تسهيل عملية التمازج الطبيعى الذى كان سائداً منذ مملكة سنارء وإنما هو محاولة 
لهندسة اجتماعية ( وذلك تعبير ورد كثيراً فى مقالات المهدى ) تستخدم فيها كل الوسائل 
بما فى ذلك بث الفتن بين الجنوبيين . وسواء كان موقف الصادق نابعاً عن إيمان حقيقى 
بمزايا أسلمة الجنوب» أو رغبة فى إرضاء أهواء حلفائه الإسلامويين الجدد (الإخوان 
المسلمين) » فإن استعداء الأفارقة بل الزج بهم فى معركة لا ناقة لهم ولا جمل فيها أمرلا 
يخلو من الرعونة السياسية» خاصة عندما يجىء من رئيس الوزراء الذى يترجى منه الناس 
رعاية علاقات حسن الجوار. خلت من الحكمة أيضاً دعوة رئيس الوزراء لقسر جماعات 
كبيرة من المواطنين على دين واحدء وبأسلوب لا يخلو من الالتواءء فى بلد متعدد الأديان. 
وكما سنرى لاحقاً فإن الصادق ظل ثابتاً على مسلماته الدينية» وإن اختلف الأسلوب الذى 
عبر به عن تلك المسلمات. 

فترة بزوغ الصادق المهدى كزعيم سياسى فى منتصف الستينيات شهدت حدثين 
هامين؛ الأول هو انحرافه عن منهج حزب الأمة بزعامة أبيه (الصديق المهدى) » وجده 
(عبد الرحمن المهدى)ء والثانى هو ظنه بأنه ليس فقط وريثاً سياسياً لأبيه وجدهء وإنما هو 
تيد جديد للومام المهدى . . وفى الحالة الأوا لى أدرك القائدان» عبد الرحمن وصديق 
المهدىء عمق الخلافات الملّيئّة فى السودان» ولهذا تجنبا إطلاق النداءات ل أسلمة السياسة, 
وتركا إدارة الدولة لسياسيين دنيويين لا تعنيهم فى كثير أو قليل ديانات الآخرين؛ بل إن 
بعضاً منهم لم يكن من أتباع طائفة الأنصار أو حتى من المعروفين بالورع. منهم أيضأ من 
كانت له مواقف مشهودة صّد حملات أسلمة الدستور. وبتقمصه شخصية المهدى كاد 
الصادق أن يوحى بأنه أكثر قدرة من سلفيه على تسخير الواقع الأنصارى المحيط به 
واستخدامه لأهدافه السياسية. فى هذا غرور وتجاهل للواقع يكشف عنه أن الصادق منذ أن 
بلغ الثلاثين وتحدى المحجوب مازال عاجزاً حتى اليوم عن فك الاشتباك فى داخله بين 
أكسفورد والجزيرة أبا. هذا اشتباك ممزق لم يعان منهم سلفاه العظيمان. 

شرح الصادق آراءه حول دور المهدية فى الصحوة الإسلامية التى يدعو لها فى كتاب 
صدر فى عام ,77155) نقطة الضعف الأساسية فى ذلك الكتاب كانت هى لجوء الكاتب 


284 


لانتقاء الأحداث؛ أو إعادة سبكهاء إما لتبرير حدث قديم» أو افتعال تأييد لموقف سياسى أو 
رؤية فكرية جديدة . هذا المنهج الانتقائى يدحض دعوى الصادق فى كتابه أنه أحتفل 
بالأمر بوصفه مؤرخاً سياسيا . ففى البدء» ذكر الصادق أن أى تغيير اجتماعى سياسى فى 
السودان يجب أن يأخذ فى الاعتبار تقاليد البلد وخلفيتها التاريخية» وهذا أمرلا يختلف 
عليه اثنان أو ينكره أحد. الإشكال يقع عندما يوحى الصادق بأن خلفية السودان التاريخية 
قاصرة فقط على المهدية» ويسقط من ذاكرته تاريخ كل الممالك الإسلامية فى الشمال؛ كما 
يغفل جوانب فى تاريخ المهدية أدت إلى نفور جماعات كبيرة عنها فى الشمال؛ وإلى كره 
غالبية أهل الجنوب لها. إلى جانب ذلك تضمن الكتاب إفادتين ألقيتا ضوءاً كاشفاً على 
تفكير الكاتب وغاياته . الإفادة الأولى هى أن الظروف المحيطة تشير إلى أن السودان يجب 
أن يشهد نهضة إسلامية مبنية على المهدية(*') لأن المهدية» كما قال» رسمت الطريق 
للنهضة الإسلامية فى زمنها وفى المستقبل. وقد أتينا فى الفصل الأول على تجارب الدولة 
المهدية فى الداخل والخارج» ولا ندرى ما الذى يعين فى تلك التجارب على نهضة 
مستقبلية؟ ونذّكر القارئ أن الصادق كان يدلى برأيه هذا فى الذلث الأخير من القرن 
العشرين. الإفادة الثانية هى أن هذه النهضة لن تقوم إلا على أكتاف قادة ملهمين» وهؤلاء 
العمالقة» على حد قول الكاتب» لابد لهم من دعم شعبى متين» وسمات مميزة متل الإدراك 
الكامل لمنطق زمانهمء والقدرة على التواصل مع الآخرين باللغة التى يفهمها الآخرون, 
والملكة على بت التنويز الفصرى . إضافة إلى هذاء يقول الصادق: يتبغى أن يدرك هؤلاء 
القادة قدراتهم الإلهامية. 

لم يقف ترويج الصادق لفكرة القيادة الملهمة عند ذلك الكتاب» بل عاد إليها فيما بعد فى 
خطاب عن أيديولوجية المهدية وتأثيرها على النهضة السياسية فى السودان ألقاه فى حلقة 
نقاش أكاديمية نظمتها جامعة الخرطوم فى العام ١10‏ لإحياء مئوية المهدى.('') قال 
الصادق: المهدية كانت أنجح المشروعات فى إحياء أمجاد صدر الإسلام وحققت طموحات 
المسلمين وتحدت الهيمنة الأوروبية» كما أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك فعالية القوة الشعبية 
عندما تكون مسلحة بالإيمان وخاضعة لقيادة مُكهّمة (التأكيد من الكاتب) .بهذه التعريفات لا 


265 


يترك الصادق المهدى مجالاً لشك معقول فى أنه يضع توصيفاً لوظيفة («منام مدعل 0) 
لا تنطبق على أحد غيره . بالطبعء لا يشك أحد فى صفات المهدى الكبير الملهمة والملهمة» 
ولكن الذى لا يدركه» أولا يريد الصادق إدراكه هوأن ذلك القائد الملهم قد أجحفت به أيضاً 
أمجاده . ولئن كان هذا هو الحال فى القرن التاسع عشر لا يصبح إحياء تلك الأمجاد اليوم فى 
هذا العصر أمرأ مستحيلاً فقطء بل يصبح مجرد التفكير فى إحيائها نوعاً من الخبول؛ فى بلد 
يدين كل سكان جنوبه تقريبا بديانة غير ديانة الصادق» كما لا يشارك عدد كبير من مسلمى 
شماله الصادق فى تمجيده للمهدية . هذا أمرلا يغيب على فطنة الصادقء المفكر العصرى؛ 
وإن غاب عن بال الصادق الملهم؛ لأن الملهمين لا يرون فى الشعوب إلا بيادق شطرنج 
يحركونها أَنّى شاءوا وكيف شاءوا. وغنى عن البيان أن التواضع ليس من شيم القادة الملهمين 
من السماء. ربما يكون الصادق صادقاً فى اعتقاده أن فى مقدوره استنساخ المهدية وإشعال 
جذوتها فى القرن الحادى والعشرين؛ ولكن إن صم هذا الاعتقادء فلا شك فى أن الصادق 
يكشف للناس عن مقتله كزعيم وطنىء لا كقائد لفصيل واحد فى الوطن. ولوأن الصادق 
استخدم هذه اللغة لحشد دعم الأنصار لحزيه» لكان من الممكن التغاضى عن مقولاته تلك 
باعتبارها وسيلة نجوعا لحشد الجماهيرء ولكن أن يسعى لإحياء نموذج مهدوى للحكم فى 
سودان القرن الحادى والعشرين» فهذا هو فساد العقل بعينه . 

يزيد من المخاوف أن هذا الرجل الذى عقد عليه الكذيرون الأمال لصفاته ومزاياه 
الدنيوية» بدأت تعتريه الوساوسء وأخذ يتوهم بأنه من الأصفياء الذين يو قع الله الأشياء فى 
قلوبهم؛ وتسبق وصولهم إلى الدنيا البشارات. فعلى سبيل المثال» قال لجريدة الوسط/'") أن 
ميلاده يوم الخميس سبقته إشارات غيبية غامضة مثل حديث عمه يحيى بأن مهاجر 
سيأتى يوم الخميس. روى الصادق أيضأ لنفس المجلة قصة طائر القمرية التى استقرت فوق 
عمامة جده عند ميلاده فقال الجدٌ هذا نباً. وخلال حديثه مع ضيف زائر أبلغ جده الضيف 
بنبأ المولودء فسأله الضيف: من ستسميه؟ قال الجد "إبراهيم. فقال الضيف: لم لا تسمه 
باسمك؟ » وكان اسم الجدء كما هو معروفء عبد الرحمن الصادق. البشارات لم تنته 
ذلك؛ بل أضاف إليها الصادق فى حديثه للمجلة رؤيا جدته» أم سلمى بنت المهدىء للحفيد 


2856 


وهو يقف على رأس مئذنة يقول «وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر» 
وغددما تجدمع البشارات مع الإلهام ومع دعاو الإحياءء يدق لقنا أن يمسكوا أنفاسهم: 

لهذا يشك المرء كثيراً فيما إذا كان الصادق يعرف إلى أين هو ذاهب ويريد أن يأخذ 
البلاد معه . فكثيراً ما يقفز دون أن يتفكر فى أين سيقع؛ حتى أضحىء بأفكاره المختبطة» 
ووساوسه الغريبة على رجل عصرىء مثل رجل غرز رجلا واحدة فى القرن التاسع عشرء 
فى حين ظلت رجله الأخرى معلقة فى الهواء. ولربما كان هذا هو السبب فى احتشاد أقواله 
وأفعاله اكات لقد بدأ إخفاق الصادق فى داخل أسرته بالدعوة إلى فصل حزب 
الأمة عن جذوره فى طائفة الأنصارء علماً بأن الجمع بين الدين والسياسة هوالأساس 
الراكز للنظام المهدوى الذى أراد أن يتقمصه. ثم عرج الصادقء رئيس الوزراءء عائداً إلى 
ما أنكر على عمه مدعي بأن الدين والسياسة فى الإسلام لا ينفصلان.!'') وبلغ الصادق 
قمة تناقضه حينما أعلن فى إحدى خطبه فى البرلمان أنه ينتمى إلى اليسار سياسياً وإلى 
اليمين الإسلامى أيديولوجياًء وبهذا استبدع شعاراً على غير مثال» وهو مغتبط فارح بما 
استحدث؛ إن الله لا يحب الفرحين. كيف يمكن لهذه التناقضات أن تتعايش فى جوف 
رجل واحد ذو أن تدمره ؟. 


نعود إلى الانقسام المستوطن بين الأحزاب وعجزها الفطرى عن العمل معاء ولو لفترة 
معقولة من الزمن. فإزاء سعى الصادق المتواتر لتخذيل حكومة محجوب أمر الأزهرى. 
بالتواطؤ مع محجوب. بحل البرلمان» بموجب السلطات التى منحها له الدستور. ذلك القرار 
لم يرض الصادق فانتقل؛ بطريقة هزلية بأعمال البرلمان إلى ظل شجرة خارج مبناه الذى 
أوصدت أبوابه عليه وعلى صحبه. كما أقام قضية فى المحكمة العليا يطالب فيها باستصدار 
أمر قضائى يلغى قرار الأزهرى ؛ الذى اعتبرته مجموعة الصادق خرقاً للدستور. وبجانب 
لجوئه المبرر والمشروع للقضاءء اجترح الصادق عملا يقارب التحريض على الفتنة عندما 
كتب إلى اللواء الخواض ٠‏ قائد الجيش . يعترض فيه على انتهاك الأزهرى للدستور. تلك 
الخطوة أضرت كثيراً بمصداقية الصادق كرجل ديموقراطى يحترم سيادة حكم القانون» 
ويرفض تدخل الجيش فى السياسة . فالطريقة الوحيدة التى كان اللواء الخواض يملك أن 


2217 


يحمى بها الدستور هى القيام بانقلاب عسكرى ضد حكومة منتخبة انتخاباً شرعياً. فى تلك 
المعركة انتصر محجوب على غريمه: إذ أجريت الانتخابات فى أبريل عام ١174‏ ومنى 
فيها الصادق بهزيمة ساحقة؛ وكان لجماعة الهادى فى حزب الأمة»ء والحزب الاتحادى 
الديموقراطى الغلبة فى تلك الانتخابات . عاد محجوب إلى السلطة مرة أخرى إلا أنه لم 
يقدُر له المكوث فيها طويلاً حيث إن الجيش استولى على الحكم فى مايو من العام التالى. 
ترى كم من الوقت كان متوفراً لهذه الحكومات المنهمكة فى صراعاتها لكيما تلتفت إلى 
قضايا الأمة» وغايات الحكم الحقيقية. 

ميلاد الدستور الإسلامي 

حينما طرح دستور السودان للمناقشة لأول مرةء عارضت الأحزاب الطائفية المقترحات 
التى تقدمت بها الجماعات الإسلامية لكيما يصبح الدستور وثيقة دينية . وكان البرلمان قد 
أقر تكوين جمعية تأسيسية من مجلسيه لوضع الدستورء عقدت أول اجتماع لها فى 77 مايو 
للتدارس فى المشروع الذى تقدمت به اللجنة التى أنيط بها وضع مسودته.("") ومن 
بين المقترحات التى تسلمتها الجمعية مقترح من القوى الإسلامية بزعامة الإخوان 0 
تدعو فيه إلى تبنى دستور إسلامى للحكم. جاء فى ذلك المقترح أن بلدا كالسودان» حيث 
الهيكل الاجتماعى قائم على العادات العربية والسنن الإسلامية» وحيث إن غالبية أهله من 
المسلمين» فمن الواجب أن تستقى المبادئٌ العامة للدستور من الإسلام. أضاف الإخوان فى 
مقترحهم أن القوانين التى تحكم البلاد ينبغى تن فقا لمبادئ الإسلام الأساسية 
وأوامره؛ كما زعمت أن الإسلام دين ودولة» ولا يمكن ممارسته كاملا إلا فى ظل دستور 
إسلامى . قدم الإخوان مقترحهم هذا فى فترة أخذوا فيها يلجون المساجد للتبشير بدعاواهم 
الكبرى» كما يدعون إلى طهرانية» مهما قلنا عن نبل دوافعهاء إلا أنها لم تكن تعبر عن 
رغائب الشعب المسلم كما زعموا. من ذلك تأليب جموع المصلين فى المساجد على المطالبة 
بإغلاق الحانات فى العاصمة. 

وقبل أن نأتى» فى هذا الفصل؛ وبصورة أوفى فى الفصل السابعء إلى الفساد المنهجى 
فى أطروحات الإخوان حول الدين والدولة» نتوقف قليلاً عندما هوأدنى: الحملات 


2058 


الطهرانية التى قادوها فى ستينيات القرن الماضىء وما ابتغوا منها إلا التزيد على الزعامات 
الديدية» والابتزاز لخصومهم المنسوبين للعلمانية» وكأن العلمانية هى اللهو والقصف 
والافتتان بالشراب. فمن مخادعة النفس ادعاء الإخوان أن جميع المشروعات الاجتماعية 
الإصلاحية التى اندفعوا فيها بلا رفق» كانت تعبر عن رغائب الشعب المسلم فى السودان. 
تلك الطهرانية كانت» فى حقيقتهاء مبادرات نخبوية المنشأ ابتدعتها نخب متأسلمة تبحث 
لنفسها عن معنى فى المجال السياسى. فحتى ذلك الوقت الذى شن فيه الإخوان حملاتهم 
على حانات الخمر (والخمر منكر بلا شك) لم نرولم نسمع حملة باسم الإسلام انبعت من 
القاعدة الاسلامية (أى من بسطاء المسلمين) لإزالة ذلك الخبث. لم نسمع ولم نرحملة 
يقودها العالمان الشيخ هاشم أبو القاسم بين عامى ١10١‏ إلى ١1150‏ أو من بعده الشيخ 
محمد المبارك عبدالله بين عامى ١155‏ إلى »١31757‏ ويجندان لها طلاب المعهد العلمى 
الذى كانوا يديرونه ليقتحموا الحانات التى كانت تحيط بالمعهد. لم نسمع ولم نرقاضى 
قضاة السودان» الشيخ أحمد السيد الفيل فى شمال الموردة» أوالشيخ عبد الرحمن عبد الرحيم 
فى جنوبها يقودان مظاهرة لإزالة "الرجس الذى كان يتوسط المنطقة بدءاً ببار حليم القبطى 
السودانىء وانتهاء ببار أرونت الأرمنى. لم نرولم نسمع السيد عبد الرحمن المهدى أو الشيخ 
قريب الله فى شمال المدينة يقودان الأنصار والأتباع لإزالة الأنادى (حانات شرب الخمور 
البلدية) التى تجاور مسجديهما فى ودنوباوى. ومثال هؤلاء كثر عبر السودان العريض. 
هؤلاء الشيوخ السمحون كانوا على اقتناع تام بأن ما يقومون به من إنارة للوعى الدينى 
كفيل بأن يلجم المرء فى النهاية عن الموبقات والمنكرات. كانوا يرخصون لمن أغواهم 
الشيطان وأرهقتهم عزائم الدين بتلمس الذرائع فى نقيبتهم. وتحضرناء بهذه المناسبةء قصة 
لعمنا العالم الشيخ خليل محمد عبد الماجدء وهو رجل نتيمن بسيرته» ونسأل الله أن يمنحنا 
القدرة على اقتفاء مسيرته. جاءه ذات يوم فتى دامع العينين يقول لقد طلق أبى والدتى 
طلاقاً لا رجعة فيه . سأله الشيخ عن السببء فقال الفتى وذمعه يهطل أنا أشرب وقد أنذرنى 
والدى بطلاق أمى إن لم أكف عن الشرب ولم أفعل. بعث الشيخ بأحد أتباعه ليحضر الأب» 
مبقياً الابن معهء وعندما وفد الأب قال له الشيخ» وكان مكيثا (متأنياً) فى فتاواه» طلقتك ما 
واقعة لأنها جاءت فى لحظة غضب ولذنب لم تجنه الأم. ثم إن ابنك هذاء رغم تعاطيه ما 


289 


حرم الله» فتى مأمون النقيبة» وليس أدل على ذلك من إشفاقه على سلامة أسرته؛ وعلى 
مصير أمه . وسأسأل الله أن يهديه إلى ما فيه خيره وخير أهله. ومنذ ذلك اليوم بقى الفتى 
حواراً مجاوراً للشيخ . هذا هو إسلام فقهاء السودان» يتقصون الخير فى النفوس ولا يتسقطون 
اللمم (صغار الذنوب)» وأدنى للخير معاقر الخمر من الذى يكذب ثم يكذبء ثم يكذب. ولا 

ترتاح نفسه إلا للاغتيال المعنوى والإيذاء الجسدى للآخرين. هؤلاء هم الذين أغواهم 
الشيطان» واستقرت غوايته. تلك أمثال نضريهاء لا رغبة منا فى إدانة ما قام به الإخوان 
يومذاكء إذ لا يعنينا فى كشير أو قليل أن دكت الحانات دكا على رؤوس من بناها وأقام 
عليهاء وإنما لنثبت بطلان الادعاء بأن ممارسات تلك الجماعة النخبوية كانت تعبيراً عن 
رغائب المسلمين من أهل السودان. 

النهج الذى تبناه الإسلامويون فى تلك الفترة لأسلمة السياسة» وفقاً لسوابق موروثة من 
الفقه القديم» خالطه نفاق أضر بالإسلام» و لم يفد منه التجديد مثقال ذرة . 

فأولاً : ادعاء الإسلامويين يومذاك ‏ وحتى اليوم ‏ أن الإسلام والشريعة مرادفان لكلمة 
واحدةء ما هو إلا محاولة منهم لفرض منطق مقلوب. فالشريعة التى يتحدثون عنها ‏ 
وسنزيد الأمر إيضاحاً فى الفصل السابع ‏ تمثل مجموعة أحكام فى الفقه والتشريع تطورت 
عبر السنين على يد الفقهاء المسلمين لتلبية احتياجات أزمنتهم. ومع تبدل الأزمنة» وبروز 
اهتمامات اجتماعية جديدة وضوابط معيارية مستحدثة» أصبح لزاماً على المسلمين صياغة 
شريعة جديدة قائمة على أصول الإسلام للتجاوب مع الظروف التى استجدت. 

ثانياً: أن الشريعة لم تطبق فى السودان من قبل إلا أثناء فترة المهدية» وهى فترة فريدة 
فى تاريخ البلاد ولا تتطابق بحال مع تقاليد الممالك الإسلامية السالفة فى السودان . ولا 
الأنظمة التى تبعتها. فمنذ الحقبة التركية حينما كانت البلاد تحكم باسم الخلافة الإسلامية» 
ومروراً بالحكم الاستعمارى وحقبة ما بعد الاستقلالء لم تكن الشريعة مصدراً للتشريع إلا 
فيما يتعلق بالأحوال الشخصية للمسلمين. بل إن القانون الذى كان سائداً يومذاكء ترك حيزاً 
واسعاً للمسلمين لتطبيق الشريعة عليهم» وكما سنبين فى الفصل السابعء لم يلجأ مسلم واحد 
على مدى قرن كامل من الزمان لاستغلال ذلك الحيز. ومن المؤكد أن واضعى السياسات 


290 


فى كل الحقب التاريخية التى أعقبت المهدية قد توصلوا إلى أن الشريعة» كما تطورت فى 
الفقه الإسلامى وتم تطبيقها على مدى الحقب التاريخية» لايمكن بأى حال من الأحوال أن 
تكون أساساً لوضع التشريعات لدولة حديثة. وللمجتهد القانونى» عبدالله النعيم؛ رأى صائب 
فى هذا المجال.(2”) 

ثالثاً: ليبى صحيحاً أن القوانين السودانية التى ظلت سائدة فى السودان طوال الفترة 
الاستعمارية» واستمر العمل بها بعد الاستقلال مع تطويرها على يد القضاة السودانيين» 
كانت تتعارض مع الدين والأعراف والمواريث إلا فيما يتعلق بتطبيق الحدود. تلك القوانين 
نضعها فى ثلاثة مقامات : القوانين الجنائية» قوانين الأحوال الشخصيةء قوانين تنظيم 
الحقوق المدنية ومؤسسات الدولة الحديثة. فالأونى استمدت من قانون العقوبات الهتدى 
الذى صاغه اللورد ماكولى فى الفترة ما بين »21878-١456‏ وأجيز فى عام 187١‏ . وقد 
استهدى ماكولى فى صياغته لذلك القانون ببعض مفهومات الشريعة الإسلامية التى سرت 
فى الهند منذ عهد الإمبراطورية المغولية. ولعل الأمر الوحيد الذى لم يشمله قانون العقوبات 
الهندى من الأحكام الإسلامية هو الحدود ( حد القطع فى السرقة ‏ والرجم فى الزنى) . أما 
قانون الأحوال الشخصية فقد ظل مستمداً كله من أحكام الإسلام » فى حين اعتمد المشرع 
والقضاة على تجارب الأمم المعاصرة فى صوع وتطبيق القوانين المدنية» وتلك التى تنظم 
مؤسسات الدولة الحديثة . وحتى فى هذه الحالة» أبدع القضاة السودانيون فى تطويع القانون 
لاستيعاب الكثير من الأعراف المحلية» خاصة فى قوانين الأراضى. 

بالرغم من كل هذاء مضى الإخوان المسلمون قدماأً فى مخططاتهم لوضع دستور ونظام 
قانونى قائم على الشريعة» وقدمت آراؤهم إلى الجمعية التأسيسية الأولى المكلفة بوضع 
دستور دائم للبلاد "آخذة بعين الاععتبار المطالب المُشرعة للجنوب حول الفيدريشن . 
مقترحات الإخوان عرضها على الجمعية القانونية ميرغنى النصرى إلا أنها استبعدت من 
قبل الجمعية حيث صوت أعضاؤها ضدها مرتين. حدث ذلك بالرغم من تلويح الإخوان 
بالتأييد الذى تلقوه من الزعيمين الدينيين» المهدى والميرغنى بالإضافة إلى تاييد قفاضى 
القضاة.(؟") وبخلاف الحزب الوطنى الاتحادى (حزب الأزهرى) » صوت الحزيان اللذان 


201 


تدعمهما الطائفتان الدينيتان الرئيسيتان ) حزب الشعب الديموقراطى وحزب الأمة) ضد 
اقتراح الإخوان رغم دعم السيدين للاقتراح. وكان للشيخ على عبد الرحمن رأى طريف 
حول الدستور الإسلامىء قال لدعاته إن الذى جاءوا به بدعة لأن كلمة دستور نفسها ليست 
إسلامية أو عربية» بل هى كلمة فارسية. وكان الشيخ محقآ لأن كلمة دستور عند الفرس 
تعنى الدفتر الذى يحتوى على أسماء الجند ورواتبهم» وقد استقر رأى المجمع اللغوى على 
اتخاذها لنعت القانون الذى يبين قواعد الحكم ونظمه. 
أياً كان الحال» أصابت الجمعية عندما قالت أن الناس قد يختلقون فى معتقداتهم الدينية؛ 
ولكنهم يتفقون على أمور أخرىء: وأن السودان يتألف من أهل معتقدات وأديان مختلفة » 
الأمرالذى يتطلب البحث عن هود ية أوسع ينتمى لها المواطنون بدلا من الانتماء لديانة 
معينة. كما ذكرت أن مبدأ المساواة أمام القانون يحتم عدم إقامة الدولة على أساس 
دينى.(*") تلك المساواة تفترض» ضرورة» حق غير المسلمين فى الطموح لتولى رئاسة 
الدولة» وهذا أمر عسير التحقيق فى ظل الدولة الإسلامية بمفهوم دعاتها يومذاك. جاء أيضاً 
فى التقرير حول الدستور المقترح أن جميع الحضارات ساهمت بنصيب وافرفى صوغ 
الأفكار التى قامت عليها الأنظمة الديموقراطية» ولهذا ليس من الضرورى بالنسبة للسودان 
أن يرجع إلى الإسلام لتعريف الديموقراطية. وأخيرأ » قالت أن ثمة مخاوف قد تنتاب 
الجنوبيين نتيجة لإصدار دستور قائم على أساس دينى: فالدين لله والوطن للجميع .(1") 
وراء هذه الآراء الجريئة كان رجلان: محمد صالح الشنقيطى وأحمد خير. عمل 
الشنقيطى قاضياً شرعياً وكان من أكثر أهل زمانه إلماماً بتعقيدات الموقف فى الجنوب منذ 
أيام مؤتمر جويا » لذلك ملك الجرأة والثقة بالنفس ليقول لبابكر كرار أن الدعوة للدستور 
الإسلامى عمل ديماغوجى . أما أحمد خير فقد رفض رفصا باتاً رسالة التأييد للدستور 
الإسلامى المنسوبة إلى الزعيمين الطائفيين قائلاً أن السيدين ليسا عضوين فى لجنة 
الدستورء ولا ينبغى أن تتأثر اللجنة بأية ضغوط خارجية.("') الرجال من معدن الشنقيطى 
وأحمد خير قدموا نموذجاً كان يمكن أن يتمثله الزعماء الجددء خاصة رواد التحديث من 
بينهم . ولكن ما حيلتنا إن آثر هؤلاء القيادة من الخلف. 


202 


توحد القوى التقليدية فى الجمعية التأسيسية ضد ما كان يسمى بالدستور الإسلامى 
صاحبهء كما ذكرناء امر غريب: تاييد المشروع الإسلامى من جانب الحزب الوطنى 
الاتحادىء رائد العلمانية بين الأحزاب الكبرى. ونعيد للذاكرة أن ذلك الحزب كان أول من 
نادى بمصرع القداسة على أعتاب السياسة؛ لهذا لا يفهم المرء من موقفه فى لجنة الدستور 
إلا شيئا واحداً هو أن المبادئ شعارات ترفع عند الضرورةء وحيل لانتهاب الغايات. ما 
أعجبه أمر السودان؛ أن يدافع عن الدستور الإسلامى مبارك زروقء ويتاهضه القاضيان 
الشرعيان محمد صالح الشنقيطى وعلى عبد الرحمن. ومن المحزن أن استغلال الشعارات 
لانتهاب الغايات أصبح مشهداً مألوفآً على مسرح العبث السياسى السودانى . موقف الحزب 
الوطنى الاتحادى فى قضية الدستور الإسلامى لم يكن ذا علاقة بالدين» أو بصلاح الحكم» 
أو بالاستقرار السياسىء أو حتى بوحدة البلادء وكلما إبتغاه ذلك الحزب» باتخاذ ذلك الموقف 
الانتهازى فى تأييد مشروع الإخوان المسلمين» كان هو تسجيل نقطة ضد خصومه 
السياسيين» حتى ولو كان ذلك على حساب مبادئ طالما بشربها ودافع عنها بصلابة فى 
الخمسينيات. 


بعد فشل الجمعية التأسيسية الأولى فى التوصل إلى دستور دائم للسودان» أوكلت مهمة 
وضع الدستور للجمعية التأسيسية التى قامت فى عام ١75‏ بعد سقوط نظام عبودء وكان 
للصادق المهدى وحسن الترابى دور هام فى تلك الجمعية. كلاهما كان يعتقد أن المهمة 
الأولى للحاكمين هى أسلمة الدستورء وثمة أكثر من دليل على أن موقف الرجلين لم يكن 
موقفاً أيديولوجياً فحسبء بل كانت وراءه أيضاً أهداف سياسية. على رأس هذه الأهداف 
القضاء على التيار اليسارى؛ وبخاصة الشيوعيين بسبب نشاطهم المتزايد داخل نقابات 
العمال والمهنيين. ولم يخف الإخوان المسلمون أن هدفهم الأكبر يومذاك كان هو القضاء 
على الشيوعيين.!*') وبما أن موطن ضعف الشيوعية فى السودان هو إلحادها المفترض» 
فقد وجه إليه السيف مباشرة. ففى الرابع والعشرين من نوفمبر 1175 تم طرد الأعضاء 
الشيوعيين من البرلمان بموجب مشروع قرار تقدمت به حكومة المحجوب وآزره الأزهرى. 
بل كان الأزهرى أكثر تشدداً من المحجوب فى تأييده . كانت اللهفة لإصدار القرار بالغةء إذ 


203 


قَدَم رئيس الوزراء مشروع القرار كأمر عاجل استلزم تعطيل المادة 8(75)من اللوائح 
الداخلية» التى تفرض اتباع إجراءات محددة عند تقديم القوانين. ثنّى ذلك الاقتراح السادة 
محمد إبراهيم خليل» نصر الدين السيدء حسن الترابى. وعند عرضه للتصويت اجيز بمائة 
وواحد وخمسين صوتأًء فى حين امتنع ستة أعضاء عن التصويت وصوت اثنا عشر عضواً 
ضده . تبع ذلك حظر الحزب الشيوعى السودانى فى شهر ديسمبر من نفس العام ولجوء 
الحزب الشيوعى للقضاء بحجة عدم دستورية القرار. ومع أن المحكمة العليا قد قضت بعدم 
دستورية قرار الحظرء إلا أن الحكومة أمتنعت عن تنفيذ قرار المحكمة» واعتبرت حكم 
المحكمة حكماً تقريرياًء وليس أمرأً واجب النفاذ. ورغم أنه كان معارصضاً للنظام يومذاكء أيّد 
الصادق المهدى حكومة المحجوب وتضامن معها فى استهجان قرار المحكمة؛ وهى نفس 
المحكمة التى لجأ إليها فيما بعد لتتدخل ضد إنتهاك الأزهرى للدستور. ففى بيان له أذاعه 
التلفزيون السودانى ١7(‏ يناير15717) صرح الصادق المهدى بأن الجمعية التأسيسية ليست 
ملزمة بحكم المحكمة. ومن ثم توجه الأزهرى والمحجوب والصادق لتعديل الدستور لكيما 
تضاف إليه مادة اسمها الإلحاد» تقفل الطريق إلى البرلمان!'" )على الشيوعيين الملحدين . 
بين الزعماء الثلاثة يثير موقف المحجوب الدهشةء أولاً لأنه ظل تابتاً إلى جانب رفاقه فى 
حزب الأمة ضد أسلمة الدستور أثناء فترة انعقاد البرلمان الأول» وثانياً لأنه مفكر ليبرالى 
وقانونى حقانى. ولا شك فى أن المحجوب أصبح رهينة للتناقضات التى جاءت به وأبقته ‏ 
فى السلطة . فتعاطيه مع فكرة أسلمة الدستور تتناقض تناقضاً كاملا مع الديمقراطية التى ساهم 
فى إرساء قواعدها وكان ذلك مصدر فخر له. استرجع محجوب موقفه ذلكء بعد تخليه عن 
الحكم فى كتابه الديموقراطية فى الميزان حيث قال سواء أصبح الدستور إسلامياً أو علمانياء 
كان من الممكن أن يكون للسودان دستور دون أن نطلق عليه نعتاً إسلاميأء نمارس بمقتضاه 
الإسلام ونستفيد من السماحة المتمثلة فى مبادئه الأساسية.('") هذا التبرير» بصرف النظر 
عن أنه جاء متأخراء لا يقول الكثيرء إلا أنه يكشف عن حقيقة هامة هى أن موقف محجوب 
من أسلمة الدستور لم يكن موقفا أيديولوجياء وإنما هو موقف أملته ضرورات السياسة. نسى 
المحجوب أفكار جيل تتلمذ عليه» وكان له فى رجالاته قول حسن: جيل النهضة فى مصر. 


294 


فعندما كتب جمال الدين الأفغانى يقول: لا جنسية للمسلمين إلا فى دينهم (العروة الوثقى 
7 »>» تصدى له أحمد لطفى السيد بالقول: الإسلام ليس لمسلم بوطن» فوحدة 
الاعتقاد الدينى ليست بكافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى (الجريدة ١٠/؟1107/1١).‏ وإلى 
ذلك الرأى إنحازطه حسين عندما كتب يقول: "وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان للوحدة 
السياسية (السياسة 1975/17/73). 

وعلنا نستطرد هنا قليلاً. الاستطراد ليس من البلاغة فى شىء. إلا أنا هنا نبتغى التبيين 
لا البيان. ليت المحجوبء قريب الصلة بطه حسينء استذكر ما كتبه الدكتور طه فى 
العشرينيات من ذلك القرن حول الدين والسياسة» ونشرته مجلة الحديث(١')‏ . قال الأستاذ 
العميد نعم إن دستورنا المصرى قد نص صراحة أن الإسلام دين الدولة» وكان هذا النص 
مصدر فرقة لا نقول بين المسلمين والمسيحيين من أهل مصر. فقد رضيت القلة المسيحية 
وغير المسيحية هذا النصء ولم تحاور فيه» ولم ترفيه على نفسها مضاضة أو خطراً. وإنما 
نقول أنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهمء فهم لم يفهموه على وجه واحدء ولم يتفقوا 
فى تحقيق النتائج التى يجب أن تترتب عليه. فأما عامة الناسء فلم تلتغت إلى هذا النصء 
ولم تحفل بهء وأكبر ظننا أنها ما كانت لتشعر بشىء لولم يوجد هذا النص فى الدستور. 
فعامة الناس فى مصر منصرفون بطبعهم إلى حياتهم العملية» مستعدون أحسن الاستعداد 
وأقواه للاتصال بأزمنتهم وأمكنتهم والمواءمة بين حياتهم وبين حياة التطور وهم يعلمون أن 
الإسلام بخير» وأن الصلوات ستقام» وأن رمضان سيصامء وأن الحج سيؤدى . 

مضى الدكتور طه يقول وقعت الفرقة حول هذا النص بين فريقين من المسلمين 
المصريينء أحدهما المستنيرون المدنيون؛ والآخر شيوخ الأزهر ورجال الدين. فأما 
المستنيرون فقد فهموا أن الدستور فيما ينص أن الإسلام دين الدولة» لا يريد إلا أن يعلن 
احترامه لدين الكثرة وما توارثته من تقاليد» ويكلف الحكومة مقداراً قليلاً من الواجبات التى 
تتصل بهذه التقاليد ... لم يخطر لهؤلاء المستنيرين فى يوم من الأيام أن هذا النص سيكلف 
الحكومة واجبات جديدة دينية» أوأنه سيحدث فى الدولة نظمأ لم يكن لها بها عهد من قبل 
ذلك لأنهم كانوا وما زالوا يقدرون أن مصر ستمضى إلى الأمام» وتسرع فى الاتصال 


205 


بالمدنية الغربية ... ولأنهم كانوا وما يزالون يقدرون أن فى الإسلام من اللين والمرونة ما 
يمكنه من التطور مع الزمنء» وملاءمة الظروف المختلفة؛ ويعصمه من الجمود والسكون. 
ولكن الشيوخ فهموا هذا النص فهمآ آخرء واتخذوه تكأة وتعلة يعتمدون عليها فى تحقيق تحقية 
ضروب من المطامع والأغراض السياسية وغير السياسية. فهموا أن الإسلام دين الدولة» أى 
أن الدولة يجب أن تكون إسلامية بالمعنى القديم حقاً. ذلك الفهم أنشأ فى مصر قوة سياسية 
دينية منظمة أو كالمنظمة تريد الرجعية وتجِرٌ مصر جر عنيفاً إلى الوراء. وأنشأ فى مصر 
خاصة. وفى الشرق الإسلامى عامة» هذه المسألة التى لم تكن معروفة فى الشرق 
الإسلامى من قبل أثناء العصر الحديث؛ وهى الخصومة الدينية السياسية بين العلم والدين. 
ولسنا فى حاجة إلى أن نسأل: أخير هذا أم شر؟ ولسنا فى حاجة أيضاً أن نسأل عن طبيعة 
هذه الخصومة وما ستنتهى إليه غداً وبعد غد؟ 

ياله من أعمى بصير! جاء الغد بوبال» حين استغل الإسلامويون الفطرة الدينية لمارب 
السياسة » وابتدعوا لمآريهم أسماءء ما أنزل الله بها من سلطان. من بين هذه المآرب إلغاء 
الآخرء وتدمير الخبرة المكتسبة حيث أصبح الخطاب الإسلاموى استكصالياً فى بنيويته» 
عنيفاً فى لهجتهء محدوداً فى خريطة اهتماماته السياسية» ومتحجراً فى قاعدته المعرفية. 
وللوصول إلى أعماق تلك القاعدة لم يتركوا للباحثين من سبيل غير الحفر الأركيولوجى . 
هذه النظرة المتكلسة» لم تضع الإخوان ومن تبعهم أمام استحالات سياسية فحسبء بل أيضاآً 
أمام معضلات أخلاقية» لاسيما ودعواهم كلها ترتكز على أن الإسلام دين يحض على 
السماحة واللين والجدال بالحسنى . فرغم إسرافهم في الحديث عن الرحابة الفكرية للدولة 
الإسلامية المنشودة التى تستوعب كل الملل والنحل» نزع الإخوان إلى إقصاء اليسار 
الشيوعى هاما فبلا يكن بدزلاً لهم وومذاف: تصدينا فى جريدة الأيام لتلك التصفية 
الفكرية» لا لولع بالفكر الشيوعىء فرأينا فيه لا يحتاج لإشهارء وإنما ليقيننا بأن الأفكار لا 
تلغى بالقوانين بل تدحض بالرأى الأكثر نجاعة. ("') وحقآء لم يكن الصراع بين الطرفين 
خلافاً مذهبياً أو دينياً وإنما كان صراعاً سياسياً. كان الإسلامويون يخشون من هيمنة 
توتاليتارية فكرية يسارية» لا حرصاً على توسعة دائرة الحرية» وإنما لأن تلك الهيمنة تحول 
بينهم وبين فرض كليانية سياسية تنسب نفسها للرسلام . 


256 


ومن الناحية العملية؛ كان واضحاً من السيناريو المتفق عليه بين القوى التى قادت 
الحملة ضد الحزب الشيوعى أن يتبع تفكيك ذلك الحزب» حظر الشيوعية علانية . ولكن 
إحكاماً فى التخطيط» رؤى أن لا يتم الحظر عبر إصدار قانون بذلك» بل عن طريق الدستور 
الإسلامى. وهكذا تم الإعلان فى الدستور عن التزام الدولة بالإسلام دينأء وعن أن الشريعة 
عمدو تسن الحشو : كو ار الإلحاد دستوريآ . والإلحاد ثوب فضفاض يضم 
الشيوعيين» كما قد يندرج تحته غيرهم ممن تسول لهم نفسهم معارضة التيار التقليدى. أما 
مضمون ما يسمى بالدستور الإسلامى فقد كان فى بالغ الرمزية» ولا يفى بالحد الأدنى مما 
هو متوقع من دستور مبنى على روح وهداية الإسلام كما عبر عن ذلك تماماً باحث 
سودانى.("') فمن الملاحظء مثلاء أن مدونة القوانين الاستعمارية بقيت كما هى دون 
تعديل؛ كما شمل التعديل الوحيد قانون المحاكم المحمدية بصورة شكلية لم تمس 
جوهره .(؟") هذا الاكتفاء بالرمزيات لا يدل إلا على واحد من شيئينء إما عدم تلاؤم 
الشريعة (الفقه الموروث) مع ما تقتضيه إدارة دولة حديثة» أو عجز الإسلامويين الجدد عن 
الاجتهاد الواعى بهدف استخلاص قواعد من مصادر الإسلام الرئيسية تلائم حاجات 
المجتمعات والدول الحديثة . 


يقيناًء ظل قدر كبير من النفاق يشوب مواقف الإسلامويين التقليديين الأحزاب التقليدية 
والمحدثين الإخوان المسلمين تجاه الشريعة. فمع التزامهم الظاهرى بها عن طريق 
الإيحاءات الرمزية:» إلا أنهم أبقوا على العادات والنظم وأساليب الحكم الغربية» بل وعلى 
القوانين غير الإسلامية» من منظورهم. ذلك الأمر سيكون موضع تفصيل أشمل فى الفصل 
السابع» ولريما نتوقف هنا فقط عند المؤسسات التى أنشأها الدستور"الإسلامىء بل تلك 
التى صنعت دستور ١15/8‏ نفسه . فالبرلمان الذى كان يتداول فى أمر الدستور الإسلامى لم 
يكن مجلساأً شورياً على النهج الإسلامى التاريخى» بل مؤسسة تمثلت مؤسسات نشأت 
وتطورت فى مراحل تاريخية محددة من تطور الفكر السياسى الغربى. ولا يكفى أن يختزل 
المرء نصاً ورد فى القرآن حول الشورى ليجعل منه دلالة على أن الإسلام سبق غيره 
بالدعوة للديموقراطية» لأن مثل هذا الاختزال يؤذى صدقية مجترحيه؛ ولا يفيد الإسلام 


22067 


فى شىء. نعلم» ويعلمونء أن الحكم الديموقراطى لم يمارس فى ظل الأنظمة الإسلامية 
التاريخية مطلقاً كما هو معروف اليوم؛ أى خلال مؤسسات يختارها الناس بإرادتهم» وتضم 
نساء المسلمين كما تضم غير المسلمينء ويلتزم فى الاختيار لها عدم التمييز بين الناس 
بسبب الدينء أو العرقء أو الجنسء ناهيك عن أن تتسع لمن كانوا ‏ ومازالوا يعرفون عند 
الفقهاء بالعبيد والكفار والمشركين. فالاجتماع الذى انعقد فى الخرطوم لاقرار دستور 
إسلامى ضم أنماطاً من كل هؤلاءء ولم يكن فى أى وجه من الوجوه صورة من الشورى 
النخبوية التى عرفتها ثقيفة بنى ساعدة بعد وفاة الرسول #. وكما أصبح ذلك النمط من 
التفكير المتحجر عائقاً لاستدامة شرعية أحكام الكتاب والسنةء عكس المنهج التلفيقى فى 
نسبته كل تجديد إلى الإسلام اعتماداً على القراءة الشكلانية لنصوص الكتاب؛ قصوراً فادحاً 
فى الاجتهاد. وصف النعيم هذا الورع الزائف وصفا دقيقاً حين قال: إنكار الوحى الإلهى أو 
الشك فيه خطيئة لا تغتفر للمسلم» أكثر من عجزه عن اتباع هذا الوحى. ولهذا بدا من 
الأفضل الاستمرار فى الالتزام اللفظى بالشريعة المصونة باعتبارها المرجعية القانونية 
الأساسية» وتبرير الخروج عنها دوماً اعتماداً على مبدأ الضرورة:» بدلاً عن محاولة تكييف 
هذا القانون مع ظروف وحاجات الحياة المعاصرة.(*2) 

لو وقفت هذه الرمزيات عند الممارسات الشخصية لفاعليهاء لهان الأمرء فمن حق أى 
فرد ‏ إن أراد ‏ أن يعيش فى مدار مغلق قاتم الرؤية. بيد أن التجارب المتعددة فى السودان 
أثبتت أن إطلاق الشعارات الرمزية» والتى يفترض أن لا تثير قلقاً مثل إعلان الشريعة 
مصدراً للتشريع» ليست دوماً بالأمر البسيط كما يبدو. ذلك أن مادة مشابهة فى دستور نظام 
مايو نميرى شبه العلمانى (1977)» كانت أساساً لمسودة الدستور الذى صاغه الترابى 
بهدف تكريس إمامة نميرى. لهذا كان الأب فيليب عباس غبوش (النوبة) محقاً عندما 
استنكر ورود هذه المادة فى مشروع الدستور الإسلامى فى عام ١954‏ . قال غبوش: إن 
السودان كبلد متعدد الأديان لا يمكن أن يحكم إلا بدستور محايد من الناحية الدينية » ثم 
سأل عن حق غير المسلم فى تولى رئاسة الدولة فى جمهورية إسلامية. وجه هذا السؤال 
إلى الدكتور الترابى الذى استدعى من قبل اللجنة الدستورية ‏ بوصفه واحداً من مستشاريها 


208 


الفنيين» لا بصفته النيابية ‏ للرد على السوال . وغير مرة» تهرب الترابى من الردء إلا أن 
سائله لم ييأس من ترداد السؤال والمطالبة بإجابة تقتصر على لا أو نعم. وإزاء عناد غبوش 
وإلحافه؛ أجاب الترابى على السؤال بالنفى (""). هذا الأسلوب فى الجدل حول الدستور 
الإسلامى يلقى ضوءاً كاشفاً على الطرق الملتوية التى لجأ إليها الإسلامويون لتمرير 
مشروعهم. علق النعيم على النقاش الذى دار بين الترابى وغبوش بالقول: الشىء ذو 
المغزى والذى يلفت النظر هو تجافى قانونى عصرى ومخضرم قاد حركته ينجاح على 
مدى خمس وعشرين سنة اكتسبت فيها بروزاً وطنياً وإقليمياً وسلطة سياسية. التعبير عن 
هدف حركته فى عبارات دستورية وقانونية محددة .('') حقاًء بقدرما كان التوظيف 
السياسى للدين مكثفاً فى ظاهره» بقدر ما كان سطحياً فى جوهره . 
تضمن مشروع الدستور أيضاً نصاً يلزم الدولة بتطهير المجتمع من الفساد والتفسخ الخلقى» 
دون إيضاح لما يعنيه بكلمتى الفساد والتفسخ الخلقى. وقد استوت الإنسانية المعاصرة منذ 
عهد جون ستيوارت ميل!"') على أن للفرد سلوكين؛ سلوكا يخص الفرد أسماه ميل 
(قهتلمدعوءء /اعة) » وسلوكاً يمس الآخري ين (0128مدعء: -:0]8) . السلوك الذىٍ يو ذى 
الآخرين فى جسدهم أو مالهم أو مصالحهم المباشرة» كما يقول ميل» يجب أن يخضع 
لتنظيم القانون؛ أما السلوك الذى يخص الفردء خاصة إن لم يجاهر به ويؤذى بذلك مشاعر 
الآخرين» يبقى سلوكاً فردياً. ومن النفاق بمكان أن تحصر الأخلاق فى الانحرافات 
الشخصية التى قد تنبو عن الذوق العام أو تؤذى الشعور العام مثل الشرب والملبس» فى حين 
تبقى الانحرافات الاجتماعية مثل الرشوة» وانتهاب المال العام» واستغلال السلطة» والتعذيب 
الجنائى» بعيدة كل البعد عن التجريم والتأثيم. إن منح سلطات دستورية لأى حكومة ‏ 
ناهيك عن حكومة يديرها أبرار فى عيون أنفسهم ‏ لكيما تراقب سلوك المواطنين فكرة 
مثيرة للرعبء ولا تتماشى مع مبادئ الديموقراطية الأساسية. فالدساتير ليست مدونات 
سلوكية:ء وإنما هى وثائق قانونية تتضمن قواعد والتزامات سياسية تحكم العلاقة بين 
النواظة :والذولة» وتنذد فحيط أو كفاف السلطة (,ع:<0م 07 00240100155)) فى تلك الدولة . 
تلاعب الترابى أيضاً بالألفاظ وتلجلج عندما أثار الأعضاء الجنوبيون موضوع العلمانية. 
قال: لا أدرى من أين جاء التعبير» ففى فرنسا يتحدثون عن النظام الدنيوى (:12) للتمييز 


299 


بين المواطن العادى ورجل الكهنوتء بينما فى الإنجليزية يتحدثون عن العلمانى (1237داء©5) 
للتمييز بين السلطة الروحية (1511331م؟) والسلطة الزمنية(0:31م667)) (؟) . استطرد الترابى 
يقول إن مصطلح العلمانية لا ينسجم مع مفاهيم الإسلام» ومن ثم فهو غير مقبول من جانب 
المسلمينء لأن الإسلام لا يضع الدين والحياة العامة فى موقع التضاد. ذلك الرأى اعترض 
عليه قانونى آخر من أعضاء اللجنة الفنية (ناتالى الواك) قائلاً إن العلمانية تعنى إقصاء 
الدين عن القوانين والسياسات العامة» ولاتعنى» بالضرورةء معارضة الدولة للأديان.('؟) 
وكان ناتالى محقاً عند ما نأى بالنقاش عن التفلسف؛ لم يتحدث عن العلمانية كمنهج يقيد 
المرء بالالتزام بالعقلانية والاستنباط البرهانى فى الحكم على شئون الدنياء لأن الأديان لا 
تخطع للحة والزه الامعازف 'الذيدية فى جانبيها المتبارئ أواالمعلى (النقاضة) :ل قف 
كقيراً قن أن الذين انوا يناهون والكلبائية فى السواق قد يكوا الاستقناء ضرق خنة 
الإنجليز كلمة (م51ةاتاءء5) 537 كلمة (ع“121) عند الفرنسيس , بكل ما يحمله المعنيان 
من تداعيات وإسقاطات فيما يخص علاقة الدين بالمجتمع» ودوره فى حياة البشر. كل 
الذى كان يعنيهم هو أن لا توضع قوانين عامة أو دساتير تستمد من دين معين فى وطن 
متعدد الديانات» ناهيك عن أن تحتكر الدين مجموعة بعينهاء صغر حجمها أم كبر ثم 
تستحوذ ياسمه على المجتمع . ومن المفارق» أن أول عهد للجنوبيين بالحديث عن العلمانية» 
كان بعد تقديم مشروع الدستور الإسلامى» مما يعنى أن الموقف ‏ على الأقل بالنسبة 
للجنوبيين ‏ كان لحظياً سياسيآء أكثر منه موقفاً أيديولوجياً ثابتاً. وكان ذلك فى تصريح أدلى 
به برلمانى جنوبى مرموق لإحدى صحف الخرطوم.('؟) لهذاء يرجع الفضل للأحزاب 
التقليدية فى سك مصطح العلمّانية فى الخطاب السياسى الجنوبى. بعد أن أغلق تبنيها 
لمشروع الدستور الإسلامى كل الأبواب على الجنوبيين» وأسقط بالفعل توصيات لجنة 
الاثنى عشر. نتيجة لذلك؛ أعلن أبيل أليرء المتحدث الرسمى باسم المجموعة الجنوبية فى 
لجنة الدستورء انسحاب المجموعة من اللجنة قائلاً: لم ير الجنوب فى الدستور الإسلامى إلا 
تعبيراً عن أسلوب حياة وثقافة أوإيمان أعمى بما يعرف بالأمة العربية. ونتيجة للمكونات 
الدينية ‏ العرقية لمشروع الدستورء فإن الزنوج الأفارقة المسيحيين والمسلمين والوثنيين قد 


2300 


أجمعوا على رفض تلك الوثيقة . وكانت المجموعة التى تحدث أبل باسمها تضمء بجانب 
الجنوبيين» نواب البجة والنوبةء ولهذا جاءت إشارته للأفارقة المسلمين. 

فى خضم حربهم المقدسة لصياغة دستور يعزز نفوذهم ويقضى على معارضيهم 
اليساريين» تناسى الجناح الإسلاموى فى المؤسسة السياسية التقليدية بكل بساطة مشكلة 
السودان الأولى: الحرب فى الجنوب. ولعلهم اعتقدوا أن ما يخدم مصلحة الأغلبية المسلمة 
ينبغى أن يخدم بالضرورة الأقلية غير المسلمة. أو لعلهم ظنوا أن الحرب ببركة الشريعة 
ستلقى أوزارهاء وأن الاقتصاد سينمو ويزدهرء وأن الشعب كله سيقر عيناً ولا يحزن. وقائع 
الحال تدحض هذه الظنونء فإقرار الأحزاب الشمالية» أو لنقل بعضها ( إذ امتنع مؤتمر 
البجة وأبناء جبال النوبة بمسلمهم وغير مسلمهم كما امتنع أفراد ينتمون إلى الأحزاب 
التقليدية عن تأييد ذلك المشروع ) سدد الضربة القاضية على ما بقى من قرارات مؤتمر 
المائدة المستديرة حول الصراع فى جنوب السودان. وكان رئيس الوزراءء الصادق المهدى 
قد تلقى تقرير لجنة الاثنى عشر فى يونيو1577. ولكنه؛ بدلا من أن يستدعى مؤتمر 
المائدة المستديرة الذى شكل اللجنة وقرر أن ترفع تقاريرها إليه» ادعى أن الموقف قد تغير» 
وآثر عقد مؤتمر أسماه مؤتمر عموم الأحزاب (ععمع ده لإنندم-1أخ)ء بدلاً من مؤتمر 
المائدة المستديرة. على ذلك تواطأ رئيس الوزراء مع الحزب الوطنى الاتحادى» فى حين 
قاطع مؤتمر "عموم الأحزاب الحزب الشيوعى السودانى الذى شارك مبدئياً فى لجنة الاثنى 
عشر ثم انسحب منها بعد ذلك» وحزب الشعب الديموقراطى الذى لم يشارك البتة فى لجنة 
الاثنى عشر بدعوى استبعادها لتيارات جنوبية» وكان يعنى بذلك مجموعة سانتينو دينق 
الهامشية التى اصطنعتها الأحزاب الشمالية. لم يشترك أيضْأ فى مؤتمر عموم الأحزاب 
السياسيون الجنوبيون فى المنفى والذين منعوا عملياً من المشاركة. ولاشك فى أن لكلمة 
عمومء والتى تعنى لغة الشمول؛ معنى آخر عند رئيس الوزراء. نزعم أن إقدام رئيس 
الوزراء على تلك الخطوة ‏ كما أكدت الممارسات المستقبلية فى أعوام /ا/21985191 
4 لم يكن له أدنى مبرر موضوعىء بل كان داقعه الأساس هو رغبة 
الصادق فى وضع بصمته الشخصية المميزة على أى تطور سياسى فى البلادء حتى فى 


25301 


الموضوعات التى اجتمع فيها كل أهل السودان على رأى. وبسبب هذا التمركز الباثولوجى 
فى الذات قرر الصادق أن يعقد مؤتمر عموم أحزاب السودان كبديل لمؤتمر المائدة 
المستديرة» لأن المؤتمر الأول لم يكن من بنات أفكاره . 

من المؤكد أن ما توصل إليه مؤتمر عموم الأحزاب ما كان ليصبح أساساً للإجماع حتى 
لو شاركت فيه كل الأحزاب الشماليةء وكل الأحزاب الجنوبية العاملة داخل السودان. فساسة 
الجنوب الذين يقيمون فى المنفى واستبعدوا من الاجتماع ما كانوا ليلتزموا بأى قرار يصدر 
عن ذلك المؤتمر فى غيابهم. كما أن حركة أنانيا ما كانت هى الأخرى لتلتزم بالقرارات 
الصادرة عن مؤتمر لم تكن طرفاً فيه» خاصة فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية . وحتى إن توفر 
الشرطان فإن طرح مشروع الدستور الإسلامى بعد أن اختتمت لجنة الاثنى عشر أعمالهاء 
وحددت مقومات نظام الحكم فى السودانء كان بمثابة المسمار الأخير فى نعش المصالحة» 
كما ذكر بصدق أبيل ألير.(”؛) تلك هى الحقيقة التى أغفلها الصادق المهدى تماماًء وكان 
خليقاً به أن يعى الحقائق التى عرضها أبيل ألير بصراحة فائقة عندما أعلن انسحاب 
الجنوبيين وغيرهم من لجنة الدستور؛ وغيرهمء كما قلناء شمل البجه والنوبه. بدلا عن 
الاعتراف بتلك الحقائقء ظل الصادق واثقاً بأنه جدير بالترحيب والتهليل لنجاحه فى وضع 
أسس للسلام خلال الشهور العشرة التى قضاها فى الحكم عبر مؤتمر عموم الأحزاب. ففى 
واحدة من رسائله ذك ر أن ما أنجزه نظام مايو فى اتفاق أديس أباباء لم يكن ليتحقق إلا 
بفضل الحكومات المدنية الديموقراطية ‏ بما فيها حكومته.('؛) استطرد الصادق يقول فى 
تلك الرسالة أنه فى سياق تلك الاجتماعات«تم التعرف على الطبيعة السياسية 
والثقافية للحرب الأهلية بين الشمال والجنوبء (التأكيد من عند الكاتب) . لا خلاف 
فى أن حكومة أكتوبر أفلحت فى إبراز الطبيعة السياسية والثقافية للحرب الأهلية بصورة لم 
يسبقها إليها أحدء ولكن ادعاء الصادق أنه وحلفاؤه فى مشروع الدستور الإسلامى قد تعرفوا 
على طبيعة الحرب؛ ليس أكثر من مزعم زاعق مستفز. فلريما نسى الصادق وهو يتحدث 
عن التعرف على الطبيعة الثقافية للحرب الأهلية» بيان الأزهرى الافتتاحى فى مؤتمر 
المائدة المستديرة الذى قسم فيه أهل السودان بين أجدادكم الأفارقة وأجدادنا العرب. ولربما 


2302 


أصيب الصادق بفجوة فى الذاكرة (35206518) حول حدث فارق: إعداده ‏ بالتعاون مع 
زعماء الأحزاب الشمالية ‏ للدستور الإسلامى الذى دق المسمار الأخير فى نعش المصالحة» 
على حد تعبير أبيل ألير. وليس من المعقول أن يكون الصادق قد نسى أول خطاب له فى 
البرلمان قرر فيه أن هوية السودان (وليس الشمال) الثقافية لا يمكن التعبير عنها إلا فى إطار 
عريى ‏ إسلامى. هذا الرأى ما فتئ الصادق يردده حتى أصبح عادة لديهء والعادة د 
الطبيعة . الزعماء يخطئون دوماًء كما يخطئ الفلاسفة النابهون» وكما قال الشاعر الرومانى 
هوراس (110220) "حتى هوميروس يخطئ (4؟) 

وفيما يبدوء فإن رئيس الوزراء السابق يحسب أن دور الحكومة هو اتخاذ القرارات 
وصياغة البرامجء لا تنفيذها. علماً بأن الحكومة؛ ليست ليست وحدة للبحوث فى شعبة العلوم 
السياسية بجامعة الخرطوم؛ وإنما هن شلطة مسي الامو حي يقبت كر كرجه إلى الممل» 
وهنا ايت السلطة التنفيذية. وفى المعاجم حكم بالأمر قضىء اوأحتكم ا فى الشىء تصرف 
فيه وفق مشيئته . نكاد نجزم بأن الصادق الذى لا يلجم لسانه عن الحديث؛ واللسان سبع 
عقورء يظن أن الحكم ممارسة تأملية» فأنت حاكم فالح بقدر نجاحك فى التنظير والتأمل. 

مهما كان من أمرء الحصيف من الحكماء والسياسيين يغدو أكثر حكمة بمرور الأيام» 
بحيث لا يستحى من الاعتراف بأخطائه. هل نقول أن تشويه المهدى الدائم للوقائع» 
واصطفاءه للحقائق لكيما تتوافق مع أطروحاته؛ وعجزه الغريب عن الاعتراف بأنه يخطئْ 
مثل كل البشرء يكشف عن فقدان للحكمة؟ أيآ كان الجواب» فإن هذا العجز حد كثيراً من 
قدرة الصادق على لعب الدور الذى هو مؤهل له فى حل أزمات السودان المتعددةء بل زاد 
من فقدان الناس للثقة فيما يقول. فأهل السودان لم يعودوا يحملون ما يقوله فى الصباح 
محمل جدء حتى يحل المساء ليروا إن ثبت عليه» أو حاد عنه. 

إلى ماذا انتهت صراعات الأحزاب؟ نعود إليها لنقول أنها كانت من الهزل بمكان» 
بحيث لم تستطع الأحزاب التوحد لفترة كافية من الزمن؛ حتى لإقرار دستور تمت صياغته 
خصيصاً بغية إحكام قبضتها على مقاليد الحكم. فى تلك الملهاة الهازلة» أيد الحزب الوطنى 
الاتحادى المحجوب ضد الصادقء ثم ساند الصادق ضد المحجوبء وأخيراً وقف إلى جانب 


203 


المحجوب ضد الصادق؛ كل ذلك لدوافع خاصة:ء لم يكن من بين الدوافع» بالقطع» اختلاف 
رؤى الطرفين حول وسائل إنهاء الحربء أو تسريع التنمية» أو استقرار الحكم. كان على 
رأس الدوافع الخاصةء أولاً تعميق الخلاف بين الصادق وعمه من ناحية؛ وبينه وبين 
محجوب من ناحية أخرى بهدف إنهاك حزب الأمة. وثانياً رغبة قيادات الحزب الوطنى 
الاتحادى فى قهر طموحات الصادق الجارفة من أجل تحجيمه. وبمجرد تحقيق الهدفين 
بدل الحزب الوطنى الاتحادى خط سيره واندمج مع حزب الشعب الديموقراطى ليشكلا معآ 
الحزب الاتحادى الديموقراطىء والذى حاز أكثر من نصف الأصوات فى الانتخابات 
التالية. فى أوج ذلك الانتصار دخل الحزب الجديد فى اتتلاف حاكم مع جناح الإمام 
الهادى واستقر فى السلطة لينعم بثمار الحكم بعد أن تحقّقت أهدافه على أفضل ما يكون؛ أو 
هكذا ظن. مرة أخرى دخلت الأحزاب فى فترة من الحسابات الخاطئة» والحسابات الخاطكة 
كادت أن تكون سمة حلقية (لهاتمعومم) لتلك الأحزابء ذلك أنهم اختصروا الحكم فى 
شيئين: السعى وراء الفوز فى الانتخابات» وتشكيل الائتلافات» اعتقاداً منهم أن ليس دوماً 
فى الإمكان أبدع مما كان أو هو كائن. تلك هىالظروف التى تدخل فيها الجيشء هذه 
المرة دون دعوة من أحد. وحينما استولى الجيش على السلطة فى نهاية مايو1575١»‏ لم 
يكن ثمة أحد ليدافع عن حكومة الديموقراطية الثانية. 
80 


هه 


خلاصة 

لا تلقى السياسات الحزبية فى التعامل مع قضايا السودان الجوهرية: الحربء والسلام» 
ترشيد الحكمء خلال هذه الفترة من أى مؤرخ إلا الإدانة. فبدلاً من أن تعى الأحزاب 
الدرس من فشل سياسات عبود فى الجنوب» عملت على اتباع سياساته بدقة بالغة. فمنذ 
فترة الاستقلال فى منتصف الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات كان سلوك الحكومات 
المدنية فى الجنوب أشبه بسلوك المستعمرين الجددء منه بسلوك الوطنيين الديموقراطيين. 
وتتراوح الأمثلة على ذلك بين الكذب الفاضح على مواطنيها والتنكر للعهودء إلى الغزو 


5304 


الصريح للجنوب والإيذاء البدنى لصفوته. أضف إلى ذلك أن الجيش خلال حكم عبود ‏ 
كما فى فترة حكم محجوب ‏ كان يتصرف فى الجنوب مثلما يتصرف أى جيش أجنبى 
يغزو بلدأ آخر. ثم جاء الإسلامويون ‏ القدامى والمحدثون ‏ فى منتصف اينات ليدخلوا 
السودان فى بلاء عظيم قضى على كل ما هو جميل وإنسانى فى نفوس عامة أهل السودان 
المسلمين وغير المسلمين. وبإصرارهم على أن يقوم دستور بلد متعدد الأديان يأملون فى 
توحيده» على أساس دين واحد يصبح هو مصدر التشريع وقاعدة الحكم للوطن كلهء اباتوا 
عجزاً كاملاً عن التمييز بين ما حقيقى وما هو وهمى. 

كان بمقدور المؤسسة السياسية الشمالية فى السودان التى قررت تديين السياسة أن تأخذ 
العظة والعبرة من التجربة الهندية» والتى نعود إليها مرة أخرى. متالنا هذه المرة هو 
متعصبو الهندوس الذين عارضوا العلمانية معارضة شديدة بعد أن قرر نهرو وصحبه أن 
تكون أساساً للحكم . وكانت حجة الهندوس مماثلة تماماً لحجة نظرائهم السودانيين» حين 
وصفوا العلمانية بأنها فكرة غريبة دخيلة» وقالوا أن الوضع الطبيعى يقضى بأن تحكم الهند 
بقوانين منحازة إلى ثقافة وديانة الأغلبية. هذه الديموقراطية العلمانية التى أشادها نهرو لم 
تحرم المسلمين من غشيان مساجدهم وأداء شعائر دينهمء كما لم تمنع الهندوس من التردد 
على معابدهم وممارسة طقوسهم. ورغم الغلبة العددية للهندوس أتاحت تلك الديموقراطية 
العلمانية المجال لثلاثة من المسلمين» مع أقليتهم» للارتقاء إلى سدة الرئاسة: ذاكر حسين» 
فخر الدين على أحمدء وأخيراً أبوبكر زين العابدين عبد الكلام . والطريف فى أمر الأخير 
أن الذى تبنى ترشيحه للرئاسة هو الحزب الهندوكى الحاكمء وأيده حزب المؤتمر المعارض» 
بحيث نال 4157 صوتاً من مجموع الكلية الانتخابية ( 4154 صوتاً) . ولو قرر الحزب 
الهندوكى الحاكم؛ بسبب من غلواء بعض أنصاره»ء تحويل الدولة العلمانية إلى دولة دينية 
هندوكية لأصبح فيها حال ذاكر حسين وصحبه كحال فيليب عباس غبوش فى دولة أزهرى 
والصادق والترابى الإسلامية. أيضاً لو حدث هذا لانفطر قلب الإسلاميين فى السودان 
وخارجه حزناً على المصير الذى كان سينتهى إليه مسلمو الهند الذين يمثلون 4٠‏ فقط من 
السكان » إلا أن تعدادهم يبلغ 76١‏ مليون نسمة» أى أقل قليلاً من عشرة أضعاف مسلمى 


25305 


السودان بحساب اليوم . ويبالفعل ما فتئ الإسلامويون السودانيون ‏ كغيرهم من المسلمين 
فى الوطن العربى ‏ يتحسرون على ما يلاقيه مسلموالهند على أيدى هندوسها المتعصبين» 
ويدينون كل تجاوزات هؤلاء المتعصبينء والتى هى أيضاً تجاوز لما تنص عليه قوانين 
الهندء وينص عليه دستورها العلمانى. فعلى سبيل المثال» أصبح حادث انتهاك الأصوليين 
الهندوس لحرمة مسجد بابيرى فى أقوديا قضية طبقت شهرتها آفاق العالم الإسلامى. 
أصحاب تلك القلوب المتصدعة حزناً على مسلمى الهند لا يستحضرون ‏ حتى فى غمار 
حزنهم ‏ المصير الذى يلقاه ثلاثون بالمائة من إخوانهم وأخواتهم غير المسلمين من جراء 
السياسات التى تبرر بمنطقة الأغلبية العددية هيمنة دين واحد على كل أهل الملل والنحل 
فى السودان. محنة إسلامويى السودان» وغيرهم من الإسلامويين فى الوطن العربىء لا 
تعود إلى ثغرة فى الوعىء وإنما إلى عقدة الاصطفائية» والتضخيم الأسطورى للذات. قرأوا 
قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس "وفهموا منه أنهم مغالبون الأمم فى الفضل إلى 
يوم الدين» وإلى ذلك الفهم الملتبس الخاطئ استراحوا. وكان أكثر ما يسود هذا الفهم فى 
عهود الغيبوبة الفكرية التى وقفت معها الصيرورة التاريخية للإنسان المسلم. فى تلك 
العهود» أصبح التخلف الذى يصنه المسلمون بأيديهم ابتلاء» وصار العجز الذاتى المقعد عن 
تحقيق الذات امتحاناً من رب العبادء وبحكم بلادة العادة استمرأ المسلمون فى الوطن العربى 
الهرب من حاضرهم والهجرة إلى ماضيهم. لو تمعنوا قليلاً فيما أنجزه المسلمون فى آسيا 
(ماليزيا مثلا) » لأدركوا بأن الإنسان صانع قدره . فالماليزيون مع شدة إسلامهم, لم ينقموا 
على الحضارة الإنسانية الغربية» بل نهلوا منها وقادروا أهلها فى مجالات التكنولوجة 
المتقدمة دون استطالة. الذين برعوا فى الاستطالة هم الذين ما زالوا يعيشون فى ليل 
التاريخ؛ ومع هذا يوقنون كل اليقين بأنهم خير أمة» وأن ما ينطبق على غيرهم لا ينبغى 
أن ينطبق عليهمء إذ هم خيار من خيار. 

الوعى بِأنَا جزء من هذا العالم» ينطبق علينا ما ينطبق على بقية أهله» هو الفريضة 
السياسية الغائبة التى ينبغى أن ينسجم معها القادة الشماليون لكى يفهموا شكوك الجنوبيين 
وغضبهم وعنفهمء قبل أن يفكروا فى الوصول إلى حل للأزمة السودانية. ولكن الحقيقة فى 


206 


السودان ‏ على خلاف بلاد الله أخرى ‏ كثيراً ما تكون أغرب من الخيال. فمن المثير 
للسخرية»ء مثلاء أنه رغم معاناة كل أهل السودان بسبب الحرب» ووضوح الأسباب التى 
عمقت من نوازع الشقاق بين أهلهء مازال هناك من يكرر السؤال السخيف والمشبوه فى 
ذات الوقت: ماذا يريد الجنوبيون؟ السؤال الحقيقى الذى يجب أن يسأل هو: ماذا يريد 
الشماليون؟ فالجنوبى لم يحمل السلاح ليفرض الوحدة» كما قلناء بل حملته حكومات 
الشمال. الإجابة على ذلك السؤال ليست ببعيدة عن السائلء إذ ما عليه إلا أن يرجع إلى 
متحف السياسة السودانية: متحف الوعود التى لم تصدقء والآمال التى أحبطت: 
والمناورات السياسية الغبية التى ما انفكت تدور فى حلقات حلزونية. 

بات من الضرورى أيضاً أن يتحمل الساسة الجنوبيون مسئوليتهم عن إطالة أمد الحرب فى 
السودان» كان ذلك بسبب تراخيهم فى اللحظات الحرجة؛ أو قابلية بعضهم للفساد والرشوة من 
جانب ساسة شماليين لا يقلون فساداً. هؤلاء الساسة مسئولون عن الانشقاقات التى ابتليت بها 
السياسة الجنوبية منذ استقلال البلاد بلا هدف أو جدوىء عدا تحقيق المصالح الخاصة وإرضاء 
الطموح الشخصى . ولو كان أولئك الزعماء الجنوبيون أكثر توحداً وأقل ثرثرة» لأمكن التوصل 
إلى تسوية مرضية» أو حتى مفروضة بسبب الأحداثء ولوفرت البلاد ‏ فى الشمال والجنوب ‏ 
على نفسها عناء الصراع القتال» والفساد والتشرذم. تلك الممارسات الضارة هى التى مهدت 
الطريق إلى نجاح سياسات فرق تسد التى أضحت لحناً متكرراً ناشز النغم» منذ عهد الأزهرى 
وحتى زمان الجبهة. لكنًا نجور على الحق إن لم نسجل هنا كل التقدير للجيل الأول من 
الزعماء الجنوبيين الذين ثبتوا على مواقفهم وظلوا بعيدين كل البعد عن الاسترشاء والعطب 
الخلقى. من هؤلاء نذكر ستانسلاوس بياسماء وساتورنينو لاهوروء وويليام دينق» وقوردون 
مورتاتء وبنيامين لوكىء وكليمنت امبورو وآخرون تعرضنا لبعضهم فى هذا الكتاب. بسبب 
جلد عَوَلاء الزعماء ومدق توجههد» ,تالخ نهم وانتين الحكزممات الشفالية المتحاقنة “وتجتدهم 
الجنوبيون المتأمرون مع تلك الحكومات. 

مع كل هذا الفحش السياسى يتعين على المرء ألا يببحث فى أى مكان آخر عن أسباب 
سقوط الحكومة الديموقراطية البرلمانية الثانية تحت أقدام الجيش. إن أدنى عامل مصنع 


2307 


يدرك أن أولى قواعد إدارة الأعمال تقضى بالتخلص من المعدات التى انتهت صلاحيتها 
وهبط منحنى نفعيتهاء فى الوقت الذى ازدادت فيه تكلفة صيانتها. لهذاء فإن نميرى ‏ أوأى 
عسكرى آخر- قد وجد الجو المهيىء له تماماً. 

0600 


2308 


هوامش وإحالات 





للع ط © عط ص ععلمنن84 .أوتلاع .1.5 (1) 

(2) ضم مجلس السيادة فى الديموقراطية الأولى الدرديرى محمد عثمان» أحمد محمد صالح» 

عبد الفتاح المغربى» أحمد محمد يسء سيرسيو إيرو » كما ضم فى الديموقراطية الثانية التجانى 
الماحىء عبد الحليم محمدء مبارك شدلد» لويجى أدوكء إبراهيم يوسف سليمان. 

.5 ,15 /إ1/12 ,تنام أمقط؟]1 ,أمدائعن/ا عط 1 (3) 


42 8 بععنددوط لصة علممع2 ,الوسادل8 دحوحظ (4) 
عتانال أمداتوا/ا ع1" (5) 


(6) نفس المصدر. 

(7) جريدة العلم» الافتتاحية؛ ١5‏ يوليو ١3175‏ . 

3 .2 ,ركهضةلنا5 100 آه دعتائله2 ع1" . لإدن] (8) 

(9) مالزاك (فرنسى) كورسيكى كان يقوم باصطياد العبيد فى منطقة رمبيك فى العام ١805‏ . 

(10) لا يمثل ذلك القرارء فى رأى أبل أليرء إعلاناً للحرب على الأنيانيا فقطء بل على النخبة 
الجنوبية المتعلمة أيضاً. وقد أستشف ألير من الروح التى سادت المناقشات حول هذا الأمر بأن اليمين 
واليسار فى شمال السودان كانا متفقين على أن المتعلمين الجنوبيين هم أس المشكل ,معذاى اء6م 
.238 ,ناد لوعدلأن50 

(11) أكد تحقيق قام به قاض للمحكمة العليا (دفع الله الرضى) أن 57١‏ متعلماً جنوبياً مدنيآ 
لاقوا حتفهم فى جويا وواو فى حملة مدبرة من الجيش للقضاء على من كانوا يحسبون أس البلاء. 
ومع أن هذا الرقم يقل كثيراً عما أشيع عقب الحادث ١4٠١(‏ قتيل)» إلا أن مصرع 45١‏ مدنياً اغتيل 
أغلبهم فى دورهم لا يمكن وصفه بشىء غير التصفية العرقية. 

(12) بالرغم من أن مقتل وليام دينق قد حدث خلال حكم المحجوب: إلا أن الصادق (باعتباره 
حليفآً لدينق) لم يبد جهداً للكشف عن دور الجيش فى اغتيال حليفه؛ بقدر الحماس الذى أبداه فيما 
بعد لمتابعة قاتلى الإمام الهادى بعد سقوط نميرى. وفى رسالة لبونا مالوال فى أغسطس ١1937‏ عاد 
الصادق للموضوع مؤكداً أن الحادث لم يقع فى فترة حكمه. على تلك الرسالة رد مالوال بالقول: 


2309 


قتلة وليام معروفون ولم يقدم واحد منهم للعدالة. إن الهدف من التحقيق ليس هو العقاب؛ بل إن 
الجناة يمكن أن يمنحوا حصانة ضد العقاب إن كان فى ذلك ما يطهر الأجواء ويمنع وقوع هذه 
الفظائع مستقبلاً. 

(13) محاضر الجمعية التأسيسية» أكتوبر 1955. 

(14) جريدة النيل» ١5‏ يوليو5764١.‏ 

6 ,11 عءطدوعننه1[0 .أسدادتلا 111 رك1ا) 

(16) صادق المهدىء مستقبل الإسلام والعروبة فى السودان. 

(17) صادق المهدىء يسألونك عن المهدية» المطبعة الحكومية» الخرطوم . 

(18) المصدر السابق» ص .ص 2١5‏ 2756 75/8 . 

(19) محمد سعيد القدال» الإسلام والسياسة» صفحة هلا. 

(20) الوسطء 77 يونيو ١595‏ . 

(21) فى العشرين من ديسمبر7١٠7»‏ تم اختيار الصادق إماماً للأنصارء المنصب الذى ظل 
شاغراً منذ رحيل الإمام الهادى» ومازال هناك من ينكر عليه تلك الإمامة مثل عمه أحمد المهدى, 
وابن الإمام الراحل» ولى الدين الهادى المهدى . وهكذا اجتمعت للصادق إمامة الأنصار مع قيادة 
السياسة (رئاسة حزب الأمة)» الأمرالذى أنكره على عمه فى الستينيات. 

(22) للمزيد من التفاصيلء النخبة السودانية وإدمان الفشل ص .ص 47١145-1؟‏ 

(23) يقول النعيم للحد الذى ريما تكون قد طبقت به بعض جوانب الشريعة» تم ذلك التطبيق 
كجزء من القانون العرفى للمجتمع وعملياً ألحقت به تعديلات واسعة. ولم تكن الشريعة هى النظام 
القانونى لأى حكم مركزى فى السودان باستثناء أربعة عشر عاماً فى القرن الماضى (القرن التاسع 
عشر) ‏ عبدالله احمد النعيم: 25 2 ,سداكآ عمتدمماعم 

(24) أسس الإخوان المسلمون ما يسمى بالجبهة الإسلامية للدستورء وعبر الضغوط والابتزاز 
تمكنت تلك اللجنة من استصدار تأييدين هامين لمشروعها: الأول من قاضى القضاة» الشيخ حسن 
مدثر الذى بعث بمذكرة للجمعية يدعوها لوضع دستور إسلامىء والثانية من السيدين على الميرغنى 
وعبد الرحمن المهدى يؤيدان فيها إصدار دستور قائم على مبادئ الإسلام . 

عبد الوهاب الأفندى: 58 - 57 2 ,همناناونع درتطهمن]" 

3 2 ,أن .مه ,لمهاكآ لسة دعناتله .لعدسدلة ل51 .ى (25) 


(26) نفس المصدر 

(27) المصدر ١5‏ أعلاه . 

(28) ذكر الأفندى أن الإخوان كانوا قلقين من تنامى نفوذ الحزب الشيوعىيء خاصة بعد هيمتنته 
على النقابات. لهذا قررواء كما قالء الانتقال بالمعركة إلى المساجد. المصدر 4؟ أعلاه. 

(29) عنوان الكتاب الوحيد الذى كتبه الزعيم إسماعيل الأزهرى والذى انحصر جله فى شرح 
للإجراءات دون خوض فى جوهر الديموقراطية البرلمانية. 

(18 ظ ..أد مآ نه لإعدععمممعج] .طباه زطد84 .خ .81 30 

(31) نشر المقال فيما بعد فى كتاب للدكتور طه حسين عنوانه "من بعيد. 

(32) نشرت المقالات بعنوان يوم أكل الثور الأبيضء وفيما بعد تضمنها كتاب للمؤلف بعنوان 
حوار مع الصفوة نشرته دار النشر بجامعة الخرطوم. 

(33) المصدر 5” اعلاه . 

(34) تعديل ١1737‏ لقانون المحاكم المحمدية لعام .١5٠ ١‏ 

3 2 .12011092 [1012ناأتاكهه0) عتصدلكآ عل دز كغطع 13 [ألانن .لسندلط وم .له لذ (35) 

(36) محاضر الجمعية التأسيسية لعام ١1974‏ : صفحة 154 . 

(37) المصدر 76 أعلاه . 

امعط 1[ 00 .384111 .38([.5) 

(39) المصدر 6 أعلاهء صفحة 77/١‏ . 

(40) نفس المصدر. 

0 فى تصريح لجريدة الأيام» قال البرلمانى الجنوبى هنرى باولو لوقالى أن الجنوبيين 
سيتعاونون من الآن فصاعداً مع أى جماعة سياسية ترغب فى التعاون معهم لأجل وضع دستور 
علمانى. الأيام 7" مارس ١5319‏ . 

.40 2 ,مقلناد متعطاناهك5 .ععزلة اأعطة (ر42) 

(43) جاء ذلك فى رسالة أعدها المهمدى لمؤتمر حول حقوق الإنسان فى كمبالاء 1559 . 
عنوانها: الميلاد الثانى للديموقراطية . 

(44) هوراسء فن كتابة الشعر (دعناءه0 ملى) 


لالالا 


«لاينتهى شىء بصورة 

مشرفة.ءمالميننه لشكل 

أفضل ممابدا عليه, 
لآلا 


ه 


١534806-8 


من التماول اللأعمى 
إلى الخبل 


25313 


و ل 


مقرم 


فترة حكم نميرى ١959(‏ -1185) هى واحدة من أبرز الفترات فى سودان ما بعد 
الاستقلال. فأولاً كانت تلك الفترة بتناقضاتهاء صورة مصغرة للخدر الروحى 31نافأمة) 
(3065]16512 التى منى بها الجسم السياسى السودانى منذ الاستقلال. ذلك داء نقسى 
يصحبه دوماً تبلد فى الأحاسيس. ثانياًء أضاع نميرىء وكل من اشتان شأنه فى تلك الفترة؛ 
واحدة من الفرص النادرة للتوصل إلى سلام دائم. فقليلاً ما توافرت لزعيم سودانى فى فترة 
ما بعد الاستقلال الفرصة لأن يكون بطلا وطنياً بلا حدود. بإرادتهء أهدر نميرى تلك 
القرضة تنام حك اندوتى أمزة من معلاه إلى ممنفلة:: 

وكما أشرنا آنفأء درجت الأحزاب فى الشمال على إلقاء اللوم على العسكريين وحدهم فى 
إجهاض الديمقراطية . فالأحزاب ما برحت تؤكد أن السودان قد شهد منذ استقلاله اثنين 
ثلاثين عاماً من الحكم العسكرى والفترات الانتقالية من حكم عسكرى لحكم مدنىء فى 
حين تولت الحكومات الديموقراطية زمام الحكم لعشر سنوات فقط. ووفق هذا التقدير 
الحسابى» تقول الأحزاب أن الأنظمة العسكرية تتحملء أكثر من الأنظمة الديموقراطية» 
القدر الأكبر من المسئولية عما حاق بالسودان من علل سياسية. تلك الحجة باطلة» كما أن 
التقدير الحسابى الذى اعتمدت عليه فاسد. وكما يقول علماء أصول الدين الفاسد يقع 
صحيحاً فى جملته ولكن تنقصه بعض الشروط ليكون صحيحاًء والباطل غير صحيح من 
أصله . فصحيح أن الحكومات العسكرية والانتقالية قد حكمت السودان على مدى اثنين 
وثلاثين عاماً من عمره منذ الاستقلال. وصحيح أن الحكم لم يتح للانظمة المدنية 
الديموقراطية» إلا لفترة عشر سنوات فقط. لكنء, بنفس القدر من الصحةء عاش السودان 


315 


على مدى اثنين وأربعين عاماً فى ظل حروب باردة وساخنة. لهذاء إن كانت الحرب هى 
علة العلل فى السودانء» فالمسئولية عن استمرارها يتحملها النظامان العسكرى والمدنى. ولكن 
من المفارق أن الفترة الوحيدة التى نعم فيها السودان والجنوب بسلام نسبى لمدة عشر 
سنوات )١1947-15177(‏ كانت خلال تولى إحدى الحكومات العسكرية الحكم. ما يعيب حجة 
الأحزاب» كما سلف الذكرء هو أن المسئول الأول عن إدخال الجيش إلى وطيس المعركة هم 
الساسة أنفسهم عندما زجوا به فى حرب أهلية سياسية الطابع كان من الممكن إيجاد حل 
سياسى لها إذا خلصت النيات» واتضحت الرؤى. ولا يكون خلاص النوايا إلا بالنأى عن 
النظرة الذاتية الخانقة» كما أن اتضاح الرؤى لا يتم إلا بالاستقصاء العقلانى للمعطيات 
الموضوعية للأزمة السودانية. تلك؛ والحمد لله الذى لا يحمد على المكروه سواه» نعم لم 
تتوفر إلا لقلة عصم ربى ممن ولوا أمر الناس. 

ثمة عوامل ثلاثة كان لها دور كبير فى استيلاء الجيش على السلطة فى 5؟ مايو ١979‏ . 
العامل الأول هو موجة الغضب ضد الأحزاب التقليدية التى سادت أوساط اليسارء وبخاصة 
الحزب الشيوعى السودانى. ونعيد إلى الأذهان قيام تلك الأحزاب بنفى أعضاء الحزب 
الشيوعى السودانى وتابعيه عن المسرح السياسىء مخالفة بذلك كل مبادئ الديموقراطية 
الليبرالية المتعارفة التى تظاهرت بقبولها نبراساً للحكم» ومخالفة أيضأ تاريخ التسامح 
السياسى الذى تميز به السودان» على الأقل فى الشمال. وسواء كان الحزب الشيوعى قد 
تواطأ بالفعل فى التدبير الماهر للانقلاب العسكرى عام :»١15175‏ أعان على بقائه بعد 
وقوعه» فتلك مسألة لاتهم. المهم هو أن أى ظن بأن الحزب الشيوعى سيذرف الدمع على 
رحيل ديموقراطية سعت لتدميره» أمر يخالف طبائع الأشياء. أما العامل الثانى فهو انتشار 
الثقافة العسكرية فى المنطقة كلها. تجلببت تلك الثقافة» مع عسكريتهاء بأردية أيديولوجية 
مختلفة» واتخذت لنفسها شعارات ومصطلحات ثورية أصبحت عند أهلها كالتمائم. من بين 
مفردات تلك الثقافة الشائعة: القومية العربية» الاشتراكية العربية» الإحياء القومى الخ. ومع 
أن تلك الشعارات فقدت صدقيتها تماماً بعد وابل من التجارب الكارثية إلا أن إنكار شعارات 
مثل الناصرية والبعثية والقومية فى الوطن العربى فى الستينيات» كان أمراً يقارب سوء 


5316 


السلوكء إن لم يعادل الهرطقة. العامل الثالث» هو هيمنة هوس الحزب الواحد فى جنوب 
القارة» كما فى شمالهاء باستثناء حالات قليلة . ساد الرأى يومذاك أن توحيد الأوعية 
السياسية فى حزب واحد هو الوسيلة المثلى لبناء الوطن والحفاظ على وحدته. وجدير بالذكر 
أن أنظمة الحزب الواحدء سواء فى أفريقيا أوالعالم العربى» أنشىءت على غرار النموذج 
الشمولى الذى انتهجه لينين» وهو النموذج الوحيد لذلك النوع من التنظيمات الذى عرفه 
العالم فى القرن الماضى. حبب ذلك النموذج إلى قلوب الناس نجاحه الظاهرى فى توحيد 
شعوب الاتحاد السوفيتى» وبناء دولة حديثة صارت قوة عظمى فى أقل من نصف قرن. 
ولعل كثيرين صدقواء كما صدق ذلك لينين نفسهءأن تلك كانت هى نهاية التاريخ. قال 
لينين: ٠«ستنتصر‏ الشيوعية فى معركة التاريخ» وعلى العالم أن يعى هذاء . 
داخل ذلك النموذج ابتلعت الدولة المجتمعء والتهم الحزب الدولة» وصار الحزب إلى أيدى 
قله مهيمنة (1211152ع2012622) تقبض وتبسطء وكان ذلك هو كعب أخيل بالنسبة لها. ومهما 
كان الرأى حول النموذج اللينينى الحزبىء إلا أنه لا يمكن إنكار مدى التأييد الذى حصل 
عليه ابتداء فى البيئة التى نشأ فيهاء ليس فقط بسبب الإنجازات التى حققها وأصبح معها 
الاتحاد السوفيتى القوة الثانية فى العالم» وإنما أيضاً لاعتماده منذ البداية على قاعدة شعبية 
راكزة. أما فى العالم العربى فقد جاءت كل أنظمة الحزب الواحد نتيجة لانقلابات عسكرية» 
بل أصبح السطو العسكرى على السلطة أداة مشروعة للتغيير السياسى» وحقيقة مسلما 
بضتدتها : المغير للسخرية: أن حلَهرت فن تلك المرجلة مدزسّة من مدارين الفكن السياسئ 
الغربى أصبحت ذات نفوذ واسع فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. تلك المدرسة 
انتحلت المعاذير لتدخل الجيش فى السياسة. أساطين تلك المدرسة كانوا ينتتمون لطرفى 
الانقسام الأيديولوجى المعروف آنذاك: اليمين واليسار. من بين هؤلاء برز صموئيل 
هنتنقتون الذى قال بنجاعة الأنظمة العسكرية فى التطوير والتحديث؛ وقراى كوان الذى برر 
الانقلااب ضد نكروما لنفس السببء والماركسى جاك ووديس الذى وقع فى الشبهات.(١)‏ 
وصول نميرى لحكم السودان كان متفقاً تماماً مع طبيعة تلك الثقافة السياسية العسكرية» 
غير أننا فى السودان لم نتبع »عند تكوين الحزب الواحدء خطى النموذج اللينينى (إن كان 
2317 


ذلك ممكنا أصلا) بل قمنا بمحاكاة النموذج المصرى المتمثل فى الاتحاد الاشتراكى 
العربى» حتى الاسم أصبح هو الاتحاد الاشترا تراكى السودانى. ولا شك فى أن شرائح كبيرة 
من النخب السودانية كانت تتطلع يومذاك إلى ناصر سودانى» شياع شبيه بذلك» يسعى 
لتحقيق نجاح مثل ذلك الذى حققه ناصر فى مصر. ولريما كان هذا هو حلم كل الذين 
ناصروا العسكر فى استيلائهم على الحكم عبر العالم العربى كله. داعبت الأحلام أيضأ 
بعض النخب فى الحكم بالوكالة (/إ0707 '() لتحقيق نقلة نوعية فى السياسة السودانية» ولا 
نخفى أنا كنا بين أولنك. هذه الأحلام تحولت إلى كوابيس مفزعة للأمة كلهاء فبإلغاء 
الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع» وبين المجتمع والحزبء وتحويل دولة المجتمع إلى 
دولة السلطة». وتقديس فكرة الوحدة الانصهارية للمجتمع» وئد التنوع والتعدد السياسى», 
ودجنت مؤسسات المجتمع المدنى؛ وقضى قضاء ميرماً على روح الخلق والإبداع والتمرد. 
كل هذه ظروف لا تصلح إلا لازدهار الانتهازية والغوغائية السياسية. ذلك الحكم يصدق 
.على كل أنظمة الحزب الواحد فى كل الوطن العربى والتى ما فتئ بعض أرياب العقائد 
العروبية فى السودان يستذكرونها بالتمجيد فى الوقت الذى يدينون فيه نظائرها فى السودان 
التى ولدت من نفس الرحم. 
انقلاب مايو قوبل بمشاعر الارتياح من جانب قطاع عريض من المجتمع السودانى لأنه 
وجد فيه خلاصاً من حالة الاضطراب السياسىء ولكنه أيضأ أثار مشاعر عدم الرضا بين 
الأحزاب التقليدية . وبدلاً عن مباركته بنفس الطريقة التى بارك بها السيدان على الميرغنى 
وعبد الرحمن المهدى حكومة عبودء بادرت بعض الأحزاب بشن ثورة مسلحة ضد النظام 
العسكرى الجديد. ذلك بالفعل ما قام به الإمام الهادى المهدى زعيم الأنصارء والشريف 
حسين الهندىء الزعيم الاتحادىء بالرغم من أن هناك من كان يصارع الشريف فى وراثة 
الأزهرى مثل الشيخ على عبد الرحمن الذى أعلن نفسه رئيساً للحزب فى القاهرة. لم يقن 
الشيخ على وريث الأزهرى: عن المطالبة بتلك الزعامة أنه كان من أوائل المباركين 
للانقلاب ‏ الثورة» إذ كتب يقول: "أنا رجل عربى الاتجاهء وقد سيطر هذا الاتجاه العربى 
المتحرر على كل تصرفاتى فى المجال السياسى منذ بزوغ شمس الحركة الوطنية فى نطاق 


5318 


مؤتمر الخريجين. فلابد والحال هذه من تأييدي وحماسي لثورة مايو المجيدة (تأكيد 
من الكاتب) التى أعلنت منذ اللحظة الأولى إيمانها بالاتجاه العربى المتحرر. كما اننى رجل 
اشتراكى مؤمن بهذا السلوك الاشتراكى منذ سنى الدراسة. فقد اقتنعت من دراساتى 
الإسلامية؛ وتفهمى لروح الإسلام وفلسفته أن الاشتراكية هى الحياة التى يدعو لها 
الإسلام.(') كل ما أدلى به الشيخ حول موقفه وتوجهاته صحيحء إذ عرف عنه الناس هذه 
المواقف طيلة حياته السياسية: إلا أن ما يفلت عن الإدراك هو أنّى للشيخ أن يوفق بين 
زعامة حزب ينعى ضياع الديموقراطية وتأييد انقلاب عسكرى عليها. ذلك الصراع حول 
وراثة الأزهرى لم يله الشريف حسينء إذ اعترف للشيخ على بالرئاسة؛ ولكنه مضى فيما 
عقد العزم على العضى فيه . 

لذلك الثنائى (الهادى والشريف) انحاز الإخوان المسلمون» خاصة بعد أن نسبوا 
الانقلاب إلى غريمهم الأكبر؛ الحزب الشيوعى.(') كنا يومذاك فى جانب نميرى من 
الخندقء إلا أن تدبرنا للأمر بآخرة» يقودنا إلى القول نأن كندى الأماء والقريف للتطاء 
الذى اقتسر منهما الحكم» كان موقفاً نبيلاً. فحقيق بأى حاكم ديموقراطى جاء إلى الحكم 
برضا الشعب أن يموت واقفاً وهو يذود عن حمى تلك الديموقراطية» كما فعل اليندى فى 
تشيلى: بدلاً من الرضوخ لمغتصبى السلطة الديموقراطية. ومن المؤسى أن التجارب السابقة 
واللاحقة فى تاريخ السودان أثبتت خلاف ذلكء حيث انحاز الديموقراطيون الحزبيون فى 
مصالحات وطنية مشبوهة» إلى العسكريين الذين أخذوا منهم الحكم غلاباً وما اناك بعضهم 
يتساقط كالفراش الحائر فى أتون نظام هو أشد الأنظمة العسكرية التى يا السودان فظاظة 
وجفاء. 

أما بالنسبة لالقوى الحديثة فقد تدفقت فى الثانى من يونيو ١174‏ فى طرقات الخرطوم 
تهال بالانقلاب» الذى أصبح اسمه ثورة مايوء كما أصبح اسم نصرائه المواطنين الثوار 
الأحرار. تلك الصفحة من تاريخ ثورة مايو طواها طى السجل للكتاب مناصرو تلك الثورة 
فى بدايتها. فعقب انهيار ثورة مايو تدفق نفس الثوار الأحرار فى الطرقات يهللون بسقوط 
نظام مايوء وإدانة جرائمه ضد الإنسانية» وكأن واحدآ من الأهداف التى أعلاها المرحبون 


25319 


بذلك النظام فى الثانى من يونيو ١575‏ كان هو تبجيل الإعلان العالمى لحقوق الإنسان. 
ذلك التشويه للحقائق ما كان يستحق منا أكثر من تذييل فى هذه الصفحة:؛ لولا قيام بعض 
السياسيين اليساريين» ومحللى السياسة الزائفين» بتأويل أحداث التاريخ بشكل لولبى؛ إما 
بهدف تبرئة النفسء أو إثبات حكم مسبق تنقضه الدلائل. تلك أيضأ هى الأيام التى طغى 
فيها على ساحة السياسة شعار الشرعية الثورية التى تبيح إهدار حقوق الأفراد والجماعات 
باسم ثورة الجماهير والشرعية الثورية شعار لم تعرفه الثورات الليبرالية» بما فى ذلك الثورة 
الفرنسية» إذ كان الفقهاء الدستوريون لتلك الثذورة يصفون تحللها من كل الضوابط القانونية 
والإجرائية ب حكم الرعب (:20مء] 4ه «واء8) واقع الأمر 0 أوا ل من ابتدع ذلك الشعار هو 
فيشنيسكى فى عهد الرعب الستالينى» ولكن نظلم نظام مايو كثيراً إن قلنا أن عنفه الثورى 
كان يدانى بأية درجة العنف الدموى الذى سعى فيشينسكى لتقنينه. وبصرف النظر عن 
الأصول التاريخية لشرعنة العنف الثورىء نلمس فقدانآ كاملاً للشجاعة الأدبية» من جانب 
"المواطنين الأحرار الثوار فى الاعتراف بأخطاء ماضٍ شاركوا فى صنعه . القراءة الانتقائية 
لأحداث التاريخ لا تضعف فقط من قدرات المحلل السياسى النقدية على التقويم الصحيح 
للماضىء بل تحول أيضاً دون استشرا افه المستقبل استشرافاً رشيداً. فالمحلل الذى يصطفى 
الأخنداث ترهقة: لا محالة؛ قحرة تعفى البضدز عن رؤية الصوزة الكاملة: فى نين أن 
استنفار الأسئلة حول الظروف والملابسات التى قادت لنظام مايوء والتمعن فى دور كل 
فريقء ليس فقط فى صنع الانقلاب وتثبيت قواعد الحكم الذى أنشأه» وإنما أيضاً فى تمكينه 
من بعد» كان سيكون أكثر فائدة فى تقويم تلك الفترة الهامة من تاريخ السودان. 

على أية حال» سعى النظام منذ بداية عهده إلى التخلصء ما أمكنه ذلكء من كل 
مؤسسات الماضى لكيما يؤسس بدلها نظام سياسيا جديداً. أدان الأحزاب التقليدية والحكام 
السابقين» وأمر بالقبض على كثير منهم؛ كما أمر بفصل عدد كبير من موظفى الخدمة 
المدنية» إما بتهمة عدم المواكبة لالثورة» أو عدم إخلاصهم فى العمل. قام النظام أيضآ 
بمصادرة أموال بعض أفراد الطبقة الحاكمة السابقة» خاصة أولئك الذين أعلنوا الحرب 
ضده . ومن أجل كسب رضاء عامة الشعبء انتهج نميرى فى سياسته أسلوباً شعبوياً توجه 


2320 


به إلى دغدغة أحاسيس الجماهيرء خاصة بإيلائه الاهتمام لبعض القضايا الحياتية المباشرة 
مثل محاربة العطش فى غرب السودانء وتوفير التعليم لكل محتاج إليه. بسبب من كل هذاء 
اكتسب نميرى قبولاً كبيرأً لدى الناسء بل شق طريقه إلى قلوب الملايين» حتى فى بعض 
مناطق نفوذ الأحزاب التقليدية. ولا شك فى أن نميرى كان بارعا عندما تلمس المشاعر 
السياسية للجنوب فقام» كما فعل نظام أكتوبر من قبلء بإعطاء الأولوية لحل "المشكلة 
الجنوبية . وفى هذا الأمر بالذات» كان نميرى ناجحاً فى ترتيب الأولويات؛ فالاستقرار 
السياسىء والوحدة الوطنية» والتنمية لا سبيل لتحقيقهمء أو تحقيق أى واحد منهم» دون 
وضع حد لإراقة الدماء. 


كان نميرى أيضاً يتمتع بصفتين أخريين ن: الحسم والرجولة (101550ع503): دون أن 
تصحب هاتين الخصلتين فضيلة الحكمة أو الالتزام بأية مبادئ سامية. كان آنذاك طاغيةء 
ولكنه كان طاغية (05ا995321)) بالمعنى الإغريقى للكلمة . فأصل الكلمة (0/200) فى اللغة 
الإغريقية هو فتوة البلد الذى يتبنى قضايا المظلومين أو المضطهدين ضد النبلاء» وفى 
سبيل ذلك لا يتورع عن إلحاق الإهانة بالنبلاء. ولا شك فى أن نميرىء فى بداية العهد. 
كان ذا اهتمام بالغ بقضايا المظلومين» وكان الثوار الأحرار يطلقون على هولاء نعت 
المسحوقين. ولم يجد نميرى حرجا فى تأكيد انتمائه العضوى لهؤلاء "المسحوقين» ومن 
ذلك إشارته إلى أصله ونشأته» بهما كان يفاخر ولم يمسكهما على هون. وكانت تلك من 
بعض حسناته. لم يرفق نميرى أيضأء فى سعيه لإنصاف المسحوقين» بمن حسبهم من 
القالمين» بل أوغل فى قيرع لما المباذي السامية فعد تركها ميري لمعيه الذين 
تداعوا للنظام من كل فج عميق وانتهوا بالتماهى معه. كانوا من أقصى اليسار إلى أقصى 
اليمين: ولهذا ظل يتأرجح من الشمال إلى الوسط إلى أقصى اليمين. ففى ضربة البداية» 
كا تيرق يسازنا مستهزيا عدرداء وعد رخلة فن امه الوطط اندين ب االتطافت فى سكعي 
١‏ إلى يمين اتيلا الهونى ملك المغول. تلك هى المرحلة التى بلغ فيها محطته الأخيرة. 
ففى رحلته الطويلة» بدأ نميرى بالناصرية» وانتهى إلى الخرافة والبدية (575ذط6015) فى 
تلك المرحلة تحول نميرى إلى أميرء بزعمه» للمؤمنين؛ مما أفقده تأييد الشمال والجنوب فى 


521 


آن واحد. ففى الجنوب أعادت إمامة النميرى التى تبعت إلغاء اتفاق أديس أبابا ذكريات 
الدستور الإسلامى فى الستينيات» وقادت مجدداً إلى مقاومة مسلحة للنظام. أما أهل الشمال 
- بمن فيهم من ناصر نميرى فى البدء ‏ أخذوا يقولون: من الخير لنا أن نعيش فى ظل نظام 
ديموقراطى مفتوح تحت وطأة إمامين مدنيين (زعيمى الطائفتين) لديهما قدر من الرحمة: 
بدلاً من المعاناة فى ظل إمامة مشكوك فيهاء ويملك صاحبها سلطات بلا حدود. وفى 
النهاية ‏ وتحديداً فى 5 أبريل 1145 أقصى نظام نميرى عبر انتفاضة شعبية ووسط 
مشاعر حماسية لا تقل فى عنفوانها عن تلك التى استقبل بها فى مايو1515 . حدث هذا 
فى وقت كان يعتقد فيه المشير أمير المؤمنين بأن ليس فى السودان من يقدر على تحديه أو 
الاعتراض على حكمه. لم يدرك أن فى مقدور الطغاة قهر البشر لبعض الوقتء ولكن لا 
يمكنهم أبداً قهر العزيمة الإنسانية. 


ره 
النميري والجنوب 


عقب إعلان نواياه فى التوصل إلى حل سلمى للمشكلة الجنوبية» عين نميرى وزيرين 
جنوبيين فى حكومته (أبيل الير وجوزيف قرنق)» واحد منهما تولى الإشراف على وزارة 
مستحدثة أسميت وزارة.شكون الجنوب. القرار بإنشاء تلك الوزارة؛ إذا ما خرجنا به من 
إطاره التاريخى» يعد قراراً بسيطاً يمكن إرساله على البديهة» ولكن السياسة السودانية ذات 
طبيعة تخالف البدائه . نعيد إلى الذاكرة» مثلاًء رفض الأحزاب الشمالية السياسية أثناء 
تسابقها نحو الاستقلال مقترحاً تقدم به بوث ديو إلى لجنة الدستور طالب فيه بتعيين وزير 
للشئون الجنوبية يسانده مجلس استشارى يناقش مع الوزير الأمور المتعلقة بالجنوب؛ على 
أن يختار الوزير أعضاء المجلس من بين الشماليين والجنوبيين. ذلك الاقتراح رفضه حزب 
الأمة والحزب الوطنى الاتحادىء وهكذا انتظر قرار إنشاء وزارة ترعى شكون الجنوب 
ويشرف عليها وزير جنوبى انقلاباً عسكرياً على الحكم الديموقراطى بعد خمسة عشر عامآ 
ليدخل فى حيز التنفيذ. وفى التاسع من يونيو179١‏ أصدر نميرى إعلانه الشهير الذى 


25322 


اعترف فيه بالاختلافات التاريخية والثقافية بين الشمال والجنوبء وأكد فيه أن الوحدة بين 
شقى القطر لا يمكن أن تقوم إلا على الاعتراف بتلك الاختلافات» كما وعد فى إعلانه: 
بحكم ذاتى إقليمى للجدوب. ويما أن الحزب الشيوعى قد لعب دوراً هاما فى صياغة ذلك 
البيان» لم يفلت البيان من التأثر بالشعارات الشيوعية السائدة» رغم أن البيان كان إنحرافاً 
محموداً عن التصريحات السياسية الخاوية التى كانت تصدر فى الماضى حول مشكلة 
الجنوب. مثال ذلكء إشارة الخطاب إلى ضرورة تشكيل حركة ديموقراطية ذات توجه 
اشتراكى فى الإقليم حتى يترسخ النموذج المثالى لحكم الإقليم. 

شهدت» من بعدء نهاية العام 197١‏ أكثر الأحداث أهمية فى تاريخ العلاقات الشمالية ‏ 
الجنوبية بعد مؤتمر المائدة المستديرة . تلك هى الفترة التى انعقد فيها أول اجتماع علنى بين 
ممثلين عن الحكومة» وممثلين عن حركة تحرير جنوب السودان عقب مشاورات ولقاءات سرية 
فى لندن» بتوسط من مؤتمر كنائس عموم أفريقيا .(كعطاععنن) 1ه ععمعوع كمه وعقله |الذ) 
الاجتماع الأول تم فى جو من التفاؤل بمدينة أديس أبابا تحت رعاية امبراطور أثيوبياء 
هيلاسلاسى؛ وفى ظل مستجدات داخلية هامة» على رأسها حل مجلس قيادة الثورة» وانتخاب 
نميرى رئيساً للبلاد فى ١7‏ أكتوبر 147١‏ . وكان من أول القرارات التى اتخذها نميرى عقب 
تنصيبه رئيسأء تعيين بابكر عوض الله نائبأ أول له» وتعيين ابيل الير نائباً للرئيس أيضاً. تلك 
أيضاً كانت هى المرة الأولى التى اعتلى فيها جنوبى منصباً كهذا منذ الاستقلال. وعلنا نشير 
إلى أن مقشرحاً بدخصيص منصب نائب الرئيس لأحد الجدوبيين كان قد طرح فى مؤتمر 
المائدة المستديرة» إلا أنه أغفل إغفالاً كاملا من جانب الأحزاب الشمالية الحاكمة. تولى أبيل 
الير ذلك المنصبء إلى جانب منصب وزير شىءون الجنوب» ليحل مكان جوزيف قرنق الذى 
أغدم انح مستمازلة انعلا ت :19 يزليو من دقن اننا + إتشافنة إلى ذلك عين مدر كلاثة مو 
السياسيين الجنوبيين كحكام لولايات الاستوائية» وأعالى النيل» وبحر الغزال» وأصبح الثلاثة ‏ 
بيك متاشههم ‏ امسج قن لجس الور ادس ركان تبنم الذقاء للفو من موقكن القدمة 
العامة الأكفاء» دون يتمهن أى واحد منهم فى السلك الإدارى. فقد أصبحء مثلاء هيلارى باولو 
لوقالى الذى خدم من قبل كموظف فى الخدمة المدنية وكنائب برلماني ووزير» حاكماً على 


25323 


الاستوائية؛ وأصبح توبى مادوتء الطبيب» حاكماً لبحر الغزال» كما أصبح لويجى أدوك؛ المعلم 
وعضو مجلس السيادة السابق» حاكماً على منطقة أعالى النيل. وكان قرار حكومة مايو فى 
جنوبة وظائف حكام الإقليم الجنوبى» ومنهجها فى انتقاء أولنك الحكاو وكيد كل لبعد عن 
الأسلوب الذى اتخذته أول حكومة ديموقراطية حين أنكرت- بناء على نصيحة اتحاد الإداريين 
السودانيين الشماليين ‏ حق الجنوبيين فى تولى المناصب الإدارية العليا باعتبارهم ناقصى 
كفاءة. ذلك القرار» كما أسلف الذكرء اتخذ رغم توصيات لجنة قطران بترفيع الجنوبيين فى 
المناصب الإدارية. ولم تكن الحكومة الديموقراطية الثانية أحسن حالاً إذ خضعت أيضأء كما 
ذكرناء لتهديدات ضباط الحكومة المحلية الشماليين بالاستقالة الجماعية» فى حال ترقية 
الجنوبيين غير المؤهلين لملء الوظائف التى كان يشغلها أولنك الضباط. 

تبع كل هذه الخطوات اتفاق أديس أباباء الذى أضاء نور الأمل فى التوصل إلى تسوية 
سلمية لمشكل الجنوب»ء وهو أمل خبا بعد إجهاض مبادرات حكومة أكتوبر. وياعتراف 
الكثيرين _ حتى من بين الذين لا يرون خيراً فى الأنظمة العسكرية _ يمثل اتفاق أديس أبابا 
إنجازاً تاريخيء خاصة بعد أن ثبت ذلك الاتفاق على مدى عشرة أعوام . هذا الإنجاز العظيم 
انهارء فى النهاية» على يد صانعهء أو بالحرى الرجل الذى صنع الاتفاق فى عهده . ويرجع 
ذلك الانهيار إلى نظرة نميرى للسلام أكثر مما يرجع إلى آليات الاتفاق. فما هى الدوافع 
التى حملت نميرى على الحماسة فى تبنى قضية السلام؟ 

عوامل عديدة لعبت دوراً أساساً فى دفع نميرى للتوصل إلى سلام فى عام ١197/١‏ . على 
رأس تلك العوامل كان تعرض النظام لصدمات عديدة أته من كل اصعوك وكدت ففى ١5‏ 
يوليو 1911 كانت هناك محاولة الانقلاب الذى ساد الاعتقاد بأن الحزب الشيوعى السودانى قد 
حرض عليه؛ وأن العراق وفر له الدعم لمشاركة بعض العناصر البعثية فيه.(؛) وفى الجنوب 
كانت حركة أنيانيا بقيادة جوزيف لاقو تكسب المزيد من الأرضء وتمثل تهديداً مباشراً لنظام 
ناشىء اجتمعت ضده كل القوى التقليدية فى الشمال. فقبل انقلاب 191١‏ بعام واحدء واجه 
النظام ثورة الأنصار التى تزعمها الإمام الهادى المهدى. ولاشك فى أن تضييق الخناق على 
أى شخص أمر لا يبهج» فما بالك برجل ذى رغبة فائقة فى حب البقاء. أما فى الجنوب فقد 


324 


كان جوزيف لاقوفى وضع صعبء هو الآخرء خاصة إزاء موقف الرئيس الأوغددى عيدى 
أمين نحوه . فمن جانب» اعترى أمين قلق متزايد بسبب استخدام الإسرائيليين لأراضى بلاده 
لتسليح أنيانيال") كما قدرء من جانب آخرء أنه بإيقاف الدعم اللوجستى لحركة الانيانيا قد يفلح 
فى إقناع نميرى بتسليمه الرجل الذى أطاح به من كرسى الحكم (ميلتون أوبوتى) » وانتهى به 
المطاف إلى السودان وطابت إقامته فيه. وحسبما ذكر تقرير نشرته مؤخراً إحدى الصحف 
اليومية الأفريقية» كان أهم عوامل التدخل الإسرائيلى فى الصراع الجنوبى: انحياز نظام 
نميرى السافر أمصرء ولعبد الناصر بوجه خاص!'). فى ظل تلك الظروفء ودون تقليل من 
رغبة النظام فى إنهاء الحمربء تولدت الرغبة لدى الطرفين المتخاصمين للجلوس معاً على 
مائدة التفاوض بهدف الوصول إلى تسوية للمشكلة . إدراك هذه الظروف مهم لمعرفة البواعث 
الذاتية التى حملت نميرى للحماسة لحل مشكلة الجنوب. 

وفى التاسع من نوفمبر 1917١‏ فى أديس اباباء أثيوبياء اجتمع ممثلو مؤتمر كنائس عموم 
أفريقياء ومجلس الكنائس العالمى» وحكومة السودانء والحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان 
فى لقاء تحضيرى لاستكشاف مواقف الطرفينء والتعبير عن رغبتهما المتبادلة فى تحقيق 
السلام. مثل الحكومة فى الاجتماع ابيل الير» منصور خالدء جعفر محمد على بخيتء اللواء 
محمد الباقر أحمدء عبد الرحمن عبد اللهء ميرغنى سليمان» كمال أبشر. كما مثل الجنوب 
ازيونى مونديرى قوانزاء لورنس ول ول» مادينق دى قرنقء اوليفر البينوء انجيلو موقا 
مرجانء بول بيوت» جوب اديير دى جول. وشارك كمراقبين وشهود على الاتفاق نبيولول 
كفلى كممثل للامبراطورء ليوبولد نيليوس (أمريكا اللاتينية) عن مجلس الكنائس العالمى» 
كودو انكرا (غانا) عن مجلس الكنائس أيضأء بيرجس كار (ليبيريا) الأمين العام لمؤتمر عموم 
الكنائس الأفريقية» وصاموييل بووقو ممثلاً لمجلس الكنائس السودانية. كما تولى القس بيرجس 
كار إدارة الجلسات كرئيس وسيط .(72006302)ذلك اللقاء انتهى باتفاق الجانبين على 
الشروع فوراً فى المفاوضات فى اجتماع تمهيدى عقد فى ٠١‏ يناير 11177 بمدينة أديس ابابا. 
فى ذلك الاجتماع التمهيدى أعلنت الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان التزامها بوحدة 
السودان» كما أبانت» من وجهة نظرهاء المقومات اللازمة لتمتين هذه الوحدةء وتحقيق 


225 


المصالح المشروعة للجنوب. وبالفعل إنطلقت المفاوضات فى الثانى عشر من فبراير ١191؛‏ 
وانتهت إلى ما أطلق عليه فيما بعد اتفاق أديس أبابا .(لممععة قطقطة 40015) ورغم سهام 
النقد العديدة التى وجهت لتفاصيل الاتفاق _ خاصة بعد انهياره _ ظل الاتفاق معلماً هاما 
وبارزاً فى تاريخ السلام فى السودان لأنه؛ إن لم يكن لأى سبب آخرء كشف عن إمكانية 
وصول السودانيين بأنفسهم لحل مشكلهم حلا متفاوضاً عليه فيما بينهمم 

تمثلت النقاط الجوهرية فى الاتفاق فى بنود قانون الحكم الذاتى لجنوب السودان لعام 
7 . ذلك القانون أقر تشكيل الإقليم الجنوبى من مديريات بحر الغزال والاستوائية 
وأعالى النيل حسب الحدود التى كانت عليها فى أول يناير557١ء‏ أى فى بداية الاستقلال؛ 
واختيار مدينة جوبا عاصمة له. كما نص على أن يتولى إدارة الإقليم مجلس تنفيذى عال 
تشرف عليه جمعية تشريعية إقليمية (مجلس الشعب الإقليمى) تتمتع بصلاحيات واسعة 
للإشراف على كل جوانب الإدارة باستثناء الدفاع» والشئون الخارجية؛ وسك العملة» والنقل 
الجوى الدولى والإقليمىء والاتصالاتء والجمارك والتجارة الخارجية» والجنسية والهجرة. 
والتخطيط الاقتصادى الوطنىء والمراجعة العامة. فيما عدا هذا حدد القانون فى عشرين 
فقرة السلطات المخولة للإقليم فى الزراعة؛ والصناعة» والصحةء والتعليم» وتخطيط المدن, 
والتجارة الداخلية» والإدارة والأمن» والسياحة» وصحة الحيوان وتطوير الثروة الحيوانية؛ 
والأراضىء وصيانة البيئة» والغابات» والموارد الطبيعية المعدنية دون إخلال بحق الحكومة 
المركزية فى حالة اكتشاف البترول والغاز. ونعيد للذاكرة أن المقترحات الخاصة بمنح 
الجنوب سلطات إدارية وتشريعية مثل هذهء سبق ان رفضتها الاحزاب فى مشروع دستور 
»؛ واقترحت مكانها صورة هزلية لحكم ذاتى إقليمى. 

ويجدر بالذكر أن الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان كانت قد اقترحت فى بداية 
المفاوضات تقسيم السودان إلى أربعة أقاليم (الشمال» الجنوب» الشرقء الغرب)» ولكن ذلك 
المقترح قوبل بالرفض من جانبنا فى وفد الحكومة» وكان ذلك قراراً خاطئاً. ولربما كان هو 
الإجراء الصحيح الواجب أن نتبعء فخلق أريعة مراكز للسلطة كان سيساعد على إنهاء 
الاستقطاب الشمالى - الجنوبى» وعلى خلق بؤر متعددة للضغط على السلطة المركزية 


5326 


بهدف إنهاء هيمنتها الطاغية على الأقاليم. ولا ريب فى أن المفاوضين الجنوبيين قد أفادوا 
فائدة كبيرة من النصائح التى قدمها لهم السير دنقل فوت (")؛ الأخ الأصغر لزعيم حزب 
العمال مايكل فوتء والقانونى البريطانى البارز الذى شغل منصب مساعد النائب العام فى 
إحدى حكومات حزب العمال. 


من بين القضايا التى فرضت نفسها على المؤتمر بصورة مقلقة؛ قضية اللغة. كان من رأى 
يسن أخضاء الوفد الجنوبى» وبوجه خاص مادينق دى قرنق» اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة 
رسمية للجنوب؛ ففى رأيه أن اللغة العربية ما هى إلا لغة أجنبية. ونذكر سؤالاً توجهنا به 
لمادينق: "أجنبية فى نظر من؟ ليس بالطبع فى نظر أفريقياء لأن العربية ‏ مهما كان منبعها ‏ 
هى اليوم لغة معترف بها كلغة أفريقية فى منظمة الوحدة الأفريقية ومنظمة اليونسكو. كان 
وَاضَحاً فى أذهان بعضنا أن اللغة العربية كانت مدانة بالتداعي (120100ع3550 لإ6 /إ)ااناع)» 
بحسبانها لغة الطبقة المهيمنة سياسياً على الجنوب؛ ولهذا أخذ الجنوبيون ينظرون إليها كأداة 
من أدوات الهيمنة. وكان لجعفر بخيت (أحد المفاوضين الشماليين) تعليق حاذق على مادينق؛ 
قال جعفر أنه من المسئ أن ترفضوا لغة سودانية اصطلح عليها أهل السودان كوسيلة للتفاهم 
بين بعضهم البعض فى الشمالء وفيما بين السودانيين الشماليين والجنوبيين. كما أنه من غير 
اللائق أن تقترحوا مكانها لغة أوروبية أجنبية تتحدث بها أقلية من المتعلمين. ومضى جعفر 
يقول: كان من الممكن قبول وجهة نظركم لواقترحتم كبديل للعربية لغة الديتكا أو الزاندى. 
وفى النهاية تم التوصل إلى اتفاق بشأن مسألة اللغة ضضمن فى الاتفاقية (المادة السادسة من 
الباب الثالث) على الوجه التالى العربية هى اللغة الرسمية للسودان؛ والإنجليزية لغة عمل 
رئيسية للإقليم الجنوبى دون الإخلال بحق الجنوب فى استخدام أى لغة أو لغات أخرى يمكن 
الاعتماد عليها فى تلبية ضرورة عملية؛ أو تعين على الأداء السريع والفعال لمهام تنفيذية 
وإدارية فى الإقليم. ولا شك فى أن فى هذا الحوارء وما انتهى | ل ع 
باحث سودانى مرموق بأن اتفاق أديس أبابا أغفل قضية التنوع اللغوى فى السودان .0" 
فإضافة إلى المادة السادسة من الاتفاقية التى أصبحت جز زءاً لا يتجزاً من الدستور (ضمنت 
الاتفاقية فى الدستور كقانون أسانئئ (/3ها عأتصدعءه) لا يعدن إلا على الوجه الذى غدل به 


25327 


الدستور) » خولت أيضاً المادة العاشرة من قانون سلطات مجلس الشعب الإقليمى لذلك المجلس 
الحق فى إصدار التشريعات حول الأمور التى تتعلق بالأعراف واللغات والثقافات المحلية. 
الأمرالذى يثير الدهشة حقآء هوأن موضوع الدين لم يطرح مطلقاً على مائدة المفاوضات» 
رغم أنه لم يكن غائباً عن أذهان الطرفين. ولربما كان لطبيعة النظام "العلمانية أثر فى ذلك» 
إذ لم تنتب الطرف الجنوبى أى مخاوف من هذه الناحية. ولريما لوكانوا يعلمون الغيب 
ويستشرفون ما كان سيكول إليه أمر نميرى فى عام 1187 لاستكثروا من الخير. وعلى كل» 
يؤكد هذا دعاوانا بأن الدين لا يصبح عائقاً لوصول إلى اتفاق سياسى إلا إن أقحم فى السياسة 
كما حدث فى عام ١1354‏ وكما ظل الحال منذ أن أشعل نميرى نار الفتنة فى سبتمبر/ أيلول 
١47‏ . 

اختتمت اجتماعات أديس أبابا فى 77 فبراير بتوقيع الاتفاق فى حضور الإمبراطور هيلا 
سيلاسىء وتنفيذاً للاتفاق تم بالفعل إدماج ستة آلاف جندى من حركة أنيانيا فى صفوف 
الجيش السودانى» ليتحقق بذلك حلم إنهاء الحرب بين الشمال والجنوب فى ١7‏ مارس 
7 »؛ ويخطو السودان أولى خطواته نحو السلام» أو هكذا اعتقدنا. إعادة الأمن والإستقرار 
كانت هى أهم الإنجازات المباشرة التى تمخض عنها اتفاق أديس أباباء خاصة وقد دارت 
المفاوضات فى مناخ من عدم الثقة بين المتحاربين. ورغم الهنات الشاردة؛ تحقق 
الاستقرار النسبى الذى مكن مئات الآلاف من اللاجئين من العودة إلى السودان بشكل 
مرض؛ كما تمت إعادة بناء الدولة فى الجنوب» وعاد إليه الموظفون الحكوميون الذين 
استقروا فى الشمالء او حملوا على البقاء فيه. إضافة إلى ذلك عادت إلى الجنوب من منفاها 
الكوادر الفنية» والتى ما كان للإدارة الجديدة أن تعمل بصورة فاعلة بدونها. وعلى المستوى 
السياسى عين نميرى أبيل الير رئيساً للحكومة الإقليمية الجنوبية» واستوعب قائد حركة 
انيانيا سابقأء جوزيف لاقوء فى الجيش بعد ترقيته إلى رتبة اللواء وتعيينه مفتشأً عامآ 
للجيش. وبعد فترة قليلة» أوكلت إليه مهمة قيادة الفرقة العسكرية الجنوبية» وكانت تلك هى 
المرة الأولى منذ الاستقلال التى يحتل فيها عسكرى جنوبى ذلك المنصب. قرار نميرى 
بترقية لاقو ثم تعيينه قائداً للقيادة الجنوبية» كان قراراً سياسياً بارعأء ولعله لولجأ إلى 


25328 


مستشاريه العسكريين لكان لهم فى الأمر رأى آخر. كانوا سينظرون للأمرمن منظار 
بيروقراطى محدود لا يرى غير قواعد الأقدمية فى الجيشء والتى ربما لم تكن تهىء لاقو 
لتلك الترقية. 

أكثر المهمات عسراأ أكانت هى إعادة تأهيل المجتمع المدنى والبنية التحتية» إلا أنه أيضاً 
تم اتخاذ خطوات واسعة فى إعادة بناء الإقليم الجنوبى» وكان المجتمع الدولى فيها خير 
عون للسودان. وكنا فى وزارة الخارجية قد أعطينا مهمة تعمير الجنوب أولوية قصوى قبل 
الاتفاق بكثيرء إذ كان من رأينا أن أى اتفاق لا تصحبه خطة لإعادة بناء الجنوب وتأهيله 
وتوطين لاجديه ونازحيه ستمنى بالفشل. توجهنا فى البدء لكبرى المنظمات الدولية 
المانحة؛ بحكم علائق قديمة» لترعى مؤتمراً لتعمير الجنوب قبل الاتفاق» لا بعده . فى ذلك 
الجهدء أعاننا كثيراً الأمير صدر الدين خان» المفوض السامى للاجئين. ومن بعد اتجه بنا 
السير إلى الدول المانحة» خاصة دول الشمال التى شارك منها فى مؤتمر إعادة التأهيل» 
الأمير هنرىء أمير الدنمارك: إلى جانب صدر الدين خان. وفى إطار الخطة التى أعدها 
المؤتمر أسهمت دول عديدة عبر المعونات الثنائية» والمعونات متعددة الأطراف؛ فى تمويل 
برامج التنمية فى القطاع الزراعىء وتعمير البنى التحتية» وتوطين اللاجئين: كما أوفد 
برنامج الأمم المتحدة للتنمية (117/15) واحداً من أميز رجاله» بول مارك هنرى (السفير 
الفرنسى السابق) للإشراف على إعداد برنامج متكامل لبناء الجنوب. ففوق أنه خبير تتموى 
معروفء, كان هنرى ذا خبرة واسعة بالبيئة السودانية. ومن جانبهء أعلن البنك الدولى 
مبادرة كبرى لتنمية الإقليم» وقام رئيسه» رويرت مكنماراء بزيارة للخرطوم وجويا أصبح 
السودان بعدها ثانى أكبر الدول التى تتلقى معونات من البنك الدولى على مستوى الفرد 
(بعد الهند) . بفضل كل تلك الجهودء وخاصة جهدد الحكومة الإقليمية فيما بعدء حقق 
الجنوب اكتفاء ذاتياً فى الغذاء بحلول 14717 » وزاد عدد المدارس الثانوية أربعة أضعاف عما 
كان عليه . هذا فى حد ذاته لم يكن كافياًء إن أخذنا فى الاعتبار النقطة المتدنية التى كان 
عليها التعليم فى الجنوب يومذاك. تم كذلك إنشاء العديد من المدراس المهنية للمدرسين» 
والحرفيين؛ والمساعدين البيطريين» وعمال الإرشاد الزراعى؛ مما جعل من الجنوب جزءا 


329 


طبيعياً وفاعلا داخل المنظومة السياسية/ الاقتصادية فى السودان. ولكن يا للحسرة؛ لم يدم 
ذلك الحال طويلا. 

نجاح التجربة» بشكل جزئى» كان يتوقف على قدرة الحكومة الجنوبية فى تحقيق خطط 
التنمية بصورة مرضية. هذه القدرة لا تنبعث فقط من كفاءة البيروقراطية الفقزيية وإنما 
تعتمد أيضاً على توفر الموارد المالية . وقد نصت المادة 76 من قانون الحكم الذاتى الإقليمى 
على أن مصادر تمويل الحكومة الإقليمية تجىء من الضرائب المباشرة وغير المباشرة التى 
يتم تحصيلها فى الإقليم» وإسهامات المجالس الحكومية المحلية» وإيرادات المشروعات 
التجارية والصناعية والزراعية فى الإقليم» وكذلك إسهامات الخزانة العامة» وميزانية التنمية 
المخصصة للإقليم الجنوبى. يخلد بالذكر أن أحد المفاوضين الجنوبيين فى أديس أبابا كان 
قد اقترح فرض ضرائب على كل الجنوبيين» بصرف النظر عن محل إقامتهم» وكانت تلك 
إشارة للجنوبيين وأحفاد الجنوبيين الذين يعيشون فى الشمالء إلا أن ابيل الير كان حكيمآً 
عندما اعترضض بشدة على الاقتراح. ولربما كان واضحاً فى ذهنه أن الاقتراح سيثير من 
المشاكل ما لم يكن بحسبان المقترحينء إذ كيف سيحدد من هم الجنوبى فى سمال السودان. 
ولا شك فى أن الذى خطر على بال أبيل هو مئات الآلافء إن لم يكن الملايين» من أحفاد 
الجنوبيين الذين أصبحوا شماليين بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ولعل أغلب أهل الشمال لو 
عادوا جميعاً بأنفسهم بضعة قرون للوراء للتفرس فى أصولهم لوجدوا أنه كان سيكون لهم 
نصيب كبير فى تلك الجنوبة التى استمسك بها المفاوض الجنوبى المتعنصر. وعلى أى» 
فبقبول اعتراض ابيل الير على الاقتراح تقرر فرض الضرائب على كل المقيمين فى 
الجنوب بمن فيهم الشماليين. ولكن رغم كل النصوص القانونية حول مصادر التمويل» فإن 
الجنوب الذى أنهكته الحرب» ودمرت طاقاته الاقتصادية تدميراً كاملاًء لم تكن لتتوفر له 
فى ظل تلك الظروف أوعية اقتصادية تجبى عليها ضرائب ذات وزن. لهذا كان من 
الضرورى ‏ على الأقل فى المرحلة الأولى ‏ اعتماد الإقليم على دعم الخزانة العامة 
وميزانية التنمية الخاصة. هذا لم يكن بالأمر الهين؛ فخلف الأسوار فى أروقة الحكم فى 
الخرطوم شبت نيران حرب أهلية بيروقراطية والاتفاق لما يبرم بعد. كان العروبيون داخل 


2330 


النظام غاضبين أشد الغضب من محادثات أديس أباباء ولولا إصرار نميرى على المضى 
قدمآ بتلك المحادثات لما كفوا عن معارضتهم للوفاق على الوجه الذى تم به. مع ذلك» 
بذلت تلك الجماعة جهد طاقتها لإحباط الاتفاق منذ المراحل الأولى للمفاوضات. ففى البدء 
كان واحد من مآخذهم على قبولنا للحوار» إعترافنا بحركة التمرد ك حركة تحريرء أى 
قبولنا فى البيانات المشتركة للاسم الذى أطلقته تلك الحركة على نفسها. وفى الرد على 
أولئك» قلنا إن التسميات يجب ألا تصرفنا عن جوهر الموضوع. نقطة الخلاف الأخرى. 
قبل بدء المحادثات» كانت تدور حول وقف إطلاق النار بهدف تهيئة المناخ للمفاوضات» 
وكان من رأى المعارضين لوقف إطلاق النار أن ذلك الإجراء سبيضعف من الروح المعنوية 
للجيش .ومن الغريب صدور ذلك الرأى عن بعض الساسة المدنيين» رغم استعداد نميرى 
والقيادة العليا للجيش للموافقة عليه(؟) . ذلك الموقف يتطابق مع الموقف الذى اتخذته 
الأحزاب الشمالية فى لجنة الاثنى عشر فى الستينيات. 

محاولات التقليل من شأن الاتفاق» إن لم تكن الرغبة فى إجهاضه؛ جاءت أيضاً من 
بعض مسئولى وزارة الخزانة العامة. ذلك أمر فطنا له منذ البداية» فكان القرار بتأسيس 
صندوق خاص لترقية الجنوب لا يخضع لهيمنة الخزانة العامة تفادياً لأسلوب رجالها فى 
التقتير فى الإنفاق (/ا031511202)» وذلك أسلوب عرفت به وزارات المال عبر العالم. وفى 
حال السودانء أضاف إلى ذلك الهم أن وزير المالية» الراحل موسى المبارك؛ كان ينتمى 
إلى جماعة العروبيين التى لم يرق لها الاتفاق. أما الموظفون الحكوميون داخل وزارة 
المالية» فلريما لم تكن تدفعهم لتعويق الاتفاق اعتبارات أيديولوجية كوزيرهم؛ بقدر ما كانوا 
يعانون من متلازمة (58/007057) التقتير التى أشرنا اليهاء لاسيما واتفاق أديس أبابا وقانون 
الحكم الذاتى لم يتركا لهم مجالآ لإبداء الرأى حول الطريقة التى يتم بها إنفاق أموال 
يشرفون عليهاء حتى وإن كان ذلك باعتبارهم أمناء (1505]665) على المال لا متصرفين 
فيه. أنشىء الصندوق كجهاز خاص ومستقلء وكانت أولى الودائع فيه تبرع قدمه السلطان 
قابوس» سلطان عمان أودع فى وزارة التجارة تحت إشراف وزيريها القادرين» إبراهيم منعم 
منصور والشيخ حسن بليلء بدلاً من وزارة المالية» ثم حول للصندوق عند إنشائه» وإيكال 


25331 


أمر إدارته لمأمون بحيرى. بعد ذلك انهالت التبرعات على الصندوق من الهيئات 
والمؤسسات الدولية والدول العربية( الكويت» دولة الإماراتء المملكة السعودية)» كما مد يد 
العون للصندوق أيض ا الإمبراطور هيلا سيلاسىء امبراطور أثيوبيا؛ الملك الحسنء ملك 
المغربء والرئيس نيريرىء رئيس تنزانيا. وبما أن أغلب أموال الصندوق قد توجهت 
لتوطين اللاجئين؛ وصيانة وتعمير البنى التحتية» كان من اللازم أن يعتمد تسيير العمل فى 
الإقليم الجنوبى على دعم الحكومة المركزية حسبما نص القانون. على أن تعسر التمويل 
للأسباب التى سلفت الإشارة إليها أدى إلى تفاقم الوضع مع مرور السدين» وثبط من عزيمة 
موظفى الإقليم وقادته السياسيين» بل انتقل الشعور بالإحباط إلى المقاولين العموميين الذين 
عجزت الحكومة الإقليمية عن الإيفاء بالتزاماتها نحوهم,؛ وبالتالى عن تكليفهم بأية 
التزامات جديدة لتسيير دولاب العمل. إزاء ذلك الوضع ساد شعور عام لدى الجنوبيين حول 
الحكمة من قبول اتفاق أديس أبابا فى الأساسء وبدأ اللوم والنقد ينهالان على كل من ابيل 
الير وجوزيف لاقو لتضحيتهم بالجنوب 56110811 وربما يوضح هذاء بشكل جزئى» رفض 
الحركة الشعبية لتحرير السودان للعرض الذى تقدمت به الحكومة العسكرية المؤقتة بعد عهد 
نميرى لإحياء اتفاق أديس أبابا. 

قصر النظر والعجز عن استقراء معطيات الواقع لم يكن محصوراً على الطبقة السياسية 
والبيروقراطيين» بل امتد إلى الطبقة الأكاديمية. تلك الطبقة لم تبد حماسا كبيراً للاتفاق» 
لارفضاً لمحتواه فيما نظنء وإنما لأنه تم على يد نميرى. يؤكد حدسنا هذا أن تلك الطبقة لم 
تجد بديلاً تقدمه لحل المشكل الجنوبى خلال حكومة الانتفاضة عقب سقوط نميرى غير ذلك 
الاتفاق. وبوجه خاصء نشير إلى موقف تلك الطبقة من تأسيس جامعة جوباء فكما ورد سالفاً 
نصت الأعمال الختامية لمؤتمر المائدة المستديرة على تأسيس جامعة فى الجنوب. ذلك عهد 
لم ترأى حكومة بعد أكتوبر ضرورة الوفاء به» مثل غيره من العهود. وعندما أثير ذلك 
الموضوع من جديد بعد اتفاق أديس أبابا اتخذ الأكاديميون موقفاً سلبياً تجاهه» بل أكدوا على 
ضرووة توجِيه ل مويل إضافى للتعليم العالى لدعم الجامعة القائمة؛ جامعة الخرطومء بدلاً 
عن إنشاء جامعة جديدة. وكان من قدر المؤلفء عند توليه وزارة التربية أن يقود معارك 


35332 


خلفية اتقدت واشتعلت مع الأكاديميين وبيروقراطيى وزارة التربية الذين كانوا يشاطرونهم 
الرأى؛ ليس فقط ضد إنشاء جامعة جوباء بل أيضاً ضد إنشاء جامعة الجزيرة» وتحويل معهد 
الخرطوم التقنى إلى جامعة» وضم كلية الأحفاد للبنات (وهى مؤسسة خاصة) إلى قائمة 
مؤسسات التعليم العليا التى تحظى بدعم رسمى.!'') التحيز أيضأً كان واضحاً فى جامعة 
الخرطوم فى قبول الطلبة الجنوبيين العائدين من منافيهم لعدم أهليتهم الأكاديمية وفقا 
لشروط القبول التى وضعتها الجامعة» حسبما يسمى بال (56108/ا5 60741058) ورغم ما كان 
المرء يشعر به من سعادة لحرص الجامعة على نزاهة العملية الأكاديمية وانضباطها 
(ججوعه80م علممعلدعة عط©ا كله المععاول)ء إلا أنه يرى أيضاً فى موقف الجامعة تجاهلاً 
لتطور تاريخى هام فى البلادء واستخفافاً بحدث كبير. الاستخفافء فيما نرى» لم يكن باتفاق 
أديس أبابا فى حد ذاته» وإنما بمجيئه من نظام يعارضونه ولا يترجون خيراً منه. أغلب 
هؤلاء العائدين التحقوا بالجامعات المصرية نتيجة لاستجابة سريعة من وزير التربية 
المصرى؛ مصطفى كمال حلمى» وسعى مشكور من رئيس جامعة الزقازيق» طلبة عويضة. 
لم يدرك مسئولو الجامعة أمراً آخر كان ينبغى عليهم إدراكه» فالجنوبيون هم أكثر الفئات 
السودانية غبناً فيما يتعلق بالتعليم العالى. فعلى سبيل المثال» يشير تقرير للبنك الدولى (العام 
4 إلى أن عدد طلاب الزراعة فى جامعة الخرطوم من الجنوبيين كانوا أقل من 
عشرة طلاب من بين ألف طالب يدرسون فى كلية الزراعة» رغم أن 75٠‏ من سكان ذلك 
الإقليم يشتغلون بالزراعة والرعى. 

على النطاق السودانى الأوسع؛ عادت للسودان ككل مكاسب سياسية واقتصادية 
واجتماعية عديدة بعد الاتفاق. فقد أتيحتء, مثلاًء فرص الحراك الاجتماعى للجنوبيين 
داخل القطر السودانى؛ والعمل فى أى إقليم حسب قدراتهم. تمكن مواطنو الإقليم الجنوبى 
أيضاً من التنافس على الالتحاق بمؤسسات التعليم العالى ومنها جامعة الخرطومء وكلية 
الشرطة. والكليات العسكرية . وفى هذا المجال يجب أن لا نفرط فى المغالاة» ففى العشر 
سنوات التى تلت توقيع الاتفاق» على سبيل المثالء لم يتجاوز عدد المقبولين من الجنوب 
فى الكليات العسكرية خمسة بالمائة من إجمالى عدد الطلبة» فى الوقت الذى نص فيه 


25353 


الاتفاق على مراعاة النسب السكانية للتجنيد فى الجيش فى كل المستويات. وعلى أى» فقد 
شابت ذلك الحراك الحميد عوائق فى البدء» بسبب موقف بعض المتشددين الجنوبيين الذين 
طالبوا بإقصاء "الجلابة من الجنوب بدعوى صعوبة التعايش معهم. غير أن ابيل الير» تمكن 
من إقناع هؤلاء المتشددين بأهمية الإبقاء على الجلابة» ('') ومنحهم الحق فى ممارسة 
أعمالهم فى حدود القانون وبنفس القدر من الحقوق التى يوفرها القانون لرصفائهم 
الجنوبيين. وهكذا بدأ الاقتتصاد السودانى» بوجه عام يجنى أرباح السلام؛ إذ شهدت تلك 
الفترة تدفقاً ملحوظأ للاستثمارات الأجنبية مستفيدة من المناخ السائد» ومن بشريات نهاية 
الصراع المسلح. كما تم البدء فى تنفيذ المشاريع الكبرى كحفر قناة جونقلى واستكشاف 
البترول لأول مرة فى الجنوب؛ حيث كان التنقيب عنه فى الماضى مركزاً على إقليم البحر 
الأحمر ومنطقة دنقلا. 

على صعيد التطور الدستورىء كان الأمر مختلفاً جداً. ولد ما أسميناه دستور السودان 
الدائم (عام )١975‏ عقب الاتفاقية» فى رحم نظام الحزب الواحدء ولهذا كان الدستورء 
بطبيعته» دستوراً غير ديموقراطى بالمعنى الذى يعرفه العالم الليبرالى» لا بمعانى 
الديموقراطيات الهجينة . وبالنسبة للجنوب أصبح اتفاق أديس أباباء كما قلناء قانوناً أساسيا 
تضمنه الدستور ولا يمكن تعديله إلا وفق مواد ذلك الدستور. كما نصت الاتفاقية على 
ضرورة موافقة 770 من أعضاء مجلس الشعب القومىء وثلثى الناخبين الجنوبيين 
المسجلين فى استفداء شعبى على أى تعديل له. سدور 111 كان أيضاً دستوراً شبه 
طمائى: أذ لفصيق تمن مواد كلما رقن الى فين الذولة».واغدرفا فى إحدئ مواده بكل 
العقائد السودانية كالإسلام والمسيحية والأنظمة العقائدية الأفريقية التى وصفها الدستور 
بكريم المعتقدات. نفس المادة من الدستور (المادة )١7‏ نصت على تحريم استغلال الدين 
لأغراض سياسيةء وتجريم الأعمال التى تثير الكراهية ضد الأديان وكريم المعتقدات. ولم 
يكن من السهل أن تصبح هذه المادة فى الدستور حقيقة واقعة» دون الدخول فى معركة 
سياسية وفكرية مع قلة من المتأسلمين داخل النظام. سعى هؤلاء لإضافة مادتين لمشروع 
الدستورء كانتا ستؤديان ‏ إن تم إقرارهما ‏ إلى إجهاض اتفاق أديس أبابا. الأولى هى النص 


5334 


على أن يصبح الإسلام دينأ للدولة» والشانية النص على أن يوصف السودان بدولة 
إسلامية. لهذا لم يشر دهشتنا أن يرسل الترابى من محبسه مذكرة إلى زعماء الأحزاب 
الشمالية بعد إعلان الدستور يدعو فيها لتأسيس جبهة تواجه الجدوبء باعتبار أن إقرار بعض 
النصوص الدستورية غير الإسلامية كان إرضاء للجنوب. فى تلك المذكرة» التى اعترضتها 
الجهات الأمنية» قال الترابى أن تحدى الجنوب يملى على الشماليين الوقوف معاً فى معركة 
دفاع عن النفن ضد المؤسسة التبشيرية والابتزاز الإثنى اللذين يمثلان تهديداً لمصالح 
السودان وهويته الثقافية. أضاف الترابى أن على الجبهة الشمالية الإسلامية التى اقترح 
تاسيسها ان تعمل جاهدة على هداية الافراد والجماعات من غير المسلمين فى الجنوب إلى 
الإسلام(”'). وفى موقف الترابى هذا تسخير للدين من أجل السياسة» فإن كان فى إغفال 
دستور 191777 لتلك النصوص مسخ لهوية السودان الإسلامية» قكيف يفسر الشيخ ومن تبعه 
أو والاه لجوءهم لنقس المسخ فى دستور ١198‏ الإسلامى ؟ 

على المستوى الخارجى أصبح السودان مثالاً يحتذى فى كيفية حل المشاكل الداخلية 
دون تدخل خارجى. ففى تعليق لأحد المراقبين المعنيين بشأن السودان ورد أنه باستثناء 
التسوية فى زيمبابوى 1174 والتى كان للتدخل الخارجى فيها دور كبير وهام» من الصعب 
على المرء أن يذكر حرباً داخلية خلال هذا القرن (القرن العشرين) حسمت عن طريق 
التوصل إلى حل متفاوض عليه('') . ولعل هذا هو السبب فى ترحاب العالم بنميرى» حتى 
ظنه البعض رجلا ذا بصيرة وتموذجأ نادراً يخلق بقيادات الدول التى تعانى من الحروب 
الأهلية أن تقتدى به. ومن المؤسف أن التطورات المستقبلية أبانت أن ذلك الإطراء لم يكن 
مستحقاً. أما على الصعيد الإقليمى: فقد كاد السودان أن يصبح بوتقة ينصهر فيها العالمان 
العربى والأفريقى. ويوجه عام فإن الصورة الإيجابية التى حظى بها السودان فى الخارج؛ 
وشيوع قدر من الرضا والسكينة فى داخله فى اوائل ومنتصف السبعينياتء لايردان إلا إلى 
عامل واحد: اتفاق أديس أبابا لإنهاء الحرب. فما كان فى مقدور النظام أن يبقىء أو أن يلقى 
رئيسه ما لقى من ثناء داخل أفريقيا وخارجهاء دون ذلك الاتفاق. لذا نملك أن تقول بكل 
تأكيد أن إلغاء نميرى للاتفاق كان بداية النهاية لعهده . 


هل كان نميرى واعياً بكل هذا ؟ وهل كان مدركا للأبعاد الداخلية والخارجية للاتفاق 
الذى مكنه من البقاء فى الحكم ؟ التجارب اللاحقة ترد على السؤال بالنفى. ذهب نميرى 
لإضعاف الاتفاق» ولما يجف بعد الحبر على الورق الذى كتب عليه. ويبدوء أنه بينما كان 
العالم يمتدح براعته فى إدارة شئون الحكم؛ وسماحته مع خصمم الأمسء, كان نميرى 
يضمر إحساساً خفياً بأن إنجاز حكومته فى التوصل إلى الاتفاق لا يعدو أن يكون خطة 
ماكرة لإنهاء التمرد الجنوبى. أولى خطواته التى كانت تفتقد الحكمة هى قراره بتعيين ابيل 
الير رئيساً للحكومة الإقليمية دون إجراء مشاورات كافية مع قيادات الخارج» كما نص 
بروتوكول ترتيبات الحكومة المؤقتة. فطبقاً للبروتوكول يخول للرئيس تعيين رئيس المجلس 
التنفيذى الأعلى وأعضائه بالتشاور مع الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان؛ وفروع 
الاتحاد الاشتراكى السودانى فى الجنوب فى الفترة الانتقالية . وكان من المفترض أن يكون 
ذلك الإجراء إجراء انتقالياء ريثما تقوم الهيئة التشريعية الجنوبية (مجلس الشعب الإقليمى) 
والتى تملك وحدها الحق فى اختيار رئيس الإقليم» على أن يتم تعيينه بقرار جمهورى. ولم 
يكن الير فى عجلة من أمره لتولى ذلك المنصبء بل فى واقع الأمركان من رأيه أن يتولى 
رئاسة أول مجلس تنفيذى هيلارى لو قالىء حاكم الاستوائية والذى كان يتمتع بقدر وفير 
من النضجء والدراية» وروح الدعابة. إضافة إلى أن ابيل الير كان يتمتع بمساندة واسعة 
داخل الجنوب» ولم يكن بحاجة إلى دفع من الرئيس القائد. الانطباع بعدم كفاية المشاورات 
مع مجموعة الخارج؛ كشفت عنه الهمسات المسموعة ضد اختيار ابيل الير» والصادرة من 
اثنين من قيادات الخارج: جوزيف اودوهو واوزيونى مونديرى. السياسيان الجنوبيان 
وآخرون لمسوا فى تدخل نميرى لصالح الير محاولة منه لإقصاء جماعة الخارج لمصلحة 
جنوبيى النظام العالمين ببواطن أموره» كما استرابوا فى ذلك التدخل رسالة موجهة للجنوب 
مفادها أن الرئيس ‏ وبالتداعى الشمال - لم يكفا بعد عن التدخل فى شئون الجنوب؛ ولا 
ينتويان ترك الجنوبيين لإدارة شئونهم الخاصة. 

تلك الشكوك لم تكن فى غير محلها تمامآء إلا أن المشكلة لم تكن هى الشمال أو النظام» 
وإنما كانت رجلا يسمى نميرى. فبأسلوب تفكيره الملتوى لم يكن الرئيس القائد ليرضى بأن 


5336 


يحس أى شخص يعمل فى حكومته بأنه صاحب سلطة خاصة بهء أوأن فى مقدوره 
التحرك بعيداً عن مقود "الريس. فضلا عن أن فكرة اختيار رئيس للإقليم من قبل الهيكئة 
التشريعية الإقليمية» واقتصار دور رئيس البلاد فقط على إصدار مرسوم رسمى يقنن به 
إرادة تلك الهيئة» لم تكن تروق لنميرى. فداخل الاتحاد الاشتراكى السودانى ‏ الحزب 
الوحيد فى البلاد ‏ تنص اللوائح على اختيار مرشح واحد لرئاسة السودان يختاره الحزب. 
فى حين لا يفرض قانون الحكم الذاتى الإقليمى مثل ذلك القيد على الجنوبيين. رغم هذاء 
لم يلجأ الجنوبيون الذين وفدوا من الخارج إلى العنف كرد فعل لتدخل نميرى فى اختيار 
ابيل» ولريما رأى بعضهم أن ذلك التدخل كان نتيجة لحماس نميرى لتاييد حليف سياسى. 
هو أيضاً مكان التجلة والاحترام عند كل الجنوبيين. أى سياسى يملك الحد الأدنى من 
الحكمة كان سيرى فى همهمات الجنوبيين وتذمرهم إنذاراً مبكراً عن مدى حساسية 
الجنوب؛ ولكن ثقة نميرى المفرطة بنفسه؛ أو تبلد حسه السياسى كما أنبأت الأحداث 
اللاحقة» لا يعكسان أن الإشارة قد فهمت. 

الطريق إلى السلام لم يكن ممهداً بلا منعطفات أو عواثر» فخلال مفاوضات أديس أبابا 
قام ضابط صغير داخل صفوف حركة انيانيا يدعى جون قرنق دى مابيور بإيلاغ جوزيف 
لاقو أنه يفتقد الثقة تماماً فى أن تقود تلك المفاوضات إلى حل دائم. وعتدما سأله لاقو عن 
بواعث ذلك الاعتقادء أجاب قرنقء الذى كان آنذاك ضابط استخبارات تحت قيادة لاقو 
قائلاً: أى اتفاق ينجم عن هذه المفاوضات لن يدوم طويلاً» طالما أنه لم يذهب إلى تغيير 
جذرى فى هيكل السياسة السودانية. وعدد قرنق القضايا التى تندرج تحت إطار هذا التغيير 
الجذرى فى فصل الدين عن السياسة» مسألة القومياتء إدارة شئون الأمن فى الجنوب 
خلال الفترة الانتقالية» التصديق الشعبى على الاتفاق من خلال استفتاء عام . أضاف أنه 
من الضرورى الاتفاق على فترة انتقالية تسبق الاستفتاء الشعبى لمدة خمس سنوات على 
الأقل. من جهة أخرىء أبدى الضابط قرنق قلقآ من المشكلات التى قد تنجم عن الدمج 
المتسرع للانيانيا فى الجيش السودانى. طلب لاقومن ضابط استخباراته تدوين رأيه كتابة» 
ففعل» ولكن ما أن تسلم لاقو مذكرة الضابط الصغيرء حتى اتخذ قراراً لم يتوقعه صاحب 


25337 


المذكرة؛ أصدر أمراً بإزالة اسمه من قائمة المفاوضين ونقله إلى قيادة الحركة فى أعالى 
النيل. وقد أثبتت التطورات التى تلت صدق حدس الضابط الصغير. ونعترف بأن رأى 
قرنق» فى غمرة ابتهاجنا بتوقيع الاتفاق» ما كان ليمثل فى حسابنا غير رأى سجالى من 
ضابط ععر ارا بالجال. غير نه يعد قرور كدر ارات اتعزاك هران لزنو الخامنة 
حول الاستفتاء على الاتفاق» والفترة الانتقالية؛ ودمج القوات؛ إلى نبوءة تحققت بالفعل. 
وكان ذلك عندما فكك الاتفاق لا بسبب كارثة طبيعية أو تدخل خارجىء وإنما لأن من 
يفترض أن يكونا صانعيه - نميرى و لاقو قررا ذلك. 

ذلك الموقف لم يمنع قرنق من الانخراط فى الجيش فى إطار دمج القوات» ولما سأله 
لاقو عن الأسباب التى حدت به لذلك رغم تحفظاتهء قال: "مازلت عند رأيى بأن الاتفاق 
لن يكب له النجات» ولكدى آرت أن أغلّب جانب الشك لمصطلحة الانفاق » وسدرى: أيأ كانت 

حقيقة الأمرء أفاد قرنق فائدة كبيرة من انضمامه للجيشء أولاً لما وفره له الانضمام للجيش 
السودانى من فرص للتمهر فى الدراسات العسكرية (الماجستير فى العلوم العسكرية من 
فورت بيننق بجورجيا)» أو الأكاديمية (الدكتوراه من جامعة ولاية ايوا) . ومن الطريف 
اختيار قرنق مكافحة التمرد (/إ©ع7ء12510118 00102167) كموضوع لدراساته العسكرية فى 
أمريكا. ثانياً- وهو الأهم ‏ فرصة التعرف على المجتمع الشمالى حيث نمت له صداقات مع 
البسطاء من أهل الشمال حيث كان يقيم؛ ومع الأكاديميين خلال الفترة التى عمل فيها 
محاضراً زائراً فى كلية الزراعة بشمباتء ثم مع العسكريين» خاصة بعض قادته الذين ما 
برح يواليهم بالإطراء (عبد الماجد حامد خليل» يوسف أحمد يوسفء توفيق أبوكدوك», تاج 
السر المقبول» سعود أحمد حسون) . ولقرنق قصة طريفة مع الأخير تكشف عن التمزق 
الداخلى الذى يفقدنا القدرة على التصالح مع أنفسنا.(؟') 

كانت فى المسيرة منعطفات أخرى أشد خطورة لارتباطها بخطط التنمية الرئيسية فى 
الجنوب: حفر قناة جونقلى» واستكشاف البترول. ولا شك فى أن مشروع قناة جونقلى؛ هو 
واحد من أهم رموز التنمية الاقتصادية التى تمخضت عن تحقيق السلام فى الإقليم» ولكن» 
نظرأ للطريقة التى قدم بهاء تصول المشروع إلى مصدر صراع عنيف بين الحكومة 


25238 


وجماعات سياسية مختلفة فى الجنوب. لقد ظل مشروع حفر القناة حبيساً فى الأضابير 
شرك السنوات» منذ العشرينيات تحديداً.(*') وعند توقيع اتفاقية مياه النيل فى عام 
4 ,» اعيدت الحياة للمشروع فى إطار ما أسمته الاتفاقية مشروعات النيل الكبرى» واتفق 
على البدء فى تنفيذ المشروع متى كانت لأحد الطرفين المتعاقدين حاجة لزيادة فى العائد 
المائى من النهر. وعندما استقر الرأى» بناء على طلب السودان» على البدء فى التنفيذء لم 
تخطر الحكومة السودانية (سواء الحكومة المركزية أو الحكومة الإقليمية) أهالى الجنوب 
بفوائد المشروعء كما لم تعمل على تهدئة مخاوفهم من آثاره الضارة على سبل معيشة 
السكان بسبب التغيير البيئى الذى سيترتب على تحويل مجرى النهر. فأول مرة وصل فيها 
ذكر مشروع القناة إلى أسماع السكان» كانت عندما صرح به أبيل اليرء والذى كان - بجانب 
رئاسته لحكومة الإقليم- عضواً فى هيئة مشروع القناة. عقب ذلك التصريح اندلعت 
التظاهرات العديفة فى جوبا وأوقعت خسائر كبيرة فى الممتلكات: كما راح يعض طلاب 
المدارس ضحية للعنف الذى مورس ضدهم. ومن المؤسى أن الذى كان محوراً للجدل» ليس 
هو المزايا الفنية للمشروعء بقدر ما كان تأثيره على حياة الناس وسبل معيشتهم. وكانت 
قضية تأثير نظم تصريف المياه على أسلوب حياة أهل منطقة السدود تثار منذ أوائل 
الثلاثينيات من طرف الحكام الإنجليزء وتكشف رسالة مدير أعالى النيل إلى السكرتير 
المالى فى عام ١97١‏ عن وعى كبير بالمخاطر البيئية» كما تفصح عن مدى اهتمام الراعى 
برعيته.('') قصورنا فى الحكومة والاتحاد الاشتراكى عن تنوير الشعب فى الجنوب عن 
ماهية ذلك المشروع الهام» والذى ستكون له نتائج خطيرة على البيئة: المناخ» الحياة 
الرعويةء الثروة الحيوانية» الحياة الوحشية؛ وسبل كسب العيش فى الإقليم» أمر يعسر 
تفسيرهء ولا يسهل الاعتذار عنه . 

وكما هو متوقع انتهز المعارضون لنظام الحكم فى الجنوب تلك القضية واستغلوها 
لأهدافهم؛ كما أخذوا يرددون حكايات مروعة عن أن الملايين من الفلاحين المصريين 
سيستقرون على جانبى القناة فور الانتهاء من حفرهاء وأن الجنوب سيصبح صحراء جرداء 
ضام بال السمزاء كبر دقع ازيل الرن العدير مق رصيدة السيابت لهذا التنيب ولتهم 


5359 


من جانب خصومه بعدم الانتباه لمصالح أهله؛ كما لم تحمل التأكيدات والتفسيرات الرسمية 
بعد فوات الأوان أى مصداقية عند سكان الإقليم؛ خاصة وقد اكتفت بحث السكان على 
الانتظار لما ستسفر عنه الأحداث. لهذا لم يشر استغراب أحد أن يكون مشروع جونقلى هو 
أول ضحية اقتصادية للحرب عندما اندلعت من جديد فى عام 1987 . ويفيد أن نذكر أن 
الموضوع الذى اختاره زعيم التمرد الجديد» جون قرنق لرسالته للدكتوراه كان هو قناة 
جونقلى حيث عالج فيها موضوع أهمية القناة لمسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية للإقليم 
الجنوبى» فى نفس الوقت الذى تعرض فيه لآثارها البيئية الضارة . كما يفيد أن نذكر أيضاً 
أن أول رسالة بعث بها رئيس الحركة الشعبية لرئيس دولة كانت هى رسالته للرئيس مبارك 
التى دعاه فيها لابتعاث مهندسين لصيانة أدوات حفر القناة بعد أن وقعت فى يد الجيش 
الشعبى . 

أما حول البترولء فقد نشرت الجمعية الفابية البريطانية فى عام ١9417‏ ورقة حول 
السودان» وكأنها كانت تقرأ المستقبل فى كرة بلورية. تقول الورقة أن فقدان الشمال للإقليم 
الجنوبى سيكون مسألة قلق إلى حد ماء ولكن ثمة خوفاً من أن تظهر فى الجنوب ثروة 
تضمن استقلال السودان بأكمله. ذلك التخوف أصبح نبوءة تحققت عندما أعلنت شركة 
شيفرون (السودان) التابعة لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا اكتشافها المفاجئ للبترول 
فى بانتيو» وهى منطقة من مناطق النوير تقع فى الطرف الشمالى الغربى لمديرية أعالى 
النيل. ومنذ البداية» اتسم اكتشاف البترول بأخطاء فادحة كان من الممكن تفاديهاء كما 
صحبته ضروب من القساد الرهيبء كان السودان فى غنى عنها. 

أولاً: تبنت الحكومة خطة مثيرة للجدل تتعلق بإنشاء مصفاة لتكرير البترول فى كوستى 
الواقعة فى منطقة النيل الأبيض فى شمال السودان والمحاذية للجنوب, بدلاً من إنشائها فى 
منطقة الإنتاج. ومما لا جدال فيه أن إنشاء المصفاة فى منطقة الإنتاج كان سيحدث تغييرآ 
كبيراً فى المناطق المحيطة بهاء ويوفر فرص عمل واسعة لأهالى المنطقة؛ كما سيعين على 
تحسين البنية التحتية وتطوير الخدمات الاجتماعية فى الجنوب كله . ولكن نميرى 
ومستشاريه لم يكونوا على استعداد حتى لقبول الاقتراحات التى قدمت لإنشاء وحدة تقطير 


5340 


( أأمن عدمتكاعهى) فى بانتيو لسد احتياجات الجنوب العاجلة من البترول. وكان حامد 
الأنصارىء ولم يكن من أهل الحكم» من أكثر الناس حماسا للمشروعء وظل يلهث دون 
جدوى وراء المسئولين ليبصرهم بالعائد السياسى ‏ قبل الاقتصادى ‏ للمشروع. 

ثانياً: شاعت اتهامات خطيرة حول الطريقة التى تم بها قبول العطاءات الخاصة بإنشاء 
المصفاة وبناء خط الأنابيب الذى يصلها ببورت سودان. جميع تلك العمليات أجريت بدون 
ادنى حد من الشفافية» واقتصرت على عدد محدود من الوزراء المركزيين» كان واسطة 
العقد بينهم وزير شئون الرئاسة» بهاء الدين إدريسء بعيدا عن أنظار أغلب وزراء الحكومة 
المركزية وكل وزراء الإقليم. 

ثالثً: أقصى المجلس التنفيذى فى الجنوب؛ بل أقُصى رئيسه عن هذه العمليات» رغم أنه 
كان أيضأ نائباً لرئيس الجمهورية. وفيما يبدوء لم يكن الرئيس؛ أو وزير شئون الرئاسة على 
ادنى درجة من الوعى بمشاعر القلق التى انتابت الجنوبيين» بل كان وزير الطاقة» شريف 
التهامى ينتمى لمدرسة فى الشمال لا تعارض الاتفاق فحسبء بل تزدرى كل ما هو 
جنوبى . 

صعد نميرى الموقفء من بعدء عندما قرر ضم منطقة إنتاج البترول إلى الشمال بصورة 
فيها من المكر بقدر ما فيها من الغباء. أطلق على تلك المنطقة اسم عربى عامى؛ هجليج 
(إهجليج فى العربية الفصيحة) بدلاً من اسمها الجنوبى بان ثاو (قرية السنط)» والكلمتان 
تحملان نفس المعنى. وقد تم بالفعل ضم المنطقة إلى محافظة جديدة تحتوى على أجزاء 
من الجنوب والشمال أطلق عليها اسم محافظة الوحدة وأصبح نميرىء رئيس الجمهورية» 
محافظأ لها. تعيين رئيس الجمهورية نفسه محافظاً لإقليم بدعة من البدع النابعة من ترائناء 
إذ لا يعرف مثلها بلد واحد من بلاد الله. وراء قرار نميرى؛ فيما نعتقدء سببان: الأول هو 
استبعاد الساسة والإداريين الجنوبيين من التدخل فى صناعة البترولء والثانى توفير الحماية 
لمافيا البترول داخل الحكومة المركزية والتى بدأ فسادها يزكم الأنوف. ومع أن القساد لم 
يكن غريباً على السودان؛ ولم يخل منه أى نظام حكم سابق. إلا أن الفساد فى تلك الفترة قد 


5341 


إتخذ طابعاً مختلفاً ليس فقط بسبب حجمه:ء وإنما أيضاً للجسارة التى مورس بها. فإن كان 
الفساد فى العهود الماضية» وحتى فترات حكم مايو الأولى» هو حقيقة من حقائق الحياة 
( 111 04 :180)ء إلا أنه تحول فى تلك الفترة إلى نهج تسير عليه الحياة .(©115 0 /إه:) 

إعادة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب وداخل الشمال نفسهء ليست أمرأً جديداً فى 
السودان. فمنطقة الكرمكء مثلاً. والتى أصبحت جزءا من مديرية النيل الأزرق» كانت 
خاضعة إدارياً للجنوب حتى عام ١157‏ كجزء من أعالى النيل. ولكن فى عام ١165‏ تم 
ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب بشكل قاطعء وهكذا بقيت حتى مجىء حكومة عبود 
التى قررت نقل منطقة حفرة النحاس فى السودان الغربى إلى مقاطعة دارفور بعد اكتشاف 
خام النحاس فى تلك المنطقة. وكان من المفترض أن يعود الوضع إلى ما كان عليه فى 
57 عند إبرام اتفاق أديس أبابا الذى أقر حدود الجنوب كما تم ترسيمها فى الأول من 
يناير 1107. إلا أن ذلك الموضوع لم يشر فى السنوات الأولى باعتبار أن السودان كله قد 
لمع كينا راعذ . ويتدهور الوضع فى الجنوبء وتفاقم الشكوك فى النظام» بدأت هذه 
المشاكل الساكنه تتفجرء خاصة فى نهايات عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات. ففى العام 
أعلن وزير الداخلية الجديدء أحمد عبد الرحمن محمد (من الإخوان المسلمين) ان 
حفرة النحاس جزء من إقليم جنوب دارفورء كما أن بانتيو (منطقة البترول) هى جزء من 
جنوب كردفان. أثار ذلك التصريح سخطأً كبيراً بين الجنوبيين مما دفع نميرى للاحتكام 
الى لجنة قضائية ترأسها رئيس القضاءء خلف الله الرشيد. وبناء على ما أمامه من بينات 
حكم رئيس القضاء بأن بانتيو وحفرة النحاس يتبعان الإقليم الجنوبى. ومن الواضح أن 
القاضى الرشيدء لم يكن كالرئيس القائدء يلقى الكلام على عواهنه؛ وإنما يصدر الأحكام بناءء 
على حجة وبيان. استمر الوضع من بعد على ذلك النحو حتى جاء نظام الجبهة القومية 
الإسلامية وقرر ضم المنطقتين للشمال بشكل نهائى . لا عجبء فنظام الجبهة نظام بطلء لا 
تعنيه السوابق القانونية» ولا تعرقل سيره الاتفاقات. وهكذا أثبتت الأيام صحة مخاوف 
الفابيين بعد مرور ثلاثين عاماً على توقعها. 

كل مناورات نميرى الإدارية لم تمنع الجنوبيين من المطالبة بنصيب عادل فى الثروة 
التى اكتشفت فى أرضهم. هذا الموضوع لم تكن الحكومة المركزية» وعلى الأخص مافيا 


2302 


البترول» راغبة فى الاستماع إليه. نتيجة لذلك اندلعت التظاهرات وتواصلت فى الجنوب» 
مما خلق جوأ من التوجس فى الخرطوم. ذلك التوجس قاد إلى استبدال كل الجنود الجنوبيين 
فى الحامية العسكرية فى بانتيو بفرقة عسكرية من غرب السودان . وكان على رأس القوة 
الجنوبية المرحلة القيب سالفا كبير» الذى أصبح فيما بعد الائ الثانى فى الحركة الشمبية 
لتحرير السودان . أو لايرى ذوو النهى مدى الترابط بين الأحداث التى أخذت تتضخم ككرة 
الثلج . 

قبل الاصطدامات السياسية كان أكثر القضايا وعورة خلال تنفيذ اتفاق أديس أباباء هو 
استيعاب قوات انيانيا فى الجيش. وحقأء كان موضوع استيعاب قوات الانانيا من أكثر 
الموضوعات تعقيداً فى مفاوضات أديس أباباء وقد لعب الدكتور جعفر بخيت واللواء محمد 
الباقر أحمد دوراً هاماً فى الوصول الى حل لتلك القضية التى استعضلت على المؤتمرين. 
كان جعفر حذاقياً مبدعاًء كما كان الباقر من العسكريين القلائل الذين يميزون الشجر فى 
الأجمة المتكاثفة. نتيجة لجهد الرجلين استقر الرأى على استيعاب الأنانيا على مستويين: 
الأول هو الجيش الوطنى مع إيلاء الاعتبار للنسبة السكانية فى التجنيد مستقبلاًء ومراعاة 
نسبة ١:١‏ فى القوات العاملة فى الجنوب» أى أن يكون نصف القوات من الشماليين» 
والنصف الثانى من الجنوبيين. المستوى الثانى هو استيعاب من تبقى فى ما كان 
المفاوضون الجنوبيون يسمونه تندراً قوات جعفر بخيت: البوليس: السجون؛ حرس الغابات 
والحياة الوحشية» المطافئ. ومن الغريب أن أكثر قوات الانانيا تخوفاء كانت هى القوات التى 
تقرر إرسالها للشمال» رغم عن أن نميرى كان قد اقترح انضمام أول مجموعة من هذه 
القوات للحرس الجمهورى. تلك المخاوف قادت الى حالات عديدة من العصيان("') إلا أنها 
احتويت دون معالجة للأسباب الكامنة وراء حدوثها مما أدى إلى استفحالها. وكما أكد أبيل 
الير وقعت أغلب حالات العصيان لأن الجنود المستوعبين كانوا ينظرون للشمال من 
منظارهم الخاص كبلد يسكنه قوم ينعتونهم بالعرب(* ') مع كل ما تحمل تلك الكلمة من 
مسامين شحلك ف اتفوسيم خلال سنى الحرب. ومن المفارقء أن الشعور كان جد مختلف 
على مستوى القيادات. فمثلاًء رغم نص اتفاق أديس أبابا على قيام لجنتين عسكريتين» 


25343 


تتولى الأولى الإشراف على استيعاب القوات؛ وتشرف الثانية على وقف اطلاق النار 
بمساعدة مراقبين من الخارجء اتفق الطرفان» نظراً لروح الود التى سرت بينهماء على 
الاستغناء عن الاستعانة بالعنصر الخارجى فى المراقبة. 

أكثر حالات العصيان وعورة وقعت عندما أرغمت وحدة من القوات المستوعبة فى أويل 
على الانتقال إلى دارفور. وكان من بين قادة الانيانيا يومذاك رجل نظلم التاريخ إن لم 
نستذكره هو إيمانويل أبورء القائد الثانى بعد لاقو. لقى ايمانويل حتفه أثناء محاولته إقناع 
تلك الوحدة بقيادة النقيب الفريد اجويت أوان بالانتقال للشمال. وقبل توجهه للقاء أجويت 
وجماعتهء نصحه رفيقه ماكوى عبد الله مابوك بالتريث فى ظروف الغضب المحتقن ذلك» 
ولعلمه بطبيعة قائد العصيان. ولما أصر على موقفهء أبى مابوك التخلف فصحبه ولقى 
كلاهما حتفه على يد الضابط العاصى. نذكر أبور بتقدير كبيرء ليس فقط لشجاعته وإنما 
أيضاً لرؤاه السياسية» فرؤيته للسودان كانت أوسع بكثير من رؤية قائده المباشر فى الانانياء 
أو رئيسه الأعلى فى الشمال. ففى لقاء مع الياس نيامليل واكو قال ايمانويل: إن الوضع 
الجغرافى للسودان وضع فريد فى أفريقياء بمعنى أن الجنوب الزنجى يرتبط ارتباطاً جغرافياً 
وسياسياً وثيقاً بالشمال المستعرب المسلم. وكرجل يدعو للوحدة الأفريقية» وتضامن كل 
شعوب القارة» أؤمن بأن تقسيم السودان هو تقسيم لكل أفريقيا. هذه هى الرؤى التى تلهم 
اليوم السودانيين الجدد. 

تنفيذ البروتوكول العسكرىء إذن» خاصة فيما يتعلق باستيعاب قوات الانيانيا فى الجيش» 
كان هو الأكثر إثارة للانزعاج بين كل بنود الاتفاق. فحسب الاتفاق كان من المقرر الفصل 
بين الوحدات العسكرية لفترة معينة ريثما يتم تطبيع العلاقة بينهماء ويتحقق قدر معقول من 
روح الإخاء العسكرى. كما نص أيضأء كما أوردناء على نسبة 1:١‏ فى تشكيل القيادة 
الجنوبية . بيد أن قيادة الجيش» فى حرصها اللاهف على الاستيعاب السريع للقوات الجديدة؛ 
تعامت عن هذه النسب. ولربما كان مما شجعها على ذلكء روح الثقة المتبادلة بين الضباط 
فى الجانبين. هذه الروح» للأسفء لم تسر بين ضباط الصف والجنود العاديين» والذين 
كانوا أشد خوفاً وتوجسأ من قوادهم . ومن الغريبء أن نميرىء بعد فترة وجيزة» أحال نفس 


344 


الضباط الجنوبيين الذين اعتمد عليهم فى تحقيق الاستيعاب إلى المعاش. الذى يفعل هذا لن 
يعسر عليه أن يتجاوز ما نصت عليه الفقرة "7 من البروتوكول حول الالتزام بنسبة واحد 
إلى واحد فى تشكيل الفرقة الجنوبية» كما لن يعسر عليه أيضاً تجاهل ما جاء فى الاتفاق 
عن ضرورة انعكاس نسبة السكان الجنوبيين والشماليين فى تشكيل القوات المسلحةء وعلى 
كل مستويات الخدمة فيه. أمام كل تلك الأخطاءء قرر الجنوبيون الانتظار ليروا ما سيكون 
(ءء56 34 2116) . وبالفعل انتظر الجنوبيون» ولكن نميرى وحده هو الذى رأى عواقب 
أفاعيله بعد مرور بضع سنوات. 

اتعاق أديس أبابا: الصعود والهبوط 

لم يكن تفكيك اتفاق أديس أبابا نتاجأً لتخطيط نميرى وحدهء فقد كان له أيضاً 
محرضون ومساندون. فمن جهة» كانت القوى السياسية التى أقصاها نميرى عن الحكم فى 
عام ١1979‏ لاتخفى معارضتها لاتفاق خول للجنوبيين سلطات كتلك التى نص عليها اتفاق 
أديس أبابا. وفى فصول سابقة أوضحنا كيف تحفظت تلك القوى على منح الجنوب سلطات 
أقل بكثير من تلك التى قال بها اتفاق أديس أبابا. عن ذلك الموقف تعبر بوضوح رسالة 
الترابى التى أشرنا إليها. لا غرابة» إذن» فى أن تمارس هذه القوى» بعد اصطلاحها مع 
نظام مايوء الضغوط على نميرى لدفعه إلى إلغاء الاتفاق بحجة أنه يذيب الهوية العريية _ 
الإسلامية. ويعرض السيادة الوطنية للخطر. ولا تسألن عن ماهية هذه السيادة فى دولة 
ولدت فى ظل تمردء وعاشت عشرين عام (ونحن نتحدث عن عام /ا1517) فى حرب مع 
نفسها. وظل الترابى» الذى أصبح وزيراً للعدل فى حكومة نميرى وفيما بعدء مساعداً 
للرئيسء يؤمن إيماناً قاطعاً بأن الجنوب يمثل عقبة رئيسية فى طريق سبيل تأسيس الدولة 
الإسلامية فى السودان. وكان يشاركه نفس الشعور بعض الإخوة العرب من خارج السودان. 
فعلى سبيل المثال» كان ممثل ليبيا فى مؤتمر القمة لمنظمة الوحدة الأفريقية عام ١914‏ 
(أبو زيد درده) هوالرجل الوحيد الذى أدان الاتفاق وسماه خيانة وتآمراً على السودان 
والعرب من جانب مجلس الكنائس العالمى. خصوم نميرى من المعارضين الذين اتخذوا من 
ليبيا يومذاك مثابة للمعارضة:ء اندفعوا أيضاً فى نشر معلومات مضللة عن الاتفاق تراوحت 


25345 


بين خيانة العروبةء إلى التواطؤ مع الكنائس وأثيوبيا. وكان لنظرية المؤامرة هذه تشعبات 
عديدة» فمثلا أعلن الإخوان المسلمون أن الاتفاق يحتوى على بنود معادية للإسلام.(9١)‏ 
وقد سعدنا كثيراً بأن نقراً لواحد من زعماء هذه الجماعة اعترافاً بما اقترفت جماعته من 
خطأ فى إدانة الاتفاق. ففى لقاء مع إحدى صحف الخرطوم قال أمين بنانى: كان يقال 
يومذاك أن للاتفاقية بنوداً سرية وقد أوضحت الأيام أنه لم توجد بنود سرية فى الاتفاقية؛ 
ولكنها المعارضة التى تأبى أن تؤيد عملا للحكومة دونما تحفظ.('") ردد آخرون اتهامات 
فحواها أن نميرى تنازل عن أجزاء من الأراضى السودانية لأثيوبيا كثمن لدور الأخيرة فى 
إبرام الاتفاق. ذلك الاتهام بالذات. لم يكن تكذباً من جماعة تلهب صدرها من الغيظ لنجاح 
نظام مايو فى تحقيق ما عجزت عن تحقيقه؛ بل كان أيضاً مغرضاً بشكل صارخ. فنتيجة 
للأجواء التى خلقها الاتفاق تم التوقيع على اتفاق الحدود بين السودان وأثيوبيا والذى كان 
محل حوار بين البلدين منذ الاستقلالء وأقرت أثيوبيا بموجبه ملكية السودان لمنطقة 
الفشقة .(١؟)‏ 

سواء كان موقف الأحزاب تجاه الاتفاق صادراً عن شعور بالامتعاض الشديد لأنه اعتمد 
على القرارات التى توصلت إليها لجنة الاثنى عشر وعجزت الأحزاب عن تنفيذهاء أو 
بسبب ضغينة محضة ضد نظام لا تكن له أى تقدير» فإن ذلك الموقف حول اتفاق ينهى 
الخرب كان يفدقر إلى للد دزجات الوطدينة ركم سلفت الإشارة طل معن رضعاء 
الأحزاب» حتى بعد رحيل نميرى من الحكمء يقللون من ذلك الإنجازء وعلهم بذلك كانوا 
يقللون أيضأ من شعورهم بالخيبة. ويبدو أن فشل الحكومات المتعاقبة» فى تنفيذ تلك 
القرارات؛ لم يكن أمرأ ذا بال عند الشانئين. ولو كان ذلك الفشل بسبب قهرى خارج عن 
الإرا ادة (ع؟ناءز03: ع6060) لتجاوزنا الأمر » ولكن التجاوز يستحيل إن كان مرد الفشل هو 
رفض القوى السياسية الشمالية» منح الجنوب أى حكم ذاتى إلا بالقدر الذى يرتئون؛ 
وفقدانها الكامل للقدرة على تدبر عواقب تشددها ذلك. 

مهما يكن من أمرء أوحت لنميرى خبرته أن المصالحة مع خصمم الأمس ستعود 
بالفائدة . وفى محاولته استرضاء أولئك الخصوم (المعارضة الشمالية) اتخذ من القرارات ما 


5346 


لا يمكن إلا أن يقود لعزله عن الجنوب» وعزل الجنوب عنه. لم يع» فيما هو جلى. أن 
الجنوب كان هو القاعدة الوحيدة التى يرتكز عليها نظامه . ولربما كان لنميرى أسباب أخرى 
دفعته لضم أعدائه الشماليين» فى كنفه» مثل المحاولتين البارزتين للإطاحة بنظام حكمه. 
ففى المحاولة الأولى (5 سبتمبر ©1917) تمكن المعارضون من محاصرة مبنى الإذاعة فى 
أم درمان» ولكن سرعان ما تم القضاء على المحاولة» وإعدام المتورطين فيها بشكل مباشر. 
ولما تمض عشرة أشهر على تلك المحاولة الفاشلة حتى جاءت محاولة أخرى. ففى يوليو 
7 قام المعارضون بأكبر محاولة لهم للإطاحة بالنظام» كاد نميرى نفسه أن يكون من 
أوائل ضحاياها (وكنا بصحبته ونحن عائدون من زيارة رسمية لفرنسا)» بعد أن سيطر 
المعارضون على مطار الخرطوم ودار الإذاعة» كما حاصروا بضع حاميات عسكرية فى 
الخرطوم. وكان صادق المهدىء قائد تلك الحملة» على رأس فرقة عسكرية مسلحة شقت 
طريقها من ليبيا عبر الصحراء؛ حتى أضحت على قرابة الثلاثمائة كيلو متر من الخرطوم. 
فى مسيرته الظافرة تلكء أُبلغ الصادق بانهزام القوة الغازية نتيجة حركة التفاف حاسمة 
وسريعة على منا أسمى يومتاك. الغز و الليبى: قادها النائب الأول لرئيس الجتمهورية: اللواء 
محمد الباقر أحمد. وما أن تلقى المهدى رسالة من مؤيديه داخل الخرطوم بذلك النبأ 
المشىءوم حتى أمر الفريق المرافق له بتغيير الاتجاه عوداً لليبيا مستهدياً بالآية القرانية: 
«ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة4. تلك هى الرسالة التى بعث بها القائد إلى قواته المحاصرة 
فى الخرطوم قبل أن يولى الأدبار (أو يهاجر) تاركاً قواته تواجه التهلكة بمفردها. 

القضاء على تلك المحاولة الجريئة كان حاسماًء إلا أنه ترك على الجانبين أثراً كان له ما 
بعده . أدرك الصادقء من ناحية»ء بأن فى المجابهة العسكرية للنظام مهالك جمة» خاصة 
بعد فشل الحملة الكبرى التى ظل يعد لها عبر سنين طوال. من الناحية الأخرى؛ أحس 
نميرى بأنه طالما ظلت ليبيا تدعم معارضيه بالصورة التى تم بها الغزو فى يوليو» فمن 
الخير له أن يسعى للوفاق مع الجبهة الوطنية بأى ثمن. تلك الخطوة كانت أكثر أخطاء 
النميرى فداحة عليه حسبما ظهر فيما بعد. فعلى عكس الجنوب الذى لم يكن يطمح من 
وراء الوفاق إلى هدم نظامه من الداخل» كان الصادق يتطلع إلى أن يكون بديلاً عن 


5317 


نميرىء أو على الأصح وارثآ لنظامه . وقد يتبادر إلى الذهن أن صادق لن يغفر لنميرى 
مدى الدهر الإهانة التى ألحقها به عندما دفعه؛ صمنئاًء فى أول لقاء بينهما على تأييد 
انقلاب 1574» وإدانة النظام الديموقراطى المباد رغم أنه كان يترأس ذلك النظام فى فترة 
من الفترات.('') يتبادر إلى الذهن أيضاً أن الصادقء ولى الدم؛ لن يغفر لنميرى ونظامه ما 
فعلا بمؤيديه عقب محاولة الغزو الفاشلة فى يوليو 1977 . ولكن» ولدهشة رفاقه فى الجبهة 
الوطنية» التقى الصادق بنميرى فى بورت سودان فى اجتماع مفاجئ أعد له رجل 
الأعمال؛ فتح الرحمن البشير. وطبقاً لمضبطة الاجتماع (والتى يملك المؤلف صورة منها) 
هنأ المهدى تميرى على توجهه الإسلامى الجديد» وربما كان ذلك الإطراء يحمل فى طياته 
تبريراً للتصالح مع نميرى يسترضى به مؤيديه (الأنصار)» إذ كان الوريث المرتقب لإمامة 
الأنصار يلوح لخصومه بأن الحرب ضد نظام مايوهى ضرب من ضروب الجهاد ضد 
الكفر. أما الآن» وقد دخل الكفار فى دين الله أفواجأء فلا مناص من الجنوح للسلم. فى ذلك 
الاجتماع؛ قدم المهدى لنميرى ثلاثة تنازلات هامة: أولاً وافق على مساندة نميرى عند 
ترشيحه لولاية رئاسية ثالثة. ثانياً أقر نظام الحزب الواحد الذى يمثله الاتحاد الاشتراكى 
السودانى وتعهد بالعمل السياسى من خلاله. ثالثاً أقر بالنظام الاشتراكىء يا كان معنى 
مصطاح الاشتراكية للطرفين المتعاقدين. وتبعاً لذلك الاتفاق أصبح صادق المهدى عضواً 
فى المكتب السياسى للاتحاد الاشتراكى وأدى قسم الولاء لثورة مايو الاشتراكية؛ بإذن الله؛ 
وأعلن عفوه عما لحق بعمه وهو يستشهد يقول البحترى: 
إذا احتريت يوما فسالت دماؤها 
تذكرت القريى ففاضت دموعها(؟”) 

ولكن» ما أن مضى عام على عودته حتى أحس المهدى بأنه لم ينل ما كان يبتغيه 
وأصبح كالمنيت» » لا يستطيع العودة للجبهة التى لم يشاور قادتها فى أمر عودته للسودان 
(إلا إن حسبنا تركه رسالة صوتية مسجلة لرفاقه فى المعارضة تشاوراً)» ولا يملك أن يبقى 
فى النظام فى وضع لا يمكنه من أن يكون فيه هو صاحب الصوت الأعلى. الذى كان 
يبتغيه الصادق من المصالحة كشف عنه تصريح له يفيض بالدلالات» قال فى ذلك 


25348 


التصريح إن الانتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية فى السودان شبه بالتجربة التى 
عاشتها أسبانيا حيث سلم فرانكو السلطة طوعاً إلى الملك خوان كارلوس. ما لم يعه المهدى 
هو أن نميرى لم يكن مثل فرانكو الميت اكلينيكياً عند تنازله عن الحكم» كما ليس فى 
السودان عرش أو وريث لعرش مثل خوان كارلوس. أمام هذه الخيارات المحدودة لم يبق 
للصادقء غير الخروج من السودان. وقبيل مغادرته البلاد أبلغ الرئيس نميرى أن الباعث 
لسفره إلى الخارج هو تعزيز الوساطة الدولية مع إيران لإطلاق سراح مسكئولى السفارة 
الأمريكية الذين كانت تحتجزهم بعض العناصر الإيرانية فى طهران كرهائن» وطلب من 
نميرى دعم مساعيه . وإن ظننت أن ما قاله الصادق كان ذراً للرماد فى العيون خشية أن 
يرمى بيديه مرة أخرى فى التهلكة» فقد جانبك الصواب. وصل صادق فعلاً إلى طهران 
وكان فى استقباله السفير السودانى على النميرى (لا يمت بصلة قرابة للرئيس نميرى) ثم 
اجتمع من بعد مع السلطات الإيرانية. بالطبعء باءت المهمة بالفشل التامء وذلك هوما 
يتوقعه أى رجل صائب التفكير؛ إذ ما الذى يدفع صادق إلى الاعتقاد بأنه سينجح فيما 
فشلت فيه الامم المتحدةء ومنظمة اليونسكوء وحكومة الجزائرء واللجنة الدولية للصليب 
الأحمر. وبغض الطرف عن ثقة صادق المفرطة فى قدراته الخارقة لمعالجة كل قضايا 
العالم» كان من المذهل أن يقحم نفسه رجل تحدق به المشاكلء وتتنازعه الكروب؛ فى 
مشاكل الآخرين. بدلاً من أن يعمل قدراته الفائقة فى إزالة الكروب التى تحيط به إحاطة 
السوار بالمعصم . 1 

على خلاف الصادقء» وجه حسن الترابى كل جهده لتحقيق غايته: تحويل السودان إلى 
دولة إسلامية» وكان مستعداً لقبول أى شىء يمكنه من نيل بما يبتغيه . إستراتيجية الترابى 
كانت أكثر فعالية وبراعة؛ قام بخطب ود نميرىء وأدى يمين الولاء كصاحبه لدستور مايو 

شتراكى» وأصبح عضواً فى المكتب السياسى للاتحاد الاشتراكى ووزيراً للعدل فى حكومة 
نميرى. وخلال موقعه الأخير سعى الترابى لترجمة توجه نميرى الإسلامى الجديد إلى 
قوانين؛ وكان حذراً فى موضوع مراجعة قوانين السودان حتى تصبح متوافقة مع الشريعة 
الإسلامية. ولكن ما إن طرأت على نميرى عوارض الهوس الدينى حتى بدأ الدترابى 


349 


مجاراته فى الهوسء إذ استغل نصاً فى دستور ١977‏ فحواه أن الشريعة والعرف مصدران 
من مصادر التشريع» وبموجب ذلك النص أعاد الترابى تأسيس الدستور كله كدستور 
إسلامى . ولعل هذا هو السبب الذى يجعل الكثيرين فى خشية دائمة من وجود مثل هذا 
النص فى الدساتير. ففى إطار دستور 1977 كان معنى النص واضحاً إذ صحبته نصوصء 
كما ورد سابقاًء تعترف بكل الديانات بما فيها الديانات غير السماوية» كما خلا من أى نص 
على دين الدولة . ومن الطريف أن رئيس القضاء فى حكومة نميرى إبان تجليها الإسلامى 
(دفع الله الحاج يوسف)» أعلن فى حديث لصحيفة خليجية أن ١5‏ / من مواد دستور ١9117‏ 
لاتتطابق مع الشريعة.(؟") يحمل على العجب أن رئيس القضاء نفسه كان عضوأ فى 
مجنس الشعب (البرلمان) الذى تبنى دستور؟197 من قيلء ولم يبد أى اعتراض على 
مواده بسبب من عدم إسلاميتها باستثناء عدم النص على نسبة الدولة لدين بعينه . ذلك 
بالتأكيدء لا يمثل #١5‏ من الدستور. وعلى أىء تجاوز الترابى المؤشر الذى حدده رئيس 
القضاء (15/) إلى كل بند من بنود الدستورء على وجه التقريب. خطأ الترابى هو أنه لم 
يدرك أن الاستقرار النسبى الذى ساد الجنوب لم يتم إلا بعد الوفاق على مبادئ معينة هدمها 
كلها مشروع دستوره الإسلامى. ولربما كان الترابى منطقياً مع نفسهء إذ لم يكن يعنيه 
كثيراًء فيما يبدو أن ينفصل الجنوب فى سبيل إقامة دولة إسلامية فى الشمال. 

هناك أمر حول الدستور لابد أيضاً من الإشارة إليه. فالترتيبات الدستورية التى نص عليها 
اتفاق أديس أبابا كانت شاذة» بل متناقضة مع النظام الدستورى لحكم البلاد. فحين أنشنت 
الحكومة الإقليمية كحكومة ديموقراطية برلمانية يخضع فيها رئيس الجهاز التنفيذى للهيئة 
التشريعية التى تنتخبه وتملك أن تعزله» كانت الحكومة المركزية نظاماً رئاسياً فى ظل حزب 
واحد تحول فى آخرالأمر إلى حكم فرد واحد بلا نظام (016؟ -7اع)5لاذ 086-030-00) هذا 
الوضع أدىء بالضرورة» إلى خلافات حادة بين الحكومتين؛ فبينما أصبح الحزب الواحدء 
بصورة متزايدة» ختمأً مطاطياً (م2065061-5630) لدكتاتورية الفرد انحصر دوره فى الموافقة 
الروتينية على ما يصدره عن ذلك الفردء ظل الجنوب يصارع لتعزيز الديموقراطية فى الإدارة 
الإقليمية . تكشف عن ذلك الانتخابات البرلمانية فى عام 1917 ؛ حينما خسر قادة بارزون فى 


2330 


الاتحاد الاشتراكى السودانى مقاعدهم فى الجمعية الإقليمية» وشمل ذلك رئيس الإقليم ابيل 
الير والذى كان فى ذات الوقت نائبأ لرئيس الجمهورية. هذه المرة» لم يكرر نميرى تدخله كما 
حدث فى عام 21577 غير أنه لم يكن سعيداً بتلك التطورات» بل ضاق ذرعاً بوجود مركز 
آخر للسلطة فى دولته . ولربما ظن أيضأً أن مثل هذه الممارسات قد تصبح سوابق يستغلها 
بعض الشماليين للمطالبة بتأكيد سلطة الشعب وحقه فى تغيير قادته. على أن خرق نميرى 
للاتفاق بلغ درجة من الصفاقة تفوق الاحتمال عندما قام بحل مجلس الشعب الإقليمى مرتين: 
الأولى فى ١86‏ بعد عزل المجلس لابيل الير وحكومته» والثانية فى أكتوير ١14١‏ عندما قام 
بتعيين الجنرال قسم الله رصاص رئيساً للجنوب بعد إعفاء حكومة لاقو. ولم يكن رصاص 
مرشحا من قبل المجلس (حسبما يقضى اتفاق أديس أبابا)» كما لم يكن حتى عضواً بالمجلس. 
إضافة إلى أن الرئيس لا يملك أية صلاحية دستورية تخول له حل البرلمان حسب نصوص 
الاتفاقية . 
ذهب نميرى من بعدء إلى أكثر أخطائه جسامة: تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم مخالفاً بذلك 
الاتفاق. فقرار التقسيم انطوى على ثلاثة أخطاء سياسية فادحة: 

أولاً :ينص الاتفاق الذى أصبح جزءاً لا يتجزأ من الدستور على قيام إقليم جنوبى واحد 
له عاصمة واحدةء وليس ثلاثة أقاليم. 

ثانياً :أية محاولة لتغيير ذلك الوضع تمثل تعديلاً فى الاتفاق ومالم يتم التعديل حسبما 
نصت بنوده» يصبح عملا غير دستورى. 

تالت آً:تقسيم الجنوب إلى ثلاث وحدات إدارية مستقلة» لكل واحدة منها حاكمها 
وحكومتها وبرلمانهاء فرض تبعات جساما على الخزينة فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة. 
ذلك أمرء فيما يبدوء لم يكن يثير أدنى اهتمام لدى الرئيس فى محاولته إغراء أكبر عدد من 
السياسيين الجنوبيين الطامحين فى الحصول على السلطة والنفوذ. 

لم يكتف نميرى بهذا بل أصدر فى عام 1187 قراراً جمهورياً يتعارض مع المادة 
الخامسة من قانون الحكم الإقليمى يقضى باستبعاد كل ما يشير فى تلك المادة إلى استخدام 


25351 


الإنجليزية كلغة عمل أو استخدام اللغات المحلية. كان واضحاً للنميرى من البداية أن 
الجنوب يعارض تلك القرارات الطائشة: إلا أنه أنس فى نفسه قدرة على تخطى نتائج تلك 
القرارات بالتعاون مع حفنة من السياسيين الانتهازيين فى الجنوبء وباستكانة أضراب لهم 
فى الشمال. كان من بين هؤلاء الوصوليين عصبة من أربعة جنوبيين فشلوا فى كسب أى 
تأييد فى الانتخابات الإقليمية البرلمانية عام ١18١‏ (جوزيف لاقوء اتوان داك؛ فيليب 
اوبانقء اوليفر البينو) . بتلك المساندة المريبة أقدم نميرى على قراراته رغم المعارضة 
الواضحة لتلك القرارات سواء فى المجلس الإقليمىء أوفى فروع الاتحاد الاشتراكى 
بالجنوب. وينجاحه الموهوم فى تحييد الجنوب» ذهب نميرى فى عام ١185‏ إلى تعديل 
الدستور نفسه. وبالتالى إلغاء كل ما فيه من نصوص وضمانات تتعلق بالجنوب. وبات 
واضحاً منذ عام ١187‏ أن اتفاق أديس أبابا قد انتهى العمل به تمامآء إذ فعل النميرى كل ما 
نص الاتفاق ضمناً أو صراحة على أن لا يفعله. أما الشماليون فقد كان من بينهم مخلوقات 
طينية أنشئت حقأمن افا مسنونء هذه ألجبب الفارغة (1]5نا5 /ا4م72ع) لا يعنى المرء 
أمرها فى كثير أو قليل. فيهم أيضاً من لم يكونوا راضين عن الاتفاق منذ البدءء ولهؤلاء 
أيضأ منطقهم فى الابتهاج بإلغاء الاتفاق. الذين يدفع موقفهم للاسترابة» بل التقززء هم ذوو 
النهى من أساتذة ودكاترة وبروفيسيرات وجنرالات» خاصة من كانوا يهدرون فى المنابر» 
ولا يدلسون بالقول حول الإنجاز الأعظم لثورة مايو الاشتراكية المنتصرة بإذن الله: حل 
مشكلة الجنوب. فقضية هؤلاء ليست قضية فكرية» بل هى فى المقام الأول أخلاقية. وهكذاء 
من جديدء تسبب زعيم شمالىء بمؤازرة واستكانة بعض آخرء فى إهدار فرص السلام 


والمصالحة مع الجنوب. 
فى تبريرها لتقسيم الجنوب ادعت عصابة الأريعة أن التقسيم أصبح ضرورياً لإنهاء 
هيمنة الدينكا على الحكومة الا قليمية . والدينكاء كما هو معروفء هم أكبر قبائل الجنوب» بل 


أكبر " قبائل السودان كله اذ يبلغ عددهم ** / من إجمالى سكان الجنوبء أى قرابة الخمسة 
ملايين نسمة. وبتقدير حسابى محض يصبح ممثلوتلك القبيلة القوة الأكبر فى تشكيل أى 
بزلمان جنوبىء ولهذا يفترض أيضاً أن يكونوا الأغلبية فى أية حكومة. تلك حقيقة ينبغى 


352 


على الجنوبيين الآخرين التعايش معهاء إن أرادوا أن يبقى الجنوب موحداً وديموقراطياً. رغم 
ذلك لم يكن ساسة الدينكاء مع اعتزازهم الطاغى بقبيلتهمء!*") واستهجانهم للاستوائيين 
ممن يطلقون عليهم وصف النمنم» أى أكلة لحوم البشرء يتصرفون فى حكم الجنوب بالشكل 
الذى يوجب اتهامهم بالهيمنة على الآخرين. ظلوا أيضاً ينضوون تحت ألوية أحزاب 
مختلفة؛ ومنهم من صوت إلى جانب لاقو فى المجلس الإقليمى ضد ابيل الدينكاوى. ومن 
اللافت للنظر أن من بين رؤساء الإقليم الخمسة لم يتول الرئاسة من الدينكا المهيمنون إلا 
سياسى واحد هو أبيل اليرء أما الأريعة الآخرون فقد جاءوا من قبائل تدعى نخبتها أنها 
تعانى من هيمنة الدينكا: جوزيف لاقو (مادى)» جوزيف طمبره (زاندى)» قسم الله عبد 
الله رصاص (من قبائل غرب بحر الغزال)» وبيترقات كوت (نوير) . وبالرغم من أنه ليس 
من القبائل التى ينتمى لها هؤلاء الأربعة واحدة تقارب الدينكا عديداً إلا أنهم تسنموا جميعاً ‏ 
باستثناء رصاص - الرئاسة باختيار مجلس الشعب الإقليمى الذى يهيمن عليه الدينكا. مق 
اللافت أيضاً أن بعض الشماليين ما فتئوا يكررون تلك التهمة» خاصة فى معرض حديثهم 
عن الحركة الشعبية لتحرير السودان. تلك القلوب المبتئسة التى تدميها هيمنة الدينكا 
المزعومة على القبائل الجنوبية» لاتؤذيها فى شىء هيمنة الشمال على الجنوب كله . ولعل 
هذا هو الذى دفع جون قرنقء» فى فترة لاحقة لأن يقول فى حديث أدلى به فى يوليو 
19 لمجلة آأفاق جديدة (إصدارة عربية لندنية): لست مسئولاً عن انتمائى إلى قبيلة 
الدينكاء فذلك ليس موضوع إختيار. كما أننى لست مسئولاً عن أن قبيلة الدينكا هى الأكبر 
حجماً بين قبائل الجنوب مما قاد إلى انضمام عدد كبير من أفرادها إلى صفوف الحركة. 
غير أن ذلك الحجم العددى لم يعط ولا يعطى الدينكا فى الحركة أى ميزة عن المناضلين 
الذين ينتمون إلى الجماعات الأخرى. حقيقة الأمرء أن مزاعم لاقوحول هيمنة الدينكا على 
الإقليم لم يكن وراءها إلا إحباطه وخيبة أمله فى مجلس الشعب الذى انفض من حوله؛ بعد 
أن أيده من قبل ضد ابيلء كبير الدينكا. ولريما أراد أيضاً بتلك الحيلة الماكرة تأليب أهالى 
الاستوائية والقبائل النيلوية الصغيرة ضد خصومه السياسيين. تلك الانتهازية لا يستغربها 
المرء من رجل تواطاً مع نميرى لتفكيك اتفاق أديس أبابا الذى وقع عليه ثم أدى» من بعدء 


253533 


البيعة لنميرى مرتين عندما أصبح الرئيس القائد إمامأ على المسلمين؛ وأميراً للمؤمنين» 
دون أن يعبر مرحلة انتقالية ضرورية: أن يصبح مسلما. 

لم يبد نميرى أدنى إهتمام لما يمكن أن تقود إليه مغامرته السياسية الدينية فى الجنوب» 
ونحسب أنه بشىء من خداع الذات» ظن أن فى مقدوره إقامة تلك الدولة الدينية والحفاظ» 
فى ذات الوقتء على الجنوبء أى أن يشعل ناراً فى داره ويتوهم بأنها لن تصرقه. لهذا 
اندفع فى سبتمبر 1187 لإصدار قوانينه المنسوبة للإسلامء والتى عكف على صوغها 
صبية قانونيون منقطعو العقال فى الجهل والتخلف الفكرى. كما انبرى لتنفيذ تلك القوانين 
قضاة متوترون موتورون كانوا أكثر جهالة وتسافهاً عن صاغة القوانين. ولكن يحدث هذا 
فى السودان الذى عرف بقانونييه الفحول» فإن فى ذلك لأيم الحق انحرافاً كبيراً عن القصد. 
رحب الترابىء القانونى الضليع؛ بتلك القوانين العوجاء» لا لأنها تعبر عن الإسلام الحقيقى» 
فلو كانت لتولى هو إصدارها عندما أعاد صياغة قوانين السودان لكيما تتوافق مع الشريعة 
من موقعه كوزير للعدل ونائب عامء وإنما كمحاولة منه لقطع الطريق على نميرى لكيما لا 
يتزيد عليه بالإسلام. تلك هى السياسة المحضة. وللفقهاء آلات شرعية يبررون بها تلك 
الانتهازية (ولنسمى الأشياء بأسمائها) » هى التّقية عند الشيعة:» والإيهام عند أهل السنة» 
وكلاهما لا يراد به إلا مصانعة السلطان حذر التلف. ولكنء لئن يذهب الترابى إلى مبايعة 
نميرى مرتين وإلى وصفه بمجدد المائة» ففى ذلك عوج وانحراف لا يليق بالشيخ. من هم 
هؤلاء المجددون؟ تعود قصة مجددى كل مائة إلى حديث أورده عن رسول الله فقهاء 
الدعاية لشيوخهم يقول أنه سيقوم على رأس كل مائة (أى مائة عام) من يجدد للأمة 
دينها. وفى أولئك المجددين حتى القرن التاسع الهجرى نظم الإمام السيوطى أرجوزة قال 
فيها: 

فكان عند المائة الأولى عمر 
خليفةالعدل بإجماءوَقَر 
والشافعى كان عند الثانية 
لمالهمنالعلومالسارية 


554 


وابِنْ سريح ثالث الأئكمة 


والأشهعسرى عده من أنحة 
والباقلانى رابع أو سهلاو 

الاسفرائينئ خَلفْ قد حكوا 
والسادس الفخرالإمام الرازى 

والرافعى م كله يوازى 
والسابع الراقى إلى المراقى 

ابن دقيق العيد باتفاق 
والثامن الحَبرٌ هو البلقينى 

أو حاففظ الأنام رين السين 
والشرط فى ذلك أن تمضى المائة 

وهو على حياته بين الفئة 


هذا التصنيف لا يجىء إلا من أشعرىء فأى تجديد ذلك الذى لا يتسع للحسن البصرى 
وواصل بن عطاء وفلاسفة الإسلام. وللعالم الأزهرى الشيخ عبد المتعال الصعيدى رأى جيد 
حول أبطولة المجددين هذهء قال فيه الفلاسفة أولى بالذكر لأن العلوم الفلسفية هى التى 
تنهض بالمسلمين فى دنياهمء ومتى نهض المسلمون فى دنياهم نهضوا فى دينهم لأن الدنيا 
قنطرة الآخرة» ومن أضاع دنياه أضاع آخرته('"). على أى:ء إن قبلنا حكم الترابى وقول 
السيوطى على علاتهماء أولا يدعو للسخرية أن يضم شيخنا إلى عمر الفاروق؛ والشافعى» 
والباقلانى» والفخر الرازى» وزين الدين (الغزالى)» جعفر محمد نميرى! أدعى للهزء أنه لما 
تمض بصع سنوات (لا مائة سنة) إلا وخرج مجدد المائة الخامسة عشرةء الإمام جعفر 
نميرى من زمرة المجددين؛ وكان الذى أخرجه من تلك الزمرة هو الترابى نفسه الذى 
بايعه جازماً بيمين قاطعةء واليمين القاطعة لا عودة فيها. أترى إلى أين تقود المغالاة؟ 
وكيف يسَخر الدين لأغراض السياسة. 1 

ابتزاز نميرى للقيادات الدينية حمل الصادق المهدى أيضأ على تأييد الشريعة فى خطبة 
عيد الأضحىء سبتمبر 1987ء رغم انتقاده لتطبيق الحدود على الوجه الذى طبقها به 


2355 


نميرىء والذى وصفه بأنه تشويه للإسلام. فى تلك الخطبة قال الصادق إن تطبيق الشريعة 
يستلزم تأسيس نظام إسلامى سياسى واقتصادىء وهناك يمكن تطبيق الحدود لحماية ذلك 
النظام. الصادق مخطئ فى نقده» طالما ظلت القاعدة المعرفية للإسلام التى يرتكز عليها 
لتأسيس نظام إسلامىء لا تختلف عن تلك التى اعتمد عليها نميرى: اعتبار الفقه الموروث. 
وأحكام الإسلام التاريخى» هما الشريعة. فالشريعة بهذا المعنى» هى على وجه التحديد تلك 
التى ' ذهب إليها نميرىء أو أذهبه إليها صاغة قوانينه ومبايعوه . كان من الواجب على 
المجتهدين (الصادق والترابى) أن يعترفا أولاً بأن الشريعة التاريخية التى طبقها نميرى لا 
تفى باحتياجات المجتمع المعاصرةء ويقوما بعد ذلك بصياغة شريعة جديدة تعتمد على 
الأصول وتلبى احتياجات مجتمعاتهم . فإن لم يفعلاء سيظل أى حديث عن الدولة الإسلامية 
بالمفهوم التاريخى للإسلام احتيالاً على الإسلام» و تكريساً لغربته عن العصر. وحقاً لم 
يفعلا إذ ثقل لساناهما عن القول بإنهاء تلك الشريعة عندما أتيحت لهما الفرصة؛ واحد منهما 
أصر على تطبيقها بحذفارهاء والثانى أخذ يلتف حولها بأطروحات حائرة بائرة. وإن نسبنا 
موقف الترابى للتزيد على خصومه السياسيين» فإن موقف الصادقء الذى لم يجد لقوانين 
نميرى مكاناً غير مزبلة التاريخ» ظل موقفاً ظنيناً منذ أن أخذ يدعو لصحوة ودولة إسلامية 
تعبر فيها الغالبية عن تطلعاتها. تلك الصحوة التلفيقية ليست بأقل جدارة بمزبلة التاريخ عن 
قوانين الإمام الأفين. ش 

لم يكن الصادق والترابى وحدهما هما اللذان أشادا بالشريعة النميرية» إذ أبرق السيد أحمد 
الميرغنى» عضو المكتب السياسى للاتحاد الاشتراكى السودانى نميرى يقول كلفنى السيد 
محمد عثمان الميرغنى بمناسبة إصدار سيادتكم للقوانين الإسلامية» والتى وضعت الشريعة 
السمحاء موضع التنفيذ الفعلى فى بلدنا الحبيب» أن أنقل لسيادتكم التأييد الكامل والمطلق 
(التأكيد من الكاتب) لكل هذه الخطوات الإسلامية العظيمة والتى هى بكل المقاييس من 
الإنجازات العظيمة» وهي من صميم أهدافنا (التأكيد من الكاتب) .("') هذا الثناء العاطر 
تعدى التقية الضرورية التى تلجأ إليها بعض الفرق الإسلامية لمصانعة الحاكم تحرزاً من 
الأذى. حماس أحمد الميرغنى لتلك الشريعة الشوهاء لا شأن له بالدين» بل هو أيضاً إلى 


5356 


السياسة المحضة أقرب. فالتبارى بين قائدى الطائفتين الديئيتين فى الترحيب بشريعة 
نميرى لم يكن أكثر من تعبير عن روح المنافسة بينهما. فإن كان ابن المهدى قد أيدها على 
طريقة نعم ولكن؛ فلا محاص من أن يكون تأييد ابن الميرغنى مطلقاً. ذلك التبارى الأرعن 
يدل على شيكينء الأول هو أن كليهما وقع فى الفخ الذى نصبه الرئيس القائدء والثانى هو 
أن الثنائية الطائفية والتنافس الذى صحبها دوماًء ما زالا يتحكمان فى صنع القرار. كلا 
الزعيمين لم يرد أن يترك للآخر مجال الانفراد بتأييد الشريعة» بالرغم مما اعتورها من 
قصورء وأحاطت بصاحبها من ريب. 

ظل ذلك التفكير البائس يسود الساحة السياسية فى الخرطوم؛ فى حين لم تكن الأمور 
تسير على ما يرام فى الجنوب. فرغم آمال الجنوبيين العراض فيما سيعود به الاتفاق عليهم, 
ظلت إدارة الإقليم تتعرض للهزات للأسباب التى أوردنا. كما أن افتقار الإدارة للمهارات 
والقدرة على القيادة» لم يعين كثيراً لكيما ترتفع تلك القيادات بشكل جاد إلى مستوى 
الأحداث. شهد الإقليم أيضاً حالات مشهودة من الفسادء وإن لم تكن بنفس الدرجة من 
البشاعة التى ظهرت بها فى الخرطوم» كما استمر التنازع بين الموظفين على مستوى 
الحكومة المركزية والحكومة الإقليمية» خاصة إزاء إصرار بعض الموظفين المركزيين على 
الاستمساك بسلطاتهم التاريخية حتى فى الأمور التى حدد الاتفاق فيها الواجبيات بصورة 
واضحة. وإن علمناء كما أسلف القول أن القانون قد نص صراحة على أن 240 من ميزانية 
الإقليم الجنوبى تجىء من ميزانية الدولة» اتضح لنا مدى الضير الذى لحق بالإقليم بسبب 
توقف تدفق هذه الأموال. لم ينحصر العجز فى ميزانيات التسيير» بل شمل أيضاً مشروعات 
تنمية الجنوب التى تم اعتمادها ثم أهمل تنفيذها فى نهاية المطاف. مثال ذلك مصنع 
الكناف فى التونجء ومصنع الجعة فى واوء ومصنع السكر فى مليطء ومصنع الأسمنت فى 
كابويتاء ومصنع النسيج فى منقلاء وزراعة الأرز فى أويل. العجز عن تنفيذ بعض تلك 
المشاريعء ربما يرجع إلى أسلوب التخطيط لعملية التنمية الذى تم من أعلى إلى أسفل 
(100-0000)» واقتصر القرار فيه على قلة من كبار المسئولين المركزيين والإقليميين» دون 
اعتبار لوجهة نظر المستفيدين الفعليين من تلك المشاريع (أى من كنا نسميهم فى أدبيات 


25357 


ماي و أصحاب المصلحة الحقيقية فى الثورة) . كما قد يعود لعدم ملاءمة البيئة الاجتماعية 
والثقافية لبعض من تلك المشروعات. ولكن أيضاً كان للصراعات التى دارت بين الوزراء 
على مستوى السلطة المركزية حول أسلوب تنفيذ تلك المشروعات أثر فى تعطيلها. مثال 
ذلك الخلاف بين وزير المالية» عثمان هاشم عبد السلام» ووزير الصناعة:؛ بدر الدين 
سليمان حول مشروع سكر مليطء أيوجه إنتاجه لتحقيق الاكتفاء الذاتى؛ أم للتصدير على 
غرار مشروع كنانة ؟ ومن الجدير بالذكر أن جميع البحوث المعملية اتفقت على أن سكر 
مليط هو أجود أنواع السكر الذى تنتجه مصانع السودان. 

حيل للجدوب لينتناً أن ساق مياسة معمدة لحرماته عن الدعم 'الغريئ الشبرذان: لاسسيا 
فى مشاريع التنمية الزراعية فى الوطن العربى والتى كانت تحكمها إستراتيجية تهدف إلى 
تحقيق اكتفاء ذاتى فى الغذاء لكل البلاد العربية. تلك الإستراتيجية قادت لوصف السودان 
بسلة غذاء العالم العربى؛ وكانت تعتمد بشكل خاص على السودان لموارده المائية الوفيرة 
وأراضية الخصبة الواسسقة : وبالقل أنشكت الهيكة العربية الزواعية واتَحَدّت من السودان مقر 
لها. وفى منتصف السبعينيات كانت التقديرات تشير إلى أنه فى خلال عشر سنوات سيتم 
إنفاق مئات الملايين من الدولارات لتنفيذ تلك الخطة الطموحة» وسينجم عن ذلك توفير 
/ من احتياجات الوطن العربى من الأغذية الزراعية المختلفة و١7‏ / من احتياجاته من 
السكر. لم يلق الجنوب أى نصيب من المشروعات المختلفة» بل إن المشروع الوحيد الذى بدأ 
تنفيذه فى الجنوب» خارج إطار هذه الخطة» كان هو مشروع جونقلىء والذى كان الهدف 
منه إمداد السودان الشمالى ومصر بمياه إضافية لأغراض الرى. 

رغم كل ما سبقء يبقى سؤال: لماذا سلك نميرى طريق الصراع من جديدء خاصة إن 
كان ذلك الصراع سيفضى إلى تدميره ؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال» فى تقديرناء فى 
أن النفعية السياسية ا اهه1]نامم )» لا التفكير الإستراتيجى السليم؛ ظلت دومآ 
محركاً أساسيا لقرارات نميرىء ولهذا لم يرفى اتفاق الجنوب إنجازاً سياسياً ذا بعد 
إستراتيجى. على أن تشاطر نميرى لم يقف عند الجنوب فقطء بل برز أيضاً فى تصالحه 
مع خصومه فِى الشمال. فباحتوائه للصادق والترابى وضمهما إلى كنفه؛ ظن نميرى أنه 


53538 


أفلح فى تحييد اثنين من أكبر معارضيه. ثم ضم إليهما من بعد أحمد الميرغنى صاحب 
الرأى القائل إن الشريعة من صميم أهدافناء واحتل مكانه معهما فى المكتب السياسى للإتحاد 
الاشتراكى لتطبيق صميم أهدافه. وما أن تم الاحتواء حتى أعلن نميرى نفسه إماماً لكل 
السودان وليس لطائفة واحدة مثل المهدى أو الميرغنى أو جماعة سياسية واحدة مثل 
الترابى. بذلك؛ ظهر نميرى فى أكثر الصور تعبيراً عن نفسيته: رجل يعانى من رغبة 
مرضية فى البقاء دوماً على القمة وفى كل الأحوال. لم يطرأ على بال الإمام الجديد أن 
الإمامة» بخلاف الحكم أو الرئاسة أو قيادة العسكرء تحتاج إلى فقاهة (والفقه لغة هو العلم 
والفطنة) » كما تحتاج إلى مراس سلوكى والتزام أخلاقى. هذه الأمورء فيما هو جلى؛ 
تفصيلات لم تعن إمام السودان فى كثير أو قليل. ولربما قال نميرى لنفسه أن السودان؛ متذ 
إعلان الاستقلال» كان موقع بناء (©)51 10158ذناا) يقوم عليه بناؤون غير مهرة:» فلماذا لا 
ينضم إلى هؤلاء ؟ ومهما كانت دوافع نميرى لإعلان نفسه إمامآء فقد كانت تلك هى 
الصعدة إلى سيقت الوقوع (!1ل2؟ عطا ع55]ءط عوك عط)) . 

بجانب إحلال السلام فى الجنوبء قاد اتفاق أديس أبابا إلى ظهور طبقة حاكمة فى 
الإقليم احتكرت السلطة واستثنت المتعلمين الناشئين» ولهذا تزايدت مشاعر القلق بين هؤلاء 
الناشئين فأخذوا يومئونء ليس فقط إلى خروقات النظام للاتفاقية» بل أيضاً إلى هيمنة 
بعض القيادات الجنوبية على الحكمء واستشراء الفساد بين بعضص بعض أفرادها. . وتماماً كما حدث 
فى تمرد »١165‏ تمردت الكتيبة ٠١١‏ يرفضها التحرك إلى الشمال. وكان الرد من جانب 
الحكومة على ذلك العصيان هو غزو المنطقةء الذى تبعه هروب أفراد الكتيبة إلى أثيوبيا بكل 
«التكاؤاين انك خلال نا قرا ونيز اروف اللجية التى لقنا ريات 
نميرى فى الجنوبء انبثقت الحركة الشعبية لتحرير السودان وجناحها العسكرى. الجيش 
الشعبى لتحرير السودان. وكان قرار غزو المنطقة قراراً غير حكيم أمربه مجلس الدفاع 
الوطنى الذى كان يترأسه نائب الرئيس اللواء عمر الطيب.(*") كان من الممكن تجنب 
استفحال التمردء لولا مشاكسة بلا مبرر من جانب قائد المنطقة الجنوبية اللواء صديق البناء 
خاصة والسبب المباشر للعصيان فى البدء كان سببأ إدارياً: فشل الحكومة فى دفع رواتب 


25359 


الجنود لأشهر عديدة . لتخفيف حدة الموقف قام وفد يقوده نائب رئيس المجلس التنفيذى. 
دول أشويل اليو مع أعضاء من مجلس الشعب الإقليمى بزيارة بورء موقع العصيان» وكان 
بصحبتهم أحد التجار الشماليين فى المنطقة» عبد الله الياس. ناشد ذلك الوفد اللواء البنا 
بتوخى الحذر فيما يتخذه من إجراءات» وكان التاجر الياس بارعاً فى تنيؤه بما ستقود إليه 
إجراءات القائد. قال للقائد: إذا كان حل المشكل يتكلف الآن بضعة آلاف من الجنيهات أنا 
على أتم الاستعداد لسدادها من مالى الخاصء فإن عدم حله الآن سيكلف السودان تمنآ 
باهظأ فيما بعدء لن يستطيع السودان الوفاء به. تلك النصيحة لم تجد أذناً مصغية من القائد 
البناء بل على النقيض قام بتحريض مجلس الدفاع الوطنى للأمر بالهجوم على المتمردين 
فى الجنوب. وقد تركت قرارات مجلس الدفاع الوطنى أثراً لا يمحى على الوضع فى 
المستقبل» ولربما بقيت تلازم بصورة مزعجة أولئك الذين وافقوا عليها فى مجلس الدفاع. أو 
يستغرب أحد أو يتساءل» بعد هذاء عما الذى دفع سلفا كير الذى رأى بانتيو التى كان 
يحميها تقتلع قسراً من الجنوب لتضم إلى الشمال؛ أو حمل دول اشويل» رسول السلام إلى 
بورء لأن يصبح فى طليعة المنضمين للحركة. 


بزوغ الحركة الشعبية لتحرير السودان 

على النقيض من كل حركات التمرد الأخرى فى الجنوب؛ لم تدع الحركة الشعبية 
لتحرير الجنوب من هيمنة الشمال؛ بل أكدت على رغبتها _ منذ البداية _ فى تأسيس 
سودان جديد يعم فيه العدل» وينعم فيه أهل السودان جميعهم بالاستقرار. وكان آخر ما تدعو 
له الحركة هو بعث الروح فى اتفاق أديس أبابا الذى أصبح _ فى نظرها _ حدثا تاريخياً. 
كان من رأى الحركة الناشئة أن التجارب قد أثبتت أن ذلك الاتفاق لا يمكن أن يكون أساساً 
صالحاً لتحقيق السلامء إلا أن نميرىء» والطبقة الحاكمة من حوله؛ لم يكونا مستعدين لتقبل 
تلك الأفكارء بل لم تكن لهم حتى الرغبة فى الاستماع إليها. ما هوالجديد الذى جاءت به 
الحركة؟ الجديد الذى نادت به الحركة هو أن قضية الجنوب لا تختلف عن قضايا مناطق 
أخرى فى الشمال ظلت تعانى التهميش الاقتصادى والسياسى عبر سنوات ما بعد 


2300 


الاستقلال. شرارة ذلك الوعى الجديد أطلقها جون قرنقء وهو نفس الرجل الذى سخر 
استهزاء باتفاق أديس أبابا من قبل. فى هذا ينطبق عليه قول ورسيستر: التمرد ملقى فى 
طريقهء وها هو قد عثر عليه.('") ولكن رغم اعتقاد قرنق بأن الإجحافات التاريخية كانت 
هى السبب فى طغيان مشاعر الاستياء بين الجنوبيين» إلا أنه أكد بأن الشرف فى اندلاع 
نيران الحرب من جديد فى الجنوب يعود إلى نميرى. ففى إحدى خطبه الافتتاحية حدد 
قرنق قائمة التهم ضد نميرى على الوجه التالى: 

١‏ الاعتداء على اتفاق أديس أبابا وإلغاؤه فى نهاية الأمر. حدث ذلك؛ حسبما قال 
قرنق» على مراحل ومن خلال خروقات عديدة للدستورء على رأسها حل المجلس التنفيذى 
والهيئة التشريعية فى الإقليم. 

" - تهديد سلامة أراضى السودان الجنوبى بضم الأجزاء الغنية زراعياً فيه إلى الشمال. 
تلكء كما قال قرنقء رسالة واضحة تفيد أن نميرى لم يكن ينظر إلى الجنوب كجزء متكامل 
من السودانء ومن ثم حاول اقتطاع أجزاء منه بقدر ما يستطيع» وبقدر ما يسعفه الزمن 
على ذلك. كما قام بإعادة ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال عند اكتشاف البترول فى 
بانتيوه ثم سعى جاهداً لإخفاء الحقيقة بإنشاء ولاية جديدة نصب نفسه حاكماً عليها. 

"' - اتخاذ قرار تقسيم الجنوب من جانب واحد وبشكل غير دستورى وعلى خلاف ما 
تراه أغلبية الجنوبيين. 

؟ - محاولاته غير المشروعة لنقل القوات الجنوبية إلى الشمال.('*) 

فى ذات الخطاب أكد زعيم الحركة أن الحركة لاتنظر لنفسها كحركة جنوبية تسعى لحل 
مشكلة الجنوب؛ وإنما هى حركة وطنية تهمها قضايا الوطن كله» وستعمل على أن تلعب 
دوراً طليعياً بهدف توحيد السودان على أسس جديدة؛ وعلى حل المشكلة الجنوبية فى إطار 
سودان موحد تحت نظام اشتراكى عبر نضال طويل الأمد. مصطلح "الاشتراكى الذى ورد 
فى إشارة الحركة للنظام الذى تسعى لإقامته كان واحدأً من الشعارات الأيديولوجية التى 
سادت فى فترة الستينيات والسبعينيات قبل أن تخف حدة تلك الشعارات الزاعقة فى نهاية 


5361 


الشمانينيات» وما بعدها. فمثل كثير من الحركات السياسية النظيرة لم تكن للحركة 
أيديولوجية محددة بالرغم من سعى قلة من الماركسيين الحقيقيين والزائفين فيها لإسباغ 
أيديولوجيتهم عليها. ولريما كان لانتماء قرنق لجامعة دار السلام إبان المد الاشتراكى فى 
عهد نيريرى أثر فى ذلك التوجه الاشتراكى. نضيف أيضأء أن الصلة الوثيقة التى نمت فيما 
بعد بين الحركة ونظام منقستو الماركسى أو المتمركسء كان لابد من أن تجعل قيادة الحركة 
تغض الطرف عن غلواء الماركسيين المزعومين فى وسطها. بيد أن الذى يكشف عن 
حقيقة موقف الحركة تصريح أدلى به قائدهاء فى معرض رده على اتهامات وجهها إليه 
صادق المهدى. قال الصادق أن قرنق يخطط لتطبيق "اشتراكية علمية ذات أصل زنجى 
غير عربى على السودان.(١')‏ فى رده على ذلك الاتهام قال قرنق: "فى البدء أنا لا أعرف 
ما تعنيه الاشتراكية. أما الرأسمالية التى درستها لمدة تسع سنوات: مازلت أجهل كنهها. 
وعندما تجعل من الاشتراكيةء اشتراكية علمية زنجية يصبح الأمر أكثر تعقيداً. ثم ما هو 
الأصل العربي والأصل الزنجى؟ نحن خليط بديع» دعنا نجعل من هذا الكوكتيل بلدا قوياً. 
أما بالنسبة للاشتراكية أو الشيوعية أو أمثالها من الأيات(15:05): أقول إن المرء لا يستطيع 
أن يكون شيوعيآً أو رأسمالياً دون أن يكون موجوداً فى الأصل. فعلينا إذن أن نكون 
سودانيين وأن نؤسس سودانا جديداً. نقطة انطلاقناء إذن» هى السودانوية لا الرأسمالية أو 
الاشتراكية أو أى شىء من هذا القبيل.("5) 

ذلك الخطاب أدلى به قرنق فى أثيوبيا الماركسية _ اللينينية أى بعد بضعة أعوام من 
مولد الحركة وإجلاء ميثاقها على الناس. لهذا ضل الدكتور لام أكول السبيل فى كتابه 
الأخير (الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان : داخل ثورة أفريقية ) عندما نسب 
الحركة إلى عقيدة سياسية معينة ( الماركسية اللينينية ) لأن واحدة من المسودات الأولى 
لميثاقها قد تبنت تلك الصفة. تلك الوثيقة الأولى حملها ضابط جنوبى إلى أجهزة الأمن فى 
الخرطوم فضربت لها الطبول؛ وما فتئ بعض ساسة الشمال ومثقفيه يعودون إلى تلك التهمة 
(وما هى بتهمة)»؛ حتى بعد مرور عشرين عاماً من نشر المانفستو النهائى الذى أقرته 
الحركة؛ وبعد عشر سنوات من مراجعتها له فى شقدم. نقول ما هى بتهمة لأن المتمركسين 


5362 


داخل الحركة كان لهم صحاب فى السودان وخارجه؛ ومن هؤلاء من لم يتشيع (أى يصبح 
شيوعيا) ء ولكنه رأى فى الجدلية واحدة من أنجع أدوات التحليل. إلى ذلك السبيل المستحير 
ذهب الأستاذ عبد الله على إبراهيم فى استعراضه لكتاب لام. ("). ففى مقآله وردت 
تعبيرات مثل "تباطأت الحركة دون هذه الصفة النظرية الباكرة (أى الماركسية)» أو 
اضطرت إلى ابتلاع صفتها الماركسية. وكما قلناء كان بين رجال الحركة الأوائل من لا 
يعرف منهجاً للتحليل أكثر نجاعة من الماركسية» كما كان من بينهم ورثة روحيون لأقرى 
جادين لا يرون خلاصاً للجنوب إلا فى انفصاله عن الشمال. الأغلبية من قيادات الحركة 
يومذاك رفضت التوجهينء فاستكان البعض للقرارء وقال الآخرون (الانفصاليون) أن القرار 
أن ع وا م ال و ا 10 
من التريص) ا و ل ا وو 0 
بها الباطل من بين يديها ومن خلفها. فالعقيدة السياسية للحركة» لمن شاء أن يلم بالحقائق 
الموضوعية؛ء تكمن فى ميثاقها الذى أعلنتهء وفى خطابها السياسى الذى ما فتكت تكرر» 
وفى إعلانات قائدها التى ظل عليها ثابتاً. 
نعود إلى الحركة ونميرىء لنقول أنها وإن وجهت جام غضبها إلى نميرىء إلا أنها لم تنزلق 
إلى الادعاء بأنه مصدر كل مآسى الشعب السودانى. أقرت أن جذور الأزمة أعمق بكثير 
من أخطاء الديكتاتور الحالى مهما كان دوره فى مضاعفة المآسىء كما أكدت أن القضاء 
على حكم نميرىء لن يوفر بمفرده حلا لمشاكل السودانء ناهيك عن أن يصبح الدواء 
الشافى لكل الأمراض ( 3ع382م) رقضت الجر كة أيضاً الادعاء القائل بأن الانقسامات 
المتعددة بين الجنوب والشمال هى التفسير الوحيد للأزمة» أو أن الأزمة يمكن أن تحل عبر 
الاستقطاب الشمالى _ الجنوبى. لهذاء قال زعيمها أن الحركة تتسع لكل من يشاركها الرأى 
من الشمال جاءوا اومن الكنوب» ومهما كانت انتماءاتهم العرقية أو الدينية . ابتناء على تلك 
المقدمة طرح قرنق برنامج الحركة على الوجه التالى: 

١‏ تحرير السودان وتوحيده والدفاع عن سلامة أراضيه؛ وفى ذلك رفض صريح لفكرة 
الانفصال. 


2563 


" - الديموقراطية:» والمساواةء والحرية» والعدالة الاجتماعية والاقتصادية . وفى هذا 
مؤشر على تصميم الحركة على العمل على إنهاء كل أشكال الظلم على المستويين الطبقى 


والإقليمى . 
" - العلمانية كالبديل الوحيد الذى يمكن المجموعات غير المتجانسة دينياً من التعايش 
السلمى. 


- اللامركزية الحقيقية التى تنتقل فيها السلطة إلى عامة الشعبء بدلاً من تكريسها 
فى يد النخب فى الأقاليم. والمرادء فيما نقدرء من النبرة الشعبوية لذلك التصريح هوأن 
يصبح الشعب سيداً لقراره بلا وصاية من أحد. 

5 إصلاح الحكومة المركزية إصلاحاً جذرياً تصبح معه الدولة آمنة من المكائد 
السياسية» وهيمنة السلالات الأسرية» والطوائف الدينية» وضباط الجيش. 

"١‏ إنهاء خطط التنمية غير العادلة وغير المتكافئة التى قادت لنمو غير متوازن عانت 
من جرائه أجزاء كثيرة فى القطر. 

7 محاربة العنصرية والقبلية. 

- تحويل السودان من قزم مزدرى فى العالم العربى» ودولة مشكوك فى أمرها فى 
القارة الأفريقية» إلى دولة معاصرة تتدفق بالحيوية والازدهار الاقتصادى بالشكل الذى 
يبعث على الفخر والاعتزاز. 

هذه الأطروحات تؤكد أمرينء الأول هو أن هناك شروطأ قبلية للوحدة» والشانى هو 
ضرورة المراجعة الشاملة للسياسات التى ظللنا نتبع منذ الاستقلال. 

انهيار النظام الحاكم 

أصبح موقف نميرى بعد فشل اتفاق أديس أبابا يدعو للشفقة» ويعسر الدفاع عنه حتى 


على أقرب أصدقائه. فسقوط الاتفاق جعل الجنوب كله يصطفق عنه»ء بل قاد إلى إحياء 
حركة انيانيا من جديد تحت اسم انيانيا الثانية. لم يك ذلك هو المشكل الوحيد الذى جابه 


564 


نميرىء وإنما واجه أيضأء فى أخريات سنى حكمه:ء أزمة اقتصادية طاحنة حين أخذ 
السودان يعانى من الإنفاق المتزايد على الأمن بوجوهه المختلفة. وبينما شهد الاقتصاد نموآ 
هائلاً لعقد كامل» كان ذلك النمومحفوفاً بالمخاطر إذ ارتفع معدل التضخم؛ وتضاعف 
ميزان المدفوعات ثلاث مراتء وعانت الميزانية من عجز خطير. علاوة على ذلك» جاءت 
الضربة القاصمة عندما اتجه نميرى إلى ما سمى بأسلمة الاقتصاد. فى تلك الفترة أوكل 
نميرى أمر إدارة الاقتصاد لمجموعة من غير أهله» فيهم المشعوذ وفيهم الدعىء وكان 
نميرى فخوراً أشد الفخر بذلك الإنجاز. تلك هى الفترة التى أصبحت لغة الاقتصاد فيها هى 
زكاة النعم» لا عوامل النموء وعناصر الإنتاج» وعوامل الإحلال. كما أصبحت نقاط 
الاستدلال فى الاقتصاد هى مقولات مالك بن أنس حول النقود» وأحكام القاسم بن سلام فى 
الأموالء لا النظرية الكينزية للاستثمارء أو قواعد الاقتراض من مؤسسات بريتون وودز التى 
كانت تمسك بخناق السودان مثل غيره . ياللعجبء, كان هذا يدور فى سودان الثمانينيات من 
القرن العشرينء لافى الكوفة فى القرن العاشر الميلادى. وليتنا كنا فيهاء ففقهاء ذلك الزمان 
لم يغلقوا أنفسهم على الآثارالتى وردت لهم من عهد الرسول والراشدين» بل تماهوا مع 
زمانهم» فتأثر منهم ابن سينا بالأفلاطونية الحديثة حتى أصبح اسمه عند الإخباريين العرب 
المعلم الثانى . وهو الثانى ليس بعد الرسول عليه أفضل الصلوات وإنما بعد أرسطوء كما أسمى 
أبو بكر محمد بن زكريا الرازى جالينوس العربء لا مقتفى أثر الطب النبيوى. وفى النقود لم 
يذهب عبد الملك بن مروان إلى ابتداع اسم عربى إسلامى للنقود التى سكها بل أسماها 
الدرهم (من اليونانية دراخما)ء أو الدينار (من الرومانية دينارو) » كما لم يذهب لذلك أبو 
جعفر المنصور الدوانيقى» وذلك اسم أطلق عليه لاستقصائه فى حساب الأموال (الدانق هو 
سدس الدرهم) . تلك مغالاة لا تصدر إلا من جاهل مفتتن بجهله غاية الافتتان. تعم؛ 
المتقدمة من الفلاسفة والحكام المسلمون لم ينكروا أو يتنكروا للمعارف والخبرات المعاصرة 
أيأأكان مصدرهاء بل نهلوا منها حتى روواء واعترفوا بالفضل لأهل المناهل. 

نتيجة لذلك الانغلاق الفكرىء والجهل بكل ما يدور فى العالم من حول نميرى 
ومستشاريه» كادت المؤسسة الاقتصادية تنهار» رغم جهود قلة من أهل الدرية ظلت تعمل 


2565 


لكيما لا ينهار الإقتصاد كنهر الجليد.(؟") تلك هى الظروف التى وفدت فيها منظمات 
بريتون وودز لإنقاذ السودان. وبدون شكء كان الذين أوكل لهم نميرى أمر الاقتصاد 
يجهلون كل الجهل أمر هذه المؤسماتء لا يدرون أهى مؤسسات مالية ذات أنياب قواطع» 
آم خنية جات تسعن: .ولت لهم التغامل مع مؤنيسات لا تمت سل العملات التى تقدربهآ 
الحسابء الحقة وبنت لبون؛ فالنقود وحدهاء فى عرف تلك المؤسسات. هى أداة التبادل» 
وهى مقياس القيمة الاقتصادية للسلع والخدمات والأصولء وهى وسيلة إجراء الحساب 
والمقارنة بين العوائد والتكاليف. وعلى أى» أوقعت مؤسستا بريتون وودز: صندوق النقد 
الدولى والبنك الدولى بالاقتصاد السودانى ضربات موجعة بسبب البرامج القاسية التى 
فرضاها. ومع تفاقم الفساد. وسوء إدارة الاقتصادء انتهى الاقتصاد إلى انهيار شبه كامل. 
ومن سوء حظ نميرى أن نمو الإقتصاد قاد إلى خلق غوغاء باريسية (506 15,ة) فسى 
الخرطوم. ففى عام ١187‏ بلغ سكان العاصمة مليوناً و47 ألف شخصء وكان ععدد 
سكانها لا يتجاوز 784 ألف شخص فى عام 1977 . كما ارتفعت معدلات البطالة بشكل 
مبالغ فيهء وتريفت (215311560) المدينة بشكل متزايدء رغم محاولات النظام قسر 
النازحين على العودة إلى قراهم فيما كان يعرف بالكشات7*'). ومع استمرار تدهور 
الاقتصادء أخذ الأطباء» والمحامونء والقضاة»ء وموظفو البنوك» والجماعات المهنية الأخرى. 
يتخذون طابعاً بروليتارياً فى الصراع مع النظام. فى ذات الوقت» اتجه نميرى للبحث عن 
الأسباب الخارقة التى قادت لظواهر لا يمكن أن تكون إلا ظواهر اجتماعية وطبيعية . فقبل 
آخر زيارة رسمية له إلى واشنطن أعلن نميرى أن المصائب الاقتصادية التى يعانى منها 
السودان» ما هى إلا ابتلاءات من السماء لأن الناس قد هجروا دينهم. كما أحاط الرئيس 
الإمام نفسه أيضاً بمجموعات من الأفاقين والعرافين أملاً فى أن يعينوه على اجتياز هذه 
الابتلاءات» ولكن: فيما يبدوء لم تكن الكرة البلورية التى ينظر فيها أولئك الدجالون 
للمستقبل على قدر من الصفاءء إذ ظلت الضغوط تتوالى على نميرى حتى تآكلت سلطته . 
من الناحية السياسية» لم يفلح نميرى فى الحصول على التأييد الذى كان يتوقعه من بعض 
الدوائر الإسلامية الخارجية التى ظن أنها ستكافئه على إعلان الشريعة. نصيحة هؤلاء لنميرى 


366 


كانت هى التمهل فى تطبيق الشريعة. أما صادق المهدى وحسن الترابى اللذان حسب نميرى 
بأنهما أصبحا درعاً واقيً له ضد الجنوب ومعارضى الشمال معاء فلم يذودا عن حياضه على 
الوجه الذى كان يترجى. كلاهما شعر بوقع المفاجأة عندما قام نميرى بفرض الشريعة كاملة 
فى الوقت الذى كانا ينتويان تطبيقها بصورة متدرجة. ولهذاء سعياء كل على طريقته. 
للإطاحة بالنميرى. فى تلك الظروف لم يثردهشة أحد أن ينبرى المؤمنون بإحياء حقيقى 
للإسلام للتعبير عن معارضتهم للهوس الدينى الذى أطلقه نميرى من عقاله» وتجلت القسوة 
التى تعامل بها نميرى مع هؤلاء فى أبشع صورها فى تعامله مع الأستاذ محمود محمد طه. 
وجهت لطهء والذى كان يبلغ من العمر ستة وسبعين عام تهمة التحريض على الفتنة. وكان 
محمود محموداً فى كل شىء. كان ذا عطاء فكرى جمء اتفق معه الناس أم اختلفوا. وكان 
عامر القلب» متوقد العقل» كثير النوافل. وكان حيياً متواضعاًء لا يحسب أن رأيه هو الأول 
والأخيرء بل كان يهوى السجال الذكى ويدعو له الناس. وكان سمحا لايضطغن حقداً على 
أحدء وزاهداً يجد العفو حتى فى المال القليل الذى اكتسب بعرق جبينه وهو يمسح الفلوات. لقاء 
الرأى النصيح الذى أدلى به الرجلء اتهم بالردة» وأصدر ضده قاض مشحون القلب بالحنقء 
ومحتشد العقل بالجهلء؛ حكماً بالإعدام احتوى على جرعات كبيرة من ابتذال الدين. الحكم 
ضد محمود أثار ثائرة كافة منظمات حقوق الإنسان فى العالم» وبيعض حكوماته . مع هذاء لم 
ينزع نميرى عن الأمر» حتى بعد تدخل بعض الحادبين على نظامه!"")؛ بل نفذ الحكم فى 
يناير 1145 . رحل محمودء فى حين بقى نميرى كديك الفجر يخال أن الشمس لا تطلع إلا 
لسماع صياحه؛ ولعل التعبير السودانى (عوعائه) أفصح. قيل لناء أن محموداً مات وهو يبتسم. 
فتذكرنا توماس مور الذى قال لجلاديه عند إعدامه:لا يملك رجل زائل أن يكون قيماً على 
الروحانية (لإأناد نا ءام 04 لدعط »6 'إ212 مدقم [هءممممء) 00) . تداعت إلى الذهن أيصضاً 
صورة أخرىء صورة برومثيوس الإغريقى الذى قذف الله فى قلبه معارف الكون ونجاه من 
تفاهات الحياة الدنياء قحكمت عليه آلهة الشر بعذاب دائم. أُوئق بالحبال على قمة جبل الالمب 
لتقضم الصقور كبده» وبقى فى محنته تلك حتى تصدى هرقل لفك إساره ليتزوج» من بعد» 
ملكة الطبيعة آسياء وينتصر بذلك الخير على الشر. محمود الشهيد هو برومثيوس طليقاء حاضر 


25367 


غائب» يحتفى به الخيرون من أهل السودان كل عام؛ فمن ذا الذى يحتفى اليوم بإله الشر 
زيوس؟ 

قلنا أيضاً إن صادق المهدى عاد ليعارض سياسات نميرى ويقول ما قال حول قوانين 
سبتمبر. وبنفس القدر أخذت العلاقات تسوء مع الترابىء لا لذنب جناه ضد نميرىء وإنما 
لأنه كان المشجب المناسب الذى اختاره نميرى ليعلق عليه كل أخطائه "الإسلامية . ولريما 
كان السبب أيضاً هو إحساس نميرى بأن جماعة الإخوان المسلمين التى يقودها الترابى 
(والتى كانت هى القوة السياسية الشمالية الوحيدة التى ظلت تتعاون معه). أخذت فى 
البروز كمنافس فى السلطة. ودون اكتراث لأن الإخوان هم القوة الوحيدة التى تعاضده فى 
الشمالء أخذ نميرى يوبخهم علانية ويطلق عليهم اسم إخوان الشيطان. وهكذا فقأ نميرى 
عينه الثانية بأصبعه مرة أخرىء كما فعل من قبل مع الجنوب. وفى نهاية فبراير ١١9145‏ 
عندما اشتدت مشاعر السخط صد النظام وضد سياساته الداخلية والخارجية والاقتصادية» 
اتجه نميرى إلى سجن قيادات الإخوان بتهمة التحريض ضد النظام. كان ذلك هو المشجب 
الوحيد الذى بقى له لكيما يعلق عليه كل الأخطاء التى صنعها بنفسه. فى ذات الوقت كان 
يعد لمفاجاة من مفاجاته الكثر بعد ان اودع الصادق والترابى المحيسء ليطل بها بعد عودته 
من رحلة مزمعة إلى واشنطون. ففى الليلة التى سبقت إعدام الشهيد محمود التقى نميرى 
محمد عثمان الميرغنى فى حفل عشاء بحلة كوكو فى منزل صادق الحجازىء وكان عراب 
اللقاء» وزير العدلء الرشيد الطاهر. الهدف من اللقاء كان هو خلق تحالف جديد بين نميرى 
والختمية كبديل لتحالفه مع الإخوان المسلمين وحزب الأمة . لم يقدر لنميرى أن يعود لتنفيذ 
برنامج المرحلة الرابعة من نظام مايوء كما لم يحل سجن الترابى دون هيجان مشاعر 
الاستياء العام ضد النظام . لذلك لم يبق لنميرىء غير اللجوء للاسترضاءء فقام بإلغاء حالة 
الطوارىء التى أعلنها فى أبريل ,»١13854‏ كما أوقف عمل المحاكم الإسلامية الخاصة. وفى 
الجنوب» بعد أن استنفذ كل ما لديه من حيل» عرض على الجنوبيين إلغاء قرار تقسيم 
الجنوب إذا ما رغبت غالبية الجنوبيين فى ذلك. أمر أيضاً بتشكيل لجنة لإبداء النصيحة له 
حول أسلوب حل المشكلة الجنويية» ووضع على رأس تلك اللجنة رئيس وزراء حكومة 
أكتوبرء سر الختم الخليفة . هذا أمر سبقه إليه عبود عندما باءت سياسته فى الجنوب بالفشل. 


5368 


على أن أكثر خطوات نميرى جراءة وحمقاً كانت هى إرساله وفداً لمقابلة قرنق للتعرف 
على رؤاه ومدى استعداده للتصالح. إقدام نميرى على ذلك الاستطلاع كانء بلا شك؛ عملا 
جريئأء إلا أن الحماقة كانت فى الأسلوب الذى أقبل به على الاستطلاع: والعروض التى 
تقدم بهاء وكأنه لم يقرأ شيئاً مما طرحته الحركة الجديدة . فبدلاً من أن يبعث نميرى بواحد 
من أهل السياسة فى نظامه ليحاور الحركة فيما طرحته: أو بأحد العسكريين الذين عمل 
قرنق تحت قيادتهم وكانوا محل تقديره واحترامهء لجأ إلى اثنين من رجال الأعمال: عدنان 
خاشوقجى وتاينى رولاندز. عدنان اتخذ الأسلوب الذى يجيده: استعداده لتقديم مبلغ كبير 
من المال لا يستطيع قرنق أن يرفضه: عشرة ملايين من الدولارات. أما تاينى فقد. فعل» 
هو الآخرء ما يحسن فعله: اللجوء إلى أحد الرؤساء الأفارقة لإعانته على الوصول إلى قرنق 
والضغط عليه لقبول عرض ظن نميرى أن زعيم الحركة لن يرفضه أبداً. توجه تاينى إلى 
مقابلة قرنق مصطحباً معه الدكتور بهاء الدين إدريسء» وحيثما تكون الدولارات يكون 
البهاء . ما الذى تقدم به نميرى عبر مبعوثيه؟ عرض نميرى على قرنق تولى رئاسه الإقليم 
الجنوبى مع منصب نائب الرئيس بجانب سبع حقائب وزارية للجنوبيين فى الحكومة 
المركزية. ولو تمعن نميرى قليلاً فى قالات قرنق عن الفساد والخراب الاقتصادىء ومافيا 
البترول لما بعث إلى خصمه برجل تدور حوله الشبهات فى كل هذه الأمور. قوبل العرض 
بالرفض الفورى بدهشة من نميرى الذى اعتاد على التعامل مع نمط من ساسة الشمال 
والجنوب يعرفون تحديداً ما يطمحون إليه: السلطة والثروة. قال قرنق فى رده للمبعوثين. 
لن أكون أول شخص يعينه نميرى نائباً أول لهء فإلى أين انتهى من سبقنى لذلك المنتصب؟ 
كما أن تعيينى رئيساً للإقليم ونائباً للرئيس لن يحل المشكل. ثم لماذا سبع حقائب وزارية 
للجنوب فى الحكومة المركزية؟ فما الذى سيبقى من حقائب فى مجلس الوزراء لبقية أهل 
السودان؟ وما هو نصيب المهمشين الآخرين مثل الفور والنوبة فى ذلك المجلس؟ أو 
سينتظرون دورهم كى يحملوا السلاح كما حملناه؟ 

فى نهاية الأمرء بلغ السخط الشعبى ضد نظام مايو ذروته فى أبريل عندما شلت الحركة 
فى الخرطوم عقب إضراب عام نظمته الجماعات المهنية مثل الأطباء والمحامين 


569 


والمهندسين وغيرهم. وفى السادس من الشهرء إبان زيارة نميرى للولايات المتتحدة 
الأمريكية» اتفقت تلك الهيئات مع الجيش للإطاحة بالنظام وأصبح وزير دفاع النظام» عبد 


الرحمن سوار الذهب» رئيساً. 
لالا 
خلاصة 


لقد جاء انقلاب مايو ليعلن أنه امتداد لعهد أكتوبرء وكانت سياسات النظام فى البدء 
توحى بعزمه على أن يسلك طريق أكتوبرء خاصة فيما يتعلق بقضية الجنوبء والحد من 
هيمنة القوى التقليدية على السياسة والاقتصاد. ولكن ما إن مضت السنون حتى انحدر 
النظام إلى تخلف وظلامية لم يعرفهما السودان منذ الاستقلال. فبحلول عام ١587‏ استيقظ 
السودانيون ذات صباح من شهر سبتمبر فى ذلك العام ليفاجأوا بقائدهم الذى عرفوا عنه. 
وأحبوا فيه الكثيرء يعلن بمرسوم رئاسى تطبيق الشريعة عليهم وإعلانه لنفسه أميراً 
للمؤمنين. نقول فوجئ أهل السودانء لأن التقوى لم تكن من بين الأشياء التى عرفوها 
وأحبوها فى رئيسهم القائدء وإن عرفوا فيه كل ما ينأى به بعيداً عن ذلك. لذلك المسار 
المتلوى الصاخب أسبابه» وهى أسباب تتجاوز المصالحة مع الإسلاميين. من تلك الأسباب 
شخصية نميرى وأسلوبه الشاذ (ط15ناع10) فى إدارة دفة الأمور والذى كان يراهء كما يراه 
المعجبون به» ضرباً من ضروب الرجولة. ثانيآء عجز نميرى التام عن الوعى بالآثار 
المترتبة على قراراته. ذلك يبدو بوضوح فى الطريقة التى استهان فيها بقراره بإلغاء اتفاق 
أديس أبابا عندما أعلن» ولاقو إلى جانبه: "هذا الاتفاق قمت به أنا ولاقو وكلانا موافق على 
إلغائه» فلم كل هذه الضجة ؟. ثالثأء السلطة المطلقة تسكر من يتعاطاهاء خاصة إن كان ممن 
يفتقرون إلى الحس التاريخىء والتوازن النفسىء, والإدراك لمحدودية الإنسان. تلك العوامل 
مجتمعة ربما تكون هى التى أدت إلى تناقضات نميرى وتلويه. ١‏ 7 

عوامل الضعف فى شخصية نميرى ما كانت لتصل إلى الحد المأساوى الذى وصلت إليه 
لولا سعينا لمأسسة الطغيان. فبصرف النظر عن الظروف الموضوعية التى حدت بنا 


310 


للتحالف مع نميرى» وبصرف النظر أيضاً عن الإنجازات الكبار التى تحققت فى عهده: 
وتلك التى كان الكثيرون ممن عمل معه يطمح فى تحقيقهاء إلا أن السلطات التى منحها 
الدستور للرئيس» وضعف التنظيم السياسى عن استغلال الكوابح التى توفرت فى نفس 
الدستور للحد من سوء استغلال تلك السلطات: جعلت من نميرى صنمأء يسدن عليه من 
يسدن . فيوم اجتمع على نميرى قادة جيشه يتصدرهما عبد الماجد حامد خليل وعز الدين 
على مالك يقولان إما أن تصلح من سياساتك أو تذهبء أو كما يقول أهل البحرية الأمريكية 
للجندى المشاغب (01ا0 مأنأ5 05 منا 6م5108)» تجمع أهل الحل والعقد فى الاتحاد الاشتراكى 
العظيم يقودهم قدامى الساسة» وبروفيسورات النظام ليذودوا عن حمى الرئيس القائد. ويوم 
أن قضى بإلغاء اتفاق أديس أبابا تجمعت نفس الفئة لتهنئة الرئيس بقراره الحكيم. ويوم أن 
أصبح القائد إماماً تدرع نفس البروفيسورات والساسة الاشتراكيون جلابيب الدراويش 
ليصحبوا الإمام فى غزواته على أم ضوابان وأم مرحى. ما أقبحه خصاء الرجال. 

ف نهاية الأربعينيات من القرن الماضى قال يحيى الفصلى عن اسماعيل الأزهرى, 
عند الخلاف معه: "هذا صنم بنيته بيدى» وسأحظمه بذات اليد. أما فى السبعينياتء» كما 
أوردنا فى أكثر من كتاب(")ء قال الراحل جعفر بخيت عن نميرى: هذا صنم بنيناه بأيدينا 
ولن يحطمه إلا رب العالمين. ولرب العالمين جنود منها إرادة الشعوب. ثم جاء على 
الإنسان حين من الدهر أصبح فيه الصنم بزعمه أميرأ للمؤمنين» ولكن فى حقيقته لم يكن 
إلا وثنآ ذا ودع. لا غرابة» إذن» فى أن يظن الوثن الذى كاد أن يعبده الأخصياء بأنه قادر 
على إقامة المؤسسات وإصدار القوانين» كما هو قادر» فى ذات الوقتء على تجاوزها وإلغائها 
أنى شاءء وكيف شاء. 


لالالا 


371 


هوامش وإحالات 





.ذ5عام لإاأذمع لالهنا علهلا ,كع 1اء5001 علأعسمقطن) صا ععل02 امنتازاوط تمماأئعستاصنطط اعنتصدد را 
1968 علعو لا ببعع[1 ,ون عقعع عالدنا ععمءلمعمعل120 وعكام أه قصحوت | 1ناآ عط .موده .ل .إدر0 .1997 
7 مانقطوا الا 200 ععوع لها ,دع )تلوط لمة كعتلصعة :دزلووللا طمنلا 


عرف الأولان بانتمائهما اليمينى» أما ووديس فهو كاتب ماركسى مرموق. وحين نادى 
هنتنقتون بجدوى تدخل الجيش فى السياسة لأنه أكثر تهيأة لتحقيق الوحدة الوطنية والتحديث؛ قال 
كوان أن طبقة الضباط مؤهلة» بحكم مهنيتها ودرايتها بالأدوات الحديثة (الأسلحة)» على إنقاذ 
الدولة من "المستنقع الذى أودت بها إليه السياسات الأيديولوجية(غانا نموذجا) . أما ووديس فقد 
صنف الانقلابات إلى نوع تقدمى حميد ( انقلاب عبد الناصر) ونوع رجعى خبيث (انقلاب 
عبود) . 
)على عبد الرحمنء الديموقراطية والاشتراكية فى السودان. 
(3)انضم عدد من الإسلاميين الحركيين إلى الإمام الهادى (مهدى إبراهيم» أحمد سعد عمر. محمد 
صالح الكارورى» محمد صالح عمر)ء وقد لقى الأخير حتفه فى المناوشات بين الجيش وأصحاب 
الإمام. ويذكر كاتب ينتمى لهذه الجماعة أن رأى الإخوان استقر على أن الانقلاب سيعطل عملياً 
قدراتهم على التحرك وينتقل بالسودان نحو الاشتراكية العلمية. حسن مكىء الحركة الإسلامية: 
صفحة .93١‏ 
(4)أيدت العراق الانقلاب وابتعثت طائرة قيل أنها كانت محملة بالعتاد؛ استقلها مع من استقلها 
ممثل السودان فى القيادة القومية لحزب البعث» محمد سليمان الخليفة . وقد تحطمت الطائرة فى 
مطار جدة فى ظروف غير واضحة» على الأقل بالنسبة للكاتب. 

1١-8‏ 22.تفلناكد لانلوك .عالى اعطم رحا 

(6)نشرت جريدة الديلى نيشن ”١(‏ مارس )3٠٠٠١‏ تحت عنوان "جاسوس فى مجلس الوزراء 
تحقيقاً كشفت فيه عن أن الوزير الأبيضء بروس ماكنزىء كان يعمل فى خدمة عدد من وكالات 
الاستخبارات الأجنبية» ومنها الموساد. وذكرت أن ماكنزى كان هو الوسيط الذى استخدمته إسرائيل 
لوصول إلى الانيانيا فى الستينيات: إلا أن الرئيس كينياتا أمر بإيقاف تلك الاتصالات عندما أبلغ 
بأمرها. 


372 


(7) تشير المعلومات الوثيقة المتوفرة للكاتب أن المنظمة الخيرية بارو وقيرالدين كادبرى (صناع 
الشيكولاتة) » بالتعاون مع مجلس الكنائس البريطانىء هما اللذان تكفلا بأتعاب المحامى فوت. 

(8)عبد الله على إبراهيم» الماركسية ومسألة اللغة فى السودان» صفحة 76 . 

(9)جاء التعبير الأعلى صوتاً عن هذه الآراء من السادة مهدى مصطفى وموسى المبارك وأبو 
القاسم هاشم وكأنا بهم كانوا أكثر حرصاً على الروح المعنوية للجيش من العسكريين (اللواء محمد 
الباقر أحمدء اللواء يوسف أحمد يوسفء العميد ميرغنى سليمان خليل) . 

(10)من بين الأسباب التى اتكأ عليها المعارضون لدعم كلية الأحفادء أنها مؤسسة خاصة. قلنا 
لهؤلاء أن دعم تلك المؤسسة ضرورى ليس فقط لأنها تؤدى دوراً لا يؤديه غيرهاء وإنما أيضا لأن 
واجب الدولة هو الارتقاء بالتعليم فى السودان حيثما كان. كما أبلغنا المعترضين داخل الوزارة أن 
الوزارة التى شرفنا بإدارتها يومذاك هى وزارة التربية السودانية وليست وزارة التربية فى مدارس 
الحكومة السودانية . ونحمد لمعلمين ثلاثة موقفهم الصلب إلى جانب ما ارتأينا: زكى مصطفىء عبد 
الرحمن الطيب على طهء والراحل السمانى عبدالله يعقوب. وقد أصبح زكى وطه مسئولين عن لجنة 
تمويل التعليم العالى» والسمانى مديراً لجامعة جوبا. 

(11) مصطلح أطلق فى الأصل على تجار العبيد ولكنه أصبح يعنى فى الاستخدام الشائع فى 
الجنوب التجار الشماليين بوجه عام. 

(12)حسن مكىء " أعلاه . 
ععلع0هضعمع8051-120 098 كةلتلاء5 .العوععووة تطقطة كتللة 5'مدلن5 ,متأكدكا ووواء13(151) 

8 تعطترء110 ,لاعنصطمتلط )0 زوع لائمل] ,مقلساك 

(14)روى قرنق ما دار فى بعثته العسكرية إلى الولايات المتحدة مع رفيق سلاحه؛ سعود أحمد 
حسون. دعياء فى ختام دراستهما مع كل المشاركين إلى ندوة نهائية» وكان المشاركون من كل 
أصقاع الدنيا. وعندما أخذ قائد الطابور ينادى كل مجموعة للانتظام حسب القارة التى تنتمى إليها: 
الآسيويين؛ الأفارقة؛ الأمريكيين اللاتينيين» انصرفت كل مجموعة إلى الموقع المخصص لهاء فى 
حين ثبت السودانيان فى موقعهماء لم يبرحاه . وعندما التغت اليهما قائد الطابور متسائلاً ماذا 
تنتظران؟ ومن أى مكان فى الأرض أنتما؟ أجاب سعود: من السودان. وهنا قال القائد: أولم 
تسمعانى عندما قلت أفريقيا؟ التفت سعود فى حرج لقرنق (الضابط الأدنى منه رتبة) وقال: أولم 
تسمعه يا ضابط؟ قال قرنق: «لقد سمعته ولكنى كنت فى انتظار تحرك رئيسى:. يروى قرنق هذه 
القصة بتندر ليبين مدى الشيزوفرينيا التى نعانى منها. ولا شك فى أن سعوداً كان يعانى مما يعانى 
منه كثيرون مثله فى الشمالء لا يدرون إلى ماذا ينتمون. 


.0110111165مم0) لهة أعقمد]آ1 ,عالط عط عط لسمة اهمه أاععدمل عط]1” ,ااعسن1] .ط (15) 
988 رذوعءط بإازورء باولا ععلتتطدصة6 
(16 )فى رسالة للسكرتير المالى كتب المستر ويليس؛ مدير أعالى النيل؛ يقول:أن فرض مشروع 
للرى يؤثر على سبل كسب العيش بين الاهالى» وتستخدم فيه الاليات الحديثة لابد أن يحدث 
اضطرابات ليس فقط فى حياتهم المادية» بل أيضاً فى معنوياتهم ونظرتهم للحياة 
6 1931 عامط لصمط ععد امعط عاأتلظ ععممنا عط .وعتال8 م6 
(17)وقعت حالات العصيان فى جويا 15174 : أكوبو 21916 وأو 1977ء أويل 1987 . 
2 .مقلن5 ممعطانه5 معتلم أعطم رنا ١‏ ) 
فى تقرير اليرأن كل تلك الحالات من العصيان كانت تعزىء إما للمخاوف المترسبة فى قلوب 
جنود الانيانياء أو لضيق أفق بعض الضباط الشماليين الذين لم يدركوا بعد روح اتفاق أديس أيابا. 
كما أضاف بأن هؤلاء الضباط لم يكونوا على إستعداد للالتزام بما نصت عليه الاتفاقية حول نسبة ١‏ 
إلى ١‏ فى تكوين القيادة الجنوبية. 
.167 .ؤموزوا/ا )0 عدللا ,مدعنا ذأعمووط ماراك.مه) الدعللة اع طمادللا اعلطةُ 19 ) 
(20) الأنباء» الخرطوم ١١‏ مأيو؟١٠7.‏ 

)١‏ وقع الكاتب. بوصفه وزيراً للخارجية» اتفاق الحدود مع وزير الخارجية الأثيوبية» مناسى 
هايلى فى ١8‏ يوليو1577 بمدينة أديس أبابا. وكان الحوار دائراً بين البلدين حول موضوع الحدود 
منذ عام ١977‏ دون أى تقدم. وقد أودعت الخارجية صوراً من هذا الاتفاق فى الأمم المتحدة ودار 
الوثائق السودانية. وكان من المقرر أن تقوم حكومة فنلندا بترسيم الحدودء ولكن التطورات السياسية 
التى تلت فى أثيوبيا لم تجعل ذلك ممكنا. ومن الغريب أن تشير الصحف السودانية مؤخرأء فى 
مدينة قلما تقرأء أن حكومة (الإنقاذ) قد بدأت للمرة الأولى المفاوضات حول الحدود السودانية ‏ 
الأثيوبية . 

(22)عقب انقلاب مايو مباشرة رتب العميد الفاتح عابدون لقاء بين نميرى والصادق. فى ذلك 
اللقاء تحدث الصادق عن الأخطاء التى وقعت فيها الأحزابء وأشار بوجه خاص إلى استنكافه 
لهيمنة الطائفية على السياسة بدليل موقفه عن عمه. كما أبلغ نميرى أنه نتيجة لتلك الأخطاء, لم 
يفاجأ بالانقلاب. 

(23)من المثيرأن الصادقء ولى الدم» قد عاد مرة أخرى يطالب بالقود (القصاص) على مقتل 
عمه بعد سقوط نميرىء ولكن الصادق الفقيه الإسلامى؛ لم يستذكر أن العفو يجب القصاص. 


5374 


(24)الراية القطرية» 8 ديسمبر .١987‏ 

(25)يطلق الدينكا على أنفسهم وصف مونيانق أى سادة الناس أو كما يفسر فرانسيس دينق الكلمة 
*2000 01 وعلر 
(26)عبد المتعال الصعيدىء؛ المجددون فى السنة من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجرى. 

(27)الصحافة ١#‏ سبتمبر ١947‏ 8 
(328)ضم مجلس الدفاع الوطنىء بجانب رئيسه اللواء عمر محمد الطيبء. اللواء عبد الرحمن سوار 
الدهبء اللواء يوسف أحمد يوسفء النائب العام الدكتور حسن الترابىء وزير الطاقة الدكتور شريف 
التهامى . وباستثناء اللواء يوسف. أيد الجميع استخدام العنف ضد الفرقة المتمردة. ومن المفارقة أن 
يوسف هو الوحيد من بين أعضاء ذلك المجلس الذى كان على صلة مباشرة باستيعاب جنود الانيانيا 
فى الجيش. وتجدر الإشارة إلى أن الضابط الذى كلف بمهاجمة الفرقة المتمردة ضابط جنوبى 
أصبحء فيما بعدء ذا شأن فى حكومة البشير: الضابط دومينك كاسيانو. 

(29)وليام شكسبيرء هنرى الرابع. 

.36-45 طط .لإعووعوووع2آ عن] الدن) .عومدعدن هلامك (30) 

(31)المصدر السابق» صفحة ١75‏ . 

(32)نفس المصدر. 

(33)الرأى العام ١4‏ سبتمبر/ أيلول ٠٠١7‏ 


)كان من بين هؤلاء»ء إبراهيم منعم منصورء عبد الرحمن عبد الوهابء قاروق المقبول» بدر 


الدين سليمان» محمد بشير الوقيع. 
(35)الكشه تعبير شعبى ذائع عن الحملة المفاجئة التى يقوم بها البوليس على تجمعات الأهلين» 
خاصة النازحين من الريف إلى المدينة. 


(36)كان بين الذين تدخلوا لإنقاذ حياة الأستاذ الشهيد نائب الرئيس الأمريكى جورج بوش 
ورئيسة البرلمان الأوروبى سيمون فى بعد أن استنجد بهما الكاتب» واللورد ديفيد أوين وزير الخارجية 
البريطانى السابق عقب اتصال من الدكتور خليل عثمان. 
(37)السودان والنفق المظلمء جنوب السودان فى المخيلة العربية. 
00000 


2315 


٠السياسة‏ هى ثانى أقدم مهنة 


من التجرية أنها تشبه بدرجة 
كييرةلمهنةالأولى. 
بونالد ييجان 

لالآا 


6 


١35443 ١345 


ما أشبه الليله 
بالبارحة 


237 


لا يختلج الشك فى صدر أى عاقل فى أن النخبة السياسية الحاكمة فى شمال السودان قد 
استوعبت الدرس من سنوات الحرب العوان (التى يدور فيها القتال المرة بعد الأخرى) , 
والانهيار الاقتصادىء وتسلط الجيش على السياسة مرة أخرىء وتبعاً لذلك أدركت الحاجة 
إلى إعادة النظر فى سياساتها التى قادت لكل تلك الماسى . ولكن دراسة سودان ما بعد 
تمر أشدقت ثبتت أن الطبقة الحاكمة لم تفشل فى استيعاب الدرس فحسبء بل تنكبت» مرة 
أخرى. وضح السبيل إلى مخالج (طرق فرعية) أودت بها لطريق مسدود. وفى الحديث 
"تكيت المخالح عن وضح السبيل. 

بحلول العام ١145‏ أصبح السودان كله يعانى _ بطريقة أو أخرى _ من رعونات نميرى. 
وبالرغم من أن الأحزاب السياسية كانت عرضة للقسط الأكبر من تلك الرعوناتء إلا أن ما 
تعرضت له من مصائب لم يكنء فيما يبدوء كافياً لحملها على أن تصلح من شأنهاء خاصة فيما 
يتعلق بإدارة السياسة. أصدق وصف تتلك الحالة هو المقولة الفرنسية الذائعة ":كلما تغيرت 
الظروفء بقى الحال على ما هو عليه (ع05اء 06اء73 12 أدء'ء كناأم ,عع مقطاعةه كتدام) 
فمع تبدل الأنظمةء بقيت مشاكل السودان هى نفس المشاكل التى جاءت بنميرى للحكم فى ١5‏ 
مايو العام 1175 . كان السودان أيضاً يعيش إلى حد ماء نفس الوضع الذى كان عليه عند سقوط 
نظام عبود فى أكتوبر 1314.ء إذ شهد العام ١9146‏ قيام انتفاضة أطاحت بحكم دكتاتورى» 
تولت السلطة بعدها حكومة انتقالية كلفت بنفس المهام التى أنيطت بحكومة أكتوبر. غير أن 
إنتفاضة العام ١146‏ اختلفت عن نظيرتها (انتفاضة أكتوبر )١175‏ فى جانبين هامين: 


5309 


أولهما :أن الجيش هو الذى نزع التمثال من قاعدته» وبسبب من هذا سلب الشعب 
انتصاره بإيكال السلطة إلى مجلس عسكرى انتقالى. 

وثانيهما :أن الأمور قد تغيرت فى الجنوب بشكل غير مسبوقء فالذين حملوا السلاح ضد 
نميرى _ على عكس أنيانيا _ لم يحملوه من أجل قضية الجنوبء بل من أجل إعادة هيكلة 
السياسة فى السودان كله حتى تختفى إلى الأبد من خريطة السودان السياسية كل المشاكل 
التى تشابه مشكلة الجنوب. 

اللاعبون الرئيسيون فى الانتفاضة كانوا من ناحية» هم الأحزاب السياسية ونقابات 
المهنيين تحت راية التجمع الوطنى» ومن الناحية الأخرىء الجيش الذى دفع للقيام بانقلاب 
على نظام نميرى. الاستثناء الوحيد كان هو جماعة الإخوان المسلمين (والتى أطلقت على 
نفسها فيما بعد اسم الجبهة القومية) . تلك الجماعة بقيت خارج إطار العملية السياسية 
الجديدة» ولم تشارك فى التوقيع على ميثاق الانتفاضة الذى أصبح الوثيقة الهادية لحكم 
البلاد. وكان ثمة أثران لتغيب أو تغييب الإخوان عن التحول الجديد؛ الأول هو مخاوف 
الأحزاب التقليدية من مدى تأثير الجبهة القومية الإسلامية على توازن القوى فى الساحة 
السياسية» تلك مخاوف لها ما يبررها لأن الإخوان قد إستغلوا ببراعة فائقة سنوات حكم 
نميرى لبسط نفوذهم. والثانى هو القواعد الجديدة للعبة السلطة التى فرضتها الجبهة 
بأطروحاتها (تطبيق الشريعة) . تلك القواعد لم تكن تضع السلام العادل المتفق عليه من 
جميع الأطراف على رأس أولوياتهاء فأولوية الجبهة القصوى كانت هى إقامة دولة إسلامية 
فى السودان وفق رؤاها للإسلام» ومهما كلف الأمر. فى سبيل ذلك دعت الجبهة للتمسك 
بالقوانين التى وضعها نميرى ونسبها للشريعة. ولكن» بسبب مراوغة المجلس العسكرى 
الانتقالى حول وعجز ذراعه التنفيذى عنء إلغاء تلك القوانين» ثم _ من بعد _ تلكؤ صادق 
المهدى فى إلغائها خلال مساعيه لاسترضاء الجبهة القومية الإسلامية» لحق ببرامج 
الانتفاضة تلوث كبيرء ثم قوضت فى النهاية. على الجانب الآخر أطلق قرنق اسم مايو 
الفانى على نظام الحكم الجديدء وهذا أمرلم يرض الكديرين» بل مازال البعض يلج فى 
المنازعة حوله؛ رغم صدق توقعاته بعد مرور أربع سنوات. كان من رأيه أن انقلاب أبريل 


5350 


لا يعدو أن يكون انقلاب قصرء وبطبيعته تلكء لن يفلح فى تبديل المسارالذى شقه 
نميرى .() ولربما كان أكبر التحديات التى واجهتها الدخبة السياسية فى الشمال هو بروز 
حركة فى الجنوب تتحدث بلسان غير ذلك الذى ألفوه . تلك واحدة من "مراوغات التاريخ, 
كما يسميها هيقل. فالتاريخ» فى قوله» لا يسير فى خط طولى مستقيمء بل كثيراً ما تعتريه 
المفاجات التى تقلب الحسابات رأسأ على عقب. وكما سنرى» اتسمت الأساليب التى 
استقبلت بها القوى السياسية الشمالية هذا الكائن الجديد الذى قلب المناضد وراوغ التاريخ 
بتردد فى البدء» ثم من بعد بتجاوب مستحيى. وكان واضحاً أن بعض تلك القوى السياسية 
كان يتمنى أن تتأسى الحركة من سبقها من الحركات السياسية الجنوبية وتنصرف كلية إلى 
معالجة «مشكلة إخواننا الجنوبيين» على النحو الذى عرفته. 

06 

تقويض اهتمامات الأمة الأوسع نطافأ 

حدد ميثاق الانتفاضة أربع أولويات فى أجندته السياسية: إنقاذ الاقتصادء إلغاء قوانين 
سبتمبرء إنهاء الحرب فى الجنوبء الانتخابات. وكشأن السياسة التقليدية تم تقريباً تجاهل 
الأولويات الثلاث الأولى» وأصبح الشغل الشاغل هو التشاحن والتبارى من أجل استقطاب 
الجماهير للمشاركة فى الانتخابات. أهدرت الأحزاب اهتمامات الأمة الأوسع نطاقاً حتى 
تتكرس على الانتخاباتء بينما الحرب مستعرة» والاقتصاد مهلهل فى انتظار المنقذ. بهذه 
الصورة كان الحال فى العام ١545‏ مشابهاً لما كان عليه فى العام 975١ء‏ غير أن مسلك 
سلطة الإنتفاضة فى ١185‏ كان يختلف بشكل جوهرى عن موقف نظيرتها فى أكتوبر 
5 . وجوه الاختلاف تتلخص فى: 

أولاً: قتح التجمع ذراعيه لقيادة الجيش التى "انحازت لجانب الشعب لكيما تكون صاحبة 
الأمر والنهى عبر مجلس عسكرى يمارس كل سلطات السيادة والتشريعء تاركة العمل التنفيذى 
لمجلس وزراء مدنى أليف. ما لم يدركه التجمعء بشقيه الحزبى والمهنىء فيما نرىء هو أنه لم 
يكن هناك أى انقلاب على نميرى من الناحية الموضوعية . فالحاكم الجديد؛ سوار الدهب هو 


5381 


وزير الدفاع والقائد العام للجيشء أى للقوة الضاربة فى عهد نميرى. تلك حقيقة لا يلغيها ما 
يتمتع به الرجل من سماحة وصدقء ولا شك فى أن الرخاوة الرومانسية طغت على أفكار 
بعضنا للحد الذى غيب هذه الظلال فى الصورة . كذلك؛ تكون المجلس الانتقالى العسكرى من 
كبار الضباط فى نظام المخلوع نميرى؛ ومنهم من كان حبيباً إلى نفسه . ولو كان التجمع قادراً 
حقا على الهيمنة على العسكرء لما تخلى عن الإشراف على وزارة الدفاع ‏ أهم الوزارات فى 
ظل نظام عسكرى ‏ لعضو فى المجلس الانتقالى العسكرىء العميد عثمان عبد الله محمد: 
خاصة وهو عسكرى مزدوج الولاء. فخلال الانتفاضة طالب فى اجتماع لمجلس الأمن القومى 
النميرى بإطلاق النار مباشرة على المتظاهرين؛ وكان أمره المشىءوم للجند الذين أوكل لهم 
قمع الانتفاضة هو إطلاق النار على المتظاهرين حتى الموت (!1ف! 0  )50001‏ فى واقع الأمرء 
ترك التجمع للجيش والشرطة اختيار وزيرى الدفاع والداخلية» وغنى عن البيان أن أول ما 
يقوم به أى نظام ديموقراطى» حتى بدون تجارب السودان الأليمة فى تدخل الجيش فى 
السياسة» هو إحكام السيطرة المدنية على أجهزة الردع: (وزارتى الداخلية والدفاع) . فتولى 
العسكريين لوزارات الدفاع؛ والذى هو سمة ملازمة للأنظمة العسكرية وشبه العسكرية فى 
العالم العربى» أمر لا تعرفه ولا تقره الأنظمة الديموقراطية. ولربما كان صناع الملوك 
(1108-5131655) منطقيين مع أنفسهم, إذ درجت النقابات منذ أكتود بر954١‏ على الظن بأنها 
تجمعات لوزراء الظل» 3 بالحرى حكومات انتظار (3()1208/ا- 12 - 801761212611]15) فى 
مراحل الانتفاضات ؛ فوزير التعليم يختاره المعلمون » ووزير الاقتصاد يختاره الاقتصاديون؛ 
ووزير العدل يختاره المحامون؛ وفى جميع الأحوال من بين عضويتهم الراهنة . هذا الوضع 
النابع من تراثناء على غرابته» تطور كبير عما ذهب إليه مدير جامعة الخرطوم عقب استقالة 
سر الختم الخليفة فى عام ١1316‏ اقترح مدير الجامعة يومذاك؛ كحل للأزمة» تكوين حكومة 
من عمداء الكليات. ولحسن الحظء أستسخف تلك الفكرة رئيس مجلس السيادة الحكيم» الدكتور 
التجانى الماحى . 

لم يبالغ قرنقء إذن» عندما قال إن المجلس الانتقالى العسكرى ما هوإلا نظام حكم 
نميرى بدون نميرى. نتيجة لذلك تم إبعاد الحركة الشعبية لتحرير السودان - أو بالأحرى 


5352 


أبعدت نفسها ‏ عن بدايات العملية الانتقالية فى الخرطوم؛ رغم الدور الهام الذى لعبته فى 
سقوط نميرى. ومع موقفها هذاء حرصت الحركة على القول بأن نميرى ليس هو العدو 
الوحيد» بل ليس الجيش هو العدو الحقيقى. العدو الحقيقى» فى تقديرهاء هو المؤسسات 
والثقافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة» والتى مكنت نميرى ومن ازره من 
تفريغ اتفاقية أديس أبابا من مضمونها مما أدى إلى إشعال الحرب مرة أخرى. 

ثأنياً :على خلاف حكومة أكتوبرء لم تكن الحكومة الانتقالية الجديدة ذات برنامج عمل 
إصلاحى واضح التزمت به الأحزاب مسبقاً. صحيح أن النظام الجديد كان يلقى تأييداً كبيراً 
من قاعدة من النقابيين حسنى النوايا والراغبين فى تطوير الحياة السياسية» إلا أن النوايا 
الحسنة لا تغنى عن السياسات ولا ترجح موازين القوى كما أبانت الأحداث من بعد . فالذين 
تولوا زمام السلطة لم يعجزوا فقط عن ترجمة نواياهم الحسنة إلى سياساتء بل أيضاً عن 
تنفيذ واحد من أهم أهداف الانتفاضة: إلغاء قوانين سبتمبر بعد أن تلكأ المجلس العسكرى فى 
إلغائها. ومن ثم لم يكن مستغرياً أن تكافئ الجبهة القومية الإسلامية الأعضاء البارزين فى 
المجلس الانتقالى العسكرى بمناصب فى واجهاتها الاجتماعية(") بعد مرور بضع سنوات 
على الانتفاضة. ومن المعروف أيضاً أن سوار الدهب كان من بين أول من أبرقوا نميرى 
(اليوم التالى لتطبيق قوانين سبتمبر) مؤيداً لتلك القوانين المشينة» وقاطعاً العهد بتقديم دعمه 
ودعم القوات المسلحة لها. ومع ثقتنا بأن دوافع الرجل _ على المستوى الشخصى ‏ كانت 
دوافع يقينية صادقة:» إلا أن إشارته لدعم القوات المسلحة لتلك القوانين لم تكن موفقة:» إذ 
تجاهل الفريق المستيقن آراء الآلاف من غير المسلمين فى الجيشء عندما أباح لنفسه أن 
يجعل عليهم عهدة لا خلاص منها("'). نخاله أيضاً تجاهل آراء العديد من المسلمين بين 
الجنود والضباط الذين نقطع أنهم لم يكونوا يشاركون نميرى رؤيته للإسلامء فأغليهم كان 
أقرب إلى ما كان عليه نميرى قبل أن تحل عليه الهداية. إضافة إلى ذلكء أدى الفريقان 
اللذان تصدرا المجلس العسكرى الانتقالى يمين الولاء ل "أمير المؤمنين. 

دولة الإمامة والبيعة تلك شهدت أخطر حدث فى تاريخ الجيش السودانى تبعه أثره: 
انتداب الضباط لدورات فى التوعية الدينية بالمعهد الأفريقى الإسلامى كانتء فى 


25353 


جوهرهاء دورات للتهيئة الأيديولوجية . لهذا يجب أن لا يثير العجب أن أغلب الذين شاركوا 
فى انقلاب يونيو الجبهوى كانوا ممن تلقوا تدريباً فى ذلك المعهد. تنتابنا غصة عندما 
نستذكر دورناء فى عهد وزارة الشباب والشئون الاجتماعية» فى إنشاء ذلك المعهد فى عام 
كمركز لتغذية شباب الدول الأفريقية بالدراسات الإسلامية والمعارف الحديثة» 
وباللغتين الإنجليزية والفرنسية» بجانب العربية(؛). تمبكتو السودانية هذه» تحولت بعد 
قوانين سبتمبر إلى مفرخ للتشدد والغلواء» وظل انتداب الضباط للمعهد سارياً طوال الفترة 
الانتقالية «العلمانية»: والفترة الأولى من حكومة الصادق المهدىء إلى أن أمر بإيقافها 
الفريق الراحل فتحى أحمد على عندما أصبح قائداً عاماً للجيش فى ععهد رفيقه وزير 
الدفاع» عبد الماجد حامد خليل. ولا نحسب أن «العلمانيين» فى التجمع كانوا راغبين فى 
الإيقاء على ذلك الصرح «الجبهوى؛ الأيديولوجى» ولكن انهماكهم فى محارية طواحين 
الهواء أعمى أبصارهم عن مواطن الخطر الأساسية التى خلفها نميرى. 

من وجه آخرء لم يتدبر صناع الملوك بين النقابيين ذوى النوايا الحسنة أمرمن جاءوا 
بهم إلى سدة الحكمء خاصة فيما يتعلق بصدق إيمان هؤلاء بضرورة إلغاء القوانين المنسوبة 
للإسلام. فرئيس الوزراءء د. جزولى دفع الله كان من أوائل النقابيين الذين أبرقوا نميرى 
يهنئونه بوضع "الشريعة موضع التنفيذ. رسالة التأييد تلك أذيعت على موجات إذاعة أم 
درمان ونشرت فى الصحف التابعة للنظام.(”) ولعل دوافع الجزولى ‏ مثل سوار الدهب ‏ 
كانت أيضاً يقينية؛ ولكن» كما أيد الفريق قوانين سبتمبر باسم القوات المسلحة التى لم 
يستقص رأيهاء هلل دفع الله للشريعة الزائفة» ليس فقط بالأصالة عن نفسه؛ بل أيضآً 
بالنيابة عن نقابة الأطباء السودانيين: زعم النقيب أن تأييد النقابة وموافقتها على تلك 
القوانين كان نابعاً من التزام الأطباء نحو الله والوطنء ولم يجد ما يصطفيه ويخصه بالثناء 
من بين كل قوانين سبتمبر العوجاء» غير القوانين الجنائية (الحدود) . ولا شك فى أن النقيب 
قد ألحق ظلماً فادحاً بزملائه الأطباء» فالمعروف أن جميع الأطباء السودانيين رفضوا رفضاً 
باتأ (بإستثناء واحد منهم هو الدكتور كمال زكى) أن تكون لهم أدنى صلة بتطبيق الجوانب 
القاسية عن الحدود مثل قطع اليد فى حد السرقة» دعك عن القطع من خلاف فى حد 


554 


الحرابة . وبتقاعس الحكام المدنيين والعسكريين عن إلغائهاء تحدد مصير قوانين سبتمبرء إذ 
قدر لها البقاء نافذة بفضل السدنة الحقيقيين لأكذر الفترات المايوية قبحأ. أما الذين كان 
يترجى منهم حقاً إنقاذ السودان والإسلام من القوانين النميرية فقد أضحوا كقطة تينيسى 
وليامزء يتململون فى سقف صفيح ساخن. فمع وعيهم جميعاً بأن مكان تلك القوانين» كما 
قال صادق المهدىء هو مزيلة التاريخ» إلا أن الجسارة عصتهم. قلة منهم ظلت تجابه الأمر 
بما يقتضيه من جرأة» وكان جهدها صيحة فى واد. حتى اسم القوانين لم يعد هواسمها 
الذى أطلقه عليها نميرى: الشريعة بل أصبح اسمها قوانين سبتمبر. وفى طوال تاريخ 
القانون السودانى لم ينعت أى أمر قانونى باسم الشهر الذى صدر فيه . 

من ثم لم تفعل الحكومة شيكآً واحداً حيال القضايا الملحة» باستثناء قضية واحدة. 
ونعترف للنظام بأنه أولى قضية الحرب اهتماماً ملحوظأ واتجه إلى الحوار الجدى مع الحركة 
الشعبية لتحرير السودان. ففى البداية أوفد المجلس العسكرى الانتقالى الفريق المتقاعد يوسف 
احمد يوسف. للاتصال بالحركة بهدف الاستكشاف وجس النيض . كان يوسف على صلة 
وثيقة بقرنقء كما كان ومازال ‏ بين الرجلين ود واحترام متبادل. فالفريق يوسف,. كما 
أوردنا فى الفصل السابق؛ هو العضو الوحيد فى مجلس الأمن القومى( الذى كان يضم سوار 
الدهب ويترأسه نائب الرئيس عمر محمد الطيب) الذى اعترض على اللجوء إلى القوة ضد 
القوات المتمردة فى الجنوب والتى أصبحت نواة» فيما بعدء للحركة الشعبية . التقى يوسف 
زعيم الحركة السودانى فى أديس أبابا لينقل له رسالة المجلس. ولكن بدلاً عن الرد على تلك 
الرسالة بالصورة التى كان يريدها من أوفد يوسفء قال قرنق أنه لا يتق بالمجلس العسكرى 
الانتقالى الذى سلب الشعب ثورته ولا يملك الجرأة للقيام بالتغييرات الهيكلية المطلوبة. لم 
يترك قرنق الفريق يوسف يغادر أديس أبابا خالى الوفاضء بل قال له: أعرف أن كثيرين 
فى الشمال لا يعتقدون أن حركة ذات منبت جنوبى يمكن أن تعمل من أجل الوحدة . لتبديد 
تلك المخاوف أنا على استعداد للتنازل لك عن قيادة الحركة فأنا أعرفك وأثق بك. ويدهى 
أن يوسف لم يأخذ هذا العرض بجدية. 


صمدت الحركة الشعبية فى موقفها ضد المجلس العسكرى الانتقالى حتى النهاية» وثابرت 
على المطالبة باستقالة حكومة سوار الدهب فوراً» وانتقال السلطة إلى حكومة أوسع نطاقاً 


25355 


تشارك فيها الحركة. وتعبيراً عن حسن نواياها أعلنت وقفاً لإطلاق النارلمدة سبعة أيام 
لتسهيل هذا الاحتمال. ترى ما السبب وراء نداء قرنق وتشبثه بموقفه؟ فى صلب النداء بتنحية 
المجلس العسكرى الانتقالى استنتاج قرنق بأن رؤية تلك المجموعة للأزمة لا تختلف جوهري 
عن رؤية الأنظمة السابقة» فأغلب التسويات منذ الاستقلال لم تكن أكثر من محاولات تسكين 
للأزمة تتمثل فى قطع وعود للجنوبيين بحكم ذاتى» ومنح قلة من النخب الجنوبية وظائف 
هامشية» دون أن يصحب ذلك التزام صادق بعلاج جذرى للمشكلة. قالت الحركة أنها ترفض 
التفاوض مع المجلس العسكرى الإنتقالى ؛ أولاً لأن الحركة لن تدخل فى مفاوضات تقتصر 
على حل المشكلة الجنوبية» باعتبارها حركة وطنية ألزمت نفسها _ مثل غيرها _ بالسعى إلى 
حل المشكلات الوطنية؛ وثانياً لأن المجلس العسكرى لا يملك التفويض الدستورى بالحكم أو 
التفاوض . ولربما يرى البعضء بحقء أن السبب الشانى سبب واه إذ دخلت الحركة؛ فى 
حالات عديدة؛ فى مفاوضات مع أنظمة منقوصة الشرعية:» فى تقديرهاء ولكنها تعاملت 
معها باعتبارها حكومات أمر واقع. وريما كان الاختلاف بين المجلس الانتقالى وأنظمة الأمر 
الواقع الأخرى هو أن الحركة كانت تسعى فى تلك المرحلة إلى ترجيح كفة القوى الجماهيرية 
على السلطة العسكرية. ثالثأء أثار ثائرة قرنق قرار المجلس بإعادة تفعيل اتفاق أديس أبابا دون 
مراعاة للتغيرات الكبيرة التى حدثت منذ إلغاء نميرى للاتفاق» ودون اعتبار لخطابه الذى 
ألقاه على مدى يومين وأبان فيه موقف الحركة من الحل السلمى ومن اتفاق أديس أبابا.(") 
وفيما نحسبء لا يعود غضب زعيم الحركة الشعبية على قرار المجلس بإعادة الحياة إلى اتفاق 
أديس أبابا إلى تجاهل الخرطوم لخطابه فقطء وإنما أيضأ للتدليس الذى صحب قرار العودة إلى 
اتفاق أديس أبابا. إذ كيف يجوز عقلاً أن يدعو للعود للاتفاق نفس الضباط الذين أعانوا 
نميرى على إلغائه» بل على اتخاذ قرارات قوضت, بطبيعتهاء مقومات الاتفاق مثل مباركة 
قوانين سبتمبرء وجعل الجهاد فى سبيل الله عقيدة للجيش. 

فى نفس الخطاب أعلن قرنق أن الحركة الشعبية تأمل فى الإسهام مباشر. ة فى إعادة 
تشكيل سودان جديد بمشاركة جميع القوى الديموقراطية والوطنية فى البلاد. قال: " القضية 
ليست قضية خمسة عشر جدرالاً يمسكون بمقاليد السلطة فى الخرطوم ويشكلون مجلساً 


35356 


عسكرياً ومجلساً مدني للوزراء ثم يطالبوننا بالوفود للخرطوم لكيما نحتل الوظائف المحجوزة 
لنا. كلاء لا ينبغى لأحد أن يظن أنه هو الآخذ وهو المعطىء فالله وحده هو المعطى والآخذ 
(طاعءلة 0,مآ عطا لهة طأاء(ااأع لمآ 56)) . مضى زعيم الحركة يقول: علينا أن نسعى 
معاً لبناء سودان جديد بمشاركة القوى الديموقراطية الأخرى فى البلاد فنحن لسنا كرادلة 
لنبارك ما يقرره الذين يمسكون بمقاليد الحكم في الخرطومء إنما نحن سياسيون لنا الحق فى 
أن نعمل على قدم المساواة مع صانعى القرار فى الخرطوم لكيما نرسم الطريق إلى 
المستقبل .(7) 

أذهل حكام الخرطوم هذا النمط فى التعبير الذى لم يألفوه فى تعاونهم مع ساسة الجنوب. 
ففى كل التغييرات السابقة كانت الحكومات الجديدة تسعى إلى استيعاب أفراد من النخبة 
السياسية الجنوبية لإضفاء شرعية على النظام الجديدء وهى قائعة بأن فى ذلك ما يرضى 
طموح الطامحين. الحركة رفضت استغلالها لتجميل وجه حكومة المجلس العسكرى 
الانتقالى وتساءل زعيمها "كيف يتأتى للمجاس العاجز عن تشخيص الأزمة السودانية 
بطريقة صحيحة:؛ وإدراك عمق الأزمة الوطنية (وليس مشكلة الجنوب فقط)» أن يوفر 
العلاج المناسب لتلك الأزمة(*). أردف قرنق قائلاً : السلام الردىء القائم على الأكاذيب 
والخداع والمداهنة ‏ مثل السلام الذى حدث فى العام 1977 - أسوأ من الحربء والحل 
الناجع الوحيد لمشكلات السودان لن يتحقق إلا بإجماع وطنى ديموقراطى واسع 
النطاق("). لتحقيق ذلك دعت الحركة إلى العمل الشعبى ضد المجلس العسكرى الانتقالى» 
مؤكدة استعدادها للتفاوض مع القوى الديموقراطية حول الخطوات اللازمة للإطاحة بما 
أسمته نظام مايو الثانى. 

وإن كان هذا هو موقف الحركة من المجلس الانتقالى» فما هو موقفها من الشق المدنى 
فى الحكم؟ تشككت الحركة فى مجلس الوزراء المدنى بسبب إصرار رئيسه على العودة 
لاتفاق أديس أبابا رغم ما أعلنته الحركة حول ذلك الاتفاق. كما أثار قرنق ما حسبه تهويناً 
من الأزمة من جانب رئيس الوزراءء الجزولى دفع الله. ففى خطاب أرسله إلى قرنق 
وصف رئيس الوزراء الحرب فى الجنوب بقرح السودان الدامىي5022 عمنلءءاط) .("') 


5357 


المشكلة» بلا مماراة» أكبر من قرح دام بعد أن خبث القرح وتأصل. قدم دفع الله فى ذلك 
الخطاب عدداً من المقترحات ظن أن فيها مقنعاً لقرنق لكيما ينضم إلى الحكومة. تلك 


المقترحات هى: 
١‏ - حل المشكلة الجنوبية وفقاً للميئاق الوطنى المتفق عليه من جانب النقابات والأحزاب 
السياسية والجيش. 


" - إحياء اتفاق أديس أبابا. 

 '"“‏ الاعتراف بالخصائص الثقافية للجنوب. 

؛ - الإقرار يحقيقة التخلف فى الجنوب والتعهد بإصلاح الخلل. 

زاد من الشكوك موقف رئيس وزراء الانتفاضة من القوانين الدينية لم يبد رأيه فيها 
صراحة بل قال إنه من الأفضل أن تترك لمؤتمر دستورى يبت فى أمرها. وما كان الاقتراح 
ليثير زعيم الحركة» فقد قبل فى اتفاقه» فيما بعدء مع الميرغنى تأجيل البت النهائى فى 
موضوع الشريعة إلى حين إنعقاد المؤتمر القومى الدستورى» شريطة تعليق العمل بها فى 
الفترة الانتقالية» ولكن إشارة رئيس الوزراء كانت مبعث ريبة لدى الحركة» لآن رئيس 
حكومة الانتفاضة ابتنى كل أجندة حله لالمشكلة الجنوبية على مياق الانتفاضة؛ ومع 
ذلكء أغفل أن الميثاق ينصء فيما ينصء على إلغاء قوانين نميرى الاعتباطية . وعندما 
يسكت الرجل المنوط به أكثر من غيره ‏ التعبير والدفاع عن ثوابت الانتفاضة:» بل 
يتلجلج فى الأمر لا يفصح ولا يبين» يصبح للارتياب دواعيه. مع ذلك انتقل رئيس 
الوزراء فى رسالته تلك إلى محاربة طاحون عتيق هو نميرىء أسماه "الدكتاتور المتفسخ 
البغيض. لا ننكر أن اللعنة تحق على الرئيس نميرى بسبب خطاياه وأخطائه والتى نظلم 
أنفسنا _ قبل الحقيقة - إن أعفينا النفس عن المسكئولية عن المشاركة فى بعضها. ولكن 
جرائم نميرى التى جاءت فى أعلى مراحل تفسخه: مرحلة الإمامة» ستظل محفورة فى 
ذاكرة التاريخ. وليت رئيس وزراء الانتفاضة تذكر أنه كان ل الطاغية البغيض المتفسخ 


مواسون ومؤيدون» وهو فى قمة تفسخه. 


25358 


موضوع الرسائل المتبادلة بين قرنق والجزولى» وموقف الأول من الانتفاضة بوجه 
عام» تناوله الدكتور لام اكول فى كتابه الذى أشرنا إليه حول الحركة الشعبية (داخل ثورة 
أفريقية)(''). ما كان ينبغى للام تجاوز الحقيقة عندما تناول قصة قرنق والانتفاضة» 
واندفع فى الحديث المستهلك عماذا كان سيحدث لوجاء قرنق إلى الخرطوم. حديث لام لا 
يبعث على الدهشة فقطء بل بدا لذا أشد مساخة من الأغانى الهابطة قالوجاء مالوماجا. 
نقول هذاء أولاً لأن لام ترك خرطوم المجلس العسكرى الانتقالى ولاذ بالحركة» مما يوحى 
بأن رجاءه قد انقطع فى ذلك المجلس وحكومته» خاصة بعد أن وصم ‏ فى ظل ذلك النظام 
- بتهمة التنظيم لانقلاب "عنصرىء وللكلمة دلالات أشرنا إليها. أعجب ما أتى به لام قوله 
بأن زعيم الحركة كان مترددا فى الإجابة على رسالة الدكتور الجزولى دفع الله لولا إلحاف 
مارتين مانييل والطاهر بيور عليه بالرد. هذا قول يجافى الحقيقة» خاصة وقد كانت لنا 
صلة مباشرة بتلك الرسالة. كان ذلك فى لقاء بيننا وبين الدكتور أمين مكى مدنى خلال 
زيارة قصيرة قمنا بها للخرطوم قبل إرسال الرسالة. وقد أبلغنا أمين يفحوى الرسالة دون 
اطلاعنا على نصهاء فنقلنا الأمر لرئيس الحركة الذى أبدى استعداداً للرد عليها متى ما 
تسلمها. وبالفعل وصلت الرسالة فى ١185/7/١‏ وكان الرد عليها فى 1980/9/١‏ . ثم تبع 
ذلك رسالة أخرى من الجزولى بتاريخ 1945/1١/٠١‏ يرد فيها على رسالة قرنق المؤرخة 
فى 1985/9/١‏ . فما الذى يعنيه لام بالتلكؤ فى الرد. قد يختلف لام مع فحوى الردء أما 
انتحال قصة كهذه ليقدمها دليلاً على أن قرنق لا يريدها إلا حرباً لا تبقى ولا تذر فأمر لا 
يحمد له. فى ذات الوقت لم يتوقف التواصل بين زعيم الحركة وقيادات التجمع التقابى». 
ففى شهر مايو 19185 (أى بعد شهر من الإنتفاضة) تسلم قرنق رسالة خطية من رئيس 
التجمع حملها الدكتور فاروق محمد إبراهيمء تبع ذلك رسالة خطية بتاريخ ©/ ١145/٠١‏ 
بعث بها قرنق لخالد ياجى رئيس التجمع النقابى وجاء الرد عليها بتاريخ 7؟/ 21145/٠١‏ 
وكان رده على الرسالة الثانية فى الثالث والعشرين من ديسمبر من نفس العام. ولا يخال 

عاقل أن كل تلك الرسائل المتداولة كانت تدور حول حرب لا تبقى ولا تذر. 
فى جميع الأحوالء لم تجد رسالة قرنق عن التوجه الوطنى للحركة؛ وعن عدم 
صلاحية اتفاق أديس أبابا فى ظل ما استجد بعد إلغائهاء صدى عند رئيس الوزراء؛ فعاد 
389 


إليها بعد ثلاثة أشهر من خطاب قرنق حولها. مثل حكام الماضى لم يستطع بعض 
الحاكمين الجدد حمل أنفسهم على تقبل حقيقة بسيطة» هى أن للجنوب أيضأ حقاً فى التقرير 
بشأن القضايا الوطنية (وليس قضية الجنوب وحدها)» رغم أنهم ما انفكوا يؤكدون أن 
الجنوب جزء لا يتجزأ من الأمة. وفيما نحسبء لم يصدر اقتراح العودة لاتفاق أديس أبابا 
عن نية سيئة» وإنما كان يعبر عن سمة ظلت تلازم السياسة السودانية: البحث عن الحلول 
المختطفة» واستسهال الأمورء لكيلا نقول ضمور الخيال. فإلغاء اتفاق أديس أبابا لم يدمر 
النظام الذى حقق سلاماً فى الجنوب فحسبء وإنما صحبه أيضا تدمير للبنية الدستورية التى 
ارتكز عليها الاتفاق فيما بعد بالتخلص من (دستور ١1177‏ شبه العلمانى) ؛ واستبداله بدستور 
قائم على أساس دينى. نحسب أيضأء أن أكثرما أثار غضب قرنق من الدعوة للعود إلى 
أديس أباباء هو أن ذلك التوجه جعل من القضية الراهنة قضية شمالية _ جنوبية» ولهذا قال 
لا ينبغى لأحد أن يجعل من أهل الجنوب أشباه مواطنين متحجرين فى الأقاليم 
(كممنعوع؟ 4ه كمعمتاك_-طرد لعتتلزووه؟) )١١(‏ قد يتفق الناس 1 يختلفون حول أو حات 
قرنق يومذاكء ولكن لا ينكر أحد أن الوعى بأقكار الحركة كان ضروريا لكيما تشرك بشكل 
بناء فى أى حوار. لغياب هذا الوعى رفضت الحركة أن يتم تحويلها إلى حركة أقلية؛ 
فحسب قول قرئق لرئيس الوزراء لا أحد يمثل أقلية بالنسبة إلى الآخرء كلنا سودانيون 
وخدنب:19) 

رغم ذلك أكدت الحركة مجدداً التزامها بإجراء حوار مع التجمع الوطنى وحددت 
الشروط اللازمة لبدء الحوار. تلك الشروط هى: 

١‏ - التخلى عن الفكرة الخاطئة حول طبيعة الأزمة باعتبارها مشكلة جنوب والتعاطى 
الجدى مع جذور الأزمة بحسبان المشكلة هى مشكلة السودان كله. ذلك يستلزم عقد مؤتمر 
قومى دستورى لمناقشة القضايا الأساسية مثل نظام الحكم فى الخرطوم والأقاليم. 

 *‏ إلغاء حالة الطوارئ. 

٠“‏ - حل المجلس العسكرى الانتقالى واستبداله بحكومة مؤقتة تشارك فيها الحركة. 


390 


؟: ‏ إلغاء قوانين الشريعة. 

© إلغاء معاهدات الدفاع مع كل من ليبيا ومصرء وكذلك إلغاء اتفاقية التكامل 
الاقتصادى والسياسى مع مصر. 

وفيما يتعلق بالموضوع الأخيرء ساور الحركة الشعبية الشك فى أن معاهدة الدفاع 
المشترك التى أبرمها نميرى مع السادات كانت تهدف إلى دعم نميرى فى حرب الجنوب. 
وبصرف النظر عن إن كان نظام السادات يدعم نميرى فى حرب الجنوب أو لا يدعمه؛ الا 
أن معاهدة الدفاع المشترك المشار إليها جاءت تطبيقاً لاتفاقيات الجامعة العربية الطرازية 
(1م8010190)حول الدفاع المشتركء والتى يفترض فيها أن تكون موجهة ضد العدوان 
الخارجى . تلك فوارق دقيقة فى المعانى (5310300©5)» تغيب على الناس فى ظروف التوتر 
والريب. مع هذاء فإن المطالبة بإلغائها ماكان ينبغى أن يكون سبباً للهزة التى انتايت 
الخرطوم بسبب ذلك الطلبء فاتفاق الدفاع المشترك هو واحد من آثار مايو التى تعجهدت 
الحكومة الانتقالية بإزالتها. أما الترتيبات الدفاعية مع ليبيا ‏ والتى وقعها عن الجانب 
السودانى وزير دفاع المجلس الانتقالى العسكرى _ كانت أمراً مختلفء إذ أن الهدف الأساس 
منها كان هو دعم جهود الحرب صد الحركة. فنتيجة للمعاهدة الليبية ‏ السودانية قامت ليبيا 
بإمداد القوات المسلحة السودانية بشحنات كبيرة من الأسلحة والعتاد شملت أربع طائرات 
مقاتلة من طراز ميج يقودها طياروها الليبيون. الأمر الذى يدعو للدهشة هو أن ليبيا كانت 
أولى دول العالم التى بادرت بدعم الحركة عسكرياً فى حريها ضد نميرىء والذى يقول أن 
فى السياسة ثوابت: جاهل بالسياسةء على كمال الجهل. كان رد فعل الخرطوم إزاء نداء 
الحركة بإلغاء المعاهدتين متوقعاً: كيف يجرؤ قرنق على الطعن فى حق دولة ذات سيادة 
فى إبرام المعاهدات مع من تراه . ولكن» فى السياسة نفسها ما يعرف بمعطيات الواقع» 
ومقاصد الحاجة» وانتهاب الغايات. ويقول الواقع بأن لاسلام دون حوار مع من يحمل 
السلاح» وتقضى الحاجة بأن يكون فى السودان سلام؛ ولا يتغياً صاحب الحاجة حاجته 
بالتلبث عند الشكول؛ بل ينتهب غايته انتهاباً .ولا شك فى أن حكام الخرطوم كانوا على 
علم بما بين تلك الاتفاقية والحرب من صلة حقيقية أو متوهمة. 


5301 


وبينما رحبت الحكومة الانتقالية بفكرة عقد مؤتمر قومى دستورىء إلا أنها وقفت بجانب 
المجلس العسكرى الانتقالى فى رفضها لشروط الحركة قائلة أنه ليس من حق أى طرف 
على الإطلاق فرض شروط مسبقة قبل عقد المؤتمر. مع ذلك سلمت الحكومة الانتقالية 
جدلاً بأن مصير الشريعة ومعاهدات الدفاع سوف يتقرر فى المؤتمر القومى الدستورى 
المرتقب وليس قبله. كان من الواضح أن ثمة فجوة فاغرة بين رؤية الجانبين فيما يتعلق 
بأسلوب حل المشكل. وربما كانت وصفة رئيس الوزراء الطبيب لعلاج «قرح السودان 
النازف»» وادعاءات السيادة لتصبح ذات موضوع. لولا أن الحركة الشعبية لم تكن تشاركهم 
هذا التصور. وكيف لها أن تعتبر الحرب التى كلفت أهلها فى الجنوب مليون ضحية قرحا 
نازفآء وأنى لوزير الدفاع أن يقنع حركة مسلحة تتنازع معه السلطان على رقعة فى الأرض 
مساحتها أكبر من مساحة كل الدول المجاورة فى حوض النيل الجنوبى» أن تقبل أسطورة 
سيادة النظام الحاكم فى الخرطوم على كل السودان ؟ لهذا السبب ما فتكت الحركة تقول أن 
السودان متكامل السيادة ليس هوإلا مشروع بناء لم يكتملء ولن يكتمل إلا باتفاق جميع 
أطراف النزاع على شرائط توحيده . 

للخروج من هذا الطريق المسدود انبرى النقابيون المهنيون فى التجمع الوطنى لمعالجة 
الموقفء خاصة وقد كانواء منذ اندلاع الانتفاضة:ء رأس الرمح فى كل الاتصالات مع 
الحركة. تلك الاتصالات توجت بلقاء كوكا دام فى مارس ١185‏ . الذى شاركت فيه» 
بجانب التنظيمات النقابية» كل الأحزاب باستثناء الحزب الاتحادى الديموقراطى. ويبدو لتا 
أن ذلك الحزب _ حتى تلك اللحظة _ لم يكن قد عقد العزم على التعامل مع الحركة 
باعتبارها رقم لا يمكن تجاوزه فى معادلة الحرب والسلام. ذلك الموقف لم يكن موقفاً 
طبيعيأء لاسيما وقد كان الحزب الاتحادى الديموقراطى (جماعة الشريف) على صلة وثيقة 
بالحركة فى فترة المعارضة» وكان رسول تلك الجماعة إليهاء صديق الهندى» على توافق 
معها حول الكثير من القضايا الآنية والمستقبلية. 

انتهى اجتماع كوكا دام بإعلان مشهود تضمن الاتفاق على عقد مؤتمر دستورى فى 
سبتمبر1958 (أى بعد خمسة أشهر من إعلان كوكادام) . على ذلك الإعلان أجمع كل 


25302 


المؤتمرين فى كوكا دام» دون أدنى اعتراض أو تحفظ. ولكن سرعان ما استنكر الصادق 
المهدى الإعلان الذى وقع عليه ممثلو حزبه؛ بدعوى أنهم لم يكونوا مفوضين للموافقة على 
ما ورد فيه. ولربما أزعجت رئيس حزب الأمة مزايدات الجبهة حول ما نص عليه الإعلان 
بشأن قوانين سبتمبرء رغم رأيه القاطع بأن المكان الوحيد الذى تستأهله تلك القوانين هو 
مزيلة التاريخ. وكان لإبتزاز الجبهة دور كبير فى تراجع صادق عما أقره ممثلوحزيه 
بتأييد منه» إذ كان مندوبو حزب الأمة على صلة يومية برئيسهم عبر أجهزة الاتصال 
اللاسلكى بسفارة السودان فى أديس أبابا. ومع أن التناقض سمة مميزة للمهدىء إلا أنه فى 
هذه الحالة أضاع على نفسه وعلى حزبه فرصة نادرة لكيما يلعبا دوراً تاريخياً. تلك هى 
أزمة الصادقء قلما يستشف ما ستئول له حركة التاريخ. 

بغض الطرف عن موقف صادقء يمثل إعلان كوكا دام طفرة هامة. فكما قلناء تم 
الاتفاق على عقد مؤتمر قومى دستورىء كما وافقت الحركة على تكوين حكومة وحدة 
وطنية حقيقية تمثل فيها كافة الأحزاب السياسية؛ والحركة الشعبية لتحرير السودان؛ 
والجيشء والقوى الاجتماعية (النقابات) . ويقبول الجيش كجزء من المعادلة أكدت الحركة 
أن موقفها من المجلس العسكرى ليس هو موقف من الجيشء ولا من قياداته» وإنما من 
قيادات بعينها كان لها دور فى تعميق المأساة التى تسعى لحلها. ومن المذهل أن تفلح القوى 
السياسية والاجتماعية التى تمثل القاعدة الراكزة للحكم فى التجاوب مع الحركة؛ فى حين 
تعجز الحكومة التى تمثلهم عن مثل هذا التجاوب. يتساءل المرء؛ باسم من كانت تلك 
الحكومة _ بشقيها المدنى والعسكرى ‏ تتخذ القرارات؟ حقيقة أنه لوتم اتخاذ قرار بشأن 
قوانين سبتمبر عقب إعلان كوكا دام وليس بعد مرور ثلاث سنوات ‏ لتغيرت الأمور بشكل 
يفوق التصور. ولكن الإحساس بدنو موعد الانتخابات قاد الأحزاب إلى ترك إلغاء تلك 
القوانين للمجلس العسكرى 0 حذر ابتزاز الجبهةء ووصمها لهم بمعاداة شرع الله. 
ويالها من قيادات تلك التى لا تستبصر المحتوم» وإن فعلتء لا تملك الجسارة على تحقيقه. 
وللقائد البروسى بسمارك 595 فى هذا: القائد الحقيقى هو الذى يستشف الأمر المحتوم 
ويستعجل (7*700166©) تحقيقه 


25303 


من جانبهماء عقد كل من المجلس الانتقالى العسكرى والحكومة الانتقالية العزم على 
عدم اتخاذ أى قرارات صعبة»ء مؤثرين ترك تلك المهمة "الشاقة للحكومة المدنية القادمة. 
إزاء هذاء لم يكن للحركة الشعبية سبيل للانخراط فى العملية السياسية فى الخرطوم فى ظل 
وجود المجلس الانتقالى العسكرى فى السلطة» وبقاء قوانين نميرى فى مدونة القوانين. 
وربما كان نميرى محقاً عندما أعلن فى تجمع للسودانيين فى أبى ظبى - بعد سنوات قليلة 
من إخراجه من السلطة _ ان قوانين الشريعة هى خازوق» هو وحده القادر على إقتلاعه. 
ذلك الإعلان لا يكشف فقط عن خور الذين تلجلجت الأمور فى صدورهم عند المحك» 
وإنما ساعن شهرأة الذى ده فيرى »ركان أزل من فهرأ بها شع ذلك ظل القطاء 
يتلاحون فى أمرها. 

إعلان كوكا دام يدحض دعاوى المتربصين بالحركة والمتمحكين حول حرونها المزعوم 
عن اللخاق بركب الانتفاضة. ولعل الذين كانوا _ وما زالوا يتحدثون عن انضمام الحركة 
للإنتفاضةء لا يعنون بذلك غير انضمام العقيد قرنق إلى كوكبة الفرقاء واللواءات التى كانت 
تتسيد على ميدان السياسة لكيما يرقى إلى رتبة لواء أو فريق» ثم يترك الحكم بعد عام إلى 
سادة السودان التقليديين. لو فعل هذا لأطفاأً شمس الأملء فالتغيير الذى ينشده لا يتحقق إلا 
عبر وفاق على برنامج شامل يحسم القضايا التى ظللنا نتجافى الخوض فيها قبل إعلان 
كوكادام. ولقد أثبتت التجارب أن أفكار القوى الحديثة _ مع حسن نواياها _ تعانى من 
السيولة» ولم تتبلور قط إلى برنامج عملى لا يقفز على الواقع ولكنه يسخر العناصر المواتية 
فيه لإحداث التغيير. ذلك أمر فعلته الحركة؛ ولا شك فى أن نجاحها فى تحقيقه يعود إلى 
قدرتها على تجاوز الطروحات النظرية إلى ابتداع الوسائل العملية التى تفرض التغيير. 

عودأ إلي الأساليب الرديئة القديمة 

ظل السودان يحكم عبر ائتلافات متواترة متوترة بين حزبين شماليين تفرق بينهما 
الطموحات والاهواء الشخصية أكثر من الرؤى والمبادئ. هذه الائنتلافات كانت تزين 
واجهتها فى كل الأحوال بوزراء جنوبيين صوريين توكل إليهم مهام ثانوية استطابوها 


5394 


وحسن حالهم بها. لهذا فوجئ الحكام المزمنون بمن يرفض هذا التقسيم الظالم للعمل» 
ويطالب بائتلاف أوسع يضم الشمال والجنوب والغرب والشرق. ولربما كانت هذه النظرة 
الموروثة للحكم هى السبب فى لجوء الأحزاب الغالبة تاريخيا إلى إجهاض إعلان كوكا دام؛ 
بمن فيها من وافق عليه ابتداء . 

انتخابات مارس ١585‏ لم تأت بجديد» وكان من الحكمة تأجيلها لبضعة أشهز لحين 
الاتفاق على حكومة وحدة وطنية موسعة. ذلك التأجيل لم يكن ليستغرق أكثر من ستة 
أشهرء باعتبار أن أطراف إعلان كوكا دام اتفقوا على قيام حكومة للوحدة الوطنية فى موعد 
أقصاه شهر سبتمبر/ أيلول »١1587‏ ولا شك فى أن عقد المؤتمر الدستورى» ومشاركة الحركة 
الشعبية فى الحكم» كانا سيؤديان إلى بدء عملية إصلاح للدولة هى فى أمس الحاجة إليهاء 
وما كان المتلهفون للحكم الذين عدوا كثيراً تلك الأشهر الستة» لينتظروا أكثر من عقد من 
الزمان» ليلهثوا من بعد وراء ماشاكوس. كافة الشواهد يومذاك كانت تشير إلى أن اهتمام 
الأحزاب السياسية لم يكن منصبأ بالضرورة على تحقيق السلام الدائم والإصلاحء بقدر ما 
كان مركزاً على الاستيلاء على مقاليد السلطة» وكان توق الأحزاب للسلطة عارماً. بغيتها 
الكبرىء» كانت هى العودة إلى الوضع الذى كانت عليه فى العام »١1515‏ قبل أن يقطع 
عليها نميرى استمتاعها بالحكم. ومن الغريب أن شارك التجمع النقابى الأحزاب فى 
الإصرار على عقد الانتخابات فى موعدهاء لأن أى تمديد لفترة حكم المجلس العسكرى قد 
يفتح شهيته» فى اعتقاده» للبقاء لآماد أطول. هذا فى رأينا تحليل خاطئء أولاً لأنه من 
العسير على أى حاكم عسكرى البقاء فى الحكم قسراً فى ظل نهوض جماهيرى منظم؛ 
وبرنامج وطنى متفق عليه لإحلال السلام وتحقيق الاستقرار فى البلاد. ثانياً تؤوكد تجارب 
السودان السياسية أن الانقلابات دائماً تقع فى الحالات التى يفتقد فيها الوطن البرنامج 
الوطنى المتفق عليه» والقيادة الجماعية الواثقة. هذا ظن أثبتت صدقه الأيام؛ فانتخابات 
7 لم تحل دون وثوب الجبهة على الحكم؛ وهو أمر كان من الممكن أن يقطع عليه 
الطريق إحلال السلام فى نهايات ذلك العام. لهذا كان قرار التجمع النقابى خطأ فى 
الحساب دفع السودان ثمنه باهظأً بعد سنوات فقط. 


2505 


على كل» فاز حزب الأمة فى الانتخابات بمائة مقعد جاء أغلبها من القواعد التقليدية 
للحزب فى كردفان ودارفور والإقليم الأوسط. فى حين حصل الحزب الاتحادى 
الديموقراطى على ستين مقعداً من الدوائر الانتخابية التى يسيطر عليها فى الشمال والشرق. 
أما الجبهة القومية الإسلامية فقد استطاعت؛ بعد سنوات عديدة من التنظيم والتمكين 
الاقتصادى فى عهد نميرىء إختراق دوائر الخريجين وبعض الدوائر الانتخابية الإقليمية؛ 
وفاجأت الجميع بفوزها بواحد وخمسين مقعداً فى البرلمان. الجدير بالذكر أن ثلاثة 
وعشرين مقعداً من بين ما حصلت عليه الجبهة من مقاعدء جاءت من دوائر الخريجين. 
تلك النتيجة توحى بأن عدد المقاعد التى فازت بها الجبهة لا يعبر ضرورة» عن حجم 
قاعدتها الشعبية . نضيف أن انتصار الجبهة المحدود فى الدوائر الإقليمية جاء؛ بشكل كبير» 
على حساب الحزب الاتحادى الديموقراطى نتيجة لتعدد مرشحيه الطامحين فى عدد من 
الدوائر الانتخابية» كما أفادت الجبهة إلى حد كبير من الطريقة التى تم بها تنظيم دوائر 
الخريجين. فحسب القانون الذى أصدرته الحكومة الانتقالية سمح للخريجين: أي كان 
موطنهم الأصلىء التصويت كناخبين فى الإقليم الذى يتكازؤتة- لهذا ككفت الحدوة 
استغلال آلتها السياسية الفعالة لتسجيل ناخبين من أنصارها فى الداخل والخارج للتصويت 
فى كل أقاليم السودان» بما فى ذلك الجنوب. بهذا الأسلوب» حصل ناخبو الجبهة على ثلاث 
دوائر للخريجين فى جنوب السودان» وكانت غالبية الناخبين فى تلك الدوائر من الشماليين 
المقيمين خارج البلاد» خاصة فى السعودية ودول الخليج.(*') وعلى الرغم مما فى تلك 
العملية من نصب سياسى. لا يملك المرء إلا أن يشيد بقدرة الجبهة على تنظيم صفوفها 
واستغلال الظروف السائدة لمصلحتها. هذا الحكم لا ينسحب على مجموع القوى الحديثة 
التى لقيت الهزيمة فى عقر دارها: دوائر الخريجين. 

أما حول دوائر الجنوب الجغرافية» قلم تجر أية انتخابات فى المناطق الخاضعة لسيطرة 
الحركةء وكانت نتيجة الانتخايات نسخة مكررة من الانتخابات المشىءومة التى جرت فى 
الستينيات من القرن الماضىء إن لم تكن أسوأ منها. فمن بين 77٠٠٠١‏ (مليونين 
زسرغمانة وكمانين ألف) فاك يدق لهذ التصويت»سجل 33546( حمْسِماتة وستون ألفا 


25306 


وستمائة وثمانية وتسعون): أى أن عدد الذين تم تسجيلهم فى الجداول الانتخابية» وفقاً لما 
أعلنته لجنة الانتخابات» كان أقل من خمس الناخبين المؤهلين. بدلا عن التمعن فيما تكشف 
عنه هذه الأرقام» قررت الحكومة المضى قدما فى إجراء الانتخابات فى أية دائرة انتخابية 
يبلغ عدد المسجلين فيها ستة آلاف ناخب. وهو عدد يقل كثيراً عن العدد المطلوب لتأهيل 
أية دائرة فى الشمال من الدوائر الانتخابية للحكم المحلى. وهكذا أجريت الإنتخابات فى 
الجنوب فى ست وعشرين من أصل ثمان وستين دائرة انتخابية (؟ فى الاستوائية» و© فى 
أعالى النيل» و7 فى بحر الغزال) . نتيجة لذلك أصبح ما يقرب من ثلثى أهل الجنوب غير 
ممثلين فى ثالث مجلس ديموقراطى منتخب فى تاريخ السودان. 

عقب الانتخابات» وجد كل من حزب الأمة والحزب الاتحادى الديموقراطى أنفسهما فى 
مأزق. كلاهما كان يتمنى إشراك الجبهة فى الحكومة احترازاً من استغلالها لبعض القرارات 
القاسية التى كان لا بد للنظام الجديد من اتخاذهاء خاصة فى المجال الاقتصادى. ومن 
جانبهاء مضت الجبهة فى إبتزاز الحزيين (وكلاهما يعتمد على قواعد ذات أصول دينية) 
حول موضوع الشريعة. لم تكن الجبهة تعارض إلغاء هذه القوانين فحسب, بل كانت تطالب 
أيضأً بتنفيذها كاملة . تجاه ذلك الموقف أخذ الحزب الاتحادى الديموقراطى _ وهو لما يزل 
يعانى من اختراق الجبهة لقواعده _ يتحدث عن تعديل القوانين بدلاً من إلغاتهاء وهذا 
حديث لا يشيع الإطمئنان فى القلب. كان ذلك أيضاً هو موقف رئيس الوزراء كما عبر عنه 
فى مقابلة مع صحيفة أسبوعية مصرية(”') ووصف فيه قوانين سبتمبر بالبريرية» إلا أنه 
أضاف أن تلك القوانين لا يمكن تغييرها بجرة قلم. هذان الموقفان (موقف رئيس الوزراء 
وموقف الحزب الاتحادى الديموقراطى) يتناقضان مع ميثاق الانتفاضة الذى وقعه الحزيان 
ونصء فيما نصء على إلغاء تلك القوانين. 

حقيقة الأمرء لم يكن أئ من الحزبين فى تلك اللحظة؛ حريصاً على إلغاء القوانين رغم 
أن هناك أكثر من دليل على أن عامة الشعب فى الشمال لا يؤيدونها. وبالتأكيد أخطأت 
الأحزاب فى قراءة مشاعر الناس كما أثبتت تجربة اتفاق الميرغنى ‏ قرنق فيما بعد. كان 
الموقف فى العام ١985‏ يتطلب شجاعة أدبية» لم تكن متوفرة لدى الحزيينء بل آثر 


207 


الحزيان بدلا عن مجابهة الجبهة:؛ السباق لإسترضائهاء أو بالأحرى استباق ابتزازها 
السياسى . هذا الاسترضاءء إن لم يكن الانكسار للابتزازء قاد إلى مناورات سياسية لا تخلو 
من الحمق» تمخضت عنها وثيقة طائشة أعدها الحزبان (حزب الأمة والحزب الاتحادى) 
مع الجبهة القومية الإسلامية. أطلق على تلك الوثيقة اسم "ميثاق الوحدة الوطنية» ودعى 
فيها الموقعون إلى وضع دستور قائم على أساس مسودة الدستور فى عام ١178‏ (مسودة 
الدستور الإسلامى) . نادى الموقعون أيضاآ بإلغاء كافة القوانين التى أقرها نظام مايوء 
وخاصة قوانين سبتمبر التى وصفت من قبل الأطراف الثلاثة بأنها تحريف للإسلام. 
والأطراف الثلاثة» كانت» تضم الجبهة الإسلامية التى كان لزعيمها قصب السبق فى 
مباركة تلك القوانين المنحرفة والحزب الاتحادى الديموقراطى الذى وصف أحد زعمائه 
ذلك التحريف بالشريعة السمحاء وأيدها تأييداً مطلقاً. وعلى أى اقترحت الأحزاب الثلاثة» 
كبديل عن "قوانين سبتمبر إصدار قوانين تستند إلى كتاب الله.('') تلك الوثيقة كانت 
معيبة من عدة أوجه: 

أولاً: الاقتراح بالعودة إلى مسودة دستور ١178‏ يكشف عن أن صناع الوثيقة لم يدركوا 
بعد عقدين من الزمان حجم الانقسام الذى أحدثته تلك المسودة فى جسم السودان السياسى. 

ثانياً: الدعوة لوضع قوانين دينية صالحة بديلة لم تأخذ فى الاعتبار كم المخاوف التى 
تولدت فى أوساط غير المسلمين» وبين قطاع عريض من المسلمين» بسبب تديين السياسة 
منذ إصدار نميرى لقوانينه فى العام ”198 . تلك المخاوف لا يمكن تبديدها بالحديث 
المعسول عن سماحة الإسلام» فالقضية ليست قضية الإسلام بقدرما هى قضية تطبيق 
البشر للإسلام» وفى السودان بالذات. 

ثالثاً: الإشارة إلى إلغاء كافة القوانين التى أقرها نظام حكم مايو يعبر عن فقدان مؤسف 
للشجاعة الأدبية. ما أراد واضعو الوثيقة قوله حقيقة؛ ولكنهم عجزوا عن ذلكء هو إلغاء 
قوانين بعينها أصدرها نميرى فى سبتمبر 1187 ونسبها للشريعة. وحقأ لم يكن بمقدور أى 
حكومة ‏ مهما بلغت درجة كرهها لنظام حكم مايو- إلغاء كل القوانين التى اصدرها ذلك 
النظام . فمن تلك القوانين ما اتخذته قوى الانتفاضة نموذجاً يحتذى مثل اتفاق أديس أباباء 


208 


وقانون العقوبات لعام 11174 الذى تبنته نقابة المحامين بديلاً عن قوانين العقوبات 
"الإسلامية» ناهيك عن قوانين البترول» والصناعة, والنقل البرى والجوى والنهرىء إلى 
جانب قانون المناجم والمحاجر. بهذا القدر من النفاق والتهيب من الاقدام فى كبار الأمور, 
لم يخدم الحزيان الإسلام أو الوطن أو نفسيهما. 

وفى سودان اللامعقول: قرر صادق المهدى قبل توليه السلطة, أن يسعى شخصياً لتحقيق 
السلام وحل مشكلات السودان المعقدة فى اجتماع واحد فقط مع قرنق. وأحسن فعلاً عند ما 
لم يحتقب ميثاق الوحدة الوطنية فى رحلته تلك. ونبدى أن الصادق ما أراد بذلك اللقاء إلا 
القفز على 3 كوكا دام التى وقع عليها حزبهء ثم أنكرهاء أوتنكر لها زعيمه. فإعلان 
كوكادام جهد مشتركء ولهذا لم يرق كذيراً لرئيس الوزراء المندخب الذى يفضل دومآً 
مبادرته الشخصية أو تلك المنسوبة إليه. ونستذكر أن هذا هو السبب وراء عدم التزامه 
بالقرار الجماعى فى عام ١116‏ بدعوة مؤتمر المائدة المستديرة لإستلام تقرير لجنة الاثنى 
عشرء وخروجه بفكرة مؤتمر عموم الأحزاب. صدق حدسنا عندما ألقى صادق جانبآً 
إعلان كوكادام فى لقائه الأول مع قرنق فى أديس أبابا فى "١‏ يوليو فى العام 1187 . ذلك 
اللقاء استغرق تسع ساعاتء وشارك فيه ممثلون للتجمع النقابى هم: تيسير محمد أحمد 
على مأمون محمد حسينء؛ مختار عثمان. فى ذلك الاجتماع المطول أدلى رئيس الوزراء 
المرشح ببيانات طريفة وتصريحات كاشفة. فى البدء أبلى بلاء حستاً فى الدقاع عن 
المجلس العسكرى الانتقالى واصفآ الانقلاب الذى قام به المجلس بأنه انقلاب شعبى وليس 
انقلاباً عسكرياً. فات على رئيس الوزراء المرشح أن الانتفاضة الشعبية كانت تفريغاً لطاقات 
الغضبء لا توليداً لطاقة جديدة خلقت كتلة حرجة ( 10355 [010108) تمكنها من 
الانطلاق إلى آفاق أعلى بقوة دفعها الداخلى. ولو كان ذلك هوالحال لما عجزت قوى 
الانتفاضة عن تنفيذ أجندتهاء أو انزوتء فيما بعدء كما ينقبض الظل عند منتصف النهار. 

عدد الصادقء فيما بعد ست نقاط خلاف قال أنه ينبغى التعامل معها لتحقيق السلام 
هى: الشريعة؛ هوية السودان العربية والأفريقية» التنمية المتوازنة» استغلال الموارد 
الطبيعية» مشاركة جميع المواطنين فى الحياة العامة دون تمييز على أساس العرق أو الدين» 


5309 


إنهاء كافة المظالم التاريخية. تلك وأيم الحق أجندة عملاقة» وتشخيص رائع لأدواء البلاد. 
الذين لا ينغرفون صادق المهدى كانوا سوقولون أذ السودان قد عرف أخيراً قائداً على 
مستوى المسئولية. بيد أن الحاضرين كانوا يعرفون أنهم يتعاملون مع رجل يستخدم 
العبارات الجديدة بمهارة فائقة ليتلاعب بمعانيها وقت الحاجة. فالصادق ليس مراقباً محايدآ 
للأحداثء ولا معلقاً سياسياًء ولا باحثاً دستورياء بل هو سياسى فاعل فى ساحة السياسة 
السودانيةء ولهذا لا يحكم الناس عليه وفق أفكاره وتأملاته» وإنما بمكان هذه الأفكار 
والتأملات فى سياساته التطبيقية. والصادق ليس تابعاً ذلولاً لغيره؛ بل هو صاحب رأى 
قاطع فى كل شىء» ما يعنيه ولا يعنيه. لذلك» كان المراقب يتمنى لو تمالك نفسه عن 
الإشارة لبعض نقاط فى أجندته . فالصادق وخقة وليتن أ حاكم آخر هوالذى صرح 
عند تنصيبه رئيساً للوزراء لأول مرة أن هوية السودان هى الهوية العربية الإسلامية . لذلك 
يقف المرء غارقاً فى الشك حول صدق تصوره الجديد لهوية السودان الأفريقية ‏ العربية. 
ثانياً إيحاء الصادق بأن "الشريعة موضوع مطروح للنقاش يجعل المرء فى حيرة» لأن 
المرة الأولى التى طرح فيها قانون أساسى (دستور) يستثنى غير المسلمين من الحق فى 
رئاسة السودان» كانت عندما تمت الموافقة على مسودة الدستور التى قاد الدعوة إليه؛ 
والتبشير به مع الترابى فى العام 1974 . من ثم» كانت إشارة صادق إلى مشاركة جميع 
السودانيين فى الحياة العامة دون تمييز على أساس العرق أو الدين صاعقة ومربكة. ولو 
صحيت روى الصادق الجديدة مقدمة أر ديياجة يقلن بها تقسه من المسكولية خن مواققة 
السابقة إزاء القضايا التى طرحهاء لقلنا: جل من لا يخطئ. ولكنء من الواضح أن الصادق 
لم يكن يقدر مهارة محاوريه السياسيين حق قدرهاء وإلا ما ذهب إلى ما ذهب إليه من 

أهم من ذلك كله» أن الموضوعات التى جاء بها المهدى فى قائمته لم تكن تمت بصلة 
للأسئلة المطروحة على الساحة. فبعد إعلان كوكا دام بقيت قضيتان فقط تستوجبان الحل 
قبل أن تجلس الأحزاب للتباحث حول كيفية إنهاء أزمة السودان: إلغاء قوانين سبتمبر وإلغاء 
المعاهدات الخارجية. فكل القضايا التى جاء بها المهدى تمت تغطيتها بشكل كاف فى 


400 


إعلان كوكا دام ولم يكن لديه تحسين جديد يدخله عليها. كان بوسعه المساهمة فى التعجيل 
بعملية السلام لوأنه أشار إلى اقتراحات عملية لتحقيق الموضوعين العالقين. لكن يبدو أن 
المهدى لم يكن مغرماً بالتعجيل بعملية السلام؛ بقدر ولعه بابتكار إطاره الشخصى للسلام 
كبديل عن إعلان كوكا دام؛ حتى وإن على هذا إعادة صنع العجلة من جديد. وهكذا أصبح 
الآسى أهم من المريض أو العلاج عند الصادق. 

وفيما يتعلق بقوانين الشريعة ألقى المهدى باللائمة على المجلس العسكرى الانتقالى 
(الذى قام بثورة شعبية) لعجزه عن إلغائها (كما لوكان يريد من ذلك المجلس أن يوفر عليه 
الحرج من القيام بذلك) . أضاف: أعطونا الآن مهلة أربعين يوماً للقيام بذلك عن طريق 
البرلمان. فى ذلك اللقاء أيضاً أبدى الصادق أسفه لعدم مشاركة الحركة لقوى الانتفاضة 
على الفورء ذاكراً أن تردد الحركة ساهم فى زيادة المغالاة فى التعصب القومىء العربى 
منها والإسلامى. ولا شك فى أنه لم يخطر على بال الصادق أن الحركة كانت على استعداد 
على مشاركة قوى الانتفاضة فى خلال ستة أشهر من تبنى إعلان كوكا دام بالشروط التى 
تراضت عليها كل الأحزاب التى شاركت فى ذلك الاجتماعء بما فيها حزيه. 

أشار المهدى أيضآ إلى هجمات على عرب النيل الأبيض نسبها إلى حركة تدعى حركة 
تحرير ملوط وقال إن أععمالاً من هذا القبيل قد تخرج جهود السلام عن مسارها. وفى 
معرض الحديث عن بغضه للعنفء أدان صادق المهدى التجاوزات التى حدثت فى الجنوب 
من قبل حكومة رئيس الوزراء محجوب (زعيم حزب الأمة ورئيس الوزراء فى منتتصف 
الستينات)("'): خاصة أحداث جوبا وواو متهماً محجوب بالاستخفاف بلجنة الاثنى عشر. 
وفى نهاية حديثه المطول قال الصادق: اليوم أصبحت وزيراً للدفاع لا لكيما أصبح مشيرآ 
للجيش السودانىء ولكن لأننى أعلم أن هذا المنصب من أكثر المناصب عرضة للاستغلال 
وهنا نعترف للصادق بأنه كان أكثر وعياً ممن سبقه فى الحكم يضرورة الهيمنة المدنية 
على مؤسسات العنف. وفى ختام الاجتماع قال قرنق للمهدى: إن السودان بلد فريد من 
نوعه» فلا يمكن فى أى مكان فى العالم أن يجتمع زعيم "المتمردين مع رئيس الوزراء 
الذى تمرد ضده بهذه الصورة الودية. فإن عدت للخرطوم وشرعت فى إلغاء قوانين 


401 


سبتمبرء سوف أعلن الوقف الشامل لإطلاق النارمن جانب واحد. وأقول لك أننى على 
استعداد لأن أخطو خطوتين مقابل كل خطوة تخطوهاء وعند ذلك نستطيع الاتجاه سوياً 
لتشكيل حكومة وحدة وطنية. رد المهدى على ذلك قائلاً: إن شاء اللهء إلا أنه أضاف بأنه 
سيعود إلى البرلمان ليصدر قراراً بشأن ما تم تداوله. وسرعان مارد عليه قرنق قائلاً: أعرف 
أن الإخوان المسلمين سيحاولون إحباط جهودك. ولكنى أعرف كذلك أن الشعب السودانى 
يريد السلام وسيخرج الناس محتشدين فى الشوارع لتأييدك. 

تقويض السلام 

إطلاق النار على طائرة تابعة للخطوط الجوية السودانية فى ١5‏ أغسطس ١185‏ بالقرب 
من ملكال كان هو الذريعة التى اتخذها المهدى لوقف المحادثات مع الحركة: خاصة على 
خلفية بيان نسبته صحافة الجبهة للحركة» وإتهمت فيه لام أكول بإسقاط الطائرة . وليس من 
المعقول أن يفاخر مناضل فى حرب تحرير بإسقاط طائرة مدنية» هذا أمر لا يقدم عليه إلا 
أحمق يفتقد أدنى درجات الحساسية والوعى. ولعل هذا هو السبب الذى حمل لام على نفى 
التهمة عن نفسه("'). أشعل الحدثء ردود فعل متوقعة ولم يكن أمام رئيس الوزراء إلا أن 
يؤجل المحادثات؛ وتأجيل المحادثات إجراء ضرورى لتهدئة الأعصاب. ولكنه ما كان 
ينبغى أن يصبح حافزاً على مضاعفة مشاعر الكراهية» وإثارة الفتن التى تخرج عملية 
المصالحة عن مسارها. فالتحكم فى أعمال العنف الطائشة ‏ أي كانت الجهة التى قامت بها 
لن يكون يسيراً فى غياب السلامء السلام وحده هو العلاج لكل الأعمال الطائشة» من أى 
مكان جاءت. رد قرنق على بيان صادق المهدى الذى أدان فيه الحادث بقوله: إن صادق 
لم يطلق النار على طائرة واحدة وإنماء باستغلاله للحدثء أطلق النار على عملية السلام 
برمتها. ومع إدراكنا لكل هذه العوامل» لا ندرك استبداد الغضب برئيس الوزراء للحد الذى 
جعله يفكر فى الدعوة إلى مؤتمر دستورى دون مشاركة الحركة الشعبية. لوحدث ذلك 
لكان تكراراً لمؤتمر ععموم الأحزاب الذى ابتدعه من قبل واستبعد عنه الذين حملوا السلاح 
فى الجنوب. وبعد مرور ثمانية أشهرء قرر المهدى استئناف المفاوضات مع الحركة وأفصح 
عن مبادرته فى رسالة غير موقعة أو مؤرخة سلمت بواسطة مجهول إلى الحركة!؟'): كما 


402 


لو كان المهدى مكرهاً على القيام بتلك المبادرة» ولعله كان يقصد من الرسالة جس النبض. 
فى تلك الرسالة تجنب المهدى؛ مرة أخرىء الحديث عن موضوع إلغاء قوانين "الشريعة 
واقترح كبديل لذلك نصأ يتجاوز ما اتفق عليه فى إعلان كوكادام. ذلك النص يقضى بأن 
تمنح الأغلبية الحق فى تطبيق "الشريعة» إن رغبت فى ذلك. ردت الحركة على هذا 
الاقتراح المريب فى ٠١‏ أبريل عبر إذاعة الحركة بالقول: إن هذا الاقتراح غير مقبول؛ أولا 
لأنه يحاول الالتفاف على إعلان كوكا دام» وثانيً لأنه يعرف السودان على أساس الدين. 

جاء تحرك المهدى المتردد نحو السلام بعد فترة لم يكف فيها عن إدانة الحركة فى كل 
محفل للجوثها إلى العنف المتعمدء ووصف قائدها بالدمية التى يحركها منقستو.!'') وفكرة 
المهدى عن عمالة قرنق لمنقستو ليست بالجديدة» بل تعود إلى الفترة التى سبقت توليه 
السلطة . ففى محاضرة له بالرياض (المملكة العربية السعودية)!'') سلفت الإشارة اليها فى 
تلك الرسالة دعا الصادق لعزل قرنق داخل السودان وخارجه لأنه» على حد قوله» يعمل 
بمباركة نظام حكم أديس أبابا. لن يهدأ له بال حتى يحول السودان إلى نظام زنجى 
اشتراكى علمى. وبغض النظر عن كذب الادعاء أو صدقه» فإن الاتهام مريك. فالاشتراكية 
العلمية أداة تحليل وليست نظاماً اجتماعياً توصف به دولة حتى يفكر منقست وأو" عميله 
قرئق فى فرضه على السودانء أما فكرة الاشتراكية الزنجية غير العربية فهى إضافة جديدة 
إلى الفكر السياسى . تلك الآراء حول "خضوع قرنق لنظام منقستو نقلها الصادق إلى السفير 
الأمريكى فى الخرطومء ريما تزلفآ إلى الإدارة الأمريكية المعروفة بكرمها للنظام الأثيوبى. 
ولا شك فى أن الصادق قد فوجئ برد السفير عندما قال إن أثيوبيا لا تستطيع إعاقة أى 
سلام تتوصل له الحركة الشعبية مع نظام الخرطومء و لوأن الخرطوم عرضت شروطاً 
مقبولة لما كان بمقدور منقستو أو أى متدخلين آخرين العمل على استمرار الحرب الأهلية 
السودانية(""). على الرغم من ذلك كان المهدى موقناً من تأثير أثيوبيا على قرنق لدرجة 
أنه فكر فى شن هجوم تأديبى على ما أسماه نظام الأقلية الأمهرى والذى وصفه بأنه نمر 
من ورق92") غير أن محاورى الصادق (السفير الأمريكى فى الخرطوم ومساعد وزير 
الخارجية لشىءون أفريقياء شيستر كروكر) حذراه من الإقدام على هذا التصرف!؟")؛ مع 
بغض كروكر لمنقستو ونظامه. 


403 


غضب المهدى من ارتباطات قرنق "الأثيوبية أمر محيرء إذ كانت أثيوبيا فى عهد 
منقستو هى المحطة الأولى لقوات الأنصار الذين حشدهم المهدى فى السبعينيات لزعزعة 
نظام نميرىء وقبل ثورة قرنق ضد نميرى بفترة طويلة . تلك العلاقة لم تؤثرء أو يفترض 
المرء أنها لم تؤثرء على قدرات الصادقء قائد الأنصارء فى الاستقلال برأيه حول ما يهم 
بلاده . ولكن الصادق ظل ينكر هذه الاستقلالية على القائد الجنوبى كما تبين رسالة بعث 
بها إلى بونا مالوال فى أغسطس »١597‏ دحضاً لذلك الإتهام قال مالوال فى رده على 
المهدى فى ١8‏ أكتوبر1947: لقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن التنسيق (بين الحركة 
الشعبية لتحرير السودان ومنقستو) لم يقلل من قدرة الحركة أو الجيش الشعبى على العمل 
باستقلالية كاملة فى اتخاذهما للقرارات. وسأل مالوال المهدى قائلاً: هل تاثرت جبهتك 
الوطنية من جراء العلاقات والتنسيق مع ليبيا ؟. المثير للسخرية أن أثيوبيا منقستوكانت 
أيضاً هى الحاضنة للتجمع الوطنى الديموقراطى فى تجليه الجديد (بعد استيلاء البشير على 
السلطة) ويعد انضمام الحركة إليه؛ وكان القابلة التى أخرجت الجنين من بطن أمه هو 
مبارك المهدىء ممثل حزب الأمة بالخارجء والسكرتير المنسق للتجمع. هذه الاتهامات من 
جانب الصادق ليست مجرد تناقضات تسيطر على عقل حائرء بل تعكس ما هو أكثر تلفاً. 
فبعض الشماليين لا يصدق أن الجنوبى قادر على أن يملك زمام أمره؛ هو دوماً تحت 
وصاية عه 

السرك السياسي من جديد 

فى الخرطوم تم تشكيل حكومة ائئلافية استبعدت منها بعد لأى الجبهة القومية 
الإسلامية» وتم توزيع المناصب الحكومية بشكل أرضى الحزبين رضى بالغ. عين أحمد 
الميرغنى _ الشقيق الأصغر لزعيم الختمية ‏ رئيساً لمجلس الدولة» كما أصبح الأمين العام 
للحزب الاتحادى الديموقراطىء زين العابدين الهندىء نائبا لرئيس الوزراء ووزيراً 
للخارجية . وبطبيعة الحال» أصبح صادق المهدى رئيساً للوزراء. وكان من الممكن أن يتيح 
هذا التشكيل الجديد فرصة للحزبين للإعراب عن الحد الأدنى من الاعتراف بالجنوب أو 
بالمناطق المهمشة من خلال توزيع الحقائب الوزارية» كما فعلت حكومة أكتوبر الأولى؛ 


08 


ولكن من ذا الذى يستذكر التجارب فى بلد كل حدث فيه هو مرجع ناته . هذه الفجوة فى 
الذاكرة هى التى قادت لانعدام أى تراكم معرفى للتجارب السياسية. على أن المشكلة لا 
تقف عند الإجداب الفكرى والمعرفىء بل تجاوزته إلى تبلد الحس السياسى. ففى دولة 
الديموقراطية الثالثة لم يحتكر الشماليون رئاسة أذرع الدولة الثلاثة (التنفيذية» والتشريعية» 
والقضائية) فحسبء بل أصروا أيضا على احتلال المناصب التى تليها فى الدرجة. فعلى 
سبيل المثال» لم يحصل الأب فيليب عباس غبوش (النوبة) على منصب النائب الأول 
لرئيس البرلمان (وهو المنصب الذى تبارى للحصول عليه)» وأبلغ أنه إن كان له أن يحتل 
موقعاً قيادياً فى البرلمان» فليكن ذلك هو منصب النائب الثانى وليس الأول. هذا الموقف لم 
يرفضه غبوش وحدهء وإنما رفضه أيضا النواب الجنوبيون الذين آزروه . وعندما حيل فى 
البرلمان دون طعن النوباوى الطامح (أو لعله الطامع فى نظر الأحزاب الشمالية) فى تواطؤ 
الأحزاب الثلاثة (الأمةء والحزب الاتحادى الديموقراطىء الجبهة القومية الإسلامية) 
لحرمانه من الترشيح: لم يمضغ الرجل كلماتهء ثم اندفع توفراغه من الإقضاء يما فى 
صدره» مغادراً الاجتماع بصحبة إليابا سرور للتعبير عن اعتراضها على ما أسمياه 
دكتاتورية الأغلبية(*") . وكان اليابا قاسياً فى كلماته: لقد تحملنا الحرب طوال هذه السنوات» 
وأسمينا هذا الوطن بلداً عربياً._ أفريقياً ولكن من الآن فصاعداً هى بلد أفريقى فقط(""), ولا 
يلد التطرف غير التطرف. رغم ذلك عجز رئيس الوزراء عن فهم السبب الحقيقى وراء 
غضبة سرورء ولم ير فيها إلا التجليات الظاهرية. وصف رئيس الوزراءء بازدراء ملحوظء 
الخروج الغاضب لممثلى الجنوب والحزب القومى (النوبة) بالكلمات الآتية: هؤلاء الناس 
يكرهون الديموقراطية.("') ولقلما كان هناك سياسى كالصادق لا يعبأ بالخطأ فى سياسات 
النظام الذى يقوده» أو يأبه للغضب الكظيم الذى تنجبه تلك السياسات. فقوة السياسة ليست 
بأى حال هى سياسة القوة. 

بطريقته الخاصة:» تحرك رئيس الوزراء لامتصاص غضب الجنوبيين على وجه 
الخصوص بالتلويح لهم بالمناصبء وكان منهم فيها طامعون. كان أمام رئيس الوزراء 
خمسة أحزاب جنوبية(2') ليختار وزراءه منهاء رغم أن بعض هذه الأحزاب لم تكن ترتكز 


405 


على أية قاعدة شعبية تضم حتى ناخبى دائرة جغرافية واحدة. لتحقيق هدفه ذلك؛ أعاد 
المهدى إلى الوجود فى أوائل عام ١47‏ المجلس التدفيذى العالى لجنوب السودان تحت 
جديد هو مجلس الجنوب؛ وعلى رأس ذلك المجلس عين الصادق_ لدهشة غالبية الجنوبيين 
ماثيو أبور وهو أحد السياسيين القلائل الذين وقفوا بجانب قرار نميرى بتقسيم الجنوب. فى 
ذات الوقت» وعد رئيس الوزراء الساسة الجنوبيين بأنه سيأخذ بآرائهم فى تشكيل هذا 
المجلس. ولكن فى مارس 15/7 ممضى الصادق قدماً فى تعيين المجلس دون استشارتهم: 
مما اعاد إلى ذاكرة الجنوبيين» باستثناء ضعاف الذاكرة من بينهم» نقض الاحزاب الشمالية 
لوعدها بالنظر بالاعتبار لمطلب الجنوب المتمثل فى الفيدرالية بعد الاستقلال . نتيجة لذلك 
النكوص الجديد انسحب كل أعضاء حزب المؤتمر الأفريقى السودانىء والاتحاد السياسى 
لجنوب السودان من مجلس الوزراء» مما أدى إلى إنشقاق فى صفوف المجلس. 

كما أثبت التاريخ غير مرة» لا تخلوائتلافات الحكومات الطائفية من الاختيان 
والخصومات التافهة هذه الخصومات لم تعد عرضاً عابراً بل أضحت مرضاً مزمناً. نتيجة 
ا ا لو ا 0 
أعيد تشكيله لينهار مرة أخرىء فشهور العسل فى السياسة السودانية لا تدوم طويلاً. وهكذا 
ظلت البلاد لفترات طويلة بين عامى/5141١1‏ و544١‏ وكأنها بلا حكومة نتيجة لفشل 
الحزبيين فى الاتفاق على توزيع الغنائم: الوزراء وزراء الدولة» محافظى الأقاليم. ويالفعل 
اضطر المهدى لتغيير مجلس الوزراء خمس مرات على مدار ثلاث سنوات من حكمه؛ الأمر 
الذى يعكس أزمة داخلية عميقة فى الحكم لم يستبصرها المأزومون. غير أن معين رئيس 
الوزراء لا ينضب من التفسيرات؛ ففى حديث إلى السفير الأمريكى بالخرطوم» بدلاً من 
الاعتراف بأن عدم الاستقرار السياسى فى السودان يعود إلى مشكلات داخلية خطيرة لم 
تكن حكومته حازمة فى التعاطى معها أو فى إعطائها الأولوية الكافية؛ اختار المهدى طريق 
التفلسف . قال: إن السودان فى تحوله من الديكتاتورية إلى الديموقراطية يشبه الأحصنة التى 
قيدت لفترة طويلة فى اسطبلاتها ..وعندما يطلق سراحها تنطلق بسرعة دون هدف قبل أن 
تستقر.!'") مشكلة السودان لا تحتاج إلى تفيهقء بلء فى واقع الأمرء لا علاقة لها 


406 


بالأحصنة العايرة. وإن كان لنا أن نستخدم لغة الخيالة» نقول هى أكدر قربى ب 
"الاسطبلات الإيجية السياسية والسياس غير المقتدرين. 

بلغت الأزمة أوجها باستقالة محمد أب حريرة» وزير الحزب الاتحادى الديموقراطى 
الموكل بوزارة التجارة فى مايو1587١ء‏ وما أعقبها من تطورات كان من الممكن أن تهزأى 
نظام ديموقراطى يحترم قواعد اللعبة السياسية. فعند تقديمه استقألته» وجه أبو حريرة 
اتهامات خطيرة إلى بعض زملائه من وزراء حزب الأمة بإرتكاب ممارسات تجرمهم. 
والاتهاماتء بالطبعء لا تخبت إلا بدليلء ولكن تجاهلها يشى بالتستر الذى يجهض سيادة 
حكم القانون. شبهة تستر. فعوضاً عن التحقيق فى تلك الاتهامات الخطيرة» قام رئيس 
الوزراء بإقالة مجلس الوزراء بكامله فى ١١‏ صايوء ولم يسمع الناس بعدها شيكاً عن 
الاتهامات. بهذا ارتكب رئيس الوزراء خطأ مركبأًء فمن جانب؛ عندما تجىء اللامبالاة 
حول قضايا الفساد من قائد معارض لم يترك مجلساً إلا وندد فيه بالفساد فى عهد نميرى» 
فإن أول ما يترجاه الناس من ذلك القائد هوأن يضرب المثل (هو ومن معه) فى النزاهة 
واحترام قواعد الحكم الصالح وعلى رأسها الشفافية والمحاسبة. لا يخامرنا شك فى أن 
الصادق المهدىء, على المستوى الشخصىء رجل عفيف لا تمتد يده إلى المال العامء ولكن 
المتستر على الجرم وفاعله سيان فى نظر القانون. ونحسب أن الصادق ظلم نفسه كثيراً 
عندما استهان بالاتهامات التى قدمها وزيرهء لأن النظام الذى يتغاضى عن مثل هذه 
الأمور يفتقد الأساس الأخلاقى لإرساء قواعد الحكم الصالح. لهذا لا نملك إلا أن نقول أن 
حكومة صادق المهدى لم تكن قاصرة سياسياً فحسبء بل وغير ملهمة أخلاقيا أيضاً. الأمر 
الشانى هو أن رئيس الوزراءء عند إقالته لوزرائه لم يذهب هو نفسه إلى الاستقالة» طبقآ 
للتقاليد البرلمانية الراسخة فى البلدان الديموقراطية التى تقدس مبدأً المسدولية الجماعية. 
لهذا حير الصادق الناس بخطاب إقالته للحكومة» والذى زعم فيه أنه كان ضحية لفقدان 
الترابط فى الحكومة:. والمكائد التى كان يحيكها شريكه فى الائتلاف» الحزب الاتحادى 
الديموقسراطى!( '"). هل نقول أن الصادقء مع كل تفوقه الفقكرى على نظرائهء يفتقد أهم 
صفات المفكر الحقيقى: الشجاعة الأدبية على الاعتراف بالأخطاء؟ أم نقول أن رغبته 


007 


المستعرة فى إثبات عدم وقوعه فى الخطأ تدفعه إلى تلوين الحقائقء إن لم يكن تزيين 
ضدها؟ حتى بعد تلك الزلة المهينة» لم يجد رئيس الوزراء غضاضة فى الاستمرار فى 
الرئاسة وهو راض عن نفسه تمام الرضاء كما لم يبطئ أو يتأخر الصادق فى سلوك نفس 
التنزيق عندما لتبحك له الفرصة بعد خرؤجة من الحكم لمراجعة نفسه: والكامل فى 
مسيرته. ففى كتاب له بعد خروجه من الحكء('") لم ينقد الصادق نفسه مرة واحدةء بل 
عزا كل قصور حكومته إلى حليفه. وحقا لم يجانف السفير الأمريكى الحقيقة عندما قال أن 
المهدى تعلم القليل من الأخطاء التى ارتكبها أثناء وجوده فى السلطة وظل شغوفاً بالتفكير 
الإستراتيجى الذى يتفاخر به 5 أقع52 «تاوأ0-دا18)» رغم البعد الكبير لذلك 
التفكير عن أرض الواقع (""). هذا الشره بالكلام الكبير يستدعى إلى الذهن ملاحظة 
ديزرائيلى حول غلادستون. وصف دزرائيلى غريمه ب الخطيب الحاذق الذى يسكر حتى 
الثمالة من إسهابه فى الكلام. مشكلة رئيس وزراء السودان السابق» فيما نظن» تكمن فى 
عَجِرَه الذام عن إدزاك حققة جوهَرَية خول الحكم: فبعد كل الخطب الطنانة» لا قوم أداء 
الحكومات إلا بشىء واحد: النتائج. 

أخيراً طرح البساط الأحمر للجبهة القومية فى ماي و1988 » لكيما تشارك فى الحكم؛ 
وأصبح أمينها العام الدكتور حسن الترابىء نائباً عاماً ووزيراً للعدل. الترابى مؤهل لذلك 
المنصب بكل المعاييرء إلا أن تعيينه فيه أثار الدهشة:ء إذ أن رئيس الوزراء كان قد اتهم 
وزيره الجديد بارتكاب تجاوزات خطيرة عندما كان يشغل منصب النائب العام فى حكومة 
نميرى. وبحكمته المعهودة» لم يجد رئيس الوزراء مكاناً للترابى فى حكومته غير نفس 
الموقع الذى ارتكب فيه تلك التجاوزات. مع ذلك» فإن قيام المهدى يضم الجبهة القومية 
الإسلامية لحكومته كان مفيداً له وبالطبع إن صدقت دعاوى الصادق بأن كل ما يبتغيه 
أهل شمال السودان هو الدولة الدينية» لا يحق للحركة الشعبية وغير المسلمين من أهل 
السودان الاعتراض على هذا الخيار. بنفس القدرء لا يحق لأهل الشمال إن كانت الدولة 
الإسلامية هى بغيتهم كما يدعى الزعيمان الصحويان» إرغام غير المسلمين على البقاء فى 
تلك الدولة . هذان هما الخياران الوحيدان اللذان أبقاهما الصادق وحليفه الجديد للجنوبء ولا 


08 


ثالث لهما. فإن كان الصادق يخشى من إبتزاز الجبهة لحكومته فى حال إقدامه على إلغاء 
قوانين سبتمبرء كان من الواجب عليه أيضاً أن يفطن إلى أن إبقاءه على تلك القوانين لن 
يترك فى يده ما يستطيع تقديمه للحركة الشعبية. . 

وكان المهدى قد أدلى بحديث إلى صحيفة مصرية قبل ذلك بعامين قال فيه: ينبغى 
تطبيق الشريعة إذا أرادت الأغلبية ذلك7”). ذلك التصريح يمثل انحرافاً واضحاً عن 
تصريحاته السابقة عن إلقاء قوانين سبتمبر فى مزبلة التاريخ» وعما ورد فى إعلان كوكا 
دام عن إلغاء تلك القوانين. وهكذا تحول رئيس الوزراء إلى طبيب تجميل مهمته تحسين 
وجه قوانين سبتمبر بعمليات جراحية بسيطة بدلاً عن إعمال مبضعه لاستئصالها. لم يأبه 
طبيب التجميل لتداعيات هذا التشريع على وحدة البلادء ولربما لم تكن الوحدة تعنيه كثيراً. 
أفصح المهدى عن ذلك التوجه فى حديث إلى السفير الأأمريكى فى السودان جاء فيه: لو 
كان الخيار بين عزل الجنوب أو الشمال سأضطر لعزل الجنوب7؛ ')؛ دون أن يوضح أى 
شمال يقصد. فقبل حديثه مع السفير تلقى رئيس الوزراء» اقتراحات من عدد من المؤمسسات 
والأفراد الشماليين تتعلق بقوانين سبتمبرء طالبت جميعها (بإستثناء ماورد من الجبهة 
القومية الإسلامية) بإلغاء تلك القوانين0”'). وفى وقت لاحق (/ا نوفمبر187١)‏ دعا 
المهدى إلى منزله مجموعة عمل واسعة تضم قانونيين وسياسيين للتباحث فى هذه المسألة؛ 
وكان الرأى السائد بين هذه المجموعة منحازاً إلى إلغاء القوانين» الأمرالذى أدى فى 
النهاية إلى انسحاب ممثلى الجبهة . كل هذه المداولات والنصائح لم تكن كافية لحمل صادق 
المهدى على التزحزح عن موقفهء وإقناعه أن حديثه عن رغبة أغلبية أهل الشمال فى 
الإبقاء على الشريعة هو وهم اصطنعهء أو موقف أيديولوجى يستمسك به. على أن الأحداث 
المستقبلية أثبتت أن الصادق كان يقوم بمناورة» أو بالحرى مغامرة» سياسية عله يخرج منها 
رابحاً. وعندما جاء أوان الجدء حزم أمره ونفذ الخيار الأصعب: عزّل الشمال لا الجنوب كما 
قال للسفير الأمريكى. 

الشمال الذى كان يعنيه الصادق ابتداء هو الجبهة» وربما نفسه ومن كان يواليه من 
أنصاره» وهم فى هذا فرق. ولكن قبل أن يعود الصادق إلى الصواب ليختار عزل الشمال» 


409 


شهد بأم عينه ما سيقود إليه فرض تلك القوانين» إذ انسحب الأعضاء الجنوبيون برمتهم من 
البرلمان عند مناقشة مشروع القوانين الجديدة الذى قدمه الترابى لكيلا تكتسب صفة شرعية 
بمشاركتهم فى مناقشتها. حتى رئيس مجلس الجنوب الجديد الذى انتقاه المهدى لم يجد ما 
يقول غير أن الوقت لم يحن بعد لقوانين الشريعة» بالرغم من أن مشروع الترابى منح 
الجنوب إستثناء "مؤقتاً من تطبيق الشريعة.(5”) وكان زعيم المعارضة إليابا سرور واضحاً 
فى شجبه لتلك القوانين وللسياسات الحمقاء التى تنتهجها الأحزاب الحاكمة» فمرة أخرى. 
استهجن لجوء الحكومة إلى الأغلبية الآلية لاتخاذ قرار حول موضوع فى درجة عالية من 
الخطورة» كما أتهم رئيس الوزراء بتبنى سياسة فرق تسدء ورماه يعدم الارتياح إلى المكون 
الأفريقى فى الهوية السودانية. قال سرور: أنا أفريقى يريد أن يكون سودانيا.(9') من جانبه: 
اتهم الحزب الاتحادى الديموقراطى رئيس الوزراء بمعاداة الجنوب ويالعمل على تفتيت 
البلاد. (8؟) 

جنرال السلام في مواجهة أساتذة الحرب 

لم يكن الترابى هو الوزير الوحيد من بين وزراء نميرى الذين انضموا إلى حكومة 
المهدىء فثلثا أعضاء حكومة الصادق الائتلافية الجديدة كانوا من الوزراء الذين عملوا فى 
حكومة أو أخرى من حكومات نميرى المتعاقبة(5")» فى الوقت الذى لم تكف فيه 
التظاهرات الشعبية بعد عن الهتاف: يا سفاح لن ترتاح؛ كما لم تتوقف الإدانة لسدنة مايوى 
دعك عن رموزها. ولكن فى أحيان كثيرةء تبدو الحقيقة فى السودان أغرب من الخيال. من 
بين وزراء نميرى الذين انضموا إلى الحكومة الجديدة الفريق عبد الماجد حامد خليل» وهو 
عسكرى متمرس جىء به لتنظيم صفوف الجيشء ولإدارة الحرب بقدر أكبر من الكفاءة. إلا 
أن عبد الماجد العسكرى الذى كابد الحرب وخبر تقدير المواقف فيها لم يفتلت الأمور 
ويتعجل فيها. فاجأ الفريق صحبه الوزراء بموقفه الذى دعا إلى نهاية مشرفة للحرب 
بالوسائل السلمية. ذلك موقف لم يرض خصمه فى مجلس الوزراء حسن الترابى؛ أستاذ 
القانون الذى كان يريد للحرب أن تستمرء ووعد بتقديم كافة أنواع الدعم لها. 


410 


عبد الماجد واحد من المضباط القلائل الذين كانوا يحظون باحترام فائق من قرنق وهذا 
ما يفسر إطراء قرنق على اختياره وزيراً للدفاع فى رسالة أذاعها راديو الحركة» وهو إطراء 
أدهش الكثيرين. ولا نحسب أنه قد حدث فى تاريخ الحروب الأهلية أن أقدم متمرد على 
استقبال القائد الذى يحاربه بأى ذكر حسن. هذه أمور لا تحدث إلا فى سودان العجائب», 
ومع عجائبيتها من حقنا أن نفاخر بها لأنها تعلى القيم الإنسانية الباقية على نوازع السياسة 
العارضة. وصف قرنق خليلا عند تعيينه ب الجندى الشجاع الذى وقف أمام نميرىء:('؟) 
فى ذات الوقت الذى ندد فيه بالثالوث الحاكم (الأحزاب الإسلامية الثلاثة) واصفاآ إياهم ب 
الثالوث غير المقدس من المتعصبين الطائفيين المتذكرين فى ثياب الزعماء الوطنيين. فى 
نفس الرسالة ذهب قرنق إلى المقارنة بين موقف خليل وموقف سوار الدهب تجاه نميرى. 
قائلاً أنه: فى الوقت الذى تحدى فيه عبد الماجد واثنان وعشرون ضابطأ نميرى حول 
الأسلوب الذى كان يدير به البلادء بقى سوار الدهب فى الجيش دافن رأسه فى الرمال الول 
الذى كان يدفن رأسه فى الرمال حقاً هو صادق المهدى الذى غبى عما أدركه وزير دقاعه 
الجديدء فحين كان وزير الدفاع يقدر الموقف على أساس المعطيات الواقعية التى أمامهء ظل 
رئيس الوزراء يصدق كل ما وقع فى ذهنه من خاطرء توافق مع الواقع أو تحالف معه. وقد 
عقد السفير الأمريكى الذى سنحت له الفرصة للحديث مع رئيس الوزراء ووزير دفاعه 
مقارنة مثيرة بين الرجلينء قال: يمتلك عبد الماجد ذكاء عملياً يتميز عن فصاحة صادق 


التجريدية . فصادق لا يكف قط عن التحليلء أو التعبير بالألفاظ الجوفاء عن أى موقفء إلا 
أن تحليله» فى غير مرة» لا يتطابق مع الواقع . أما عبد الماجد قد أدرك حقيقة هامة لم 
يدركها صادق بعد؛ هى حاجة السودان إلى تجديد صورته بالعمل الجاد الواضح لمصلحة 
السلام.(”*) ولعلنا نشير هنا إلى حدث هام يبين الفرق بين الرجلين» ويعكس التزام عبد 
الماجد الصميم والثابت بالسلام. فبعد يومين من توقيع اتفاق السلام بين الميرغنى وقرنق 
أضنييت: طائر: ة نقل تابعة للقوات الجوية بصاروخ أدى إلى تعطيل أحد محركاتهاء وكان 
على متن تلك الطائرة عبد الماجد خليل مع قائد الجيش فتحى أحمد على متجهين من واو 
إلى الخرطوم . وسرعان ما انتهز رئيس الوزراء الحادث ليتلاعب بالمشاعرء تمامأ مثلما فعل 


411 


عند إسقاط طائر. ة مدنية بالقرب من ملكال» على الرغم من إعلان الجيش الشعبى عن عدم 
مسئوليته عن الحادث الأخير؛ ولم تكن فى الحقيقة مسئولة عنه. على عكس مافعل رئيس 
الوزراء» قلل خليل من شأن الحادث» ورفض أن يجعل منه ذريعة لإجهاض جهود التسوية 
السلمية . 

على صعيد الحربء اشتد الصراع مرة أخرى ولكن هذه المرة شهد تطوراً مزعجاً. 
فللمرة الأولى فى تاريخ الحرب الأهلية تم تسليح قبائل حدودية شمالية لمحاربة "متمردى 
الجنوب. هذا التطور أدى إلى إشعال جذوة العداوات القبلية» كما أحيا نزعات التطرف 
الانفصالية؛ وأجج المشاعر فى الشمال والجنوب. وكان من بين القبائل التى حشدتها 
الحكومة قبائل المسيرية والرزيقات والمعالية المحاذين لبحر الغزال. ومع أن النزاعات بين 
تلك القبائل كانت شائعة بسبب التنافس على الموارد الطبيعية: الكل والماء فى المقام الأول» 
إلا أنها كانت يحل دوماً عبر وساطة زعماء القبائل. هذه الصراعات لم تخل فى بعض 
الأحيان من عمليات استلاب للماشية وأسر للرهائن؛ ولكن الاستقرار كان يعود دوماً بفضل 
تدخل الزعماء القبليين. لم تكن الصراعات تقتصر على اعتداءات القبائل الشمالية على 
القبائل الجنوبية» بل كانت تدور أيضا بين القبائل الرعوية الشمالية مثل الإغارات المتبادلة 
بين الرزيقات والمعالياء كما تدور بين القبائل الجنوبية مثل صراعات الدينكا والنوير. 
وبفضل جهود زعمماء القبائل كانت هذه النزاعات تحتوى بصورة ودية» وتعالج كان 
يصحبه دوما بدفع تعويضات مرضية للأطراف المتصارعة» وتبادل الأسرىء والتعافى 
المتبادل بين المتحاربين. كما كانت اجتماعات التصالح بمثابة منتدى لحل العديد من 
المشكلات وإعادة الثقة بين القبائل. وقد أورد فرانسيس دينق صوراً رائعة عن دور تلك 
المصالحات فى إشاعة السلام: وإحياء مشاعر الأخوة بين القبائل الجنوبية والشمالية 
المتحاربة على يد زعيمين. والده النصيح دينق ماجوك والشيخ العظيم بابونمر:”9؟؛) 
وبذهاب النصحاء استفحلت الشرور. 

وللحقيقة؛ لم يكن صادق المهدى هو المبتكر لفكرة الميليشياتء بل كان أول من أنشأها 
هو اللواء فضل الله برمه ناصر:فى المجلس العسكرى الانتقالى الذى كان "يجاهد من أجل 


412 


السلامء(؟؛) إلا أن الصادق لم يكتف فقط بالإبقاء على هذه القوات اللعينة» بل عمل على 
دعمها رغم الانتقادات التى وجهها بعض البرلمانيين بشأنهاء ومعارضه الجيش لها. ولا 
امتراء فى أن ضراوة الحروب القبلية كانت» وستظل» وصمة عار فى جبين الذين بدأوها أو 
دعموها. فعلى سبيل المثال» قامت عناصر من المسيريه فى العام ١981‏ بمذبحة رهيبة ضد 
الدينكا مخلفة وراءها ما يقارب الألف وخمسمائة قتيل: كما قام أفراد من قبيلة الصبحة 
بهجمات ممائلة ضد الشلك فى الجبلين بأعالى النيل بجنوب السودان. وفى إطار هذه 
الصراعات المفتعلة أغارت أيضاً مجموعات من البقارة على النوبة. كل هذه الحملات تمت 
فى إطار التجييش القبلى الذى أصبح جزءاً من إستراتيجية تهدف لبث الرعب فى المناطق 
التى تسيطر عليها الحركة. تساءل أحد المفكرين السودانيين اناك لوطه درك حتوصة 
تطالب بحقوق عادلة للمواطنين بهذه المواقف الفظة من قبل القيادة الشمالية؟ وأضاف: هل 
يعقل مثلاً أن الطبغة الحاكمة تؤثر الإبقاء على هياكل السلطة القديمة والتى لها اليد العليا 
فيهاء بدلا من تقاسم السلطة بالقسط من أجل سودان موحد ينعم بالسلام.(”؛) وفى رسالة 
خاصة بعث بها نفس الكاتب للدكتور فرانسيس ديئق وصف الكاتب المواقف المنسوبة 
لبعض القبائل العربية فى غرب السودان تجاه الدينكا بأنها تعكس طريقة فى التفكير 
سيطرت على السياسة السودانية (الشمالية) لقرون عدة» لتبرير إحكام قبضتها على السلطة 
على أساس أسطورة العرق المتميز التى ترتكز على أوهام تاريخية أسىء فهمها. 

على أى؛ بجانب ما أدى إليه إقحام الميليشيات القبلية فى الحرب من تسميم لجو التعايش 
السلمى بين القبائل» وزعزعة الاستقرار الاجتماعىء أحيا أيضاً بعض المفاهيم القديمة 
القائمة على أفكار تفوق بعض الأعراق» ووضاعة أعراق أخرى. كان من الواضح أن 
لبعض رجال القبائل أجندتهم الخاصة التى تشمل الاستيلاء على المراعى وقنص الرقيق 
بطريقة تذكرنا بالأيام الخوالى. وكان ونجت قد أطلق على هذه القبائل الحدودية لقب الهنود 
الحمر فى السودانء فى إشارة منه إلى حقبة تجارة الرقيق القديمة. كما وصف تلك القبائل 
بأنها أشرس القبائل التى عاشت فى تلك المنطقة» والتى تعد تجارة الرقيق بالنسبة لهم هى 
الدين والمهنة والمورد الرئيس للدخل.('؛) ولحسن الحظ فإن أيام تجارة الرقيق قد ولت» 


413 


ولكن لسوئهء لم تنته بعد الغطرسة التى كانت تمارس بها. غير أنه ليس من العدل فى شىء 
وصم قبيلة بأكملها بالممارسات السيئة التى بدرت من بعض أفرادها الجانحين. والواقع أنه 
لولا استثارة السياسيين» ومثيرى الشحناء والحقد» والمتاجرين بالعنفء لمشاعر التعصب 
لظطلت مشاعر التعصب خامدة بين هذه القبائل. 

اتسم موقف الحكومة تجاه ممارسات الميليشيات باستهانة فاجرة؛ فعلى سبيل المثال 
عندما أعلن محاضران بجامعة الخرطوم عن حالات استرقاق نجمت عن بعض الغارات 
القبلية!"؟)» آثرت الحكومة محاسبة المحاضرين بدلاً عن التحقيق فى الجرائم المشينة التى 
أجلياها على الناس. والتحقيق أمر كانت تقصى به اعتبارات العدالة وحكم القانون» كما 
تقضى به مصلحة الديموقراطية نفسها. فمن حق الشعب أن يعرف الحقائق» وخير من 
يعَرّفها بالحقائق هو الحكومة التى تتباهى بديموقراطيتها. ديموقراطية المهدى؛ للأسف. 
آثرت التعتيم على الشفافية» على الرغم من أن الشفافية عنصر أساس فى الممارسة 
الديموقراطية . كما أن المشاركة الشعبية الفعالة فى الحكم» فى ظل أى نظام ديموقراطى» 
تستلزم دراية المواطنين بالحقائق حول ما يدور بين ظهرانيهم. لا نغالى إن قلنا أن من بين 
كل أخطاء صادق المهدى الفادحة فى قضيتى الحرب والسلام» يعد إقحامه للقبائل فى 
الحرب الخطأ الذى فاق كل الأخطاء الأخرى. إن تجاوزات المحجوب فى الجنوب والتى 
شجبها المهدى فى لقائه مع قرنق فى العام ١145‏ شىء لا يذكر إلى جوار الخسائر التى 
تكبدتها البلاد من جراء حملات الميليشيات القبلية التى دعمتها الحكومة على الرغم من 
اعتراضات الجيش والبرلمان عليها. 


الميرغنى يجنح للسلم 

فى تعاملها مع قضية الجنوب كان لأحزاب السودان أسلوب غريب صيرها عاجزة عن 
إدراك عمق الشكل. تلخص ذلك الأسلوب فى استرضاء النخب السياسية» وإيلاف النخب 
التقليدية (السلاطين) » والاستعانة فى تقويم الأوضاع بخبرات قدامى الإداريين والتجار 
الجلابة. ذلك النهج فى التعامل لا يعين على حزم الأمور بل» بسبب من طابعه الانتهازى, 


414 


يقود إلى التبارى غير المعافى بين الأحزاب فى كسب ود الجنوبيين» وبسيب من طابعه 
السطحى لا يدع مجالاً للتعمق فى جذر المشكل. لهذا السبب لم ير حزب الأمة فى مبادرة 
الحزب الاتحادى الديموقراطى للتفاوض مع الحركة الشعبية إلا محاولة لتسجيل نقاط 
سياسية حزبية. قرر الحزب الاتحادى الديموقراطى .. الذى لم يكن طرفا فى مناقشات كوكا 
دام _ أن تكون لهء هو الآخرء مبادرته الذاتية. وكان قائد الحزب» محمد عثمان الميرغنى 
يحارب داخل حزيه المتشددين الراغبين فى الإبقاء على قوانين سبتمبر. ومن بين هؤلاء 
كان الشيخ الوقور» القاضى الشرعىء تاج السر منوقلى؛ عضو البرلمان فى إحدى دوائر 
الشايقية (قنتى) . ولا شك فى أن التزام الشيخ بتلك القوانين الشائهة» فيما نحتسبء كان 
التزاماً يقينيأً» ولكن نعرف أيضأ أنه كان لناخبيه رأى مختلف فى تلك القوانين حسبما 
توحى به هتافاتهم الداوية لنصرة ة الشيخ فى دائرته الانتخابية. هتاف هؤلاء كان: عرقيتا 
بكر الضاقه سكرء الدايرة حكرء لى تاج السرء أى تاج السر منوفلى. 

السودان بلد غريب تبعث غرابته على الحيرة والاضطراب. فهؤلاء هم أهله من الشايقية 
والبديرية فى واحدة من أكبر دوائر الشمال يأبون إلا الانتصار لابن الدائرة الذى خبرهم 
وخبروهء لا يعنيهم؛ فيما هو جلىء إن كان إسلامياً أو درزياً. ثم هم من بعد مسلمون 
قانتون» قنوت مريم لربهاء ولا تضير بهمء مع قنوتهم المفاخرة بعرقيهم البكر. ولريما 
كانواء فى قرارة أنفسهم» يقولون لاضير إنا إلى ربنا منقلبون. عن ذلك اليقين لم يلههم أن 
ابنهم الذى كانوا يناصرون يستنكف ويستحى مما يقولون ويفعلون. هذه هى ظلال الصورة 
التى استبصرها الميرغنىء فيما يبدوء وتعامس عنها "مطواعية الجبهة فى الخرطوم. 

إلى جانب المتشددين الدينيين فى الحزب الاتحادىء. كانت هناك جيوب داخل ذلك 
الحزب تنظر للجنوب بمنظار الستينيات» وترى أن خير الناصحين فى أمره هم التجار 
الجلابة الذين عملوا فى ذلك الإقليم. وبين هؤلاء» بلا شكء أخيار يحبون الإقليم» ويقدمون 
العون لأهله» وينحرون الذبائح تكريماً للوافد منهم إلى الخرطوم. ولكن ما هكذا يا سعد تورد 
الإبل. فالفضلاء وغير الفضلاء من هؤلاء لم يستوعبوا بعد التحول الذى وقع فى الإقليم منذ 
عام 1987» لهؤلاء وأولئك قال زعيم الحزبء الميرغنى: لو استمر الوضع الحالى على ما 


415 


هو عليهء فلن يكون هناك سودان أو إسلام. تلك كلمات قوية عندما ترد على لسان زعيم 
دينى. أعان الميرغنى على ذلك أن فهمه لموضوع الدين والسياسة كان دائما فهماً غير 
أيديولوجىء تماماً مثل أبيه؛ فهو ليس من المبشرين بالصحوة الإسلامية» ولا من أصحاب 
المواريث الدينية السياسية التى يسعون لأن يركبوا بها أهل السودان بما يكرهونه. ولكن» 
بوصفه زعيماً دينياً لم يكن أمامه خيار غير الدفاع عن الشريعة الابتزازية . هذا ما عبر عنه 
بشكل أكثر تواءماً مع جوهر الإسلام وروح العصرء وأقل حدة مما ذهب إليه مؤرخو الدين. 
قال لصحيفة أسبوعية قاهرية(*) أن الإسلام فى السودان قائم على الشورى وروح السماحة 
والرأفة والرحمة ويهتم بشكل أساسى بالكرامة الإنسانية التى يصان من خلالها مصير الفرد 
وشرفه وممتلكاته بالكامل. بأسلوب واقعى كان الميرغنى يسعى للانسجام مع النغمة 
السياسية السائدة فى ذلك الوقتء» دون الخوض فى جدل فلسفى حولها تصحبه عنعنات. 
من البدهىء أن ترى الجبهة القومية الإسلامية فى الموقف الجديد للحزب الاتحادى 
تهديداً لقوانين الشريعة» ولهذا وصفت الاتفاق بأنه تنكر لشرع الله. ففى حديث له مع 
السفير الأمريكى فى الخرطوم قال الترابى أنه إذا ما وقعت الحكومة على الاتفاقية التى 
أبرمها الميرغنى مع قرنق فإنه سيتحول إلى صفوف المعارضة . ولم يكن الترابى على يقين 
من موقف المهدى فى ذلك الوقتء لهذا أسر إلى السفير أن صادق سيتردد فى الموضوع, 
ويدلى ببيانات مبهمة ومتناقضة كى يرضى الجميع.7'؟) وقد إتفق أحد المراقبين مع هذا 
الرأىء إلا أنه استطرد فى حديث مع نفس السفير قائلاً: إذا ما ووجه صادق بموقف يستلزم 
اتخاذ القرار فسيلجأ إلى تسويف الأمر. فإن لم يكن له معدى من اتخاذ القرار»ه فسيتخذ 
الخيار الخاطئ.!”*) وصدق المراقبء استقبل الميرغنى فى الخرطوم استقبالاً أسطورياً عند 
عودته من أديس أبابا بعد إبرامه مع قرنق فى ١7‏ نوفمبر ١188‏ اتفاقاً أطلق عليه اسم 
مبادرة السلام السودانية. ذلك الاستقبال» فيما يبدوء أثار غيرة رئيس الوزراء» ولريما أقلقه 
وأغضبه. ينبئ بهذاء تعامل تلفزيون السودان الرسمى مع الحدث وكأنه أمر غير جدير 
بالتنويه إذ لم يورد شيئاً عنه فى نشرة أنبائه. كما قلل بعض زعماء حزب الأمة من نجاح 
الميرغنىء مستذكرين رفض حزبه المشاركة فى اجتماع كوكا دام. استقبال الميرغنى 


416 


صدق حدس قرئق بأن الشعب السودانى يريد السلام؛ وأنه على استعداد لمواجهة هوس 
الجبهة»: كما أبان رهافة دعاوى الصادق بأن أغلبية أهل السودان لا ترضى عن الدولة 
الدينية بديلاً. وعلى كلء أكد الاتفاق التزام الحزب الاتحادى الديموقراطى بإعلان كوكا 
دام» واقترح موعداً جديدا لتشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها الحركة الشعبية حال 

كان بمقدور رئيس الوزراء تبنى المبادرة والعمل على تفعيلها باعتباره الجهة المؤهلة 
لتنفيذهاء ولكن عوضاً عن اهتبال تلك الفرصة؛ استغرق جهده فى المبارزات الكلامية حول 
بنود الاتفاق» لا لسبب غير وضع بصمته الشخصية على المبادرة» تماماً كما فعل عقب إعلان 
كوكا دام فى العام ١3185‏ . تلك المبارزات استمرت لستة أشهر انتهت بانقلاب "١‏ يونيو 
المحتومء أو بالأحرى عشرة أشهر بعد التاريخ الذى وعد فيه صادق جون قرنق فى اجتماع 
أديس أبابا باتخاذ قرار حول قوانين سبتمبر من خلال البرلمان فى غضون أربعين يوماً. 

الجيش يهدد ٠‏ 

نتيجة لكل هذه المناورات» بلغ الإحباط أعلى درجاته فى صفوف الجيش الذى لم يعد قادراً 
على تحمل المزيد من الخسائر. ففى مطلع عام 1385١»ء‏ وبعد أن نال السأم منه» وجه الجيش 
إتذارا اجكومة المهدى :فاده فوضونا لوضع.حد للمهانة الذاجمة عن سلملة الهزائة: القى القت 
بالجيش. جاء الإنذار فى مذكرة اشتملت على واحد وعشرين بنداً سلمت لرئيس الوزراء فى "١‏ 
فبراير بعد يوم واحد من استقالة عبد الماجد خليل من وزارة الدفاع.('”) وعندما استقال خليل 
من الحكومة كان خليفته فى الوزارة واحداً من أعضاء حكومة نميرى.('”) وسرعان ما أذعن 
رئيس الوزراء للمذكرة تفادياً لما ظنه انقلاباً وشيكأ على الديموقراطية. والمثير أن الجنرال 
نورمان شوارزكوف (كان يتولى فى ذلك الوقت القيادة المركزية للجيش الأمريكى) نصح 
الفريق عبد الرحمن سعيدء إبان زيارته إلى الولايات المتحدة» بأنه مهما حدث من خلافٍ بين 
الجيش وحكومة المهدى يجب أن لا يؤدى ذلك الخلاف إلى اتقلاب عسكرىء فالانتصار 
للديموقراطية؛ كما قال الجنرال»؛ ضرورى مهما كلف الأمر. 


417 


أيآً كان الأمرء وععد رئيس الوزراءء فى إطار استجابته لمذكرة الجيشء بقبول اتفاق 
الميرغنى ‏ قرنقء ودعم القوات المسلحة» وتسريح الميليشيات القبلية» طالبأء فى المقابل 
من الجيش احترام الدستور (ربما قصد عدم قيامه بانقلاب)» كما طالب النقابات بالكف عن 
الإضراباتء بالرغم من أن الإضرابات لم تكن ذات صلة مباشرة بالقضايا التى أثارها 
الجيش. ومما لا شك فيه أن النظام» يومذاك» كان محاصراً بالاحتجاجات المطلبية: وكما 
جنحت أن بعض النقابات إلى تحويل القضايا المطلبية إلى مناكفات سياسية. ولكن الحقيقة 
تبقى فى أن أغلب تلك الاحتجاجات كانت تعبر عن معاناة حقيقية وراءها سببان: اختلال 
الوضع الاقتصادى. وإنهاك الحرب للدولة والبلاد. علاج كلا الأمرين كان فى يد الحكومة» 
فهى التى تملك إيقاف الحرب وفق أجندة اتضحت معالمها منذ إعلان كوكادام» كما هى 
الجهة التى فى مقدورها إحاطة المواطنين بالرعاية بوضع السياسات الرشيدة وتنفيذها. 
وطالما ظلت الحكومة تتصرف وكأن قضيتها الأولى هى الشريعة وليس قضايا المعاش. 
فعليها وحدها يقع الوزرء وعليها وحدها تحمل مغبة أفعالها. ومن حق النقابيين فى هذه 
الحالة أن يلجوا فى السعى وراء حقوقهم وكما قال شيخ المعرة (اللزوميات) : 

وارى مكوكاً لا تحوط رعية 
فعلام تؤخذ جزية ومكوس 

أعلن رئيس الوزراء أيضاً عن نيته فى تقديم استقالته فى غضون أسبوع (فى الخامس 
من مارس)» واستقر رأى الجيش على منح رئيس الوزراء المهلة التى طلبها (عشرين يوما) 
للوفاء بوعوده . ولكن» فى الميعاد المحدد (الخامس من مارس) نكث رئيس الوزراء بوعده 
ولم يقدم استقالته: الأمرالذى لم يرفيه الناس تردداً فى اتخاذ القرار» بل شية من خداع. 
يتوهم المرء أن رئيس الوزراء» بعد استقالة الفريق عبد الماجد خليل من حكومته؛ بدأ يلم 
بشعور الإحباط الذى اعترى الجيش» كما يقع على ظن المرء أنه اتضح لرئيس الوزراء من 
مواقف وزير الدفاع أن الجيش يفضل حلا سلميآ للمشكل بدلاً من الحرب المنهكة التى لا 
نصر معها لأى من الطرفين المتحاربين. ولكن» وفقأ لما ذكره السفير الأمريكى فى 
الخرطوم هذا الفهم المتباين ساهم فى جعل جهود صادق من أجل السلام جهوداً مفككة لا 


418 


يحكمها منهج (1:0597:ا7)465””) فحتى بعد قبوله مبادرة السلام السودانية» لم يبال المهدى 
بتقديم الدعم اللازم لتلك المبادرة . ولعل السبب الرئيسى لعدم المبالاة المفتعلة هو مخاوفه 
السياسية وكبرياؤه: الأمر الذى أدى إلى تردده فى دفع مسيرة السلام بالقوة والسرعة التى 
كان ينبغى عليه أن يدفعها به. ففى البداية طلب رئيس الوزراء من البرلمان تفويضاً 
الإعلان وقف إطلاق النار (كما لوكانت الحرب قد شنت فى بادئ الأمر بقرار برلمانى) . 
طالب أيضاً بعقد مؤتمر دستورى دون الإشارة إلى إعلان كوكا دامء أواتفاق الميرغنى - 
قرنق . هذه الأساليب الملتوية قللت كثيراً من مصداقية رئيس الوزراء» لأنه يعرف تمامآ ما 
هى المتطلبات لعقد مؤتمر مثل هذاء كما يعرف أن حكومته لم تف بعد باى واحد من هذه 
المتطلبات بما فى ذلك ما وعد الصادق قرنق بتنفيذه خلال أربعين يوم من لقائهما فى 
أديس أبابا. مرة أخرىء نجد أن الذى كان يطغى على ذهن رئيس الوزراء لم يكن هو 
تحقيق السلام باعتباره هدفآً فى حد ذاتهء وإنما السعى لابتداع مبادرته الشخصية للسلام 
باعتباره وحده صانع المعجزات. ففى مقابلة مع السفير الأمريكى قال الصادق "لو أن قرنق 
تخلص من أسياده الأثيوبيين لاستطعت حل المشكلة معه فى ساعة واحدة.(**) إيمان 
رئيس الوزراء بقدراته غير المحدودة على فعل المعجزات لا يعادله إلا تباعده عن الواقع» 
ا ل ا 

بعد استنفاده لجميع الخيارات» خضع المهدى فى النهاية للضغوط امور بسحب قوانين 
الشريعة التى قدمها الترابى من قبل» الأمرالذى فتح الطريق أمام انضمام الحزب الاتحادى 
الديموقراطى إلى الحكومة مرة أخرى/*”). وهكذا خرجت الجبهة من الحكومة ودخلها مرة 
أخرى الحليف القديم . أما حسن الترابى فقد اكتفى بالدعوة إلى الجهاد دون جدوىء ثم 
انصرف من بعد لتدبير مكايد آتت ت أكلها بعد بضعة أشهر. وكانت الحركة الشعبية لتحرير 
السودان قد أعلنتء بعد التزام الحكومة بمبادرة السلام السودانية» وقفآ لإطلاق النارفى 
الأول من مايو لتمكن الحكومة الجديدة من تنفيذ ما جاءت به المبادرة : تجميد قوانين 
سبتمبر. ولكن للحسرةء وفر الوقت الذى أهدره المهدى فى محاولته البقاء فى مقدمة اللعبة؛ 
الفرصة للجبهة لكيما تكمل حوك مؤامرتها ضد حكومته؛ كما عمق من مخاوف الجيش. 


419 


تبعاً لهذه التطورات أقدمت مجموعة من الضباط مدعية الانتساب إلى الجيش على 
الإطاحة بالحكومة فى ١‏ يوني و »١1184‏ وأصبح العميد عمر حسن البشيرء قائد الانقلاب» 
رئيساً للسودان. ولم يكن وقوع ذلك الانقلاب فى نفس اليوم الذى كان من المقرر أن ينعقد 
فيه مجلس الوزراء ليتبنى مشروع قانون بإلغاء قوانين سبتمبر مصادفة. فلعلمها التام أن 
ذلك القانون كان سيعنى القضاء على أجندتها السياسية الدينية إلى الأبدء لم يكن أمام 
الجبهة إلا تقويض الحكومة. كما كان فى القلق السائد فى أروقة الجيشء والتوقع العام 
لانقلاب وشيكء خير عون للمؤامرين» خاصة وقد تظاهرت العصبة العسكرية الموالية 
للجبهة أنها كانت تنفذ انقلابها حسب تعليمات القائد العام للجيش. مع ذلك ما كان 
نجاحهم ليتم بهذه السهولة لولا العجز التام للحكومة عن مواجهة المغتصبين للسلطة. 
وطبيعى أن لا يفاجأً المراقبون بانهيار الحكومة لأنه _ كما قال السفير أندرسون باختصار_- 
«حكومة المهدى غير الفاعلة كانت تعيش فى الوقت الضائع: .(8*) 

06 

خلاصة 

لم تكن الديموقراطية الثالثة حقبة زمنية» وإنما فاصل حزين بين زمنين. لقد شهدت 
الفترة الانتقالية بعد سقوط نميرى بوادر سلام وانتعاش فى الآمالء خاصة بعد إقرار إعلان 
كوكا دام. للفشل فى تحقيق ذلك الحلم أبعاد سياقيه ونظرية وسياسية. أولاً كانت الفترة 
المؤقتة قصيرة للغاية بالقدر الذى لم يمكن الحاكمين من إجراء تغييرات عملية فى البنية 
السياسية السودانية» إن كان ذلك حقآ هو مبتغى الأحزاب والنقابات. ثانياً ارتكبت القوى 
الحديثئة خطأ جسيماً بتنازلها الكامل عن مسئوليتها فى إزالة قوانين سبتمبر للمجلس 
الانتقالى العسكرى والحكومة الانتقالية. لم تدرك هزال الأحزاب التقليدية أمام ابتزاز 
الجبهة» كما لم تع أن الفريق سوار الدهب؛ رغم تواضعه وتأبيه للسلطة» لم يكن الشخص 
الذى يوثق به لإلغاء قوانين يعتقد فى صلاحيتها من موقف إيمانى. ثالثاً بدلاً من العمل 
كجبهة موحدة على المستوى السياسى لتعبر بوضوح عن رؤية جديدة للسودان» والسعى 


420 


لتحقيق ذلك على نحو تراكمىء انزلقت القوى الحديثة إلى صراع على السلطة مع الأحزاب 
التقليدية . فمنذ أكتوبر »١5715‏ كما ذكرنا فى الفصل الرابعء ظلت تلك القوى تحسب نفسها 
حكومة السودان المنتظرة .(8076310621-10-8/81188) ذلك مشروع انتحار سياسى لأن 
هذه القوى لا تملك قدرات الأحزاب التقليدية التنظيمية» ولا إمكاناتها المادية» ولا قاعدتها 
الجماهيرية الراسخة. هذا لا يعنى الاستكانة للسياسات النزوية للأحزاب؛ فغنى عن البيان 
أن للعودة للديموقراطية لا تعنى تنازل العسكريين عن السلطة لرجال فى زى مدنى؛ 
غايتهم فى الحياة الدنيا هى العودة بالبلاد إلى ما كانت عليه قبل سطو العسكر على الحكم. 
ولكن الديموقراطية القائمة على تعدد الأحزاب فى السودان قد تؤدى إلى ذلك. ولو أن القوى 
الحديثة اقتصر دورها الأساس على التحفيز السياسى المستدام» وليس السعى لانتزاع عباءة 
السلطة عن القوى التقليدية لاختلفت الأمور. فتغيير الوضع السائد لا يتحقق» كما قلناء إلا 
على نحو تراكمى. رابع لم تبق القوى الحديثة» لنفسها الوقت الكافى لتنظيم صفوفها وبلورة 
برامجها بسبب انشغالها بالصراع على السلطة» والانقسامات الأيديولوجية فيما بينها. وكما 
شهدناء فشلت هذى القوى فى تعبئة أنصارها حتى على مستوى القاعدة الاجتماعية التى 
تمثلها: دوائر الخريجين. 

خامسأً يأتى المهدى؛ فللمرة الثانية فشل المهدى فى الإبيحار بسفينة البلاد إلى المرافئ 
الآمنة . أتيحت له الفرصة مرتين ليحفر لنفسه مكاناً فى التاريخ؛ إلا أنه أضاع كليهما. 
فتحت قيادة صادق المهدى تبخرت آمال السودانيين فى الابتهاج» إن لم يكن الزهو بسقوط 
ذميرىء بل وجدوا أنفسهم فوق سرير من المسامير (22115 04 560) لهذا لم يترك المهدى 
فرصة للمؤرخين لأن يتذكروه بما فعلء بل بما لم يفعل. ربما يقول الذين يتعاطفون مع 
المهدى أنه كان حسن النية فى كل ما فعل. ولريما جادل هؤلاء أيضاً بأن المشروع 
الأيديولوجى الذى كان ومازال يسعى لتطبيقه؛ هو وليد طبيعى للتاريخ الذى شكل 
شخصيته . لكن النوايا الطيبة لا تترجم تلقائياً إلى سياسات جيدة. كما أنه كان على المهدى 
أن يختار بين أن يكونء أولاً وقبل كل شىءء إماما لكيان الأنصار (مع كل ما يفرضه ذلك 
عليه سياسياً وأيديولوجياأ)» أو أن يكون قائداً للسودان كله. على النقيض من خصمه _ 


401 


الميرغنى _ فإن صادق ظل يقدم نفسه على أنه تجسيد لنموذج أيديولوجى إسلامىء ولا 
يخفى رغبته فى إعادة تشكيل السودان وفق هذا النموذج. اختار صادق أيضأ موقفاً نقيضاآ 
لموقفى وألده وجدهء ففيما عدا استخدام الدين كوسيلة لتعبئة الجماهيرء كان الخط الفاصل 
بين ما هو علمانى وما هو دنيوى واضحاً لكليهما. أما صادق فقد اتخذ بكامل قواه العقلية 
خياراً أيديولوجيأء دون إدراك لطبيعة المجتمع الذى يحكمه؛ بل» إدراك لطبيعة العصر. أو 
لربما أساء الصادق فهم المجتمع والعصرء رغم كل مظاهره العصرانية» ورغم كل أقواله 
المتعصرنة. فدعواه بأن إلغاء قوانين سبتمبرٍ سيعزل الشمال كان خاطئأ بدليل خروج 
الجماهير على اختلاف توجهاتها لاستقبال الميرغنى بعد اتفاقه مع قرنق على تجميد تلك 
القوانين. ذلك الاستقبال أثبت بما لا يدع مجالاً للشك بطلان تأكيدات المهدى على أن 
الأغلبية فى الشمال تريد أن تعيش فى ظل دولة دينية . حقيقة الأمرء أن رئيس الوزراء لم 
يورد تلك الحجة إلا لتبرير خياره الأيديولوجى. 

نتيجة لكل هذه الرؤى المرتبكة والمربكة؛ وإساءة فهم الواقع السودانى؛ ظل المهدى 
يترددء بل يفرط فى الترددء فى إقباله على جهود السلام المتواصلة . ولاشك فى أن القادة 
الذين يهتزون عند اللحظات التاريخية الحاسمة لن يكونوا قادرين أبداً على ترجيح الكفة. 
كما أن المحصلة النهائية لإنجازات الحكومة التى ما برح الصادق يدعيهاء خاصة فيما 
يتعلق بقضيتى الحرب والسلام لم تضف شيئا إلى سجله فى الحكم أن قسناها بالمقاييس 
الحقيقية: مقاييس الإنجاز العملىء لا البحوث الفلسفية. إن مأساة رئيس الوزراء حقاً هى أنه 
رجل يمتلك كل الصفات الفكرية التى كانت تؤهله لأن يصبح ديكليرك السودان الشمالى: 
رجل عاش فى إطار نظام اجتماعى مغلق تحكمه أنساق فكرية أشد انغلاقاً» ومع هذا كان 
قادراً على المراجعة النقدية لكل الثوابت التى سلم بها طوال حياته. الصادق المهدى, مع 
الأسف. أسير للإطار التاريخى الماضوى الذى شكله وقيده فى ذات الوقت. وأسرى الماضى 
هم أقل الناس قدرة على استيعاب الحاضر. 

ثمة نقطة ضعف أخرى فى المهدى هى بغضه للتقد الذاتى. ففى كتاباته الوفيرة - 
وبخاصة تلك التى دونها بعد خروجه من السلطة(/”) ‏ برع الصادق فى إلقاء اللوم كله 


002 


على شركائه فى الائتلاف وحملهم وحدهم مسئولية فشل الحكومة. فى ذات الوقت ما أنفك 
يعدد نجاحات لا تنتهى لتلك الحكومة . وبغض الطرف عن التناقض الضمنى فى تلك 
الادعاءات» فإن المهدى لم يدرك أن النجاح دوماً ينتهى عندما يبدأ الفشل. كما أن النجاح 
لا يقاس بالتأكيدات الذاتية؛ بل يقوم على تحقيق قَيوَ أهداف محددة . بهذا المعيار يستحق 
المهدى لقب أسوأ رئيس وزراء للسودان . قمة السوء كانت هى تسليمه السودان للجبهة على 
طبق من فضة . ففى حكومته الأخيرة لم يبق له فى كنانته إلا السهم الدابر (الأخير)؛ 
وخاب فى رميه . ومن المذهل أن رئيس الوزراء لم يرَّفى مخيلته ما رآه الجميع : العاصفة 
الوشيكة والكتابة على الجدران. كان مذهلاً سعى الصادقء فى البدء» لضم الجبهة إلى 
حكومتهء رغم أنه القائل أن: الوحدة الوطنية لن تكتمل إلا بعزل الجبهة.(*) وكان أدعى 
للذهول تحديه لواحد وعشرين نائباً من حزبه اعترضوا على ضم الجبهة إلى الحكومة» 
وثبتوا على موقفهم هذا عند ترشيح صادق لبعض كوادر الجبهة لرئاسة البرلمان (أحمد 
سليمان ثم محمد يوسف محمد)» على حساب رئيس البرلمان السابق» محمد إبراهيم خليل 
وهو واحد من خيرة القانونيين السودانيين» ومن أكثر السياسيين احتراماً. ولكن» كان 
واضحاً أن الصادق قد عقد العزم على مكافأة الجبهة: حتى وإن كان ذلك على حساب ذوى 
العقول النيرة داخل حزبه. لم يرده عن ذلك العزم أن التمرد داخل حزبه قاده صناديد لم 
يكفوا عن المنافحة عنه وعن حزيه. من أولئك؛ زعيم الأغلبية فى البرلمان» صلاح عبد 
الرحمن على طه الذى تحدى قرار حزبه ورشح نفسه لرئاسة البرلمان» فوقف خلفه واحد 
وثلاثون برلمانياً من نواب حزب الأمة» ومنهم الحاج عبد الرحمن نقد اللهء واحد من أقوى 
مناضلى الحزب شكيمة. رغم كل هذا أبى رئيس الوزراء أن يرى نذر الخطرء بل آثر السير 
نحو المنحدر وهو مغمض العينين. 
ممه 


2423 


هوامشش وإحالانت 





(1) قال باحث سودانى أن سوار الدهب ورفاقه همء فى واقع الأمرء جنرالات نميرى. وطالما 
عجزوا عن إلغاء قوانين سبتمبر» فمن المشكوك فيه أن يكون انقلابهم ثورة أو انحيازاً لجانب الشعب 
بقدر ما هوانقلاب قصر. شريف حرير [هع12 0) الاء-51011 صفحة ١3١‏ . 

(2) دعمت الجبهة اختيار الفريق سوار الدهب ليكون رئيساً لمنظمة الدعوة الإسلامية والتى 
أثبتت الأحداث استغلال الإسلامويين لها لتكون ذراعاً للتغلغل فى أفريقياء كما كافأت نائب سوار 
الدهبء الفريق تاج الدين عبد الله» بتعيينه مسئولاً عن منظمة شباب الوطن. 

(3) قال سوار الدهب فى رسالته البرقية إن وقوف القوات المسلحة وقفة رجل واحد وراء 
القوانين (قوانين سبتمبر) يعود إلى إيمانهم بقيام مجتمع إسلامى صالح. كما أضاف أن القوات 
المسلحة وقد شرفتموها بالشريعة الإسلامية» وأصبحت معاركها جهاداً فى سبيل الله» ستظل أبدآ رمزآ 
للتضحية. الصحافة ١7‏ سبتمبر987١.‏ 

(4) إدراكاً منا يومذاك للطبيعة التربوية البحتة للمعهدء وللمكاسب الدبلوماسية التى كنا نترجاها 
من إنشائه» اخترنا كأول مدير له الدبيلوماسى المتمرسء الدكتور محمد أحمد ياجى. 

(5) الصحافة " أكتوبر947١.‏ 

(6)فى خطاب أذاعه راديو الحركة الشعبية على التوالى فى يومى 7 و77 مايو ١1405‏ قال 
رئيس الحركة: لم ننظم الحركة الشعبية من أجل إعادة اتفاق أديس أباباء أو توحيد الجنوبء أو منح 
تنازلات للجنوبيين ‏ لاء نظمنا الحركة لتحقيق أهداف وطنية أكتر سمواً.48-76 مم :ىلهءم5 مم30 
معطمل 

(7)نفس المصدر 

(8)نفس المصدر 

(9)نفس المصدر 

(10)قال دفع الله فى رسالته لقرنق: أعرف أن أمر كل السودان يعنيك ولكن هناك قرح دام فى 
الجنوب منذ عام ١155‏ ."ولا شك فى أن فى إطلاق وصف القرح على حرب ظلت تدمر السودان 
طوال ثلاثة عقود من الزمان وراح ضحيتها مليون من البشر (حتى ذلك التاريخ) استخفاف 
بالكارثة» ولعلها زلة فى التعبير. 


424 


.2255 لإالكقء17 لملا لانامامة لكا ,لوتان 120 لمقعتلة مد علأكم1آ ‏ خ/151[ط5 ع5 .اماة صما (11) 
ِ200 
(12)رسالة قرنق لدقع الله» ١‏ سبتميرء ١986©‏ .870 مملاعمدءمص]ءط ,م6 الو .مهد 
(13)المصدر أعلاه 
(14)كانت تلك هى المرة الأولى التى سيطر فيها الإسلامويون على أى دوائر انتخابية فى 
الجنوب . والنواب الثلاثة هم: على تميم فرتاك (بحر الغزال): أحمد الرضى جابر (أعالى النيل) : 
أمين اسماعيل جله (الاستوائية) . 
(15)المصور ٠١‏ فبراير ١5481‏ . 
18 .50030 صا علداك لمعتاتلهط 2 كه كلامآ 01 2008 تصيداكآ ع1 .عدت/ز1 دأمعموظ مدعل (16) 
9914 ,00لممآ .كن4 50 .(لء) لمدسلمن 1لا ععاع2 . أوزعن ناز رعللم مدلسد 
(17)فى إدانته لمحجوب على أحداث جوبا وواو غابت عن بال صادق المهدى أحداث بور التى 
وقعت خلال حكمه؛ وراح ضضحيتها أربعة وعشرون من زعماء القبائل» بالرغم من أنهم كانوا فى 
حماية البوليس. يصف ابل الير الطبيعة الانتقامية لذلك الحدث على الوجه التالى: وكأن الجيش قد 
أراد بتلك المجزرة الانتقام لضحايا التمرد من الشماليين فى الخمسينيات. ابل اليرء جنوب السودان» 
صفحة 5 . ويعتقد مراقبون آخرون أن الذى فجر أحداث بور هو موقف رئيس الوزراء عندما قام 
بزيارة قبر الملازم زهير بيومى وأجهش بالبكاء. على أن الأمانة العلمية تقضى بالاعترات بأن 
اثنين من وزراء المحجوب (حسين الهندى وعبد الله نقد الله) قاما بزيارة جوبا بعد الأحدات: وأداتا 
علانية الموظفين الشماليين والتجار على الشمات الذى أبدوه عقب المجازر. 
0111102.126/ا1 1دج5111 30 105104 .خ[1/521ل[ط5 .امعلة سهآ (18) 
(19)قام بتسليم المذكرة أحد العاملين فى منظمة الوحدة الأفريقية كما روى السفير الأمريكى 
بالخرطوم. ١١7‏ ,508مع0م4 صدنمءهآ8 2 ,كأككن) مذ مدلي5 
(20)نفس المصدر صفحة ٠٠١‏ 
(21)ألقيت المحاضرة فى فندق المنهل فى أكتوبر ١145‏ . كما أكد الصادق اتهاماته تلك فى 
حديث لمجلة المصور(١‏ يوليو1947) نفى فيه أن تكون هناك أدنى صلة لدعوة قرنق لإلغاء 
قوانين سبتمبر بقضية الحربء بل هىء كما قال» تعبير عن موقفه اللادينى الماركسى. 
(22)المصدر ١5‏ أعلاه. 


405 


(23)نفس المصدر. 

(24)نفس المصدر. 

4 8 ,وعناتاوعل1 لعاكع امه ,مهلب5 ,تاوما (25) 

(26)نفس المصدر. 

(27)سونا /ا مايو545١.‏ 

(28)الأحزاب الجدوبية آنذاك ضمت مؤتمر السودان للشعوب الأفريقية (547©0)» الحزب 
الفيدرالى لشعوب السودان (52955): مؤتمر السودان الأفريقى (©54).» الاتحاد السياسى لجنوب 
السودان (5524) وحزب الشعب التقدمى (559) . 

(29)المصدر ١5‏ أعلاه صفحة 1176 

. ١941 مايو‎ ١6 (30)السياسة»‎ 

(31)صادق المهدىء الديموقراطية عائدة وراجحة. 

(32)المصدر ١5‏ أعلاه» صفحة 7١6‏ . 

. ١5844 أبريل‎ ١7 (33)الأهالى»‎ 

(34)المصدر ١5‏ أعلامء صفحة ٠١7”‏ . 

(35)تسلم رئيس الوزراء مذكرات من اتحاد المحامين؛ القضاءء مكتب النائب العام والأستاذ على 
محمود حسنين. 

(36)سونا 78" سبتمير ١98/4‏ . 

(37)سودان تايمز؟7١‏ مايوهه94١.‏ 

(38)سيد أحمد الحسين» سونا "١‏ أبريل ١1844‏ . 

(39) ضمت تلك الحكومة من وزراء نميرى السابقين عبد الماجد حامد خليل» أحمد عبد الرحمن: 
على الحاجء ماثيو أوبورء الدو أجوء عبد الملك الجعلى» محمود بشير جماع؛ بكرى عديل؛ ميرغنى عبد 
الرحمن سليمان. ومن غرائب الأمور أن تتم كل هذه التعيينات فى حكومة الصادق فى الوقت الذى 
اعترض فيه الصادق على ترشيح الحزب الاتحادى الديموقراطى للدكتور أحمد السيد حمد لعضوية 
مجلس رأس الدولة» لا لسبب إلا لأنه شغل منصباً وزارياً فى عهد نميرى مما أدخله فى عداد السدنة 

(40) لإعدمععوصء1 ,10 الدن :عسدعة0ء صفحة 17١‏ . ترجع تلك الإشارة إلى موقف عببد الماجد 
ورهط الضباط الذين واجهوا معه نميرى فى مطلع الثمانينيات. بتهم محددة حول سوء الحكم والفساد. 


4026 


(41) نفس المصدر. 

(42) المصدر ؟١‏ أعلاه» صفحة ,/ا١١‏ 

(43)فرانسيس دينق: ذكريات بابو نمرء دار النشرء جامعة الخرطوم. 
داعمو" وعلقاة (2)44 نوقميبر .١555‏ 


للقلتكم 2طآ1101:015 .5126 ع02225ئاذ عا لصة آللءآط5 ,كدنان!1841 لهطنرآ' ,طتلدذ.54.مف ك8 (45) 
.1989 ,لمقتصطء1 .أعاناأد 


(46) ريجنالد ونجت» لةلنا35 مدناملارع8 86 لمة نوذنلط134» ص ١١١‏ 

(47) عشارى محمود وسليمان بلدوء مذبحة الضعين. 

(48) الوطن العربىء 7١‏ أبريل ١546‏ . 

(49) المصدر ١5‏ أعلاه» صفحة 167 . 

(50) نفس المصدر. صفحة ١66‏ . 

(51) من الواضح أن مذكرة الجيش لم تعن فقط بالقضايا التى تهمه مباشرة وإنما تضمنت 
موضوعات أخرى ذات طابع وطنى عام مثل التدهور الاقتصادى.ء والفسادء وانفراط عقد الأمن فى 
دارفور» وجرائم الميليشيات القبلية. 

(52) اللواء مبارك عثمان رحمة»ء وزير التموين الأسيق. 

(53) المصدر ١5‏ أعلاه صفحة 91 . 

(54) المصدر السابق» صفحة ؟8. 

(55) ترك الحزب الاتحادى الحكومة فى ؟١‏ ديسمبر ١188‏ وعاد إليها فى ©؟ مارس ١1486‏ . 

(56) المصدر ١6‏ أعلاهء صفحة ؛ . 

(57) المصدر "١‏ أعلاه . 

(58) السياسة الكويتية ١7‏ فبراير ١9485‏ . 


14067 


826 

الجبهة القومية الإسلامية 
النشأة, التطور, 
الجذورالفةهمكرية 


«تئن الأرض تنمت وطأة عقائد 
لاتعترفبتطورالزمان, 
وكهنة لا يكمون عن الثرثرة 

عن ربيدعوللسلام 
فى حين تقطرأيديهم دمأ 
دونإحس اس يذتب.. 
بيرسى تنللى 

مسرحية "الملكة مال ٠‏ 


لال 7 
5 
<1» 


5٠١-١7” ١ خية‎ 


الجبهة القومية الإسلامية 
النشأة, التطور, 
الجذورالممهفكرية 


429 


وو 5 


فى جو ساده قلق صفيق, واعترت الناس فيه حيرة سياسية مشتة؛ وتخللته مؤامرات 
مطلقة الغباء (وهذه هى المكونات المألوفة للسياسة التقليدية فى السودان) ؛ قام العميد عمر 
حسن أحمد البشير فى يوم "١‏ يوني و سنة ١946‏ بوضع حد لحكومة صادق المهدى . وويحآ 
لصادقء فبمماطلته حول تنفيذ أجندة السلام» والمشاحنات الداخلية فى حكومته» أسهم بدور 
كبير فى تسليم الحكم للجبهة القومية الإسلامية. قال مراقب دبلوماسى كان يعلق آمالاً 
عراضاً على حكومة المهدىء؛ بلغت خيبة أمل الشعب درجة أصبح معها المواطن العادى 
على استعداد للترحاب بأى حكم بديل عن تلك الديموقراطية المشئومة.(') حقيقة الأمرء لم 
تفقد حكومة الديموقراطية الثالثة» التأييد الشعبى فحسبء بل أصبحت أيضأ على قدر من 
الوهن حمل رئيس الوزراء للنجاة بجلدهء ثم تسليم نفسه طوعاً للانقلابيين فى مظهر يعف 
المرء عن وصفهء بل لا يرضاه له أشد خصومه لدداً.(") ْ 

ما كان البشير ليفلح فى انقلابه لولا تداعى حكومة المهدى. ذلك التداعى استغله البشير 
لتحقيق الانقلاب؛ كما استغل المشاكل التى كانت تحيط بالحكومة احاطة كاملة. فعلى سبيل 
المثال» تمكنت المجموعة الأولى من المؤامرين على الحكم من اختراق قيادة الجيش يعد 
خداع الحراس بأنهم كانوا يستولون على الحكم بناء على تعليمات القائد العام للجيشء وذلك 
احتمال لم يكن أحد يومذاك يتشكك فيه داخل الجيش أو خارجه . الأمرالأكثر خطورة هو 
اختراق الفئة المؤامرة لجهاز الأمن فى حكومة المهدى» لدرجة توظيف الرجل الثانى فى 
هيكله القيادى.(؟) 0 يما كان هذا هو السبب لعدم اكتراث المؤامرين بشعارات تمجيد الذات 


431 


التى كان يطلقها بعض زعماء حزب الأمةء ويرددها أتباعهم» لتأكيد تصميمهم على البقاء 

فى الحكم؛ تحت كل الظروف )١(١.‏ 

اقتفى البشير أثر من سبقه من الانقلابيين العسكريين» فأطلق على انقلابه اسماً طناناً 
رناناً: ثورة الإنقاذ الوطنى» كما أعلن إنشاء مجلس لقيادة الثورة يضم ثلاثة أعضاء من 
الجنوب: وعضوا من منطقة جبال النوبة» وعضوين من دار فورء وسبعة أعضاء من شمال 
السودان» من بينهم البشير نفسه الذى أصبح رئيساً للمجلس . ولربما أراد الانقلابيون الإيحاء 
بأن هذا التشكيل للمجلس يعكس تنوع أهل السودان الإثنى والإقليمى . قام البشير» ينا 
بتعليق الدستور وحل الأحزاب السياسية:» إلا أنه تفادى تمامآً التصريح زالهوية ية الحقيقية 
لنظام الحكم الجديد لبضعة أيام. ولا شك فى أن البشير كان يتوجس خيفة من رد فعل أسياد 
البلدء فى حين حبست الأمة كلها الأنفاس انتظاراً لما سيحدث. 

وكما هو الحال فى كل مكانء هناك نوعان من الانقلابات: انقلاب يهدف إلى الإطاحة 
بنظام حكم مهترئ غير كفءء وتنظيف البيت من الداخل تمهيداً لقيام حكم أفضل؛ 
وانقلاب يسعى إلى الإطاحة بنظام حكم غير كفء وضعيف العصاء ليحل مكانه نظاماً 
جامعاً للآفات. الانقلاب الذى قام به البشير يندرج فى الفئة الثانية. وما أن اطمأن 
الانقلابيون وأحكموا قبضتهم على زمام الحكمء حتى اندفعوا إلى إلباس أنقفسهم رداء شرعية 
زائفة . مثال ذلك تكوين مجلس تشريعى فى عام 1597» انتقى أعضاؤه فرداً فردأً» وكلف 
بأمر التشريع لحين إجراء الانتخابات. هذا المجلس لم يكن أكثر من كتيبة حراسء إذ كانت 
القوة الحقيقية فى أيدى عصبة داخل الجبهة تعرف باسم "المجلس الأربعينى. وفى عام 
5 ,,ء أجريت "انتخابات صوريةء اسفرت عن انتخاب البشير كرئيس للدولة» وعن برلمان 
هيمنت عليه الجبهة (الحزب الوحيد الذى شارك فى تلك الانتخابات المزعومة) ؛ كما أختير 
حسن الترابى» زعيم الجبهة» رئبسا للبرلمان الجديد. فى ذات الوقت حل "مجلس الثورة: إلا 
أن ذلك لم يتم إلا بعد أن بدأ أهم الأعضاء الجنوبيين فى مجلس الثورة والحكومة والبرلمان» 
بالإضافة إلى عدد من الأعضاء الشماليين فى المجلسء يدبذون مناصبهم لوعيهم المتأخر 
بطبيعة النظام الجبهوية .(') من جانب آخرء تبنت الحكومة الانقلابية نظامأ للحكم يقوم 


4032 


على المؤتمرات الشعبية (على غرار النمط الليبى)؛ زعماً بأنه أكثر ملاءمة للأوضاع فى 
السودان. ولربما ابتغى الجبهويون من تبنى ذلك النظام (الذى لا يتوافق بحال مع الواقع 
السودانى) كسب ود القيادة الليبية. بجانب هذا التنظيم المؤتمرى الغريب على السودان» 
ابتدع النظام لامركزية إدارية قَسّم السودان بموجبها إلى ست وعشرين ولاية(). هذا 
التقسيم لم تسبقه دراسة لقدرة هذه الولايات المصنوعة على الاستقلال بذاتهاء أو الاعتماد 
على نفسها فى إدارة شئونهاء كما لم يتبعها خلق الآليات؛ وابتداع المناهج التى تضمن 
استمرار التكامل الاقتصادى بينها. لهذاء جاء التقسيم كعملية جراحية بلا تخديرء بل قاد إلى 
التواء فى العمود الفقرى للإدارة. ولكن النظام كان يعرف ما يريدء فهدفه ليس هو 
لامركزية الحكمء أو تقليص الظل الإدارى المركزى على الأقاليم» وإنما توسيع قاعدة 
المحسوبية (021]500286)» خاصة فى الجنوب حيث تحولت ولاياته الثلاث القديمة إلى 
إحدى عشرة ولاية لكل منها حاكم ووزراء ومدراء. ورغم دعاواه ضد الحزبية» استقر رأى 
النظام فى النهاية» على إنشاء حزب (المؤتمر الوطنى) الذى ظل لبضع سنوات الحزب 
الوحيد المعترف به فى السودان. 

فى هذه الأثناء» استولت الحكومة على جميع مراكز القوة والروة فى البلادء واتجهت 
نحو إسباغ شكل جديد على السياسة والاقتصادء وفقاً لما ادعته لنفسها من طابع إسلامى. 
ومع أن الجبهة» عبر مجلسها الأربعينى» ظلت تمسك بكل الخيوطء إلا أن قادتها السياسيين 
والعسكريينء ثابروا على إنكار أى ارتباط بينها وبين النظام. فبعد مرور ستة أعوام على 
الانقلاب» ما انفك الترابى ينكر أية علاقة بين الجبهة والمخططين للانقلاب. ففى حديث 
له فى مؤتمر صحفى لم يكتف الترابى بإنكاره علاقة الإسلامويين بالانقلاب» بل ألحق 
الإنكار بقوله: أنا رجل صادق... وكلكم تعرفون أننى رجل لا يكذب .(") 

خلال السنوات الخمس الأولى من توليها السلطةء انهمكت الجبهة فى تثبيت سلطانها مما 
كانوا يطلقون عليه اسم التمكين. بذلك الاسم أرادت الجبهة أن تضفى على سلطانها الدنيوى 
غطاء دينياً خادعاً نسج افتراء من قوله تعالى: #ونريد أن تمن على الذين استضعفوا فى 
الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين» ونمكن لهم فى الأرض وترق فرعون وهامان 


1033 


وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون» (القصص 1-5/728) . ولكن القرآن حمال؛ علهم لم 
يقرأوا منه قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الأرض ما لم 
نمكن لكمء وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنويهم 
وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين» (الأنعام 5/5) . 

فى سبيل هذا التمكين الطغوانى قامت الجبهة بالاستيلاء على الجيشء والشرطة» وأجهزة 
الأمن, والبنوك؛ ووسائل الإعلام؛ والمؤسسات التعليمية» والمساجدء والنقابات» وكلما تبقى 
من منظمات المجتمع المدنى. وبعد الزج بمؤيديهم فى الجهاز القضائىء والقوات المسلحة» 
والخدمة المدنية» ذهبت الجبهة للاستغناء عن خدمات كل من ظنت أنه يمثل تهديداً حقيقياً 
أو محتملاً لنظام الحكم» حتى أصبح عدد المحالين للتقاعد من الخدمة المدنية والعسكرية 
خلال أربع سدوات من عمرالجبهة: أكفرمن ضعف من أُحيلوا للاستيداع من بدايات 
الاستعمار 33016 وحدئ مج + الجيية!ة) .وكات سيت معدن من أخياوا لنقاهة القبرض 
الحبس والتعذيب أيضاً. هذا الانشغال بأمن النظام لم يبق للحكومة وقتاً للاهتمام بالواجب 
الأساسى لأى حاكم: الإدارة الرشيدة. بدلاً عن تلك الإدارة قدمت الجبهة لشعب السودان 
شيئاً أسمته شرع الله» قام بصوغه فقيه النظام» حسن الترابى. وما أن أقام مدينته "فوق 
التلء حتى توقع الترابى من أهل السودان التخلى عن قيمهم الأصلية» وإعادة اعتناق لا الله 
إلا الله من جديدء ثم الاتباع الأعمى لشرع الله المزعوم. وهكذا قررت الجبهة» فى ذروة 
انهيار الحركات الشمولية عبر كل العالم» تأسيس دكتاتوريتها الخاصة التى لا تتحكم فى 
عادات الخلق وعباداتهم فحسبء بل تسعى أيضاً للسيطرة على مشاعرهم وأحلامهم 
وأفكارهم . 

هذه النزعة الاستبدادية تجسدت فى إنشاء وزارة للتنمية الاجتماعية لتصبح وسيلة الحكم 
الرئيسية لإعادة صياغة الفكر والوجدان. وهكذاء بعد مضى عقد من نبوءة أورويل 15, 
وتساقط الأنظمة الشمولية فى العالم؛ أصبح للسودان نموذجه الخاص لوزارة الحقيقة. 
احتكرت تلك الوزارة جميع وسائل الإعلام (المكتوب والمسموع والمرئى)؛ وكان شغلها 
الشاغل» بطبيعة الحال؛ هو نشر الأكاذيب والتعتيم على الحقائق. وخلف الحجاب الدخانى من 


434 


الأكاذيب تلاشت الحقيقة. افتراء القول والتكذب على الناس ليس صناعة إسلامية» بل هو 
منهج المتجبرين الفاشيينء وقد بلغت النازية فى هذا شأواً بعيداً. فمثلاء كان وزير إعلام 
النازى» جوبلز يقول: تحدث لا لتقول شيئأً» وإنما لتترك أثرأ. كذبء فكلما كانت الكذبة أكبر, 
كلما كان وقعها أقوى. منهج الإسلام؛ على خلاف ذلك يحض على الصدقء ويدين الكذب. 
يتم المتكذبين بأسمه : «ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام» 
(الصف١7/7)»‏ (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» ( النحل »)١١7/١15‏ (أنظر 
كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبينا» (النساء )5١/5‏ . ومن الواضح أن حكام 
الجبهة لم يجدوا فى أى مرحلة من مراحل حكمهم (من البيان الأول للانقلاب وحتى الهراء 
الذى لازم مفاوضات ماشاكوس) إحساس بالندم على الكذب والافتراء» غايتهم من بداهة 
عهدهم كانت هى الكذب بهدف اغتصاب العقول باسم دين يدعو للمجادلة» وإخصاء الأفكار 
باسم عقيدة تحث على إعمال العقل» وشحن الرؤوس بأكاذيب لا غاية لها إلا إبطال الحق 
ومسخ الحقيقة. ومن ثم أصبحت برامج الإعلام المذاعة والمتلفزة خليطأ من التشغيب 
الدينى» والتهييج الغوغائى» والكذبء فالكذبء ثم الكذب. 

اتجه النظام أيضأء وبوجه لا يتفق مع أعراف السودانء إلى هدم بيوت العبادة لغير 
المسلمين» والهيمنة على مساجد المسلمين حتى تصبح منابر للدعوة للنظام وللتعبئة السياسية؛ 
والمساجد للهء فيما تعلمناء «فلا تدعوا مع الله أحدأ» (الجن 18/177) ولتحقيق هذا الهدف 
الاستغلالى اندفع النظام يشيد المزيد من المساجد بصورة أقرب إلى الكيد السياسى منها إلى 
الحرص :على توقين دور الغبادة للمسلمين. ففى ماضى عهدهم كان المحسنون من أهل 
السودان يشيدون دور العبادة مدخرين أجرها عند ربهم, ولا يرتجى ممن نشأ مثلنا فى ظلال 
القرآن بين أطلاح عبادة ربانيين بما كانوا يعلمون الكتابء إلا أن يحمد الله على هديه لبعض 
عباده أن يتوفروا لأداء هذا الواجب لمن أرادي وكيدء #ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن 
يذكر فيها اسمه4 (البقرة .)١١4/”‏ ولكن» الكيد يتضح عندما لا يطيب للدولة إلا أن تقيم 
المساجد قرب دور العبادة المسيحية» حتى وإن كان هنالك أكثر من مسجد فى الموقع» أو أن 
تنشئها فى أرض مغتصبة نكاية فىء أو ابتزازأء لأصحابها. حدث هذا بالنسبة لأراضى 


10135 


الميرغنية المصادرة فى كسلا وفى الخرطوم (عمارة التاكا) . فى تلك النكاية المتمثلة فى 
استغلال بيوت الله للإيقاع بالناس خروج على سنة رسول الله. ولا يخامرنا شك فى أن 
الأفاضل الذين آلوا على أنفسهم أن يحيوا من جديد مدينة الرسول فى السودان يعرفون جيداً 
كيف أقام الرسول مسجدء(') . لهذا اجتمع الرأى على عدم جواز بناء المسجد فى الأرض 
المغتصبة . ولعل هذا هو السبب الذى جعل وزارة الأوقاف المصرية تصدر قراراً تحرّم فيه 
إنشاء المساجد فى الأرض المغتصبة أو المتنازع عليهاء كما وجهت بأن لا يصرح ببناء 
المساجد إلا إن كانت هناك حاجة حقيقية للمسجد فى الموقع الذى يراد بناؤه فيه. 

رغم كل هذه التجاوزات التى لا تبعث على المسرة» لا يمكن أن نعزى إلى الجبهة كل 
الماسى التى تعرض لها السودان» وفى الفصول السابقة من الكتاب ما يؤيد ذلك . وفى ذات 
مرةء أفضى الأديب السودانى المشهورء الطيب صالح برأى عن ظاهرة الحريلة عار رن 
الناس: : من أين أتى هؤلاء؟ لا مشاحة فى أن الطيب لم يرفى ممارسات الجبهة إلا كابوساًء بل 
ذلا وبلاء أناخا بالسودان. ولكن الجبهة لم تجىء من فراغ وإنما خرجت من رحم السياسة 
السودانية الملوث؛ وارتضعت من ثديها الموبوء؛ وما لزماننا عيب سوانا. خطيئة الجبهة الكبرى 
هى بلوغها بالاستقطاب الدينى والثقافى أعلى درجاته. ينطبق ذلك؛ بصفة خاصة:؛ على 
تناولها لمسألة الجنوب حيث استمرت الحرب مشتعلة بلا هوادة» بعد عدة محاولات فاشلة من 
جانب النظام لإغواء الحركة الشعبية للاشتراك معها منفردة فى الحكم. نتيجة لهذا الفشل. 
حولت الجبهة الحرب الأهلية إلى حرب دينية. ضد "المشركين والكفارء فى ذات الوقت الذى 
ثابرت فيه على مساعيها للوصول إلى اتفاق مع أولئك "الكفار لكيما يكون لهم نصيب فى 
الحكم المنسوب للإسلام. مصير تلك المساعى انتهت إلى إخفاق مبين؛ لأن الهدف الحقيقى 
منها كان هو تمكين النظام الجبهوى عبر المفاوضات؛ بعد أن عجز عن تحقيق ذلك فى ميدان 
المعركة . وكأن الجبهة بهذا المنطق الأهوجء كانت تقول لبقية أهل السودان: سنحيد الحركة 
الشعبية أولأء ومن بعد «سنفرغ لكم أيها الثقلان» (الرحمن ١؟)‏ . 

حكومة الجبهة تمثل انتصاراً شخصياً للترابى» وبصفة عامة للشبكة العنكبوتية لجماعات 
الإسلام السياسى السنى عبر العالم. فالانقلاب» من مبدئه» كان تدبيراً ترابياً لعب فيه البشير 


4356 


وعسكره دور مخلب القط. لهذا كانت علاقة الترابى بالبشير» فى بعض جوانبهاء أشبه ما 
تكون بعلاقة راسبوتين بالقيصر الروسى نيكولا. الترابى: بالقطع» لم يكن راهباً مشعوذاً مجنوناً 
مثل راسبوتين» إلا أن تأثيره القوى على البشير وعلى جميع زعماء الجبهة لم يكن أقل 
اجتياحاً عن تأثير الساحر الروسى على القيصر. ولكن ما أن افترق الرجلان بعد عشر سنوات 
(فى ديسمبر سنة 145١)»حتى‏ أخذا يدليان بتصريحات مذهلة. اعترف كل منهما أن 
الانقلاب كان مشروعاً مدبراً من الجبهة منذ البداية. وفى هذه المرةء كان الترابى أكثر إفاضة 
فى الحديث عن دوره فى هندسة الانقلاب وفى مباركة قيادة البشير له» كما أفصح لإحدى 
الصحف عن استسلامه بمحض إرادته للاعتقال فى السجن مع زعماء المعارضة من أجل 
التستر على هوية الانقلاب!'') هذا التصريح غير المألوف والصادر من الرجل الذى لا 
يكذب»ء كان مثيراً للعجب. بنفس القدر كان اعتراف البشير بانتمائه إلى تنظيم الإخوان منذ 
سنى الدراسة الثانوية مذهلاً ومربكاء خاصة وقد كان الرجل يوحى على مدى عقد كامل من 
الزمان بأنه ضابط وطنى يقود انقلاباً وطنياً. الذين يفرطون فى التعلق بالأكاذيبء لابد أن 
يخسروا فى النهاية» ولكنء فى هذه الحالة» أكبر الخسائر التى لحقت بالترابى والبشير هى 
فقدانهما للصدقية» وللقدرة على التأثير المعنوى على الآخرين (035108ا5/ع6م [120132) . فمن 
الحمق أن يظن أحدهما أو كلاهما أن الناس سيأخذون مقولاتهما بعد فضحهما لنفسيهما بأى 
درجة من الجدية. ولربما كان هذا لا يعنيهما كثيرء فعالم المراوغين يفتقدء بطبعه» أى إطار 
أخلاقى للتعامل. 

فى النهاية» تطور الخلاف بين الاثنين إلى فتق استعصى رتقه؛ وجرح تعسر التنامه. زاد 
من الفتق والجرح أن الترابى؛ السياسى المدنىء أدرك حقيقة لم يدركها البشيرء العسكرى 
المسيس . تلك الحقيقة هى أن بقاء الإسلام السياسى فى دولة متعددة الديانات والأعراق» كدولة 
السودان» لا يمكن أن يتحقق إلا فى نطاق التعددية المدنية (550ذ!اة:دام !1لاأه) . ولا جدال فى 
أن الترابى قد توصل لهذه الحقيقة بعد مغامرات عديدة فى الأعوام 54. *الاء 848:88 . أما 
بالنسبة للبشيرء والذى يفترض أن يكون أقل تعلقاً بالجوانب الأيديولوجية» فقد أستولى على 
قيادة سفين لم يصنعه وأبحر به فى يم وأسع اللج لا يستبان قعره . فى ذات الوقت ظل أسيراً 


01317 


لموروثات الشيخ» دون أن يملك قدرته على المجادلة» أوبراعته فى المناورة. ومع غلوائه 
وغلواء من بقى معه من العناصر الأكثر تطرفاً داخل النظام» مضى البشير يلقى باللوم كله 
على الترابى. 

هذا الفصل من الكتاب ينقسم إلى جزءين الجزء الأول منهما يتناول الإسلام السياسى 
بصفة عامة» والإسلاموية السودانية يوجه خاصء من حيث نشاتهماء وتطورهما السياسى. 
وأفكارهماء والمصادر التى إستنبطت منها تلك الأفكار. بغيتنا ليست هى الانصراف عن 
جوهر الكناب كمبحث فى التاريخ السياسى» واستحالته إلى دراسة فى الفقه؛ وإنما هى 
تقصى الجذور الفكرية التى ابتنى عليها المفكرون الإسلامويون السياسات التى طبقوهاء وما 
فتئوا يقولون وترأ وتراً أن هذه السياسات هى احتذاء وطاعة لأوامر الله ونواهيه. 
060 

النشأة والتطور السياسي 

الفهم الصائب للتطرف الإسلاموى فى السودان» يقتضى النظر إليه فى سياقه التاريخى 
الصحيح. فالجبهة القومية الإسلامية ما هى إلا إعادة تجسيد لجماعة الإخوان المسلمين 
الذين يمثلون؛ فى السودان كياناً حديث النشأة.('') ورغم ارتباط الإخوان فى السودان 
بالإخوان فى مصر من الناحية التنظيمية فى الأيام المبكرة. خاصة عقب زيارة مساعد 
المرشد العام للجماعة المصرية؛ صالح مصطفى العشماوى للسودان لإعطاء قوة دافعه 
للتنظيم السودانىء إلا أنهم تحولوا إلى كيان مستقل بعد سلسلة من الصراعات الداخلية على 
السلطة انتهت بهيمنة الترابى على الحركة. وقد أعان الترابى على ذلك النجاح تميزه 
المهتى("') وقدراته التنظيمية» وثقافته العصرية» والنأى بنفسه عن الصراعات العائلية بين 
الإخوان. هذه الميزات التفضيلية أكسبت الترابى تأييد العناصر الشابة فى الحركة؛ كما 
مكنته من التغاعل مع الحركة الإسلامية الدولية» رغم أنه ظل لغزاً محيراً لبعض 
زعمائها.('') لم يكن الترابى» فى البداية» غافلاً عن تعقيدات الحياة السياسية فى السودان: 
مما دعاه إلى العمل وفق أصول لعبة السياسة فى ذلك الزمان. فخلال فترة حكم الأحزاب 


4038 


فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرينء؛ كان الترابى على صلة بالسيدين (الميرغنى 
والمهدى)!*')؛ كما كان حريصاً على التقرب لزعماء الطرق الصوفية. على أن مداهنة 
الترابى لأولنك الزعماء كانت جزءاً من إستراتيجية محسوبة» ولم تكن وليدة لخنوع حقيقى. 
الأكثر من ذلكء أن براغماتية الترابى دفعته» رغم بغضه العميق للشيوعيين» لتطبيق 
تكتيكاتهم فى التنظيم السرى لعناصر الإخوان فى الجامعات والمدارس والنقابات؛ حسبما 
روى.("') وكانت الحركتان تتباريان للحصول على سند تلك القواعد الاجتماعية» ولهذا ظل 
الصراع بينهماء محصوراً فى المدارس والجامعات والنقابات. وبحلول الستينيات من القرن 
العشرين» أضحى الإخوان أكثر ثقة بأنفسهم: وأكثر جرأة فى العمل العام نتيجة لاختراقهم 
لقواعد الأحزاب التقليدية» الأمر الذى مكنهمء كما أوردنا فى الفصل الرابع» إلى الانتقال 
بالصراع مع الشيوعيين إلى الشارع. 

الجبهة القومية الإسلامية ليست حركة سياسية سودانية وحسبء بل هى أيضأ جزء من 
شبكة دولية معقدة من الحركات السياسية التى تنسب نفسها للإسلام» وتكاد تدعى الانفراد 
به. ويرمز تعبير الإسلام السياسىء فى هذا السياقء إلى "الحركات والأيديولوجيات التى 
تطالب بتطبيق الإسلامء وفق تفسيرها له» كأساس لإعادة بناء الدول والمجتمعات المسلمة 
المعاصرة طبقاً لصورة مثالية لفترة تأسيس الإسلام منذ ١4٠١‏ عام.('') وكثيراً ما تنعت 
هذه الحركات فى الغرب ب "الأصولية الإسلامية (5ذاقام0206هد؟ 1912:01) » والتعبير 
خاطئ من ناحيتين. فمن جانبء هو إسقاط لمفهوم غربى يعبر عن حركات مسيحية 
محافظة تقف ضد كل الاتجاهات التحديثية فى الدين("')» فى حين تدعو الإسلاموية 
الحديثة إلى إعادة صوغ الحياة على أساس فهم جديد للدين. من جانب آخرء فإن تعبير 
أصولى فى المفهوم الإسلامى يعنى العالم بأصول الدين» فى حين تعنى كلمة أصل جذر 
الشىء»؛ وتعنى كلمة أصالةء ععراقة. ولعل؛ الذى يحمل البعض على نعت الحركات 
الإسلاموية بالأصولية» بمعنى الجمودء هو رفضها جملة وتفصيلا للقيم الكونية التى استقرت 
عليها الإنسانية» وبالتالى إخراج أمة المسلمين من بؤرة الوعى الإنسانى. 


الحركات الإسلاموية وجدت تربة خصبة فى الشرق الأوسط إبان النكسة العربية فى عام 
17 ,»؛ وأنحسار المد القومى العربى. هذان الحدثان (هزيمة يونيو/ حزيران !21951 
وإنهيار الحركات العربية القومية) أديا إلى خيبة أمل كبيرة بين الجماهير تجاه نظم الحكم 
الاشتراكية وشبه الاشتراكية فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا ريب فى أن الخيبة 
السياسية لتلك الحركات القومية» بل وللحركات اليسارية العلمانية فى المنطقة كلهاء قادت 
إلى تاكل شرعيتهاء كما أماطت اللثام عن فراغ الشعارات التى ظلت ترفعها على مدى ربع 
قرن. ذلك الفراغ الفكرى ترك المجال مفتوحاً على أوسع الأبواب لجميع أنواع الحلول لأزمة 
الممدسع للعزيى يننا فيها لاف النقوطة قفن الفبسيطل» خاصة ما قدثن متها بأئرات الألجالة: 
والإحياءء والبعث الدينى. وبما أن الدين» عبر التاريخ» كان مجالاً متاحاً للتبسيط المفرط 
من جانب المتعصبين: والمشعوذينء والمخلصين؛ على حد سواء: أصيح هو البديل الأمثل 
للأفكار الدنيوية أو الدهرية الخائبة. وفى أفق أعلى من التفكيرء نقول أن مهمة الدين هى 
تبسيط الحياة وإكسابها معنى ساميأء ثم تقريب ذلك المعنى لعقول عامة الناس. فالواجب 
الأساس للدينء طبقاً لولز (77/6115 .11.6)» هو إنقاذ البشر من الماسى السوداء التى تخلفها 
الكرامة المجروحة:ء والرغبات المكبوتة» والخلاصات التافهة. يقول ولز: يبدو لى أن هذه 
الرغبة فى تبسيط تعقيدات الحياة هى الأساس لما يسمى بالدافع الدينى.(*') ولكن» حين 
كانت بساطة الدين وفطريته هى مدخل الإسلامويين إلى قلوب المسلمين» عقّد من فهم 
الناس له» إيغالهم فيه بأسلوب فظء بل أخذ يضعف من إيمان بعضهم به. فالحديث عن 
إحياء الدين غريب على مسامع المسلم الذى لم يمت الدين أصلا فى نفسه. والادعاء بأن 
ذلك الإحياء يتم لتحقيق رغائب المسلمين» يكذبه ازورار أغلبيتهم عنء وإدانتهم للكثير مما 
صنعه الإسلامويون باسمهم واسم دينهم. وفى نهاية الأمربات واضحاً للجميع أن تعبير 
تحقيق رغائب المسلمينء ما هو إلا اسم مستعار لشعور نخبة تبحث لها عن معنى فى المجال 
السياسى» فاختطفت الإسلام وهرولت به بعيداً عن أهله. 

زاد من ازورار المسلمين عن هؤلاء المختطفين» عجزهم؛ أو تقاصرهم عن تبصر أهداف 
الدين الكبرى» ناهيك عن الالتزام بها. فجل اهتمام الإسلامويين الجدد فى السودان» كما هو 


440 


الحال فى الجزائر ومصر وأفغانستان وباكستان. اتجه إلى أمور لا صلة لها باللحظة 
التاريخية. مثال ذلك المظاهر (طريقة الملبسء آداب المأكل والمشربء كيفية إقامة 
الشعائر) . وبلغ السخف ببعضهم (الجزائر وأفغانستان) إلى حد فرض لباس شرعى على 
الرجال (وليس فقط النساء)» كما قال آخرون (طالبان) أن إشعاث الشعر فريضة إسلامية. 
فى مثل هؤلاء قال أبو الطيب: 
أغاية الدين أن تحفوا شواريكم 
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم 

وعلى أىء فبإعطائهم أهمية قصوى للمظاهر والقشورء قوض الإسلامويون المعنى 
العميق للدين» وحقيقة الإيمان المتسامية. رغم ذلك؛ أصبح شعار العودة للإسلام هو أكثر 
البدائل المتاحة مصداقية بين مسلمى الشرق الأوسطء خاصة والخضوع للرسالة السماوية 
كان يمثل دائماً قوة دفع أساسية للمسلمين بصفة عامة» ولمسلمى الشرق الأوسط بوجه 
خاص . ويالذلك من تزامن بائس بين خيبة وخيبة. 

لكل هذه الأسباب أخذت مجموعة جديدة من الشعارات ذات البعد الدينى تحتل الساحة 
المركزية فى الحوار السياسى الجارى داخل الشرق الأوسط العربى . ونظراً لعداوة 
الإسلامويين المفترضة للنزعات القومية العلمانية» وللنزعة المادية الغربية» لم يكن من 
الغريب أن تنحو شعاراتهم إلى رفض كل ما هو منسوب إلى الغرب. وكأنا بهم يريدون 
للمسلمين أن يعيشوا متعازلين عن العالم. لتحقيق هذه الغاية المستحيلة تبنى الإسلامويون 
الجدد (الذين خرج أغليهم من حضانة الإخوان المسلمين) أفكار الفئة الأكثر تعصباً فى تلك 
الجماعة» بقيادة سيد قطب. رمى قطبء بأسلوب ابوكاليبسى7؟')» المجتمع الحديث كله 
بالكفر والاضطهاد للآخرينء ودعى إلى تدمير الهياكل الاجتماعية والسياسية لذلك المجتمع 
من خلال الجهاد.!'') والمجتمع الذى وصفه قطب بالجاهلية يشمل الأنظمة الرأسمالية 
والشيوعية والغربية الليبرالية» ولم ير بديلاً صالحاً للتطبيق فى مواجهتها إلا الإسلام. ولريما 
كان محمد قطبء شقيق سيد قطبء أكثر إيضاحاً فى إبراز هذا المفهوم؛ قال فى كتابه 
جاهلية القرن العشرين: لقد جربت البشرية فى هذه الجاهلية الحديثة كل نظام يمكن أن 


441 


يخطر فى بال الإنسان ..الفردية والجماعية.. الرأسمالية والشيوعية .. والملكية واللاملكية.. 
ثم ازدادت مع كل تجربة حيرتها وشقاؤها واضطرابها وخلخلة روابطها.. ومن ثم فلم يعد 
هناك مجال للاختيارء إما الله» وإما الانهيار.('') ولكن العالم لم ينهرء بل اخترق إنسانه 
الفضاءء ونزل فى القمرء وكشف عن الجينات المكونة للإنسان» واستنسخ النعاج. لهذاء لا 
يقول بحتمية انهيار الحضارة المعاصرة إلا من يعيش خارج إطار التاريخ المعاصر. فى 
الوقت نفسهء مازال الله حياً فى قلوب المؤمنينء لا بعد أن أنذر قطب بخياريه» بل منذ أن 
قال فريدريك نيتشه بموت الإله فى القرن التاسع عشر. فمازال التصارى يرتلون الترانيم 
فى مساجدهمء ومازال المسلمون عاكفين على مساجدهم سيماهم فى وجوههم؛ وصازال 
اليهود يهزهزون رؤوسهم أمام حائط المبكى. عجيب إذنء أن يتبنى القطبان ذلك الموقف 
الإمبراطورى تجاه العالم ويعدان النفس لغزوه. ولريما كان للنزعة الرومانسية عند سيد 
قطب دور فى هذا الطموح الجامحء فمن الظلم أن نوصم هذا العالم بالتتصلب الفكرى 
الغريزى. ولربما كان أيضأ لمعاناته فى عهد عبد الناصر أثرفى رميه المجتمع كله 
بالكفر("")؛ رغم وصفه لعبد الناصر وصحبه عندما استولوا على الحكم ‏ وكان ذا قربى 
منهم ‏ «إنهم فتية أمنوا بربهم وزدناهم هدى». 

قبل أن يولد 07 جديد زستاكه8 متدعة -عهط) » كان قطب ناقداً أدبياً مشهوزاء 
وتلميذاً ملازماً لعباس العقادء رائد الحرية الفكرية والنهج العقلانى فى زمانه . وشارك قطب 
العقاد فى الكثير من عقلانيته» وبعض شغفه بالشعر. وكان أول لقاء فكرى جاد لسيد قطب 
بالقرآن الكريم لقاء على المستوى الأدبى؛ فكتابه التصوير الفنى فى القرآن مازال من أكثر 
الشروح الأدبية للقرآن تنويراً. وبعد أن تشرب قطب بالثقافة الغربية (بما فى ذلك فترة من 
التدريب فى الولايات المتحدة) ؛ ألف عملا هاما آخر هو العدالة الاجتماعية فى الإسلام. 
ذلك العمل يمثل واحداً من أهم الاجتهادات التى أخرجها العلماء الإسلاميون فى ذلك 
الزمان لإرساء قواعد فلسفة إسلامية اجتماعية _ اقتصادية . كذلك التهم المد الناصرى سيد 
قطب فى أوائل عهد عبد الناصرء فعمل فى نظامه مستشاراً فنياً فى شئون التعليم» ولكن ما 
لبث أن اختلف مع عبد الناصر وتم اعتقاله. ومن المدهشء أن مؤسسة الإخوان المسلمين 


442 


فى مصر لم تشارك قطبأ فى آرائه» بل استنكرت تلك الآراء فى كتاب لقائدها حسن 
الهضيبى بعنوان دعاة لا قضاة» دعا فيه إلى نبذ العنف. ذلك الكتاب كان يتداول سرياً فى 
مصرء ولم يعرف طريقه للنشر إلا فى عام 1977 بعد رحيل عبد الناصر. على أن تبرؤ 
الإخوان من عنف قطب يتعارض مع تاريخ عنمف الجماعة المثبت (اغتيال النقراشى باشا 
والمستشار الخازندار) . ففى التحقيق معه قال عبد المجيد حسن. قاتل النقراشى إن الاغتيال 
السياسى من سنن الإسلام. 

مهما يكن من أمرء تعرف قطب الشاعر الرومانسى فى فترة وحدانيته فى سجون عبد 
الناصرء على أبى الأعلى المودودى؛ عالم إسلامى من أندرا براديش بالهند. وكان 
المودودى يدعو إلى إنشاء دولة مؤسسة على الإسلام منذ الثلاثينيات فى القرن الماضى فى 
صحيفته ترجمان الإسلام» كما بشر بالجهاد باسم الله ضد الذين يضطهدون الإسلام (وكان 
يعنى بذلك الهندوس) . ذلك فهم للإسلام ليس بجديدء إذ ذهب إليه بعض المفسرين والفقهاء 
فى شروحاتهم النظرية حول فكرة الجهاد(""). الجديد الذى أتى به المودودى هو نفيه 
الحاكمية عن البشر؛ فالحكم فى اعتقاده لله» والتشريع له وحدهء باعتباره مالك الملك.(؛") 
بذلك الفهم أسقط المودودى الإرادة البشرية فى الحكم وصوغ الحياة. هذا الحكم المعتنسف 
أغفل أن الله لا يمارس الحاكمية ولا التشريع بنفسه؛ وإنما عبر الإنسان الذى استخلف فى 
الأرض؛ والإنسان هو الإنسان. وقد أثبتت جميع التجارب التاريخية: منذ نهاية العهد الراشد 
إلى عهد طالبان والبشيرء بأن هناك تداخلاً سيكولوجياً بين النظرية والتطبيق لابد أن يقع 
فالذات الشارحة أو المفسرة؛ تصبح جزءاً من الموضوع المشروح. ولو كان الشارح أو المفسر 
على أدنى درجة من الأمانة الفكرية لقضى بأن ليس هناك يقين كامل فى شروحاته 
وتفسيره ؛ هذا أن أحسنا الظن بالدعاة ولم نرمهم باستغلال الدين قصداً لأغراض دنيوية. 
من جهة أخرىء لا تصادر الوصاية على الإنسان باسم الله إرادة الإنسان فحسبء بل تسلبه 
أيضاً أهم خصيصة أعزه الله بهاء ألا وهى العقل. 

ومما يطرف ذكره أن سيد قطبء فى فترة تجليه كأديب» كتب يدعو لأصالة أخرى. 
فعقب صدور كفاح طيبه لنجيب محفوظء كتب قطب فى الرسالة يقول: لم أجد ‏ إلا مرة 


443 


واحدة- كتاباً عن مصر القديمة يبعثها حية فى نفوسناء شاخصة فى أذهاننا. ذلك هو كتاب 
المرحوم عبد القادر حمزة على هامش التاريخ المصرى القديم؛ ففرحت به»ء مكلما أفرح اليوم 
بقصة كفاح طيبه ‏ وطالب قطب وزارة المعارف بتبنى الكتاب: مضيفاً أن مصر القديمة لا 
تعيش فى نفوسناء ولا تحيا فى تصوراتنا إن بقينا منقطعين عن هذا الماضى القديمء لا 
نعرفه إلا ألفاظا جوفاءء ولا نتمثله صوراً ووشائج حية.(*") غريب إذنء أن ينتهى هذا 
الداعية الإسلامى الذى كان ينادى أن تظل تلك الحضارة الفرعونية الوثنية حية فى النفوس 
وشاخصة فى الأذهان» إلى الدعوة للإعتزال عن الحضارة المعاصرة التى اقتحمت على 
المسلمين دنياواتهم برضاهم واختيارهم. 

أضفى قطب يعدا عالمياً على أفكار المودودى المرتبطة أساساً بالهندء وخلص إلى أن 
جميع الحكومات الإسلامية مارقة على الدين ولهذا توجب القضاء عليها بالقوة . وهكذا 
انتهى قطب إلى أن العالم كله يعيش فى ظلمات الجاهلية» ولا سبيل لإنقاذه إلا بالإسلام. 
بهد النظرة الحادة السسة م ببق قطن الستلمين غير ختيارين: الإسلام أوالجاهارة: 
وهكذاء بعد أربعين عاماً من التعليم الغربى» اكتملت القطيعة المعرفية بين قطب والفكر 
الغربى: وكأن الغرب كله حالة واحدة متجانسة تمثل بماديتها وفسادها تهديداً لإسلام 
روحانى فاضل ومتميز ومتجانس هو الآخر. ذلك قول زيف وصف الدكتور طه حسين 
شبيهاته من الأقوال التى تنفى أى فضيلة عن أوروبا وتختزل حضارتها المعاصرة فى بعد 
واحد هو المتعة بقوله: "أقرأت هذا ؟ إن بين المصريين خاصة.ء والشرقيين عامة» قومآً 
يملأون به أفواههم» ويجرون به أقلامهم؛ ويلقون به فى نفوس الشباب فلا يلقون إلا سما 
زعافاً. عن تلك القطيعة عبر قطب قائلاً: "إننى غير نادم على تلك الأربعين سنة التى 
أمضيتهاء لأنها مكنتنى من معرفة الطبيعة الحقيقية للجاهلية» بكل ما يعتريها من ضلال 
وكفر. وتعلمت كذلكء أن المسلم لا يستطيع التزاوج مع الثقافتين فى آن واحد.('") بهذا 
القول» لم يقف قطب عند حد القطيعة الفكرية مع الغرب بل طالب المسلمين يرفض مناهج 
الأدلة التى أخذوها عنه لأنها تعمى بصيرتهم عن الرؤية الصحيحة للإسلام. ذلك هو مدى 
الظلامية الفكرية الذى انتهى إنيه ذلك العالم المرموق. ومن الغريب أن يفلت من ذاكرة 


444 


قطب الإسهام الرفيع لابن سينا وابن رشد ومسكويه والكندى للفكر الإسلامى عبر المزاوجة 
بينه وبين الفكر اليونانى فيما أجلوه على الناس فى علمى الأخلاق والسياسة. 

أي كان الأمرء فى رسالة سيد قطبء فكرتان ضمنيتان؛ الأولى هى إدانة محاولات 
العلماء المسلمين مثل الإمام محمد عبده» للتوفيق بين الإسلام والحداثة» والثانية هى إيمانه 
بالعنفء سبيلا للوصول إلى غاياتهء مما جعل للعنف أهمية محورية فى البعث الإسلامى 
الذى دعا إليه» وقفى أثره التابعون» أى العنف بتكليف ربانى. ولعل الذى يستعيد التاريخ. 
ويقارب بين جهود الإصلاحيين مثل عبده والأفغانى اللذين انحصر همهما فى التفاعل مع 
الحضارة المعاصرة ومحارية الاستبداد فى الداخل» وبين مغامرات الصحويين الذين 
أصبحت غاية مرادهم هى تدمير الحضارة المعاصرة والهروب إلى ماض تليد مؤسطر. 
سيكتشف الجناية الكبرى التى ارتكبها الأخيرون بحق الإسلام وأمة المسلمين. ذلك الماضى 
المؤسطر لا نجد له تجسيداً فيزيقياً فى كل النماذج السياسية للإسلاموية الحديثة» بل على 
النقيض - نرى عنفاً وظلماً وإرهاصاً على الذنوب» فى نفس الوقت الذى ما انفك فيه 
مبتدعو هذه النماذج يدعون المسلمين إلى التماهى مع إسلام ميتافيزيقى نقى ومتوهم . 
رسالة قطب كانتء بلا شك.عاملا فاعلاً فى تنظيم غضب الشباب الجامعى فى القاهرة» 
والذى ينحدر جزء كبير منه من الريف المصرى. فإلى جانب ارتماضهم من مجتمع 
المدينة غير المضيافء كان للجذور الريفية لهذا الشبابء (والريف هو المكان الذى تسوده 
الخرافاتء ويعتريه الخوف من المجهول) أثر فى قابلية هذا الشباب لتبنى حتميات سيد 
قطب بلا مناقشة . وهكذا وجدت أفكار المودودى؛ عبر سيد قطبء ترية خصبة فى مصرء 
فى حين عجزت عن النمو داخل باكستانء الدولة التى صنعت فى شبه القارة الهندية 
صنعأء على أساس الدين. ويؤكد نمو أفكار المودودى النظرية عملياً فى الترية العربية» لا 
فى مسقط رأسهء زعمنا أن التطرف الإسلاموى السنى هو ظاهرة عربية شرق أوسطية تم 
تصديرهاء فيما بعدء لمناطق إسلامية أخرى. 

بد الإسلامويين الجدد للغرب (الدول الصناعية فى شمال الكرة الأرضية)؛ يجب أن لا 
يخلط مع الاستياء الكامن الذى تشعر به دول العالم الثالث('') (بما فى ذلك الدول المسلمة) 


445 


تجاه الغرب» خاصة الولايات المتحدة وأوروبا. هذا الاستياء له ما يبرره» نظراً لهيمنة الشمال 
على اقتصاد العالم» ولتهميشه» بسبب تلك الهيمنة» لدول الجنوب. فرغم ثروتهم الوفيرة من 
الموارد الطبيعية» لا يتجاوز الناتج المحلى الإجمالى لمجموع الدول المسلمة ألف بليون دولار 
أمريكىء بينما يبلغ الناتج المحلى الإجمالى لفرنساء وألمانياء واليابان ١6٠١‏ و١٠75‏ و0٠6ه‏ 
ألف دولار أمريكىء على التوالى. وكما لاحظ أحد الدارسين: ريما يلجأ المسلمون للعنف 
للاعتراض على الأوضاع القائمة» ولكنهم يعترضون كأطراف مظلومة حيث يعيشون على 
هامش نظام عالمى لم يصنعوه ولا يستطيعون التحكم فيه؛ ولكنهم يشاركون فيه ويرفضون 
استبعادهم منه.("") على أن جميع الدول المسلمة التى قادت الاعتراض على النظام 
الاقتصادى العالمى الظالم (الجزائر» المملكة السعودية» نيجيرياء مصرء ماليزياء أندونيسيا) لم 
يذهب بها الجنوح إلى أن لها رسالة» أودورا رسوليا فى العالم. قضيتها كانت»ء ومازالت» هى 
الانتصار لنفسها فى صراع وجودىء وليس بعث الإسلام كبديل للحضارات الأخرى. 

التوجه الإسلاموى السياسى الجديد بعيد أيضأ كل البعد عن لاهوت التحرير الذى عرقه 
جنوب ووسط أمريكا (أوسكار روميرو فى السلفادورء والكاردينال إيرينزى فى البرازيل) . 
فرغم أن القسس والكرادلة الكاثوليكيين فى أمريكا الجنوبية كانوا يقودون ثورة سياسية ضد 
الأنظمة العسكرية الفاشية فى بلادهم؛ وعلما بأن تلك الثورة قد طالت الكنيسة التقليدية التى 
كانت تدعم تلك النظمء إلا أنهم لم يزعموا أبداً أن لهم رسالة تتجاوز أوطانهم الأصلية. كما 
أن مناهضة اللاهوتيين التحريريين للكنائس الرسمية كانت تبرر دوماً بأن تلك الكنائس قد 
ارتكبت "خطيئة بقبولهاء أو على الأقل تسامحها مع النظم المستبدة. فى حين أن الإسلام 
السياسى لم يلجأ للعنف لإصلاح خطأ داخل حدود أوطانه الأصلية فقطء بل تطلع أيضاً 
لفرض نظام دينى ‏ سياسى على المسلمين وغير المسلمين فيما وراء الحدود الوطنية. من 
أجل تحقيق هذا الغرضء أصبح أى قدر من العنف مبررأء خاصة ضد ما أسماه الأمام 
الخمينى "دول الاستكبارء ويعنى بذلك الغرب. وكان أول تعبير لتحديه لدول الاستكبار» 
الاحتلال الرمزى للسفارة الأمريكية فى طهران. هذا بالطبع وقع قبل أن يتصاعد أسامة بن 
لادن بالأمر إلى حد ضرب الولايات المتحدة فى عقر دارهاء ويقسم العالم إلى فسطاطين» 


446 


فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان. أما فى داخل العالم الإسلامى فقد استقر رأى الإسلام 
السياسى على أن المسلمين يمثلون أمة واحدة لا تعرف حدوداً وطنية. وعلى أساس هذا 
الافتراضء انتحل الإسلامويون لأنفسهم حق نشرء وتطبيق» بل وفرض أيديولوجيتهم 
الخاصة على العالم الإسلامى كله. بهذا المستوى من النرجسية الفكرية؛ أضحى الإسلام 
السياسى مزيجأ من الدوغماطية الدينية» والنرجسية الثقافية» والتوق العارم للسلطة» ثم 
العنف الذى استحال إلى فاشية. تلك النرجسية اتسمت بطابع غريبء هوأن الحضارة 
المعاصرة لا تملك ما تقدمه للمسلمين» رغم كل ما هم عليه من ضضعف وهوان» ورغم 
اعتمادهم المطلق على كل ما تنتجه تلك الحضارة . وللكاتب المغريى عبد الإله بلقزيز تحليل 
صائب لتلك الظاهرة . قال أن أصحاب هذه الدعوى يحيطون أنفسهم بدفاعات حصينة ضد 
اختراق الآخر لحوزتهم.. هم دائماً فى حالة دفاع عن نفسهم المستهدفة من عدو خارجى 
متريص .. وإن لم يستطيعوا محوه وكسر شوكته من خارج ديارهم بسبب الانقلاب الكبير 
فى موازين القوى بين مجتمعات هذا العصرء فلا أقل من الانكفاء والتشرنق والاعتصام 
بالموقع الحصين... وإعادة إنتاج النرجسية الحضارية والثقافية.(9؟) 

هناك عامل آخر ساعد على بروز الإسلام السياسى: منافسة القوى العظمى: خاصة 
خلال الحرب الأفغانية . فالجماعات الإسلامية المتطرفة المعاصرة (العربية والشرق أوسطية 
بما فيها الجماعات السودانية) ظلت تتغذى من الدول العربية الغنية والولايات المتحدة 
بهدف تحييد الناصرية والشيوعية؛ خلال عقد الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن 
الماضى . وبعد انقضاض عبد الناصر على الإخوانء وانحيازه للاتحاد السوفيتى فى الصراع 
بين القوتين العظميين» أصبحت مناهضة الشيوعية» (وبالتبعية مناهضة الناصرية) هى 
الهدف الأسمى لنضال الإسلام السياسى بالمنطقة. هذا التقاطع فى المصالح فى فترة الحرب 
الباردة جعل الولايات المتحدة تزود "الإسلام السياسى الشرق أوسطىء بالدعم الاقتصادى 
الذى مكنه من التوسع خارج المنطقة العربية» كما كان للتدريب العسكرى الذى وفرته له 
خلال الحرب الأفغانية ضد إمبراطورية الشرء أثر كبير فى تزويده بمهارات عسكرية 
استخدمت. فيما بعد فى الأعمال الإرهابية بالجزائر» ومصرء والسودان. ومن التناقض 


417 


العجيبء أن يصبح المحسن الأول إلى تلك الجماعات المتطرفة (الولايات المتحدة)؛ هو 
الوغد الملام فى كل حال. ولم تقف مقابلة الإحسان بالإساءة عند أمريكاء بل تعدتها إلى 
الدول الإسلامية. ففى حديث مفعم بالحسرة قال وزير الداخلية السعودىء نايف بن عبد 
العزيز أن كل مشكلات المملكة جاءت من الإخوان المسلمين: فلما اشتدت عليهم الأمور. 
وعلقت لهم المشائق فى دولهم لجأوا إلى المملكة وتحملتهم وصانتهم وحفظت حياتهم بعد 
اللهء وحفظت كرامتهم ومحارمهم وجعلتهم آمنين.... ولكن للأسف لم ينسوا ارتباطاتهم 
السابقة فأخذوا يجندون الناس وينشئون التيارات وأصبحوا ضد المملكة. ('؟) ومن المعروف 
أن الإخوان منذ بداهة عهدهم سعوا لإنشاء قلاع لهم فى أرض الحرمينء إلا أن الملك عبد 
العزيز كان بريعاً فى رفضه ذلك التوجه» قال لهم كلنا إخوان» وكلنا مسلمون. ولعل هذا هو 
الذى دفع الزعيم الحالى للجماعة» مأمون الهضيبىء للقول» فى معرض رده على ما جاء 
به الأمير نايف : إنشاء تنظيم للإخوان فى المملكة كان دوماً خطأ أحمر بالنسبة لنا (الحياة 
نوفمبر7١٠٠2)‏ . ويتساءل المرء لم خط أحمر هناك فى أرض الحرمين؛ وخطوط خْضر 
فى بلاد القبط والنبط. 

نضيف إلى ما سبق دور الرئيس السادات فى إعادة الحياة إلى التيارات الدينية فى مصر 
كترياق مضاد لمراكز القوىء الاسم الذى كان يطلقه على الناصريين الذين لم يوالوه» وعلى 
اليسار فى مجمله. ويروى أيمن الظواهرى فى كتابه الأخير الذى نشرته الشرق الأوسط فى 
حلقات بعنوان "الوصية ما يلى: ما إن ارتفع بعض الضغط على الحركة الإسلامية» حتى 
خرج المارد من القمقم واتضح مدى النفوذ الشعبى الكاسح للإسلاميين فى الجامعات 
والمدارس والزحف نحو النقابات('') . وليس غريباء بعد سنوات من غياب الحرية» أن يتخذ 
الناس توجهاً مضاداً للتيار السياسى الذى غيب الحريات؛ دون تدبر لنتائج دعمهم للتيارات 
التى ساندوهاء بما فيها التيار الإسلامى. فالخوف ليس من التيار الإسلامى فى حد ذاته؛ 
وإنما من الفلسفة التى كانت ت تقود وتلهم التيار الإسلاموى. يقول الظواهرى أن المجموعات 
الماتفة حول سيد قطب قد قررت أن توجه ضرباتها ضد الحكومة القائمة باعتبارها نظاماً 
معادياً للإسلامء خارجاً عن منهج الله» ورافضاً للتحاكم على شرعه("") . فالساداتء إذن» 


448 


لم يفتح الباب لتوجه فكرى إسلامىء وإنما لتطرف دموى سعى لاحتكار الدين والدنياء 
وكانء, رحمه الله؛ هو أول ضحاياه . 

الجدل حول الإسلام السياسى يجب أيضأ أن يوضع فى إطاره الصحيح, لأنه لا 0 
بالإسلام كعقيدة أو كرافد ثقافى هام فى تكوين الهويات الوطنية فى الوطن العربى 
يدور» فى جوهره» حول دعاوى نخب أيديولوجية تسعى لفرض قواعد للحكم 00 
للمجتمع تزعم أنها مستخلصة من الإسلام. وبطبع رسالته المنزلة لا يمكن للدين (أى دين) 
أن يصبح أيديولوجية» ففى الدين الأوامر والنواهى كما فيه المباح من أمور الدنياء فى حين 
أن الأيديولوجية هى منظومة من الأفكار والمعتقدات تشرح المجتمع وطرائق العمل فيه وفق 
منظور متكامل لطبيعة ذلك المجتمع وللعلاقات بين جماعاته؛ كما تحدد وسائل النضال 
الاجتماعى الذى يرتفع بالمجتمع إلى آفاق أعلى.("") وعندما نعرف أنه حتى فيما يتعلق 
بالمعتقدات» كان هناك خلاف كبير صحبه تكفير واتهامات بالزندقة والهرطقة من جانب 
الفقهاء لبعضهم البعضء ندرك مدى الخلافات التى يمكن أن تنشب حول أمور الدنيا. 
فإنكار المعلوم من الدين إن لم يصح فى العباداتء إلا أنه يقع قطعاً فى المعاملاتء خاصة 
والقرآن نفسه يفسح مجالاً واسعاً لاستيعاب الجديد وفق أصوله وقيمه المعيارية : «يمحو الله 
ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب4 ( الرعد 55/١7‏ ) . وفى الأثر أثيروا (استقصوا) القرآن 
فإن فيه خير الأولين والآخرين. والذى يريد استقصاء القرآن لتحقيق خير الآخرين لا يمكن 
له أن يذرع فى تفسيره وفق قراءة حرفية لهء ودون إدراك لماهية خير الآخرين فالعادات 
والمعاملات ند تتغير أحكامها بتغير الظروف» وكما يقول علباء ابول الدين العبادات مذْع 
والعادات طلق» أى أن الأولى تقوم على المنع إلا برخصة:ء والثانية أصلها الإباحة ما لم يقم 
دليل ثابت بالحظر. بهذا المنهج وحده تتحقق سرمدية الدين» فأى شريعة لا تنفتح على 
الزمان» وتخضع للمواءمة مع متغيراته» تذبل وتفنى. 

تحسبأ لهذه الخلافات حول أمور الدنيا أخذ مختطفو الإسلام يطلقون تهم التكفير يمنة 
ويسرة ضد كل من خاصمهم فى أمور الدين» كما اندفعواء بأسلوب قطعىء يتهمون الأمة 
كلها بالضلال. ولو دعا أولئك الأيديولوجيون إلى معتقداتهم بطريقة سلمية دون قسرء لكان 


449 


ذلك محتملا أو مقبولا. أما الظن بأن للإسلام وجها واحدا لا يدركه غيرهم؛ فهو ظن ينم 
عن استعلاء فكرى لا يجوز فى زمان حقوق الإنسان وحرية الفكر. فالمسلمون» فى كل 
مكانء (مثلهم فى هذا مثل المسيحيين والبوذيين واليهود) لم يتخلوا أبداً عن الجذور الدينية 
التى ينتمون إليهاء كما دأبوا على تجسيد قيمهم ١‏ لدينية فى معاملاتهم اليومية. عامة 
ادافين طان لصي ترا العاف أسورها بعد ل لكب انها ف نمسا مدن نينا 
انصهرت القيم الدينية فى ممارساتهم اليومية» فى الظاهر والباطن . وفى أحيان كثيرة: لا 
2200 بإقامة الشعائر التى هى مظهر أساس من مظاهر الصلة بين العبد 
وربه» وإنما تكمن التقوى أكثر ما تكمن فى القلب وأعماق الضمير. فبيت الله الحقيقى قلب 
طاهر. لكل هذاء فإن الذى يرفضه المسلم العادى فى مزاعم الإسلام السياسى هوأولا: 
الادعاء بإعادة بناء الإسلام وإحيائه طبقاً لمنظور جماعات نخبوبة» أو متطرفين دينيين. 
وثانياً: ظن الإسلام السياسى أنه قادر بتجاربه الفطيرة على تقديم حل نهائى لكل مشاكل 
البشرية . تلك زعمات ضحال وأباطيل لا يتوهمها إلا من أوقعه الله فى خبل. 

ضحالة تلك المزاعم يكشف عنها اقتراب الإسلامويين من قضايا المعاش وتناولهم 
للشريعة بطريقة معتسفة يثبت التطبيق العملى لها كل يوم» عدم ملاءمتها لحقائق الحياة 
على الأرض. هم يتحدثون دوماً عن الإحياء والتجديد» ولكن عند النظر للأبعاد الثلاثة فى 
أجندتهم السياسية: الاجتماعىء الاقتصادىء السياسيقانونى لا تجد أى إضافة تذكر. فالبعد 
الاجتماعى تقلص فى حجاب المرأة ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء وإغلاق الحانات» 
والبعه الاقدضتادى أحكزل فى كدروم اثريا تكريما اغذرته درم وشبهنات: أما قن المعد 
السياسيقانونى فقد استمسكوا بما ورثناه من الغرب من مؤسسات وقوانين ومنظومات لحقوق 
الإنسان» وتساعوا إما للانفلات من بعضها بدعوى عدم توافقها مع الشرعء أو نسبتها 
للإسلام بأسلوب تلفيقى مفضوح. إضافتهم الوحيدة إلى تلك المنظومة كانت هى فرض 
الحدودء وفى كثير من الأحيان دون اعتبار لمعطلاتهاء أو احترام لقواعد إثباتها. لذلك؛ لم 
يكن فشل التجربة الإسلاموية سياسياً فحسب. وإنما كان أيضا فكرياً. وفى السودان؛ أضاف 
استفحال الفسادء والطغوان العنيفء والخداع؛ بعد أخلاقياً لعدم كفاءة الإسلام السياسى 


1050 


المعاصر. مع هذه النظرة النفقية للحياة» والإفلاس الفكرىء والطغوان باسم دين مناط أمره 
العدل» مازالت الجبهة تبتز المسلمين باسم الدين: أنتم مع الشريعة أم ضدها؟ استخدام هذا 
التعبير ذى الدلالات المطاطية (الشريعة) كثيراً ما يرهب الذين يجهلون أمر دينهمء ولو 
تدبروه» أو عرضوا الشريعة التى يتحدث عنها أولئك المغالون لامتحان: لانهد معمارها من 
أسناسة :ومين المفارق» أن يكون المتشددون - من الجزائر إلى أفغانستان- مع كل دمويتهم 
وظلامية أفكارهم» أكثر طهرانية من المتشددين المزعومين فى السودان. يسبب من كل 
هذاء فقد الإسلام السياسى وهجهء واستنفد طاقته» ثم انزلق بلا هوادة فى دوامة الانحسار. 
وفى السودان عاد أدراجه: رغم الشعارات» إلى حيث بدأ مخلفاً وراءه ما ظل يوهم الناس 
بأنه شرع الله الذى لا بديل له. 


وحتى الحادى عشر من سبتمبر )7٠١1(‏ ما أنفك بعض العلماء والسياسيين الغربيين 
يعتقدون أن ظاهرة الإسلام السياسى تمثل موجة جديدة من الإحياء الدينى والثقافى ينبغى 
على العالم أن يتعايش معها. ولكن الدلائل الواقعية» أثبتت أن تلك الموجة الدينية _ التقافية 
المسماة بالأصولية الإسلامية» لا تمثل تياراً جديداًء ولا تتعلق بالدين والشقافة. فيكل 
المقاييسء لم ينجب الإسلام السياسىء إلا أنماطاً من الفاشية المحدثة التى تعتمدء فى 
التطبيق» على مبادئ موسولينى أكثر من اعتمادها على هدى القرآن والسنة المحمدية. 
سقط أيضاً الافتراض أن الإسلام السياسى هو البديل للحركات القومية التى ترهلت ثم 
اهترأت؛ بدليل اعتذاره عن ممارساته السالفة» أو فشل تجاريه فى البلاد التى استولى فيها 
على السلطة» وعجزه عن أن يقدم لأهلها بديلاً أفضل مما قدمت أنظمة الحكم التى انتزع 
منها السلطة . فعلى سبيل المثال أعلن إسلاميو مصر اعتذارهم لشعب مصر وحكومتها عن 
العنف الذى أصابهم منهم,ء والخراب الذى ألحقوه باقتصادهم(؛؟"). ذلك الاعتذار لم يصحبه 
تفسير لدواعى العنفء ولم تلحق به توبةء مع أن الإسلام يدعو من أساء إلى الناس بجهالة 
إلى التوية: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب» 
(النساء7/4١)»‏ «فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه (المائدة5ه/9) . كما 
أن النقد الذاتى والعودة الصادقة للحق ينبغى أن يكونا من شيم المسلمين .كان عمر 


45١ 


الفاروق» رضى الله عنه» يدعو الناس لنقده ويقول : رحم الله رجلا أهدى إلى عيوبى. أهم 
ما فى تلك الاعترافات هو فقدان قائليها للأهلية الاجتماعية لأن يدعوا بعد اليوم أنهم 
والإسلام سواءء فباسم الإسلام كفرواء وباسمه أباحوا دماء المسلمين؛ وتلك كبائر. مشكلتهم 
الحقيقية» كما لخصها الأستاذ مكرم؛ ظلت هى يقينهم أن الإسلام هو الحل (وليس فى هذا ما 
يضير)» وأن لهم وحدهم القوامة على المسلمينء والحق فى تفسير أحكام الإسلام وهنا 
مكمن الداء. 

أما أولتك الذين استولوا منهم على الحكم فأمرهم أشد وخماآء فإن كان كل الذى قدمه 
الإسلام السياسى كنموذج لحكم إسلامى بديل هو سودان البشيرء أو أفغانستان طالبان» أو إيران 
"آيات الله الذين لم يستطيعوا حتى التعايش مع إصلاحات خاتمى الرصينة والمعتدلة» يصبح 
القوم فى حرج وضيق. ومن العجيب أن التجربة الإيرانية الأصولية لم تعجز فقط عن تقديم 
نموذج أفصل من الحكم؛ بل عجزت عن حمل الناس على الاستمساك بالقيم الدينية وقواعد 
السلوك السوىء والسلوك الفاضل هو جوهر كل الأديان. على سبيل المثال» فى إيران وحدهاء 
كان رد الفعل المضاد لدوغماطية المتشددين ‏ خاصة بين الشباب ‏ مثيراً للانزعاج. ففى 
تصريح لجريدة أسبوعية تصدر باللغة العربية فى لندن» أعلن محمد على زام» مدير الشئون 
الثقافية فى بلدية طهران أن 4/0 من الشباب لا يؤدون فرائض الصلاة اليومية» وأن ١‏ / 
منهم يمارسون الزنا قبل وبعد الزواج» وأن ٠١‏ 7 يدمنون المخدرات.(*") كذلك: جاء فى 
صحيفة يومية تصدر فى لندن باللغة العربية» أن طهران وحدها تستهلك فى ظل الحكم 
الإسلامى الحالى؛ خمسين طداً من الأفيون يوميآً.!'”) وفى صحيفة "انتخاب الإيرانية ورد 
إحصاء مذهل عن الحياة فى طهران» جاء فيه أن فى شوارع طهران بمفردها 44 ألفآ من 
مدمنى المخدراتء و0١5١‏ منزلاً للدعارة» كما أن أربعين بالمائة من اللائى يدمن الحشيش 
أصبن بداء الإيدزء من بينهن فتاتان ١7١(‏ سنة) ألحقن الإصابة بألف ومائة رجل.5) 
لابد لنا من الإشادة بشجاعة الإيرانيين فى تناول أدوائهم الاجتماعية بشفافية فائقة» ودون 
تمويه للحقيقة» ولكنا لا نملك أن نقول نفس الشىء عن إسلامويى السودان الذين ما برحوا 
يغضون الطرف عن كل ما يحيط بهم من مظاهر الفساد والانحراف المجتمعى بما فى ذلك 


452 


البغاء المستترء والذى هو نتاج طبيعى لظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة صنعها نظام 
حكمهم بسياساته . 

وبصورة عامة:ء لا شأن للدين أو المدونات السلوكية بظواهر الانحراف» فالانحرافات 
دومآً هى نتاج لظروف مادية قاهرة تحمل الكائن الحى على اللجوء لأية حيلة لإشباع 
حاجاته المادية القاهرة» أو الفسيولوجية الفطرية. فعلى سبيل المثال لم تكن العرب فى 
جاهليتها تمارس اللواطء كما كان يفعل اليونان. وكما يحدث الإمام الحافظ جلال الدين 
السيوطى أول ما ظهر اللواط فى الإسلام حين كثر الغزو فى صدر الإسلام؛ وطالت غيبة 
الناس عن أهلهم موجمروا البعوث (أبقوها ولم يأذنوا لها بالقفول)» وسبوا ذرارى المشركين 
واتخذوهم خدماً وطالت الخلوة بهم؛ والصحبة لهمءورأوهم يجرون مجرى النساء فى يعض 
صفاتهن؛ فطلبوا منهم ذلك ا نا بينهم من الأنسء ولما عودوهم من شدة الانقياد 
لهء فكان ابتداؤه("") . فإذا لم تقف قيم الإسلام ونواهيه وروادعه عن حماية البشرمن 
الانحراف فى صدر الإسلام» فلماذا يتظنى مسلمو القرن الخامس عشر الهجرى فى السودان 
أن إسلامهم المزعوم بنواهيه وروادعه المتكلفة سيحمى الناس من الانحرافء طالما كانت 
كل الظروف الاجتماعية والاقتصادية التى, أفرزها لا تقود إلا للانحراف. بدلا من 
الاعتراف بالبثور الاجتماعية والخر. جان (جمع راع التى اعترت جسد المجتمع وتداولتها 
الصحف بالنقاشء كما فعل الإيرانيون» آثر النظام الطهرانى السودانى تغليفها بالصمت. وقد 
هدى الله مؤخراً أحد أساطين النظام من الذكور لمعالجة ظاهرة تفشى البغاء المستتر بإحياء 
الختان الفرعوني للحفاظ على عذرية الفتيات» وكأن القضية قضية شهوانية جنسية (وهى 
دوماً شهوانية النساء للرجال)» لا تحل إلا بتمدرع الفتيات بأحزمة العفة» كما كان يفعل 
الفيكتوريون. إلى هذا الرأى السخيف ذهب وزير الأوقاف وافتعل لجاناً لتنفيذ ذلك المشروع 
الحضارى. لا نصف هذا القرار بالغباء رغم أنه قرار غبى على إطلاق الغباء؛ فالغباء هو 
خفية الأمر على الشخصء لا يعرفه. ولا نصفه بالجهلء مع أنه قرار لا يعبر إلا عن جهل» 
والجهل هو اعتقاد شىء على خلاف ما هو عليه . هذه (والله العظيم) عباطة:» والعباطة هى 
البلاهة وعدم النضوج. ثم ما شأن الإسلام بعادة تنسب للفراعين كانوا يمارسونها قبل 


0053 


ظهور الإسلام» وانحدرت إلينا منهم. تصدى للظاهرة أيضاً أحد المتفيقهين اللقطاء الذين 
يبرزهم نظام الجبهة على الناس» صباحاً ومساء على شاشة التلفزيون ليقول أن مرد 
الظاهرة هو التعليم المختلط. ولاشك فى أن هذا المتفيقه لا يعرف شيئاً عن إسلام بلاده» 
ولعله لم يسمع عن الفقيهتين فاطمة بت جابر وعائشة بت أبو دليق» وكانت» كما أوردنا فى 
فصل سابقء؛ تتحلق حول الأولى منهن أربعون ععمامة؛ لتعلمهم أمور دينهم؛ لا لتتعلم 
منهم .أو هل نجانف الحقيقة إن قلنا أن إسلام الجوهة بعيد كل البعذ عن إسلام أهل السودان. 
مع ذلك» لا نقدر أن الوزير والمدفيقه قرأ تحليل رئيس النظام لتجربة "الإنقاذ. فبعد أحد 
عشرعاما من اغتصابه للسلظة من أجل إنقاذ الأمة من الشرورء أدلى البشير باعتراقف 
غريب قال فيه لقد فشلنا فى زرع قيمنا ومثلنا العليا فى قلب المجتمع واعتمدنا أساسا على 
أجهزة الدولة وقوانينها لفرض هذه القيم والمثل العليا.('")مالم يفعله البشير هو استخلاص 
العبرة من اعترافه ذلك. 

من أبرز وجوه الفشل السياسى لمشروع الجبهة» اندفاع مسئولى النظام (بعد وقوع الفرقة 
بين البشير والترابى) إلى التحالفات السياسية مع القوى التى أقصوها من الحكم بعد اتهامها 
بإدخال البدع على الدين» إن لم يكن الارتداد عنه. هذا التحول المفاجئ والجذرى فى 
سياسات الجبهة بعد عشر سنوات من السعى المضنى لإدارة عجلة التاريخ فى الاتجاه 
العكسى» يعبر عن شىء واحد: تراجع مد بحر الإسلام السياسى فى السودان. وفى هذاء 
كتب أحد المعلقين يقول إن دورة الحياة الأصولية _ كأداة ثورية فى المنطقة _ بدأت تعرقل» 
بدلاً من أن تساعدء الحكومات التى استخدمتها لكسب السلطة.(' ؟) انهيار الإسلام السياسى 
الذى حدث عنه المعلق لا يعنى نهاية التيارات الإسلامية فى السياسة؛ وإنما نهاية طائفة 
منهم اتخذت العنف منهجاً وخاصمت الحكمة. فعلى سبيل المثال اكتسح حزب العدالة 
والتنمية ذو الجذور الإسلامية الانتخابات الأخيرة فى تركيا (نهاية أكتوبر تشرين أول 
7 وفرح الإسلام السياسى فرحاً كبيراً بذلك الاكتساح. مع ذلك لم يتوقف واحد منهم 
عند تصريحات رئيس الحزب» رجب طيب اردوغان (رضوان) والتى أتى فيها بما ينبغى 
أن يحسبه إسلاميو السودان بدعاً (وكل بدعة ضلالة» وكل ضلالة إلى النار) . قال أن حزبه 


44 


يلتزم العلمانية التى نص عليها الدستورء ولن يفرض الحجاب على المرأة لأن لبس المرأة 
أمر يعنيهاء ولن يذهب إلى ما يسمى أسلمة البنوك» وسيواصل سعى من سبق لانضمام 
تركيا إلى دول الاستكبار (الاتحاد الأوروبى) . فالقضايا التى تعنيه هى العدالة والتنمية» ولو 
أفلح فيها لكسب للتيار الإسلامى أرضاً راسخة» حتى وإن لم يغلق البارات فى اسطنبول 
(حاضرة الخلافة) أو يفرض الحجاب على التركيات. وحول الموضوع الذى يعنينا مباشرة 
كان للسياسى الإسلامى التركى إبان توليه منصب عمدة اسطنبول موقف مائز حول قضية 
البغاء» وهو أمر معترف به رسمياً فى تركيا. لم يذهب» كما ذهب إسلامويو السودان» إلى 
حشد المظاهرات ضد البغايا بل دعاهن ونقيبتهن للاجتماع معه» والتدارس معهن حول 
وسائل إنقاذهن من تلك المهنة المذلة. وفى ذلك قالت النقيبة هذه هى المرة الأولى التى 
نحس فيها بإنسانيتنا. قصارى ما فعله العمدة المسلم هو منع تأجير الدور التى تملكها للبلدية 
للبارات وأماكن لعب الميسرء فى الوقت الذى انصرف فيه إلى ما ينبغى أن ينصرف إليه 
ولاة الأمر: توفير العمل للمتبطلين» محارية الفسادء توفير السكن لذوى الدخل المحدود. 
وإشاعة التعليم. وفى برنامج حكومته أعلن رئيس الوزراء التركى» عبد الله غل أن هدفه 
الأساس هو الإصلاح الاقتصادىء تعديل الميزان التجارى لمصلحة بلده» تخفيض معدلات 
البطالة» حل المشكلة القبرصية ومشكلة الأكراد إلى جانب الدخول فى الاتحاد الأوروبى. 
وكانت أول دولة سعى لكسب تأييدها هى اليونان» الخصم المفترض لتركيا. أو ترى ما نعنيه 
بأولويات الحكم الرشيد؟ رغم ذلكء ما فتئ إسلاميو المشرق العربى يتحدثون بازدهاء كاذب 
عن انتصار التيار الإسلامى فى تركياء ليتهم كانوا مثله. وفى هذا قرأنا مقارية جديدة بين 
التوجه الإسلامى السياسى التركىء والإسلام السياسى التقليدىء قال الكاتب: الاختلاف بين 
خطاب إسلامى (عربى) تقليدى محكوم بتركيبته السرية» وأفكاره المحنطةء ولغته الخشبية» 
ورؤيته المغلقة» ونواته التنظيمية الشمولية... وبين خطاب إسلامى سياسى حديث يتحرك 
فى مجتمع حيوى متغير يتقدم بقوة نحو استحقاق الديمقراطية بمعناها المجتمعى الواسع 
المطابق لصورتها المتعارف عليها فى الغرب كشرط لتأهيل تركيا لكى تصبح عضواً لائقاأ 
بالانتماء إلى الفضاء الأوربى (فرج بو العشه» الشرق الأوسط )3٠١7/17/7(‏ ولعل هذا هو 


0055 


الذى جعل الأتراك الذين لا يندتمون لذلك الدوجه يتداعون إلى الحزب ذى الجذور 
الإسلامية» فحين لا يتجاوز أنصار ذلك الحزب ١5‏ من الأتراك: كان عدد الذين صوتوا 
له 6 / من الناخبين. 

من الغرائب أن الحركة الإسلامية الراديكالية الوحيدة التى ظلت تنبض بالحياة بعد 
الحادى عشر من سبتمبر عام 7٠١١‏ هى جمهورية_لندنستان ( أى المجموعات الإسلامية 
التى وجدت لها ملجأ ومستقراً فى دول الاستكبار» أو إن شئت فى فسطاط الكفر) . تضم تلك 
الجمهورية غنيتوهات آثرت الانعزال عن محيطها حفاظاأً على عذرية فكرية موهومة 
(والعذرية الفكرية تحول دون التفاعل مع المحيط الذى تعيش فيه)» مع ذلك وفر لها 
المستكبرون الحرية للتعبير عن رأيهاء والدفاع عن نفسهاء والتقاضى أمام محاكم لا تلتزم 
الشريعة مصدراً للقوانين» والتحجج أمام هذه المحاكم بالميثاق الأوربى لحقوق الإنسان» لا 
بكتاب الله. حريات دول الاستكبار هذهء لم تتوفر للإسلامويين فى كل مساقط رؤوسهم. 
كما لم يوفرها الإسلام السياسى ‏ الحاكم منه أو المعارض ‏ لأى واحد من مواطنيه الذين 
يخاصمونه فكرياً. هؤلاء المخاصمون المعارضون تطحنهم أرحية» شقها الأول هو الإبادة» 
وشقها الثانى التكفير. 

تعاطف العلماء والديلوماسيين الغربيين مع الترابى» بصفة خاصة:» له وجه آخر: الثناء 
على النفس (ء705028 310م-561) فرغم كل الضجيج المعادى للغرب فى تصريحاته؛ كان 
أولئك العلماء والدبلوماسيون يرون في المستوى العلمى الرفيع الذى حققه الترابى» وإتقانه 
للغات الأوروبية» إنجازآ لنظامهم التعليمى. ذكر صحفى أمريكى زار الترابى فى الخرطوم 
أن الدبلوماسيين الغربيين الذين قابلهم فى العاصمة السودانية وصفغوا جميعاً الشيخ بأنه 
رجل متحضر واسع الثقافة» ولكنه مخادع. على هذا الإطراء أجمع السودانيون الذين 
قابلهم الصحفىء إلا أنهم زادوا عليه صفات أخرى:شريرء كذاب» خطير. ولتوضيح حكمهم 
القاسى ذلكء؛ قالوا للصحفى الزائر: إن الترابى سوف يقابلك كأنه أمريكىء ويقنعك أنه لا 
يختلف عن جورج بوش.(/*) ومن المعروف أن الترابى» رغم كراهيته المعلنة للغرب» يتخذ 
موقفاً فكرياً مزدوجاً تجاهه . فمن ناحية؛ يشجب كل ما هو غربى فى التصريحات التى 


456 


يطلقها داخل السودان وخارجه لوسائل الإعلام العربية بينماء من ناحية أخرىء يكاد يعتذر 
فى محاضراته أمام المنتديات الغربية عن تجاوزات الإسلامويين. وسوف نتناول بالتفصيل 
فى الجزء الثانى من هذا الفصل آراء الترابى المتضارية فى محاضراته وتصريحاته 
المختلفة للمستمع الأجنبى. وإن كان فى تبرئة الترابى نفسه من تجاوزات نظامه» إرضاء أو 
مداهنة (1:00121109ز55ذل) لمحدثيه الغربيين؛ إلا أنه يمثل تلك المداهنة يدين أيضاً مشروعه 
الحضارى. هذا التناقض يكشف عن تمزق فى الداخل؛ فحين يصارع الرجل بكل ما يملك 
من قوة العالم الذى أنتجه؛ يبدو لنا أنه يكن فى داخله أيضآً إعجاباً بذلك العالم. وفى هذا 
هو أفضل حالاً من دزينة من زعماء الجبهة المعادين للغرب والذين مازالوا (فى دواخل 
أنفسهم) سعداء كل السعادةء وغابطين أشد الغبطة؛ لحصولهم على الجنسية الأمريكية أو 
الكندية أو البريطانية. نوقن أن الواحد من هؤلاء لا يحس بوخز الضمير عندما يسعى 
لتمكين أسرته وذويه الأقربين من كل الامتيازات الاجتماعية التى تضفيها تلك الجنسيات 
على حملتهاء ويبقى فيه على جوازات السفر الأمريكية والكندية والبريطانية مجمدة فى 
حرز أمين؛ فلعلها تفيد فى يوم غائم ليلحق بصحب له فى لندنستان أو شيكاغوستان» فى 
نفس الوقت الذى يحمل فيه أهل بلاده على مكاره تشق عليهم. أو لا ترى؛ كما نرىء ما 
فى كل هذه الضوضاء الصاخبة حول اليوتوبيا الإسلامية من نقاق! 

أعظم الفرص التى واتت الإخوان هى انقلاب نميرى فى مايو1975ء سواء فى مرحلة 
العداء أو مرحلة الصفاء. ففى البداية» استغل الإخوان النزعة الراديكالية اليسارية التى إتسم 
بها نظام مايو فى أوائل السبعينيات من القرن العشرينء وتهديدها المزعوم للحكومات 
العربية التقليدية فى المنطقة» ذريعة لتقديم أنفسهم كدرع واق ضد الخطر الأحمر القادم من 
غرب البحر الأحمر. وإضافة إلى الدعم المالى الذى استطاعوا تعبئته من تلك الحكومات 
لأداء الدور الوقائى ضد الخطر الأحمرء اتجهوا أيضاً للتحالف مع الجبهة الوطنية المعارضة 
فى ليبيا حيث تمكنوا من تدريب كثير من كوادرهم فى الصحراء الليبية تحت رعاية تلك 
الجبهة . من بين تلك الكوادر من أصبح صاحب شأن بعد انقلاب يونيو,4'9194) أما فى 
فترة الود والصفاء مع نميرى فقد استخدم الإخوان مركزهم ببراعة لتنظيم صفوفهم» وحشد 


057 


الإدارات الحكومية بمؤيديهم» وتعزيز منظماتهم الجماهيرية. ففى تصريح لجريدة عربية 
لندنية» اعترف الترابى أن تعاون الإخوان مع نظام نميرى كان جزءا من خطة لاختراق 
المجتمع الريفى السودانى بصفة عامة» والجنوب» بصفة خاصة: إدراكاً منه لتغلغل نظام 
نميرى فى تلك المجتمعات.(؟؟) وكان الاتحاد الاشتراكى السودانى يومذاك يجعل من كل 
عضو من أعضاء مكتبه السياسى مسئولاً سياسياً عن واحدة من الولايات؛ وكان من قدر 
الترابى أن يكون مشرفا سياسياً على دارفور. ولعل هذا هو الذى مكنه من خلق قاعدة هامة 
لحزبه ‏ لا للاتحاد الاشتراكى ‏ فى تلك المنطقة . فى تلك الفترة أيضاء ساعدت الأموال التى 
اتيحت للإخوان من البنوك الإسلامية» وبخاصة بنك فيصل الإسلامى» مساعدة هائلة فى 
التعبئة التى قادوها بين الطلبة والحرفيين» حيث خصص ذلك البنك نوافذ خاصة للإقراض 
لهاتين الفئتين» وكان الترابى يومذاك على صلة وثيقة بذلك البنك.(؟؟) 

وبحلول منتصف الثمانينيات من القرن العشرينء نمت الجبهة لتغدو أغنى المنظمات 
السياسية ‏ الدينية فى أفريقياء وأصبحت لها استثمارات مقنعة بأشكال مختلفة» فى جزر 
البهاماء سويسراء ماليزياء بالإضافة إلى مجموعة من الحسابات السرية فى غيرها من 
الدول. أفادت الجبهة أيضاً من إجراءات تحرير الاقتصاد وخوصصة المؤسسات العامة والتى 
أوجه جزء كبير من ريعها لتمويل العمل الحزيى؛ كما خصصت بعضها (سوداتيل مثلا) 
لتمويل الأنشطة الأمنية» مما أسماه البعض خوصصة الخوصصة. استغلت الجبهة أيضآ 
ثروات السودان المعدنية (الذهب فى الشرق)» والنفطية فى الجنوب لدعم السياسة الحزبية 
والمجهود الحريى. ومن الجدير بالذكر أن عوائد بيع الذهب (منطقة آرياب) لم تكن تودع 
فى الخزينة العامة بحسبانها جزءاً من دخل الدولة» كما أوكل النظام تسويق النفط فى 0 

من الفترات لشركة وهمية (أوف شور) لا يعلم خفاياها إلا ذوو القربى؛ فالمساكين من 
السودانء أو العاملون عليها لا مكان لهم فى تلك القسمة الضيزى ا 
الخروات المعدنية والنفطية على السودان ‏ أو بالأحرى على الجبهة ‏ كان من أهم المصادر 
التى اعتمد عليها الإخوان فى تمويل نشاطهمء وبث دعواهمء أعطيات الأثرياء العرب, 
والمنظمات الطوعية بدول الخليج» ومؤسسات الدعوة الإسلامية. وقد أوكل أولئك الكرماء 


1038 


والخيرين للإخوان الإشراف على الأنشطة الخيرية فى أفريقياء باعتبارهم مسلمين 
وأفريقيين. ولكن؛ فيما اتضحء انتهى رأى الإخوان المسلمين إلى أن أهل البيت ‏ أى هم 
أنفسهم ‏ أولى بالمعروف. ولعل فى بروز أغلب الذين كانوا يعملون فى هذه المنظمات 
الخيرية الإسلامية» كرجال أمن فى نظام الجبهة بعد استيلائها على الحكم؛ ما يكشف عن 
طبيعة الدور الذى كان يقوم به هؤلاء الدعاة الإسلاميون.(5؛) 

الرؤية المعوجة للأديان 

قبل استيلائها على السلطةء شرحت الجبهة رؤيتها للسودان فى وثيقة حزبية صدرت فى 
يناير 9417١ء‏ عنوانها ميشاق السودان: الوحدة الوطنية والتنوع. فى تلك الوثيقة» سعت 
الجبهة لتبرير هيمنة المسلمين والإسلام على المجتمع السودانى بأن للمسلمين حقاً شرعياً 
"بموجب انتمائهم الدينى» ووزنهم الديموغرافىء وكأمر تمليه العدالة الطبيعية» فى ممارسة 
قيم وقواعد عقيدتهم إلى أقصى مداها فى الشئون الشخصية والعائلية والاجتماعية 
والسياننية :هذا قول لا خطباضة قيةء إن ترك كمون يقررون يمحضن إرانتهم» وحسن 
فهمهم لهذه القيم وتلك القواعدء التعبير عن انتمائهم الدينى. ولكن ميثاق الجبهة مضى 
يقول: إن واجبها الأول هو إقامة نظام إسلامى ينظم الحكم والحياة» لأن هذا أمر"تحتمه 
حقيقة أن أغلبية أهل السودان من المسلمين. أما بالنسبة لغير المسلمينء قال الميثاق إن من 
حقهم أيضاً ممارسة شعائر أديانهم لأقصى مداهاء طالما تمت هذه الممارسة فى النطاق 
الخاص أو العائلى أو الاجتماعى . وتعبير"النطاق الاجتماعى تعبير مضللء لأنه لا يتضمن 
المؤسسات السياسية والاقتصادية» أو القوانين التى تحكم العلاقات بين المواطنينء إذ أن كل 
هذه» بالطبع, تستند إلى الشريعة الإسلامية. هذا النموذج فى الحكم يقود إلى خلق طبقتين 
من المواطنين فى السودان؛ ولكن فيما يبدوء لم تجد الجبهة أدنى حرج فى أن تقدم للعالم 
كنظام نموذجى للحكم؛ نظاماً يفرق رعاياه إلى مجموعتين؛ واحدة لها كامل الحقوق وفق 
ما يقول به دينها (وبالطبع كما يفسر الدين الحاكمون)» وثانية منقوصة ‏ إن لم يكن 
منزوعة ‏ الحقوق لأنها لا تنتمى لذلك الدين. سعى الترابى لتسويق هذا النظام التمييزى 


459 


كبديل للديموقراطية الغربية "الزائفة(' ؟) رغم أن ذلك النموذج القائم على هيمنة الأغلبية 
العددية يناقضء كما لاحظ بحق مفكر إسلامىء مبادئ الديموقراطية لأنه يفرض على 
"الأقليات تبعية مستديمة للأغلبية. فقوام فكرة سيادة الأغلبية فى الديموقراطية هو توفير 
الظروف» من الناحية العملية والقانونية» للأقلية لكيما تصبحء بدورهاء أغلبية فى إطار 
القانون .("؟) 

نشك كثيراً فى أن الترابىء» القانونى المتمرسء يعتقد بالفعل أن نموذج الحكم الذى يحيل 
أى فئة فى المجتمع إلى مواطنين من الدرجة الثانية» يمكن أن يكون ديموقراطياً بالمعنى 
الذى يعرف به العالم الديموقراطية»ء أو يقارب الديموقراطية التى مارسها السودانيون فى 
الماضىء وما برحوا يطالبون بالعودة إليها. وبما أن نموذج الحكم الذى ابتدعه الترابى كان 
بعيداً كل البعد عن الواقع السودانىء عاد مفكرو الجبهة الإسلامية الوطنية أدراجهم بعد عشر 
سنوات إلى ذلك الواقع. ففى حديث لصحيفة قاهرية» صرح أحد مفكرى الجبهة قائلاً: نحن 
فى مرحلة بناء الأمة ومصالحتها. ولا يمكن حل المشاكل فى دولة متعددة الإثنيات 
ومتعددة الثقافات إلا بالتصالح. إن "جون قرنق المسيحى أهم لنا من أى حركة 
إسلامية.(*؛) هذه الأهمية ظلت فى النطاق النظرىء لا افى نطاق الحقوقء إذ مازال 
الإسلامويون (بمن فيهم ذلك المفكر) يتمارون حول حقوق المواطن غير المسلم فى 
السودان» بل حتى حول حقوق المسلم الذى لا يشاركهم رؤاهم للإسلام» وكأن السودان ليس 
دولة تحكمها ضوابط الحقوق والواجبات التى تحكم الدول فى القرن الحادى والعشرينء وإنما 
هو مصر من أمصار دولة الظاهر بيبرس. 

منذ إنشائهاء ظلت الجبهة تنظر لقضية الأديان فى السودان نظرة استعلائية قد يفهمها المرء 
من منظور الاعتقاد الفردى» ولكن بالقطع ليس من منظور جماعة تسعى لإدارة مجتمع متعدد 
الديانات. ففى وثيقة نشرت فى الخرطوم عام 1185 تحت عنوان مسألة السودان الجنوبى: 
مراجعة وتحليل ومقترحات» أحصت الجبهة سكان جنوب السودان بأكثر قليلاً من خمسة 
ملايين؛ منهمء كما أوردت الوثيقة ثيقة» 776 بلا دين. ويعكس تعبير بلا دين جهلاً فاضحاً بنظم 
الاعتقاد الأفريقية (5م/ع56لا5 61164 4461038) التى يعتنقها 54 / من سكان الجنوب» والتى 


460 


اختصرتها الجبهة فى تعبير لا ديانة. الدين» كما نعرفء هو وسيلة الإنسان للاتصال بالمقدس» 
أو الروحانى أو الإلهى؛ وتنعكس أهم مساهماته للحضارة البشرية فى أوامرء ونوام» وتوجيهات» 
ومفاهيم سامية تهدف إلى تأسيس العدالة» وتكريس كرامة الإنسان» والحث على الحب 
الأخوى؛ والإحسان. أنظمة الاعتقاد الأفريقية ليست مجردة من هذه الصفاتء ولكن طبقآ 
لميزان النسبية الذينية الذى تطبقه الجبهة على الأديان» تعتبر الثقافات الأفريقية رديفاً 
للجاهلية» وتعبير الجاهلية نفسه يحتاج لمراجعة.('؛) لموضوع الأديان نعود فى الفصل الثامن 
إلا أنا نقول» حتى لا نظلم الجبهة» إن الناس بوجه عام كثيراً ما يديرون ظهورهم لما لا يتفق 
مع المفاهيم المترسبة فى عقولهم» بل لا يبذلون أدنى جهد للتعرف على مغزى ما يرفضون. 
هذه الرؤية المنحرفة للآخر ليست حكراً على الإسلاميين المتطرفين» فطبقاً لإيفانز- بريتشارد. 
ليس من بين علماء الاجتماع الذين ابتدعوا النظريات الأقوى أثرأً عن الديانات البدائية» من 
اقترب مباشرة من شعب بدائى... فجميعهم اعتمد على حكايات المكتشفينء والمبشرين» 
والإداريين» والتجار.('”) ولحسن الحظء لا يشارك فى هذه النظرة المتعالية لنظم الاعتقاد 
الأفريقية جميع العلماء المسلمين السودانيين.(١*)‏ 

نعود لمشروع الترابى لنقول» بصرف النظر عن اقتناعه أو عدم اقتناعه بصلاحيته 
للتنفيذء إنه أعلن منذ البداية أن ذلك المشروع ليس فقط قابلا للتنفيذء بل أيضاً مقطوع 
بنجاحه. ففى حديث لصحيفة إيرانية قال الترابى: إن السودان أصبح جمهورية إسلامية» 
بكل ما تعنيه الكلمة» كان ذلك فيما يتعلق بتطبيق الأوامر فى المجالات السياسية 
والاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية. ففى الوقت الحالى» يسود الإسلام الحكمء كما تسود 
القيم الإسلامية المجتمع.(””) وكانت ثقة الترابى بنفسه طاغية للحد الذى جعله يقول لأحد 
الصحفيين البريطانيين أن نظام الحكم الذى أقامه فى السودان غير قابل للإلغاء» نظراً لأنه 
طبيعى وأصيل وأعمق جذوراً من النظام الذى أقامه الخمينى.(””) هذا قول يستعصى على 
الفهم, فكيف يمكن لنظام حكم أنشىء بحد السلاح وبقى بالقهرء أن يكون نظاما طبيعياً. ثم 
كيف آمثل هذا النظام أن يوصف بأنه أعمق جذوراً من نظام الخمينى الذى جاءت به ثورة 
شعبية اقتلعت حكم الشاه اقتلاعاً. 


بسبب من هذه الثقة المفرطة غير المبررةء والتفاؤل الذى ليس له ما يسنده» ذهب 
الترابى لافتعال دور أممى لذلك المشروع المتداعى. فى هذه المرة» كان الدور هو ملء 
الفراغ الذى خلفه انهيار الاشتراكية»ء وإفلاس الليبرالية الغربية. هذا الفراغ» على حد قول 
الترابى» لن يملأه إلا تيار الصحوة الإسلامية.(؛”) فجاجة (عدم نضج) هذا الحديث 
تستدعى إلى الذاكرة قول بيرون فى الأرجنتين : لا شيوعية» ولا رأسمالية» البيرونية هى 
الحل. وفى تصريح آخر لصحفى أمريكىء أخذ الترابى على عاتقه» بغرور مفرطء المبادرة 
بإشعال جذوة هذه الصحوة. قال: هناك فراغ الآن» وسيملاً بروح إسلامية. وقد تصادف 
وجودىء بصورة طبيعية» فى هذه المرحلة التى يتحول فيها التاريخ(*”). قد نتساءل: تاريخ 
من؟ وأى فراغ؟ فالفراغ الذى يعانى منه أهل السودان هو الفجوات فى الغذاءء وفى التعليم» 
وفى الصحة. هذه أسئلة» فيما يبدوء لم تكن تدور بخلد الترابى عندما تحدث عن ملء 
الفراغ الروحى بين البشر. لم يرفى نفسه إلا رجلا اختاره القدر وأمنه على إحياء الإسلام. 
وبصرف النظر عما إذا كان الإسلام الذى رمى لإحيائه سيوفر الغذاء والدواء والكساء 
للمواطنين بصورة عجزت عنها الرأسمالية والشيوعية» أوأن الإسلام الذى يدعو له هو 
بحق» إسلام أهل السودان (قاعدة سلطة الترابى)» لا إسلاماً طوباوياً يحن للعودة إليه؛ فقد 
بقيت هذه الأسئلة دون جواب. أخالنا أمام ظاهرة ليست بالجديدةء ظاهرة الأيديولوجية 
التى تتلبس المرء؛ حتى لا يعود معها يدرك الممكن وغير الممكنء أو يميز بين الواقع 
والخيال. وعندما يكون الأيديولوجى سياسياً فى نفس الوقت» يختلط عنده سمو الأهداف 
النبيلة» بذرائعية السياسة الواقعية. ولأن الأيديولوجية ‏ مهما كانت درجة عدم نضجها ‏ 
تسيطر سيطرة كاملة على أهلها حتى يختلط عندهم الخيط الأبيض بالخيط الأسود, يتعذر 
عليهم كثيراً مراجعة النفس ونقد الذات. فالشيوعية عند هؤلاء تصبح شراً مستطيراً لا خير 
فيهاء دون أدنى تقدير لأنها انتقلت بروسيا فى بضعة عقود من الزمان من مجتمع إقطاعى 
متخلف اقتصاديا إلى الدولة الثانية فى العالم؛ ووفرت الحد الأدنى من الغذاء والكساء 
والدواء والتعليم لأبنائها وبناتها. والرأسمالية تصبح عندهم جماعاً للآثام» دون اعتبار لأنها 
أرست قواعد راكزة فى بلادها لحقوق الإنسان؛ والمشاركة الشعبية فى الحكم. وسيادة حكم 


402 


القانون. فمع كل الشرور فى كلا الدظامين» كانت هنالك أيضأً مكاسب وإنجازات. هذه 
الفروق لا يدركها الأيديولوجى الذى إرتكن على فكرة ملكت أقطار نفسه؛ وخدرت قدرته 
على التمييز بين الزائف والصحيح. بيد أن للأيديولوجية وجهاً آخر وصفه فلاديسلاف 
هافل رئيس جمهورية التشيكء» وأهم من ذلك كاتبهم الأول. قال: الأيديولوجيات طريقة 
خاصة للانتماء للعالم. فهى توهم أهلها بالتمتع بهوية معينة» وبالكرامة والأخلاق الحميدة: 
بينما تسهل عليهم؛ فى الواقع؛ التخلى عن هذا العالم الموهوم متى أرادوالا*) . وسنرى 
صدق هذا الوصف فى السيرة التى انتهى إليها الإسلام السياسى فى السودان وخارجه. 
الاسلام والدولة التاريخية 


لربما يفسر تعريف هافل للأيديولوجية التناقض الكثيف فى تصريحات الترابى؛ فكما 
سلف القول» كان الترابى يستسهل الحديث بلسانين» واحد فى الداخلء والثانى فى الخارج. 
ولكن بين الفينة والأخرى كانت الحقيقة تطغى على التمويه. على سبيل المثال» رغم وصفه 
لنموذجه الإسلامى للحكم بأنه البديل الأمثل الذى ينبغى على العالم أن يحتذيه؛ لم يجد 
الترابى ما يقوله» عندما سكل ذات مرة عن التعددية الحزبية فى السودان» غير أن 
الديموقراطية لا تتطلب تعدد الااحزاب» أو حق أى فرد فى الترشيح لمنصب رسمىء او إنفاق 
الأموال على الحملات الانتخابية للوصول لهذا المنصبء أو الحق فى اتخاذ سياسات 
تتعارض مع القرآن.("”) هذا الوصف للتعددية الحزبيةء والإنكار لكل الوسائل الإجرائية 
التى اعتمدتها الديموقراطية للتعبير عن الإرادة الشعبية» لا يحسن صدوره من قانونى تقن 
يعرف جيداً مقومات الديموقراطية» كما لا بق صدوره من سياسى ذى مراس خيوكن 
أنواع الديموقراطيات فى السودان. الذى يهمنا بدرجة أكبر فى تلك الإجابة هوإشارة 
الترابى للسياسات التى تتعارض مع القرآن» خاصة والقرآن لم يقدم أى تعريف لنظام 
الحكم» وإنما طرح مبادئ إرشادية عامة يستند إليها من يحتكمون إليه. وكنا قد أومأنا فى 
مقدمة الكتاب إلى الخلط فى المفاهيم حول نظرة الإسلام التاريخية لقضية الحكم والحاكمية» 
بل لقضية السياسة والدين بوجه عام. حديث الترابى يجعل من ذلك الخلط شيئاً أقرب إلى 
خلط المائعات الذى تختفى فيه كل الفواصل والألوان. لم يرد فى القرآن كله ما يشير إلى 


0063 


الحكم بمعنى السلطة السياسية:ء بل إنه حيثما وردت إشارة للحكم فى القران» كانت تلك 
الإشارة تعنى إما الحكمة ‏ فى حالة الأنبياء ‏ مثل قوله فى حالة يوسف #ولما بلغ أشده 
آتيناه حكماً وعلمأ» (يوسف77/17)» وحالة إبراهيم (رب هب لى حكماً وألحقنى 
بالصالحين» (الشعراء 87/77)» أو بمعنى الاحتكام بين شخصين اختصما للرسول (النساء 
4 » وروى عن عمر قوله لايقولن أحدكم قضيت بما أرانى الله فإن الله لم يجعل ذلك 
إلا لنبيه. وإن نهى عمر رضى الله عنه البشر عن الإدعاء بأنهم يقضون فى الأمور بما 
أراهم الله» فما بالك أن يرد الإنسان غير المعصوم حكمه إلى الله. نكاد نجزم أن عمراً لم 
يرد بقوله هذا إلغاء ما جاء به كتاب الله أو ورد فى سنن نبيهء وإنما أراد للناس أن يجتهدوا 
وفق هدى كتابهم وسنن رسولهمء بدلاً من إضفاء القدسية على أفعالهم بنسبتها إلى الله. 
وقد أحسن المجتهد المعاصرء جمال البنا (الشقيق الأصغر للشيخ حسن البنا) عندما قال أن 
الحاكمية هى صورة من صرر الإسقاط البشرى على الطبيعة الإلهية تجعل سلطة الله تعالى 
وحاكميته كسلطة ملك على شعبه أو قائد على جندهء أو مالك على عبيده . فهو يتطلب 
منهم الطاعة العمياء؛» وهذا تصور بشرى خالص .(8*) 

من تلك التصورات البشرية أحكام الفقه الدستورى الإسلامى الذى ظهر بعد وفاة 
الرسول عام 177م» وكان فى غالبه الأعم» فقهاً تبريرياً لسلطان الزمان» بل فى بعض 
الأحيان فقهاً قبلياً. ذلك الفقه لا يمثل قانوناً إلهيأء بل يعكس فهماً بشرياً للقانون الإلهى. 
ولا إنكار لأن مدونات الفقه الدستورى الإسلامى قد تضمنت أحكاماً رشيدة» بمنطق 
زمانهاء حول الخراجء ولاية المظالم» أحكام القتال إلا أن كل الاجتهادات فى موضوع الحكم 
كاداة ربانية كانت مقصورة على دور الحاكم: وظيفته» وكيف يكتسب الحكمء وكيف 
يمارسه . وهناك أكثر من دليل على أن تلك الاجتهادات كانت تستهدف تركيز القواعد التى 
تضمن تماسك الدولة الإسلامية» بدلا من تحديد الحقوق والواجبات الدستورية للمواطن 
المسلم» أو آليات المراقبة على ممارسة السلطاتء أو وسائل التوازن بين السلطات والكوابح 
لها. وبصفة عامة» ظلت جميع تجارب الفقه الدستورى الإسلامى منذ ثقيفة بنى ساعده. 
تكداول فى لمر سن وحكم الاسلمين» وليس كيف يدك للمستامتون :ولا مك :فى أن نكرت 
القرآن عن موضوع السلطة أحالها إلى دائرة المباح باعتباره الأصل فى الأشياء . 


464 


الحكم من أمور الدنياء والسياسة ليست علماً معيارياً فيه نموذج مطلق يصلح لكل زمان 
ومكانء لهذا كان من البدهى أن تتأثر طرائق الوصول إليهء وإدارة التنازع حوله: بالقيم 
والسوابق والموروثات السياسية السائدة فى زمانها. فمثلاً» لم يحاج أبو بكر قريشأ فى 
الخلافة الأولى لرسول الله بكتاب الله» وإنما بلغة أقرب إلى وجدانهم ومعايير زمانهم فى 
الحكم والسياسة» خاطبهم بأسبقيتهم فى الإسلام» وسيادتهم بين القبائل؛ وهو يقول: «كنا 
معشر المهاجرين أول الناس إسلامآ والناس لنا تبع. ونحن عشيرة رسول الله» ونحن مع 
ذلك أوسط العرب أنسابأًء ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة:. فى خطابه 
ذلك؛ كان أبو بكر مدركاً لنبض من يتحدث إليهم؛ ولهذا خاطبهم باللغة التى تستجيش 
مشاعرهم القبلية» رغم علمه بقول الرسول فى خطبة وداعه لا فضل لعربى على عجمى إلا 
بالتقوى» ورغم يقينه أن الله لا يكرم الناس بالأنساب والأحساب: (يا أيها الناس إنا خلقناكم 
من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم 
خبير» (الحجرات» .)1١/45‏ فلغة الصديق يوم السقيفة كانت لغة السياسة لا الدين. ويروى 
أن المدينة أرتجت عند موت الرسول فسأل أبو قحافةء والد أبى بكر: ما هذا ؟ قالوا قَبض 
رسول الله . قال "فمن قام بالأمر بعده؟ . قالوا: ابنك. قال: فهل رضيت بنو عبد مناف 
وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: لا واضع لمن رفعتء ولا رافع لمن وضعت. فخلافة أبى بكر 
لم تقررهاء إذن» أسبقيته فى الإسلام» رغم أنه ثانى اثنين إذ هما فى الغارء وإنما كان 
العامل الحاسم فيها رضى المنافيين والمغيريين عن استخلافه. ويحكى ابن خلدون فى 
مقدمته أن التعزى بالقرشية إنما أريد به دفع التنازع حتى يكون ولى الأمرمن قوم أولى 
عصبة على من معها حتى تجتمع الكلمة. وعندما بادر عمر لمبايعة خليفة رسول الله قال: 
لقد ارتضاك النبى لدينناء أفلا أرضاك لدنياناء وكأن عمر كان يقول أن الحكم من أمور 
الدنيا. 

تمنّع عن مبايعة أبى بكر على بن أبى طالب فى البدء بدعوى أنه أكثر قربى بالرسول 
من الصديقء أى أن علياً جعل من العصبية معياراً للأهلية» ثم تمترس داخل بيته ومعه 
طلحة والزبير متأبين المبايعة» حتى هددهم عمر بقوله: "لأحرقن عليكم البيت أو لتخرجن 


40065 


إلى البيعة(؟”). وعند البيعة قال على لأبى بكر" لقد أفسدت علينا حقناً. ودلالة هذا القول 
هى أن علياً ابن عم الرسول كان يتمنى أن تصبح خلافة رسول الله حقا موروثاً لآل بيته. 
نضيف: إن اختيار عمر نفسه كان أبعد عن الشورى من اختيار الصديقء ويروى الطبرى 
أن أبابكر جمع صحاب الرسول وقال لهم: «أترضون بمن أستخلف عليكمء فإنى والله ما 
ألوت من جهد الرأى ولا وليت ذا قرابة .وإنى قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له 
وأطيعوا. فقالوا سمعنا وأطعناء(""). فإن كان هذا هو أمر الشورى فى بدايات ععهد الدولة 
الإسلامية» فما هى المرجعية التاريخية للحكم فى الإسلام التى يردنا إليها دعاة الحاكمية 
لله . 

وعقب موت الرسول عه وصاحبيه أصبح الحكم عظمة نزاع بين سادات قريشء بل فى 
بيت واحد من قريشء آل عبد مناف. فعفان بن أبى العاص والد عثمان ينحدر من أمية بن 
عبد شمس بن عبد منافء وأبو السبطين على» ينحدر من أبى طالب بن عبد المطلب بن 
هاشم بن عبد مناف» ومعاوية ينحدر من أبى سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن 
عبد مناف. ومن بعد معاوية أصبح الحكم هرقلية يتعاورها المنافيون كابراً عن كابر» حتى 
بدأ جيل ثان من بنى عبد مناف بتولى أبى العباس السفاح للحكم؛ والسفاح ينمى إلى عبد 
الله بن عباس بن عبد المطلب بن عبد مناف. ذلك الصراع لم يبدأ وينته بمقتل عثمان» بل 
تحول بعد موت الخليفة الثالث إلى حرب أهلية» وتوتر تاريخى أصاب الأمة حتى نهاية 
العصر العباسى . فمقتل عثمان لم يكن فلتة» بل جذوة فتنة» وكانت نهايته فاجعة. حاصره 
محمد بن أبى بكر الصديق وصحبه لمدة أربعين يوم فى داره» لا يريدون منه غير تسليم 
مروان بن الحكم للفتك به. ولما أعيتهم الحيلة تسوروا داره وقتلوه» وانتهبوا ما فيها من 
مقتنيات: ثم دفن سراً. ويحدثنا الطبرى عن «نبذ عثمان كرفي ثلاثة أيام لا يدفن» حتى كلم 
حكيم بن حزام القرشىء وأحد بنى عبد العزىء علياً فى دفن عثمان وطلبا إليه أن يأذن 
لأهله فى ذلك ففعل('"). ودفن عثمان فى مقبرة لليهود ابتاعها معاوية بعد أن ولى الحكم 
ليضيفها إلى أملاك المسلمين. وحين كان هذا البلاء يقع على الخليفة الثالث؛ ومجهز جيش 
العسرة»ء التزم بدو عبد مناف من الفرع الهاشمى الصمتء فى حين هب المنافيون من بنى 


4066 


عبد شمس لنجدته . وكان قصارى قول الإمام على عندما أبلغه ابنه الحسن بمقتل عثمان: 
«اللهم إنى لم أرض ولم أمالئ:. 

وبعد مبايعة على الغد من مقتل عثمانء استأنى بعض كبار الصحابة (أم المؤمدين 
عائشة وطلحة والزبير) فى مبايعته. قالت أم المؤمنين إنها لم تتأب المبايعة نكراناً لفضل 
على» وإنما لتركه المدينة فى يد غوغاء الأمصار (الجماهير)» وكأن المراد هو بقاء الأمرفى 
يد سادات قريش. ثم تلاحم أهل الشام (خلّف معاوية): وأهل العراق (حول على) فى 
صفين قرب الفرات. فى تلك الملحمة برز معاوية» كاتب الوحىء لعلى ابن عم الرسول 
وخدن روحه» يتهمه بقتل خليفة رسول الله. قال معاوية عن عثمان: «كان خليفة مهديآ 
عمل بكتاب الله فاستثقلتم حياته وعدوتم عليه فقتلتموه . فادفع إلينا قتلته» إن زعمت أنك لم 
تقتله» ثم اعتزل أمر الناس فيكون شورى فيهم:.("") ذلك الصراع الدموى حول السلطةء أو 
حكم الغلبة كما تسميه العرب. قال فيه كعب بن جعل التغلبى: 

أصبحت الأمة فى أمرعجب 
والملك مجموع غداً لمن غلب 
فقلت قولا صادقا غير كذب 
إن غداً تهلك اعلام العرب 

وصدق التغلبىء إذ تقابل على مع معاوية كاتب الوحىء ثم تقاتل من بعد مع طلحة 
والزبير متساندين إلى أم المؤمنين عائشة» فى معركة الجمل .فى ذلك الصراع تفرق 
أصحاب رسول الله بددآء وكانوا على رايات شتى. فحين خرجت أم المؤمنين وطلحة 
والزيير على على» اعترض سعد بن أبى وقاص وعبد الله ين عمر بن الخطاب ومحمد بن 
مسلمة على خروج على للعراق. قال لهم الإمام على «بلغنى عنكم هناة كرهتها لكم:؛ فرد 
عليه سعد: «أعطنى سيف يعرف المسلم من الكافر حتى أقاتل به معك» ,('') وإلى سعد تضام 
محمد بن مسلمة ليقول لعلى: «إن رسول الله أوصى أن أقاتل بسيفى ما قوتل به المشركون» 
فَأذا تل أقل الصئلاة سريت تسين صخر أحد حى ينكس وقد كسرته بالأمس.. (4") 
من جانب آخر وقف عبيد الله بن عمر بن الخطابء؛ وهو واحد من فرسان العرب؛ ومعه 
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مع أهل الشام وهو ينادى أنا الطيب ابن الطيب: 


1407 


أثا عبيد الله ينمينى عمر 
خير قريش من مضى ومن غبر 
غيررسول الله والشيخ الأغر 
أبطا عن تصرابن عفان مُضر 

فتصدى له عمار بن ياسر يقول: «أنت الخبيث ابن الطيب»»؛ فتلاقى السيفان وقتل عبيد 
الله» وكان ذلك قبل صفين. وفى معركة الجمل مات الصحابيان الجليلان» طلحة والزبير» 
وكان عدد قتلاهاء فيما يروى الطبرى». عشرة آلاف نصفهم من أنصار على» والنصف 
الثانى من أنصار أم فلمومتين .(09) ترى ما للقى يقول الققهاء المحدثون الذين يريذون 
العودة بنا لنموذج سياسى نقىءعن تصارع المبشرين بالجنة ورفعهم السيوف على بعضهم 
البعضء إزاء قول الرسول الكريم : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار: . 
جاءت من بعدء المؤامرة الدنيئة التى حاكها يزيد بن معاوية ضد الحسن السبط بعد أن بايعه 
أهل الكوفة . أوعز يزيد لزوجة الحسنء جعدة بنت الأشعث بن قيسء لتدس لزوجها السم فى 
طعامه»ء بعد أن مناها بالزواج منها بعد مقتل بعلها الحسنء ريحانة أهل الجنة. ولكن يزيدء 
قاتل أبناء الأنبياء» كاقاً الزوجة المجرمة بما يكافاً به أمثالهاء أبى الابتعال بها وهو يقول: 
«إنا لم نرضك للحسنء أفنرضاك لأنفسناء . 

كل هذه الحروبء والخيانات؛ والمناورات التى تنقع بالسمومء لا شأن لها بالدين» وإنما 
هى صراع حول السلطة بين بتى عبد مناف . وكان بين هؤلاء من لم يردعه دينء أو 
تلجمه أخلاق عن أن يفعل بالمسلمين ومقدساتهم ما لا يرضى الله ولا رسوله ققد تنوف 
الحجاج الكعبة بالمنجنيق» واستباح يزيد بن معاوية مدينة الرسول ثلاثة أيام قتل فيها أربعة 
آلاف وخمسمائة مسلم»ء وفضت فيها بكارة ألف عذراء.(7") فى تلك الحرب الهمجية صلب 
عبد الله بن الزيير أمام الكعبة» وجعل قائدا يزيد (مسلم بن عقبة والنعمان بن بشير) من 
لبناء تهات رسول الله فمقا وشكيفة : بزوئ للديخووس أن مسلما دعا يذيدا بن عبد اللديق 
ربيعة (وجدته أم سلمى زوج النبى) للبيعة» » فقال يزيد: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله . 
قال مسلم بل بايع على أنكم فىء لأمير المؤمنين (يزيد بن معاوية) يفعل فى أموالكم 


. 8 


وذراريكم ما يشاء. وعندما تأبى يزيد بن عبد اللهء ضربت عنقه.!!) لم يكتف الهراقلة 
الأمويون بالعلف؛ بل معضوا أيضاً على نحو ميكافيللى صريح يستغوون أهل الشام بالرشاء» 
وأهل الحجاز بالنساء (وظباء مكة صيدهن حرام) . ومع القتل والإفساد أدخل الأمويون 
بدعة فى الدين: سب آل البيت» وأوجبوا ذلك على المصلين فى المساجد لمدة ثمانين عاما. 
ولعلهم, لم يفعلوا ذلك إلا من بعد أن أتخمهم سباباً أنصار على وأسموهم الشجرة اللعينة التى 
وردت فى القرآن. «وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة 
للناس» والشجرة الملعونة فى القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيرا»؟ (الإسراء. 
)3١‏ العنف أصبح سمة فى العصر الأموىء ولم ينج منه حتى الذين بنوا للدولة الأموية 
أمجاداً روى عنها التاريخ. مثال ذلك ما صنعه سليمان بن عبد الملك بالقائد المقدام موسى 
بن نصير عندما عزم على الانتقال من الأندلس بعد فتحه لها إلى دمشق ليحمل إلى أمير 
المؤمنين الوليد بن عبد الملك غنائم الحرب. كتب سليمان (الوريث المرتقب للوليد) لموسى 
ينهاه عن الوفود إلى دمشق حتى يقبض أخوهء وكان قد حضره الموت. أبى موسى أن 
ينصاع لأمر سليمان» ووفد إلى دمشق ومعه فيلق من أسرى القوط وغنائم لترواعنايا 
للوليد » مخلفا ابنه عبد العزيز نائباً عنه فى الأندلس . وبعد شهر من وفود موسى إلى دمشق 
إرتحل الوليد وتولى سليمان الملك؛ فكان أول ما فعل هو الزج بموسى بن نصير فى السجن» 
واستدعاء ابنه من الأندلس ليقطع رأسه دون ذنب جنىء ثم أخرج موسى من السجن ليرى 
ابنه عبد العزيز مذبوحاً. 

ذلك كان هو حال الدولة الإسلامية الثانية؛ كانت دولة عظيمة بمعايير الإنجاز فى الفن 
والأدب والعمارة» ولكنها ما قامت واشتدت شوكتها إلا بالحيل والخداع والعنفء كغيرها من 
الدول. وما كان لتلك الدولة من الدين إلا بمقدار ما استطاعت أن تسخره لخدمة مصالحهاء 
أو كما قال أمير الشعراء أحمد شوقى: 

قالواالكتاب وقامك 
ل مفسرومؤول 
حتى إذا وسعت معا 


وية وضاق بها على 


469 


رجعوا لظلم كالطبا 
شع فى النفوس مؤصل 
نزلوا على حكم القو 
ى وعند رأى الأحيل 

حق كانت العصبية القبلية العربية» لا الأممية الإسلامية الإنسانية» هى الطاغية على 
تلك الصراعاتء إذ كان الأمويون عرباً متعصبينء أكثر منهم ورثة لدولة الرسول. تخلوا 
عن التقليد الإسلامى فى الحكم الذى استنه أبوبكر وعمر وجعلوا الحكم هرقلية رومية» ونقلوا 
الخلافة من مدينة الرسول إلى الشامء وبعثوا العصبية القبلية العربية فى النفوس حتى عاد 
الشعراء إلى التفاخر بقبائلهم وأنسابهم» وأصبحت للشعر أسواق كعكاظء فى المريد قرب 
البصرةء والكناسة قرب الكوفة. وهكذا عاد شعراء العرب (جرير والفرز دق والأخطل 
والبعيث وذو الرمة والراعى النميرى) للتباهى بعشائرهم بعد أن انكسرت حدة ذلك فى عهد 
الرسول وصاحبيه. 

جاء من بعد بنو العباس (منافيون من فرع هاشم) واستفتحوا | الحكم بأبى العباس السفاح» 
فولى واستقضى ذويهء وقتل كل من نص عليه الأمور. وكان العباسيون أقسى ما كانوا على 
أهلهم العرب. ففى وصية إبراهيم الإمام لأبى مسلم الخراسانى: ٠لا‏ تدع بخراسان من يتكلم 
العربية» وأيما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله». هذا السفاح كان له من بين المحدثين من يلفق 
الأحاديث لإضفاء شرعية إسلامية على حكمه. روى الإمام أحمد فى مسنده عن أبى سعيد 
الخدرى أن النبى © قال: يخرج من أهل بيتى رجل يقال له السفاح» فيكون إعطاؤه المال 
حثياً (أى هملانا) . هذه الأحاديث المصنوعة التى لا معتصم فيهاء لا تنتصب إلا دليلاً على 
تكذب قائليها على رسول الله وإليها سنعود. نذكر منها فقطء لصلته بموضوعناء حديتآ 
أخرجه الترمذى ونسبه لعائشة جاء فيه : يا عذمان» لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادك 
المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقانى. هذاء بلا شك» تبرير فقهى لأسطورة قميص 
عثمان:ء أو لقول الخليفة الثالث أن الخلافة قميص ألبسه الله إياه. فكيف يستقيم عقلا أن 
يكحدث الرمئول.الذى لم يخلق أهدا بسحةة عن خلوشة اللذالك حون غووه من الكلفاءة ركانة 


470 


كان يعلم غيب الترتيب الذى سيجىء عليه الخلفاء من بعده . فالرسول» على خلاف ما وسوس 
به المتأخرونء لا يعلم الغيب» :ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير:. 

وعلى كلء بلغ الصراع على السلطة فى العهد العباسى حداً لا يبيحه الدينءولا يقبله 
العقل إذ شابته الخيانة منذ البداية» واصطرع فيه الأخ على الحكم مع أخيه ليقتله . هذه 
الشرور افترعها أبو جعفر المنصور عددما خشى على نفسه من شهرة أبى مسلم الخراسانى 
التى ذاعت فتآمر عليه . استدعاه لمجلسه وأمر جلاوزته بأن ينقضوا عليه فى المجلس متى 
ما صقق بيديه ثلاث مرات. قال أبومسام للمنصور الذى كان يتصنع عتابه: هيا أمير 
المؤمنين» أنسيت حسن بلائى وفضل قيامى وإتعابى نفسى ليلى ونهارى حتى سقت هذا 
السلطان إليكم:. فرد عليه أبو جعفر: ديا ابن الخبيثة» والله لوقامت مقامك أمة سوداء 
لأغنت غناكء إنما تأتت ت لك الأمور بما أحب الله من إظهار دعوتنا آل البيت ورد حكمنا 
إليناءء ثم صفق ثلاث فدقت عنق أبى مسلم (4"). أين هذا الجحود والغدر من وصاة أبى بكر 
للمحاربين أن لا يغدروا. 

وإن كان فى أمر الخليفة العباسى مع خراسانى خرري دا وتمدر ين لحبرين وتحرمه 
الأديان» فما بالك بأمر الأخ يقتل أخاه سعياً وراء التمكين لنفسه فى السلطان. فعندما ولى 
محمد الأمين الخلافة قال لخاصته مستشهداً بقول عبد الملك بن مروان: هلا يجتمع فحلان فى 

هجمة إلا قتل أحدهما صاحبه: . كتب الأمين لأخيه عبد الله المأمونء والى خراسان يستدعيه 
عاشي الدلك ان وتمسين يه ف الله رك رركن افق شرل قاذ طلرد . وبذلك نقض 
الأمين أمراًأبرمه أبوهما هارون الرشيد حين أورث أحدهما الحكم؛ وولى قن ع عر نان : 
ساورت الشكوك نفس المأمون» فنصحه وزيره الفضل بن سهل بقوله: «والله ما يريد بك خيراء 
وما أرى لك إلا امتناع»» فتمنع المأصون؛ وكانت حرب. ولم يستقر الحال بالمأمونء الذى 
أصبح ملكا شمساً فى دولة بنى العباس؛ حتى جىء إليه برأس أخيه الأمين على طبق من 
ذهب. تلك الدوامة الدموية انتهت بالمعتز الذى قتل أخاه المؤيد بإدراجه فى لحاف من جلد 
حتى انطفاً نفسه؛ والمعتز نفسه قتل على يد زبانية أخيه المستعين» وجىء به إليه فى سراويل 
بلا رأس فاطّرح جثة أخيه جانباً حتى يكمل لعبة الشطرنج. 


1م47 


ومن المدهش أن العباسيين» رغم انتمائهم الهاشمىء ذهبوا للتبارى مع الأمويين فى 
الإساءة إلى آل ال البيت :ركان للمتوكل» لول خلفاء مرجلة الانمطاط فى التهد العباني) فو 
أكثرهم غلواً فى تحقير آل البيت والإساءة إليهم. حرث المتوكل قبر الحسينء وأقام مزرعة 
عليه كان يغدو إليها ويرفقته نديم مخنث. وكان المتوكل يضع تحت ثياب مخنثه هذا مخدة 
حتى يصبح بطيناً مثل الحسينء ثم يجلس ويقهقه قائلاً: أدتى البطين خليفة المسلمين». فى 
ذلك قال شاعر: 
باللهإن كانتأمية قداآأتت 
قتل ابن بنت نبيها مظلوماً 
فلقدتتاه بنوبنيديبيمثله 
هذا لعمرى قيرهمهدوماً 
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا 
فى قتله فتعقيوهرميماً 
[ [ز [ [ 1 212117 ينتمون إلى العباس بن عبد المطلبء وقاطميين 
ينسبون أنفسهم إلى الزهراء» وكان الأوائل يعايرون الآخرين بانتسابهم إلى النساء ويقولون: 
أنى يكون وليسس ذاك بكائن 
لبنى البنات وراثة الأعطمام 
ولهذا هجر الفاطميون قلعة بنى العباس فى المشرق واتجهوا غربأ ليقيموا دولتهم فى 
المغرب .هذه هى الدولة الإسلامية التاريخية» فأى دين ودولة هى تلك التى يتحدث عنها 
الإسلام السياسى المعاصر ويجعل منها مرجعية للحكم الرشيد ؟ ولئن عجز الصحاب 
والتابعون بإحسان عن الاستهداء بدولة الرسول النموذجية» فلماذا يتوهم أتباع التابعين (مع 
افتراض إحسانهم وهو افتراض ظنين) أنهم قادرون على إقامتها فى أصقاع أفريقيا بعد 
خمسة عشر قرناً من الهجرة؟ 
كما سعى الإخوان لإعادة إنتاج تجار: ب الحكم الإسلامى خار- ج سياقها التأرد يخى » 
وتحويلها إلى ميثولوجية دينية يضفون بها شرعية على سلطانهم الراهنء أعادوا أيضاً إنتاج 


472 


الفقه القديم حول الحكم رغم ما اعتراه من رثاثة» ودون أى اجتهاد مبدع لتطويره . نحن لا 
ندعو إلى قطيعة معرفية مع ذلك التراث» ففيه روائع بمقتضى حال زمانه؛ وإنما نتمنى أن 
يستحدث الفقهاء المجددون قاعدة معرفية لمنظومة المعاملات والعادات (ومنها الحكم) 
ابتناء على الأصولء بدلا من الاجتهاد التلفيقى. ولئن كانت العبادات لا تخص إلا الإنسان 
وربهء ولا يبتغى من اتباعها غير الآخرة» فإن الغاية من المنظومة التى تحكم العادات 
والمعاملات هى استواء العلائق بين البشر فى الحياة الدنياء ولهذا ينبغى أن تخضع لكل ما 
يطرأ على حياة البشر من تغيير. وقد حددت كل الأديان (لا الإسلام وحده) ميزاناً قسطأ 
تقدوية امور جك بردي كل لق . (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب 
والميزان ليقوم الناس بالقسط» (الحديد5/01١)‏ . بدلاً عن استحداث تلك القاعدة من 
الأصول المحكمة» ظل الإسلامويون المحدثون يتعلقون بمفاهيم الحكم التى أرساها الفقهاء 
القدامى(؟")؛ وفى تلفيق لا يخفى» يلوون عدق الحقيقة لجعلها أساساً لكل مفاهيم الحكم 
المعاصر. وللمفكر الإسلامى المجدد حسن حنفى قول سديد فى هذا الاجتهاد التلفيقى» قال 
«واقعنا المنهار وجد فى التراث ما يبرر انهياره ويؤكده وكأنا لا نختار من القديم إلا ما نريد 
ونبغى . وإذا طبقنا الإسلام» وأردنا إعادة الدولة الإسلامية بدأنا بقانون العقوبات وكأن الغاية 
هى العقوبة وليست الوسيلة» وكأن المسلم يعاقب وهو لا يعيش فى دولة إسلامية» ولم ينشئ 
دولة إسلامية . نطلب منه واجباته قبل أن تعطى إليه حقوقه. وإذا طبقنا الإسلام بدأنا بقانون 
الأحوال الشخصية: الزواج والطلاق والخطوبة والمهر والخلوة والمحارم. أما النظام 
الاقتصادى السياسى الإسلامى فنطويه إلى ما وراء ظهورنا ونترك للحاكم أن يفعل ما يشاءء 
ونرضى بأى حكمء ونطيع أى نظام: .('") 

حقيقة الأمرء أن كل محاولات الفقهاء من بعد عهدى الصاحبين لتقعيد (خلق قواعد) 
الأحكام المتعلقة بالحكم كانتء على الأكثرء معنية بسلطات الحاكمء ثم تبرير حكم الغلية. 
ولعلنا نستأنى قليلاً عند آثار الغزالى حجة الإسلام وزين الدين» للأثر الكبير الذى تركه على 
الفكر السنى حتى كاد إحياؤه (إحياء علوم الدين) أن يكون قرآناً. الغزالى» بلا شك؛ حبر 
نحرير وعالم كبيرء ولم يجاف الحقيقة شيخه ومعلمه إمام الحرمين الجوينى عند ما وصفه 


413 


ب البحر المغدق. بيد أن واحدة من جنايات الغزالى هى تسخير الفقه لنصرة الطغاة (وله 
جنايات أخرى سنجىععلى ذكرها لاحقا)» ففقه الغزالى الدستورى كله كان أيديولوجياً 
سياسياً وظفه لخدمة السياسة عندما انم إلى بلاط نظام الملك السلجوقىء» وكان سعيداً 
برعاية ذلك الأمير الظالم ('"). كما كانت نصائحه (نصائح الملوك) فى جوهرهاء خطاباً 
تبريريا لحكم الوزير السلجوقى نظام الملك؛ أشهر وزراء السلاجقة وأكثرهم عنافة. بتلك 
العنافة استفرد نظام الملك بالحكم حتى قتله الاسماعيليون بعد استيلائهم على أصبهان. ولا 
تثريب على الإمام السنى الأشعرى فى أن يجادل الفاطميين والاسماعيليين وينكر عليهم 
فكرة تلقى الحقيقة من إمام معلوم لأن الحقيقة» فى عرف أهل السنة» "تجىء بإلهام مباشر 
من اللهء لا عبر إمام معلوم(""). ولكن لئن يذهب ذلك العالم الفهامة إلى تكفير كل من 
اختلف مع الخليفة المستظهر ونظام الملك؛ ليس فقط حول التوجه السنى الأشعرىء بل أيضاً 
فى أمور السياسة» فذلك أمر نكر. عن هؤلاء» قال إن موقفهم ظاهره الرفض وباطنه الكفر 
المحض("). ومن ذلك الكفر المحض لم يخرج الغزالى إلا نفسه ومن معه ممن أسماهم 
الفرقة الناجية. ولم يكن الغزالى فى اجتهاده ذلك باحثاً موضوعياً؛ بل سياسياً محرضاآً 
للمستنصر على الفاطميين» وطائفياً متربصاً بغيره من أهل الملل والطوائف الأخرى .(؟") 
تلك الحماسة فى التريص والتجسس ألحق بها الدكتور زكى مبارك؛ تهمة أخرى وما ظلم» 
هى ضعف الغزالى عند الملمات» لكى لا نستعمل تعبيراً آخر. قال زكى مبارك أنه ٠«حينما‏ 
كان بطرس الناسك يحرض الصليبيين فى القرن الخامس الهجرىء ووردت إلى الغزالى 
أخبار غزوهم لأنطاكية وإمارة الرها فى وادى الفراتء آثر حجة الإسلام الانزواء فى ركنه 
غارقاً فى خلوته» منكباً على أوراقه» لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة والجهاد. ويكفى أن 
نذكر أن الأفرنج قبضوا على أبى القاسم الرملى الحافظ يوم فتح بيت المقدسء ونادوا عليه 
ليُفتدىء فلم يفتده أحدء ثم قتلوه وقتلوا معه من العلماء عدداً لا يحصيه إلا الله كما ذكر 
السبكى فى طبقاته:(”"). أوهل كانت تلك هى النجاة التى عناها شيخ الفرقة الناجية؟ 
مثالان اخران هما كتاب اين الحدادء الجوهر النفيس فى سياسة الرئيس الذى صاغه 
مؤلفه ليؤصل فيه حكم ملك الموصل بعد انتهاء العهد الأيوبى بوفاة نور الدين زنكى» وبروز 


474 


دولتى المغول والمماليك. هذا الكتاب نوليه اهتماماً لما فيه من تسخير فاضح للفقه لخدمة 
السياسةء رغم عدم ذيوع اسم كاتبه. والثانى «تحفة الترك فيما يجب أن يعمل فى الملك: 
الذى أنشأه الطرطوسيء, قاضى قضاة الأحناف فى عهد السلطان الناصر بن قلاوون 
المملوكى لتبرير خلافة الأتراك فى ظل الفقه السائد القائل الخلفاء من قريش. ففى قول 
الإمام أحمد لا يكون من غير قريش خليفة . تلك النظرية ظلت تسود الفكر السياسى لأهل 
السنة والجماعة» رغم إنكار إمام الحرمين الجوينى لها لاعتمادها على حديث آحادء كما 
أنكرها المعتزلة جملة وتفصيلا ('"). كتاب الطرطوسى كله محاولة غير بريعة لنفى شرط 
القرشية فى الخلافة حتى يبرر تتريك الخلافة. 

لم ترد فى أى واحدة من كل الأسفار التى عالجت قضية الحكم إشارة للدولة أو الوطنء 
فالفكر الإسلامى التاريخى لم يعرف ما يسمى بالأوطان أو الدول كما أشرنا فى مقدّمة 
الكتاب» وإنما عرف الأمة الإسلامية. ولو كانت تلك الظاهرة حقيقة معيشة فى ذلك الزمان 
لتناولها الفقهاء بالدراسة. حتى ابن خلدون» أول من تحدث عن نشأة الدول فى التاريخ 
الإسلامى» ذهب لتوه للحديث عن الملك ووظائفه فى الباب الثالث من المقدمة: طبيعة 
الملك؛ حقيقة الملك؛ معنى الخلافة والإمامة» مراتب الملك والسلطان» ثم عوامل انهيار 
الملك. ونعترف لذلك المؤرخ الاجتماعى بافتطانه إلى عوامل سقوط الدول قبل أن يخرج 
قيبونز يزمان بكتابه عن سقوط الإمبراطورية الرومانية والتفسخ الذى قاد لذلك السقوط. 
وعلنا لا نتوقف عند عناصر الضعف الموضوعية فى الأثر العظيم الذى خلفه المؤرخ 
الإسلامى الكبير("")؛ بل نذهب مباشرة إلى أكبر زلاته: وصفه للحاكم التترى الجلف 
تيمورلنك الذى التقى به فى دمشقء بأعظم الملوك من عهد آدم. وإن كان كرستوفر مالرو 
قد تغنى بأمجاد تيمورلنك (أسماه تيمبورلين العظيم) فقد غلب على الشاعر الإنجليزى 
الشطح الشعرى فى تمجيد الرجال الأسطوريين فى التاريخ (ونقول النساء إذ نظم مالرو أيضآ 
رواية فى ديدو ملكة قرطاجنة) :ولكن ما بال المزرخ الاجتماعى الإسلام الذى وهب 
مزه لاستخلاص العبر من التاريخ يبَجل ذلك السفاح ؟ لا شك فى أن المؤرخ العظيم الذى 
حدث وروى عن الجبابرة كان وجلا مفزعاً فى أول لقاء له بذلك الجلف الجبار(*"). وياله 


005 


من وجل ذلك الذى جعل ابن خلدون يقول: «شهدت مشارق الأرض ومغاربهاء وخالطت 
فى كل بقعة أميرها ونائبهاء ولكن إن امتد بى زمانىء ومن الله على بأن أحيانى» حتى 
رأيت من هو الملك على الحقيقة» والمسلك بشريعة السلطنة على الطريقة؛ (ديوان العبر» 
التعريف بابن خلدون) . ياللعجبء التدرى الجلف تيمورلنك هو المسلك بالشريعة على 
الطريقة! يتساءل المرء أين محمد بن عيد الله وأين عمر بن الخطاب فى حساب ذلك 
المؤرخ الإسلامى العليم؟ 

الحضارة الإسلامية» رغم ثرائها فى مجالات الفلسفة» وعلم الكلام» والعلوم الطبيعية 
والنظرية» والطبء غفلت تمامآ عن الفكر السياسى. فباستثناء المدينة الفاضلة للفارابى»(؟") 
كانت معظم الرسائل الهامة عن الفلسفة السياسية عبارة عن تعليقات على المؤلفات 
اليونانية. ('*) لهذه النتيجة خلص الرئيس محمد خاتمى بعد معالجة رصينة لتطور الفكر 
السياسى الإسلامىء انتهى فيها إلى أن زحيل الفارابى كان هو بداية النهاية لعصر التنوير 
السياسى فى الإسلام.(١*)‏ وكان خاتمى بارعاً عندما تحدث عن الفكر السياسى بين 
المسلمينء وليس فى الإسلامء ولعله أراد أن ينفى بهذا تماهى المفكرين الإسلاميين مع 
الإسلام» وينكر شرعية استكثارهم به. رغم ذلك لم يجد فكر الفارابى النضيج من كبار 
الفقهاء الذين ظلت تستهدى بهم الأمة غير الاتهام بالكفرالصراح وتحليل قتله . هنا نعود 
إلى أكبر جنايات الغزالى» ذلك البحر المغدق» على تطور الفكر الإسلامى بصورة عامة» 
وعلى الفكر السياسى بوجه خاص. كان حجة الإسلامء بلا شكء واعياً بالفلسفة» حريصاً 
على التبحر فيها. ففى قوله: «وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا 
يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوى أعلمهم فى أصل العلم ثم يزيد عليه ويجاوز 
درجته» فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائله (أعماق سوئه)؛. 
الغزالى» فى تقدير زكى مبارك(”*) سبق ديكارت فى القول بمنهج الشك من أجل الوصول 
إلى اليقين. قال «من لم يشك لم ينظرء ومن لم ينظر لم يبصرء ومن لم يبصر بقى فى 
العمى والضلال؛ (المنقذ من الضلال) . هذا العالم الوعى الذى حض الناس على 
الاستبصارء نظر فأبصر ثم قضى بالإعدام الفكرى على إعمال المنهج الفلسفى والمنطقى 


46 


فى النظر للدين حين قال أن لا علاقة بين الفلسفة والمدطق بالدين نفيا وإثباتاً. وبذلك أنكر 
الغزالى إعمال الفلاسفة لعقولهم باستخدام مناهج الأدلة المحدثة فى تأويل القرآن» الكتاب 
الذى أشار خمسين مرة للعقل بكل مشتقات الكلمة: عقلوه» يعقلون» تعقلون: تعقل؛ نعقل. 
يعقلها. وعن الذين اقتربوا فى تقويمهم للدين اقترابً عقليآء قال الغزالى «إنهم أبقوا من رذائل 
كفر الفلاسفة (أفلاطون وأرسطو) بقايا لم يوفقوا للنزوع منها كابن سينا والفارابى وغيرهم 
فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من متفلسفة المسلمين؛ (المنقذ) . 

بذلك الحكم القاطع أوقف العزالى مسار الفكر العقلانى الذى بدأه الفارابى» وبتسيده على 
الساحة الفكرية قضى قضاء مبرماً على الاعتماد على العقل فى تأويل الشرع؛ وأكثر من 
ذلك على التعددية التى أضفت على الساحة الفكرية الإسلامية حيوية نابضة تمثلت فى 
مجادلات المتكلمة وأهل الاعتزال والفلاسفة . تلك الظلامية ظلت تكتنف المحيط الفكرى 
الإسلامى إلى أن جاء ابن رشد ليدعو للتأويل بصورة تتوافق مغ العقل. قال: ا«لشريعة 
والبرهان أختان فى الرضاعء فالحق لا يضاد الحقء بل يوافقه ويشهد عليه:9*). ولكن 
سرعان ما لحقت بذلك الفقيه العبقرى غوائل التزمت فسجن واحرقت كتبه فى عهد 
المنصور العامرىء فخسفت شمس العقل من سماء الفكر الإسلامى. وكان للرئيس خاتمى 
حديث للكسليك فى بيروت إبان زيارته لها قد لا يرى فيه المتزمتون إلا هرطقة. قال» وهو 
يرد الاتهام القائل بغربة الإسلام عن العصرء هلو تعارض القرآن مع الحق فأنا مع الحق». 
ليس فى ذلك القول جحود للدين» وإنما اراد خاتمى ان يقولء باسلوب رشدىء الحق لاا يضاد 
الحق. أفهل لجأ الغزالى فى خاتمة عمرهء بعد جناياته تلك» إلى تطهير نفسه باللواذ 
بالتصوف واللجوء إلى المنهج العرفانى. قال أبوحامد «تكشف لى أن دواعى التصديق لا 
توجد فى علم الكلام ولا الفلسفة بل عند الصوفية». ليت هذا البحر المغدق توصل لهذا 
الكشف قبل أن يستوقف مسيرة الفكر الإسلامى. 

نخلص من هذا إلى أن الفقه الإسلامى الدستورى كانء على الأكثرء فقهاً تبريرياً قادت 
إليه اعتبارات لا تمت للدين بصلة . ولعل الفقيه الوحيد فى ععهود الملك العضوض الذى لم 
يستذله السلطان هو الإمام النصيح ابو حنيفة. رفض الإمام الانقياد للعباسيين وقد عاصر 


1م101 


منهم ذوى ألبأس الشديد: أبو عبد الله السفاح والمنصور. كما ناصب الأمويين العداء ودعم 
تمرد زين بن على بن الحسين ضد بنى أميةء وشجع عليهم محمداً النفس الزكية. وفى 
سبيل رأيه مات ابو حنيفة فى السجن بعد أن ضربه المنصور وأودعه فى غياهبه .لم يكن 
هذا شأن حوارييه الأول زفر بن الهذيل العنبرى الذى وك فى عهد بنى العباس قضاء 
البصرة» ولا شأن صاحبيه: أبويوسف بن يعقوب بن إبراهيم الذى ولى قضاء بغداد فى 
عهد الرشيدء ومحمد بن الحسن الشيبانى الذى ولى قضاء الرقة ثم الرى: وأصبحا بذلك 
فقهاء تبرير فى بلاط بنى العباس. وللكاتب المعاصر محمد عابد الجابرى رأى طريف حول 
تحلق المثقفين العرب حول السلطة ودعمهم لأشد الحكام طغواناً. قال إن هذا امتداد لتاريخ 
قديم» فما من سلطان فى الدولة الإسلامية إلا وكان له شيعة من العلماء يناصرونه ويبردون 
طغوانه . 

الترابي ودولة الرسول 

فى عام 1950 صرح الترابى بأنه يرغب فى إعادة إنشاء مدينة الرسول فى 
السودان.(؟*) وكانت بعض أقواله فى هذا الصدد تدعو للسخرية . مثال ذلك قوله لصحيفة 
يومية فى الخرطوم: «لقد دخلنا الخرطوم كما دخل الرسول المدينة:.(**) مبعث السخرية: 
أن الرسول لم يغتصب السلطة فى الخفاء» كما فعلت ألجبهة يوم "١‏ يونية سنة 1545 كما لم 
يبن قواعد حكمه على البطش والإكراه . كما أن السودانء أكبر بلاد أفريقيا مساحة» ليى هو 
يثربء والترابى ليس بنبى؛ وواقع اليوم» فى السودان أو غيرهء ليس هو واقع القرن السابع 
الميلادى. لم يوفق الترابى فى اختيار ذلك النموذج لأسباب عدداء فأولاً: تمثل الدولة التى 
حكمها الرسول ع إقليماً محدوداًء كما كانت الفترة الزمنية التى حكم فيها أيضاً محدودة 
أيضاً (777 م 77 م) . ثانياً: كان الرسول 2 (بحكم الرسالة) هو مناط السيادة والتشريع 
من الإرادة الإلهية» ولهذا فأوامره ونواهيه كانت لا تقبل التحدى. ثالثاً: كانت للرسول 
سلطتان؛ روحية ومدنية» وحيوية وبشرية» تكمل الواحدة منهما الأخرى. وفى قول ابن 
خلدون «أن تجربة الراشدين» ناهيك عن تجربة الرسولء استثناء يشبه المعجزات الخارقة» 
وقد انحسر المد بذهاب عهد المعجزات. ثم بفناء القرون التى شاهدوها وصار الحكم للعادة». 


418 


هذا حكم صائب أثبتته كل تجارب الدولة الإسلامية منذ مقتل الخليفة الثالث. وإلى حكم آل 
عثمان. لهذه الأسباب» تستحيل اليوم إعادة إنتاج مجتمع المدينة» فى المدينة المنورة نفسهاء 
دعك عن نقله إلى دولة تحاصرها التعدديات الدينية» والثقافية؛ والإثنية» والسياسية . أيضاً 
يستعصى تطبيق هذا النموذج على دول ذات حدود وطنية» وتضبط سلوكها العام عهود 
دولية وإقليمية لحقوق الإنسان» وتنظم العلاقات بينها عقود واتفاقيات ومواثيق أممية. 

كان مجتمع المدينة المنورة» دون شكء مثالاً عالياً فى التسامحء إن أخذناه فى إطاره 
التاريخى . أبدى ذلك المجتمع تسامح أ فريدأ مع أهل الكتابء لم يبد مثله الرومان مع 
المسيحيين؛ ولا المسيحيون مع اليهود فى أوروبا. كما لم يميز الإسلام بين الناس على أساس 
الجنس والعرقء فى وقت كانت فيه القاعدة العامة فى جميع الثقافات هى التمييز. ولكن 
عندما ننظر لمجتمع المدينة من خلال عدسة معاصرة» نجد أنه كان مجتمعاً يخضع لهيمنة 
الرجال على النساء؛ء كما كانء مع إيوائه لغير المسلمين من أهل الكتابء لا يمنحهم إلا 
حقوقاً اجتماعية محدودة» ويحرمهم من الحقوق السياسية. حتى تلك الحقوق المحدودة» لم 
تكن حقوقاً أصلية وإنما هى حقوق منحت لهم فى ظل اتفاق يوفر لهم الأمان فى دار 
الإسلام مقارنة بدار الحرب. ولكنء اعتباراً من القرن التاسع عشر بدأت المفاهيم الغربية 
المتعلقة بحقوق الإنسان والشعوب تتطور فى قفزات سريعة حتى بلغت أوجها فى إعلانات 
حقوق الإنسان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فى ذات الوقت عجز القانون الدستورى 
الإسلامى عن إعادة صياغة نفسه» ليس فقط من أجل التماهى مع ذلك التطورء وإنما أيضاً 
للتوافق مع المثل العليا الإنسانية التى أرساها الإسلام. فبدون إصلاح جذرى وشامل للفقه 
الموروث؛ على أساس المبادئ الإرشادية الواردة بالقرآن الكريم يفقد الإسلام راهذيته . وكما 
يقول «النعيم؛ إن التطبيق الشكلى لقواعد المدينة المنورة على السودان فى الوقت الحاضر 
يعنى عدم انطباق وصف أهل الكتاب على السودانيين الذين يعتنقون معتقدات أفريقية 
تقليدية (واعتبارهم مشركين بنص الشرع)» كما يعنى إخضاع الكتابيين منهم لميثاق الذمة 
الذى يوفر لهم الحماية» ولكن يحرمهم من الحقوق السياسية.(”*) وكما توقع الأستاذ 
الباحث؛ أطلق الترابى والجبهة على أعدائهم فى الجنوب (رغم أنهم مواطنون سودانيون) 


479 


اسم المشركينء وأعدوا لجهادهم ما استطاعوا من عدة ومن رباط الخيل. على ضوء ذلك 
التعريف للحربء يحرم هؤلاء المواطنون من أى حقوق سياسية أو مدنية» حتى ولوكانت 
مثل الحقوق ألتى يوفرها عهد الأمان للذميين والمعاهدين. 

إشارة الترابى إلى مجتمع المدينة المنورة» ودستور الصحيفة» من بين كل التجارب 
الإسلامية» تعذ تعنى ضمنا الاعترا اف بأن الإسلام السياسى قد أخذ فى التدهور بعد عهد 
الرسول عه مباشرة» ولم يضف إليه جديد منذ ذلك الوقت . وإن كان هذا ما عناه فهو محق 
وعلى أىء فصحيفة المدينة (وتسمى أيضاأً صحيفة الموادعة) نفسها لم تكن دستوراً لدولة» 
بل معاهدة بين المسلمين من قريش وأهل يثرب واليهود ("*) وتقضى بالتحاكم إلى رسول 
الله فى حالات الإخلال بها. ومنذ وقاة الرسول ورحيل صاحبيه (أبى بكر وعمر)ء أصبح 
الصراع على الخلافة صراعاً سياسياً لادينيًء بل عراكاً على السلطة بين أفراد الأرستقراطية 
القرشية (سادات قريش من بنى عبد مناف) . لا ينفى هذا أن الإسلام قد تغلغل فى نظام 
الدول الإسلامية منذ عهد الرسول وحتى الحقبة العثمانية .ويرجع برنارد لويس هذا التأثير 
النافذ للإسلام على السياسة»ء والذى لم تعرفه المسيحيةء إلى أن الإسلام نهض أثناء ميلاد 
إمبراطورية» وأصبح عقيدة لعالم واسع مزدهر ومزهو بنصره فى كنف إيمان جديد؛ فى 
حين نهضت المسيحية فى الوقت الذى بدأت فيه شمس الإمبراطورية الرومانية فى 
الغروب. بالتالى» شكلت المسيحية هياكلها بمعزل عن الدولة التى كان ينظر إليها أنصار 
الدين الجديد بعين الاستهجان(**). قال لويس أيضأً أنه فى الوقت الذى كان فيه القدييبى 
أوجستين ومفكرو المسيحية الأوائل ينظرون للدولة على أنها شر أهون (!ذناء 5©6دء!) » كان 
المسلمون يرون فى الدولة ‏ الإسلامية بالطبع ‏ فضلا من الله(7*) . هذا التعليل» مع صحته» 
يمكن قبوله أو الدفاع عنه» فى ظل الإمبراطوريات الإسلامية القديمة حيث كان المجتمع 
الإسلامى متماسكاء وكان غير المسلمين راضين بوضعهم فى ذلك المجتمع كمواطنين من 
الدرجة الثانية» أى كذميين ومعاهدين. . إلا أنه من غير المقنع أو الممكن التمسك بهذا التعليل 
فى عالم جديد متطور لا تتحدد فيه 0 الأساسية وواجباته من خلال التكليفات 
والضوابط الدينية» بل تعتبر متأصلة فى حقوق المواطنة التى تكرسها عهود ومواثيق دولية 


450 


لا سبيل للفكاك. بل إن الالتزام ببعضها (الإعلان الدولى لحقوق الإنسان) هو شرط وجوب 
لانضمام الدول للمنظومة الدولية. ولهذا فمن المفترض على الدول الإسلامية التى تضم 
«أقليات» من غير المسلمين» ناهيك عن تلك التى تمثل هذه «الأقليات:» فيها ما يربو على 
ثلث السكان (حال السودان) أن تكفل لهذه المجموعات الحقوق السياسية والاجتماعية 

والثقافية والدينية» ليس بأقل مما تكفله للمسلمين. 

المشروع الحضارى والمرجعية المقّه فكرية للدولة 

لتحقيق هدفه السامى: إقامة دولة المدينة» خرج الترابى للناس بمشروع للحكم أسماه 
المشروع الحضارى. يهدف ذلك المشروعء كما تنبئ أقاويل الترابى» إلى إعادة صياغة 
المجتمع السودانىء ثم نقل التجرية الرائدة: من بعدء إلى العالم سوه . وتوحى الشعارات 
المرفوعة» والأطروحات المبذولة أن لبنات هذا المشروع مستخلصة من الشريعة الإسلامية 
(أى من الفقه الإسلامى المتوارث عبر التاريخ عن قدامى الفقهاء) . بيد أن مشكلة الترابى» 
كما هى أيضاً مشكلة غيره من الدعاة المعاصرين للصحوة الإسلامية؛ هى إعطاء الشريعة 
(طبقاً للتعريف المتقدم) درجة من القداسة تعادل القداسة التى يمنحها المسلمون للمصادر 
الأساسية التى تستنبط منها الشريعة: القرآن الكريم والسنة. وكما أبنا منذ هنيهة؛ لم تكن 
الدولة الإسلامية التاريخية إلا ظاهرة سياسية خلقتها نفس الظروف التى تخلق الدول» 
واعترتها نفس الملابسات التى تعتريهاء ولجأت إلى نفس الوسائل التى تلجأ إليها (بما فى 
ذلك العنفء والإيلاف بالرشاءء واستغلال الدين لخدمة أغراض السياسة) . وبما أن الدولة» 
بهذا المعنى» »لم تعد مؤسسة دينية تحكمها نظرية أصولية» د تصبح الشريعة؛» من حيث هى 
أوامر دينية تطبق على المشاكل العملية فى الحياة العامة» وتتعلق بالقرائن التاريخية» ظاهرة 
علمانية» أى محايدة فى أمر الدين. وكما تقول إحدى الباحثات فى تطور القانون الإسلامى 
فى السودان؛ الشريعة» فى جوهرهاء دينية» ولكنها لدرجة عميقة علمانية بمعنى أنها تنشد 
السير السليم بالمجتمع الإسلامى وتعالج» منذ بدئهاء مشاكل عملية .(*") إلى هذا الرأى اتجه 
أيضاً جمال البنا حين قال:من أبرز دلائل علمانية الإسلام إبعاد كل المحاولات اللاهوتية 
التى تستعصى على العقول من مجال العقيدة . فحرية العقيدة فى الإسلامء وانتفاء المؤسسة 
461 


الدينية» وبساطة فكرة الألوهية» أبعد الإسلام عن الشيولوجيا بقدرما قريها إلى 
العلمانية.!'؟) وحقيقة» برفضه للكهنوتء واعتباره كل مسلم رجل دينء يصبح الإسلام» 
إلى حد ماء علمانياً. 

يدعو للحيرة أن يذهب الترابى الذى كان يؤكد فى عام ١174‏ (خلال مناقشات مشروع 
الدستور الإسلامى فى البرلمان) أن العلمانية ظاهرة غريبة عن الإسلام؛ للقول مؤخراً أنه لا 
يرى فى العلماتية ما يضير الإسلام فى شىء. ففى حديث مع آلان شيفالييه» ذكر أنه لا 
يعترض على العلمانية» إذ ليس فى الإسلام كديسة أو هيكلية دينية تتحدى الدولة .("؟) 
وعندما سأله شيفالييه عن ولاية الفقيه فى إيران (المادة ٠١١‏ من الدستور الإيرانى)» والتى 
تعلو على كل السلطات الدستورية» أجاب بأن السودان ليس دولة شيعية. أما عن دوره فى 
نظام الجبهة» والذى لم يكن يقل فى نفاذه عن دور الخمينى وخاميتئنى فى إيران» ذكر 
الترابى للصحفى الفرنسىء أنه ليس دوراً بابويآء وإنما هو دور مفكر يدل الناس على الطريق 
إلى الله. وبصرف النظر عن التضارب فى وجهتى نظر الترابى (وجهة 0 فى عام 
التى أدان فيها ما أسماه التوجهات العلمانية فى السودان» ووجهة نظره لشيفالييه التى 
يلمس فيها المرء روغاناً عن لب المشكل) نتفق مع قوله أن الظروف التى أنجبت العلمانية لا 
تنطبق بحال على الإسلام. فالعلمانية نشأت فى ظل خلافات مذهبية حادة (الكاثوليك 
والبروتستانت) كانت أكثر مراحلها دموية هى مجزرة (سان بارثولوميو) فى عام 1587,: 
وفى واقع الآامرء انكر الكاثوليك على البروتستانت حق المواطنة كما جاء فى إنذار جاك 
بوسويه للبرو: تستانت (كاهماوعاوع2 عانلة امعمعدو لوو رق ) (92) فالعلمانية» بهذا الفهم., كانت 
تمثل انعتاقاً من ريقة الهيمنة باسم الدين» لهذا كانت صيحة البروتستانتى» رابوسانت ايثينى 
فى الجمعية الوطنية الفرنسية: «نطالب بالحرية الكاملة؛ كمواطنين لهم عقيدتهم الخاصةء 
وليس فقط احتمالنا (5نا 00601652108 . الكنيسة أيضاً كانت تدعو الناس للإنهماك فى عالم 
الغيب (العالم الآخر)» وترى فى إنشغالهم بأمور دنياهمء أو التفكير فيهاء عملا لا دينياً 
ومناهصاً للكديسة (طععتء -ناهة 300 ذنواأع ناء:-301)» بتلك النظرة الإنغلاقية جعلت 
الكنيسة من المعارف الدنيوية» بشقيها المعرفى والقيمىء أمراً دينياً هى وحدها المؤهلة 


452 


للقضاء فيهء ولهذا أقامت محاكم التفتيش» وأصدرت صكوك الغفران. هذه هى البيئة التى 
أنجبت العلمانية فى عصر التنوير أولأء كأسلوب عقلانى لإدراك الطبيعة والتاريخ دون 
وقوع فى ثنائية المقدس والدنيوى النجس (0/856:م 300 536560)» وثانياً كمشروع سياسى 
لإلغاء هيمنة الكهنوت على المحيط العام» أى غير الدينى. والعامل الأخير كان وراء إيقاف 
الثورة الفرنسية للامتيازات التى كانت تتمتع بها الكنيسة فى أغسطس 21785 ثم تأميم 
ممتلكاتها فى نوفمبر من نفس العام . 

هذه النظرة للعلمانية تختلف كثيراً عن النظرة المعاصرة» فقانون ١1١5‏ فى فرنسا 
والذى تطلق على المادة الثانية منه مادة فصل الدين عن الدولة يقول فى تلك المادة .لا 
تعترف الجمهورية بأى مرتبات أو إعانات لأية عقيدة». نفس المادة تنص أيضاً على ما 
يلى: «تضمن الدولة حرية العقيدة فى المؤسسات العامة مثل المدارس والكليات والملاجئ 
والسجون:. العلمانية الأوربية ليستء كما يقول النظام أو الصادق المهدى دومأء إلغاء 
للأديان» بل هى تحريم لاستغلال المال العام والسلطة العامة فى دعم أية عقيدة. ومن 
الطريف أن إيطالياء أقرب الدول الأوربية للكاثوليكية تعكف الآن على استصدار قانون 
يكفل لغير المسيحيين حرية ممارسة شعائرهم على الوجه الذى يريدون. فمثلاً» يموجب 
اتفاق مع الفاتيكان فى عام ١515‏ لا تعترف الدولة الإيطالية إلا بالزواج الكاثوليكى, ولهذا 
ينص مشروع القانون الجديد على اعتراف الدولة بالزيجات التى تتم بين مواطنيها وفق ما 
تقول به نظم معتقداتهم. هذا القانون وضع خصيصاً لحماية حقوق المجموعات المسلمة التى 
نزحت إلى إيطاليا واستنقرت فيها من شمال وغرب أفريقياء والصومالء ودول البلقان» 
والأكراد. كما تضمن المشروع حقوقاً واضحة لهؤلاء المسلمين مثل حق الانتماء للقوات 
المسلحةء ممارسة شعائرهم بصورة جمعية أو فردية» توفير الطعام الحلال لهم فى 
المستشفيات والسجون. هذا المشروع أقرته كل الأحزاب الإيطالية بإستثناء رابطة الشمال 
التى قالت أن مسلمى ايطاليا لا يستحقون هذه الامتيازات لأن دولهم لا تمنح حقوقاً نظيرة 
لغير المسلمين. هذه هى العلمانية المعاصرة»ء ولعل دعاة نبذها فى ديارنا سيجدون أنفسهم 
فى ضيق أمام ما قالت به رابطة الشمال فى إيطالياء طالما ظلوا لا يوفرون حقوقاً لغير 
المسلمين من مواطنيهم مثل تلك التى تجهد الدول العلمانية نفسها لتوفيرها لمسلميها. 


1433 


وعلى أىء فإن الثنائيات التى ابتدعها الفقهاء المحدثون, وأنكرها الترابى بآخره؛ لا 
يعرفها الإسلام» بل إن الحكماء والفقهاء أعملوا عقولهم حتى فى شرح الذات والمقاصد 
الإلهيةء للجمع بين الإلهى والطبيعى (ابن سينا فى الإشارات والتنبيهات) . ولئن كان 
الترابى صادقاً مع نفسه فى نفى هذه الثنائية عن الإسلام؛ لتوجب عليه أن يذهب إلى 
النهايات المنطقية لأطروحته التى تقول أن الإسلام» بطبيعته العقلانية تلك؛ يجب أن لا 
ينكر على المسلم استخدام العقل للوصول إلى الحقيقة النسبية عبر الاستدلال المنطقىء أو لما 
يحقق مصلحته على الأرض (وكأنه يعيش أبدأ) بمنطق الصالح وغير الصالحء لا بمنطق 
الحلال والحرام. ولكن» صدق الترابى أولم يصدقء فإن الواقع يهزمه. وكما سنبين لاحقآ 
فى هذا الفصلء لما يزل المنهج الإسلامى السنى: كحال الشيعة؛ يخضع لسطوة كهنوت 
جديد اسمه الفقهاء» وقد تحلق عدد كبير من هؤلاء الفقهاء حول الترابى» وكان بتأبيدهم 
غابطاً مسروراً. ومن المفارق أن الكنيسة قد تطورت فى القرن العشرين حتى برز من 
وسطها تيار يسمى المسيحية العلمانية يقول إن لرسالة المسيح بعدا دنيويا فى حياة الناس 
اليومية. لأجل هذاء أخذ بابا الكاثوليك يطوف العالم» لا لينشر بركاته على الأنصارء بل 
ليتحدث عن قضاياهم الحياتية مثل الفقرء والديون» وحقوق الإنسانء والتحرير الاقتصادى. 
بل وإدانة الرأسمالية الجامحة والعولمة المتوحشة. تلك هموم لا مكان لها فى أولويات الفقهاء 
المعاصرين فى ديار المسلمين وكان أجدر بالترابى» العالم بأصول الدين ومعانى الكلمات» 
أن يقول أن الإسلام» برفضه للدولة الثيولوجيةء هو علمانى أى عقلانى فى جانب منه. وما 
كنا لنقحم القارئ فى هذا الموضوع.ء أو ندنيه إلى موضوعناء لولا التخليط المتعمد والتفسير 
المخل لمفهوم العلمانية» خاصة ما يرد فى أقوال أهل السياسة فى السودان» ممن ينادى بهاء 
ومن يرفضها. 

ما هى الشريعةء إذن» التى حاول الترابى وغيره من الإسلامويين المعاصرين تطبيقها 
على السياسة العامة ؟ نؤكد من جديدء أن تلك الشريعة مستخلصة:؛ إلى حد كبيرء من الآراء 
التى استنتجها الفقهاء القدامى من مصادر التشريع الرئيسية فى الإسلام: القرآن والسنة. وما 
لجأ الفقهاء إلى ذلك الاستنتاج إلا للاستجابة لواقعهم المعاصر عبر آلية البرهان الاستنباطى 


154 


لتقعيد أحكام جديدة تتوافق مع المتغير. لولا ذلك الاجتهاد لنجمدت القواعد المعيارية 
الإسلامية عبر الزمان. ولكنء مع تغير العصورء وتبدل الأزمنة؛ أصبح لزاماً على الفقهاء 
الجدد أمثال الترابى» استخراج قواعد جديدة مستمدة من نفس المصادر الأساسية عبر آلية 
الاجتهاد» من أجل الإيفاء بما تتطلبه الاحتياجات المستجدة. بيد أن التفريع على الأصول 
يستلزم إدراك مفاهيم العصر ومتطلباته وميكانيزمات التفكير فيه. هذا بطبعه» يقضى 
بإعادة النظر فى أدوات التحليل لما فى القضايا المستجدة من حلقات معرفية متعددة 
ومترابطة (القانون؛ السياسة, الاقتصاد) . ومن لا يدرك هذه المعارف والآليات (أو يحرص 
على إدراكها) لا يستطيع نقد التجارب الإنسانية المععاصرة فى هذه الحلقات المعرفية 
المتعددة من منظور إسلامى» ناهيك عن نقضها. كما ليس من مصلحة الإسلام فى شىء 
أن يضع المجتهد حواجز إدراكية بينه وبين هذه المعارف. كل هذه أمور ليست غريبة على 
الترابى» ولا هو غريب عنهاء ولهذا يذهلنا نبذه لكل إنجازات الفكر الإنسانى» خاصة فى 
السياسة» وهو زعيم بأن له بديلاً إسلامياً أفضل منها لم يجلوه على الناس فى كتابء ولم 
تكشف عنها التجارب الإسلاموية الراهنة» بما فى ذلك تجربته . ويعنينا أمر الترابى أكثر من 
غيره لأنا أولاً نناقش التجربة الإسلاموية السودانية وهو شيخهاء وثانياً لأنا لا نضعه فى 
سطر مستقيم مع الأشياخ الفقهاء الذين صلبوا شرايين الشرع باستنساخهم للتراث حتى 
بهتت صورته الأصلية. هؤلاء أخذوا قول الإمام الأوزاعى مأخذاً حرفياً: «قف حيث وقف 
القوم» وقل بما قالواء وكف عما كفوا عنه؛. هذاء وأيم الحق إيذان بنهاية التاريخ» ولكن 
التاريخ» لم يقف عند الأوزاعىء ولن يقف عند الترابى. ومن المفارقات» كما أسلفت 
الإشارة» لجوء الحكماء القدامى لأدوات من خارج المنظومة الفكرية الإسلامية (ابن سيتاء 
ابن رشدء الفارابىء الكندىء ابن باجة) لاستنباط أحكام فى الدين» ذهبوا بها حتى إلى 
تفسير الإلهيات. لهذا من الحمق الظن بأن فى تبنى مناهج الأدلة الحديثئة خروجاً عن 
الجادة . هؤلاء» كما قلناء إغترفوا من فيض الحضارة الهيلينية» واعترفوا لأهلها بالفضل. ولا 
شك فى أن الركون إلى أحكام الفقهاء القدامى» بالرغم من صلاحيتها فى زمانها ومكاتهاء 
بل وإضفاء قدسية عليها تكاد تتكافاً مع قدسية الأصولء يفقد الإسلام راهنيته بسبب ما فى 


10055 


تلك الأحكام من تناقض جوهرى مع الواقع المعيش. هذا الركون ينبئ أيضأ عن محاولة 
لإعفاء النفس عن إعادة تشكيل الموروث ليتطابق مع المتغير. 

يصل التناقض غايته فى مجال حقوق الإنسان المعترف بها اليوم دوليأ» كما سلفت 
الإشارة . فمن العسير على أى حاكم مسلم اليوم أن يتوفر على مقولات الفقهاء القدامى لا 
يفارقهاء ليؤصل حقوقاً تتسق مع تلك التى تمنحها الشرائع الدولية الراهنة فى مجالات مثل 
الحقوق السياسية والاجتماعية للمرأة» وحقوق غير المسلم فى المجتمع المسلم؛ وحقوق 
الأرقاء حيثما كان هناك رقيق» وحرية الضمير بمعنى حق المرء فى ألا يكون له دين أو أن 
يخرج (يرتد) عن دينه. مصدر هذه الحقوق التى تواضعت عليها الإنسانية هوالإعلان 
العالمى لحقوق الإنسان الذى يقول فى ديباجته: «لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة فى 
جميع أعضاء الأسرة البشرية ويحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل فى هذا 
العالم» فإن الجمعية العامة تنادى بهذا الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على أنه المستوى 
المشترك الذي ينبغى أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة فى 
المجتمع إلى توطيد احترام هذه الحقوق والواجبات عن طريق التعليم والتربية ولاتخاذ 
إجراءات مطردة قومية وعالمية لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة فعالة بين الدول 
الأعضاءء . هذه الحقوق» إذن» لا تخضع لاختزال بسبب العقيدة أو العرق أو الجنسء كما 
ليس فى كليات الإسلام وأصوله ما يعارض أو يناقض القيم التى رفع الإعلان راياتها. 
فالإسلام دين عالمى وسرمدئء وقوام العالمية والسرمدية قيم لا تبليها طوارق الحدثان مثل 
الإحسانء القسطء التوازن بين المادى والروحىء وقبول الآخر. يقول تعالى فى الإحسان 
«للذين أحسنوا فى هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة» (الزمرة؟/ »)٠١‏ ويقول «ويدرءون 
بالحسنة السيئة أونتك لهم عقبى الدار» (الرعد 57/17) وفى التوازن بين المادى والروحى 
يقول الكتاب الكريم: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن 
كما أحسن الله إليك4 (القصص 77/78) . وفى قبول الآخر يدعو الله إلى العدل حتى مع 
ألد الخصوم يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على 
ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (المائدة ©/85) . وقد 


4536 


سعى العالم السودانى الإسلامى» محمود محمد طهء لتسور هذا المشكل بالتمييز بين الآيات 
والسور القرآنية المكية» وهى الأصول لأنها تتضمن قيمآ معيارية كالعدل والمساواة وتوقير 
كرامة الإنسان» وبين الآيات والسور المدنية التى أرست أحكاماً ونواهى عملية لا تفهم إلا 
فى إطار حالة تاريخية محددة. ابتناء على ذلك التحليل انتهى الأستاذ شهيد الفكر إلى أن 
الجهاد والرق وعدم المساواة بين الرجال والنساء ليست أصلا فى الإسلام.(4*) ومن المؤسى 
حقاً أن يكون اغتيال نميرى لذلك الشيخ المجتهد مبعث سرور لدعاة الإحياء الإسلامى» 
خاصة أولتك الذين يتحدثون عن سماحة الإسلام.(*') فالأستاذ محمودء فى نهاية الأمرء لم 
يكن أكثر من مجتهدء قد يخطئ وقد يصيبء وليس من طلب الحق فأخطأه, كمن طلب 
الباطل وأدركه. 
أفكار محمود تناولها عدد من المعلقين بأدب جم منهم الأستاذ حسون أحمد أمين فى 

مقدمته لكتاب عبد الله النعيم نحو تطوير التشريع الإسلامى (دار سيناء »)١1194‏ كما تناولها 
جمال البنا فى كتابه (الدعوات الإسلامية المعاصرة) . وحين وجد الأستاذ حسين فى تلك 
الأفكار مخرجاً منجياً من المأزق الفكرى الذى حشر فيه الفقهاء أنفسهم؛ ذهب البنا لإقرار ما 
أسماه الجوانب الحسنة فى طرح محمود مثل تقرير المساواة بين الرجال والتساءء إلا أنه لم 
يقره حول تمييزه بين آيات الأصول وآيات الفروع لأن الرسول؛ فى ما قال البناء لم يكن 
ليعجز عن تطبيق آيات الأصول فى المدينة وهو حاكمها المطلق الذى لم يظفر من أهلها 
بالطاعة فحسب. ولكن بالثقة والتقديس» وهكذا يكون الحوار بين المستنيرين. وكما قال الشاعر 
السودانى المبدع عالم عباس فى رثائه لمحمود (السطور الأخيرة فى دفتر الحلاج الثانى) 

تنهزم الأفكان نعم 

لكن بالأفكار 

يحتك المنطق بالمنطق» 

والحجة بالحجة ‏ " 

والبرهان الساطع بالبرهان 

نتجادل حتى 

ينثلم الرأى الأوهى 


11037 


فى وجه الرأى الأقوى 

تختلف كما يختلف الناس 

ولكنء يا للخزى ويا 

إن أفئكسنا حتى ضقئا 

ذرعاً بالراى الآخر. 

الشريعة التاريخية (الفقه) مازالت تتضمن حتى اليوم أحكاماً؛ لو طبقت حرفي لتجاوزت 

ما تواضع عليه العالم حول حقوق الإنسان. مثال ذلك: قطع يد السارق فى القوانين الجزائية؛ 
وتقييد حق ق المرأة فى مجال الميراث وفى قانون البينات (ع5ع10لاء 01 /131)» وإقرار الجهاد» 
والحد من حقوق الأرقاء مما يعنى الاعتراف بمشروعية الرق» وحرمان غير المسلمين من 
شغل المناصب الهامة (الولاية الكبرى) .('*؟) بعض هذه الأحكام؛ بلا شك ترتكز على 
نصوص قرآنية» كما يمثل بعضها الآخر اجتهاداً يتناقض مع كليات الإسلام. وفيما هو قطعى 
الدلالة فى الكتاب يجمع الفقهاء على ألا اجتهاد مع النصء وهذه مقولة تحتاج إلى تضييق 
عندما يتعارض النص مع واقع الحياة ومتغيراتها. فلئن جاز ذلك الحكم الصارم فى أمور 
قطعية الدلالة كالتوحيدء وفرضية العبادات» حسبما وردت فى الكتاب الكريم؛ أو اتسقت مع 
الفطرة (والإسلام دين الفطرة)» إلا أن الحكم لا يمكن أن يكون بنفس الدرجة من الصرامة فى 
الأمور التى تتغير بتغير الظروف. من ذلك اجتهاد عمر فى حد القطع (تعطيل الحد فى عام 
الرمادة)» وتبديله حكم الله فى سورة الجهاد (الأنفال) . فى الحالتين تجاوز عمر النص 
القطعى بعد أن اجتهد الرأى: لا اعتماداً على القرآن النصى (00737 16)021)؛ وإنما على 
الغايات الشرعية من ذلك النصء أى الفائدة التى قصدت إليها نصوص القرآن. وبقراريه 
هنين لم يحقق عمر للنصفة فخسياء يل حو التلام الاجطاعى . فتعطيل حد السرقة كان 
قراراً من حاكم رشيد يدرك أن الأحكام بعلتهاء فإن انتفت العلة انتفى الحكم أو عطل حتى تعود 
العلة من جديد. أما قراره حول الفىء فقد حال بين المسلمين وبين الترف المسترخىء والفساد 
الذى ينهك الأمم. كان سادات قريش من أهل الرسول فرحين بالمال الوفير الذى جاءهم نفلا 
وغنيمة» ولهم فيه بنص الكتاب حق. إلا أن عمر أخذ يبكى عندما تكدست الأموال فى بيت 


4538 


المال؛ فقيل له هذا موقع فرح. قال: «والله ما أعطى الله هذا أقواماً إلا ألقى بأسه بينهم». ثم 
قال «إن الأمة إلى تدهور كالجمل البازل (الذى طلع نابه) لا يكون بعده إلا الضعف والتدهور. 
إن قريشأ يريدون أن يجعلوا من مال الله دولة بينهم» أما وإن ابن الخطاب حى فلا. ألا وإنى 
قائم بحرة المدينة (أرض بظاهر المدينة) آخذ بحجرهم (ما بين يدى الإنسان من ثوبه) أن 
يتهافتوا على النار.. هذا الاجتهاد مع النص لم يدخل عمر فى زمرة المعطلة؛ أو يحمل فقيهآ 
على امتداد التاريخ الإسلامى لينعته بالخروج عن الدين» كما ينعت فقهاء اليوم الرافضين 
لحدود القطع والرجم. 

وقبل عمر لم يلتزم أبوبكر قول المتأخرة أن لا اجتهاد مع النص حين أنكر على فاطمة 
بنت رسول الله حقها فى ميراث أبيهاء علمآً أن القرآن يقول أن خمس الغنائم للنبى ولذوى 
القربى. قال أبوبكر نفاطمة: «سمعت النبى يقول الأنبياء لا يورثون؛ فما تركوه صدقة: 
فاستخصمت فاطمة أبابكر وجادلته بما جاء فى القرآن عن الغنائم» وما جاء فيه على لسان 
زكريا عن ابنه يحيى: «ويرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا» (مريم 1/19) لم 
يكن فى احتجاج فاطمة كفاية لأبى بكر بل علب الحديث على القرآن» لكيلا يكون المال 
دولة بين قريشء» حتى وإن كان القرشى هو فاطمة بنت رسول الله. وإلى جانب أبى بكر 
وقف عمرء فخاصمتهما حتى لحقت بربها. يعجب المرء من أمر قوم يريدون العود بنا 
لمدينة الرسولء ولا يطيب لهم الاستدلال عن طهارة الحكم ورشاده إلا بمآثر صاحبى رسول 
الله» ولكن ما أن يفاجأوا بمجتهد مستنير يسعى للاسترشاد بسوابق أرساها الرجلان» حتى 
ينتفضوا مذعورينء يهرفون بالحديث المتهالك عن إنكار المعلوم فى الدين بالضرورة: أو 
بالقول: لا اجتهاد مع النص. 

نعود لموضوع حقوق الإنسان لنقول أن جميع الدول الإسلامية ‏ بما فيها السودان ‏ 
تعترف اليوم بتلك المبادئ("")» وتتعامل معها باعتبارها أعرافاً ملزمة قانوناً.(') ويعود 
اعتراف كافة أمم العالم بهذه الحقوق؛ حسب رأى القانونى النعيم» إلى قاعدة ذهبية فى 
القانون الدولى المعاصر هى مبدأ تبادل المصالح. هذه القاعدة تقول أنه مادام كل شخص 
يعامل الآخرين كما يحب أن يعاملوه» ينبغى عليه تبعاً لذلك أن يعترف لهم بنفس الحقوق 


489 


المدنية التى يدعيها لنفسه؛ بغض النظر عما إذا كان الشخص رجلا أو امرأة(1١).‏ الطابع 
العالمى لتلك الحقوق ينأى بها عن الإقليمية ة» مما يبطل الحجج الرامية إلى نسبتها لدين 
عن تن مول المال كار أنها رتعي للسعقررن الممترخيون الى زديفاء الحقوق إلى أصل 
يهومسيحىء وفى هذا إجحاف بتلك الحقوق لأنه ينفى عنها طابعها الإنسانى. كما درج 
بعض المفكرين المسيحيين فى الغرب إلى رد أصول القوانين المعاصرة حول حقوق الإنسان 
والمفاهيم المرتبطة بها إلى الثورة الفكرية فى أورويا والتى قادها الحريون 
(163135])منذ عهدى جون لوك وجان جاك روسو. وقد أكد الفيلسوفان على مبدأ 
الحرية الشخصية» وواجب الدولة فى حماية الفرد باعتبارها حقوقاً أصلية غير موهوبة من 
أحد.(”'') هذا زعم صحيح إن عنوا به أن منظومة حقوق الإنسان وهيكليتها الراهنة نتاج 
للفكر الأوروبىء إلا أن الادعاء بأن أصول تلك المبادئ هىء» حصراًء أصول أوروبية فادعاء 
لا يسنده دليل» بل يعبر عن تمركز الأوروبيين فى ذواتهم (مموعامعء-مرية)(١ )٠١‏ وفى 
الحقيقة» ظل المفكرون الأوروبيون فى القرن التاسع عشر ‏ على اختلاف منابتهم الفكرية ‏ 
يتعاملون مع الأغيار باعتبارهم برابرة لا يحق لهم التمتع بمثل تلك الحقوق. هذه النظرة 
الازدرائية للأغيار يتفق فيها جون ستيوارت ميل مع فريدريك انجلزء رغم اختلاف 
اتجاهاتهما الأيديولوجية .("'') ثانيء أغفل المفكرون الأوروبيون» فى سعيهم اللاهف لقصر 
الأصول الفكرية لحقوق الإنسان على عصر التنوير فى أوروباء احيامة الحضارات 
و الأديان الأخر. ى مثل اليهودية والمسيحية والإسلام فى إرساء مفاهيم حة حقوق الإنسان . ثالتاً 
لم تخل أفكار بعض أهم الأباء المؤسسين الأوروبيين لمنظومة الحقوق السائدة اليوم من تحيز 
عرقىء مثال ذلك شارل لويس مونتيسكيو صاحب روح القوانين» الذى برر استعباد السود 
فى أمريكا لأن «الله لا يضع روحاً طيبة فى جسم أسودء. لكل هذه الأسباب يتعارض مع 
حقائق التاريخ هذا الحصر العقلى (أى الإثبات أو النفى اللذين لا يجيز العقل شيئا آخر 
غيرهما) لاستكشاف حقوق الإنسان على أوروبا وحدها. فمسيح النصارى؛ عيسى لم يكن 
أوروبياًء كما لم يكن نبى اليهودء موسى أوروبياآً هوالآخر. رسالات هذين النبيين 
ووصاياهما حضت على توقير كرامة الإنسان» وعلى التسامح؛ وعلى فعل الخير. أما فى 


490 


الإسلام» فقد جسدت الآيات القرآنية» كأروع ما يكون التجسيدء مبادئ إنسانية رائعة تكرس 
حق الحياة: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن 
أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا): (المائدة: ©/7*)؛ والاستقامة: سأل عبد الله الذقفى 
الرسول : «قل لى قولاً فى الإسلام لا أسأل بعدك أحداً عنه:. قال الرسول: «قل أمنت 
بالله ثم استقم»؛ والمساواة بين البشرء ففى خطبة الوداع: «أيها الناس إن ريكم واحدء وإن 
أباكم واحد. كلكم لادم وآدم من ترابء لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى». ولكن» يظل 
الإسلام قاصرأ عن الإستجابة لنزوع إنسان العصر الحالى إلى قيم الحرية والكرامة بمعناها 
المتعارف اليوم» طالما استمر الإسلامويون الجدد فى الريط بين تلك المفاهيم والشريعة 
(الفقه) . فالإسلام» كما يفهمونه ويوضحونه للناس» يصبح عدواً للحضارة» وخصماً للتقدم. 
إن وقوف الإسلام فى صف واحد مع المفاهيم العصرية لحقوق الإنسان هو وحده الذى 
يجعل منه نصيراً للحضارة والتقدم. ولكيما يحدث هذاء لابد من تغيير داخلى فى مناهج 
الاجتهاد يفضى إلى تناغم بين المعارف والخبرات الحديثة والاجتهادات القديمة» وبين القيم 
الإنسانية ومبادئ الدين الحنيف. 

إن المبادئ المعاصرة لحقوق الإنسان» كما قلناء لا تتناقض بأى حال من الأحوال مع 
القيم المعيارية الثابتة فى الإسلام؛ أو قيم أى دين آخر يكرم الإنسان. وقد استرشد أليهود 
والنصارىء إلى حد بعيدء بالقيم الأخلاقية السامية المنصوص عليها فى المسيحية واليهودية 
فى موقفهم من قضية حقوق الإنسان» دون أن يحبسوا أنفسهم داخل القوالب الضيقة التى 
ابتدعها أباء الكنيسة القدامى فى تفسيراتهم لكتبهم المقدسة. ولن يفيد الإسلام فى شىء 
لجوء المجتهدين المعاصرين إلى سرقة أردية الآخرين والتجلبب بهاء ثم نسبتها للإسلام. 
مثال ذلك أحكام الشيخ يوسف القرضاوى الذى كتبء مثلاً» يقول «الشورى ملزمة والخليفة 
أو رئيس الدولة ينتخب انتخاباً عاماً وإن مدة رئاسته محددة ثم يعاد انتخابه مرة أخرى. 
وإن أهل الشورى هم الذين يرضاهم الناس عن طريق الانتخاب وان للمرأة حق الانتخابات 
والترشيح.("'') لو قال الشيخ المجتهد إن منهج الحكم الذى توصلت إليه الليبرالية الغربية 
هو نموذج جدير بالاقتداءء أو أنه لا يتعارض مع مقاصد الإسلام وكلياته» لقبلنا فتواه. أما 


491 


أن يذهب للقول بأن مناهج الحكم غربية الأصل هى الشورى بعينهاء فهذا وأيم الحق 
مصادرة على المطلوب. فالشورى التى يقول الشيخ» ويزعم معه الإسلامويون اليومء أنها 
مرادف للديموقراطية الليبرالية كانتء كما أبناء مقصورة فى الدولة الإسلامية التاريخية 
على النخبة من الذكور "الأحرار المسلمين؛ لم تشمل النساء» ولم تشمل العبيدء ولم تشمل 
المعاهدين الذميين. كما لم تعرف تلك الدولة الإسلامية نظاماً للانتقال السلمى للسلطة» إذ 
حكم الخلفاء الأربعة (أو الخمسة إن أضفنا لهم الحسن) الدولة الإسلامية ولم تكن ولاية أى 
منهم محدودة بزمان إلى أن توفاهم الله» ومنهم من اغتيل فى صراع سياسى (عثمان 
وعلى والحسن) . وكما أسلف الذكر تحولت الدولة الإسلامية بعد صفين إلى هرقلية 
بيزنطية» أو كسروية فارسية. فأى مرجعية إسلامية تلك التى لجأ إليها الشيخ لاستنباط 
حكمه. ما نسعى لنقصّه هنا أمر محدد: الزعم بأن الشورى التى وردت فى القرآن» 
ومورست فى الديوان الأميرىء هى الديموقراطية بمعناها الليبرالى: المشاركة الشعبية فى 
اختيار الحاكم عبر الانتخابات» حقوق المواطنين فى تلك المشاركة دون تمييز على أساس 
الدين أو الجنسء الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائيةإلخ. هذا التلفيق لا يفيد 
الإسلام بأى درجة من الفائدة» بل هو قرصنة فكرية من فقهاء تقاصرت هاماتهم؛ من 
ناحية» عن هامات فقهاء الزمان الخالى الذين اجتهدوا الرأى» ما استطاع فكرهم لذلك 
سبيلا لكيما يوفقوا بين الذابت والمتحول. ومن ناحية أخرىء, عجزواء فيما هو بائن» عن 
استيعاب الفكر الحديث فسعوا إلى قبره . فمنظومة حقوق الإنسان التى تنطلق من قاعدة 
معرفية إنسانية» وليس بالضرورة من أصول غربية» هى اليوم فروض لا نوافل. ومن يقول 
أنها تتعارض مع أصول الدين» يجهل تلك الأصول ويرمى بنفسه خارج إطار التاريخ. 
التلفيق لم يقف عند الفقهاء» بل شمل الدول والمؤسسات. فعلى سبيل المثال أعد الأزهر 
فى عام 1975 ما أسماه مشروع دستور إسلامى7؛ '')؛ كما صدر فى عام ١18١‏ ما عرف 
بالإعلان الدولى لحقوق الإنسان فى الإسلام. على إعداد ذلك الإعلان فى باريس أشرفت 
مجموعة من العلماء المسلمين المحافظين تحت رعاية المجلس الإسلامى العالمىء وقدمته 
إلى اليونسكو كوكبة من الزعماء ضمت رئيسين سابقين: أحمد بن بيلا والمختار ود داده. 


1002 


وفى عام ١995‏ صدر إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان فى الإسلام. جميع هذه الوثائق 
تضمنت اجتهادات الفقهاء المعاصرين لتأصيل العهود الدولية لحقوق الإنسان فى الإسلام. 
وهذا بلا شكء اعتراف بأن التزام الدولة الإسلامية بعهود ومواثيق حقوق الإنسان أمر لا 
معدى عنهء ولا مهرب منه. ولعل هذا أيضاً هو السبب الذى حدا بمنظمة الدول الإسلامية 
للنص فى ديباجة ميثاقها على إلتزام الدول الأعضاء بالقانون الدولى وحقوق الإنسان 
الأساسية. 

ولكنء إن كان فى منظومة حقوق الإنسان نص واحد يعلو على كل النصوص. فذاك هو 
النص على حق المساواة ( المادة ١‏ من الإعلان الدولىء المادتان “ و١7‏ من العهد الدولى 
للحقوق المدنية والسياسيةء المادتان 7١‏ من الاتفاق الدولى لإزالة كافة أنواع التمييز ضد 
المرأة ) . حق المساواة هذاء فيما يتعلق بالمرأة» أخضع فى الوثائق الإسلامية المشار إليها 
للشريعةء بالرغم من أن المادة ٠(أ)‏ من إعلان القاهرة تقول أن كل الأشخاص متساوون 
أمام الشريعة» لا تمييز بينهم فى تطبيقها عليهم وحمايتها لهم. ولكنا نعرف جيداً أن 
الشريعة» كما يفهمها الفقهاء المعاصرون امتذالاً لأحكام الفقه الموروثء هى قانون غير 
محايد إذ يميز الذكر على الأنثى» والحر على العبدء والمسلم على غير المسلم فى بعض 
الحقوق الأساسيةء فى حين أن القاعدة القانونية فى المساواة تقوم على الحيدة والتجريد. 
هذه المساواة تذ تحار فى كير بع لواحا التتركة إلى حدر الشريتة ( شاد ادن 
إعلان القاهرة)» وهو تقييد لا ينطبق على الرجال. كما تنتفى.فى الزواج عندما تقول المادة 
5() أن لا تمييز فى الزواج على أساس العرق أو اللون أو الوطن» وتصمت المادة على 
التمييز على أساس الدين. نفس الأمر ينطبق على حق المرأة فى الميراث والذى أخضعه 
فقهاء الأزهر فى مشروع دستورهم للشريعة. ومن المفارقات أن ينص إعلان القاهرة على 
أن المعتقد يضمن الكمال البشرى ويحفظ الكرامة» فى حين يحدد هذا المعتقد» وفق رؤية 
الفقهاء له» درجات ومستويات مختلفة للكرامة الإنسانية. ونكاد نجزم بأنا لوقلنا لهؤلاء 
الفقهاء أن المشروعية السياسية لحقوق الإنسان المعاصرة مستمدة من عقد اجتماعى بين 
مواطنى الدولة لكفالة حقوق طبيعية ولد بها الإنسانء لقالوا: الإسلام أسبق إلى هذا؛ أو ليس 


0003 


عمر هو القائل: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. نحن مثلهم ندرى ما قال 
عمرء ولكنا أكثر دراية ووعياً منهم بأن عمرء تأكيداً لمقاله» لم يكن يعبد النصوص. هذا 
مثال آخر لروغان الفقهاء المعاصرينء فالقضية ليست هى ما قاله عمرء بل هى انعكاس 
مقاله فيما يصدرون من أحكامء كما ليست هى ما جاء به كتاب الله» بل هى بداية المجتهد 
ونهاية المقتصد فى قراءة الكتاب. 
من الواضح أن الفقهاء المجتهدين قد التزموا التزاماً صارماً بما ورد فى الكتاب حول 
حقوق المرأة فى سورة النساء. بيد أن تلك الأيات لا تفهم إلا فى سياقها التاريخى حيث 
تنزلت بعد هزيمة المسلمين واستشهاد عدد كبير منهم مما اقتضى تقنيناً جديداً للطلاق 
والميراث . ذلك التقنين منح حريات واسعة للمرأة فى مجتمع كان مكان المرأة الطبيعى فيه 
حك اكرات (وإذا بشرأحدهم بالأنثى ظل وجهه ممبوداً وهو كظيم . يتوارى من القوم 
من سوهِ م بشربه أيمسكة على هون أم يدسته: فى الدراب ألا مناء :ما يحكمون» (التحل 
24-5) ولم تكن العرب وحدها هى التى تضطهد المرأة» إذ كان ذلك هو الحال عند 
الإغريق» ففى قول الحكيم أرسطو طاليس ما خلق العبيد والإناث إلا من أجل العمل وإشباع 
شهوة الجسد. ذلك أيضاً كان هو حال المسيحية التى جعلت للرجل سلطاناً كاملاً على المرأة» 
ففى رسالة بولس الرسول إلى أهل كورينثوس: «ليس للمرأة تسلط على جسدها بل للرجل؛. 
ذلك الانتقاص للمرأة» رغم كل ما جاءت به منظومات حقوق الإنسان منذ الثورة الفرنسية» 
ظل أيضاً باقياً فى أوريا. فالمرأة ظلت محرومة من حق الانتخاب فى أوروبا حتى عام 
71 حيث منحت ذلك الحق للمرة الأولى فى فنلنداء ثم تلتها النرويج 11177 والدنمارك 
© . فى حين لم تحصل المرأة على ذلك الحق فى بريطانيا مهد الماقنا كارتا إلا فى عام 
ا اما فى فرنساء موطن ميثاق حقوق الإنسان والمواطنء فقد انتظرت المرأة قرابة 
قرنين من تلك الذورة لتحصل على ذلك الحق فى »١1344‏ كما انتظرت الأمريكية قرنين 
من الزمان بعد الثورة الأمريكية لتحصل على حق الانتخاب عام . 
أياً كان الأمرء نعود للسياق التاريخى لأحكام الإسلام حول المرأة لنقول أن الإسلام قد 
قطع شأوأً كبيراً فى إنصاف المرأة بمقاييس ذلك الزمان. فعندما يأتى القانون الإلهى 


494 


الإسلامى ليقول ٠ولهن‏ مثل الذى عليهن بالمعروف»؛ وليجعل للأنثى المهينة ميراثاً فى 
أبيها وزوجها وفى ميراث الكلالة ( ألا يكون للميت أبناء يرثونه ومات أبواه قبل موته 
فيرثه الإخوة والأخوات )» فهذا تطور كبير. هذا كان هو حال المسلمين يومذاك؛ ولكنا اليوم 
نعيش فى عالم آخر أصبحت فيه المرأة صنواً للرجل فى العملء والإنتاج» وإععالة الأسرة. 
والحكم» والدفاع عن الوطن. ولم يعد معيار القوة فيه هو العضلء بل العقل. لهذا كان طبيعياً 
أن تصبح للمرأة حقوق تتكافاً مع حقوق الرجلء بحكم إنسانيتها لا بجنسوتها. للمرأة فى 
شرع اليوم حق فى الولاية الكبرى؛ وحق فى القضاءء وطالما ظل الفقهاء يخضعون ولاية 
المرأة لمفاهيم القوامة (الرجال قوامون على النساء)» أو القصور الطبيعى للمرأة*'') فلن 
يستطيع أولكك الفقهاء الزعم بأن الإسلام أسبق من غيره إلى الاعتراف بحقوق الإنسان كما 
نعرفها اليوم. فالقضية ليست هى مخاصمة الإسلامء وإنما هى توافق أحكامه مع نبض 
العصر. فالمادة الثانية من الإعلان الدولى تقول «لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق 
والحريات الواردة فى هذا الإعلان دون أى تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو 
الدين أو الرأى السياسى أو الأصل الوطنى أو الاجتماعى أو الميلاد» . 

السودان كان أكثر حظاأً من غيره من الدول الإسلامية إذ تولت فيه المرأة القضاء منذ 
عام 1114 (القاضية إحسان محمد فخرى)» لم تسبقه فى هذا سوى دولتين عربيتين 
(الجزائر 1577 والمغرب .)١147١‏ ومن حسن حظ السودان أيضآ أن ولاية المرأة للقضاء 
فيه لم تخضع لأحكام الفقهاء القدامى مثل تلك التى تقول بحرمانها من القضاء فى الدماء» 
أوارتهان صلاحيتها له فيما تؤخذ به شهادتهاء فأهلية القضاءء كما قالوا تدور مع أهلية 
الشهادة (رأى أبى حنيفة وابن حزم والكاسانى) . وعند الأخير ما للمرأة من القضاء فى 
الحدود شىء لأنه لا شهادة لها فيها (البدائع) . ومن المفارق أن الفقهاء الثقاة فى مصرما 
زانوا يتجادلون حتى مطلع عام 2٠١7‏ اليوم حول حق المرأة فى ولاية القضاء. ذلك الجدل 
ظل قائماً منذ أن انتقلت الدكتورة عائشة راتب فى عام ١167‏ بشكواها لمجلس الدولة 
تطالب بحقها الدستورى فى الانخراط فى السلك القضائىء وهو حق تكفله لها المادة ١5‏ من 
الدستور المصرى (المساواة) . وكان للقانونى الكبير الدكتور عبد الرزاق السنهورى رئيس 


405 


مجلس الدولة» رأى غريب قال: :إن منع المرأة تولى القساء لا يخل بمبدا المساواة أمام 
القانون» لأن للإدارة الحق فى غير تعسف أن تقدر ما إذا كان الوقت لم يحن بعد بسبب 
بعض الاعتبارات الاجتماعية لأن تتولى المرأة بعض المناصبء. ولا شك فى أن لفتوى 
فقهاء الأزهر يومذاك بعدم جواز ولاية المرأة القضاءء أثر فى حكم السنهورى. 

فى السودان» رغم ولاية المرأة القضاءء وعدم التمييز بينها وبين الرجل فى الشهادة 
حسب القوانين السارية منذ مطلع القرن الماضىء جاء نميرى فى قوانينه العشوائية ليدخل 
هذا التمييز فى الشهادة اعتماداً على القرآن النصىء فى الوقت الذى أبقى فيه على حقها فى 
ولاية القضاء. وعلى مثاله سارت الجبهة. وهكذا أصبح أى ذكر جلف أكثر كفاءة فى 
الشهادة من المرأة حتى وإن كانت أستاذة فى الجامعة: أو وزيراً حاكماً يأمر وينهى. 
وللأستاذ محمود رسالة حول تطوير شريعة الأحوال الشخصية استهلها بكلمات بريعات: «إلى 
أكبر من استضعف فى الأرضء ولا يزال.. إلى النساءء(''). ولعلنا نشير إلى أن الدولة 
الإسلامية الوحيدة فى الوطن العربى التى ذهبت إلى إعادة النظر فى قوانين الأحوال 
الشخصية بما فى ذلك تحريم تعدد الزوجات» هى تونس. وكان رئيسها المؤسسء الحبيب 
بورقيبة محل نقد عنيف من فقهاء المشرق والمغرب (علماء الزيتونة) لتجاسره على تحريم 
ما أحل اللهءعلماً بأن منع تعدد الزوجات حكم ذهب إليه الإمام محمد عبده . أهم من ذلك 
ما استشفه المجتهدون من سيرة رسول الله» إذ جاء فى الصحيحين أنه عندما رغب بنو 
هاشم بن المغيرة تزويج ابنتهم لعلى بن أبى طالب قال الرسول :2 هلا آذن لهم, ثم لا آذن 
لهمء ثم لا آذن لهم. اللهم إلا أن يحب ابن أبى طالب أن يطلق ابنتى وينكح ابنتهم. فإن 
ابنتى بضعة منىء يريبنى (يصيبنى) ما رابهاء ويؤذينى ما آذاهاء وإنى أخشى أن تفتن فى 

فى النهاية نقول» إن كان للإسلام أن يصبح دين البشرية جمعاء؛ وعلى مر الزمان؛ فلا 
بد لأحكامه من أن تقولب وفق اجتهاد مستبدع يواكب التطور الإنسانى . فتنزيل النصوص 
القديمة على واقع جديد لا يستقيم دون إدراك تفصيلات هذا الواقع» كما لا تستدرك مقاصد 
النصوص دون وعى بأسباب نزولها. هذا ما فعله أبو بكر بعد بضع سنوات من وفاة 


406 


الرسول؛ وفعله الفاروق من بعده كما أوضحنا من قبل. فالذى يكسب الدين سرمديته هو 
القدرة على التمييز بين ما هو كونى جامع وخالد (5د5ها0:) 300 [2)05176:58 وما هو 
استثنائى وعارض مشروط (202]12867 0لة 135ناء31:03م) . هذا نمط من الاجتهاد لا قدارة 
للذين لا يرون حتى فى لغة المجاز والسجال فى القرآن إلا أحكاماً قاطعة لا اجتهاد معها. 
إن النظر لهذه الأحكام خارج إطار الواقع التاريخى الذى أملاها يصبح عبادة للألفاظ تودى 
بصاحبهاء كما قال المستشار عشماوىء إلى تفكير لفظى اجترارى.("'') وسيظل هؤلاء 
يهاجرون حتى آخر الزمان إلى الماضى فى حين يغذى العالم السير إلى المستقبل. 

فيما تقدم» سعينا لأن نبين أن أحكام الإسلام السياسى التاريخى (من حيث تكوين الدولة 
وتحديد واجبات الحاكم» وحقوق الرعية) لا تلائم الواقع المعاصرء كما قد يتعارض الامتثال 
الحرفى لها مع مقاصد الدين. فما هى الأصول المرجعية التى اعتمد عليها الفقهاء فيما 
مضىء واستكان لها دون تمييز ذوو العقول الإسفنجية فيما بعدء لاستنباط الأحكام . 
الأصولء بلا خلافء هى الكتاب والسنة. وقد من الله على الإسلام بإكمال تسجيل القرآن 
فى عهد الخليفة الثالث» وأصحاب الرسول أحياء. لم يكن حاله كحال التوراة التى فقدت فى 
الأسر البابلى؛ ولم تر النورإلا بعد بضعة قرون بعد تحرير قورش الفارسى لسبى بابل من 
اليهودء أو حال الإنجيل (العهد الجديد) الذى تم تسجيله بعد مائة عام من رفع المسيح 
(إنجيل مرقصء إنجيل لوقا المأخوذ عن مرقصء وإنجيل يوحنا الذى يطلق عليه اسم إنجيل 
العقيدة» وإنجيل متى)» مما جعل للكتاب المقدس أربع روايات أدلى بها أربعة شهودء ثلاثة 
منهم من الصحاب الحواريين. 

رغم ذلك» وقع فى تفسير القرآن اختلاف كبيرء فحتى أمهات كتب التفسير لم تتفق فى 
طرائق إقبالها على النصوص القرآنية. فتفسيرا الطبرى وابن كثير غلبت عليهما النزعة 
التاريخية» وليس هذا بمستغرب من صاحبى «تاريخ الأمم والملوك: و«البداية والنهاية:؛ 
وتفسير القرطبى فقهى المنحىء وتفسير الفخر الرازى يسوده النهج الكلامى لأهل السنة» 
وتفسير الزمخشرى المعتزلى به جهد مقدر للمطابقة بين النص والعقل. فالخلاف فى سبل 
الإقبال على تفسير القرآن أو تأويله كبير بين المفسرين» ولعل فى ذلك تأكيدا لما روى عن 


007 


عبد الله بن عباس: «لقد أنزل علينا القرآن فقرأناه» وعلمنا فيم نزل. وسيكون بعدنا أقوام 
يقرأون القرآن» ولا يدرون فيم نزل؛ فيكون لهم فيه رأى ثم يختلفون فى الآراء ويقتتلون 
فيما اختلفوا فيه». لكل هذا نرى أنه مع أهمية هذه الشروح والتفاسير القديمة لكتاب الله؛ إلا 
أن الاعتماد المطلق عليها لا يعين على فهم عصرى لمعانى الكتاب. فالتفسير ليس هو 
مقايسة للجديد على النص (منهج القدامى)؛ بل ينبغى أن يكون طرحاً للأسئلة الجديدة 
على كليات القرآن وأصوله» وليس فقط على نص واحدء إن كان المبتغى هو الحبصول على 
إجابات على ما استجد على المسلمين. ولريما سعى لهذا المفسرون الإصلاحيون فى العهود 
التالية» مثل محمد رشيد رضا ( تفسير المنار) . 

القرآن» كما قال الإمام علىء لا ينطق بنفسه» وإنما ينطق به الرجال. ولو كان القرآن 
النصى بحروفه وكلماته يرفع الأحكام ويظهرهاء لما كانت هناك حاجة لمفسرين. فظاهرة 
التفسير نجمت عن ضرورة إيجاد مسوغ شرعى لممارسات مستحدثة» أو تبيين وتعيين 
المعانى التى قصد إليها النص كلما استشكل فهمه على الناس. حدث هذا حتى بعد وفاة 
الرسول بقليلء إذ إنبرى لتفسير القرآن صحابة أعلام: على بن أبى طالبء عبد الله بن 
عباسء» عبد الله بن مسعودء أبى بن كعبء وأقل منهم زيد بن ثابت» وأبو موسى الأشعرى» 
وعبد الله بن الزبير. على أن الأستاذ أحمد أمين» فى كتابه النفيس فجر الإسلام؛ آثر 
الاقتصار على الأربعة الأول لأنهم أكثر من غذى التفسير. وبتطور الزمانء وتوالى الحدثان 
أخذ التفسير منحى آخر حسب طبيعة البيئة الفكرية التى نشأ فيها المفسرء والقضايا التى 
شغلت أهل زمانه» ومناهج الأدلة التى كانت سائدة فى ذلك الزمان. وكان أكثر ما عنى به 
المفسرونء فى البدءء اللغة» فاللغة هى مناط الدلالة فى الكتاب» فلا مشاحة من العناية بها 
فى تفسير الكتاب وتأويله(*"'). إلا أن بعض المفسرين ذهبوا مذهباً قصيا عندما أعطوا وزناً 
كبيراً فى تفاسيرهم للبيان والمعانى مثل الزمخشرى الذى كان فخوراً بما كتب )''١(‏ أو 
أوغلوا فى بحوث أكاديمية الطابع حول الأشباه والنظائر(''')» قد تفيد اللغة» ولكنها ليست 
ذات صلة مباشرة بتطوير الفقه . من هؤلاء نبغ مقاتل بن سليمان البلخى صاحب التفسير 
الكبير (القرن الرابع الهجرى)» والذى صذر كتابه بحديث واضح الانتحالء ما أراد به إلا 


408 


تضخيم قدراته. روى مقاتل عن الرسول عله: «لا يكون الرجل فقيهاً كل الفقه حتى يرى 
للقرآن وجوهاً كثيرة؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد) . وسبقه إلى ذلك فى القرن الثالث 
الهجرى العالم اللغوى قطرب(''١)‏ (محمد بن المستدير) الذى أنشأ معانى القرآن» وكان من 
أهل الاعتزال. كما اندفع آخرون إلى استقصاء أمور لم تضف شيئاً إلى الفقه والتشريع 
والإيمان مثل الحديث عن الفترة التى قضاها أهل الكهفء أو نوع الخشب الذى بنيت منه 
سفينة نوح. هذا الخروج عن الجوهر والانهماك فى التوافه يعود إلى الظن بأن قصص 
القرآن كانت تروى حقائق تاريخية» فى حين أنهاء فى كثير من الأحوال؛ لم تكن أكثر من 
رموز وإشارات مجازية بلاغية. ومن المؤسى أن وعاء فقهاء زماننا هذا لم يتسع لإدراك 
هذه البديهيات عندما خرج على الناس الأستاذ محمد أحمد خلف الله بكتايه الممتع «الفن 
القصصى فى القرآن»: فكفروه . أعد خلف الله كتابه تحت إشراف الشيخ العالم» أمين 
الخولى» وحملت الشيخ أمين غلواء المتفيقهين الذين أفتوا بردة تلميذه خلف الله على القول: 
«إنها محنة عقلية وأزمة فكرية وسقطة خلقية». وحق للشيخ أمين أن يقول ما قال لأن بعض 
الذين اتهموا خلف الله بالردة لم يقرأواء فيما يبدو كتابه بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما 
يأتهم تأويله» (يونس١٠/59).‏ 

عقب وفاة الرسول كان الخلاف بين المفسرين قليلاً وكان خلاف تنوع لا تضادء خاصة 
وقد دار أغلب التفسير فى مدينة الرسول بين الأحياء من صحابه. كما لم تبلغ مشاكل المجتمع 
من التعقيد الحد الذى بلغته فى الفترات اللاحقة بعد اختلاط المسلمين بالشعوب والممالك 
الأخرىء وتأثرهم بعوائد أهلهاء وتعرضهم لأفكارها. هنا دخل التفسير مرحلة أخرى هى 
التأويل» أى صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها غير مخالق للكتاب 
والسنة عن طريق الاستنباط ( تفسير البغوى) . ذلك التفسير الاستدلالى هوما يعرف عند أهل 
الغرب بالهرمنيوطيقا .(125)نا065716726) . فى استدلالهم هذاء كان المفسرون يستعينون بالنظر 
إلى أسباب نزول الآياتء للتعرف على خفايا معانيها وعلة نزولهاء فالأحكام بعلاتها. وكما 
يقول الإمام ابن تيمية فى مبحثه الصغير ( أصول التفسير ) العلم بالسبب يورث العلم 
بالمسبب. ومع أن هذا التفسير الاستدلالى قد أعان الفقه الإسلامى كثيراً فى المقاربة بين 


499 


أحكام القرآن والظواهر المستجدة» وفتح الباب لإعمال الفكر فى تفسير آى الذكرء إلا أنه لم ينج 
أيضاً من الاستغلال الأيديولوجى . فقد أشرناء مثلاً» إلى كيف ذهب المتصارعون على السلطة 
(موقعة النهروان» موقعة صفينء موقعة الجملء الخلاف بين الأمويين وآل البيت) إلى تطويع 
القرآن لأهدافهم الدنيوية. وكان هذا هو الحال أيضاً فى خلافات المتكلمة عندما ذهبوا إلى حمل 
ألفاظ القرآن على أفكارهمء فأخطأ بععضهم فى الدليل والمدلول. ومن مخاطر القراءة 
الأيديولوجية للنصوص أنها تعبر عما يريده المفسرء لا عما يبتغيه صاحب النصء فما بالك إن 
كان صاحب النص هو الشارع الأعظم. فى هذا المنهج فى التفسير ترخص غير محمود يعفى 
المفسر من ضوابط البحث الرصين. كان من أخطاء المفسرين أيضأ التلبث عند تفصيلات 
القرآن» بدلاً من الاستناد إلى مضامينه العامة» فالمضامين العامة وحدها هى التى تجعل 
الكتاب صالحاً لكل زمان. من تلك المضامين العدل» الإحسانء والقسطء الصدقء ولا يتم 
استنباط هذه القيم الخلقية والصغات المعنوية من آى الذكر إلا بالتفكر والعقل. المفسر الذى لا 
يفعل هذاء «كمن له لقحة درور (ناقة حلوب) لا يحلبهاء ومهرة نذور (كثيرة الولد) لا 
يستولدهاء كما قال الزنمخشرى (الكشاف )١78/74‏ هذه القيم المعنوية ترددت خلال القرآن» 
أكثر بكثير من آيات الأحكام والجزاء. فالتفسير والتأويل يتنكب الطريق إن لم يستهدء فى البدء» 
بهذه الأحكام الكلية . كما أن الاختزال الاصطفائى للآيات لتبرير فتوىء أو تأييد حكم قد يوقع 
المفسر فيما نهى الله عنه «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك 
منكم إلا خزى فى الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العقاب وما الله بغافل عما تعملون» 
(البقرة 28/7) . وللإمام محمد عبده رأى حصيف فى الموضوع ؛ قال: «انحرف الجمهور 
الأعظم من المسلمين عن جادته بالتأويل وأضافوا إليه ما شاء الهوى من الأباطيل. هذا كان 
شأنهم فى السجايا والأعمال» نسوا طهارته؛ وباعوا نزاهته. أما فى العقائد فتفرقوا شيعاً وأحدثوا 
بدعأء ولم يستمسكوا من أصوله إلا بما ظنوه من أشد أركانهاء وتوهموه من أقوى دعائمهاء وهو 
حرمان العقول من النظر فيه؛ (عبده» الأعمال الكاملة) . 

نجىء من بعد إلى المصدر القانى ألا وهو السنة» لنبداً بقول الإمام المجتهد ذى 
الإشراقاتء أبى إسحق الشاطبى الغرناطى. قال الشاطبى: "الكتاب مقطوع به والسنة 


200 


مظنونة» والمقطوع به مقدم على المظئون. وقد اختلط كثيراً مفهوم السنة بالحديث» ولاشك 
فى أن الشاطبى عندما تحدث عن السنة المظلونة لم يكن يعنى ما نسب إلى رسول الله من 
قول أو فعل أو تقرير بدلائل ثابنة» وإنما عنى الأحاديث. فقبل قبضه بعد أقل من ثلاثة 
أشهر من حجة الوداع قال رسول الله 2 «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به 
كتاب الله . ولا خلاف بين المؤرخين والثقاة من كتاب السيرة حول صحة تلك الخطبة. ثم 
جاء من بعد أبوهريرة» نساج الأحاديث» ليضيف إلى تلك الخطبة التى اجتمع كتاب السير 
على الصورة التى جاءت بهاء حديثاً رواه عن جابر: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهماء 
كتاب الله وسنتى ولن يتفرقا حتى يرد على الحوض؛ (الجامع الصغير للألبانى) . وكان لابد 
للشيعة» من بعد أن يضيفوا للحديث مايكسب دعاواهم عصمة رسولية فأضافوا أيضأ عن 
جابر «سمعت رسول الله يقول تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتى آل 

فى حقيقة الأمرء لا تعنى كلمة السنة فى اللغة أو القرآن الحديث. ففى المعاجم؛ السنة 
هى المنهاج أو الطريقة» وفى الكتاب الكريم لم ترد كلمة سنة إلا بمعنى الطريقة أو المنهاج 
فى كل الأيات التى وردت فيها : سنة من قد أرسلناء سنة الأولين» سنة الذين خلوا من قبل. 
ولا مشاحة فى قبول الأحاديث الصحيحة الثابتة إن كانت تعبر صدقاً عن أمر نهى عنه أو 
قرره الرسول؛ ويكون الواجب الاتباع بهذا الفهم هوء فعل الرسول وليس الحديث المروى. 
فالأحاديث جميعها جاءت من رواة بشر نقلاً عن بشر آخرين. فما هى هذه الأحاديث» 
خاصة ولم يعرف عن الرسول قبل وفاته تسجيلا لأحاديثه» أو أمرأ بتسجيلهاء رغم أن 
بعض أصحايهء قبل التدوين وبعد وفاته» اشتهروا بالرواية عنه مثل ابن عباسء وعطاء ابن 
أبى رباح» وعكرمة البربرى مولى ابن عباسء وسعيد بن جبيرء وسعيد بن المسيب. 

ميز علماء الحديث بين الأحاديث والمراسيلء والأخيرة هى تلك التى رويت عن التابعى 
دون ذكر للصحابى الذى رفعها للنبى» أى سقط فى إسنادها اسم الصحابى. ولم يبدأ تدوين 
الأحاديث إلا بعد قرنين من وفاة الرسول ؛ سجل منها البخارى ستمائة ألف حديث لم 
يصح عنده منها إلا 71777 وسجل تلميذه مسلم ثلاثمائة ألف حديث لم يصح عنده منها 


501 


إلا 1777 . وكان للبخارى منهج روحانى؛ أكثر مما هو علمى موضوعىء فى التثبت من 
صحة الأحاديث التى انتقاها. قال إنه كان يسجل الأحاديث التى انشرح صدره لها بعد 
الصلاة والاستخارة. وهكذا أصبحت لأهل السنة كتب صحاح فى الحديث لايتجاوزونها 
أبدأء صحيحا البخارى ومسلمء مسند أحمدء مسند أبى داودء مسند ابن ماجهء مسند النسائى» 
مسند الترمذىء والأخير تضعفه كثرة الأحاديث المستنكرة فيها. ولم يجرؤ العلماء من أهل 
السنةء عبر القرون» على مراجعة هذه الأسفار وفق ما أتيح لهم من معارف جديدة» كما 
فعل الشيعة باختيارهم لمسند واحد هو الكافى وقالوا عنه: «فى الكافى ما يكفى:. كما لم 
يتجاسر فقيه سنى واحد على نقد تلك الكتب الصحاحء كما نقد الفقيه الشيعى أبو الفضل 
الرضا كتاب الكافى» بل هشمه؛ على ذلك يدل عنوان كتابه حول الكافى: «كسر الصنم:ء 
والذى إنتهى فيه إلى أن الكافى هو القرآن. ولعل الخطأ الكبير الذى وقع فيه المحدثون منذ 
البداية هو العتاية بالأسانيد لا المتن. ويدفع إلى الغبطة أن عالماً إسلامياً معاصراً (جمال 
البنا) قد أعلن على الناس أنه عاكف على هذا الجهد فى كتاب سيصدرهء واختار له عنوانا 
تجريد البخارى ومسلم من الأحاديث التى لا تلزم. بدلا عن العناية بالمتن توقف جهد 
المحدثين من أهل السنة عند الجرح والتعديل("'') لإثبات صحة الأسانيد. ولعلهم لو فعلوا 
لزكنوا إلى ما فى تلك المتون من نقائض» خاصة الأحاديث التى شاعت فى العصر الأموى 
فى أعقاب الفتنة الكبرى؛ والتى كان بعضها يؤيد طرفأًء والبعض يؤيد الطرف الآخر فى 
الصراعء مما وصم تلك الأحاديث بتحيز أيديولوجى واضح. 

وكان لأمير المؤمنين عمر موقف صريح من الأحاديث؛ لم يكن عمر يقبل حديثاً منسوباً 
إلى الرسول إلا بشاهدين» باستثناء ما كان يورده عبد الرحمن بن عوفء, وسعد بن أبى 
وقاصء وأبو عبيدة بن الجراح. ويروى عنه سؤاله لحذيفة بن اليمان إن كان للرسول قول عن 
الفتنة. أجاب حذيفة بلا تردد:نعم» فقال له عمر: «والله إنك لجرىء عليهاء. وكتب عمر 
لأهل الأمصار يقول: من كان عنده حديث فليمحه (الطبقات الكبرى لابن سعد)؛ لحذره من 
أن يلس كتاب الله بأقوال غير مقطوع بصحتها تنسب للرسول #. ففى حديث له قال: إن 
أناساً من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبأ فأنكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى 


53202 


لا ألبس كتاب الله بشىء:. كما جمع عمر بعض المحدثين فى زمانه من الصحابة: عبد الله 
بن حذيفةء أبا الدرداء» أبا ذرء عقبة بن عامر وقال لهم: هما هذه الأحاديث التى أفشيتم عن 
رسول الله فى الآفاق:؟ قالوا: «تنهاناء. قال عمر: «لاء أقيموا عندىء والله لا تفارقونى ما 

عشتء فنحن أعلم؛ . ومن الواضح أن الصحاب المتحدثين أرادوا التزيد على أمير المؤمنين. 
فأحبط تزيدهم. إلا أن عمر كان أقل دبلوماسية فى تعامله مع شيخ الرواة أبى هريرة؛ قال له: 
«لتتركن الحديث عن رسول الله؛ وإلا لألحقنك بأرض دوس (اليمن)٠.‏ 

هذه الأحاديث التى بدأ تدوينها فى عهد المنصور(''') انتهت إلى مدونات اكتسبت قدسية 
بمرور الزمن. وإن سألنا من أين جاءت هذه الأحاديث» وجدنا العجب. فحسبما أورد الإمام ابن 
حزم (جوامع السيرة) كان رواة الأحاديث» هم على التوالى: أبو هريرة 7541© حديثاء عبد الله 
بن عباس 0١177١»ء‏ عبد الله بن عمر 1770ء أنس بن مالك ١785‏ » عائشة »١1١١١‏ عبد الله بن 
مسعود 848: عمر بن الخطاب 577» على بن أبى طالب 5177: أم سلمة أم المؤمنين 574؟» 
البراء بن عازب ,»7١5‏ أبو ذر الغفارى ,١‏ أبو الدرداء 48, أبو قتادة أبى بن كعب 
71 معاذ بن جبل ٠١57‏ ء عثمان بن عفان ١57‏ أبو بكر الصديق 47١»ء‏ أسامة بن زيد 2١74‏ 
أسماء بنت أبى بكر58: بلال المؤذن 44» الزبير بن العوام 4؟: طلحة بن عبيد الله 78 
العباس بن عبد المطلب 5؟؛ خباب بن الأرت 7؟. يدهش المرء فى هذه الأرقام أن من أقل 
أصحاب رسول الله رواية للحديث عنه كانا هما الأقرب إليه : خليفته أبا بكرء ومولاء أسامة . 
يدهش المرء أيضاً أن يكون أصحاب رسول الله الذين وثق عمر برواياتهم عن الرسول (عبد 
الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص) هم أيضآ من أقل من حدثوا عنه. ويزيد من الدهش 
أن يكون الراوى الأول لأحاديث الرسول هو أبو هريرة الذى نهاه عمر عن الحديث؛ وهدده 
بالطرد من المدينة . وفيما هو معروفء لم يصحب أبو هريرة الرسول إلا عامينء إذ أسلم عند 
فتح خيبر» وبين فتح خيبر ورحيل رسول الله ما دون أريع سنوات. وكان أبو هريرة قد صمت 
عن الحديث عن رسول الله من بعد أن نهاه عمر وظل على صمته حتى جاء معاوية فأصبح 
فقيهاً لبلاطه يُسرَح الأحاديث عن رسول الله ليكسب بها حكم معاوية وبنيه شرعية رسولية. 
وبلغ من استهزاء أبى هريرة نفسه برواياته حداً جعله يقول: لو كنت أحدث فى زمان عمر كما 


25203 


أحدثكم لضربنى (تذكرة المفاظء للذهبى) . ولعل أبا هريرة لم يصدق إلا فى اعدرافه هذا 
بكذبه. ففى حديث له نسبه إلى رسول الله قال: أربع مدائن من مدن الجنة» مكة والمدينة 
وبيت المقدس ودمشق. ذلك حديث أيديولوجى لم يقصد أبوهريرة من ورائه إلا إضفاء قدسية 
على عاصمة الأمويين (دمشق)» ونزع تلك القدسية عن عاصمة شيعة على (الكوفة) . ومضى 
أبوهريرة فى نفس الحديث يقول: وأما مدائن النارفهى القسطنطينية وطبرية وإنطاكية 
وصنعاءء وكأن العالم كله قد تمحور فى الرقعة الواقعة بين إنطاكية وصنعاء . ولكن ما أن ولى 
يزيد ين معاوية أمارة الجيش على القسطنطينية (مدينة النار) حتى روى أبو هريرة عن رسول 
الله حديثاً آخر: لتفتحن القسطنطينية» فنعم الأمير أميرها . ومن الرواة المتكذبين عكرمة 
البربرى مولى ابن عباس. وعكرمة هذا فيما تقول الروايات صفده على بن عبدالله بن عباس 
بالحديد وألقى به أمام كنيف فى بيت أبيه وهو يقول: «هذا الخبيث يتكذب على أبى؛ . ودلائل 
كذبه واضحةء إذ يعود إليه الحديث: «من بدل دينه فاقتلوه». ولو كان رسول الله قد قال حقاً من 
بدل دينه فاقتلوه لما احتج عمر على أبى بكر عندما أعلن حروب الردة؛ وعمر أدرى من 
البخارى وعكرمة بمقالات الرسول. فى ذلك الخلاف قال عمر لأبى بكر «لماذا تقاتلهم وقد قال 
رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله؛ وأن محمداً رسول الله فإن 
قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقهاء (ابن كثير1/١١).‏ كما أن رسول الله أدرى 
من عكرمة بما يريد الله أن يوقع بمن كفر بهء لا مرة واحدة» بل مرات: (إن الذين كفروا بعد 
إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم4 (آل عمران؛:؟/ »)1١‏ (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا 
ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا» (النساء 07/6؟١)‏ . 

هذا النوع من الأحاديث المفتراة» بعنعناتها الرتيبة» أصبح موضوعاً للتندر والسخرية» 
حتى أخذ بعض الشعراء كأبى نواس ينظمون الشعر على أنمط الحديث. مثال ذلك قوله: 

ولق د كناروينا 
عن سعيد ين قناده 
عن سعيد بن المسيب 


أن سعد بن عياده 


504 


قال من مات مُحباً 
فلهاجرالشهادة 
كما قال: 
حدثناالخفاف عن وائل 
وخا الحذاء عن جاير 
عن مُسعر عن بعض أصحابه 
يرقمه الشحيح إلى امسق 
قالواجميعأأيماطفلة 
عُدلضمّها نو خلق طاهر 
فواصلتهثمدامت له 
على وصال الحافظ الذاكر 
كاتت لهالجنة مفتوحة 
يرتع فى مرتع ها لزاهر 
القحكية أذن: لتست :في حجية النننة كمصدر أسام : وإنما صدفية ما نقلثه أميات 
كتب الأحاديث والتى يكاد البعض يحسبها قرآنا. تلك أطروحة يعسر قبولها فى بيئة مثل 
بيكتنا يحسب فيها الناس صحيح البخارى سفراً يكاد يستوى فى قداسته مع القرآن. ففى 
قولهم لمن ارتكب أمراً إداً: «ياخى هو غلط فى البخارى:. ليت هؤلاء يملكون روح الدعابة 
التى عرف بها الشاعر جميل صدقى الزهاوى. روى عنه إبان عضويته فى مجلس الأعيان 
التركى قوله لعضو فى المجلس طالب بوضع نسخة من صحيح البخارى فى كل بارجة 
حربية من بوارج الأسطول العثمانى تحصيناً لها بعد غرق إحدى البوارج فى مضيق 
الدردنيل: هيا رجل الفلك فى هذا الزمان يجرى بالبخار لا بالبخارى. 
مما سبقء يبدو واضحاً أن المجتهدة الجدد ما فتكوا يكتنون بظل الفقه القديم» حتى صاروا 
أسارى لمنظومة فكرية تعود للقرن الثالث الهجرى. أجاد كاتب إسلامى معاصر عندما قال 
إن "العقل الإسلامى الراهن» فى مجمله؛ مؤسس على الفقه أكثر مما هو مبنى على النتص 
(القرآن) ؛ بمعنى أنه يستمد الخلفية المرجعية على مستوى الفكر والشعور من تلك المنظومة 


205 


الفقهفكرية المدونة.(6'١)‏ وما لم يطلق المجتهد المعاصر إسار عقله من تلك المنظومة:؛ فلا 
سبيل له لتأصيل الواقع المعاصر فى الإسلام. فالاجتهاد الذى ينحو إلى التقليد الأعمى 
لأقوال السلفء والالتزام الجامد بمناهجهم فى الاستدلال لن يقنع أحداً فى زمننا هذا. وقد 
عرّف إمام الحرمين الجوينى ذلك النهج التقليدى فى الاجتهاد بالاتباع المتعرى من أصل 
الحجة (كتاب الاجتهاد) . زعمنا هذا يؤكده التناقض الملحوظ بين التبجيل الأعمى الذى 
يحيط به المجتهدرة الإسلامويون فى السودان الفقه الموروث» وبين ما يطبقون على ارض 
الواقع فى بلادهم مما لا يد يتفق بأية حال مع ذلك الفقه . ولو كانوا صادقين فى قولهم إن 
الفقه الموروث والتجارب الأميرية الإسلامية التاريخية هما شرع الله الذى لا يتبدل» لكان 
أخلد بهم رفض كل أنماط الحكم الغربى التى يتبعون. لو فعلوا لحمدنا لهم الصدق مع النفس 
وإن استنكرنا جمودهم الفكرى. فإذا ألقيناء مثلاء نظرة سريعة على دستور ١148‏ الذى 
أصدره نظام الجبهة وفقاً للشريعة» لاكتشفنا التناقض فى أعلى مراحله فى طيات ذلك 
الدستور. ففى دستور ١138‏ مجموعة من النصوص التى تتعلق بحصانة المشرعين» وبحق 
المواطنين فى مقاضاة الرئيس أمام المحاكم الدستورية» وباستقلال القضاءء وبالمؤهلات 
العامة للناخبين دون تمييز على أساس الدين أو الجنس» وبالفصل بين السلطات» 
وبانمؤاظية كل هذه بمقاهيع أراثيات فى الحكم لم تمرف لها النزلة الإسلامرة نظوراء بن 
يتعارض بعضها مع ثوابت الفقه مثل حقوق المواطنة الكاملة التى يتمتع بها المسلم وغير 
المسلم» ومثل تلك التى تمنح للأنثى (الولاية الكبرى على المسلمين وقضاء الدم) . ولهذا فإن 
أباحوا لأنفسهم تجاوز "الشريعة كما يفهمونها أو يصورونها فى كبريات الأمورء فكيف لهم 
أن يرموا من دعى للتجديد فيما هو دونها (الحدود مثلاً ) بالكفرء والجحودء وإنكار المعلوم 
فى الدين بالضرورة. 

ثلاثة أمورء إذن» ظلت تحول دون الاجتهاد المبدع: الاستسلام للفقه القديم» نصوصاآ 
ومناهج؛ وأسطورة ققل باب الاجتهاد (راجع مقال الأوزاعى)» واستحواذ فئة من الفقهاء 
للإسلام؛ وبالتالى تراخى المستنيرين من العلماء؛ أو عجزهم (باستثناء ضيق) عن الولوج 
فى غابة تهيمن عليها أسود ونمور وفهود. وحول الأمر الأول لابد من الاعتراف بأنه لولا 


25206 


الفقهاء القدامى لذبل الإسلام. اجتهد أولئك الفقهاء الرأىء وابتدعوا الآليات الجديدة التى 
يتخطون بها حاجز الزمن» باعتبار أن النص ثابتء والزمن متحولء فكان القياس. 
والإجماع؛ وأقوال الصحابة» وعمل أهل المدينة» أدوات أو مرجعيات استهدى بها الفقهاء 
للدوفيق بين الثابت والمتحول. على أن جميع هؤلاء الفقهاءء بمن فيهم أئمة المذاهب 
الأربعة» تأثروا تأثراً ملحوظاً ببيئاتهم الذقافية والسياسية» وكان لذلك أثر كبير على 
أحكامهم . وبسبب ذلك؛ كان بين الفقهاء والمحدثين من خلافء بقدرما كان بين 
السياسيين (الحكام) من تناحر. 

وحول أدوات الاستنباط والاستدلال نفسها وقع بين الأئمة والفقهاء خلاف كبير. 
فالمعتزلة» مثلاء أنكروا إجماع الجمهور (جمهور الفقهاء), لأن الجمهورء حسب قولهم؛ قد 
يجمع على الخطأء لهذا دعوا إلى الإجماع العقلى» أى قراءة النتصوص قراءة نقدية. قال 
باستحالة الإجماع أيضا ابن رشدء خاصة فى النظريات لأن الإجماع لا يتقرر فى العمليات. 
وعلى حد قوله ٠لايمكن‏ أن يتقرر الإجماع فى مسألة ماء فى عصر ماء إلا أن يكون ذلك 
العصر عندنا محصوراًء وأن يكون جميع العلماء الموجودين فى ذلك العصر معلومين عندتاء 
أعنى معلوماً أشخاصهم ومبلغ عددهمء وأن ينقل إلينا فى المسألة مذهب كل واحد منهم نقل 
تواتر. ويكون مع هذا كله قد صح عندنا أن العلماء الموجودين فى ذلك الزمان متفقون على 
أنه ليس فى الشرع ظاهر أو باطنء وأن العلم بكل مسألة يجب أن لا يكتم عن أحدء وأن 
الناس طريقهم واحد فى علم الشريعة؛ (فصل المقال) . ولهذا الرأى انتهى أيضاً ابن حزم 
حيث جعل تطابق الحكم مع الحق هو المعيار الذهبى للأحكام» حتى وإن جاء الحكم من 
واحد. ففى قوله: «الإجماع لا يكفى فقد يكون الحق مع واحد. فكل من خالف أحداً شذ 
عنهء وكل قول خالف الحق فهو خطأء (الإحكام فى أصول الأحكام) . وإن كان هذا هو حال 
الإجماع الذى يحتل المرحلة الأعلى من أدوات تقرير الأحكام فى الفقه» فما حال ما هو 
أدنى. 

أنكر الإمام ابن حزم منهج الشافعى فى القياسء والقياس أداة ابتدعها الشافعى ليرد بها 
الأحكام إلى نظائرهاء ويحمل بها الفروع إلى الأصول لعلة مشتركة. وفى مقايساته تلك 


53207 


حدد الشافعى ضوابط حكيمة للاجتهاد مثل الضرر يزالء والمشقة تجلب التيسيرء واليقين لا 
يزال بالشك. مع ذلك تلمس ابن حزم فى منهج الشافعى ما يوقع المشقة بالناس لأن 
الشافعى» فى تقديره» ذهب لاستنطاق القران حول ما سكت عنه؛ بينما المفترض أن يحال 
كل ما سكت عنه القرآن إلى دائرة المباح. قال ابن حزم «الأصل الإباحة لا تحريم ولا 
إيجاب . ثم أنزل الله الشرائع» فما أمر به فهو مباح مطلق حلال كما كان . هذا أمر معروف 
بفطرة العقول ففى ماذا يحتاج إلى القياس أو الرأى؟ أليس من أقر بما ذكرنا ثم أوجب ما لا 
نص بإيجابه» أو حرم ما لا نص بالنهى عنه» قد شرّع فى الدين ما لم يأذن به الله تعالى: 
(الإحكام فى أصول الأحكام) . هذا المنهج العقلانى فى استخراج الأحكام أسماه ابن حزم 
القدرة على التمييز التى يفهم بها خطابه عز وجل؛ ويتعرف على الأشياء على ما هى 
عليه» وإلى إمكان التفهم الذى به ترتقى درجة الفهم ويتخلف عن ظلمة الجهل (الإحكام) . 
تبعاً لهذا الرأى النصحيحء دعا ابن حزم المسلمين إلى إعمال عقولهم عند النظر إلى كتاب 
الله وهو يقول داتيعوا ما أنزل إليكم ولا تتبعوا من دونه أولياء»: ومن الأولياء الأئمة الأربعة . 
ومن الغريب أن ابن حزم لم ينتق من الأئمة من يأتم به»عندما قرر الخروج عن مذهب 
أهل الشمال الأفريقى والأندلس ( المذهب المالكى)»؛ غير الشافعىء ثم ترك الشوافع ليتبع أبا 
داود الظاهرى منشئ المذهب الظاهرى المجافى للتأويل والقياسء والداعى للأخذ بظاهر 
النصء علماً أن الأخذ بظاهر النص قد يعتم الكذير من ظلال القرآن . ولكن رغم خروجه 
عن المذهب الشافعى لم ينكرابن حزم ولا شيخه أبوداود إسهام صاحب ذلك المذهب فى 
تطوير الفقه» فلأبى داودء مثل» كتاب حول مناقب مبتدع القياس اسمه فضائل الشافعى. 
وكما دفع ابن رشد من قبل ثمن عبقريته لإعمال عقله فى فهم الشرع سجناً وحرقاً لكتبه» 
لحقت النكبة أيضاً بابن حزم على يد المعتمد بن عباد نتيجة لتآمر الفقهاء عليه. لم تطق 
أوعيتهم المحدودة إبداعات ذلك الفقيه المجدد. ولعل هذا هو الذى ألجأه للتشاؤم والكفر بالعلم 
والعلماءء كما فعل الغزالى. فكتابه الأخلاق والسير فى مداواة النفوس فيه إساءة ظن بالبشر 
وبالحياة لا يصدق المرء أنها يمكن أن تعتمل فى صدر من خرج على الناس بطوق 
الحمامة. 


ثم جاء الإمام البريع الشاطبى؛ ليدرك الأصول ويستقصى التغاريع بالنظر إلى كليات 
الشرع ومقاصده؛ء فالشرعء ليس تكليفآً بلا مقصدء أو عبد بلا غاية أو مصلحة . ففى رأيه 
لكل أمر طرفان: إفراط وتفريط؛ والطرفان مذمومانء الوسط هو المحمود:. وفى مقدمة 
كتاب الموافقات للشاطبى كتب الشيخ محمد عبد الله دراز يقول «الشريعة لم تضع التكاليف 
لمجرد إدخال الناس تحت سلطة الدين» بل وضعتها لتحقيق مقاصد الشارع فى قيام 
مصالحهم فى الدين والدنيا معأ؛. من هذه المقاصد الضرورى والحاجى والتحسينى لكليهما 
(الموافقات فى أصول الشريعة) . مع هذاء يخطئ من يظن أن إشارتنا لهؤلاء الفقهاء 
النابهين هى دعوة للعودة إليهما لدجد عندهما الحلول لمشاكلنا الراهنة» نذكرهم فقط لنؤكد 
بروز أئمة فحول فى تلك العهود المتقدمة» نهوا عن تقديس أولياء الفقه؛ وحضوا المسلم (كل 
مسلم) على إعمال العقل فى تفهم دينه؛ وسعوا لنفى كل ما يضيّق على الناس فى تطبيق 
الشرعء وأبانوا أن جزئيات الشرع لا معنى لها دون النظر إلى كلياته؛ وأجلوا على الناس ‏ 
إن كان الناس فى حاجة إلى إجلاء ‏ أن الأصل فى الأشياء هو الإياحة حتى لا يتنطع دعى 
بالقول أن مصافحة المرأة زنىء أو يتفصح دعى آخر فى الإفتاء بأن فى سفرها دون محرم 
خروجا عن الملة. 

أما أسطورة قفل باب الاجتهاد فهى بدعة استنها المستعصم بالله العباسى عندما دعا 
علماء الفقه فى المدرسة المستنصرية للكف عن الاجتهاد. إلا وفقاً للمذاهب الأريعة. 
ونعترف بأن الترابى» فى أكثر من مقالء قد قضى أن باب الاجتهاد لم يوصدء وأن ليس 
فى الفقه الموروث (بما فى ذلك ما جاء به الأئمة الأربعة) ما يلزم مسلمى هذا الزمان. 
نعترف أيضاً بأنا حسبنا عليه قالته تلك فى بعض ما كتبنا(“'') حقآء لم نكن بذلك ننعى 
على الشيخ الترابى يومذاك حرصه على التجديد فى الفقه» بقدر ما قصدنا إدانة سعيه لقسر 
الناس على فقه معين ارتاه . وإلى هذا القسر سبقه الإمام المهدى فى القرن التاسع عشر حين 
عطل المذاهب وقال» بحقء؛ عن أتمتها: هم رجال ونحن رجالء ولكل زمان رجال. على أن 
الفرق بين المهدى والترابى وهؤلاء الأئمة» هو أن الأئمة كانوا دعاة معلمينء يلقنون الناس 
علماً من الرأس والكراس. فالإمام مالك أغرى به تواضعه على أن لا يحمل أهل العراق 


2509 


على الموطأ كما حمل عليه أهل المدينة. والشافعى كان يقول» كما ذكرنا فى المقدمة» رأينا 
صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب. لم يحمل أى منهما كراساً بيده؛ 
وسيفا باليد الأخرىء كما فعل المهدىء أو يفتى برأى من جهة» ويحيط به من جهة أخرى. 
حاملو الكلاشنكوفء حال الترابى. وعندما يرتفع السيف؛ دعك عن الكلاشنكوف» يسقط 
الخيار. هذا قفل مسلح لباب الاجتهاد قال فيه شيخ المعرة: 
تلوا باطلاً وجَلوا صارماً 
وقالوا صدقناء فقلنا تعم 

الأمر الثالث هو الكهنوت الجديد الذى شاع بين المسلمين» رغم كل ما يردده الفقهاء 
المحدثون عن أن الإسلام لا يعرف هيكلية دينية . هذا وهم» أو تكذبء؛ فبين ظهرانينا اليوم 
مجموعة ذات كيان معنوى تعبر عنها اللغة التى تتحدث بهاء والأردية التى تتوشحهاء 
والرموز التى تستخدمهاء والأساطير الشعبية التى نسجت حولهاء والحق الذى منحته لنفسها 
ومنحه لها الآخرون حتى يكون لها القول الفصل فى كل ما يصدر عن المسلمين قولا أو 
فعلاء وكتابة أو شفاهة. هذا الكيان الذى يطلق عليه اسم رجال الدين هوء فى حقيقته» 
كهنوت؛ فى حين يفترض الإسلام أن يكون كل مسلم رجل دينء وكل قادر على الفتوى 
فيما تمهر فيه (القانون» الاقتصاد, العلوم السياسية) هو صاحب الفتوى الناجعة. فاثار 
الأحكام الدينية التى تعالج مشاكل البشرء ليست دينية وإنما هى سياسوية» أى ذات أثر على 
السياسات. على أن رجال الدين فسروا لمصلحتهم بغير حق قوله تعالى «فلولا نفر من كل 
فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» 
(التوبة» )١77/5‏ . بهذه القداسة الزائفة أصبحت هذه الطائفة هى صاحب القول الفصل فى 
كل شىء. توهم هؤلاء الأشياخ أيضاً بأنهم ورثة الأنبياء» ففى الحديث العلماء ورثة الأنبياء. 
وما أرسل الله الأنبياء لتنغيص حياة الناس أو تكليفهم ما لا يطيقونء بل أرسلهم رحمة 
للعباد. وأقرب إلى رحمة العباد من أولئك العلماء لوى باستير مخترع التلقيح» والاسكندر 
فلمنغ مكتشف البنسلين» فلولا كشفاهما لهلك العالم. 


310 


لا نلقى هذا الحكم على عواهنه؛ فقد برز من بين علماء الإسلام فى العصور الحديثة 
مجددون كأصحاب لهم فى غابر الزمان. من بين هؤلاء الشيخ جمال الدين الأفغانى» 
والعالم المجدد محمد عبده؛ والعالم الجليل محمود شلتوتء والشيخ محمد رشيد رضا. فقد 
سعى الأفغانى؛ مثلاً للمزج بين معارف الوحى والمعارف الحديثة» وذهب عبده وتلميذاه 
رضا وشلتوت إلى تأويل العقيدة بما يتفق مع العقل كما فعل ابن رشد من قبل. وتماماً كما 
أوقف الغزالى مسيرة الفكر الإسلامى بأحكامه التكفيرية الجامحة على الفلاسفة» قضى 
المهووسون الإسلاميون على حركة التجديد التى بدأت بعبده وانتهت بشلتوت. 

ولعلنا نمكث قليلاً عند رضاء لما لبعض فتاواه من صلة ببعض محدثات الأمور فى 
السودان. فعند أول محاولة فى القرن الماضى لإقامة دولة إسلامية فى الشام بعد انتصار 
ثورة الأمير فيصل بن الحسينء نادى الشيخ رضا بأن تكون الدولة مدنية؛ إلا فى الأحوال 
الشخصيةء لأن هذا هو الوضع الطبيعى فى دولة تتعدد فيها الأديان حسب تقديره . والدولة 
التى كان يتحدث عنها رضا هى الدولة التى كانت هى قبة الإسلام فى عهد عبد الملك بن 
مروان وعمر بن عبد العزيزء ويرقد تحت ترابها شهداء مؤتة واليرموكء ومنهم خالد بن 
الوليدء ولا يزيد عدد مسيحييها عن واحد على عشرة من مجموع سكانهاء فما عداهم 
بسنييهم وعلوييهم ودروزهم وكردهم مسلمون. وعندما اعترضت تلك الأقلية المسيحية 
المسحوقة عدداً على استفتاح نص الدستور بيسم الله الرحمن الرحيمء أفتى الشيخ أن يكتفى 
بيسم اللهء باعتبار أن ذلك أمرلا يعترض عليه موحد. فما بالك بدولة يبلغ عدد غير 
المسلمين ثلث سكانهاء ومع ذلك يصر حاكموها على أن تكون عقيدة جيشها هى الجهاد فى 
سبيل الله وأن يكون شعار حزيها الحاكم هو التهليل والتكبير (نفس الشعار الذى تستخدمه 
جيوش القاعدة البن لادنية) . وهذا ما فعله رسول الله # فى صلح الحديبية فى العام 
السادس الهجرى فى مكةء لا فى القرن الخامس عشر فى الخرطوم. اعترض مشركو قريش 
على استهلاله الاتفاق ببسم الله الرحمن الرحيم فاعترضت قريشء وعند ما تصدى لهم 
الإمام على ليقاتلهم؛ محا رسول الله بيده البسملة واستبدلها باسمك اللهم» فغايته كانت هى 
السلم . 


قلنا أن الوصاية باسم الله على الإنسان تفقده أثمن ما يملك؛ قلبه وعقله» فما بالك إذا 
كانت تلك الوصاية مشبوهة الأصل. العقل والقلب هما وحدهما المدخل الصحيح للإيمان» 
فكما أن الإيمان (الإيمان بأى شىء) لا يفرض قسراً على الوعى الإنسانى فإن الأوامر 
والنواهى التى تتعارض مع طبائع الأشياء لا تدوم» لاسيما إن ذهبت الوصاية إلى تكبيل 
الفكرء و افتعال الوساطة بين العبد وربه . والشواهد فى التاريخ المعاصر بينة» بدءا من تحريم 
أولئك الفقهاء لرائعة نجيب محفوظ أولاد حارتناء إلى تطليق نصر حامد أبوزيد من زوجته» 
واستحلال دم فرج فودة .(1'') هل نظلم هؤلاء إن قلنا فيهم ما قال يزيد بن ربيعة فى عبد 
الله بن زيادء والى سجستان: 

ألا ليت اللحي كانت حشيشاً 
فتعلفها خيولالمسلمينا 

المثال الأقرب لهؤلاء الفقهاء المنغلقين هو آباء الكديسة الأولى» الذين كفروا كل من 
خالفهم الرأى» ولم يروا للناس خلاصاً إلا داخل الكنيسة؛ أى انهم استبدلوا الدين/ الرسالة 
بالدين/ المؤسسة. هذا طريق غير ناهجء لا يقود سالكه إلا إلى حلقات مفرغة:» ولا يسلكه إلا 
العاجزون عن لمس نيض الكون الذى نعيش فيه. استهوانا وصف جيد لهذه الظاهرة جاء به 
الأستاذ أحمد عبد المعطى حجازى. قال فى وصف الفقهاء عبدة النصوص هؤلاء: الواقع 
هو أصل الفعلء والنص رد عليه . والذين يجعلون النص أصلا للحياة يعكسون الآية» 
ويقلدون بيزنطة ثم لا يزالون يحفظون النصوص ويسمعونهاء ويسلمهم النص الأول إلى 
النص الثانى؛ والمتن إلى الشرحء والشرح إلى الحاشية» والحاشية إلى التعليق حتى تنقطع 
أنفاسهم: إذ تنقطع صلتهم بالحياة ويسقطون فى عصرر الانحطاط ويأخذوننا معهم 
إليها.!"”') ومن المخزى أن يحل فقهاء هذا الزمان الغرباء عن العصر لأنفسهم ما نهى عنه 
الشيخ المجتهد شلتوت منذ أكذر من نصف قرن: قال الشيخ شلتوت ٠وظيفة‏ المفتى لا تعدو 
بيان المسائل التى يسأل عنها. فإن كان مجتهداً أبدى حكمها بنظره واجتهاده» وإن لم يكن 
مجتهداً أفتى برأى غيره _ أى غير يختار. ومع ذلك» وعلى كلء فليست فتواه ملزمة لمن 
يستفتيه» وللمستفتى مطالبته بالدليل» وله أن يستفتى غيره ممن يطملن إلى علمه. أما شيخ 


5312 


الإسلام والملا فإن المسلمين لا يعرفونهماء أو لقبين علميين شاع فى بعض العصور 
إطلاقهما على من عرفوا فى بيئاتهم بامتياز خاص فى علوم الدين والشريعة . ولا يرتبط 
بهما حق تحليل أو تحريم فى الشريعة» وليس لهما من حق فى العصمة من الخطأء بل لا 
يعرفهما الإسلام:("'') . أمثال العالم الوعى شلتوت هم ورثة الأنبياء» ففيهم السماحة» وفيهم 
تواضع العارفين. فأى فقيه من فقهاء القنوات التلفزيونية يفتى اليوم برأى غيره فيما لا 
يعلم ؟ هم يفتون فى الاقتصادء والقانون علم ينبغى أن لا يتوغل فيه إلا من تمهر عليه . 
ويفتون فى الاستنساخ البيولوجى دون أن يكون الواحد منهم قد شرح فى حياته ضفدعة كما 
يفعل الطلاب فى المدارس. ولهم مع ذلك آراء فى علم الفلك والطبء وأكثر ما تكون فتواهم 
فى توافه الأمور: هل الشعر المستعار حلال أم حرام؟ ولمن من الرجال تبدى المرأة زينتها؟ 
وما هو حكم الميت فى يوم عرفة؟ وما هو حكم المرأة المتشبهة بالرجالء أى التى ترتدى 
البنطال؟ وما هو حكم الشرع فى لاعب كرة القدم الذى لا يغطى سرواله الركبتين؟ وما هو 
حكم سماع القرآن فى الحمام؟ وهل يجب التطهر من بول الرضيع؟ هذه ليست أسئلة 
نصطنعهاء بل ظلت ترد فيما تنشره الصحفء خاصة فتاوى الشيخ القرضاوى فى الأهرام 
العربى كل أسبوع. فى هذه الأيكولوجية الثقافية المريضة يصبح السؤال الذى وجهه شكيب 
أرسلان قبل عقود من الزمان : لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ سؤالاً مشروعاًء كما 
يصبح أيضاً سؤالنا المكرور: "لماذا يرمينا الغرب بالتخلف؟ سؤالاً غير مشروع. انغماس 
الفقهاء فى توافه الأمور هذه يحول المجتمع إلى مجتمع ميتافيزيقى» فقضايا المعاش فى أى 
مجتمع هى بسط الأمنء وتوفير الغذاء والدواء والكساء والمأوى والتعليم» وتطوير المجتمع» 
ثم التساكن مع الآخرء والتواصل والتعايش السلمى مع الأغيار. 

لن يكتمل الحديث عن الفقهاء دون الإشارة للحوار اللاجب الذى دار فى عام (؟١٠٠)‏ 
بين الفقهاء حول حد الردة» ابتنوه على الحديث الذى أورده البخارى عن عكرمة: «من بدل 
دينه فاقتلوه؛ . دار الحوار فى لجنة العقيدة والفاسفة التابعة لمجمع البحوث بالأزهر وشارك 
فيه من شيوخ الأزهر رأفت عثمانء عبد المعطى بيومىء محمد إبراهيم الفيومى: فوزى 
الزفزاف . جميع هؤلاء الفقهاء أخذوا حديث عكرمة مأخذ جدء ولكن الرأى انقسم فيما بينهم 


513 


بين استتابة المرتد لمدة ثلاثة أشهر ثم قتله» وبين استتابته مدى الحياة. أصحاب الرأى 
الأخير (قدمه نيابة عنهم الشيخ الفيومى) برروا فتواهم بمراعاة الظروف. أى ظروف ما 
أسموه الهجمة على الإسلام واتهامه بالوحشية بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر. هذا 
حكم سياسى لا فقهى ينم عن نفاق لا يسوغ لأهل الفتيا الذين يبينون الأحكام فيما يشكل 
على الناس من القضايا الشرعية على أصول الدين» بدلاً عن تسييس الشرع. كان حقيقآ 
عليهم الرجوع إلى كتاب الله إن أرادوا تأصيلاً شرعياً لما تواطأ عليه العالم اليوم حول حرية 
الاعتقاد» والتى تشمل حق الإنسان فى الخروج عن دين أو التحاقه بدين يختار. ففى 
الكتاب: «من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه4 (المائدة ©/ 54)» 
كما فيه: «ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولتك حبطت أعمالهم فى الدنيا 
والآخرة (البقرة )73١7/7‏ . وفيه أيضاً: «من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما 
يضل عليها» (الإسراء 15/17)» وفحوى الآية الأخيرة هى أن الهدى والضلال ليست 
قضايا شرعية» وإنما هما خيار شخصى. فى إيرادنا لتلك الواقعة لا نتلبث كثيراً عند قول 
الفقهاء بأن أحاديث الآحاد لا تثبت فرضأً ولا يترتب عليها واجب شرعىء وإنما لنبين أولاً 
ما فى فتاوى فقهاء "الكهنوت من ولْس ودلّس (خداع ومداهنة) . فالأحكام اليقينية الثابتة لا 
تبنى لمراعاة الظروف الطارئة»ء لا سيما إن كانت هذه الظروف ظروفاً غير موضوعية. 
ثانياً لنؤكد أن فى أصول الدين ما هو أكثر وثاقة من الأحاديث التى لا تدفقء إن لم يكن 
تتعارض مع الأصولء جاءت من آحاد أو جماعات. وللشيخ المجدد عبد المتعال الصعيدى 
رأى حكيم رمى فيه الفقهاء المكفراتية بالجمودء وأثبت الحرية للمرتد. قال إن من يسلم 
يؤخذ إلى الإسلام بالاختيار فى الابتداء ليكون إسلامه إسلاماً صحيحاً على ما سبق 
اشتراطهم للاختيار فى صحة الإسلام. هذا الشرط يجب أن يكون فى الدوام» كما يجب أن 
يكون فى الابتداء.. أما ثبوت الحرية الدينية للمرتد من جهة النقل فالدليل لا إكراه فى 
الدين. كما وصف الاستتابة بأنها دعوة للنفاق» فالإيمان لا يكون إلا بالقلب؛ لا 
بالإعلان.(3'') الصعيدىء فى مبحثه الصغير حول الحرية الدينية» كان يحاج المكفراتية 
باللغة التى يفهمونهاء من منظور النقل؛ علماً بأن جميع من ألحقت بهم تهم الردة هم 


514 


مسلمونء بكل المعاييرء إلا أن لهم رؤى حول الإسلام حبس القصور الفكرى غيرهم عن 
إدراكهاء كما حبسهم الغرض عن الوعى بواحدة من بت الاعتقادء ألا وهى النية» فلكل 
امرئ ما نوى فى خفايا صدره . هل كان الترابى حقاً واعياً بهذه المفاهيم عندما ضمن 
مشروع قانونه الجنائى نصا حول الردةء أم أنه فعل ذلك مراعاة للظروف؛ ظروف استخدام 

الدين سلاحاً لترهيب الخصوم؟ 

تأرجح الشيخ 

ذكرنا من قبل أن للترابى بعض الأطروحات التقدمية التى أسندها إلى أصول الإسلام» 
وعالج فيها عددأ من القضايا المتعلقة بمفهوم الإيمان» والفنون» وحقوق المرأة. ولكن عند 
التطبيق العملى لتلك الأفكارء ظل الترابى يتأرجح بين النظريات الجامدة والقوالب البالية (متى 
ما حققت غرضاً سياسيا)» وبين وجهات النظر المتحررة (متى ما اعتقد أنها ترضى 
مستمعيه) . وكانت بعض ارائه الجريكة محل نقد عند الاصوليين المسلمين» خاصة تلك التى 
تعلق بالنساء؛ بل حسبت فى عداد البدع .('') وفى بعض الحالات وردت عن الترابى أقوال 
ممعنة فى الرجعية حول النساء اعتمد فيها على التفسير الحرفى لآيات القرآن('"'): فمعين 
الفكر الإسلامى عند الترابى لا ينضب أبداً. على سبيل المثال» تجلت نزعته الدينية الجامدة 
فى السياسات التى اتبعها خلال فترة توليه الحكمء أو بالحرى هيمنته عليه: آراؤه عن الحرب 
والسلامء والحقوق المدنية لغير المسلمين» والديموقراطية» ومفاهيم حقوق الإنسان المعترف بها 
عالمياً. وكانت النفعية السياسية دوماً هى المحفز الأساس لآرائه المترجرجة. هذا أمرمؤسف». 
فالترابى كصاحب فكر كان يجدر به أن لا يستقيل عن الاجتهاد الجرىء؛ والترابى كمسلم لم 
يخب وهج الإسلام فى قلبهء كان يحسن أن لا يغيب عن خاطره البته ركنا الإسلام الحصيتان: 
العدل والإحسان. الترابى أيضأ رجل عصرىء لا كالذين يعيشون بجسومهم فى الكوكب 
الأرضى وبحلومهم فى كوكب آخر. قصارى رجل كهذاء أن يشيد مشروعاً حضارياً؛ ليس أهم 
ما فيه هوالخطاب ومرتكزاته الفكرية (أياً كانت)» وإنما انعكاسه على أرض الواقع . ولكن 
تغليب هذا المفكر المجتهد لانتهازية السياسة على رصانة الفكر أودى به إلى أمور متشابهات؛ 
ونسب إليه تُهمأ غلاظاً. فتحت رعاية الترابى استغلت الجبهة: فيما استغلت من الأحكام؛ 
515 


صرامة العقوبات الإسلامية (الحدود) مثل الجلد للشارب والزانى» والقطع للسارقء لا التزاماً 
بالشريعة الإسلامية» ولكن لإدخال الرعب فى نفوس الخصوم وإذلالهم. فالحدود ظلت تطبق 
دون اعتبار لضوابطها مثل حد الزنىء أو حد الشرب الذى ما انفك النظام لا يطبقه إلا على 
من يريد النظام إذلاله .(""') يسأل المرءء أى مشروع حضارى هذا الذى يسعى لتعظيم الأمة 
بإذلال أفرادها. حقأًء لم يدر بخلد النظام ما يخلقه ذلك التطبيق الاعتباطى للحدود من قلاقل 
نفسية للمسلمينء أو يثيره من حنق بين غير المسلمين من أهل السودان. ثم أو ليس من المؤسى 
حقاً أن يختزل إسلامويو السودان المشروع الحضارى الإسلامى كله فى القطع والجلد؟29"١).‏ 
ذلك التطبيق الجائر للحدود هدم الصورة الإنسانية للإسلام التى ما فتئ الإسلامويون يرسمونها 
للناس؛ خاصة فى رسالاتهم إلى المحافل الخارجية. لهذا نرى ثمة نفاقاً كبيراً فيما يردده 
البعض عن الخوف المرضى من الإسلام (إسلاموفوبيا) الذى شاع فى الغرب فى الفترة 
الأخيرة:؛ وينسبونه إلى عداء غربى أصيل ضد الإسلام. هذا تلبيس للحق بالباطل» 
فالإسلاموفوبيا نتاج مباشر للهوس الإسلامى (إسلامومينيا) التى سيطرت على العالم 
الإسلامى العربىء وكان السودان واحداً من نماذجها. فما الذى لا يرعب الغرب من إسلام 
أرعب أهله . 

يزيد من تلك المخاوف طرح هذا النموذج المرعب بصورهة جزمية» وياعتباره وحده 

٠. .‏ م 

الإسلام الصحيح. وعلى هذا توافق الشيوخ المجددون؛ ومنهم من أطلق عليهم اسم المسلمين 
المستنيرين. لهؤلاء جميعاً أصبحت الخرطوم محجة يطلون عليها ليروا دولة المدينة تولد 
من جديد. جاءوها من مصرء واليمن» وتونسء والجزائرء وقطرء والأردن أرتالًء فيهم من 
تعمم» وفيهم المستنير الذى تزيا بزى أهل الغرب. هؤلاء لا يملكون اليوم بعد سقوط الثوابت 
أدنى حق فى إنكار نسبة ما رأوه وياركوه فى الخرطوم للإسلام. ولئن فعلوا لأصبحوا 
منافقين فى مباركتهم الأولى للنظام الذى حسبوه نموذجأ إسلامياً جديراً بالاحترام» أو كذبة 
فى تنكرهم الأخير لنفس النظام . 

الأسلوب النفعى الذى انتهجه الإسلامويون يجسد تجسيداً حياً قلة احترام رجال الجبهة 
ومناصريهم لعقول البشرء واستعلائهم الفكرى الغريب. تمنعوا عن قبول أدنى نقد لما أسموه 


516 


"شرع الله» بل رأوا فى النقد تجاوزا للمقدسات؛ وخروجاً على الملة. فثوابتهم؛ كما زعمواء 
هى ما أمر به الشارع الأعظم ولهذا فلن يلغيها حتى إجماع الرأى العام (الأمة) . هذه هى 
المرحلة التى ذهب فيها الترابى إلى الجزم فى الأموردون تمحيص؟ لم يعد يتحدث. كما 
كان يفعل فى الستينيات» بلغة تقبل التأويل. كلامه أصبح قطعياء لا يقبل المناقشة . وفى هذا 
تجاوز لأدب المحاورة الذى تعارف عليه الفقهاء القدامى. هؤلاء كانوا لا يفضون بحكم إلا 
ويتبعونه بالقولء هوالله أعلم. وكانوا يقولون فيما وقع فيه خلف: «فيه قولان». حتى 
الديموقراطية» التى نما الإخوان المسلمون وترعرعوا فى ظل حمايتها فى الماضى» أصبحت 
مؤسسة تحتاج إلى إعادة بناء وفقآً لأحكام شرع الله. وبتنصيب الترابى نفسه مفسراً شرعيآ 
وحيداً لكلام اللهء أدخل على الإسلام السنى شيئآً غريباً عليه» مرجع التقليد الذى يتبعه 
الشيعة . 

هذه الأفكار الجزمية اتسمت بخصيصتين عاطبتين. الخصيصة الأولى هى الغلو الفقكرى 
الذى لا يستند إلى كتاب منيرء أو تدعمه حجة باهرة. فبالرغم من أن دولة السودان 
النموذجية قامت, منذ بدئهاء على القهر والعدوان ولم تم نمواً طبيعيآً فى الأرض التى 
غرست فيها (السودان)» ظل الترابى يحسب حتى نهاية التسعينيات تلك الدولة نموذجاً 
يجدر بالعالم أن يحذو حذوه. ففى حديث لمجلة عربية لندنية قال أن أوروبا وأمريكا تعانيان 
من الفقر الروحانىء ولن يكون خلاصهما إلا بالإسلام (“'') (بالطبع؛ يعنى الإسلام كما 
يطبق فى السودان) . فالترابى» مثل هيقل فى القرن الأسبق وفوكوياما فى القرن الماضى. 
قرر أن يعلن نهاية التاريخ. ولكنء بصرف النظر عن هذه الجسارة» فان المشروع الحضارى 
الإسلامى الذى قدمه لم يكن مشروعاً ولا حضارياً ولا إسلامياً. هو ليس بمشروع بسبب 
من عدم اتساقه كنموذج نظرىء وثقل وطأته على الناس كبرنامج عملىء وتقاصره عن 
معالجة أهم ما يعنى المجتمع: (السلامء وبناء الوحدة الوطنية» والتطور الاجتماعى 
والاقتصادىء والحفاظ على العلائق الطيبة مع الجيران» وإحلال شعب السودان المكانة 
اللائقة به بين مجموعة الأمم) . وهو ليس بحضارى لأن هدفه الأسمىء كما أعلن صاحبه» 
هو قبر الحضارة المعاصرة»ء وإنكار كل إنجازاتها الإنسانية. وأما عدم إسلاميته فأكثر ما يعبر 


517 


عنها الحط من قدر الإنسان وتدميره من داخله. الفجوة بين الإسلام وهذه العنافة باتساع 
المسافة التى تفصل بين الظلم والعدل» والإساءة والإحسان. وإن كان الإسلامويون حقآ 
صادقين فى ظنهم بأن ذلك هو الإسلام» فلا شك فى أن سياساتهم قد قادتهم إلى حيث لا 
يريدون. هذه حقائق ما كان ينيغى أن تغيب عن وعى الشيخ الفقيه» فالفقهاء يقولون أن 
الحقيقة هى مطابقة البرهان لما فى الأعيان. 

الخصيصة الثانية للمشروع الحضارى هى التكذب باسم اللهء أو لنقل الإبلاغ عنه بغير 
ما جاء منه. ظن الجبهويون أنهم قد أفلحوا فى اصطناع هوية إسلامية جديدة لأهل 
السودان» أطلقوا على شعاراتها المختبطة اسم الثوابت» أى المبادئ الأساسية التى يعتبر كل 
ما عداها ثانويأء حتى وإن كان ما عداها هو العناصر الأساسية التى تَخَلّق منها السودان. 
وفى اللغةء الثبات فى الأشياء هو الاستقرار. ولكن لما يمض عقد وبعض العقد من الزمان 
حتى تناكث القوم عهودهمء لكيلا نقول "نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم. وكما قلنا فى 
المقدمة» فإنا نحمد لهم العود إلى الحق. بيد أن فقهاء الجبهة أوقعوا الناس فى اختلاط ولبكة» 
عندما أوغلوا فى أمر الدين بلا رفق» وامتنعوا عن قبول الحق معاندة» ومضوا يلخون الكلام 
لخأ (اللخ الإمعان فى باطل الكلام) وينسبونه» بمناسبة وبغير مناسبة» إلى الله وشرعه دون 
حذر أو تحوط. تلك كبيرة لا تغفرء فالله لا يغفرإلا الُمم (صغار الذنوب) . فما هى السلطة 
المعنوية التى تبيح لهؤلاء بعد كل هذا الإكثار فى الباطلء والوقوع فى كبائر الإثم (التكذب 
باسم الله)» أن يحسبوا أباطيلهم ثوابت؟ 

ممه 


5318 


هوامش وإحالات 





)١(‏ نورمان أندر, سونء السفير الأمريكى بالخرطوم 5.6 . 5زدة© هذ هقلن5 ,00دعلمة مقممهل3 

(2) عندما بدأ النظام المغتصب اعتقال القيادات السياسية فى مقارهم المعروفة كان رئيس 
الوزراء مختبدئاً فى منزل آمن غرب مدينة أم درمان. وبعد مضى بضعة أيام بعث رئيس الوزراء 
الشرعى برسالة لقائد الانقلاب نقلها مدير جهاز أمنه السابق (عبد الرحمن فرح) مبديا فيها 
الاستعداد لتسليم نفسه للسلطات الغاصبة» شريطة أن يعامل كما عومل السياسيون الآخرون 
المعتقلون. وتوحى الرسالة أن الصادق كان يخشى من بطش النظام به. آثر الصادق الاختقاء؛ بل 
أزال لحيته إمعاناً فى التعمية» وكان فى هيئته تلك عندما ألقى عليه القبض زبانية النظام. وقى 
الرسالة التى بعث بها للرجل الذى اغتصب منه السلطة (البشير) » سعى الصادق (كما فعل من قبل 
مع نميرى) لإيجاد تكييف نظرى لموقفه من الانقلاب. قال إنه كان يتملى فى حقيقة الانقلاب» أهو 
انقلاب وطنىء أم انقلاب موحى به من الخارج؟ بتلك الكلمات أُضفى الصادقء المحلل الفيلسوف» 
شرعية على النظام» فى حين كان ينبغى على الصادق» الحاكم الشرعى:ء أن يدين الانقلاب جملة 
وتفصيلا ليؤكد أمرأ مبدئيأ» إن كان قد عجز عن استنهاض قوى الأمة لمكافحة الغاصبين. 

(3) إبراهيم نايل إيدام (ضابط عسكرى من منطقة جبال النوبة) كافأه الانقلابيون يضمه 
لمجلسهم العسكرى ثم تعيينه وزيراً من بعد. 

(4) الشعار الذى كان يطغى دوماً على اللقاءات الجماهيرية لحزب الأمة: البلد بلدنا ونحن 
أسيادها. ومع أن الشعار شعار غير موفق وغير مستساغ من حزب ديموقراطى يؤمن بالتعددية 
السياسية وبسيادة الشعبء إلا أن نجاح انقلاب الجبهة كان امتحاناً قاسيآ لالأسياد. 

(5) أبدى العضو الجتوبى مارتن مالوال صجراً بالنظام مما قاد إلى إعفائه من منصبه يعد اتهامه 
بممارسات فاسدة (مارس 1597(ء كما فرمن النظام» وزير العملء القس الكاثوليكى جورج كتقا إيان 
قيادته وفدأ رسمياً لمنظمة العمل الدولية فى جنيف (يوليو”119). ولحق بكنقا من بعد نائب رئيس 
البرلمان» الدو أجو عقب مشاركته؛ هو الآخرء فى ندوة دولية بجنيف حول حقوق الإنسان. انسحب من 
مجلس الثورة أيضاً عثمان حسن أحمد لخلافه مع زملائه حول هيمنة الجبهة على الانقلاب. 

(6) قسمت ولايات السودان التسع المعروفة على الوجه التالى: الشرق إلى البحر الأحمرء كسلاء 
القضارف؛ الشمال إلى النيل والشمال؛ الأوسط إلى الجزيرة:» النيل الأبيضء النيل الأزرق» ستار؛ 


5319 


أعالى النيل إلى أعالى النيل» جونقلى» الوحدة؛ بحر الغزال إلى شمال بحر الغزال» البحيرات» غرب 
بحر الغزال» واراب؛ الاستوائية إلى شرق الاستوائيةء غرب الاستوائية» بحر الجبل؛ كردفان إلى 
شمال كردفان» غرب كردفان» جنوب كردفان؛ دارفور إلى غرب دارفورء شمال دارفور» جنوب 
دارفور؛ فى حين بقيت الخرطوم كما هى. 

4 ,لممباوطء] ,14001101 مدليد (7) 

(8) حسبما أورد صحفى سودانى موثوق به بتحقيقه» أحالت الجبهة للتقاعد من الخدمة المدنية 
موظفاً فى الفترة ما بين يوليو ١185‏ وسبتمبر؟113» فى حين لم يتجاوز عدد موظفى 
الخدمة المدنية الذين أحيلوا للتقاعد منذ بداية الاستعمار (4 )١11١‏ وإلى حين استلام البشير للسلطة 
(نهاية يونيو 1185) 77,415 موظفاً (السرسيد أحمدء الشرق الأوسطء ١5‏ مايو١١٠3).‏ من 
جانب آخرء تشير الإحصائيات التى جمعها اتحاد المحامين العرب ولجنة القانونيين الأمريكية لحقوق 
الإنسان إلى أن 724٠‏ من القضاة الذين كان ينتظمهم السلك القضائى عند مجىء الجبهة للحكمء 
أحيلوا للتقاعد خلال عامين من الانقلاب. سنداا-مة .خخ ,4ث 8 سدادا عمتدمماءج 

(9) ورد فى السيرة كيف حملت الرسول ناقته فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف فرغبوا أن 
يقيم معهم ويؤسس مسجده بينهم» فأبى. وسار الرسول من بعدء والأنصار حوله» إلى دار بنى 
بياضة» ودار بنى مساعدة»ء ودار بنى عدى بن النجارء اخوال عيد المطلب. وناقته تابى أن تبترك». 
والرسول يقول لهم دعوها فهى مأمورة . ترك رسول الله ناقته حتى أناخت طوعاً عند مريد (مكان 
لتجفيف التمر) فأمرأن يبنى عليه مسجده . وعندما أراد أهل المريد منحه له بلا ثمن, ألح على دفع 
ثمنه (وردت القصة فى سيرة ابن هشام 7/ »14٠‏ تاريخ الطبرى 51/7؟؛ تاريخ ابن كثير*/4١؟؛‏ 
جوامع السيرة لابن حزم صفحة 15.ء والطبقات الكبرى لابن سعد) . 

(10) الشرق الأوسطء ١4‏ ديسمبر ١51914‏ . وفى حديث للإذاعة العربية لهيئة الإذاعة البريطانية 
7880" ") يونيوء )3٠٠١‏ (اعترف الترابى بهندسة الانقلاب وإخفاء دوره» كما قال؛ لتضليل 
الشيوعيين ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية . وفى تهديد مباشر للبشير قال فى نفس الحديث إنه 
قادر على أن يفعل نفس الشىء مرة أخرى. 

11) أنشأ خلايا الإخوان الأولى فى السودان نفر من خريجى الجامعات المصرية الذين انخرطوا 
فى الجماعة منذ الخمسينيات . ولمزيد من التفصيل حول المسار التاريخى لحركة الإخوان المسلمين 
فى السودان راجع 48-68 29 ,تدمناناوع8 د5_أطهننا؟ .تلمع]لق ا8 .م 


260 


(12) بعد إكماله الدراسات القانونية بجامعة الخرطومء التحق الترابى بجامعة لندن للحصول 
على شهادة الماجستيرء ثم جامعة باريس للحصول على دكتوراة الدولة فى القانون. من بعدء التحق 
بأسرة التدريس فى كلية الحقوق؛ جامعة الخرطوم. 

(13) قال الشيخ محمد مهدى عاكف. ممثل الحركة الإسلامية العالمية فى أوروباء فى حديث 
لإحدى المجلات أن الحركة التى ينتمى إليها لا تشارك الترابى فى أفكاره ولا فى أساليب أدائه. 
الوطن العريى» ؟ أبريل 5٠١١‏ . 7 

(14) خلال هذه المداهنات تزوج الترابى من ابنة إمام الأنصارء شقيقة الصادق المهدى. وكان 
هناك تقارب فكرى بين الترابى والصادق. إلا أن الصادق؛ فيما توحى تحالفات الصادق مع 
الإخوان» كان راغباً فى استغلال الحركة الإسلامية وقائدها لدفع أجندته. وروى أحد المقربين 
للترابى عن شيخه قوله: كان هذا الرجل يظن أن هدفى الوحيد من زواج أخته هو أن أصبح وزيراً 
فى حكومته. 

(15) حسن الترابى» الحركة الإسلامية فى السودان» ص.ص ١58 _ ١45‏ . 
كدعو لإانومع الونا 0150 ,كعموط تطماعلة ,عدقدمص1 أدتصذاكآ عطا بموسدعق؟ متطدرط1 (16) 

1997, 6 

(17) نشأت الأصولية المسيحية (00258031150:) فى أمريكا فى القرن التاسع عشر للتبشير 
بعودة المسيح الوشيكة التى تصحبها سعادة أبدية لألف عام ولهذا أطلق عليهم اسم الألفيين 6م) 
51 وكانت تلك الأصولية» ذات المنبت البروتستانتى الإنجيلى» محافظة جامدة تقف ضد 
أى محاولة لفهم جديد للكتاب المقدسء بل ظلت تلتزم بحرفيته . تلك النظرة الزميتة للدين لم تكن 
تتفق مع روح الثورة الأمريكية» فكما هو معروف أن توماس جفرسونء الرئيس الثالث للولايات 
المتحدةء قد أعاد صياغة الإتجيل يزيل منه كل ما لا يقبله العقل» وأصدر يدلا عنه ما يعرف 

2 ,أن.من .1973 .كوعقا ,كعطقناطنا لنقاهناه؟ ,خاتواع نالعا 15201010031 مدعملمْ ,ونال] ععداوظ8 ر18) 

(19) الكلمة بمفهومها الإغريقى القديم هى الكشف الرؤيوى عن عالم جديد. 

(20) سيد قطبء معالم فى الطريق ( من بعد معالم) . 

(21) محمد قطبء جاهلية القرن العشرينء دار الشروق» ص. ص .5١١ 2٠٠١‏ 


521 


(22) أعدم سيد قطب مع رفيقيه عبد الفتاح إسماعيل ويوسف حواش فى ععنهد عبد الناصر 
بتهمة العمل على تقويض الدولة. 

(23) الشافعى والطبرى (تفسير الآيتين 77١‏ من سورة التوبة) » والإمام ابن تيمية الذى أجاز 
الجهاد حتى ضد المنافقين (السياسة الشرعية) » والإمام أحمد الذى قال أن الجهاد قائم إلى يوم الدين 
مستدلاً بالحديث: فى كل أمة رهبانية ورهبانية أمتى الجهاد. 

01 ومالمعلع1 عتتصة[ك1 2150021 ضمعال1 ,تصدذاكآ عنتلصقازعلمنا ذ5لعة<10 ,ألنالبد81-الة (24) 

6 1994 ,230108 زمدع:0 5106815 وفى كتاب آخر قال المودودى الحاكمية فى الإسلام مختصة 
بألله وحده لا يشاركه وينازعه فيها غيرهء ذلك أن التوحيدء كما فسره القران» يستلزم أن يكون الله 
وحده هو الحاكم المطاعء والآمر الناهىء والشارع بالمعنى السياسى والقانونى . مفاهيم إسلامية 
حول الدين والدولة» دار القلم» الكويتء ص ١47‏ . 

(25) مجلة الرسالة» > أكتوبر ١5544‏ 

(26) معالم؛ ص ١44‏ . 

(27) منذ سبعينيات القرن الماضى تجمعت دول الجنوب فى أسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية 
والوسطى للتعبير عن رفضها للنظام الاقتصادى العالمى فى منظومات معروفة مثل الانكتاد» 
مجموعة السبعة والسبعين فى الأمم المتحدة» وحركة عدم الانحياز. 

3 ,طالا/1 عط ع 0م0131 ععتاع]للاه ا ععنوظ (28) 

(29) الحياه / نوفمبر/ تشرين ثان 7 7٠١‏ . 

(30) تصريح للسياسة الكويتية نقلته الشرق الأوسط 28 نوفمبر/ تشرين ثان 7٠١7‏ . 

(31) الشرق الأوسط 4 ديسمبر١١٠؟.‏ 

(32) نفس المصدر. 

(33) أول من ابتدع تعبير أيديولوجية ((1020108) هو الكاتب الفرنسى دستروت دى تراسيى فى 
مؤلف أسماه "الأفكار العلمية» اعتمد فى إنشائه على أفكار جون لوك وفرانسيس بيكون حول دور 
العلم فى الترقى بالمجتمع الإنسانى. وسادت نظرية الأيديولوجية المناخ الفكرى فى أوروبا فى القرن 
التاسع عشرء ولهذا أطلق على تلك الفترة اسم عصر الايديولوجيات؛ وكان قمتها الايديولوجية التى 
جاء بها انجلز وماركس. 

(34) حوارات مع مكرم محمد أحمد فى المصور 78.5١‏ يونيو/ حزيران 7 :2٠١‏ ومؤلفات 
أربعة هى: حرمة الغلوفى الدين وتكفير المسلمين» تسليط الأضواء على ما وقع فى الجهاد من 
أخطاءء النصح والتبيين فى تصحيح مفاهيم المحتسبين» العنف رؤية واقعية ونظرة شرعية 


522 


(35) مجلة الوسط 74 أكتوبر ٠٠١‏ 

(36) الحياة» 4 أكتوبر .7٠٠١‏ 

(37) نقلها عن الصحيفة توماس فريدمانء لوس انجلس تايمز؟؟ يونيو7؟١٠7.‏ 

(38) الإمام السيوطى: الوسائل الى معرفة الأوائل. 

(39) الحياةء /ا فبراير .7٠١١‏ 

.وبدعل! اهم 0 أرممع1 لداععم5 ,عمولالا عط مه دوكتادنمء تسخلصيظ ,ععلمعطالعك عميدل (40) 
0 17 ععطترع نولم 
2 13 نزانل ,وعليول بجعل8 عط ,ععصصمظ8 لومسررد 41 

(42) من بين العناصر الحاكمة (أوالتى شاركت فى الحكم) وتدريت فى الكفرة» ليبياء غازى 
صلاح الدين» مهدى إبراهيمء إبراهيم السنوسى. 

(43) الشرق الأوسطء " يولي و344١‏ . 

(44) الترابى هو أحد مؤسسى دار المال الإسلامى بجنيفء والذى هو بمثابة شركة خارجية 
قابضة لبنوك فيصل الإسلامية . وكان الترابى فى فترة من الفترات رئيسا للجنة الفتوى بالدار. 

(45) من بين العاملين فى منظمات الدعوة والإغاثة والذين انتهى بهم الأمر إلى أجهزة النظام 
الأمنية أو الدبلوماسية : محمد يوسف. مطرف صديقء الشيخ درويشء» عمر ياسين» يوسف شيخ 
العربء الجعلى» وكبير لهم يدعى شادوقء كان يمسك بالخيوط فى إدارة شئون الموظفين برابطة 
العالم الإسلامى. 

(46) فى لقاء مع مجلة نيوزويك قال الترابى أن دوره هو تعبئة المسلمين لتحقيق الديموقراطية 
والتنمية الاقتصادية والسياسية» كما أن واجبه هو أن يقدم للعالم شيئاً جديداً. نيوزويك»؟ يونيو 
ك5 . 

ر )47‏ 99 ,عورنامنوا8 لهده1استاكهمك :مسرندلة-مى .4.4 يقول النعيم أن التبرير المعنوى لفكرة 
سيادة إرادة الأغلبية فى المحيط العام يفترض أن الأقلية تملك أيضاً حقوقاً قانونية نظيرة» وإمكانات 
عملية تتيح لإرادتها أن تسود يوماً ما. ولكيما يتحقق هذا لايمكن تحديد الأقلية ( أو النظر إليها) وفق 
معايير ذاتية وعارضة لايمكن للمرء أن يغيرهاء مثل العرق أو الجنس. 

(48) حسن مكىءالخرطومء ١5‏ فبراير, ٠٠٠١‏ 

(49) تعبير الجاهلية ( بمعنى الظلامية ) فى حاجة إلى مراجعة. فعلى المستوى الفكرى 
والحضارى لايمكن وصف الفترة التى سبقت الإسلام بالجاهلية (بالمقهوم الحضارى البحت) » خاصة 


523 


وقد خلفت تلك الفترة للثقافة العربية مواريث فى الشعر والخطابة والأحاجى والأمثال؛ مازال العرب 
يرددونها ويفاخرون بها . ولعل المراد من التعبير يومذاك هو الأنفة والحمية العشائرية التى اشتهر بها 
العرب .ففى حديث الإقك : ولكن اجتهلته الحمية؛ أى حملته على الجهل. وفى قول زهير ألا لا 
يجهان أحد عليناء فنجهل فوق جهل الجاهلينا. وقد سعدنا بقراءة ورقة لمؤرخ سعودى (الدكتور مشلح 
المريخى)» أستاذ الآثار بجامعة الملك سعود أبان فيها صوراً عن المشهد الثقافى فى الجزيرة قبل 
ظهور الإسلام واستنكر إطلاق اسم الجاهلية (يمعنى الجهل) على تلك الحقبة. 
6 ,لمتعناع؟]! عبانانسوظ أ وعجمع1 ,لتقطغصط _ ومولاط .8.8 (50) 
(51) فى مقدمة لقصة فرانسيس دينق كتب عبد الله النعيم يقول بجانب الكشف عن جهلى 
بتقاليد عميقة داخل بلادىء فقد تكشف لى أيضاً ما تعنيه بأن من يسمون بالروحانيين فى السودان 
قوم متدنيون وبدرجة لا تقل» إن لم تكن أكثرء من أهل الكتاب من المسيحيين والمسلمين. 
(52) كيهان» طهران» 74 أبريل 1997. 
6 1129 ,0131ةنان) 1116 ,510213 لإمقتته زوللا 10 11125 )0201آ ,.أكرن1[ 123010 (53) 
2 13 لإأنال ,عع لعولا بسعاظ عط ,تعصومظ8 لممولازدظ (54) 
6 ,3 طاععةك ,عم اهدع ة11 وعصد 1 علعملا بسعل8 ,برعاءلءء8 [ازظ (5ك) 
0 ,5] وعطة1 لمة عع5ة1 رطانص 1 مز عمتائآ زاء حول حدادزلةا (56) 
2 ,1994 تعتاتوععن([لوعطاوء 110 وتند الم ,معاعده"1 ,لد تلقاصع تحلص أه دععدط ,ءع1لئل5 طائلس[ (57) 
.137 
(58) القاهرة ١١‏ أبريل 7٠١١‏ . 
(59) تاريخ الطبرى ؟/7١7.‏ 
(60) نفس المصدر 587/54 . 
(61) المصدر السابق. 
(62) الحافظ ابن كثيرء البداية والنهاية» الجزء السابع. 
(63) أبو حنيقة الدينورى: الأخبار الطوال 
(64) نفس المصدر 
(65) المصدر 5ه أعلاه. 
(66) نفس المصدر. 


524 


(67) المصدر؟51 أعلاه ص ,47؟ 

(68) نفس المصدر ص 5454 . 

(69) "الأحكام السلطانية (الماوردى)» الأحكام السلطانية (أبو يعلى الفراء الحنبلى)؛ الإمامة 
والسياسة (ابن قتيبة) » السياسة الشرعية فى إصلاح الراعى والرعية (ابن تيمية)» التبر المسبوك فى 
نصيحة الملوك (الغزالى)» تحفة الترك (الطرطوسى) آداب الملك (الذعالبى)؛ الطرق الحكمية فى 
السياسة الشرعية (ابن قيم الجوزية) » رسالة الصحابة (ابن المقفع) » السعادة والإسعاد ( أبو الحسن 
العامرى )» الفخرى فى الآداب السلطانية والدول الإسلامية (ابن الطقطقى)» الجوهر النفيس فى 
سياسة الرئيس (ابن الحداد) » سراج الملوك (أبو بكر الطرطوشى) . 

(70) حسن حنفىء التراث والتجديدء المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع» بيروت 
ص 2.18 

(71) كتب الغزالى فى فضائح الباطنية يقول: أما بعدء فإننى لم أزل مدة المقام بدار السلام 
متشوقا إلى أن أقدم المواقف المقدسة النبوية الأساسية المستظهرية؛ ضاعف الله جلالهاء ومد على 
طبقات ظلالهاء لتصنيف كتاب فى علم الدين. 

(72) الغزالى: المنقذ من الضلال. 

(73) الغزالى: فضائح الباطنية. 

(74) قال فى مقدمة المنقذ أنه ظل يتوغل فى كل مظلمة؛ ويتهجم على كل مشكلة حتى 
يستكشف أسرار المذاهبء لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته» ولا ظاهريا إلا وأريد أن 
أعلم ظاهريتهء ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته» ولا متكلماً إلا وأجتهد فى الاطلاع 
على غاية كلامه ومجادلته» ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته» ولا زنديقاً معطلة 
إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته 

(75) زكى مبارك : الأخلاق عند الغزالىء دارالجيل: 544١ء‏ ص ص 78/77 . 

(76) يقول المعتزلة إذا اجتمع قرشى ونبطىء قدمنا النبطى إذ هو أقل عدداً وأضعف وسيلة 
فيمكننا عزله (الشهرستانى: الملل والنحل) . 

77) يؤخذ على ابن خلدون أنه لم يلجأ فى تحليله للتاريخ» وقاع التاريخ لا يحدء إلى التجارب 
الإنسانية السالفة كالرومان واليونان كما فعل الفارابى مثلاً. كما يؤخذ عليه تراخيه في تطبيق 
المعايير التى حددها فى المقدمة على مسيرة الدول التى عالجها فى نص كتابه الضخم (ديوان 


525 


العبر) . هذا التناقض بين المقدمة والكتاب هو الذى حمل درينى خشبة؛ قبل نصف قرن من الزمان» 
للقول بأن المقدمة هى إعادة صياغة لأفكار إخوان الصفا. وذهبء من بعدء المؤرخ الإسلامى 
المعاصر محمود إسماعيل لرمى ابن خلدونء لنفس السبب بالانتحال (نهاية أسطورة ابن خلدون) . 

(73) قال «فوقع فى نفسى لأجل الوجل الذى كنت فيه أفاوضه فى شىء يستريح إليه؛ ويأنس 
به. ففاتحته وقلت: أيدك الله لى اليوم ثلاثون أو أربعون عام أتمنى لقاءك؟ فقال له الترجمان عبد 
الجبارء وما سبب ذلك؟ قلت أمرانء الأول أنك سلطان العالم» وملك الدنياء وما أعتقد أنه ظهر فى 
الخليقة منذ آدم فى العهد متلك؟» 

(79) فى آراء أهل المدينة الفاضلة لجأ الفارابى إلى أدوات فى التحليل من خارج منظومة الفكر 
الإسلامىء وقدم عالماً مثالياً (شبيهاً بجمهورية أفلاطون) استلهم فيه كتاب السياسة لأرسطو. فى 
تلك الآراء قدم الفارابى نموذجأ للرئيس الحاكم لا تتوافر مقوماته فى أحد ؛ قال : أن يكون جيد الفهم 
والتصورء جيد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ويسمعهء يؤاتيه لسانه على إيانة عما يضمرهء غير شره 
على المأكول والمشروب والمنكوح؛ أن يكون محبآً للصدق وأهله؛ كبير النفس محبأ للكرامة؛ أن يكون 
الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عندهء أن يكون قوى العزيمة على الشىء الذى يرى أنه 
ينبغى أن يفعل . هذه صفات قل أن تتوفر فى حاكمء وبالقطع لم تكن تتوافر فى الحاكم الذى عاش 
القارابى فى كنقفه بحلبء سيف الدولة الحمدانى. 

(80) مثال ذلك الحكمة العروضية لابن سيناء وله فيها آراء جيدة حول سياسة الاختيار 
(الديموقراطية) التى يتساوى فيها أهلهاء فاضلهم ودنيهم؛ فى استحقاق العقويات والكرامات 
والرياسات وتكون الرياسة لمن أجمعوا على ترويسه؛ أو سياسة التغلب (الأوليغاركية) والتى أسماها 
خساسة السياسة. 

(81) محمد خاتمى» الدين والفكر فى فقه الاستبداد. 

(82) المصدر 6 أعلاه. 

(83) أبو الوليد ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. 

(84) علانة! طانلساةء المصدر /ه أعلاه . 

١999, ويلوي١١ الأنباء»‎ )85( 

لكآ علككم0اع] لزنه لالوث. ذخ (86) 

(87) يقول ذلك العهد أن قريشأ وأهل يثرب ومن تبعهم ومن لحق بهم وجاهد معهم .. أمة واحدة 
من دون الناس. وأن من تبعهم من يهودء فإن له النصر والأسوة» غير مظلومين ولا متناصرين 


526 


عليهم. وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛ وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين» 


لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. 
,1998 ,لالط ىلا1800 معلمطء5 ,امم 841001 عط كه لإاتامعل1 عأمناان84 ع1 ,كتسماآ لممععظ (88) 
29م 
(89) نفس المصدر 


مآ ,أعدكةن) عاتتدء؟ ,اتقلناذ هذ لإأعاع50 لم2 امآ عتصيدا؟آ ,جدططمآ علاوعيساع مبراميج© (90) 
.2 ,1987 

.7٠١١ ديسمبر‎ ١١ القاهرة‎ )91( 

(92) (86-88 .© ,عل14020 بال منمعلاة ,نندأكل نآ ,عنتهاع) ونداة) من بعد شيفالييه 3 

(93) القس جاك بينينيه بوسوييه من كبار المفكرين الكاثوليك وكان مقرباً من لويس الرابع عشر 
وازره فى صراعه مع البابا عندما أعلن استقلاله عن البابوية فى الآمور العلمانية . أنكر بوسوييه 
أيضاً السلطة المطلقة للبابا فى الأمور الدينية ما لم تحط قراراته بدعم الكنيسة كلها لتلك القرارات. 
وبالرغم من استنكار بوسوييه للعنف الذى كان يمارسه الكاثوليك ضد البروتستانت» ودعوته للحوار 
معهم بالحسنىء إلا أنه» فى إنذاره ذلكء تعامل مع البروتستانت كمواطنين فاقدى الأهلية الكاملة» 
وظلوا على ذلك الحال حتى قيام الثورة الفرنسية. 1 

(94) محمود محمد طهء الرسالة الثانية من الإسلام. مع أن تنك الرسالة قامت فى معمارها على 
ما جاء فى كتاب الله والصحيح من سنن نبيه» إلا أن المتريصين ومن تبعهم من غوغاء المتعلمين 
حسبوها ادعاء لنبوة طاهوية. ولكن صدر مثل هذا الحكم على ذلك الاجتهاد النفيس ممن لم يقرأه 
فقد ظلم نفسه» وإن صدر ممن قرأه وأساء فهمهء فقد كشف عن مقتل. فالذى يدرك معانى الكلمات. 
وفحوى الاصطلاحات يعرف أن الرسالات لا تدنحصر فى الأنبياء» فرسألة النبى هى إبلاغ ما أمر 
الله بتبليغه» ورسالة المصلح أو المجتهد هى الدعوة لما قصد إليه من إصلاحء وتحراه من اجتهاد. 
وقد أعيد مؤخراً طبع هذه الرسالة مع رسالتين أخريين للأستاذ أشرفت على إجلائها أسماء محمود 
محمد طه وزوجها النور محمد حمد حتى يتاح للقارئ العربى والمسلم الاطلاع على اجتهاد بريع 
تضافرت قوى الجهل والظلام على التعتيم عليه. نحو مشروع مستقبلى للإسلامء المركز الثقافى 
(بيروت) ودار قرطاس (الكويت) . 

(95) فى تصريح لإحدى الصحف عقب إلغاء المحكمة العليا(١١‏ نوفمبر187١)‏ للحكم الذى 
أصدره نميرى ضد الأستاذ الشهيد ورد الاعتبار له» قال الترابى أنه لا يبدى أدنى أسف على قتل 


5327 


محمود. جريدة الوطنء الخرطومء ١‏ أبريل 1184 . ومن الغريب أن الترابى قد أدان فى نفس 
الوقت قتوى الخمينى بإهدار دم سلمان رشدى. 

(96) راجع الفصل الرابع حول فتوى الترابى بعدم جدارة غير المسلم برئاسة الجمهورية فى 
السودان؛ ولاشك فى أن الترابى كان مصيباً فى فتواه» طالما بنى حكمه على مبادئ الفقه التقليدى 
حول الولاية الكبرى. 

(97) ديباجة الإعلان الدولى لحقوق الإنسانء القرار7١7‏ للجمعية العامة للأمم المتحدة (الدورة 
الثالثة) تنص على أن قبول الإعلان شرط مسبق للإنضمام فى عضوية الأمم المتحدة . 

ةن( كأطوتآ انقدصن1] ,عتداء2آ1 عاطع 1 مقصشلط مت دعءاه/ ماتلكب84 ,الاءاءاعاظ ععمن1] ر98) 
.5591 17.1995 
2 ل لإاالووىعء/الولا أمعع م امم السندللاعمخ (99) 

(100) ولدت الليبرالية الحديثة ( خزية الفره: العد من ملطات الدولة تجاه الفردء الفصل بين 
السلطات ) فى بريطانياء مع أن تير كر أو هري (هدفعةء6ذ!) كان تعبيراً إزدرائياً يطلقه التوريون 
المحافظون (10665) على الهويغيين (7/5185) » وهم الإصلاحيون الذين كانوا يعارضون تولى دوق 
يورك (جيمز الثانى فيما بعد ) الحكم لانتمائه للكاثوليكية .التعبيران» فى واقع الأمر ازدرائيان» 
فكلمة هويغ فى اللغة الغالية (»:!826) تعنى لص الخيولء؛ فى حين تعنى كلمة تورى فى اللغة 
السلدية» الخارج على القانون. هذا التعارض انتهى إلى توافق بين الطرفين على الحد من سلطان 
الملكء وكان ذلك التوافق بمثابة الإعلان ببدء الليبرالية الجديدة . 

(101) فى عام 1187 عقدت منظمة اليونسكو ندوة ثقافية للتدارس حول مفاهيم حقوق الإنسان 
وجذورها فى كل الديانات حتى يزال الالتباس القائم حول نسبة هذه الحقوق لدين واحدء أو حضارة 
واحدة . فى تلك الندوة شاركت كوكبة من العلماء من كل الملل والنحل؛ واجتمع رأيها على أن 
لحقوق الإنسان المتعارفة اليوم اصلا فى كل الديانات والحضارات 15 .(لء) ,ناعنك اسذط 
5185006نا .طون ممصسطةط 01 كممتاهلمنه لمعتطممكهاتطط 

(102) يقول ميل أن الحق الوحيد الذى يملكه البرابرة (الأغيار) هو حقهم فى الانخراط فى 
الحضارة» أى الحضارة الغربية. أما أنجلز فقد كتب بصفاقة غريبة يرحب باحتلال فرنسا للجزائر 
لأن ذلك الاحتلال سيمكن تونس والجزائر والمغرب من الدخول في يبان الحضارة . قال أيضاً:وإن 
كان أهل تلك الأمم البربرية يبدون» من على البعد» كبشر ئبلاء مغكدين بذواتهم إلا أنهم ارتضوا 
لأنفسهم حكماً لا يقل فى عنفوانه عن تحرق قابيل وشهوته " 


528 


4 ,22 لمقنامةل ,.أ0/ا (هونادء ألطياط كادونامو© «ادتاعمط) ,نقاذ حتعطمهل! ,واعوصظ .8آ. 

(103) يوسف القرضاوىء الأهرام العربى» ١١‏ مارس ؟١٠7.‏ 

(104) مجلة الأزهرء العدد 1١‏ 191/5 . 

(105) إلى الرأى الأول ذهب الشيخ أحمد طه ريانء عميد كلية الشريعة بالأزهرء وإلى الثانى 
مفتى مصر السابقء الشيخ نصر فريد واصل. ويقول الأخير أن المرأة قاصرة بطبيعتها "فى فترات 
معينة تكون فيها غير كاملة المزاج ومختلة التوازن الشرق الأوسط 7٠١7/9/77‏ . 

(106) نحو مشروع مستقبلى 14 أعلاه. 

(107) روز اليوسف 77 سبتمبر/ أيلول 7٠١7‏ . 

(108) تفسير القرآن إيضاحه؛ والفسر (بفتح الفاء) كشف المغطىء وتأويله إرجاع كلماته إلى ما 
تحمله من معان ( الأول لغة الرجوع إلى الشىء) . وعرف السيوطى التفسير ب علم نزول الآيات» 
والأسباب النازلة فيهاء وبيان محكمها ومتشابههاء وناسخها ومنسوخهاء وخاصها وعامهاء ومطلقها 
ومقيدهاء ومجملها ومفسرهاء وحلالها وحرامها. ( الإتقان فى علوم القرآن ) . كما عرف البغوى 
التأويل ب صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدهاء غير مخالف للكتاب والسنة عن 
طريق الاستنياط . 

(109) قال الزمخشرى فى الكشاق أن «من لم يبرع فى علمى البيان والمعانى لا حيلة له بتفسير 
القرآن. ولا سبيل لذلك؛ كما قالء إلا لمن تمهل فى ارتيادها آونة» وتعب فى التنقير عنهما أزمنة؛ 
وبعثته على تتبع مظانهما همة». ولا شك فى أن انتماء الزمخشرى للمعتزلة أثرفى منهجه قى 
التفسير إذ أن النظرة المعتزلية للقرآن تقوم على أن بين اللفظ والمعنى علاقة حتمية حاسمة. أما 
تفاخره بتفسيره فقد عبر عنه بقوله: 

إن التفاسير فى الدنيا بلا عدد 

وليس فيها لعمرى مثل كشافى 
إن كنت تبغى الهدى فالزم قراءته 

فالجهل كالداء والكشاف كالشافى 

(110) الأشباه والنظائر فى الفقه فن يطلع به على حقائق الفقه ومداركه» ومعرفة أحكام المسائل 
والحوادث والوقائع التى لا تنقضى على ممر الزمان (السيوطىء الأشباه والنظائر) . أما فى التفسير 
والتأويل فهى ورود الكلمات على لفظ واحد وحركة واحدة ويراد بها معنيان مختلفان مما يسميه 


529 


علماء اللغويات .(20003:097). مثال ذلك كلمة قسورة التى تعنى الأسدء كما تعنى الرامى؛ وكلمة 
ععسعس الليل تعنى إقباله كما تعنى إدباره؛ وكلمة كافر التى تعنى الجاحد بالدعمة:» أو المنكر 
للوحدانية» كما تعنى الزارع لأنه يكفر (يغطى) البذرة بالتراب. ففى قوله تعالى «اعلموا أنما الحياة 
الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكُفار نباته ثم 
يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفى الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة 
الدنيا إلا متاع الغرور» (الحديد 57/ )٠١‏ . وفى هذا الباب تعددت الكتب: "الأشباه والنظائر فى 
الألفاظ القرآنية التى ترادفت معانيها وتعددت معانيها (الثعالبى)» تحصيل نظائر القرآن (الحكيم 
الترمذى)» الإتقان فى علم القرآن (السيوطى)؛ بصانئر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز 
(الفيروزابادى)» تأويل القرآن (ابن قتيبة) » كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه (أبوالعباس المبرد) . 

011 أول من وضع المثلث فى اللغة» وهو من تلاميذ سيبويه. 

(112) الجرح ما تجرح به (تسقط أو ترد ) شهادة الناقل؛ والتعديل هو تزكية الرواية ممن عدل 
الشاهدء أى زكاه . والعدلة (جمع عدالة ) هو مزكون الشهادة. 

(113) عدد الجلال السيوطى (تاريخ الخلفاء) من المحدثين الذين اشتهروا فى تلك الفترة ابن 
جريح بمكة» ومالك بالمدينة» والأوزاعى بالشامء وابن أبى عروبة وحماد بن سلمة فى البصرة. 
ومعمر باليمن» وسفيان الثورى بالكوفة. 

(114) عبد الجواد ياسين» السلطة فى الإسلام» المركز الثقاقى العربى بيروت صفحة ؟"؟. 

(115) جنوب السودان فى المخيلة العربية صن ؟7 . 

(116) عقب اغتيال فرج فوده» رمى الشيخ محمد الغزالى الكاتب الراحل بالردة» وأحل قتله على 
يد أى مسلم طالما لم د تقم الدولة بذلك الواجب. وكان الذى قام بالقتل طالب من المعهد الصناعى 
بالمطرية لم يقرأ كتاباً واحدا لفوده ولكنه قال؛ أو لقن القول؛ قتلنا فودة الكافر المحارب للإسلام؛ ليس 
قمعا لحرية الفكر» وإنما وقفآً لحرية الكفر. 

(117) الأهرام ” فبراير؟ 7٠١‏ . 

(118) محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة. 

(119) عبد المتعال الصعيدى : الحرية الدينية فى الإسلام» دار المعارفء القاهرة . 

(120) فى ندوة عقدت بواشنطون عام 1597 واجهت إحدى الناشطات فى ميدان حقوق المرأة 
الترابى بعدة أسئلة حول حقوق المرأة فى الإسلام أجاب عليها الترابى؛ دون الاستناد إلى نص 
قرآنى أوحكم فقهىء بقوله أن حقوق المرأة فى الإسلام لاتختلف عن تلك التى توفرها الشرائع 


23230 


المعاصرة .بيد أن السائلة لم تتركه بل أردفت بسؤال حول حق المرأة المسلمة فى أن تنزوج غير 
المسلم إن رغبت. على ذلك السؤال رد الترابى بالإيجاب باعتبار أن القرآن لم يحرم ذلك النوع من 
الزيجاتء دون أن يقول أن الإسلام يحرم زواج المشرك بالمسلمة وزواج المسلمة بالمشرك (البقرة 
"/) تجافى الترابى أيضأء فى كديب له صدر فى عام 1977 تحت عنوان رسالة فى المرأة» 
الإشارة إلى حقوقها فى الميراث» والشهادة» والمشاركة السياسية كما هى محددة فى القران النصى» 
وواردة فى أحكام الفقهاء. كما لم يوضح للسائلة فى واشنطون اجتهاده لإزالة التناقض بين آرائه 
وبين النصوص القطعية:» إن كان ثمة تناقض. 

(121) حقوق المرأة فى الشهادة منقوصة» كما هى فى ولاية القضاءء ففى القرآن: (واستشهدوا 
شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل 
إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى» ( البقرة 587/7)» وكان للترابى تفسير عجيب للنص القرانى 
الذى يميز بين شهادتى الذكر والأنثى. قال أن مناط الحكم هو أن النساء يتعرضن لحالات طبيعية 
مثل الحيض والولادة قد تعوق بينهن وبين المثول أمام القضاءء ولهذا لزم التحوط لتلك الحالات 
(شيفالييه) . ذلك الرأى يتوافق مع رأى فقيه تقليدى» مفتى مصر السابق نصر فريد واصل (هامش 
٠٠١‏ أعلاه) . بيد أن الترابى القانونى لا يجهل أن المرأة فى السودان قد وليت القضاءء حتى فيما لا 
تصح فيه شهادتها. 

(122) فى منتصف التسعينيات تربصت الجبهة بقاض شرعى معارض للنظام (الشيخ مجذوب 
كمال الدين) » وشيخ أطباء العيون بالعاصمة (عبد القادر حسن إسحق) وأقامت عليهما الحد جلدآ 
بتهمة الشراب أمام مرأى ومشهد من الناس. والجلد للشارب حكم تعذيرى؛ يملك الحاكم أن يبدله 
بحكم آخر ( الغرامة أو السجن أو التوبيخ ) إن أراد. ولكن بغية الحاكم فى تلك الحالة لم تكن هى 
إقامة حدود الله بقدر ما هى إذلال معارضين للنظام . وكان النظام قد تربص بالرجلين» دون أن 
يستذكر ما ورد عن أمير المؤمنين عمر عندما تربص برجل يشرب فى بيته وأمر بجلده . قال الرجل 
لعمر لئن ارتكبت خطيكة( الشرب)ء فقد ارتكبت يا أمير المؤمنين مثلها (التجسس )» فأخلى عمر 
سبيله . 


(123) روى طبيب نفسى سودانى ( الدكتور مجدى إسحق أحمد (عن تجاربه فى سجن كوبر 
عندما كان يشرف على المرضى النفسيين من السجناء» وأغلبهم ممن طبق عليهم حد القطع 
(السرقة)؛ وحد الحرابة فى عهد نميرى. أورد الطبيب أن الداء النفسى الغالب على هؤلاء كان هو 


531 


الاكتئاب والاعتلال النفسى المعادى للمجتمع . وفى رسالة وزعها عبر الإنترنت وجه الطبيب سؤالاً 
صائباً: فماذا يكون أول ما يتبادر إلى ذهن الإسلاميين» عندما يتحدثون عن تطبيق شرع الله هو 
الجلد وا القطع ؟ نلء. بوموءعه. بمعماوذا © مقمتد 

(124) المجلةء 7 مارس ١5517‏ 


لالالا 


532 


«بى » 





الجبهة الفومية الإسلامية 
عشرسنوات خارج نطاق 
الخرن العشرين 


جكوفة إببلائية لم دولة ما فيوقراطية؟ 

خدع النظام الإعلامية لإقناع العالم بنجاحه فى إشادة نظام إسلامى فريد لا ١‏ يلفى 
الآخرء ويعترف بمبادئ حقوق الإنسان» ويأخذ الناس ‏ مسلمهم وغير مسلمهم الى 
لم تنطل إلا على من شاء فى خارج السودان أن يتخدع بهاء لأمرفى نفس يعقوب.ولكن 
الجبهة لم تفلح أبدأ فى إقناع أهل السودان بهذه الأوهام» فليس من رأى كمن سمع. فمنذ 
البداية» لم يتسع النموذج المثالى للحكم الذى صنعه الترابى على عينه (ءعةصدذ دنط 0)ء 
وتولاه بالرعاية منذ إنشائه» يتسع لغير الجبهويين» ومن والاهم مسترخصا لنفسه ومرخياً 
زمامه لهم. هؤلاء »دوم نهزة لأى مختلس . إلى جانب هؤلاء تضامت قله محدودة ممن 
حملتهم دواقع يقينية على التعاون مع النظام الإسلامى؛ كما تساقط على النظام؛ وبحماس 
منقطع النظيرءمعمعيون» هم أنصار كل من غلب . أولتك لم يمتعوا الجبهة: إلا بقدرما تمتع 
الرجل المرأة اللميسء وهى الفاجرة التى لا ترد يد لامس. 

الماع ع رو بيد د . لم يبتغ النظام من 

ييدهم غير التعفية على خدعه:ء فالترابى» يومذاك, رأى صريح فى التعددية السياسية. قال 

لصحفى أمريكىء أنها وجه آخر للطائفية والقبلية.!') كثيرون لا يختلفون مع حكم الترابى 
بأن الطائفية الدينية والقبلية مازالتاء رغم تبدل الأزمان» تلقيان بظلهما الكثيف على الحياة 
السياسية فى السودان . ولكن القبلية والطائفية حقيقتان من حقائق الحياة فى السودان يلغيهما 
التطورء لا الأوامر الفوقية المشتطةء أو فوران الانفعالات. فى ذات الحديثء اندقع الترابى 


5355 


يقول إن الانتخابات فى أوروبا تشويه لإرادة الشعب بسبب نفوذ الطبقات القادرة على التأثير 
على مسار الانتخابات بما تملك من مال ونفوذ. هذه الرؤية للديموقراطية الليبرالية لا 
تختلف عن تلك التى كانت سائدة بين الشيوعيين فى الماضى حول الديموقراطية الليبرالية» 
والتى كانوا ينعتونها بالبرجوازية انتقاصاً منهاء ولربما تبريراً لديموقراطية النظام اللينينى 
الشمولى . وكما أفاد الشيوعيون من الديموقراطية البرجوازية فى أوروبا وغيرها حتى أصبح 
لهم نفوذ كبير فى بعض الدول (إيطاليا والهند مثلاً) ؛ إستغلها الترابى أيضاً فى السودان 
بحيث أصبح حزيه هو الحزب الثالث فى موازين السياسة. فمع صدق حديث كليهما عن 
الدور الذى يلعبه المال والإعلام اليوم فى الانتخابات البرلمانية فى الغربء ما برح حزب 
العمال فى بريطانيا ودول سكاندناوا يعتمد فى تأييده على النقابات العمالية فى الانتخابات. 
وما أنفك الحزب الشيوعى الإيطالى والحزب الشيوعى الفرنسى (قبل إنهياره أخيراً بانهيار 
الشيوعية وجموده السياسى) يحتلان مواقع مرموقة فى برلمانى بلديهماء استناداً على 
قاعدتيهما العماليتين. وعلى أى فإن إلقاء مثل هذه الأحكام على عواهنها لا يصح من رجل 
محقق يملك ما يملكه الترابى من علم وافرء ومعرفة لصيقة بالغرب؛ خاصة وهو الذى 
اختار لسكناه فى باريس (إبان الدراسة) منطقة فيترىء قلعة الشيوعيين المنيعة. 

أفصح الترابى أيضاً فى حديثه مع الصحفى الأمريكى عن رغبته فى تلقين أوروبا درساً 
عن الديموقراطية. وفى سبيل ذلك الهدفء قال لا يهمه شىء فى هذه الدنيا لأنه يؤدى 
واجباً دينياً. ما هو الدرس الذى انتوى الترابى تلقينه للغرب؟ وما هو النموذج الديموقراطى 
البديع الذى قدمه للصحفى كبديل لديموقراطية الغرب الشائهة؟ اقترح الترابى نظاما بعيداً 
عن الفهمء لا سيما إن كان مراده هو إقناع صحفى غربى بجودة نموذجه الإسلامى. قال: 
إننى توحيدىء أنادى بالوحدة للشعب السودانى... وأساس عقيدتنا أن الله واحدء وحزينا 
واحدء وطريقنا إلى الله واحد. هذا حديث لا ينجع فى سامعه؛ فمن ذا الذى يزعم بأن الوجه 
السياسى للعقيدة التوحيدية هوالحزب الواحد؟ وكيف يمكن للداعية لمثل هذه الشمولية 
السياسية أن يقول أن الإسلام يتسع لكل الفرق والملل والدحل؟ ثم كيف يبيح لنقسه أى 
سياسى يحسن التقديرء الدعوة لنظام شمولى فى الوقت الذى أخذت تنهار فيه جميع النظم 


3536 


الشمولية فى العالم؟ وأخيراً يصعب على المرء إدراك عجز رجل أفاد فائدة كبرى من 
التسامح فى مرحلة التعددية الحزبية» عن احتمال ذلك التسامح بعد أن ولى الحكم. فى حجة 
الترابى الواهية لتمكين نظام استبدادى باسم التوحيد خلط غير موفق بين المقدس والدنيوى, 
وبين الدينى والسياسى» بل فى جملة واحدة قسم الترابى الأمة كلها إلى حزب الله وحزب 
الشيطان. وليت حزب الله الذى تحدث عنه الترابى» كان ذا شبه بحزب الله اللبنانى» وليت 
إمامه نهج منهج الإمام موسى الصدر. سأل الدكتور مراد وهبة الإمام الصدر عن رأيه فى 
العلمانية» فأجاب: الفكر الدينى الصحيح يؤمن بأن الإنسان مخلوق أرضى له بعد سماوى. 
ومن هذه الزاوية يتلاقى الدين مع الفكر العلمانى. هذا الرد استثار وهبه لتوجيه سؤال آخر: 
ألا يثير هذا قضية فصل الدين عن الدولة؟. أجاب الإمام الصدر: الرأى عندىء أن الربط 
بين الدين والدولة كان فى خدمة الطغاة والظالمين» والفصل بينهما كان له الفضل فى إبعاد 
الظالمين الذين كانوا يحكمون باسم الله. ثم سأل وهبة الإمام عن الأرضية المشتركة مع 
العلمانيينء فرد قائلاً: "سعادة الإنسان.(؟) 

فى سودان الترابى الوحدانى؛ كان مصير كل من تحدى النظام الإلهى الجديد الإعدام 
دون إبطاءء أو السجن دون تريثء أو التعذيب بلا رحمة. فعلى سبيل المثالء قام النظام؛ فى 
إحدى دواماته الانتقامية العنيفة» «باعدام 58 ضابطاً بالجيش فى أبريل بعد فشل 
المحاولة الانقلابية التى شرعوا فيهاء “قرا جميها لم يمنتحيا متهم اعد . ونفهم إقدام النظام 
على محاكمة من حاول الانقلاب عليه من العسكريين (كما تفعل كل الأنظمة)» إلا أننا لن 
نفهم على الإطلاق الأسلوب الذى تمت به المحاكمة» إذ استغرقت أقل من ساعتين؛ أى كان 
نصيب كل متهم فيها دقيقتين للاستجوابء والدفاع» والحكمء ثم التنفيذ. ولو كانت حقاً هذه 
هى العدالة الإسلاميةء فلا شك فى أن كثيراً من المسلمين سيقولون: نحن براء من هذا 
الدين. لا يفعلون هذا جحوداً بدينهم الذى عرفوهء ولكن استنكاراً لإسلام غريب على ما 
ألفوه . إسلامهم الذى عرفوا وألفوا أوصى باللين حتى مع الفراعين» فوصاة الله تعالى إلى 
موسى وهارون عندما بعثهما لفرعون: «إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله 
يتذكر أو يخشى» (طه؛ 47/٠١‏ - 44) وفى الحالات الأخرى احتجز من لحق بهم الاتهام 


35337 


فى بيوت الأشباح:() وكان حراس تلك البيوتء بل مباشرو التعذيب فيهاء يوارون وجوههم 
دوماً خلف قناع سميك لا تبدو من خلاله إلا العيون إخفاء لهويتهم. هذا الأسلوب الجبان فى 
التعامل مع الحبيس لا تعرفه الدول التى تحترم القانون ‏ إسلامية كانت أم غير إسلامية ‏ 
وإنما يلجأ إليه مجرمو القانون العام من اللصوصء أو الخارجون على القانون مثل جماعات 
المافيا. بسبب من هذاء لا نخطئ فى حق النظامء كثيراً أو قليلاء إن نسبناه للمافيوية» فمثل 
هذا الانبهار المنحرف بالتعذيب لا يصدر إلا منها أو من شبيهاتها. 

كان طبيعياًء والحال هذه» أن تتدافع جماعات حقوق الإنسان عبر العالم لإدانة تلك 
الانتهاكاتء والتجاوزاتء والتعديات المريعة على حقوق الإنسان. وسرعان ما لحقت لجنة 
حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بهذه الجماعاتء لا سيما بعد أن أخذ العنف بعداً غير مسبوق» 
وكان أكبرمظاهره التطهير العرقى فى جبال النوبة . أمام هذه الفظائع» عينت اللجنة الدولية 
فى ١‏ مارس سنة »١149‏ مبعوثاً خاصاً (القانونى الهنغارى جاسبار بيرو) لمراقبة أوضاع 
حقوق الإنسان فى السودان.(؟) وفى تقريره الأول »)١1997(‏ رسم بيرو صورة قاتمة 
لأوضاع حقوق الإنسان بالسودان جاء فيها أن جميع السودانيين الذين يعيشون فى المناطق 
التى تسيطر عليها الحكومة هم ضحايا كامنون أو محتملون لإساءة وانتهاك حقوق 
الإنسان(5) (10124100/ كأطعك لقصاناط لضة عخناطة 06؟ كمرلءأنا أوأأوعامم) تلك الإدانة 
الدامغة أبانت أن العنف الحكومى ضد الخصمم لم يكن بالأمر الطارئء وإنما هو مكون 
بنيوى للنظامء بل إرهاب حدد النظام سقفه. أورد التقرير حالات عديدة من القتل بلا 
محاكمة؛ والإعدام المستعجلء والاختفاء غير الإرادى» والتعذيب» والمعاملات القاسية المذلة 
وغير الآدميةء بالإضافة إلى حالات الاعتقال التعسفى والانتقامى. ومن أمثلة الاعتقال 
الانتقامى» أشار بيرو للمعاملة القاسية التى أوقعتها قوات الأمن على اليابا جيمس سرور وهو 
السياسى الجنوبى المخضرم الذى يترأس أكبر حزب جنوبى (يوساب)؛ وهو حزب مظلى 
ينتظم أغلب الأحزاب الجنوبية. وكانت جريمة سرور رفضه الانضمام إلى الحكومة .(') فى 
حادثة أخرىء اعتقلت أجهزة الأمن سيدات سودانيات؛ منهن أمهات مسنات من خيرة نساء 
المجتمع من أمام مكتب الأمم المتحدة حيث جئن للقاء مبعوث حقوق الإنسان الأممى» 


35358 


وبقين رهن الاعتقال أمام مكتب الأمم المتحدة حتى مغيب الشمس حين تم جلدهن بالسياط 
فى ظلمة الليل حتى تكتمل عناصر الدراما. وبالتأكيدء لم يكن المجتمع السودانى (قبل 
مجىء الجبهة للحكم) يولى اعتباراً كبيراً لحقوق المرأة» فالنساء كن ضحية للتمييزفى 
المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جانب كل أنظمة الحكم السابقة» ولكن لم 
يحدث أبداً أن ألحقت بهن الإساءة بالجلد» فجلد النساء الأمهات عيب فى تقاليد أهل 
السودان. 

واذا الموعودة سثئلت ؟ 


هذا العيب أقدمت على فعله؛ واستمرأت ذلكء الجبهة الإسلامية. تمادت الجبهة فى 
اعتقال الفتيات الطالبات أمام مدارسهن وسجنهن وجلدهن علناً بتهمة السلوك الذى يتنافى 
مع الأخلاق العامة. لأجل هذا أدرج النظام المادة ١67‏ فى قانون عقوبات السودان لعام 
0١‏ بدعوى حماية السلوك العام.(") من ذلك السلوك ارتداء الملابس غير اللائقة (ومن 
ههنها الجيدز) »وعدم محن التتمن» وسفن المرأة دون محري تسدرت النطن عن ععرهاء أو 
حالتها الاجتماعية أو مهنتها. وعندما ال الدرابين محف امرك عن هذه القوانين 
الرجعية المزرية» أنكر علاقتها بالإسلام قائلاً: إن الملبس مسألة خاصة.(*) على أن 
الفضول الصحفى دفع الرجل لأن يلجأ نطبيب سودانى كان يعالج ثلاث فتيات أصبن بحالة 
نفسية نتيجة لجلدهن علناًء أربعين جلدة لكل منهن. جريمة هؤلاء الفتيات كانت هى 
الظهور أمام الناس دون غطاء للرأس. ألم نقل أن للترابى رسالتين: واحدة للخارج والقانية 
للداخل. الترابى كان محقاً عندما قال إن الملبس أمر خاصء ولهذا ظل الفقهاء يتلاحون 
حول سفور المرأة» وإلزامية الحجاب. ولم ترد فى القرآن إشارة واحدة لما يسمى بالسفورء 
كما أن الحجاب الذى ورد فى القرآن لم يكن البتة ذا صلة باللبس» وحيثما ورد تعبير 
الحجاب فى القرآن» كان بمعنى الستر أو الستار(؟) وليس بمعنى الرداء. وتقول المعاجم 
حجب الشىء ستره('')؛ أى وضع بينه وبين الآخر ستاراً. فالقول إذن» بأن الحجاب يعنى 
الرداء قول ظنينء وبالتالى يصبح تعبير الحجاب أو التحجب بمعنى تزيى المرأة بزى خاص 
تعبير خاطئ من الناحية اللغوية . وحتى إن قبلنا افتراضاً الخطأ الشائع حول معنى اللفظء 


25259 


فإن إلزامية الحجاب على جميع المسلمات أمر فيه قولان. فمن الفقهاء من قال أن الأمر 
بالحجاب خاص ينساء النيى بموجب قوله تعالى (يا تساء التبى لستن كأحد من النساء» 
(الأحزاب77/17)» ومن بين من ذهبوا لهذا الرأى الإمام محمد عبده. ونعرف أن تلك 
الآية تنزلت عندما شهد الرسول رجلا يدخل على نساته (نساء الرسول) ولا يكلمنه من 
وراه هابا كن له إنه احم ذا ومدول الله فقال أعمياوات أنقن. وخضن تتا لد 
بأحكام لا تتجاوزهن إلى غيرهنء ليس غريباً على القرآن: فمثلاًء حرم القرآن عليهن 
وحدهنء الزواج بعد موت زوجهنء (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه 
من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيما» (الأحزاب 27/57) . وذهب آخرون إلى شمول 
التشريع لكافة نساء المسلمين بحكم قوله تعالى فى نفس السورة يا أيها النبى قل لأزواجك 
وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان 
الله غفوراً رحيما» (الأحزاب 51/57)؛ أو بقوله فى سورة أخرى هى التى يتعلل بها دوماً 
أتصار تحجيب المرأة» «وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين 
زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن؟ (النور 75/١3؟)‏ والجيوب 
(مفردها جيب ) هى ما يدخل منه الرأس عند اللباسء ولهذا لا يعنى الجيب غير فتحة 
الصدرء وبالقطع لا يشمل الرأسء والشعرء والوجه» واليدينء بهذا المعنى يكفى المرأة تغطية 
صدرها. 

هذا جدل لا نرى ولوجه حتى لا نستدرج إلى سجال عقيم؛ منذ أن استحدث الناسء كما 
قال رشيد رضاء المبالغة فى حجب النساء فى المدن من باب سد الذرائع دون أن يكون هذا 
من أصول الإسلام.('') وقد ظل الفقهاءء منذ ذلك الزمان يتجادلون حول الموضوع. 
وأقرب المجادلات عهداً الحوار الذى دار بين فضيلة شيخ الأزهرء محمد سيد طنطاوى» 
والمفكر الإسلامى المجددء محمد سعيد العشماوى7'')؛ والفتوى التى أصدرها مفتى مصر 
الحالى» الدكتور أحمد الطيب وجاء فيها أن الحجاب من الثوابت الشرعية وليس فيه 
اجتهادء!'') وهو رأى قارعه بالحجة المستشار عشماوىء كما تناوله بمنطق رصين الأستاذ 
جمال البنا فى كتيب له بعنوان الحجاب» نشرته دار الفكر الإسلامى .ما نبتغى تناوله أمرين: 


25210 


الأول تاريخىء والثانى راهن. فتاريخياً ظلت المجتمعات الإنسانية الذكورية تتعامل مع 
المرأة كمخلوق ناقصء ولا ترى فيها إلا شهوة متحركة. وكان الرجال فى هذه المجتمعات 
يمارسون وكالة أخلاقية على النساء» حتى فى ألصق الأشياء بأجسامهن (اللبس) . هذا أمر 
سبق الإسلام بكثيرء فالإغريقء مثلاً»كانوا يهمشون المرأة ولا يرون لوجودها فى الحياة 
مبرراً غير إرضاء شهوة الرجال. والآشوريون كانوا يحددون ما ترتديه وما تخلعه النساء 
ويفرضون عليهن أزياء معينة تميز بين الحرائر والعواهر المقدسات (المومسات فى المعابد) ٠‏ 
من جهة:؛ مثل غطاء الرأسء فى حين يلزمون؛ من جهة أخرىء الإماء وعواهر العامة 
بالسير حاسرات الرأس(*'). ولربما نقل ابن المقفع إلى بغداد زى النساء الذى خلفه 
الأشوريون للفرسء ففى وصيته للخليفة قال: اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن» 
فإن شدة الحجاب خير لك من الارتياب. وتعبير الارتياب يدل على أن كثرة الإماء 
والجوارى فى بغداد قادت إلى ترخص جنسى دفع السادة لدتحجيب الحرائر. ثم جاءعت 
اليهودية لتبيح للرجل تطليق زوجته إن خرجت غير مختمرة "تعاليم الأحبار. وعلى نقس 
المنوال سارت المسيحية:ء إذ نهت المرأة ‏ لا الرجل ‏ عن الصلاة أو التبتل مكشوفة الرأس. 
ففى رسالة بولس الرسول إلى أهل كوريندكوس جاء: كل رجل يصلى أو يتنبأ وله على رأسه 
شىء» يشين راسه. واما كل امرأة تصلى أو تتنبا وراسها غير مغطى فتشين رأسها لانها 
والمحلوقة شىء واحد بعينه . إذ المرأة إن كانت لا تتغطى فليقص شعرها (الإصحاح الحادى 
عشر/ 0-4). ولا تزال بعض المسيحيات حتى اليوم تغطين شعورهن عند دخول الكنيسة. 
كما تفعل أى مسلمة فى الصلاة. وقبل ظهور الإسلام كان نساء العرب يكتزرن بالإزارء وهو 
الذوب الذى يغطى أسفل الجسمء ويختمرن بالنصيف وهو نصف رداء يغطى الرأس» وكن 
يتحرجن أمام الرجال إن سقط ذلك الغطاء من على رؤوسهن. فى هذا يقول النابغة: 
سقط التنصيف ولثم ترد إسقاطه 
فتناولته واتقتنًا باليد 

لاشك فى أن الآيتين اللتين وردتا فى سورتى الأحزاب (54)» والنور (١؟)‏ تشيران 

بوضوح إلى الزىء إلا أن استنباط حكم منهما صالح لكل زمان»؛ ودون اعتبار للسياق 


541 


الاجتماعى الذى وردتا فيه» يؤذى الحقيقة. فالآية الأولى تنزلت فى مجتمع كان النساء 
والرجال فيه يقضون حاجتهم فى العراءء ولهذا قصد المشرع حماية المرأة من تريمص 
الرجال بها أثناء قضاء الحاجة. ذلكء إذن» تشريع لا يرتبط بالتقوى أو الطهارة» بل حتمته 
ظروف اجتماعية خاصة لحماية المرأة من تحرش الرجال بها فى مواقع لا مكان لها فى 
عالم اليوم. فالنساءء مثل الرجال» يقضين حاجتهن اليوم فى كنف فى دورهنء» وفى 
المراحيض المخصصة لهن فى مواقع العملء والمغتسلات العامة فى الأندية والفنادق» حيث 
يميز فى كل هذه الأماكن العامة بين الموقع الذى ترتاده النساء. وذاك الذى يرتاده الرجال. 
كما أن ذلك الحكم لم يبتغ حماية المرأة من حيث هى امرأة» وإنما حماية الحرائر ذوات 
الصون منهنء ولهذا جاء قوله ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين؛ أى يميزن عن الإماء. وقد 
روى البيهقى عن مالك بن أنس: «كان إماء عمر يخدمننا كاشفات عن شعورهن تضطرب 
ثديهن؛ . وفى فتاوى ابن تيمية الخمار مختص بالحرائر دون الإماء. كما يقول الألبانى فى 
أحكام أهل الذمة أن على نسائهم الكشف عن سوقهن لكيلا يتشبهن بنساء المسلمين. هذه 
أمور يتغافل عنها الذين يصنمون النصوص. فإن كان المراد هو صرف الآية إلى معنى 
واحدء وبقراءة للنص تخرجه عن سياقه التاريخى»: فأى حق يملك عبدة النصوص فى 
سودان الجبهة اليوم لكيما يطبقوا ذلك النص على غير المسلمة وعلى الإماء؟ ثم إن فى 
القوانين السائدة اليوم مايجرم التحرش بالمرأة» ليس فقط عند قضاء الحاجة» بل فى كل 
مكان: فى الشارع أو المنزل أو موقع العمل» ودون تمييز بين الإماء والحرائر. 

من جانب آخر وقع تخليط بين التبرج ( تبرج الجاهلية الأولى) والكشف عن مفاتن 
المرأة . التبرج هو إظهار المرأة زينتهاء وتقول العرب تبرجت السماءء أى ازدانت بالكواكب» 
والزينة هى الحلى الذى تتحفل به المرأة» أو الدهون التى تطلى بها وجهها مثل العطور التى 
تتحلى بهن العواتك (عاتكة» المرأة التى احمر وجهها من فرط استعمال الطيب)»ء أو الاثمد 
الذى تكحل به النساء عيونهن. والزينة تختلف بين مجتمع ومجتمع؛ فالعرب, مثلاًء كانوا 
يستقبحون المرأة المرهاء ( التى لا تكتحل) . وبصورة عامة» لم يكن النساء فى الجاهلية: 
وحتى فى عهد الإسلام» يقصرن إبداء زينتهن على بعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو 


5342 


أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى إخواتهن أو نسائهن أوما ملكت 
أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات 
النساءء كما جاء فى سورة النور. كان النساء أيضاً يتباهين بمفاتنهن ويكشفنها للأغيارء وإلا 
فلم حفل الشعر العربى بما حفل به من توصيف دقيق لمفاتن النساء؟ عن هذا لم تخرج 
حتى بنات الخلفاء» إذ روى الجاحظ (المحاسن والأضداد)» والأصبهانى (الأغانى) أن 
فاطمة بنت عبد الملك بن مروان ‏ وكانت ذات جمال فتان - خرجت ذات مرة إلى الحجيج 
فأمر أبوها الحجاج بأن يوعز لعمر بن أبى ربيعة أن لا يتعرض لها فى شعره. هذا الأمرلم 
يوافق هوى بنت أمير المؤمنين فأخذت تتقصد عمرء عله يقول فيها شعراً. وكانت فاطمة 
تظهر محاسنها فى الحجيج حيث كان عمر يتصيد النساء. ولما تمنع عمر (أو تظاهر 
بالتمنع) حذر فتك الحجاج به» قالت فاطمة لواحد من اهل مكة: ٠عليك‏ وعلى اهل بلدك 
اللعنة.. قدمنا مكة» فأقمنا فيها شهراً ولم يزودنا الفاسق من شعره أبياتاً تلهوبها عند 
سفرناء . قال المكى: «لعله قد فعل»؛ وذهب إلى عمر ينبئه بما حصلء فأخرج عمر بائيته 
المشهورة التى قال فيها: 
علق القلب من قريش ثقالا 
ذات دل نقي ةالأثكواب 
شف عنها مُرقق جَنَدي فهى 
كالشمس من خلال السحاب 
(الشَقَال هى ذات الردفء والمرقق الجتدى ثوب من جتد باليمنء لا يُخفى) . ولم لا 
يدغنى عمربينت عبد الملك بن مزوان: وقد مشيَبٍ من قيلها بغائشة بدت طلحة بن عديذ 
اللهء أحد العشرة المبشرين بالجنة» وأمها أم كلثوم بنت أبى بكرء أخت عائشة أم المؤمنين. 
ولم يك عمر فى غزواته الغرامية فى بيت الله» يصف إلا ما رأى. 
حقيقة الأمرء أضحى الحج فى العهد الأموى مهرجاناً للجمال وسوقاً تباع فيه الجوارى 
وتكشف فيه الحرائر عن جمالهنء مثل فاطمة بنت عبد الملك التى سعت للحجيج وهى 
تتردى بثوب لا يخفى . وقد وصف العرجىء وهو واحد من شعراء الغزل المجيدين فى ذلك 


543 


الزمان» تلك الظاهرة بقوله: 
اأماطت كساء الخزعن حر وجهها 
وادنت على الخدين بُرداً مهلهلا 
من اللائى لم يحمججن ييفين حسبة 
ولكن ليقتَلن البرىء المففلا 

والشاعر العرجى هو عبد الله بن عمر بن عمروبن عثمان بن عفان. 

بوضعنا لقضية الحجاب أو ستر المرأة فى إطارها التاريخى والمجتمعىء لا نريد أن نقول 
شيك أكثر من أن نبين أن المرأة ‏ عبر التاريخ - ظلت تعامل كأنثىء لا كإنسان. وفى هذا 
الشأنء لا يختلف المجتمع العربى ‏ قبل الرسالة وبعدها ‏ عن المجتمعات الأخرى التى 
سبقتهء أو أحاطت به. فى هذه المجتمعات كان تعيين الرجال ملبساً محدداً للمرأة هو تعبير 
آخر عن هيمنة الذكر على الأنثى. 

ولئن يقول قائل» كما يردد الذين يسعون لتديين كل شىء فى الحياة» أن الهدف من 
التشريعات السماوية هو حماية المجتمع من الفتنةء وقمع الشهواتء نقول أن فى ذلك الزعم 
لبسا للحق بالباطل. فشهوة الجسد تجاوز النساء إلى الرجال؛ إذ هى ليست وقفاً عليهن. 
وللإمام ابن حزم قول فى هذا. قال ابن حزم: «وإنى لأسمع كثيرأً ممن يقول الوفاء فى قمع 
الشهوات فى الرجال دون النساءء فأطيل العجب من ذلك. وإن لى قولاً لا أحول عنه: 
الرجال والنساء فى الجنوح إلى هذين الشيئين سواء... ولست أبعد أن يكون الصلاح فى 
الرجال والنساء موجودأء وأعوذ بالله أن أظن غير هذاء (طوق الحمامة» باب قبح المعصية) . 
فالشهوة قوة نفسانية طبيعية» لا فعلا يأتيه الإنسان بحكم جنسه؛ أو وضعه الاجتماعى أو 
الطبقى. ولعل تعبير امرأة فى اللغة الانجليزية (10103)يعكس طبيعة تلك الهيمنة 
الذكورية التى لم يخل منها أى مجتمع» فأصل الكلمة هو الويل للرجل .(2031 0غ عوبن) 

وفى السودان» حتى عهد قريبء كان الرجال والنساء يعيشون فى جنوب السودان عراة 
كما دخلوا الدنياء دون أن يكون ذلك سبباً للفسوق أو مدعاة للتحرش أو التهييج الجنسى. وفى 
شمال السودان المسلم لم تكن هناك قيم مشتركة سائدة تحكم لباس المرأة» ففى روايات 


5344 


الرحالة الأوروبيين الذين زاروا مناطق الشمال فى العصر الوسيط قصص طريفة عن عوائد 
أهلها الاجتماعية: بما فى ذلك لبس النساء. فالنساء فى مملكة سنار وفى ديار الشايقية 
والجعليين كن يخرجن حاسرات الرأسء وفى بعض المناطق كاشفات الصدور ولا يغطين 
سوءاتهن الا بالرحط وهو لباس يستثير ولا يستر بمنطق دعاة اليوم» والاستثارة حالة ذهنية 
ذكورية. وحتى السبعينيات من القرن الماضى ظلت الفتيات (ولربما لازلن) يخرجن لجلب 
المياه من الآبار فى ربوع كردفان ( الشنابلة مثلاً ) وهن يكشفن عن صدورهن. ذلك كان 
منظراً طبيعياً لم يدفع إلى الترخص الجنسىء إذ كسرت العادة حدة الشهوة . ولعلنا إن أردنا 
التماس حكم عام فى القرآن يتعلق بلبس الإنسان (الذكر والأنثى) لوجدناه فى آيتين» الأولى 
تتعلق بستر العورة (السوءة) : #يابنى آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم وريشا ولباس 
التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون» (الأعراف7/ 71) والثانية ارتباط 
الملبس بالظروف الطبيعية» فالإنسان (الذكر والأنثى) يتدرع اللباس ليقى نفسه حر الصيف 
وزمهرير الشتاء «والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم 
سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون»4 (النحل 
7 هذا بالقطع لا يتوافق مع الحديث القائل المرأة عورة» والذى انفرد به الترمذى 
عن رواة ليسوا من أهل التوثيق. فالله الذى استخلف الإنسان» ذكراً وأنثى على الأرض لا 
يميز بين خلقه على هذا المنوال» لا سيما وهو القائل «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو 
مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون4 (النحل )37/١5‏ . 
تأتى للراهن لنقولء إن وراء نظرتنا التاريخية والسياقية لقضية لباس المرأة هدفاً بسيطأً 
هو الحض على إنهاء الاستنجاد بالنصوص الدينية للتحكم فى خصوصيات البشرء أو التلويح 
بها لتأبيد الكبت الذكورى للنساء. فالقضية ليست هى هل "الحجاب واجب أو مستحبء كما 
ليست هى إنكار حق المرأة التى تريد أن تتحجب أن تفعل ذلك. فلواتخذ جميع نساء 
السودان اليوم قراراً بأن يتحجبن أو يتنقبن» لما جاز لأحد أن يعترض على ما قررن 
بمحض إرادتهن. فسورة النور وسورة الأحزاب لم تتنزلا فى "١‏ يونيو/ حزيران985١»‏ 
ونساء السودان لم يدخلن الإسلام عندما برز عليهن طلاع الثنايا من حوش بانقا أو ود 


25215 


الترابى . فطوال فترة ما بعد الاستقلال كان لنساء السودان فى المدينة زيهن الخاصء وكان 
لهن فى الريف لبسهن المميزء وكان للطالبات منهن أزياء لا تنقصها الحشمة إلا فى عرف 
الحنابلة الذين يحسبون أن كل المرأة عورة» ففى قول الإمام أحمد المرأة عورة حتى ظفرها. 
ولئن يجىء اليوم حاكم أو محتسب ليقول أن الحجاب هو جوهر وجود المرأة المسلمة» أوأن 
الرداء الخيمى الذى فرض عليها هو الدالة الأساسية على إسلامهاء فإن فى ذلك جورا فاحشا 
على نسائناء وجناية كبرى على الدين. هذا أمر لا يجدر بأى رجل لم يلحق به الخصاء أن 
يسكت عنه. نقول هذا لأن التهاون مع عدم التسامح يفتح الباب للمزيد منه. وللكاتب 
النيجيرى وولى شوينكا رأى صائب أدلى به إثر الغلواء التى صحبت أحداث كادونا فى 
نهاية نوفمبر7 7٠٠١‏ احتجاجاً على عقد مهرجان فى أبوجا عاصمة نيجيريا لاختيار ملكة 
جمال العالم. حديث شوينكا لم يكن دفاعاً عن المهرجان فهو يستهجنء كما قال؛ تلك 
الاحتفاليات لأنها تسىء إلى المرأة. قال: «أى مساحة من عدم التسامح يرتضيها الناس 
تحتلها مباشرة أجندة المتعصبين العدوانية. إنهم يتقدمون المرة تلوالأخرى بمطالب 
للحصول على تنازلات أكبرء وبالمزيد من المطالب للنيل من طريقة حياة الآخرين. إن 
عقل المتعصب ثقب مظلم يلتهم كل ما يجعل الحياة مضيئة ومحتملة»(*') . فالإسلام لا 
يمكن أن يحدد زياً خاصاً للمرأة دون الرجلء ونعرف أن المجاهد المسلم فى أدغال الجنوب 
يتسربل بلباس الجيش السودانى غربى المنشأء لا بلباس أهل بدر. ونعرف أن رجل الشرطة 
فى السودان يتزيا يزى ورثناه عن الإنجليزء لا برداء العسس فى دولة بنى العباس. كما 
نعرف جيداً أن أمير المؤمنين يرتدى زى الضباط الذى أخذناه عن الإستعمارء ويحلى 
صدره بالنواشينء لا زى المعتصم بالله؛ والمستوثق بالله» والمتوكل على الله. فأى رقاعة 
تلك التى تبيح لمن يطلق عليهم أسم شرطة النظام: أو جماعة النهى عن المنكر؛ التصدى 
فتاة خرجت من بيت أبيها إلى مدرستها وهى تتسربل بالجينز ليأمرها أن تلبس هذاء أو 
تخلع ذاك؟ نقول رقاعة» لأن أمثال هؤلاء يفترضون أنهم أكثر حرصاً على ستر الفتاة 
وديانتها من أبويها. وأى صفاقة تلك التى تحل لضابط الجوازات أن يفرض على الفتاة 
إسدال غطاء على شعرها قبل أن يسمح لها بأخذ صورة لجواز السفر؟ وأى حمق وسماجة 


5346 


تلك التى تبيح لفتى ناقص علم أن يمنع الطبيبة أو المهددسة أو القانونية من السفر بمفردها 
دون محرم؟ 

وحتى إن صدقنا أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المدكرء موقنون أشد اليقين بأنهم 
ينفذون ما أمر الله به» أفهل الحجاب هو كل ما أمر الله به؟ فآيات الحجاب فى القرآن 
محدودة» لا تتجاوز الخمسة؛ء فكم هو عدد الآيات التىٍ تنهى عن الكذب؟ وما الذى صنعه 
الناهون عن المنكر لردع مجترحى الأكاذيب؟ أوهل عقل هؤلاء لحظة واحدة قوله تعالى: 
«أتأصرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» (البقرة 44/7) 
هؤلاء الأطفال المرعبون (2230165ء؛ 322005» 165) أصبحوا دولة داخل الدولة» يرهبون 
الأحياء السكنية» ويتنصتون أحاديث الناس؛ ويتحرشون بالفتيات» ويلاحقون الشباب» ويفسدون 
الخلوة بين الزوج وزوجه فى الأماكن العامة. أحكام هؤلاء الأطفال المرع بين لا تخضع 
لمراقبة» ولا تستأنف لسلطة أعلى. ومع ما قال به حول حرية الملبس» برر الترابى إفساد 
الخلوة البريئة بين الفتيان والفتيات بأن الإسلام يحرم الاختلاط بين الرجل والمرأة» بعيدأً عن 
أعين الجمهورء ما لم يثبت أنها زوجته.("') بسبب من هذا اضطر الأزواج لأن يتأبطوا قسائم 
الزواج عندما يخرج مصي ا ل بن ا من 
الحشاشين فى الأساطير الشعبية» ولا تليق بدولة تنتمى للقرن الحادى والعشرين. ولعل شيخنا 
المجتهد لم يستذكر بعضأً من تقاليد الإسلام الشعبى السودانى التى تبيح الاختلاط بين النساء 
والرجالء لا فى حلقات الدرس والذكرء وإنما أيضأ فى مهرجانات الرقص والغناء. يروى ود 
ضيف الله عن الشيخ إسماعيل» صاحب الربابة: «اول ما تقوم عليه الحالة يمشى فى حوشه 
ويحضر البنات والعرايس والعرسان للرقيص ويضرب الربابة». وحقيقة» لا يستبدع المرء فى 
أجواء هذا الهوس الدينى المستحدث أن يرفض البشير التصديق على الاتفاقية الدولية لإنهاء 
جميع أشكال التمييز ضد المرأة» رغم حث الأمم المتحدة له» مدعي أن بعض بنود الاتفاقية 
تتعارض مع تقاليد السودان:('') وكأن تلبيس الجبهويين أصبح هو تقاليد السودان. 

آراء الترابى المعلنة حول المرأة تحمل المرء على الظن بأنه؛ نظريأء لا يشارك أولنك 
المهووسين الرأىء ولكن إغضاءه عن ذلك الهوس قاد إلى شيئين؛ الأول هو استحالة تحقيق 

517 


تنوير إسلامى ‏ إن كان ذلك حقأ هو مبتغاه ‏ فى ظل هذا الجنون؛ والثانى هو وقوعه فى 
الجرم بالإغضاء عنه. الهوس لم يقف عند الصغار وحدهمء بل استشرى حتى طال الكبار» 
ففى يناير1115ء أقدم حاكم الخرطوم على ما لم يقدم عليه من قبله أحد: حرمان النساء 
من العمل فى الأماكن التى تقدم الخدمات للجمهور مثل المقاهى ومحطات البنزين. هذا 
حكم لا يقضى به الدين ولا يخدم السياسة . ففى سودان المخمصة لجأت الفتيات لأعمال لم 
يكن يردنها من قبل بهدف كسب رزق حلال؛ حتى لا يحملن على مالا ترضاه نفوسهن. 
هؤلاء الفتيات حملن عن النظام عبء توفير العمل لهن» وكان الأجدر بالنظام أن يشكرهن 
على رفع ذلك العبء عنه . هذه ظلال من الصورة ة لم يفتطن إليها حاكم مسيخ خ أذهب الله 
طعمهء فلا هو أفاد الدين فى شىءء ولا خدم المصلحة السياسية لنظامه. 

حقوق الانسان والمقدسات المزعومة 

ماذا كان موقف النظام من تقارير الأمم المتحدة حول انتهاكات حقوق الإنسان؟ فى 
حدثان الأمرء تعرض بيرو لحملة ضارية بهدف تشود يه سمعته . ففى فبراير ١114‏ كتب 
النائب العام السودانى إلى اللجنة معترضاً على انتقاد المقرر الخاص للقوانين الجنائية 
بالسودان.(*') وكان بيرو قد تناول فى فقرة من تقريره الحدود التى تتعلق بقطع يد 
السارق» والقطع من خلاف( حد الحرابة) » لتعارضها مع الإعلان الدولى لحقوق الإنسان. 
وفى تصريح صحفى وصف انائب العام هذا الانتقاد بأنه انتهاك شديد للمقدسات وسب 
متعمد للإسلام يعادل الآيات الشيطانية لسلمان رشدى7!'). تلك إشارة لم يبتغ منها النائب 
العام؛ حارس القانون غير الابتزازء فذكر اسم "سلمان رشدى كفيل بإلهاب المشاعر 
الإسلامية ضد مبعوث الأمم المتحدة. فى رده بعد تقاعده؛ على تلك التهمة الغليظة؛ قال 
بيرو لجريدة الواشنطون بوست أنه طالما صدقت حكومة السودان على الميثاق الدولى 
للحقوق المدنية والسياسية» وعلى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان؛ فإن التحجج بأن القوانين 
السودانية مستمدة من تقاليد غائر:. ة الجذور فى تراث الأمة يصبح غير ذى موضوع . أضاف 
بيرو ‏ الذى عاش طيلة حياته فى وطنه فى ظل نظام حكم شيوعى شمولى ‏ أنا عليم 
بكيف يدار الحكم فى ظل الأنظمة الشمولية!('") 


5345 


أصاب بيرو عندما قال أن الدذرع بالشرع؛ كلمة حق أريد بها باطل. فالحكومات 
الإسلامية التى تعتبر الشريعة مصدراً للتشريع مازالت مختلفة حول تطبيق الحدود فى ظل 
الشرائع الوضعية السائدة» والعهود والمواثيق الدولية حول حقوق الإنسان. هى مختلفة حول 
الرجم فى قضايا الزنى وأغلبها لا يضمنه فى قوانينه. ولا يرد فى قوانينها. وكثيراً ما تسعى 
هذه الدول للالتفاف على جوهر الموضوع (بشاعة الرجم) بالحديث عن عدم إمكانية إثيات 
الجناية أصلاً. أما دولة السودان "الإسلامية فقد شذت عن كل دول الوطن العربى (باستثناء 
المملكة السعودية)؛ بل ذهبت» فى ذات الوقت»ء الى إقامة حد الزنا دون اعتيار لضوابط 
إثباته» وفى شهوانية متحرفة لتعذيب البشر لا تقل عن الشهوانية الجنسية للزانى. ويروى 
عن عمر سؤاله لعلى بن أبى طالب: «ما قولك فى أمير المؤمنين شهد رجلا يضاجع امرأة 
لا تحل له»» وكان عمر يعرف عمن يتحدث إلا أنه تحرج من ذكر اسمه حذر القذف فى 
حقه. فرد عليه على بالقول: «على أمير المؤمنين أن يأتى بشهود أربعة أو يقام عليه الحد.ء 
أى حد القذف. 

الحكومات الإسلامية على خلاف أيضأ حول حد الحرابة» وهوحد ذو طبيعة خاصة 
لالتصاقه بالرسول»!'") وليس حكمأ عاماً لا يفقد مشروعيته إلى يوم الدين. الوطن العربى 
الإسلامى مختلف أيضاً حول قطع يد السارق الذى لا تطبقه فى الدول العربية غير المملكة 
السعودية . ومن الغريب أن ذلك الحد الذى أراد به دعاة تطبيقه فى هذا الزمان تطهير الحياة 
العامة» لا يسرى إلا على السارق "الخاصء لا الحرامى العام؛ أى مختلس المال العام 
والموظف المرتشىء ومزور الوثائق بهدف حيازة مال عام. هذا التمييز بين لص ولص 
يستند إلى أحكام الفقهاء القدامى أن الحرامى العام صاحب حق فى المال العام» وبهذا الفهم 
القاصر للسرقة أعفى الشرع المزعوم ما يلزم عنه العارء وأخلق أن تطهر منه الحياة العامة 
مثل سرقات الكبار. فى هذا لا تختلف تلك النظرة المنحرفة للمال العام عن نظرة العوام 
لمال الميرىء هو مال سايب وحلال لكل منتهب. وخبائث الصغار التى يطبق عليها 
الجبهويون حد السرقةء هىء فى الغالب الأعمء آثام تدفع إليها الحاجة» وما عطل عمر حد 
السرقة فى عام الجدب والمسغبة إلا لهذا. أغلب أهل السودان اليوم مسغبون إذ لا يتجاوز 


549 


متوسط دخل الفرد بينهم الأربعمائة دولار فى العام مقارنة بدولة ماليزيا الإسلامية التى 
يبلغ متوسط دخل الفرد فيها ٠١,٠٠١‏ دولار فى العام. ماليزيا المسلمة سدت حاجتها من 
الغذاء» ويمثل الإنتاج الصناعى فيها 22١‏ من قائمة الصادراتء وما تأتى لها هذا إلا لأن 
حكامها فطنوا لأن واجبهم الأساس هو تحرير الإنسان من الخوف والحاجة. لم يتلهوا 
بالحديث عما هو صالح» وما هو غير صالح للتطبيق من الشريعة» فقوام الدين عندهمء قبل 
تطبيق الحدودء هو أمن المسلم وطمأنينته وتوفير العيش الكريم له» وبمثل هذه القرى 
والأوطان صرب الله الأمثال: («وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها 
رغداً من كل مكان» (الدحل؛ )١١7/١5‏ هذه أمور لا ترقى لها عقول السياسيين المطواعية 
الذين يفتقدون الإدراك الواعى لجوهر الدين» مثل ذلك الوعى الذى حدا بأمير المؤمنين 
عمر لتعطيل حد السرقة مستهدياً بذرائع التيسير التى وفرها القرآن لعباد الله: «فمن اضطر 
فى مخمصة غير متجانف لإثم فان الله غفور رحيم؟ (المائدة 7/6)»: (فمن اضطر غير 
باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم؟» (الأنعام :»)١45/1‏ «فمن اضطر غير باغ ولا عاد 
فإن الله غفور رحيم؟ (النحل )١1١5/١5‏ . 

إن اختزال الشريعة فى شيكين: المظاهر خاصة رداء المرأة» والحدود يكشف عن عطب 
جسيم فى التفكيرء ورؤية غبشاء للدين» فقبل المظاهر والجزاء تجىء الاستقامة والعدل, 
استقامة الحاكم؛ والعدل للمحكوم . وللمستشار العشماوى قول حميد حول القانون الجزائى؛ 
قال: «القانون الجزائى يمثل الحد الأدنى لما يجب أن يكون عليه خلق الإنسان» وهو الحد 
الذى يقع من يتدنى عنه تحت سلطة العقاب. فلا يشمل القانون بذلك ما يفوق هذا الحد من 
درجات متتالية تصل إلى أسمى درجات الإنسانية» كما أنه لا يتضمن المثل التى يتعين 
على الأدنى أن يتبعه. فالقوانين الجزائية» من ثم» ليست إلا محاولات لتقويم حثالة الأفراد 
دون غيرهمء لأن كل من عدا الحثالة لا يحس بسطوة القانون» ولا يستشعر سلطانه ما دام لا 
يقترف من الأفعال ما يوقعه تحت هذه السطوة» أو ينزله تحت هذا السلطان؛ ("'). هذا 
التمسك بما لا يؤثر إلا فى الحثالة هو أبعد ما يكون عن الاستمساك بالعروة الوثقى؛ هو 
إرضاء لغرور فكرى من جانب رجال أثبتوا أنهم صفر من أى فكر. فلو تخلت الجبهة اليوم 


32300 


عن الإصرار على تطبيق الحدود وتكلف الأناظيم لما يجب أن تفعله أولا تفعله المرأة» فما 
الذى سيبقى لها؟ فلا هى أتت ت بجديد فى الفقه الدستورىء ولا هى ابتدعت شيئأ فى 
القوانين التى تنظم المجتمع وتسير المؤسساتء ولا اجتهدت رأيا أصيلا تدير به نظام الدولة 
وترتب العلائق مع الخارج. حدادها أن تطبق الحدود وتلاحق النساءء وهكذا أفرغت الإسلام 
من كل قيمه المعيارية ومعانيه السامية. 


غاب عن السياسيين المطاوعية أيضأ أن الحدود التى قال بها القرآن؛ لا تقف عند قطع يد 
السارقء ورجم الزانى» وإن كان لنا أن نطبقها حرفي من باب لا اجتهاد مع النص لتوجب 
علينا الامتثال أيضاً لحكمه: «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف 
بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص؟» (المائدة؛ 0/ ©4) هذه الأحكام 
التوراتية الأصل هى جزء من منظومة القصاص التى نص عليها الكتاب» ولا نظن أن هناك 
واحداً من دعاة التطبيق الحرفى للقرآن يتجاسر اليوم على تطبيقهاء والدليل على ذلك هو 
غيابها عن قوانين الجبهة الإسلامية؛ بالرغم من أن حجيتها لا تقل عن حجية قطع يد 
السارق» والقطع من خلافء كما تفوق حجية جلد الشارب. معذرة» لقد ضمن هذه الأحكام 
فعلاً الإمام نميرى فى قوانينه الجنائية؛ وإنها لكبيرة إلا على الجاهلين. هذا الإصطفاء لأحكام 
الحدود لا يكشف فقط عن تلبيس مفزع لما شرعه الله بل يعكس أيضاً فقداناً كاملاً للأمانة 
الفكرية والشجاعة الأدبية. وأشد هولاً من العجز الفكرىء التداول فى أمر القطع ببهجة 
غريبة» تقارب شراهة نميرى لهاء إذ كان نميرى يطبقها باشتهاء لها غريب. عن ذلك تكشف 
مقولاته عن الحدود» كان يسميها «القانون البطال؛» عندما يتهدد الناس بتطبيقها. ما درى 
نميرى ولا تابعوه كيف كان رسول الله # يقبل على تطبيق الحدود متهيباً. ففى حديث 
أخرجه البيهقى عن ابن مسعود قال: «أول رجل قطع من المسلمين رجل من الأنصار سرق 
فأتى به إلى النبى فقال أذهبوا بصاحبكم فاقطعوه». وبما أن الأمرشق على الرسول مضى 
للقول: لا ينبغى لولى أمر أن يؤتى بحد إلا أقامه» لكن الله عفو يحب العفو ثم قرأ: «وليعفوا 
وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم» (النور 77/74). كما روى عنه عندما جىء إليه 
برجل زان قوله لمن جاء به: ٠ليتك‏ سترته بثوبك» . حقأء أولا يتدبر هؤلاء جوهر كتاب الله 
وسئن نبيه» أم على قلوب أقفالها؟ 


551 


أثارت تقارير الأمم المدحدة قلقَآ فى أوساط الجبهة» وزاد القلق عندما اقترح بيرو (وكان 
يطلق عليه اسم المقرر الخاص 77نا12020:6 5060131) تحقوق الإنسان فى السودان) تعيين 
مراقب دائم لحقوق الإنسان بدلاً عنه. هذا الاقتراح رفضه النظام» إذ كتب أحمد المفتى 
(مسئول بوزارة العدل السودانية) إلى الأمم المتحدة» يقول إن اقتراح بيرو يشكل تصعيداً 
غير مبررء ويغفل كلياً تعاون السودان مع المقرر الخاص.9'") ومن الواضح أن الخرطوم 
كانت على استعداد للتعاون مع مقرر لحقوق الإنسان يقوم بزيارات متقطعة للبلاد, إلا أنها 
ما كانت لتطيق وجوداً دائماً للمراقبين داخل السودان الذى تعج خزائن حكامه بالهياكل 
العظمية. كما أن ممارسات التعذيب كانت من البشاعة بمكان» للحد الذى كان النظام 
يخشى من كشفها. ففى تقريرها لعام 21994 روت منظمة رقيب حقوق الإنسان (أفريقيا) 
(دعكة رطءغة/الا كاطع 81 مددرنا11) بعض تلك الممارسات ومنها تغطيس الراس فى الماء 
الباردء التعليق من اليدين على قضبان بالزنزانة» حرق الجلد والأجزاء الحساسة من الجسم 
بأعقاب السجائر المشتعلة» الصدمات الكهربائية» السخرية اللاذعة» الاغتصاب للرجال 
والنساء» نزع الأظافر. ومن المعاملات القاسية أو المذلة أشار التقرير لحوادث مثل: السب» 
والضربء ومطالبة الحبيس بتقليد أصوات الحيوانات. ولعل الهدف من تلك السياسات 
القمعية لم يكن هو الانتقام» بقدرما كان تدمير المواطن لنفسه عن طريق إضعاف 
المعنويات» والتخويف, وإهدار الكرامة الإنسانية:؛ بل ونزع إنسانية الفرد 
.(6011312100]) قالنظام لم يكن يسعى لكسب تعزيز الشعب ودعمه له» وإنما خضوعه 
وإذعانه. ترى هل اختلط على فلاسفة الجبهة؛ فى طريقهم إلى "دولة المدينة كتاب 
ميكافيللى(؟') الأميرء بكتاب الله المنير. ونعلم أن النظام» بعون من الباسدراك الإيرانى» قد 
أتقن فنون التعذيب بصورة لم يألفها أهل السودان الطيبون. ففى منتصف ديسمبر سنة 
١‏ »؛ ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز أن إيران أرسلت للسودان ألفى حرس ثورى جاءوا 
بهدف معلن هو المشاركة فى التشييد والبناء. وبعد ذلك بأسبوعين» ذكرت صحيفة واشنطن 
بوست أن السودان» بمعاونة الأموال والخبرة الإيرانية» برز كقاعدة جديدة للإرهاب. وكان 
من الأسرار الذائعة فى الخرطوم أن رئيس الأمن بنظام الجبهة:» نافع على نافع (عمل 


552 


محاضراً فى كلية الزراعة بجامعة الخرطوم) كان قد تلقى تدريباً مكثفاً فى الأجهزة الأمنية 
بطهران. ففى إجازة سبتيه ذهب بيريا النظام إلى إيران بدعوى التمهر فى علوم الزراعة 
قبل تولى الجبهة الإسلامية الوطنية السلطة؛ وكان ذلك فى ظل تسيب إدارة الجامعة» 
وانفراط عقد النظام إبان حكومة صادق المهدى. غير أن تلك التقارير حول الدور الإيرانى 
فى دعم النظام فى بداهة أمرهء تغفل الدور الذى قامت به أجهزة الأمن العراقية ‏ وهى 
ذات باع طويل فى البطش والقهر عقيب حرب الخليج التى ناصرت فيها حكومة السودان 
النظام العراقى . ومن المفارق أن العراق» حتى ذلك الوقتء كان فى حالة عداء مع النظام 
بسبب موقفه مع البعثيين» ومن بينهم نفر من الثمانية وعشرين ضابطأ الذين أعدمهم 
النظام . وهكذا كان من حسنات حرب الخليج تمكين نظام الخرطوم من الجمع بين الشتيتين 
(إيران والعراق) ولربماء فى تقديره» الظفر بالحسنيين. 

أين مكان الترابى من كل هذا؟ فى لقاء فكرى بجامعة فلوريدا »)١1591(‏ أعلن الترابى 
أن إيران لا تملك ما تعلمه للسودانء نظراً لأن الحركة الإسلامية السودانية أقدم بكثير من 
حركة الخمينى.(*") فى هذا القول» بلا مراء اختزال للحقيقة» إذ أن باسدراك إيران قد علم 
الجبهة "أشياء. وعندما سئل الترابى فى المحاورة التى تبعت محاضرته عن العلاقة بين 
الجبهة وإيران» عمد إلى أن يعطى مسحة أيديولوجية لتلك العلاقة؛ قال إن مهمته هى إنهاء 
الانشقاق الأحمق الذى استمر أربعة عشر قرنآ بين السنة والشيعة . والخلاف بلا شك أحمق؛, 
فمنذ أن كفر الغزالى المتشيعة» قاد رد فعل الغلاة من أولتك إلى رفض كل ما جاء به أهل 
السنة. على رأس هؤلاء كان الإمام الكلينى؛ المحدث الشيعى البغدادى صاحب الكافى الذى 
قال ٠كل‏ ما عليه أهل السنة فهو خلاف لناء . ولكن حتى هذه اللحظة» لا نعرف للترابى 
محاولة معلنة للتوفيق النظرى بين الخلافات التى فرقت المدرستين» سواء فى كتاباته 
المستفيضة» أو حواراته العديدة . فالمفكرون السنيون يؤملون كثيراً فى أن ينبرى من وسطهم 
شلدوت (الشيخ محمود شلدوت) ليكمل الجهد العظيم الذى بدأه ذلك الشيخ العالم الملهم 
للصواب7""). فى واقع الأمرلم تشراهتمام الترابى الفكرى حتى الأفكار الجريئة التى 
أرصنها الرئيس خاتمى لإظهار الوجه الإنسانى للإسلام. وإحقاقاً للحق» نقول أن إيران» قد 


2053 


أتويت اتن دلغن جركنها الإسلانية» تلماه ومتكرين لم يمترهع وجل اف إنانة لطر 
والفساد والهيمنة. فإلى جانب خاتمىء هناك آية الله منتظرى الذى لم يمضغ الكلام وهو 
يدين ما نسبه من فساد لابن الإمام الأكبرء الخمينىء وهاشم أغاجيرى("") الذى أعلن أن 
الحكومة التى تقمع الشعب باسم الدين» لا صلة لها بالدين؛ وبهزاد بنوى قائد منظمة 
مجاهدى الثورة (جبهة الثانى من الجوزاء الإصلاحية) الذى جاهر بالدعوة بأن ولاية 
الفقيه ليست من مبادئ الدين.(4") 

تاد الجيية؛ أن رتظاء متحيوة فهرتمة ناحية ينكدن بالقر ا #قتدنة تمان ودخلة فى 
كل شىء بما فى ذلك حاجات الإنسان البيولوجية» حتى ظن الناس أنه لم يعد فى حياة 
الإنسان إباحة . فالإنسان لا يأكل لأنه جاع وإنما لأن الله تعالى قال كلوا من طيبات ما 
رزقناكم» ولا يشرب لأنه عطش بل لأن الله قال: كلوا واشربوا هنيئأًء ولا ينام لأن للجسم 
حاجة فسيولوجية للنوم وإنما امتثالاً لقوله تعالى #وجعلنا نومكم سباتا4» . وما لهذا أنزل الله 
كتابه» فمن المعلوم فى الدين بالضرورة أن القرآن منبع هداية ومصدر أحكام فيما يخرج 
عن دائرة الفطرة والإباحة. من ناحية أخرىء ظل النظام أبعد ما يكون فى ممارساته عن 
المبادئ السامية فى الدين مثل العدل» الإحسانء العفو. ولعل ذلك التناقض الفاحش هو الذى 
قاد صحفياً أمريكياً لوصف النظام بأنه هجين بارع بين الحكم الدينى وجماعات المافيا.(؟") 
وربما تفسر تلك النزعة المافيوية» أكثر من أى سيب آخرء انحراف الجبهة عن الإسلام 
التاريخى الذى ادعوا الالتزام به. فبالرغم مما قلنا عن ضرورة تجديد الفقه التقليدى 
أمواجهة ظروف الحياة الراهنة» إلا أن ذلك الفقه لا يبيح» بأى وجه من الوجوهء البلطجة 
التى انغمس فيها النظام؛ أو يبرر الشهوة الدموية التى التصقت برجال أمنه كما يلتصق 
القوقت (المخاط المتيبس) بالأنف القذرة. فإذعان أجهزة أمن النظام للهمجية؛ وانهماك 
رجالاتها فى الشرء لم يترك لهم مجالاً للافتطان إلى أن القاعدة الذهبية فى الفقه الجنائى 
الإسلامى هى درء الحدود بالشبهات. ذلك العدول عن الطريق السوى جعل من النظام 
الإسلامى تجسيداً للشرء واستنبت سلالات من البشر غليظى القلوب يتبرأ أى دين من 
نسبتهم إليه» دعك عن دين يلاحق قاتل المؤمن متعمداً بأكثر من عقاب إلى يوم الدين» 


554 


وينذره بخلود العقاب. ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالدأ فيها وغضب الله عليه 
ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً» (النساء 312/4) . وإن توهم هؤلاء حقاً بأنهم أحكموا بناء مدينة 
فاضلة» فلا شك فى أن اللبنات التى أشادوا منها البناء لم تكن من طينة الإسلامء وإنما من 
جص استوردوه من ميكيافيلى» إن لم يكن من فلسفة توماس هوبز. فهوبز هو الوحيد الذى 
أكد أن القوة والخداع هما الفضيلتان الرئيسيتان. 

الجبهة والظواهر الشادة 

ثمة مفارقة أخرى فى سياسات الجبهة» ففى إطار حملتها لإزالة ما أسمته الأمراض 
الاجتماعية مثل الشربء والاختلاط بين الجنسين إلخ فات على الطهرانيين الجدد أمران؛ 
أولاً ما فى هذه الطهرانية من نفاقء وثانيآء كما ألمحنا فى الفصل الرابع» عدم اتساقها مع 
الواقع السودانى فى الشمال المسلم. وفى الحالة الأولى يصبح الشرب والاختلاط بين 
الجنسين لمعا (صغائر الذنوب) فى مجتمع يزدحم بالكذابين» وقاتلى النفوس بغير حق. 
ومختلسى الأموال العامة: «الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم» (النجم. 
57 "") . فالكذبء والقتلء وانتهاب المال العام هى كبائر الإثم التى ينبغى على الحاكم 
المسلم اجتنابها حتى يصبح ذا سلطة معنوية تمكنه من محاسبة خلق الله على ما دونها. أما 
الأمرالثانى فهو أن مسلمى السودان فى الشمالء قد ألفوا لعدة قرون بعض الممارسات التى 
لا مرية فى إنكار الإسلام لهاء مثل شرب الخمور. فالشرب فى السودان ظاهرة غير شاذة. 
إذ مازال شائعاً فى كل أرجاء السودان الشمالى المسلم» سواء كان ذلك فى الحياة اليومية 
العادية» أو خلال المناسبات الاجتماعية.!'') ورغم نهى القرآن عن شرب الخمرء لا يعتبر 
المسلمون الشماليون أن تناولهم لها يتعارض مع عقيدتهم الدينية» خاصة وفقهاؤهم كانوا 
يشاركونهم فى الاستمتاع بذلك الرجسء ولعل هؤلاء الفقهاء كانوا يتعزون بالشيخ الحكيم 
ابن سينا صاحب الجمانة الإلهية فى التوحيد.(١؟)‏ 

ومن العوائد السارية بين واحدة من أكبر قبائل السودان الشمالى المسلم فى غرب 
السودان (البقارة»ء أى رعاة البقر)؛ ممارسة الحضانة؛ وتعنى التعائق الغرامى. ولريما رأى 
الذين لا يلمون بعوائد أهل السودان فى تلك الممارسة نوعاً من الإباحية» فى حين يرى 


555 


أهلها أنها تأهيل وتأهب للزواج.(”") هذا التحرر الاجتماعى كان؛ ومازال» معروفاً للفقهاء 
والزعماء الدينيين الذين تدين لهم تلك القبائل بالطاعة» وتهتدى بهديهم. ولا شك فى أن 
هؤلاء الزعماء الدينيين أدركواء بحكمتهم الناضجة: أن العوائد الاجتماعية لا تبدل بإصدار 
الأوامرء وينبغى أن لا تفهم إلا فى سياقها المجتمعى العام. فالسيد المسيحء عليه السلام» لم 
يصلح مريم المجدلية بتوبيخهاء بل بتوبيخ من اندفع إلى الإساءة إليها. فما الذى يعنيه 
الطهرانيون الجدد بزعمهم أن الطهرانية التى يدعون لها تعبر عن الضمير الشعبى 
الإسلامى فى السودان. إن الإسلام الذى يدعون تمثيله ليسء بأى وجه من الوجوه هو 
الإسلام الذى يعرفه ويمارسه السودانيون» وإنما هو إسلام استوردوه من واقع القرن السابع 
الميلادى؛ إسلام قرشى لا يرى مسلمو السودان وجوههم فى مراته. لا ندعو بهذا 
الظهرائيين لأن معلواما حزم الله أو يتيجؤاها تفن ده وائما مزيد مدهم أن يتواستعزا 
قليلاً ويدركوا أن الإسلام لم يتنزل على أهل السودان بمجيئهم للسلطة. ولو جاءت الجبهة 
إلى الحكم بإرادة الشعب وقررت أن تفعل ما يمليه عليها ضميرها لقبلنا هذا باعتبارها ممثلا 
للإرادة العامة أما أن تختطف الدين وتخطف معه الإرادة العامة» فذلك تفاحش فى الغلو. 
نتيجة لثقافة العنف التى أشاعتها الجبهة وقعت ظواهر لم يكن يعرفها مسلمو السودان فى 
ماضيهم: العنف بين الطوائف والفرق الدينية. ففى ديسمبر العام 2٠٠١‏ ؛, مثلاء شن 
متطرف هجوماً وحشياً على مجموعة مسالمة من المصلين من جماعة أنصار السنة 
المحمدية بمسجد الجرافة» خارج الخرطوم. أسفر ذلك الهجوم عن مصرع ثلاثة وعشرين 
شخصاء وإصابة عدد آخر إصابات خطيرة . وينتمى القاتل» حسبما أوردت التقارير الرسمية» 
إلى جماعة التكفير والهجرة التى تسترشد بأفكار معادية للمجتمعء وتدعو إلى إيقاع العقاب 
بالذين ينحرفون عن طريق الإسلام (حسب رؤيتها للإسلام) » كما تدعو لاعتزال المجتمع 
الكافر بحسبانهم وحدهم الفرقة الناجية. هذه الجماعة ليست جماعة سودانية أصلية وإنما 
هى جماعة وافدة» وما كان لعنفوانها أن يستشرى لولا الرعاية التى وجدتها من النظام. 
فحادث الجرافة لم يكن هو الأول من نوعه» ففى عام ١9954‏ هاجم زعيم جماعة التكفير 
والهجرة؛ محمد الحليفى (يحمل جنسية ليبية ‏ تونسية مزدوجة) مسجداً فى أم درمان 


556 


تتردد عليه نفس الجماعة (أنصار السنة) » وقتل عشرين من المصلين. وعندما نقل الضحايا 
الجرحى إلى المستشفى العسكرى بأم درمانء كان أول من وفد إليهم هو الدكتور غازى 
صلاح الدين» فهرع الضحايا وأهلهم ينقلون إليه توجعهم وشكاتهم ضد الجناة. الإسلامى 
العارف بأحكام القصاص (والداعى بالقطع لتطبيقها) أرعبهم بقوله: اعتبروهم ماتوا فى 
حادث حركة. الحادثان لم يكشفا فقط عن تغلغل الجماعات المنحرفة فى السودان تحت 
مسمع من النظام ومشهدء وإنما أيضأ عن ختر ( خيانة وغدر) النظام بمن والوهء وفى 
الحديث ما ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو. ففى الحادث الأول طلب النظام من القاتل 
حليفى الاختباء فى منطقة الصحافة بالخرطوم؛ ريما تمهيداً لتهريبه . فى ذات الوقت أذاع 
وزير الداخلية» عبد الرحيم محمد حسينء بياناً يدين فيه الحادث. ويعلن أن سلطات الأمن 
تعمل جاهدة لإلقاء القبض على المجرمين الذين خبأتهم» بهدف تقديمهم للمحاكمة. ذلك 
البيان الإذاعى أغضب الحليفى؛ فيما يبدوء غاية الغضب حيث لم يكن يحسب نفسه مجرماآً 
بل مجاهداً فى سبيل الله» كما لم يتوقع صدور تلك التهمة ممن والاهم وعاهدهم . لذلك 
ترك الرجل مخبأه وذهب مباشرة؛ وهو يحمل سلاحه؛ إلى منزل أسامة بن لادن فى 
الرياض ليختصم إليه . ولسوء حظه ظن حراس بن لادن أن الرجل انتوى شراً بشيخهمء 
لاسيما بعد أن شق طريقه إلى الدرج الذى يقود إلى مكتب الشيخ» فأطلقوا عليه النار وأردوه 
قتيلاً. ترى» كيف يثق أى امرئ بنظام لا يملك الشجاعة على الاعتراف بالنتائج المترتبة 
على سياساته» ولا يحترم عهداً مع من عاهد. 

أما قاتل الجرافة فى عام 7٠٠١‏ عباس بكيرء فقد كان بين المتهمين فى الحادث الأول 
إلا أنه أطلق سراحه لعدم توفر الأدلة على جنايته؛ حسب قرار ممثلى الاتهام. ذلك الرجل 
كان معروفاً للنظام» بل تدرب على القتال فى صفوف ميليشيات الجبهة وشارك فى إحدى 
الحملات العسكرية بجنوب السودان. بدلاً عن معالجة جذر المشكل (إيواء النظام للجماعات 
المتطرفة» وتمكينها من التحرك الطليق وسط المجتمعء وإتاحة الفرصة لها للتغلغل فى 
الأجهزة الحساسة بكل فكرها الموبوء)؛ ذهب النظام لمعالجة الأمرمن منظور أمنى. عدل 
قانون الأمن القومى ليمنح السلطات الأمنية (وهى نفس الهيئات التى أسست ثقافة العنف 


53537 


فى المقام الأول) سلطة التعامل مع ما أسماه التعديل الظواهر الشاذة» وذلك باحتجاز 
المتهمين الذين يمثلون ظواهر شاذة لمدة ستة أشهر دون محاكمة:؛ أي كان معنى هذا 
التعبير. لم يدرك النظام الحاكم أن الظاهرة الشاذة الحقيقية هى سياساته التى جعلت الخط 
الفاصل بين الجهاد والقتل» وبين النهى عن المنكر والعدوان المتعمدء خطأ رفيعاً لا يكاد 
يرى منذ أن فتحت أبواب السودان أمام الفوضويين من كل حدب وصوب. وليت الأمر 
وقف عند الشذوذ المجتمعىء إذ أن هذه الجماعات المتطرفة الوافدة أصبحت دولة داخل 
الدولة» لها أجهزة أمنها الخاص ومحاكمها. وشاء الله أن يكشف واحد من العائدين من 
كهوف أفغانستان بعضاً مما كان يدور فى السودان. روى عبد الفتاح فهمى (كنيته أبو 
الخير) لجريدة الأهرام أن ابناً لأحد أعضاء جماعة الجهاد الإسلامى اتهم بالتجسس لحساب 
الجهات الأمنية المصرية التى كانت تتخذ من محل بقالة بجوار المنزل الذى كان يقطنه بن 
لادن موقعاً للتجسس على نشاطات الجماعة. ولما انكشف الأمر للجماعة» اقتادت الصبى 
عصمت (عمره ١5‏ سنه) للإستجواب ثم أخذته إلى خارج المدينة حيث أعدمته ولا نصدق 
أن مثل هذه الأمور كانت تحدث دون علم نظام يحصى على أهله أنفاسهم. 

دسنور 1998: تلبيس وتد ليس 

للوحشية منطقها الداخلى الذى يقودء فى النهاية» إلى استهلاك مقترفيها. تلك الحقيقة 
أدركها الترابى عندما انجلت عنه الأوهام بأن حكم الجبهة غلاب لا يهزمء ولا غالب إلا 
الله. فيسبب الإخفاقات المتوالية فى ميدان المعركة؛ من جهة»ء والتمردات الداخلية» من 
جهة أخرىء رأى الترابى نور الحق» وفى الحق مندوحة عن الباطل. وعندما أفلح البشير 
فى قص المزيد من اجنحة شيخهء وإقامته من كل مواقعهء اخترع الشيخ صورة جديدة 
لنفسه كبطل يدافع عن الديموقراطية» ومعارض مستميت لكل تجاوزات نظام الحكم لحقوق 
الإنسان. ولكيلا نظلم الشيخ نقول أن هجرته للديموقراطية ( وكل لما هاجر إليه) ؛ لم تكن 
نتيجة لخلافه الأخير مع البشيرء فقبل ارتدائه عباءة الديموقراطية:» بدأ الترابى عملية 
انسحاب مدروسة من مواقفه المطلقة. فى البدء عمل على حل المجلس العسكرى لكيما تنتقل 
السلطة للمدنيين» كما أشرف على حل الجبهة كتنظيم إخوانى واستبدالها بتنظيم أكثر اتساعآ 


558 


هو المؤتمر الوطنى» مع هيمنة الجبهة عليه. من اسم ذلك التنظيم الجديد اختفى نعت 
الإسلامية السمة المميزة للجبهة» وبقيت الشعارات مثل التهليل والتكبير فى كل منتدى: 
حتى وإن كان موضوع البحث فى ذلك المنتدى هو غزو امنحتب لبلاد النوبة. تلك العوة 
(اللجب والضجيج) المنسوبة للدين لا تعبرعن الرعة بقدرما كانت هى الحثلة الباقية (إلى 
جانب تطبيق الحدود ومطاردة الفتيات) من الرموز المائزة للإسلامويين ككيان معنوى 
يختلف عن غيرهء بدء) من إطلاق اللحىء» وانتهاء بجزاك الله كل خيرء بدلاً عن كتر 
خيركء كما يقول أهل السودان. ومن الطريف أن هذا التنظيم المحايد فى أمر الدين أصبح 
يضم بين أعضائه جنوبيين يدينون بعقائد أفريقية»؛ ومسيحيين. أكثر طرافة أن من بين 
هؤلاء المسيحيين الشكليين من لم يغش كنيسة فى حياته» ولكنه أصبح يستهل حديثه فى 
مجالس التنظيم بالدعاء للثالوث المقدس كرد فعل على استهلال المتأسلمين من الأعضاء 
لأى تدخل أثناء النقاش (حتى وإن كان نقطة نظام) ببسم الله الرحمن الرحيم والصلاة 
والسلام على رسوله الأمين. ولا يقود التزيد إلا للتزيد. 

وفى عملية تجميلية لا تخفى على عين» أعدت مسودة دستور جديد فى عام ١1314‏ لم 
ترد فيها أى إشارة لدين الدولة» الأمرالذى حارب الترابى بأظافره وأسنانه من أجل 
تضمينه فى دستور عام 1574» وأدان معارضيه بالعلمانية والإلحاد. فى ذلك الدستور 
أصبحت المواطنة أساساً للحقوق والواجبات؛ مما يعنى أن الدين لم يعد هو العامل المحدد 
للحقوق والواجبات الدستورية. فى هذا أيضأء تراجع مدهش عن قول الترابى لفيليب غبوش 
فى عام ١358‏ أن الإسلام لا يجيز لغير المسلم التطلع إلى مركزرئيس الدولة فى جمهورية 
السودان الإسلامية. ذلك الدستور الذى صاغه الترابى» كان بديلاً لمشروع آخر أعدته 
لجنة كونتها الحكومة من القانونيين المستقلين والمهنيين والسياسيين بقيادة رئيس القضاء 
السابق» خلف الله الرشيد. وكشف الرشيد لجريدة سودانية اندهاشه لتبديل اثنتين وستين 
مادة (من مجموع )3١5‏ من مواد الدستور الذى اقترحته لجنته. وحسب قول الرشيد 
كانت كل هذه المواد تتعلق بحكم القانون والحقوق المدنية .() 


خصومه المستترين فى الجبهة:» ولهذا لجأ إلى خطاب مزدوجء كان من ناحية يسعى 


35359 


لإيلاف المعارضين بالحديث عن التعددية والديموقراطية» ومن ناحية ثانية يتساعى 
لاسترضاء الغلاة» وما أصابتهم الغلوى إلا بسبب أحكامه القطعية فى الماضى. لإرضاء 
هؤلاء كان لابد من تضمين الدستور لكلمات شفرية (70505 0006) تضفى عليه الطابع 
الإسلامى. فعلى سبيل المثال» نصت المادة (4) من دستور الترابى على أن الحاكمية فى 
الدولة لله سبحانه وتعالى» فهو الخالق للإنسانء وأن السيادة لخليفته فى الأرضء أى شعب 
السودانء الذى "سيمارس تلك السيادة كعبادة للهء فيؤدى الأمانة» ويشيد الدولة» ويبسط 
الحرية والشورى العامة. الهدف من ذلك النص هو الإقرارء بطريقة ملتوية» بمفهوم سيادة 
الشعب . إلا أن المادة (4) نصت على أن الشريعة وإجماع الأمة هما مصدرا التشريع. 
ولكنء ما الذى يعنيه إجماع الأمة» إذا كان ذلك الإجماع يتصادم مع الشريعة ‏ المصدر. 
خاصة ولم يعد شرع الله كما قلنا ونقول» هو الرسالة الوحيوية التى أنزلها الله على رسوله 
ليبلغها لعباده» وإنما هو تفسير البشر (الفقهاء القدامى والمحدثين) للرسالة القديمة . هذا 
المنظور للشريعة يضع آراء الفقهاء (القدامى والمحدثين) فى كفةء كما يضع إرادة الشعب 
كله فى كفة أخرى. بالإضافة إلى أن مفهوم إجماع الرأى مفهوم غريب على الديموقراطية 
التعددية التى تقوم على سيادة إرادة الأغلبية خلال إطار زمنى يحدده الدستورء وتوفير 
الحرية الكاملة للأقلية لكيما تعبر عن رأيها بما يمكنها من أن تصبح, بدورهاء أغلبية فى 
يوم من الأيام. هذه حقائق لا يجهلها الترابى العالم الدستورى المرموق: ولكن للضرورة 
أحكامها وفقهها. 

بسبب من تلك الضرورات أبيحت محظوراتء اقتلع الترابى من مشروع الدستور الذى 
أعدته اللجنة جميع النصوص التى تطالب بتكريس مبادئ الديموقراطية المعترف بها دولياًء 
والتى كانت تطبق فى السودان. على سبيل المثالء تم استبدال المادة )5١(‏ المتعلقة بحرية 
التنظيم السياسىء, بالمادة )١1(‏ من وثيقة الترابى» والتى تشير إلى بدعة اسمها التوالى. 
هذا التعبير (التوالى) لا معنى له فى الفقه الدستورى المعاصر أو الفقه الإسلامى. ولاستنباط 
هذه النظرية المستبدعة» استند الترابى ومشايعوه على بعض آى الذكر الحكيم مثل قوله 
تعالى: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا 


2600ذ2 


ونصروا أولنك بعضهم أولياء بعض» (الأنفال 8/ 77) . فمن هم المهاجرون؟ ومن هم 
المجاهدون؟ ومن هو الآوون والناصرون فى السودان؟ ثم ما هو مناط هذا الجهاد ومعيار 
ذلك النصر؟ وأين مكان الذين لم يهاجروا ولم يجاهدواء أو مكان النصرانى الذى لم يأو 
المجاهدينء أو ينصرهم فى هذه التعددية المبتدعة . هذا تلبيس لا اجتهاد» وان كانت العبرة 
بالألفاظ ولى عدق بعض الآيات حتى تولول؛ لقلنا أن الإسلام ينهى عن موالاة النصارى 
بموجب قوله: فيا أيها الذين آمدوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء» بعضهم أولياء بعض 
ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين» (المائدةء )0١/©‏ : ولو فعلنا 
كما يفعل بعض أئمة المساجد الذين ما فتئوا يقرأون تلك الآية وشبيهاتها فى القرآن قراءة 
حرفية عقيمة خارج سياقها الموضوعىء لكان فى هذا إيذان بحرب على العالم. هذه الآية؛ 
فيما هو معروفه تنزلت تكريماً لعبادة بن الصامت الذى تبرأ من موالاة اليهود عند 
تربصهم بالمسلمينء وإدانة للمنافق الذى كان يواليهم عبد الله ابن سلول. وليس فى مثل 
هذه الآأيات ذات المقصد المحدد يتلمس المرء قيم الإسلام المعيارية» وإنما فى الآيات التى 
تحدد العلائق بين البشرء من حيث هم بشرء علائقهم فى التعايش والتساكن والتزاوج. نجد 
هذا فى قوله تعالى: «اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم 
حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا 
آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط 
عمله وهو فى الآخرة من الخاسرين». (المائدة» ©/5) . ونحمد الله أن مسلمى السودان» 
على خلاف غيرهم من المسلمين فى بلاد أخرى يتساكنون ويتعايشون مع إخوتهم 
المسيحيين (الأقباط مثلا) فى الأتراح والأفراح؛ بما فى ذلك الاحتفاء بأعيادهمء بل منهم 
من يتيمن بقديسيهم ويحتفى بميلادهم .(4؟) 

وفى السيرة لم يجد رسول الله حرجاً فى أن يشارك اليهود فى المدينة احتفالهم بعيد 
الخروجء وقال لمن ساءله فى ذلك من صحبه: نحن أولى به منهمء أى أولى بنبى الله موسى . 
ولوكان لأولنك الذين يتربصون بإخوتهم المسيحيين أسوة فى رسول الله» لتأسوا بما فعله مع 
نصارى نجران» وهم الذين أحرق بعضهم ذو نواس فى أخدود إذ هم عليها قعود. ففى العام 


561 


العاشر من الهجرة تصالح الرسول مع نصارى نجران وعاهدهم عهداً جاء فيه أن نجران 
وحاشيتها فى جوار الله وذمة محمد النبى رسول الله وعلى أموالهم وأنفسهم 'وملتهم وغائبهم 
وشأهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير» الا يعبر أسقفا من 
أسقفيته» ولا راهب من رهبانيته» ولا كاهن من كهانته وليس عليهم دين ولا دم جاهلية ولا 
يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم نجيبهم غير ظالمين ولا مظلومين. وفى النهاية» يقول 
الكتاب أن التفضيل بين أهل الأديان بمن فيهم من أشرك أو تمجس يكون بصلاحهم وشهادة 
رب العالمين على ذلك يوم الحسابء لا على يد طغاة متأسلمينء (إن الذين آمنوا والذين 
هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله 
على كل شىء شهيد» (الحج 17/77)» 9إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى 
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (المائدة ©/59) . 

لا تنتهى المفارقات عند التلبيس» بل نصت مادة التوالى على أن الحزب المتوالى لا 
يسجل رسمياً إلا إذا تعهد بالدعوة لمبادئه بالطرق السلمية» وتجنب استخدام العنف. ومن 
سخرية الأقدار أن يأتى هذا النص فى دستور أعده الحزب السياسى الوحيد الذى اتخذ من 
العنف المادى أداة لفرض سياسته فى السودان الحديث. استبدل الترابى أيضاً المادة (5؟) 
من مشروع اللجنة» والتى تكفل حماية حقوق المواطنين دستورياً وتننص على عدم الإخلال 
بتلك الحقوق إلا عبر الإجراءات القانونية السليمة» ليضع مكانها المادة (7؟) التى تلغى 
الحماية الدستورية للمواطن» خاصة فى حالات الاعتقال دون أمر قضائى. ولسنا بحاجة 
للقول أن هذا النص أيضاً يخاصم عهود واتفاقيات حقوق الإنسان التى التزم بها السودان» 
والتى يفترض أن تكون الأعلى فى سلم المرجعيات الحقوقية. هذا النص يتعارض بالطبع 
مع ما اصطلحت عليه القوانين المعاصرة (التى يسعى الترابى لتقديم نموذج إسلامى أفضل 
منها) » لأن الحبس الاحتياطىء إن تم دون ضمانات دستورية وقانو: نية» إجراء شاذ فى ظل 
تلك القوانين» وإهدار لحق المتهم فى محاكمة منصفة وعادلة. فبراءة المتهم أصل فى 
الخصومات الجنائية» وعلى المدعى إثبات ما يدينه بأدلة يقينية. هذه هى نفس القوانين 
الكفرانية التى ظل يستنجد بها إسلامويو لندنستان» وقفضتء بموجبهاء المحاكم اللندنستانية 


562 


بإطلاق سراحهم» حتى فى ظل الغلواء التى شاعت عقب أحداث ١١‏ سبتمبر/ أيلول١١٠7.‏ 
بيد أن الأمر فى السودان أخطرء فالقضاء الذى يتولى الحكومة فى الخصومات ام يعد هو 
القضاء الطبيعى النزيه؛ بل قضاء انتقى رجاله انتقاء من بين مناصرى النظامء أو مشاركيه 
الرأى . والقاضى الطبيعى أصل من أصول سيادة حكم القانون» ولا يكون القضاء طبيعيا إلا 
إذا تم اختيار القضاة فيه على أمس وضوابط موضوعية:» لا اعتبارات ذاتية مثل الانتماء 
السياسىء أو الانحياز الأيديولوجى. 

وعلى كلء فبإلغاء الإشارة إلى دين الدولة» وإسناد الحقوق والواجبات الدستورية 
للمواطنة» ظن الترابى بأنه سيرضى غير المسلمين فى السودان» ويخدع منظمات حقوق 
الإنسان فى الخارج. كما أرادء بإطلاقه تعبيرالتوالى سيئ الإعدادء الإيحاء لأنصاره 
الجبهويين بأن التعددية السياسية التى يدعو لها أمر أصيل فى الإسلام. وفى الواقع؛ لم 
تستهو تلك التعددية الزائفة معارضى النظام فى الشمال والجنوب لتعارضها الصارخ مع ما 
عرفته قوانين السودان فى الماضىء سواء كان من الناحية الموضوعية أو الإجرائية. لم 
ينخدع بالتواليقراطية إلا عدد قليل من الأحزاب الأنبوبية التى أنشأها النظام الحاكم؛ أو 
المجموعات التى انشقت على أحزابها الديموقراطية. كانوا خمسة أحزاب وجماعها فى 
موازين السند الجماهيرى لا يتجاوز الجذر التربيعى للصفر. تلك هى نصرة الخائبين» 
فالأحزاب الخمسة تستدعى إلى الذاكرة نظيرات لها أنشأها الحاكم العسكرى النيجيرى. 
سانى أباشاء فى أيامه الأخيرة؛ ووصفها بولا ايقى» وزير العدل النتيجيرى الراحل ب 
الأصابع الخمسة ليد مجذومة. لم يكن غريبأء إذن» انهماك تلك الأحزاب» وحالها هوما 
وصفناء فى الرمرمة السياسية لفتات النظام» والرمرمة فى اللغة هى تلقف الفتات المتساقط 
من المائدة» دون توقى قذره . 

ماثر "آل كابون" خارج السودان 

ماثر حكم الجبهة المافيوى لم تقف عند حدود السودان» بل استفاضت لتشمل القصى 
والدانى . ومن الواضح أن الجبهة كانت موقنة أشد اليقين بأن الله قد مكن لها فى الأرضء 
بإعانتها على إعادة تشكيل الثقافة التعبدية للمسلمين» ووعدها بنصر من عنده وفتح قريب. 


563 


فكيفء إذنء لهذه العصبة من أولى القوة أن تجفل عن مجابهة "الإرجاف فى العالم؛ من 
بعد أن قضت (أو هكذا ظنت) على المرجفين فى المدينة؟ وهكذا أنشأ الترابى فى صيف 
١‏ المؤتمر العربى الإسلامى الشعبى وأصبح أميناً عام له. وكما يشير اسمه؛ لم يكن 
المؤتمر مؤتمراً إسلامياً فحسبء بل أيضاً تجمعاً ضم المتطرفين من كل حدبء لكل واحد 
منهم برنامجه الثورى. وكان اسم المؤتمر فى البدء المؤتمر الإسلامى الشعبىء إلا أن كلمة 
العربى أضيفت إليه بعد انضمام الزعيمين الفلسطينيين نايف حواتمة وجورج حبش إليه» 
وكلاهما مسيحى. وحسبما أورد تقرير لأحد فرق العمل بالكونقرس0*), شارك فى 
الاجتماع التمهيدى للمؤتمر فى منزل الترابى بحى المنشية فى الخرطومء الفريق البشيرء 
عباسى مدنى (الجزائر)» راشد الغنوشى (تونس) مهدى إبراهيم» وآخرون, ومن الآخرين 
هؤلاء ذكر روهان قوناراتاء مستشار الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب فى كتابه الأخير("") 
أسماء أسامة بن لادن» الملا مهدى الكروبىء, المتحدث الرسمى باسم المجلس الإسلامى فى 
طهران» وعبدالله جاب الله عضو البرلمان الجزائرىء والذى أعلن تخليه» فيما بعد. عن 
الجماعات المتطرفة. فى ذلك الاجتماع تم الاتفاق على طبيعة المؤتمرء وأجندة أعماله» كما 
ووفق على تحويل مبلغ ١7‏ مليون دولار أمريكى لجبهة الإنقاذ الإسلامى الجزائرية من 
خلال أحد البنوك الإسلامية بالخرطوم. ذكر التقرير أيضاً أسماء عدد من المعسكرات التى 
أنشئت لتدريب الكوادر الإسلامية فى السودان وهى الكدرو ‏ جبل الأولياء ‏ الكاملين» 
بالإضافة إلى تكوين فريق عمل (6056 1351) كنواة للعمل السياسى "الإسلامى فى أوروباء 
كان من بين المشرفين عليه الطيب إبراهيم سيخة("). وهكذا حول نظام الجبهة السودان 
الآمن إلى معقل للعنف السياسى عابر القارات» ومعبراً لتهريب الأسلحة للدول المجاورة » 
ومصدراً لتحويل الأموال من خلال أجهزته المصرفية إلى المجموعات السياسية المناهضة 
للحكومات فى دول الجوار. وكان للترابى المهيمن على دولة العنف الإسلامى رأى غريب 
أورده فى خطابه الافتتاحىء قال: 

إن أبناء الشريحة القيادية لحركة الإسلام كانوا قد عاشوا عهداً طويلا أيام الدعوة الأولى 
فى غرية وجدال وخصام إذ أحاط بهم طيف من عشاق المذاهب الاشتراكية والليبرالية» ثم 


564 


لما بلغوا أشدهم فاقتحموا السياسة عهدوا صنوف المشاقة والمؤاذاة من متعصبة الطائفية رمي 
بالحجارة وضربا بالعصى ليصدوهم ويحموا الأتباع من الوعى. ما أحلى القذف بالحجارة 
والضرب بالعصى إزاء وجوه التعذيب الإسلامى التى وصفها مراقبو حقوق الإنسان 
الدوليون. 

كانت مصر وليبيا من أوائل الدول العربية التى استهدفها النظام الجبهوى رغم مساندة 
هاتين الدولتين له عند إنشائه. فحين مدت ليبيا حكومة الخرطوم بدعم مادى هام تمثل فى 
توريدات الوقود فى وقت كانت فى أشد الحاجة إليه» قامت مصر بتسويق البشير لدى العالم 
العربى بوصفه مصلحاً وطنيآ بلا انتماءات أيديولوجية ‏ ولربما اعتقد الترابى أن ليبيا هى 
أضعف حلقات السلسلة؛ ولهذا قصد السيطرة عليها من الداخل عبر الجماعات الإسلامية 
الليبية. ولريما ظن أيضأء أنه لو تحققت له تلك السيطرة فسيسهل عليه التحكم فى شمال 
أفريقياء ثم الانطلاق بمشروعه الثورى الإسلاموى نحو أورويا. تطلعات الترابى» بلا شك» 
أخذت تتجاوز الخيال» كما لم يتردد ذهنه؛ فيما يبدوء بين الشك واليقين فى قدرته على 
تحقيقها. ففى خطاب جماهيرى له بمدينة كسلا (شرق السودان) قال: إن كان الإسلام قد 
انطلق إلى أوروبا فى ماضيه من قلعة الأمويين فى دمشقء فإنه سينطلق اليوم إليها من 
السودان. ولربما كان موسى بن نصير السودانى يومذاك مثمولاً بهتافات الجماهير: تكبير» 

تقابل الترابى» حسبما ورد فى تقرير فريق العمل الأمريكى؛ مع عدد من المنشقين 
الليبيين للتخطيط للاستيلاء على الحكم فى الجماهيرية الليبية هم: فايز محمدء جمعة على 
رمضانء كمال شامىء وأبو زولوك. فى ذلك الاجتماعء كما يقول نفس المصدرء شارك تاج 
السر مصطفى ومهدى إبراهيم؛ من كوادر الجبهة. وفيما نلمح» كانت تلك الجماعة تعتقد أن 
السير إلى طرابلس لن يكون أكثر من نزهة بلا عناء» كما كان الترابى على يقين بأن 
القذافى فى موقف ضعف شديد تجاه "الحركة الإسلامية فى بلاده. ففى حديث مع صحفى 
أمريكى قال: ظل القذافى» فى الآونة الأخيرة» يدعو الحكومة السودانية» بطريقة واضحة لا 
لبس فيهاء لإبعاد الدين عن السياسة وعدم الخلط بينهما. حقيقة الأمرء أن القذافى فى غاية 


565 


القلق من الظاهرة الإسلامية التى تحيط به من كل مكان.("') المهمة لم تكن بالسهولة 
التى توقعها الترابى» بل انتهت بسرعة لم تتوقعها حتى العناصر التى كانت حسب ظنه 
تحيط بالقذافى من كل مكان. اعتقل النظام الليبى كل هذه العناصر وتم إعدامهاء بل إعدام 
كل من لحقت به شبهة التعاون معهمء كما توقفت ليبيا عن مد السودان بالنفط. فى الوقت 
ذاتهء امتدت أيدى الجبهة أيضأ إلى المغرب القصى: موريتانيا المسالمة. ففى " أكتوبر سنة 
,؛ أعلنت صحيفة موريتاتيا الجديدة (©11ء7]000 ءذهة)ف1ا142 1.3) القبض على خمسة 
أشخاص ينتمون إلى جماعة الجهاد الإسلامى بينما كانوا يخططون لحملة إرهابية فى 
موريتانيا لزعزعة استقرار نظام الحكم. وجاءت هذه المجموعة:» طبقاً للمعلومات الأمنية 
التى توفرت للصحيفةء من السودان. 

أخطر المغامرات الخارجية للجبهة تمثلت فى مساندتها للغزو العراقى (أو بالحرى غزو 
صدام) للكويتء رغم ازدراء الترابى المعلن للرئيس العراقى. ففى محاضرته يجامعة 
فلوريداء وصف الترابى صدام ب ٠عدو‏ الإسلاميين الذى لن ينخدع الإسلاميون أبداً بدعوته 
المتكررة للجهاد». وحين كان الترابى يجاهر باستيائه من صدام فى تامبا بولاية فلوريداء 
كانت حكومته فى الخرطوم تقدم جزءاً من أرضها كمخزن لأسلحة الدمار (صواريخ سكد) 
العراقية حماية لها من هجوم القوات المتحالفة ضد العراق.(؟") وفى نوفمبر/ تشرين ثان 
"0 ادلى وزير الداخلية السعودىء الآمير نايف بن عبد العزيز بحديث خطير لجريدة 
السياسة الكويتية ونقلته عنها صحيفتان سعوديتان. قال الأمير نايف أن وفداً ضم الغنوشى 
(تونس)» والترابى (السودان)» والزندانى (اليمن)» وأربكان (تركيا) زاره عند احتلال 
العراق للكويت واجتمع بالملك وولى عهده للتوسط فى النزاع. وعندما جابه المسئولون 
السعوديون الوفد بسؤال محدد: هل تقبلون احتلال بلد لبلد؟ أجابوا بأنهم ما أتوا إلا ليسمعواء 
ولكن ما أن وصل الوفد بغداد حتى أعلن تأييده للعراق.('؛) 

هل كان التناقض بين حديث الترابى فى تامباء وأعماله فى الداخل توزيعاً للأدوار» أم 
هو جزء من استراتيجية الحديث بلسانين: واحد لمخاطبة الخارجء والثانى لمخاطبة الداخل؟ 
هو هذا وذاك؛ ولكن بجانبهما أيضاً عامل ثالث. فالترابى ونظامه كانا يؤملان فى مضى 


566 


صدام بحملته حتى يصل الحرمين الشريفين. هذا الزعم تؤكده الهنافات الداوية فى 
التظاهرات التى كانت تقودها عناصر الجبهة فى طرقات الخرطوم: إلى الأمام يا صدام. 
من الكويت إلى الدمام. كما كان للترابى رأى معلن فى الأسرة المالكة السعودية لا يتسم 
بالكياسة. ففى حديث إلى الكاتبة الأمريكية جوديث ميلئر قال مندداً بالمملكة العربية 
السعودية وحكامها: إن الحكام السعوديين ليسوا مسلمين أصوليينء ولا حتى مسلمين. 
فحكمهم الملكى» وقوانينهم وصفوتهم العلمانية» يمثلون نموذجأ محافظاً للحكم فى الشرق 
الأوسط عبر السنين(؛) وكان الترابى قد أعلن لمستمعيه فى تامبا أنه على اتصال بعناصر 
شابة فى المملكة السعودية يريدون الخلاص من الملكية فى بلادهم. هذا أمرلا يستبدعه 
المرء من نظام الخرطوم بعد إيوائه لأسامة بن لادن» صاحب المقالة الذائعة حول الحكم فى 
بلاده. ما نستبدع ونستهجن هو الوقاحة التى اتسمت بها الهتافات التى ترددت فى 
التظاهرات التى نظمتها الجبهة» والتى نسبت الأسرة المالكة إلى يهود خيبرء ومنها يهود. 
يهودءال سعود. 

وإن عرفنا الذى دفع الجبهة إلى الانحياز لبعث العراق وأغلب رجالها ممن كانوا 
يناهضون الاتجاهات العروبية بناصرييها وبعثييها (من أشأم منهم ومن تعرق) نتساءل وما 
الذى جرها إلى الغلو فى معاداة المملكةء وأغلب كباراتها قد نمواء وكل مؤسساتها قد قامت» 
على العطاء الرسمى والأهلى من المملكة العربية ودول الخليج؟ ثم كيف يبرر المرء؛ مع 
اختلاف الرأى؛ الشطط فى العدوان» والشطح فى القول» والجور فى الخصومة ؟ نقولء والله 
ورسوله أعلم» إنه الهوى الجماحء والخيال الطماحء والادعاء أنهم على شىء ليس لهم. 
تراءى لنظام الجبهةء فيما نظن» أن صدام حسين وحزبه العلمانى (البعث) لن يستطيعا بأى 
حال من الأحوال التمسك بأرض الحرمين الشريفين» مما سيضطرهم إلى التعاون مع 
المتطرفين السعوديين. وحسب هذا التوهم» سيصبح الترابى» بحكم تفوقه المعرفى العصرى 
على أولئك المتطرفين: هو المرشد الفكرى والشيخ الحكيم. وكان الأمير نايف صريحاً فى 
حديثه حول الترابى فى التصريح الذى أشرنا إليه آنفأء قال: "لقد عاش الترابى فى المملكة 
ديق فى جامعة الملك عبد العزيزء وكنت أعتبره صديقاء وكان يمر على دائمأء خصوصاً 


2567 


عندما عمل فى الإمارات. كان لا يأتى المملكة إلا ويزورنى. وما أن وصل إلى السلطة 
حتى انقلب على المملكة. ذلك هو نفس التفكير الذى رمى بالترابى العالم إلى مساندة 
الجماعات الإسلامية المتطرفة فى الجزائر» رغم كل جرائمها وجرائرها التى لا تشرف 
مسلما ولا الإسلام . كان واثقا من انتصارها فى النهاية» مثل ثقته فى انتصار نبوخذ نصر 
العراق» ولهذا صمت عن كل فتاواهم التى أحلوا بها قتل النساء والأطفال من أهلهم تأسيأًء 
كما زعمواء بإبراهيم: (قد كان لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا 
براء منكم ومما تعبدون من دون ألله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى 
تؤمنوا بالله وحده». (الممتحنة: )4/5١‏ 

الذى يظن أنه قادر على تحقيق هذه التطلعات العملاقة. لن يتردد كثيراً فى الظن بأن 
اقتحام أثيوبيا وإريتريا هو مجرد رحلة صيد. ولكن الواقع أثبت خلاف ذلكء إذ أدمى النظام 
أنفه فى تلك المغامرة. ففى البدء تشكت أثيوبيا وإريتريا من مغامرات النظام فى بلديهما 
مما جعل رئيسى البلدين يوجهان إنذاراً مشتركاأً لنظام الخرطوم. وفى يوليو »١534‏ تقابل 
الرئيسان أفورقى وزيناوى مع الرئيس البشير فى العاصمة الأثيوبية» وكانت رسالتهما إليه 
إنذاراً أخيراً: "إما أن توقف التدخل ومحاولة التأثير على المسلمين فى بلديناء وتحتفظ 
بنموذجك الإسلامى داخل حدود بلادكء أو سيكون لنا شأن آخر. فى رده على ذلك الاتهام 
نفى البشير أى نوايا سيئة للسودان تجاه البلدين. 

وقبيل عامين من لقاء البشير مع نظيريه الإريترى والإثيوبى فى أديس أباباء أبلغ 
الترابى صحفياً زائراً بأن دول القرن الأفريقى: السودان» والصومالء وأثيوبياء وإرتيريا 
سوف تصبح مثل الجماعة الأوربية (.©.85) جماعة "إسلامية واحدة تختفى بينها 
الحدود.(" ؟) هذا التصريحء لابد أن يكون أصاب غير المسلمين الذين يقطنون هذه المنطقة 
برعشة» فالمجموعة الاوروبية ليست مجموعة دينية وإنما هى كيان سياسى اقتصادى يضم 
دولاً متعددة الأديان واللغات» وتفاخر بذلك التعدد. وكما قال الصحفى أن الذى يقلق ليس 
هو رؤية الترابى لوحدة دول القرن؛ وإنما كيف سيحول هذه الرؤية إلى حقيقة. أهل القرن 
الأفريقى يعرفون كيفء ففى نفس العام الذى التقى فيه البشير مع رئيسى أثيوبيا وإريتريا 


5368 


اعتقلت السلطات الإريترية عشرين متسللاً من "جماعة الجهاد الإسلامى الإريترى 
وأبادتهم. ولو كان جميع هؤلاء من الأريتريين لحسبنا الأمرجزءاً من صراعات الأريتريين 
فيما بينهم؛ ولكن المجموعة ضمت عناصر من المغربء وتونسء وأفغانستان وباكستان. 
ويستحيل أن يكون الدافع وراء تسلل هؤلاء هو الرغبة فى قيام مجتمع شرق أفريقى موحد 
أو إشعال معارضة وطنية ضد النظام الإريترى من جانب بعض مواطنيه. إزاء هذا قررت 
إريتريا فى أول يناير 1190 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع السودان. 

لا شك فى أن البقر تشابه على الترابى حين أعلن عن رغبته فى قيام اتحاد بين دول 
القرن على غرار الاتحاد الأوروبى. فحتى إن تجاوزنا إضفاءه صبغة دينية على ذلك 
الاتحادء تبقى المقارنة غير موفقة . فالاتحاد الأوروبى اتحاد طوعى قام على أساس احترام 
التنوع» والالتزام بالقيم المثلى المشتركة» والثقافة السياسية الواحدة» واحترام الإرادة الشعبية. 
فإتفاقية روما (الاتفاق الأساس للوحدة الأوروبية) نصت على إلتزام كل الدول الأعضاء 
بالديموقراطية التعددية» واحترام حقوق الإنسان. ولهذا السبب لم تصبح اليونان وأسبانيا 
والبرتغال جزءاً من المنظومة الأوروبية إلا بعد سقوط الكولونيلات فى اليونان» ورحيل 
فرانكو عن الساحة السياسية فى أسبانياء وإقصاء سالازار فى البرتغال. كما تنص اتفاقية 
ماسترخت على ضرورة التأييد الشعبى للوحدة عبر الاستفتاء فى كل بلد على حدة . حقيقة 
الأمرء الوحدة التى تغياها الترابى لدول القرن الأفريقى لا تختلف فى شىء عن تلك التى 
كان العروبيون يسعون لتحقيقها بقرارات فوقية» وباءت جميعها بالفشل يسبب قفزها على 
الواقع» وكان للترابى - ومازال ‏ رأى قادح فى تلك التجارب. 

ثم جاءت محاولة اغتيال الرئيس مبارك. ولريما يثبت المستقبل براءة البشير والترابى 
عن تدبيرهاء رغم إغضائهما عنها. أصابع الاتهام د: تشير إلى عناصر كانتء فى ذلك 
الوقتء قريبة من الترابى» واستمرت تحيط بالبشيرء("؟) تسعة همء «وكان فى المدينة تسعة 
رهط يفسدون فى الأرض ولا يصلحون؟ (النمل 17؟58/5)» وقد أنبتت تت الدلائل التى جمعها 
المحققون الأثيوبيون تورط أجهزة أمن النظام فى تلك المحاولة بصورة مباشرة عن طريق 
التسهيلات التى قدمتها لفريق الاغتيال بمنح أفراده جوازات سفر سودانية مكنتهم من 


2526069 


الدخول إلى أثيوبياء ونقل السلاح عبر الحقيبة الدبلوماسية» وتوفير الدعم لهم من خلال 
المنظمات الخيرية الإسلامية المنتشرة فى أثيوبيا والتى كان أمرها موكولاً لعناصر من 
الجبهة أو قريبة منهاء ثم تهريب من نجا منهم بعد الحادث إلى السودان عبر الحدود برا أو 
على متن الطائرات. على رأس هؤلاء كان مصطفى حمزة الملاحق من قبل سلطات الأمن 
المصرية. ومن سوء حظ النظام أن ينبرى أحد المؤامرين (صفوت عبد الغنى) للكشف عن 
تفاصيل ذلك الحدث الإجرامى» ودور النظام السودانى فيه» لإحدى الصحف بعد مضى 
خمسة أعوام على محاولة الاغتيال(؛؛). صفوت واحد من المجرمين الأحد عشر الذين 
قاموا بالعملية» خمسة منهم لقوا حتفهم فى الحال» وثلاثة تم اعتقالهم من جانب سلطات 
الأمن الأثيوبية منهم صفوتء. وقدموا من بعد للمحاكمة (حكم عليهم بالإعدام) ؛» فى حين 
هرب ثلاثة آخرون إلى السودان» أو بالحرى هربوا إليه. 

وبوصول الثلاثة الهاربين إلى الخرطوم وجد صناع المؤامرة أنفسهم فى مأزقء فقرروا 
إبلاغ البشير أولاًء ثم الترابى من بعد. جاء على عثمان» بصحبة رئيس النظامء ليبلغا شيخ 
الجبهة (الترابى) بما حدث؛ وكان أول سؤال وجهه الشيخ إليهم: ماذا أنتم فاعلون؟. قال 
على عثمان:قررنا تصفيتهم حتى لا نترك أثراً. إزاء ذلك الرد انفعل الترابى وقال: أجدر 
بكم أن تصفوا أنفسكمء فالعمل الذى تنتوون فعله ليس من الأخلاق فى شىء» وليس من 
الدين فى شىء» ثم تطوع الشيخ باقتراح: ابحثوا عن حل سياسى يخرج بمقتضاه المتهمون 
الثلاثة من السودان. فى دولة الشريعة السمحاء لم يتبادر إلى ذهن ولى الأمرء ولا مفتى 
الديار» أن النفس بالنفس والجروح قصاصء وأن من يتعد حدود الله فهم الظالمون. حقاً هم 
إلى الأعراب أقرب, «والأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على 
رسوله4 (التوبة 51/9) . 

شاء الأعراب المنافقون» والذين قال قائلهم "سنفنى جميعاً حتى لا يعود الخمر للخرطوم» 
إخفاء معالم الجريمة؛ وتبرئة السفاحين» وجعل الله لهم مخرجاً فى فتوى الشيخ . نتيجة لتلك 
"الفدوىء كف وزير الدولة للخارجية» غازى صلاح الدين» مع عنصر أمنى (قطبى 
المهدى)» يتهريب المتهمين الثلاثة خارج السودان» دون أن تكون للاثنين فيما نظنء يد 


53200 


فى المؤامرة . وبالفعل أعدت طائر. ة خاصة (قيل لمن شارك فى إعدادها بأن وجهتها كوالا 
لامبور) ليستقلها المتهمون الثلاثة إلى طهرانء بعد أن منحوا جوازات سفر سودانية جديدة 
وأطلقت عليهم أسماء وهمية. وكانت طهران محطة عبورء إذ كان الهدف هو نقلهم إلى 
أفغانستان. ولربما كان الهدف من اختيار قطبى هو أنه كان يعملٍ سفيرأ للسودان فى 
طهرانء وكانت له بتلك الصفة علائق وثيقة بأجهزة الأمن الإيرانية . نغلّب الظن أيضاً أن 
الاتصالات فى إيران تمت على مستوى أمنى لا سياسىء فإيران السياسية لا يمكن أن 
تنغمس فى التستر على محاولة اغتيال رئيس مصرء فكفاها ما عانت من توتر فى العلاقات 
مع مصر لسبب أدنى من هذاء ألا وهو إطلاق اسم الإسلامبولىء قاتل السادات؛ على واحد 
من شوارعها. ذلك موقف يمكن فهمه فى إطار غضب الحكومة الإيرانية من السادات. أولاً 
لاحتفائه بالشاه ومناصرته له» وثانياً لدعمه العراق فى حربها ضد إيران. تلك العداوة لا 
تنسحبء بالضرورة» على مصر كلهاء أو على رئيسها الحالى. جزء من هذه الحقائق يعرفه 
أهل السودان» وأدق تفصيلاتها كانت متوفرة لأجهزة الأمن الخارجية التى كانت ترقب 
وترصد كل تحركات النظام داخل وخارج السودانء لهذا كان أول سؤال وجهه مبيعوث 
الرئيس كلنتون؛ هارى جونستون.ء للنظام فى أول زيارة له للسودان: ما الذى حدث 
للمتهمين بمحاولة اغتيال الرئيس مباركء وأين هم الآن؟ ذلك السؤال ظلت توجهه أيضأء 
دون جدوىء أجهزة الأمن المصرية لحكومة السودان. ومن سوء طالع غازى صلاح الدين 
أن كان هو الرجل الذى وجه له جونستون السؤال. رد غازى وهو يتأوه :اه تعلم السودان بلد 
شاسع .(/0]1نام© 356 2 15 500308,/لا0! ناولا ,لأة) ما درى غازى أ ذلك الرد 
المستخف على المبعوث الأمريكى الذى تملك دولته القدرة على رؤية ما وراء الحيطان. قال 
جونستون لبعض خاصته بعد ذلك اللقاء: ٠هؤلاء‏ قوم لا يمكن الوثوق بهم فى أى شىء:. 
التصفية» فيما يتجلى؛ أصبحت منهجاً يستسهله نائب الرئيس وثمانية رهط بالمدينة. 
فعقب فشل المحاولة» نَ تمت تصفية أحد موظفى هيئات الإغاثة ويدعى محمد القاتح أمام 
زوجته فى أديس أبابا حتى يزال أى أثر للجريمة» وكان الفاتح واحداً من العناصر التى 
كانت على علم بتدبير الجريمة» وما زال قاتله يعمل فى ديوان الزكاة. من جهة أخرىء لم 


57/1 


يقو واحد من الثلاثة الناجين (مصطفى حمزة) على صحبة زميليه اللذين هربوا برأ إلى 
السودان» ولهذا لم يجد زبانية النظام مناصاً من حمله فى طائرة الرئيس البشير بعد فراغه 
من مؤتمر القمة. وفيما يبدوء تم ذلك الأمردون مشورة البشيرء لهذا ما أن فوجئ بوجود 
الجانى فى طائرته حتى انفجر غاضبأء ورفض عند وصوله مقابلة الصحفيين الذين كانوا 
فى انتظاره . وبعد نقل الجانى إلى مستشفى الشرطة؛ توجس خيفة اثنان من طاقم حرس 
الرئيس من غير الجبهويين صحباه فى الطائرة. وفى ١115/5/77‏ قام فردا الأمن» جعفر 
إيراهيم حسين صالح (من سرية حرس الرئيس)» وععزالدين حسن (من شعبة الأمن 
الايجابى بالمخابرات العسكرية) باختطاف طائرة من طائرات الخطوط الجوية السودانية 
واتجها بها إلى أسمرا فى 1197/5/75 نجاة بنفسيهما من الهلاك على يد قاتلى الأنفس 
التى حرم الله فى دولة شرع الله. حملا على ذلك خاصة وقد ألما بما حدث فى أديس أبابا 
للشاهد الذى «شاف حاجة». 

مهما يكن من أمرء تبع الحادث قراران هامان: الأول هو طرد ثلاث عشرة منظمة 
خيرية إسلامية من اثيوبياء وهكذا اخذت اثيوبيا البرىء بالجانى» إذ لا يتوقعن احد منها ان 
تثق فى أى واحدة من هذه التنظيمات بعد ذلك الحدث الخطير الذى هدد أمنها الداخلى» 
وأساء إلى علاقتها بالدول» وكشف عن المواقع التى يمكن للإرهاب أن يتسلل عبرها. 
والثانى هو إصدار مجاس الأمن للقرار رقم ٠١54‏ (ععام )١115‏ بإدانة الحكومة 
السودانية» وأمرها باتخاذ إجراءات فورية لتسليم المتهمين الذلاثة إلى أثيوبيا. فرض مجلس 
الأمن أيضاً عقوبات على السودان تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة مما جعل 
السودان للمرة الأولى فى تاريخه منذ الاستقلال مكان اتهام من الأمم المتحدة؛ ليس فقط 
بسبب أنتهاك حقوق الإنسان» وإذما أيضاً بسبب تهديد السلام الدولى. 

لم يكن للترابى» كما أسلف القولء دور مباشر فى التخطيط لاغتيال الرئيس مبارك: إلا 
أن ابتهاجه الغريب بالحدث بعد وقوعه خلق انطباعاً بأنه كان وراءه . ففى حديث للسفير 
الأمريكى فى الخرطوم قال: عندما تجرأً مبارك بالذهاب إلى أديس أبابا لحضور قمة منظمة 
الوحدة الأفريقية» كان المسلمون من أبناء النبى موسى له بالمرصاد. تصدوا له» وأربكوا 


5372 


خططه؛ وردوه إلى بلده.(”؟) وبالطبع» أراد الترابى» بنسبته القتلة المجرمين إلى موسى؛ أن 
يستدعى إلى الذاكرة فرعون. استمر الترابى فى استهزائه بالرئيس المصرى بأسلوب غير 
لائق» إذ قال لنفس السفير: لقد وجدت أن مبارك لا يرقى لمستوى تفكيرى وأدائى ولن يفهم 
أبدأ ما أدعو إليه.(') لم يكتف الترابى بالتندر بالرئيس المصرىء بل تعهد بالاستمرار 
بمحاولات ممائلة حتى يتم تطهير مصر من الشوائب.("؟) كذلك هدد بوقف تدفق مياه 
النيل إلى مصر وهو القانونى الضليع الذى يعرف جيداً أن هناك قوانين» وسوابق» وأحكاما 
قضائية دولية تنظم المياه الدولية.(؛) وحتى تلك اللحظة كان واضحاً أن الترابى لم يكن 
يبالى أن يصبح قبضاى المنطقة» دون أن يدرك أن هناك قوى فى الإقليم والعالم أشد قدارة 
منه على سفك الدماءء إن أرادت أو حملت على ذلك. ولكن من الغريب أن ينكر الترابى» 
بعد خلافه مع البشيرء أى علم بالحادث؛ أو مسئولية عنه. فرداً على سؤال من مجلة 
أسبوعية قاهرية عن دوره فى محاولة اغتيال الرئيس المصرىء أجاب الترابى: هذا السؤال 
يجب أن يوجه للحكومة: أما أنا فمفكر وداعية فقط.(') ما الذى دفع الترابى إلى التحامل 
والاجتراء؟ هل السبب هو كرهه لمصر لأنها لم تخف كرهها له؛ أو لرغبتهاء كما نظن» فى 
دفع البشير للتخلص منه؟.!**) ١‏ 

وفى الجنوب القصىء امتدت أصابع الأخطبوط الجبهوى إلى يوغندا. بالرغم من أن 
الرئيس اليوغندى موسيفينى كان من أوائل الزعماء بالمنطقة الذين قدموا خدماتهم للنظام 
للتوفيق بينه وبين الحركة الشعبية» كما سنبين فى الفصل التاسع. ومثلما حدث فى أثيوبيا 
لجأت الجبهة إلى استغلال المنظمات الخيرية الإسلامية لاختراق يوغنداء وتحريض 
المجموعات المسلمة فيها ضد إخوتهم غير المسلمين بطريقة أخذت تهدد النسيج الاجتماعى 
للبلاد.('”) من ناحية أخرىء؛ احتضنت الجبهة جماعة بدائية مسيحية متطرفة تناهض 
النظام اليوغندى» تعرف بجيش الرب .(ا«مث ععمهاوزوءع1 5ل:0]) تلك الجماعة يقودها 
مشعوذ يمارس طقوساً غريبة مثل ذبح الأطفال وتقديمهم قرابين لما يعبدء علماً بأنه يدعو 
لدولة قائمة على الوصايا العشر.(””) ولا شك فى أن تحالف الجيهة الإسلامية مع المشعوذ 
المسيحى البدائى جوزيف كونىء زعيم هذه الجماعة الوحشية» لم يكن يهدف إلا لتحقيق 


213 


منفعة سياسية لا دينية» إذ ليست هى من الإسلام أو المسيحية فى شىء. وكان قد استقر فى 
ذهن النظام أن الحركة الشعبية تستمد قوتها الأساسية من الدعم السياسىء والإسناد 
اللوجستى الذى يوفره لها النظام اليوغندىء؛ ولهذا سعت لتقويضه. وكثيراً ما كان الناطق 
العسكرى للجيش السودانى ينسب انتصارات الجيش الشعبى لليوغنديين» كما ظل يتهم 
جيشهم بغزو السودان كلما حقق الجيش الشعبى انتصارأء حتى فى المناطق الجنوبية 
المتاخمة للشمال» والتى تبعد عن يوغندا بمئات الأميال. 

كثيرون تصدوا لإصلاح ذات البين بين يوغندا والسودان» وكان على رأس هؤلاء العقيد 
معمر القذافى» والرئيس الأسبق للولايات المتحدة» جيمى كارترء إلا أن تلك المحاولات لم 
تحظء فى البداية» بنجاح يذكر. وفى تصريح له لإحدى صحف شرق أفريقيا عزى الرئيس 
اليوغندى ذلك الفشل لتضارب وجهات النظر بين البلدين حول أسباب الحرب فى الجنوب 
ووسائل إنهائها.(”) وبلغ انزعاج يوغندا من البشير وحديثه المزدوج حداً جعل الرئيس 
موسيفينى يقول: لقد تباحثت مع البشير لإيقاف كونى عند حده. وإن لم يفعل فسنوقفه 
بأنفسناء إذ لا يحق للبشير أن يقتل أبناءنا.(؛*) شكوك موسيفينى فى نوايا حكومة السودان 
تأكدت عقب زيارة قام بها وفد من الاتحاد الأوروبى لشمال يوغندا (منطقتى قولو وكتقم) 
فى مارس ٠٠١١‏ للتأكد من تطبيق الاتفاق الذى تم بين الحكومتين تحت رعاية الرئيس 
كارتر ومنظمة اليونيسيف لتسليم الأطفال الذين اختطفتهم جماعة كونىء وعندما أعلن 
ذلك الوفد أن حكومة السودان لم تتعاون بشكل مرض مع اليونيسيف مما يقتضى اتخاذ 
إجراءات إضافية حتى يعم السلام المنطقة.(*”) وعلى كلء نتيجة لوساطة العقيد القذافى 
وافقت يوغندا على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع السودان بدرجة قائم بالأعمال. 

وبعد عام من إنذار موسيفينى وتقرير بعثة الاتحاد الأوروبى سمحت حكومة السودان 
للجيش اليوغندى باقتحام الأراضى السودانية لملاحقة عناصر كونيء وهكذا صدق 
موسيفينى وعيده: "سنوقفه بأنفسنا. ما الذى جعل حكومة السودان تتنازل عن سيادتها على 
بلادهاء وتسمح طوعاً بانتهاك سلامة أراضيها؟ حقيقة الأمر أن تلك السيادة وهمية» فجميع 
المناطق فى جنوب السودان المحادة لكينيا ويوغندا وجمهورية الكونغو الديموقراطية واقعة 


53/4 


تحت سيطرة الجيش الشعبى لتحرير السودان» ولهذا فلا سلطان للنظام عليها. ومن المفارق 
أن جميع البيانات الرسمية حول استيلاء الجيش الشعبى على هذه المناطق كان يوصف 
دوما بالغزو المدعوم من يوغنداء لا لوجستيأء وإنما بجيشها ودباباتها. ولوكان هذا هو 
الحال» لما احتاجت يوغندا لإذن باقتحام أراضى السودان من سلطته الشرعية ذات السيادة 
الوهمية على تلك المناطق. 

التوغل اليوغندى لم يفلح فى اقتلاع جذور حركة كونى؛ وإن أفلح فى القضاء على 
حركة مسلحة أخرى تضم فلولاً من جيش عيدى أمين» كانت؛ هى الأخرىء تتخذ من 
السودان مرتكزاً لهجماتها على يوغندا.('”) ومن الواضحء أن النظام الذى هان على نفسه» 
لم تتخطه الوطنية فحسب (سماحه وهو صاحب السيادة لجيش أجنبى أن يتوغل داخل 
أراضى بلاده)» وإنما أيضاً تخطته الشهامة» ( التخلى عن حماية معاهديه ) . الأمرالأخير 
لا يثير عجباً أو دهشةء فقد خان النظام من قبل عهده لكارلوس فسلمه لفرنساء وخان عهده 
لحليفى ويه للمجرمين» وخان عهده لبن لادن وصحبه يوم أمد أجهزة الاستخبارات 
الأمريكية بكل ما يعرف عنهم. لا نقول هذا لأنا نرثى لأى واحد من هؤلاءء وإنما لأننا 
نريد مساجلة النظام من منطلق الأفكار التى نشرها على العالمين» والأطروحات التى بسطها 
على الناس. وعلى أى» فقد لقنت يوغندا النظام الذى ظل يغالب الناس بالقيم والمبادئ 
السامية درساً بليغاً فى القيم؛ فمع سماح النظام لها بالتغلغل فى السودان وقفت يوغندا فى 
لجنة حقوق الإنسان بجنيف مؤيدة لمشروع القرار الذى أدان حكومة السودان لانتهاكها 
لحقوق الإنسان.("”) وعندما عاتبت الحكومة السودانية يوغندا على موقفهاء وهددت بإلغاء 
الاتفاق الذى يسمح للقوات اليوغندية بالعمل داخل السودان» ردت يوغندا قائلة أن موقفها 
ذلكء موقف مبدئى.(58) 

فقدان النظام للمبدئية على الصعيد الأفريقى تجلى فى أمرآخرء خرقه للمقاطعة 
الأفريقية والدولية للنظام العنصرى فى جنوب أفريقيا. فقيل سقوط نظام الأبارتايد سعت 
حكومة السودان» رأس الرمح فى الجهاد ضد المستكبرين» إلى مد جسور التعاون مع ذلك 
النظام. ففى أوائل التسعينيات من القرن العشرينء وقبل إنشاء المجلس التنفيذى الانتقالى 


5215 


(©18) فى جنوب أفريقياء عقد نظام الجبهة اتفاقاً مع ارمسكور ,8:05 )؛ المؤسسة 
الجنوب أفريقية المسئولة عن بيع السلاح» لتوريد أسلحة للجيش السودانى. نتيجة لذلك 
الاتفاق أقيم جسر جوى بين الخرطوم وجوهانسبرح لنقل الأسلحة إلى الخرطوم عبر شركة 
سودانية للنقل الجوىء وشركة طيران أطلس التابعة لجنوب أفريقيا. كما إبتعث نظام 
الأبارتايد ضباطاً من جيشه إلى السودان للمساعدة فى صيانة طائرات الهليكوبتر القديمة؛ 
وتدريب الجنوب السودانيين على استخدام الأسلحة الجديدة. الكشف عن هذا الاتفاق الخائن 
تم عندما دقت أجراس الخطر منظمة باكس ‏ كريستى (751501© «23) الهولندية» والمنظمة 
العالمية لمناهضة التعاون العسكرى والنووى مع جنوب أفريقيا (مقرها أوسلو) . وسرعان ما 
امتدت هذه الحملة إلى مؤتمر أساقفة جنوب أفريقيا 5مهطة5ذ8 ممءءكخ طالاه5) 
(©5418 ,ععمعء0001 مما أدى إلى احتجاج عام .("”) ذلك التعاون؛ وما أثاره من ضجة» 
داخل وخارج جنوب أفريقياء وضع المجلس التنفيذى الانتقالى (حكومة المصالحة الوطنية 
فى الفترة الانتقالية التى تشارك فيها القيادة نلسون مانديلا ودكليرك) فى غاية الحرج. لهذا 
كان من أول القرارات التى اتخذها جو موديزىء وزير الدفاع فى الحكومة الانتقالية» قرار 
بوقف جميع مبيعات الأسلحة إلى السودان» كما شكل الوزير لجنة برئاسة القاضى إدوين 
كامرون للتحقيق فى الصفقات المشبوهة التى عقدتها أرمسكور. وعندما يصل النظام الحاكم 
لهذه الدرجة من النفاقء لا يدهش أحد من تعاونه مع نظام موبوتو حتى فى أكثر حالاته 
سقوطأ. ففى الثانى والعشرين من مايو عام ١144‏ استقبل نظام الخرطوم وزير الدفاع 
بحكومة موبوتو للتنسيق معه على شيئين: الأول هو دعم موبوتو ضد لوران كابيلاء والثانى 
مساعدة زائير لزيانية الأمن السودانى فى جمع المعلومات عن جون قرنق بهدف اختطاقه. 
لما يمض وقت طويل على هذه الممارسات حتى أدرجت الولايات المتحدة السودان فى 
قائمة الدول الإرهابية. ولا شك فى أن أهم العوامل التى دفعت الولايات المتحدة لاتخاذ 
القرارء أولاً الصلة غير المباشرة بين الجبهة وحادث تفجير مركز التجارة العالمى فى 
نيويورك:/'')» وثانياً دور السودان المباشر فى رعاية وحماية ومساندة بعض الإرهابيين من 
مصر والسعودية؛ بمن فيهم أسامة بن لادنء وأيمن الظواهرى. أسس الأول شبكة واسعة من 


536 


المؤسسات الاقتصادية كواجهة للتغطية على مناشطه السياسية('') والتى كشفت التحقيقات 
التى جرت فى مانهاتين ضد المتهمين بتفجير السفارتين الأمريكيتين فى نيروبى ودار 
السلام عن أطياف منهاء وعن تستر النظام عليهاء إن لم يكن دعمه لها. أخطر وجوه التستر 
كان هو توجيه البشير بنفسه لسلطات الجمارك بأن لاتتعرضء بأى وجه من الوجوه؛ لما 
تستورده شركات بن لادن كما ورد فى إفادة المتهم السودانى» جمال محمد الفضل لمحكمة 
مانهاتن. وتلك المؤسسات» حسب ما جاء فى إفادة الفضلء لم تنشأ لهدف اقتصادى.!'") وقد 
أبانت الأحداث بعد الحادى عشر من سبتمبر بعضاً من أهداف تلك المؤسسات. فمثلاًء لم تكن 
مدبغة الخرطوم التى كان يملكها بن لادن» مثلاء تقوم فقط بدبغ الجلود» بل كانت تستورد 
الكيماويات وتوزعها على المدابغ الأخرى. وكانت أغلب العمليات الكيماوية تتم فى جراجات 
قديمة بعيدة عن أعين الناظرين مما يوحى بأنه كان لهم فيها مآرب أخرى. يؤكد الشكوك 
فى تلك المناشط غير الاقتصادية أن المدير المالى لأعمال بن لادن أبوحاجر العراقى (أسمه 
الحركى محمود سالم)» الذى كان يتحرك بجواز سفر سودانى» قد ألقى القبض عليه فى 
ميونيخ وسلم للسلطات الأمريكية لاتهامه بالقيام بدور هام فى تفجير السفارتين الأمريكيتين 
فى نيروبى ودار السلام. تشير الدلائل أيضأ على أن بن لادن كان يعرف جيداً ما الذى حدا 
به للاستثمار فى السودان» ففى حديث صحفى لصديق مقرب إليه (الصحفى المصرى عصام 
دراز)» قال دراز الذى رافق بن لادن خلال فترة محاربة القوات السوفيتية فى أفغانستان أنه 
حاول جاهداً إثناءه عن الذهاب إلى السودان لأن فى تضامنه مع دولة أزرت العراق فى 
حربه على الكويت معاداة لأهله وبلده. وكشف دراز عن الاتصالات التى كانت تتم بين بن 
لادن وبين العسكريين ورجال الأمن فى نظام الخرطوم فى أفغانستان وجدة» ورجال الأمن 
العسكريون هم أقل أهل الحكم اهتماماً بالاقتصاد والإستثمار. أضاف الصحفى المصرى أن 
التقاء بن لادن بالتيارات الجهادية فى الخرطوم كان بمثابة حجر الزاوية فى تغيير فكره 
الإستراتيجى نحو المواجهة مع أمريكا.(") 

ردود فعل النظام على هذه الإفادات» والتى جاء أغلبها قبيل أو بعد أحداث الحادى عشر 
من سبتمبر/ أيلول »7٠١١‏ كانت محيرة. ففى بيان صحفى لوزير الخارجية السودانى» 


57 


مصطفى عثمان اسماعيلء النجم الثاقب فى سماء الدبلوماسية الجبهوية» ذكر الوزير: أن 
تلك التقارير تشير إلى فترة تازيخية سابقة» فهناك تغييرات كثيرة حدثت بعد ذلك فى 
السودان. قبن لادن ليس فى السودان الآن» وأى شىء مرتبط به أصبح تاريخاأ.(؛') وربما 
كان الوزير على حق عندما قال إن تغييرات كثيرة حدثت فى السودان» ولكن ما غاب عن 
باله هو تواتر إنكار النظام فى الماضى لأى علاقة له ببن لادنء بل إلحافه فى القول بأن 
كل التهم التى وجهت له حول تلك العلاقة هى أباطيل ينشرها الغرب الذى يقلقه نجاح 
المشروع الحضارى. على أن القلق من علاقة النظام ببن لادن والمجموعات الإسلاموية 
المتطرفة لم يكن يصدر من الغرب فحسبء بل وأيضأ من مصر والسعودية والجزائر. فى 
كل تلك الحالات امتنع النظام عن الرد على أسئلة محددة حول الأنشطة التى تقوم بها تلك 
المجموعات. ثم إنه ليس صحيحاآً أن الإتهامات التى كانت توجهها الإدارة الأمريكية 
للنظام برعاية الإرهاب كانت تستهدف مشروعه الإسلامىء حضارياً كان أم غير 
حضارى. ففى المذكرة التى وقعها وارين كريستوفر فى أغسطس سنة ١1197‏ معلناً فيها 
ضم السودان للدول التى ترعى الإرهابء ذكر الوزير الأمريكى على وجه التحديد أن ذلك 
القرار يعكس تقييماً للحقائق وليس تحيزاً ضد السودان بسبب خياراته الأيديولوجية, أو 
التوجه الدينى لحكومته . تلك المذكرة سبقتها عدة إخطارات وجهتها الإدارة الأمريكية 
لحكومة الخرطوم عبرت فيها عن قلقها من بعض ممارساته.!"') ولكنء» كان فى تقدير 
النظام» كما استشف ذلك سفير أمريكى من حديث الترابى ومسئولى النظام» أن الولايات 
المتحدة و العالم سوف يرضخون فى النهاية للأمر الواقع.(١')‏ ذلك الغباء المعاند والراضى 
بغبائه غاية الرضاء هو السبب وراء مفاخرة نظام الجبهة بأنه وضع السودان على خارطة 
العالم بصورة لم يسبقه إليها نظام. ولاشك فى أنه أفلح فى ذلك إفلاح آل كابون فى وضع 
شيكاغو على خارطة العالم. 1 

وبآخرة» أدركت الجبهة أن الخروج على القانون يكلفها غالياً. فبعد محاولات عديدة 
للعب دور فتوة الحى وبلطجى الحارة» تبين لها أن فى الحى فتوات أشد منعة؛ وأن فى 
حارات العالم بلاطجة ذوى بأس شديد. وهكذا بدأ النظام فى ترميم الجسورء أو بالحرى 


585 


إعادة بنائهاء مع الدول العربية التى زعم أنه قادر على تدميرها وإزالة الرجس عنهاء ومع 
الدول الأفريقية المجاورة التى كان يرغب فى إدخالها فى دين الله أفواجاً. وسرعان ما 
أندفع البشير لطمأنة الولايات المتحدة بالسماح لمبعوثيها الأمنيين للنقصى عن نشاط 
الجماعات الإرهابية» لاسيما وقد غادر بن لادن وصحبه ريوع السودان» اأى بعد إخفاء 
معالم الجريمة» أو هكذا ظن. واشتد الوله» وتضاعف الوجد بأمريكا عقب إقصاء الترابى 
الذى أصبح شماعة النظام لكل خطيئة. مرة أخرى كشف النظام الجزوع الذى لا يصبر 
على شر عن وجوه صحفهء إن الإنسان خلق هلوعاًء إذا مسه الشر جزوعاء وإذا مسه الخير 
منوعا. و لكن لم يكن عند النظام خير يمنعه» وكان الشر عليه بؤساً. ومع اختلافنا مع» 
واستنكارناء للجماعات التى كان يؤويها النظام» فقد أثبتت أنها أكثر صدقاً مع نفسهاء وأشد 
إستماتة فى الدفاع عما تؤمن به» وأقوى مراساً فى تحمل النتائج المترتبة على أفعالها. 
هؤلاء لم يتنكروا لصحبهم» ولم ينكروا ما حسبوه مآثر. 
الجبهة والجهاد 
الحرب الأهلية المستعرة فى الجنوب وفى منطقة جبال النوبة تحولت فى ععهد الجبهة 
إلى حرب دينية» أصبح الجهاد فيها هو المحرك الأيديولوجى الرئيس. والجهاد لفظاً من 
الجهد أى الطاقة»(!") فبذل الجهدء والجد فى الأمور هو أصل الكلمة. ويشمل هذا جهد 
المؤمن فى كل شىء» صيامه وقيامه» وعاداته وعباداته. كما هوء معنىء التضحية بالنفس 
تحقيقاً لأمر إلهى. بيد أن التعبير تطور إلى معان أخرى بعضها منيثق من النص القرآنى 
وما صح من أحاديث الرسول» وبعضها ورد فى تخريجات الققهاءء او فيما انتحله يعضهم 
من الاحاديث. وذهب الفقهاء إلى ان الجهاد (بمعنى قتال الكفار) دعامة من دعائم العقيدة, 
ولهذا فهو لازم على المسلمين إلى يوم الدين» بل جعل الإمام حسن البنا منه ركناً من 
أركان الإسلام.(4") 
قبول هذه الأحكام الفقهية على علاتها أمر خطير لأنه يوقع المسلمين فى حرجء ويوقع 
الإسلام فى ضيق. علينا أن نستذكر أولاً أن الجهاد فى الإسلام مرتبط بالسبى والغنائم 
وأحكام الذمة والتعاهد. ثم علينا أن نذكر ثانياً أن فقه الجهاد الذى يعود إلى معركة النهروان 
579 


كان؛ فى مجملهء فقه تبريرى إما لدعم أيديولوجية سياسية» أو لحروب الدول» بعضها ضد 
بعضء أو لقهر المعارضين. فمنذ أن رفع الخوارج فى حربهم السياسية كتاب الله يدعون 
للاحتكام إليه فى النهروان» أضفوا على موقفهم السياسى بعداً قرآنياً. وصفوا أنفسهم ب 
"الشراة إمتثالاً لقوله تعالى: «فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة» 
(النساءء 74/4) . ورغم أن علي العليم بأسرار الكتاب؛ أوفد إليهم عبد الله بن عباس 
ليحاجهم وأوصاه أن لا يجادلهم بالقرآن» إلا أن واحداً من أنصار على (عمار بن ياسر) شاء 
أن لا يفعل إلا ما نهى عنه الإمام. فعمارء مثل الخوارج؛ جعل من الصراع السياسى حرباآ 
دينية عندما استنجد بكتاب الله وهو يقول: #وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى 
دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون» (التوبة .)١7/9‏ وقد استهل 
البخارى باب فضل الجهاد فى صحيحه بالآية: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم 
وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون. وعدا عليه حقاً فى التوراة 
والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو 
الفوز العظيم» (التوية  )6‏ . فالموت والقتل فى سبيل الله؛ بهذا المعنى» بيع للفانى بما 
هو أبقى» ولهذا فهو فرض واجب. وهكذا لم يعد الخلاف السياسى أو الخروج عن طاعة 
الإمام نكثا للعهد. بل كفراً. 

ما هو قول الترابى فى الجهاد؟ فى رده على سؤال خلال محاضرته فى تامبا (فلوريدا) , 
وصف الترابى الجهاد فى الإسلام بأنه مفهوم دفاعى» وليس مفهوماً عدوانياء لآن الإسلام 
يبغض الظلم والعدوان. أضاف أن الإسلام أوضح القوانين التى تحكم الحربء والتى تشبه 
إلى حد بعيد القوانين الدولية المعاصرة. على رأس القوانين المعاصزة؛ فيما نعرف. 
اتفاقيات جنيف التى تنص على عدم إيذاء المدنيين» والعناية بالأسير ومعاملته كما يعامل 
المحارب جندهء وتجنب إيذاء الأطفال والعواجيز. الترابى على الصعيد النظرى» نصف 
محق فى جانب» ومخطئ خطأ جسيماً فى جانب آخر؛ أما على الصعيد العملى فقد سقط 
فى امتحان حدد هو قوام النجاح فيه. هو نصف محق فى قوله أن الإسلام قد وضع قوانين 
للحرب ترقى على كل ما سبقتها من شرائع؛ ولا تختلف عما استقر عليه الرأى فى الوعى 


200 


الإنسانى المعاصر. فرسالة أبى بكر ليزيد بن أبى سفيان وهو ذاهب لغزو الشمال رسالة 
مثالية فى إنسانيتهاء وتسامحهاء ووعيها البيئى. أمر أبو بكر جيش يزيد بقوله: " احفظوا 
عنى عشرأ: لا تخونواء ولا تغلواء ولا تغدرواء ولا تمثلواء ولا تقتلوا طفلاً صغيراًء ولا شيخ 
كبيراًء ولا امرأة» ولا تعقروا نخلا أو تحرقوهء ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة . 
وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم فى الصوامع فدعوهم لما فرغوا له» وسوف تقدمون 
على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعامء فاذكروا اسم الله عليها. ولكن أحكام الشرع عند 
الإسلامويين المعاصرين لا تذهب إلى الأصول الرفيعة: والمبادئ السامقة التى أرساها 
الراشدون؛ بل تحبس نفسها فى أحكام الفقهاء التى تكاد تستوى عندهم مع الأصول فى 
حجيتهاء ويرمون من ينكرها بالتجديف. والفقه فى هذا الشأن قاصر قصوراً كبيراً عما أمر 
به أبويكرء وملىء بالافتراءات على رسول الله فى أحاديث توسل بها الفقهاء لإثبات حجية 
دعاواهم . فالسرخسىء مثلا يبيح حرق الحصون وتخريب البنيات فى الجهاد على الكفار 
(المبسوط) . والإمام ابن تيمية اتخذ من حروب الردة مرجعاًء لا لقتال من يرتد عن دينه» 
وإنما لقتال المنافقين» وقال بجواز قتل الحاكم المسلم إن حكم بغير الإسلام ولوفى مسألة 
واحدة (الفتاوى) . لاغروء إذن؛ إن أصبحت فتاوى ابن تيمية هى الكتاب المنير لكل 
جماعات الإسلام السياسى المتطرف. ومع مخالفة تلك الفتاوى لرأى الجمهور (جمهور 
الفقهاء)» إلا أن ابن تيمية كقر كل من خالفه الرأى حولهاء وبهذا التشدد محا الفقيه المجددء 
صفحات مشرقات فى حياته. كان مناضلا جسوراً ضد التتار» لم ينزو كما انزوى الغزالى 
عند هجوم الصليبيين على بيت المقدسء أو ينخذل كما انخذل ابن خلدون أمام تيمورلنك» 
بل حمل الناصر قلاوون على الخروج بجنده من مصر إلى الشام لصد التتار عنها. وكان ذو 
إشراقات فى نقده للجمود الأشعرىء, وكان قوى الحجة فى مواقفه ضد الأولياء أصحاب 
القبور. وقد ذاق الإمام تقى الدين نفسه مرارة تكفير الخصوم» عندما حبس لواحدة من 
حسناته (الاجتهاد خارج نطاق المذاهب الأربعة)؛ ثم ضرب بالنعال واقتيد هو وتلميذه ابن 
القيم إلى سجن قلعة دمشقء وترك فيه بلا كتاب أوقلم حتى أخذ يسجل خواطره على 
الحيطان بالجير والفحم. أما عن الإسلام السياسى التاريخى» فحدث ولا حرجء وعلنا نعود 


581 


بالقارئ إلى وصية الخليفة العباسى لأبى مسلم الخراسانى: ما وجدت فيهم (أهل خراسان) 
من يتحدث العربية حتى وإن كان طفلا طوله خمسة أشبار إلا وقتلته. كان نصف الخطأ هذا 
سينتفى أن عاد الترابى بالإسلام إلى أصوله» وقال بانتهاء العمر الافتراضى لأغلب الفقه 
الموروث» خاصة حول الجهاد. ولكن الترابى لم يفعل هذاء بل أقام كل أحكامه الجهادية 
العملية فى السودان (لا النظرية فى فلوريدا) على فقه جنائزى لو طبق فى هذا الزمان لكان 
يمثابة إعلان حرب صد العالم» وسيكون أكثر من يتأذى من تلك الحرب المسلمون. 

نجىء من بعد إلى دعوة الترابى وغيره من محدثى الفقهاء بأن مفهوم الجهاد فى 
الإسلام مفهوم دفاعىء أى أنه جائز فقط فى حالة الدفاع عن النفس. والدفاع عن النفس 
تصرف فطرى غريزى لا يحتاج الإنسان لنص قرآنى ليمارسه. حقأء لم يكن الجهاد فى 
أول عهد الإسلام جهاداً دفاعياً» وإنما كان جهاد هجرة ودعوة #والذين هاجروا وجاهدوا 
فى سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله4 (البقرة 18/7١5)ء‏ «الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا 
فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله4 (التوبة 9/ )٠١‏ . ذلك جهاد هجومى 
ابتغى منه الإسلام تحرير الإنسان من البغى والارتقاء به من الحالة التى كان عليهاء ولهذا 
فرض على كل مسلم قتال الكافر غير المعاهد. بذلك الجهاد أمر الرسول: «أمرت أن أقاتل 
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله؛ وأن محمداً رسول الله وأن يقيموا الصلاة» ويؤتوا 
الزكاة . فإن فعلوا عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وأمرهم إلى الله.. فى ذلك الزمان 
كان هذا هو حال الأمم كلهاء من الفراعنة والرومانء إلى اليهود والفرس. وحين كانت 
حروب هؤلاءء حروب تغلب وعصبية» كان الجهاد الإسلامى فى عهد الدعوة نشراً لرسالة» 
لا إقامة لدولة عربية أو إسلامية. وكانت تلك الرسالة هى رسالة رحمة للإنسانية جمعاء 
بمفهوم زمانها:«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» (الأنبياء .)٠١7/7١‏ هذه الحروب 
الجهادية أسماها المؤرخون الإسلاميون باسمها: الغزو: غزو الشام؛ وغزو مصرء وغزو 
فارسء تماما كما وصفوا انتصارات الدولة الإسلامية فيما بعد بالفتوحات: فتح أفريقيا (برقة 
وتونس والمغرب)»ء وفتح الهندء وفتح ما وراء البحر. والغزو لغة هو السير إلى بلاد الآخرين 
وانتهابهم فى ديارهمء وفتح البلاد هو الغلبة على أهل الديار وتملكهم (الوسيط) . وليس من 


552 


بين هذه الأقوام من كان يعد العدة لغزوالإسلام فى عقر داره؛ لا قبط مصرء ولا عجم 
فارسء ولا نوبيو السودان؛ ولا الهندوك فى شبه الجزيرة الهندية» ولا التركمان فى طشقند 
وسمرقندء حتى يقال أن السير إليهم كان دفاعاً عن النفس. وكان الفاتحون العرب أصدق 
من الذين يلتمسون لهم المعاذير» فى وصف تلك الفتوحات. ففى فتح القادسية قال عروة بن 


الورد: 
صيرت أهل القادسية معلماً 
ومثلي إذا لم يصبر القيرن يَصبِرٌ 
فطاعنتهم بالرمح حتي تبددوا 
وضاريتهم بالسيف حتي تكركروا 
بذلك أوصاني ابيء وأبو ابي 
بذلك اوصاه فلست أقصر 


حمدد الهي إذ هداني لدينه 
قلله أسعي ما حييت وأشكر 
غزو فارس لم يقع لأن الفرس قد توغلوا فى أرض العرب أو هددوا دينهم وملكهم وإنما 
لاستصغار العرب لشأنهم. ويحدث أبو حنيفة الدينورى (الأخبار الطوال) أنه لما أفضى 
الملك إلى بوران بنت كسرى بن هرمز شاع فى أطراف الأرضين أنه لا ملك لأرض 
فارسء وإنما يلوذون بباب امرأةء فخرج المثنى بن حارثة الشيبانى وسويد بن قطبة العجلى 
فأقبلا حتى نزلا بتخوم فى أرض العجمء وكانا يغيران على الدهاقين (حاكم المنطقة 
بالفارسية» مفردها دهقان) فيأخذان ماقدرا عليه. 
كما روى البلاذرى (فتوح البلدان) بسنده "سمعت عمرو بن العاص يقول على المنبر 
«لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر على عهد ولا عقد. إن شئت قتلتء وإن 
شكت خَمّستء وإن شئت بعت إلا أهل أنطابلس فإن لهم عهداً يوفى؛ . وجاء فى تقس 
المصدر هلما فتح المسلمون مصر بعث عمرو بن العاص إلى القرى التى حولها الخيل 
ليطأهم؛ فبعث عقبة بن نافع الفهرىء وكان أخاً للعاص لأمه؛ فدخلت خيولهم أرض 
النوبة .. فلقى المسلمون بالنوبة قتلاً شديداً. لقد لاقوهم فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم 
256563 


فانصرفوا بجراحات كثيرة» وحدق مفقوءة فسموا رماة الحدقء ولم يزالوا على ذلك حتى 
ولى مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح فسألوه الصلح والموادعة». فأين هو الدفاع عن 
النفس فى كل هذه الحروب. ومن المفارق أن العرب حتى اليوم تتحدث عن الأندلس 
باعتبارها فردوساً مفقوداًء لا أرضاً لغيرهم استعمروها بحد السيف. فالأندلس لم تكن جزءآً 
من جزيرة العربء ولا هضاب الشامء ولا سواد العراق. لهذا لا يختلف نحيب العرب 
لفقدانها عن نواح الفرنسيس حتى اليوم على ضياع الفردوس الجزائرى فى جذوب المتوسط. 
وحسرة الإنجليز على فقدان الهند. حروب الإسلام الدفاعية الوحيدة كانت هى تلك التى 
تصدى فيها الرسول وصحبه للملأ الذى ائتمربه من مشركى قريش. 

الحرج الذى يجد الإسلامويون المحدثون أنفسهم اليوم فيه هو أن العالم أصبح عالماً 
تحكمه منظومات سياسية مختلفة» وقيم معيارية جديدة . قوام هذه المنظومات الاعتراف 
بحدود الدول القومية» والتعايش السلمى بين الأقوام على اختلاف أديانهم» والالتزام بعهود 
دولية لحقوق الإنسان. وينبعث الحرج من ناحية» من قبول الإسلامويين النظرى لمنظومة 
السلوك الدولى الجديدة؛. وعجزهم عملي عن الالتزام بما يترتب عليها من واجبات 
ومسئوليات بسبب إصرارهم على الانكفاء على الفقه القديم» والقراءة الانتقائية الجامدة 
للنصوص القرآنية» حسب الحاجة والضرورة. كل هذاء من أجل إعطاء غطاء من الشرعية 
الإلهية على سياساتهم الراهنة والمتعارضة مع منظومة السلوك الدولى السائدة . فالنصوص 
التى تتحدث عن القطع (فى حالة السرقة)» والجلد والرجم (فى حالة الزنا) قطعية؛ كما 
يقولون ولا يقدم على تعطيلها إلا المرتد أو المعطل لشرع الله (اعتراض الجبهة على تجميد 
الميرغنى لقوانين نميرى التى ضمنت هذه الحدود فى القانون الجنائى السودانى)؛ ولكن 
النص القرآنى حول الجهاد (آية السيف)» والفقه الذى انبنى عليه مثل أحكام الجزية 
والصغارء والإهانة الملحقة به» تصبح نصوصاً مسكوتاً عنها رغم حجيتها. من نماذج 
الصغار والإهانة لأهل الذمة» كما هو ثابت فى الفقه السائدء أن يجرى عليهم حكم الإسلام: 
وأن لا يلبسوا لباس المسلمين» وأن لا يركبوا سرجأًء ولا يبدوا أديرة» ولا يجددوا ما خرب 
منهاء وأن لا يدخلوا الحرم ولا دار الهجرة (الوجيز فى فقه الشافعية) . والحكم الأخير لا يزال 


554 


يطبق حتى اليوم على كل مسيحى مهما كان موقعه فى ديار الإسلامء كان اسمه شارل حلو 
أو بطرس بطرس غالى. ولا نحسب أن الفقهاء المراوغين المحدثين قد فطنوا للتناقض 
الفاحش بين استمرار هذا الحكم على النصرانى فى زمان انتفت فيه.عملياً أحكام أهل الذمة: 
وبين حجيجهم إلى الفاتيكان وكانتربرى للحوار مع أحبارهما حول تسامح الإسلام مع أهل 
الملل الأخرى. فما الذى يحاورون فيه أحباء النصارى فى ظل هذه الأحكام؟ 

للخروج من المأزق الذى أودى الفكر الإسلامى الدقليدى بنفسه إيه؛ اتجه الفقهاء 
المعاصرون أولاً» إلى نفى الطبيعة الهجومية فى إسلام الدعوة(؟") وفى هذا معاندة للتاريخ, 
وليس الفقيه المجتهد فى حاجة إلى تحميل أى القران غير ما يحتملء أو إنكار الوقائع التاريخية 
كى يثبت فتواه. ذهبوا من بعد للاستشهاد (وهم محقون فى هذا) بالآيات والأحاديث النبوية 
التى تعلى الموعظة الحسنة على القسرء وتنفى الإكراه فى الدين» وتدعو للمساجلة الفكرية (لا 
العنف) مع منكريه؛ ولكنهم ما فتئوا يكفرون حتى المسلم الذى لا يشاركهم الرؤى حول 
الإسلام. إن اى قراءة سياقية للايات التى نزلت حول الجهاد (البقرة ١9٠‏ 579١»ء‏ النساء 84 
٠‏ الأنفال »1١١‏ الممتحنة 4- ) تفيد أن جهاد الدعوة» جهاد هجومى بالوجه الذى 
أوضحناء وبصورة أكثر يصدق هذا على كل الآيات الواردة فى سورة (التوبة)» وهى السورة 
الوحيدة فى القران التى لم تبدا بالبسملة واستذكار رحمة اللهء لانها كانت تعبر عن غضب 
إلهى على الذين آذوا رسول الله» فآذوا الله بإيذائه . فإن عجز الفقهاء المحدثون عن الاجتهاد 
المبتدع الذى يعين على الموافقة بين النص القرآنى والشرعية الدولية التى استقرت عليها 
الإنسانية» والتمييز بين ما هو مطلق بسبب ششمول معانيه» وما هو مقيد بحكم خصوصية 
دواعيهء فلن يفيدهم التلفيق فى شىء. ولريما كان المتشددون الذين قسموا العالم إلى 
فسطاطين: فسطاط الكفرء وفسطاط الإيمان» أكثر تصالحاً مع أنفسهم عندما قالوا أن الجهاد 
فرض إلى يوم القيامة» اعتماداً على قراءاتهم الحرفية لكتاب الله. هؤلاء أيضاً تغذوا على الفقه 
التقليدى» وما ارتضعوا منه إلا السم القاتل. قرأوا كتاب الله كما قرأه الخوارجء وفهموا معانيه 
كما فهمها الفقهاء الذين مازالت عقولهم مشدودة إلى ابن تيميةء إلى أن انتهى بهم الأمر إلى 
تحويل فشلهم الداخلى إلى فشل خارجىء وأصبح حالهم كحال المسلمين فى يوم حنين» «ويوم 


555 


حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم 
مدبرين>. (التوبة 4 . 

نقترب من الموضوع من وجهة أخرىء فالقرآن» كجميع الكتب المقدسة الأخرى؛ هو 
كتاب روحى يعكس الحالة الإنسانية بكافة تناقضاتهاء ولذا فهو عرضة لأن يتسم ببعض ما 
يبدو تناقضاً عند من لا يرى فيه غير معانيه الظاهرة . وفى محاولتها ترشيد التناقضات 
التى يزخر بها العالم الدنيوى وعدت الأديان السماوية كلها البشر بحياة أبدية فاضلة فى 
العالم الآخر» تنتهى معها التناقضات الدنيوية . فالقرآن يقول فى أى الجهاد التى وردت فى 
السور المدنية «فإذا لقيتم الذين كفروا فرك ٠‏ الرقاب 59 إذا أتُخنتمو : تخنثمرهم فَشدُوا الوثاق» 
(سورة محمد /ا5/5)» ولكنه يصف الجهاد فى آية مكية وكأنه سجال عقلانى: (فلا تطع 
الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبير» (أى جاهدهم بالقرآن)» (الفرقان» (5؟/07) . مثل هذا 
التناقض بين الآيات نلقاه أيضاً فى الإنجيل (العهد الجديد) . ففى إنجيل متى جاء على 
لسان يسوع: «لاتظنوا أنى جئت لألقى سلامآ على الأرضء ما جئت لألقى سلاماً بل سيفاً. 
فإنى جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه» والابنة ضد أمهاء والكنة ضد حماتهاء وأعداء الإنسان 
أهل بيته؛. (الإصحاح العاشرء الآيات 37-75) . ولكنه يقول فى إنجيل لوقا: «ابن الناس لم 
يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلّص؛ » (الإصحاح التاسع, الآية 51) . وفى العهد القديم كانت 
أوامر إيليا (إلياس) لأتباعه للقضاء على عبدة بعل هى أن لا يبقوا منهم على شىء حى: 
الرجال والنساءء الأطفال والرضعء الثيران والخرافء الجمال والحمير. هذا بلغة اليوم لا 
يحمل إلا معنى واحداً : الإبادة العرقية. فالكتب المقدسة تفسح, إذن» مساحة واسعة للتأويل» 
كما يقود الإقبال السطحى عليها إلى إساءة الفهم . وغالباً ما يقرأ الناس فى الكتب المقدسة ما 

يطيب لنفوسهم قراءته» إما لقضاء حاجاتهم الآنية» أو لتبرير خيار أيديولوجى. وفى 
الحالتين» يقرأونها دون اعتبار للسياق التاريخى للنصوص الدينية» بل دون وعى بالقيم 
المعيارية والبعد الإنسانى للدين. فالدين» فى النهاية؛ استثمار أخلاقىء ولذا ينبغى أن لا 
توصم الأديان بالتحريض على العنف. فالعنف إن لم يكن لرد عدوان؛ عمل غير أخلاقى. 
لهذاء فإن الذين يتوسلون بالدين لنشر أفكارهم لا يفعلون هذا البتة التزاماً بأحكامه؛ وإنما 


556 


يستذرعون بالأحكام لتحقيق مقاصدهم الدنيوية. وهذا بالفعط ما يصنعه غلاة اليهود اليوم 
لتبرير حقهم التاريخى فى فلسطينء عندما يبتدون دعاواهم التوسعية على نبوءة حزقيال. 

القرآن الكريم يذخر أيضأء خصوصا فى آياته المدنية» بأوامر تحض على عدم موالاة 
اليهود والنصارى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض 
ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين؟ (المائدة» )5١/6‏ . ولكن الكتاب 
الكريم يقول أيضاً: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون» (الأعراف 151/7) . 
هذا النزوع إلى حض المسلمين على أن لا يوالوا اليهود والنصارىء رغم ما فى التمييز بين 
يهود ويهود الذى تشير إليه سورة الاعرافء يبرره مجتهد سودانى بانه كان وسيلة لتزويد 
المجتمع الإسلامى الباكر بالدعم النفسى الضرورى لتحقيق التماسك فى خلايا ذلك المجتمع 
الذى كانت تحيط به الأخطارء وكان يسعى للبقاء وسط بيئة طبيعية واجتماعية عنيفة 
وعدوانية .!'') وبغض النظر عن هذا التفسيرء فليس من المعقول أن نطيق كلمات الله التى 
نزلت فى القرن السابع تطبيقاً آلياً على المجتمعات الراهنة» كان ذلك داخل الدول الإسلامية أو 
خارجها. ومن المؤسى أن مثل هذه الآيات حول تدمير اليهود والنصارى ترددء وفى جهالة 
بالغة» فى خطب المساجد بصورة تكاد تمزق النسيج الوطنى والاجتماعى للدول متعددة 
الديانات فى بلاد المسلمين: دعك عن أولئك الذين يعيشون خارج نطاق الدول الإسلامية . هذا 
أمر لا يزكيه دين» لاسيما الدين الذى يقول فى كتابه: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة 
ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك؟4 (هودء .)١١8/١١‏ والقرآن حافل بالآيات التى تدعو 
البشر من جميع الأجناس للتعارف والتعايش السلمى. 

تلك هى القضية التى أخفقت فيها الجبهة التى قدمت نفسها للمسلمين كحركة إسلامية 
مجددة, إلا أن قصاراها كان هو فندنة الإسلام» أى تزيى الدعاة بلباس الأفندية» فى حين 
بقيت الأفكار معممة (من العمامة) . وأبرزما وضحت فيه تلك التقليدية» هو موقف الجبهة 
الصاخب من الجهادء والتعامل مع أهل الديانات الأخرى. عند ذلك الموقف مكثت حتى 
بعد إقصاء الترابى. فبعد عام ونصف من عزلهء وفى خضم التحرك الإسلامى المزعوم 
تجاه السلام العادل» أعلن مجمع الفقه الإسلامىء استجابة لتحريض النظام الحاكم؛ أن 


557 


الجهاد فرض عين على جميع المسلمين. والجهاد المقصود هو الحرب الأهلية التى أصبحت 
حربا دينية ضد الكفار والمشركينء ويعنون بالكفار والمشركين مواطنين فى بلادهم لهم 
من الحقوق ما للمسلم .هذا المجمعء بلا شكء لا يعيش معنا فى هذا الكوكبء بل هو إلى 
أبى الحسن الماوردى أقرب. فالماوردى هو القائل أن الجهاد مختص بقتال المشركين وهمء 
على حد قوله» صنف بلغته الدعوة وامتنع؛ والأمير فى خيار بين قتلهم وإنذارهم؛ وصنف 
لم تبلغه الدعوة» فلابد من إبلاغهم قبل قتلهم. وأنّى لمن لازال يعيش فى زمان حروب 
المسلمين ضد الفرنج فى الزلاقة» وحروب الحمدانيين ضد البيزنطيين» وغزوات الفاطميين 
ضد الصقالبة» أن يلم بميثاق الأمم المتحدة» واتفاقيات جنيف. هؤلاء بلا مراء» هم من 


عتاهم ابن الخطيب بقوله: 
ولم نستغد من بحثنا طول عمرنا 
سوي أن جمعنا فيه قيل وقالوا 
وكم قد راينا من رجال ودولة 
فيادوا جميعا مسرعين وحالوا 
وكم من جبال قد علت شرفاتها 
رجالء فزالواء والجبال جبال 


فما حال الذى ما برح يقول ويقولء ولما يعتل شرفة فى العلم. نقطع بأن أصحاب مثل 
هذه الفتاوى لما يبلّغوا بعد فتوى الشيخ رشيد رضا قبل ثمانين عاماًء والتى جاء فيها أن 
الجهاد ضد المشركين الذى يعنيه القرآن ينطبق على مشركى الجزيرة لا كل مشرك فى 
العالم. ولعل الشيخ الحصيف أدرك. وهو البعيد عن ديار المشركينء بأن القراءة العجلى 
والمبتسرة للقران قد تدخل الإسلام فى زماننا هذا فى حرب مع كل العالم. 

نجىء على التطبيق العملى لنظرية الجهادء أى الحرب ضد الكفار والمشركين فى 
السودان. فى تلك الحرب أصبح المحاربون مجاهدين فى سبيل الله؛ وموتاهم شهداء أحياء 
عند ريهم يرزقون. كما لم يعد المحارب الجنوبى مناضلاً من أجل حقه السياسىء بل عدوا 
من أعداء الله كتب عليه القتل. ولئن أصبح السودانيون المسلمون الذين يخالفون الجبهة 


2526568 


رؤاهاء على أحسن الاعتبارات؛ مواطنين من الدرجة الثانية» فقد أصبح الجنوبى غير المسلم 
نوعا من أشباه البشر مهدداً بالانقراض (606م:-طانا5 38دتنا! 6503086760) . هذا التطرف 
بالدين أدى إلى تصعيد الحرب على نحو لم يسبق له مثيل» بل أضاف بعد جديداً للصراع 
لم يعرفه من قبل: البعد الدينى. وتدوارى خلف تعبير الجهاد رمزية غريبة تهدف إلى 
تجريد العدومن صفاته الإنسانية» أو على الأحرى تخويله إلى شيطان» حتى تصبح إبادته 
شيئاً مبرراً. وللأستاذ على مزروعى رأى ثاقب فى ظاهرة تجريد العدو من إنسانيته لكيما 
يسهل لخصمه انتهاك حقوقه. يقول مزروعى أن المعتدى يجرد فى خياله ضحيته من 
صفاتها الإنسانية» ولكن على نحو غير مكتمل. فحسب ملاحظاته» تنطوى الانتهاكات 
الجسيمة لحقوق الإنسان على كراهية للضحية تجردها من صفاتها الإنسانية إلا قليلاً. هذا 
القليل ضرورى لأن المرء لا يستطيعء مثلاً» أن يكره صخرة أو شجرة.(١")‏ 

أربيعة تطورات خطيرة تبعت تديين الحربء واعتبار الجهاد فرض عين على كل 
مسلم .(" أولاً الأسلوب الهزلى الذى سلكه الترابى وفقهاء الجبهة لتبرير حشد المسلمين 
للجهاد. وثانياً تصعيد العنف إلى مستويات لا تجيزها القوانين الوضعية» وبالقطع لا تجيزها 
الشريعة نفسهاء وثالثاً انحدار حروب الميليشيات القبلية إلى مستوى من المذابح والاستعباد 
بصورة لم يألفها السودان من قبل» وأخيرا التكلفة الاقتصادية الباهظة للحرب التى أدت» فى 
النهاية» إلى تركيع الأمة بأسرها. ترى كيف فسر المجاهدون الإسلامويون أداء هذا الفرض 
العين؟ أخضعت الجبهة كل موظفى الحكومة (بمن فيهم كبار الموظفين الذين بلغ بعضهم 
العقد السادس من العمر) للتدريب العسكرى. وشمل ذلك غير المسلمين من موظفى 
الحكومة؛ فى حين أعفى من الخدمة من رفض الالتزام بالتدريب حتى وإن كان غير 
مسلم. ومع افتراض صحة دعواهم بأن تلك الحرب العدوانية هى جهاد مفروضءلا شك أن 
النظام» مثل مجمع الفقه الإسلامى» قد ابتدع أموراً لا يقرها شرع. فالجهاد ضد الكفار» 
بموجب أحكام الكتاب والفقه القديم» مرتبط بالقدرة عليه. ففى الكتاب «ليس على الضعفاء 
ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على 
المحسنين من سبيل والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما 


52069 


أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون» (التوبة 
6 وكما يقول صاحب الكشاف لقد حصر الله المعذورين فى التخلف الذين ليس 
فى أبدانهم استطاعة» والذين عدموا آلة الخروج. كما قال الإمام الغزالى: إن وطئ الكفار 
دار المسلمين تين على كل من له منة (قوة) قتالهم حتى العبد والمرأة. ولكن فقهاء الجهاد 
فى السودان ألحقوا بالجهاد من له منة» ومن ليس منها على شىء. حتى الصغارء أصدرت 
الحكومة بشأنهم قانوناً يلزم كافة الشباب البالغ من العمر ثمانية عشر عاماً أو يزيد بالخضوع 
للتدريب العسكرىء وأداء فترة قتالة إلزامية فى منطقة الحرب. تلك الخدمة العسكرية جعل 
منها النظام شرطأً أساسآ لانخراط الطلاب الذين أكملوا تعليمهم الثانوى بالجامعات: كما 
قضى بحرمان من يرفض التدريب منهم من تسلم شهادات إكمال التعليم. وعندما أخذت 
الأسر المسلمة فى تخبئة أبنائها فى المنازل» على حساب حرمانهم من التعليم» بدأ النظام 
شن غارات على المنازل والأحياء لاختطاف الشباب القادرين. تلك الممارسات بلغت حدآ 
دفع منظمة اليونيسيف ومقرر لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة لمطالبة الحكومة بالكف 
عنها.(”) 

صحبت تلك الغزوات على المساكن والمدارس حملة دعائية للجهاد فى المساجد ومعاهد 
التعليم. وليت تلك الحملات اقتصرت على إبانة فضائل الجهادء وإنما صحبتها شعوذات 
وأباطيل لا تصدر عن رشيدء ولا يصدقها إلا البلهاء. من ذلك تسخير الله القرود فى جنوب 
السودان لإزالة الألغام» وقتال الملائكة جنباً إلى جنب مع المجاهدين؛ وفوح المسك من 
جثث الشهداء. أكثر غرابة من هذه الأباطيل الفسلة التى لا تصدر إلا من أخيلة العامة 
الجهلاء: ادعاء فقهاء الجهاد أن شهداء الجبهة يحظون على التو بسبعين من الحور العين فى 
الجنة. ودون جحود لقوله تعالى عن نعم أهل الجنة ومنها الحور العين (الواقعة 01/١7؛‏ 
الطور 7/57" ؛ الدخان 54/45) إلا أن أهل السودان فوجكوا بخزعبيلات لا تصدر إلا من 
عقل فاسد؛ وليست من كتاب الله فى شىء» كما يعود بعضها إلى روايات وأحاديث نسبت 
إلى رسول الله وطغى عليها الابتذال. من ذلك ما رواه الترمذى قائلا: «سئل رسول الله عن 
الحور العين من أى شىء خلقن فقال أسفلهن من المسكء وأوسطهن من العنبرء وأعلاهن 


53930 


من الكافور» وشعورهن وحواجبهن سواد خط من نوره. هذه ليست صورة لامرأة صنعها 
البديع المبدع» تستهوى الرجل وتوقعه فى الفتنة» وإنما هى أقرب لمخلوق صنعه شماع. 
وللإمام الغزالى وصف للحور العين لا يقل سخفأء قال :إن أية امرأة من نساء أهل الجنة لو 
اطلعت على الأرض لأضاءت ما بين المشرق والمغرب ولملأت ما بينها وبين الجنة رائحة 
طيبة وإن على الواحدة من الحور العين ثوب إذا نفذه بصر رأى مخ ساقها من وراء ذلك» 
(إحياء علوم الدين ) . ترى ما الذى يستذير الرجل فى المرأة أن كان له إن ينفذ ببصره دون 
أشعة سينية إلى أحشائها ومخ ساقها. 

.مهما كان الأمرء ما الذى يستطيع فعله الشهيد الموعود بسبعين من أولئك الحور العين؛ 
لا يعرجه عنهن شىء؟ هنا مربط الفرس؛ هنا النظرة الدونية الدنيوية للمرأة المستمدة من 
ثقافة ذكورية مترسبة فى العقول. هنا تأنق الفحول فى شهوة الإناث. هذه الثقافة الجنسية 
المنحرفة غذتها روايات وأحاديث نسبت إلى رسول الله كذبآء إذ لا تتسق فى مبناها ومعناها 
مع حياء الرسول وعفة لسانه؛ ورصانة قوله ماق ذلك هما روا أبوهريرة : «هل تمس 
أهل الجنة أزواجهم؟ قال نعم بذكر لا يمل وفرج لا يحفى» وشهوة لا تنقطع', ٠‏ ودوى عن 
ابن عباس حديث جاء فيه : قلنا لرسول الله أنفضى إلى نسائنا فى الجنة كما نقضى إليهن 
فى الدنيا؟ قال: أى والذى نفسى بيده إن الرجل ليفضى فى الغداة الواحدة إلى مائة عذراء. 
كذبأء كذباًء فالحبر ابن عباس يريا بنفسه أن ينقل عن رسول الله هذا الهذرء وهو الذى كان 
يشيج بوجهة عن كل:متقذب باهم الرسول: ففيما يروى أن يشير العدوى جاء إلى ابن 
عباس وأخذ يحدث عن رسول الله فانصرف بعينه عنه. قال بشير: "ااحدثئك عن رسول 
الله ولا تسمع؟. قال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله» ابتدرته 
أبصارناء وأصغينا إليه بآذاننا. فلما ركب الناس الصعبة والذلولء لم تأخذ من الناس إلا ما 
نعرف. هذه الشهوانية المارضة التى توسوس فى نفوس القدامى من مبتدعى الأحاديث؛ 
هى ما يغرى به الصغار صناع البدع المحدثون مما يخرجهم عن الاعتدال» ويقصيهم عن 
الصواب, ويكشف عن مزاج سميج. 

وظل التليفزيون السودانى يعمق من هذه الثقافة المريضة فى برنامج مسائى اسمه 
ساحات الفداء وما برح ذلك البرنامج يعرض صوراً مدبلجة للشهداء فى ساحات القتال فى 


591 


الجدوب؛ ويحت شد بالأباطيل المنسوبة لمواريث الإسلام الجهادية. ومثل جل البرامج 
التليفزيونية الجبهوية لم تكن غاية النظام من ذلك البرنامج إلا اختراق العقول بصورة 
بصريةء واختراق العقول أشد خطورة على البشر من تخريب الوجدان الذى درج عليه 
تليفزيون السودان. وكان لنا نصيب فى هذا البرنامجء أبى المبرور جمال الوالى (وكانت لنا 
آصرة طيبة بوالده الراحل الشيخ محمد عبد الله الوالى فى عهد مايو)؛ إلا أن يزودنا بصور 
منه . لم يفعل هذا إثا رة لناء وإنما لمعرفته بحرصنا على الرصد والتوثيق ق. حقاً لم نستثر لما 
شاهدناء ولئن كان الشر يحذى بدله؛ ويجزى بمثله . إلا أنا لم نذهب للوم المتسافهين فى 
ذلك البرنامج» فالسفيه إن لم ينه مأمور. الآمرون: أعثرهم الله هم الذين نحاكمهم إليه 
تعالى» ونسأله أن يعطيهم بقدر ما تمنوا لناء ويجزل فى عطائه . نقول هذا دون أن تلين لنا 
قناة فى مبارزة الطغاة الأدعياء» وفى هذا نحن فرزدقيون: 
ولانتلين لسلطان يكايدنا 
حتى يلينَ لضيرس الماضغ الحَجِرٌ 

وإن تركنا المتسافهين والآمرين بالسفاهة جانباًء نقول إننا تأسينا كثيراً لرؤية الدكتور 
العالم الترابى يشارك فى ذلك البرنامج ليضفى شرعية كاذبة على زواج الشهداء بالحور 
العين» ويشرف على عقود قرانهم مع العرب الأتراب فى الجنة . 

بعيداً عن المسرحياتء ترتبط هذه المشاهد بالشعوذة أكثر من ارتباطها بالإسلامء أو 
يما تعلمه النيخ فى الى اللأتينى بباروئن..ورة غلى نان صسمقى بروظانى:وصف 
لتلك الشعوذة جاء على لسان أب لواحد من هؤلاء الشهداء المزعومين؛ البروفسور عمر 
الأقرع (أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة الخرطوم) . قال الأقرع الذى اعتزل عمله فى 
جامعة الخرطوم عندما سيطر الجبهويون على إدارتهاء إن نجله الصغيرء حسنء لقى حتفه 
فى الجنوب. وكان الفتى قد انضم إلى بعثة إغاثة للجنوب كضابط مسئول عن البعثة» (أو 
هذا هو ما أبلغ به عند إيفاده) . قال الأب أنه يشك كثيراً فى إن كان حسن راغباً فى القتال؛ 
ولكن فى النهاية مات من أجل تلك الحفنة من المجانين. وبدلاً من أن يترك المجانين الأب 
المكلوم ليضمد جراحه فى صمتء هبطت على داره أفواج منهم يتغنون ويهزجون ويقولون 


2502 


للأب الكليم لا تحزن فابدك قد لحق بسبعين من الحور العين فى الجنة. لم يفقد الأب» حتى 
فى أقصى لحظات حزنه» روح الدعابة؛ إذ استنكر استغلال مقتل ابنه لخدمة أغراض 
سياسية:» وقال ل «المجانين؛ بسخرية: إن كان قد فعلء وهو رجل متزوج وأب لطفلة» 
فلاشك أنه ارتكب بذلك كبيرة الزنى.(*") تلك صورة أخرى من صرر الغلو والإفراط الذى 
لا يتسق مع المواريث الدينية» ولا يأبه للعواطف الإنسانية. ولوكان الإسلام ينهى عن 
البكاء على الشهداء لنهى عن بكاء شهداء مؤتة قبل شهداء شالى الفيل ودندرو. ولوكان 
هناك من يأمر الأب المكلوم بالصبر والتأسى على عزيز افتقده؛ لكان هو محمد بن عبد الله 
لا حسن بن عبدالله . دخل رسول الله 2 بعد أن ١‏ الحم ابن عمه جعفر بن أبى طالب 
ومولاه زيد بن حارثة على أسماء بنت عميسء زوجة جعفر ليبلغها النبأ ودموعه تذرفء ثم 
انتقل إلى ابنة مولاه زيد ليحتضنها ودمعه واكف؛ فقيل له لم تبك يارسول الله؟ قال: ٠إنما‏ 
هى دموع الصديق يفقد صديقه» . علم الله هؤلاء الذين يحسبون الموت مناسبة للغناء لا 
البكاء» ليسوا مسلمين أتقياء» ولا بشراً أسوياء . 

غابت عن الجبهةء فى جهادها الإسلامى ضد "الكفارء كل المعانى الإنسانية الرفيعة» 
وكل القيم الإسلامية السامية. ففى جهادها المزعوم تجاوزت الجبهة كل النواهى التى طوق 
بها الإسلام الجهاد مثل الرفق بالضعفاءء والمعاملة الحسنة لأسرى الحرب. تلك المبادئ 
منصوص عليها اليوم فى القانون الدولى للحسربء وهو قانون التزم يه السودان 
(بروتوكولات جنيف الخاصة بحماية المدنيين فى وقت الحرب)7*"). تلك البروتوكولات 
تحض الحكومات على تعقب مرتكبى الانتهاكات الصارخة صد المدنيين فى وقت الحرب 
ومحاكمتهم» كما يتناول البروتوكول الثالث والرابع موضوع معاملة أسرى الحرب (80«5) 
وكذلك المدنيين. ولئن كانت حكومات السودان فى الماضى لا تلتزم التزاماً صارماً بتلك 
القواعدء كما اتضح من التجاوزات الصارخة التى ارتكبها الجيش فى ستينيات القرن 
الماضىء خصوصاً فى فترة ما بعد انتفاضة تشرين أول/ أكتوبرء إلا أن تلك الانتهاكات 
ظلت دوماً محل نقد من الصحافة المستقلة» وإدانة من منظمات المجتمع المدنى. 


203 


الأمورء فى عهد نظام الجبهة؛ تبدلت بصورة لا تدعو للدهشة. فالنظام الذى قوض كل 
القواعد المتعارفة للتعامل مع المسلم فى دار الإسلام» لا يترجى منه المرء معاملة أفضل 
لغير المسلمين فى دار الحرب؟ مثلاً» فشل نظام الجبهة بجيشه وميليشياته طيلة الاثنى عشر 
عام فى الإيقاع بجندى واحد من جنود الجيش الشعبى فى الأسرء وليس من المعقول أن 
تكون جيوش الجبهة بهذه الدرجة من عدم الكفاءة فى الحرب. الحقيقة» هى أن عقيدة 
النظام العسكرية فى تلك الحرب مؤسسة على أن المحارب الوحيد الذى يؤمن شره بين 
محاربى الجيش الشعبى هو الميت. ومن المدهش أن يفلح الجيش الشعبى خلال عقد 
التسعينيات من القرن الماضى فى أسر ما يربو على ثلاثة آلاف جندى من الجيش 
والميليشياتء تم الإفراج عن ثلثيهم عبر الوساطة التى قام بها التجمع فى عام :١995‏ 
وبمبادرات من الحركة الشعبية احتفاء بعدد من المناسبات الوطنية والدينية المختلفة» فى 
حين لم يفلح الجيش النظامى الإسلامى فى اعتقال أسير واحد. ظل الجيش الشعبى أيضاً 
يسمح لهؤلاء الأسرى بالاتصال بذويهم عن طريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ترى هل 
استذكر (أو لنقل استصحب) فقهاء الجهاد فى السودان» وعلى رأسهم أحمد إبراهيم الإمام 
الذين كانوا يزودون المجاهدين بنسخ من القرآن يحملونها كالتمائم؛ نواهى القرآن وإرشاداته 
حول الأسرى (الأنفال 7/48 الإنسان 8/75)» أم رضوا بقراءة الكتاب الكريم قراءة 
اصطفائية اختزالية تناسب هواهمء حتى وإن ذهبوا فى ذلك إلى إخراج الآيات من سياقها 
العام مثل قوله تعالى: فما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يشخن فى الأرض تريدون 
عرض الدنيا والله يريد الآخرة4 (الأنفال 17/4) . نقول إخراج الآيات من سياقها التاريخى 
لأن تلك الآية تنزلت فى أسارى بدر عند ما ترك المسلمون القتال وأسرعوا إلى اتخاذ 
المغانم. ولكن من آثار الإسلام أيضاً "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرأًء 
ومنها قول الرسول فى أسرى بنى قريظة: «أحسنوا إسارهم» وقيلوهم واسقوهم. لاتجمعوا 
عليهم حر الشمس وحر السلاح: . كما منه قول على فى موقعة الجمل: لاتتبعوا مديراً: 
ولاتقتلوا أسيرأء ولاتذففوا (تجهزوا) على جريح ( السرخسى فى المبسوط ) . ولما رأى على 
طلحة الذى نازعه السلطان وحمل ضده السيف مجدندلاً فى تلك المعركة قال: أعزز على 


5-504 


أبا محمد أن أراك مجدلاً (جدله؛ صرعه) تحت نجوم السماء. هذا هوسموالإسلام فى 
الخصومة:؛ وترفعه عن الشمات فى الموت والهزيمة. 

بمثل تلك الممارسات الشائنة لم يكشف النظام عن تنكره لقيم الدين الذى ادعى رفع 
لوائه» بل أيضآ أبان الوجه اللاحضارى لمشروعه الحضارى. ويشق على المرء كثيرآ 
تبغيض المسلمين فى دينهم» بعد أن نسبت له كل هذه الكرائه. لقد سعت الجبهة لأن تجعل 
من حروبها السياسية / الدينية فى الجدوب تجسيداً لمسرح الحرب فى أيام النبى عليه 
صلوات الله؛ وما تعلمت من تلك المعارك الرسولية غير الرموز مثل إطلاق أسماء المعارك 
الإسلامية التاريخية على معاركهم الاسبارطية: أو إلحاق أسماء القادة العسكريين المسلمين 
بأفواجهم الغازية لمناطق الحرب. تلك الحروب لم تكن فحسب أبعد ما تكون عن الإسلام» 
وإنما كانت أيضآ لا تقل قسوة عن الحروب التى تشنها الأنظمة الفاشية أو العنصرية على 
غير أهلها. ففى أكثر من واقعة شملت الحرب الجهادية إحراق الأرض والممتلكات» وقصف 
الأهداف المدنية» وتدمير المؤسسات الدينية» والقصف الجوى العشوائى على المدنيين. ومن 
الجلى أن المحاربين الذين اقترفوا كل هذه الآثام لم يصادفوا فى مسيرتهم العسكرية 
"المقدسة وصايا أبى بكر التى سلفت الإشارة إليها؛ بل ما كانوا ليدركون معانيها حتى وإن 
صادفوها فى رائعة النهار. كل ما كانوا يعرفون عن الجهاد هو ما لقنهم له إمامهم. 

لم يحدث أبداً فى تاريخ الحرب الأهلية فى السودان - قبل مجىء الجبهة ‏ أن يصبح 
القتل الجماعى؛ لكيلا نقول الإبادة» هدفاً إستراتيجياً فى الحرب. وصف مراقب سياسى تلك 
الإبادة» أوإن شئت القتل الجماعيء بأنها وإن كانت لا تتسم بالتعطش للدم الذى شاب 
مذابح روانداء أو عمليات تحسين الأنسال (6815ناه) التى مارسها النازيونء إلا أنها فى 
النهاية تتصف بنفس الوحشية.('") من جانب آخرء انحدرت الحروب القبلية التى حرضت 
الحكومة عليها القبائل الحدودية فى غرب السودان (البقارة والمسيرية) ضد القبائل الجنوبية 
المجاورة لهم (الدينكا) عمليات الاختطاف القسرى للأطفال والنساءء مما أعاد إلى الأذهان 
ذكريات الرق القديم. تلك الأعمال التى لا تشرف نظام آً للحكم؛ انتتسب للإسلام أو 
للمجوسية» صحبها قهر غير المسلمين من الجنوبيين للقتال د إخوتهم فى الحربء وكان 
نصيب من استنكف أو أبى الانصياع لرغائب الجبهة» القتل دون محاكمة ./") 


205 


منطقة جبال التوبةء أكثر من أى منطقة أخرى, عانت معاناة قاسية من سياسة التطهير 
العرقى المنظمء ولريما كان السبب فى ذلك هو أن تلك المنطقة فى وسط السودان تضم أكبر 
تجمع عرقى متماسك لغير المسلمين. ولربما أرادت الجبهة أيضا بتلك السياسة محو النمط 
الحياتى لغير المسلمين من أهل تلك المنطقة؛ حتى لو كان السبيل إلى ذلك هو التصفية 
الجسدية.(*") وتتميز منطقة النوبة بظاهرة قد لا تشاركها فيها المجموعات السكانية فى 
مناطق الشمال الأخرىء فبالرغم من أن أجيالا متعاقبة من النوبة قد دخلوا الإسلام» إلا أن 
الروابط العائلية والقبلية ظلت عندهم أمتن من الروابط الدينية. وفيما أورد قانونى سودانى 
من أصل نوباوى أن الانتماء فى داخل مجتمع النوبة للعائلة والقبيلة» بغض النظر عن 
الاختلافات الدينية» ولهذا السببء يقول القانونى الضليع؛ لم تعرف منطقة النوبة أبدآ 
الحروب الدينية . قال أيضأً أن ممارسات النوبة التقليدية» على خلاف ما تعرفه المجتمعات 
المسلمة والمسيحية» تمليها الأعراف القبلية التى تتميز بالفورية وليس انتظار الثواب والعقاب 
فى الآخرةء فالتزام النوباوى بالقانون العرفى الذى يصون وحدة القبيلة» يسبق الالتزام بأى 
قانون دينى .(*") ولاشك فى أن الجبهويين قد قضوا بأن فى مساندة النوباوى المسلم لإخوته 
"فى القبيلة» أو رفضه تلبية دعوتهم للجهاد ضد هؤلاء الإخوة» ردة عن الدين وكفراً يباح 
معه قتلهم وسبيهم وتطليق زوجاتهم(”*). فى هذه الحملة المسعورة لم تسلم حتى المساجد 
التى يتعبد فيها النوبة المسلمون المناصرون للجيش الشعبى من الهدم والحرق.(١*)‏ 

حصار النوبة والسعى الدءوب من جانب النظام لتمزيق مجموعاتهم أثار قلا واسعاً بين 
اناشطين فى مجال حة حقوق الإنسان. ففى تشرين أول/ أكتوبر 1155١ء‏ مثلاًء أوفدت منظمة 
مراقبة حة حقوق الإنسان فريقاً للتقصى فى الأمرء عاد بقصص مرعبة عن عمليات التعذيب 
التى كانت ت تتم والقتل دون أحكام قضائية ودون تمكين للمتهمين بالدفاع عن أنقسهم.. أجاء 
فى ففزين الفريق:جداء عن معلومات مشتقاة من أحد الذين كانوا يمارسون الكعذيت حجب 
اسمهء أن عدداً يتراوح ما بين :٠‏ إلى 6٠‏ شخصا (معظمهم من أبناء النوبة المهنيين 
المتعلمين) احتجز فى معتقل سرى فى كادقلى فى الفترة ما بين حزيران/ يونيو وآّب/ 
أغسطس ١497‏ . وكانت فرق التعذيب تصطحب كل يوم فى فترة ما بعد الظهيرة أو 


596 


منتصف الليل» مجموعة صغيرة مكونة من أربعة أو خمسة معتقلين إلى مكان يعرف باسم 
السرف الأحمر تبعد حوالى ثلاثة كيلو مترات جدوب كادقلى» حيث ينفذ فيهم جميعاً حكم 
الإعدام إلا واحداً يترك على قيد الحياة ليروى للآخرين ما حدث.!"*) من جهة أخرى. 
حجب النظام منطقة النوبة تماماً عن وكالات الإغاثة» بما فيها تلك التى كانت الحكومة 
تتعاون معها فى الجدوبء إما رغبة فى إبادة أهل تلك المنطقة التى أنهكتها المجاعات؛ أو 
حذراً من كشف فظائع النظام عن طريق منظمات الإغاثة العالمية .(5*) 

تزامن ارتكاب تلك الأعمال الوحشية ضد النوبة مع سياسات شيطانية أخرى ابتدعها 
النظام لمحو الهوية الثقافية للفتية والفتيات الجنوبيات اللائى هجرن قراهن فى الجنوب هربآ 
من الحرب . هؤلاء الأيفاع اقتلعوا اقتلاعاً من أحضان ذويهم فى مناطق السكن العشوائى 
حول مدينة الخرطوم؛ ليلحقوا بالمدارس القرآنية» كما فرضت على بعضهم أسماء عربية 
لطمس أصولهم العرقية.(؛*) ونذكر أن حكومة عبود قد لجأت لنفس الأسلوب فى ستينيا 
القرن الماضىء وكان ذلك وبالاً عليها وعلى الإسلام. مرة أخرىء دفعت تلك الانتهاكات 
الصارخة اللجنة الدولية لحقوق الإنسان لإيفاد بعثة لتقصى الحقائق برئاسة الدكتور كيفين 
فيجيلانتى» الأستاذ بكلية الطب بجامعة براون بالولايات المتحدة» بصحبة عضو فى 
البرلمان الهولندى. وفى تقريره للجنة حقوق الإنسان» عدد فيجيلانتى المعسكرات التى نقل 
إليها الأطفال المختطفون. إلى جانب ذلك؛ قام قاسبار بيروء مقرر حقوق الإنسان؛ بتحقيق 
موسع» عن الفتيان المهجرين قسرأ كشف فيه عن وجود خمسة معسكرات فى مواقع مختلفة 
فى السودان تتم فيها أسلمة هؤلاء الفتيان دون رضاهمء وإجبارهم على القيام بالتدريبات 
العسكرية حتى يشاركوا فى الحرب ضد أهليهم.**) وكان من أنجع الأسلحة التى استخدمها 
النظام لحمل أولئك القصر على تبديل دينهم المعونات الغذائية» بما فى ذلك مواد الإغاثة 
التى كانت تقدمها الأمم المتحدة والمنظمات الطوعية الأوروبية. ولعل هذا هو السبب الذى 
حدا بالحكومة للسعى إلى السيطرة على توزيع مواد الإغاثة الاجنبية سيطرة مباشرة. 

على أن أشد الممارسات فتكاء كان هو لجوء نظام الجبهة إلى القصف الجوى على 
الأهداف المدنية . فعلى امتداد سنى الحرب منذ عهد عبودء لم يشارك السلاح الجوى فى 


2067آ2 


حرب الجنوب إلا لنقل الجنود والمؤن والعتاد. وفى الفترة التى أعقبت سقوط نميرى؛ كان 
سلاح الطيران أيضاً حذراً فى طلعاته الجوية» إذ اكتفى بالقصف الجوى العشوائى من 
ارتفاعات عالية» وربما كان الهدف من ذلك القصف هو توفير غطاء للقوات الأرضية. 
ولكن ما أن حل نظام الجبهة حتى بدأ فى توجيه القصف الجوى على أهداف مدنية محددة 
من أجل زعزعة الاستقرار فى المناطق التى تسيطر عليها الحركة. ولتحقيق هذا الهدف 
الإستراتيجى تجاوز النظام كافة القوانين والقواعد التى تحكم الحروبء بما فى ذلك القواعد 
التى أرساها الإسلام. استفحش الأمر للحد الذى أثار منظمات حقوق الإنسان ومن بينها 
لجنة شئون اللاجئين بالولايات المتحدةء وأعدت تقريراً عن عمليات القصف الجوى على 
الأهداف المدنية يغطى فترة خمسة عشر عامأء أى من قبل استيلاء الجبهة على الحكم.(5*) 
وأورد التقرير أنه حين بلغ عدد الذين اضطروا للهرب من قراهم نتيجة لذلك القصف 
العشوائى مئات الآلاف» كان عدد الضحايا يعد بالآلافء كما أضاف إن الإستخدام المكثف 
للطائرات لمهاجعة أهداف مدنية يبين أن الخرطوم لم تعلن الحرب على جون قرنق وجيشه 
وحدهماء وإنما أعلنتها أيضأ على شعب الجنوب. ومن الواضح أن نظام الجبهة كان على 
استعداد لإرتكاب كل جرائم الحربء إن كان فى ذلك ما يعينه على إنهاء الثورة والعصيان 
فى الجنوب .("*) 

الإدانة لذلك القصف العشوائى غير المسبوق لم تجىء فقط من اللجنة الأمريكية 
للاجئين» ففى تشرين ثان/ نوفمبر 19145 أى بعد أربعة أشهر من استيلاء الجبهة على 
الحكم ‏ أسقط النظام خمساً وخمسين قنبلة على مدينة يرول؛ بحر الغزال. ذلك الهجوم 
الجوى كان محل إدانة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر(©102) وعوضاً عن الاعتذار 
عن ذلك العمل الوحشىء أو تقديم إيضاح للعالم عن دواعيه» وجهت الحكومة تحذيراً للجنة 
الدولية وهددتها بالطرد من السودان إن اجترأت مرة أخرى على نقد الحكومة. ومن البين 
أن النظام يومذاك كانت يفضل شهوداً لا يرون» ولا يسمعونء ولا يتكلمون. وحشية ذلك 
القصفء. وتهديد النظام للجنة الصليب الأحمر بالطرد حملا الأمين العام للأمم المتحدة: 
خافيير بيريز دى كويلار على مطالبة الحكومة السودانية بتقديم تفسير لتلك الهجمات 


25208 


وتبرير مقنع لقصفها للأهداف المدنية» إلا أن النظام لم يعط أى اعتبار لاستفسار الأمين 
العام» بل مضى فى قصفه الجوى العشوائى غير آبه بالانتقادات الدولية. وفى أواخر 
التسعينيات أخذت الهجمات الجوية بعداً أكثر وحشيةءإذ بدأت تشمل المنشآت المدنية مثل 
المستشفيات والمدارس فى جنوب السودان» وجبال النوبة» كما لو أن كل الاعتداءات السابقة 
على المواقع المدنية لم تكن موجعة بالقدر الكافى. وبات ظاهراً للعيان أن هدف النظام لم 
يعد هو تدمير العدوء بقدر ما هوالإخلال بالسلام الاجتماعى وزعزعة المجتمعات المستقرة 
فى المناطق المحررة من سيطرة النظام. تلك الهجمات الوحشية أصبحت سراً ذائعاً إذ دأبت 
الصحافة الدولية والإقليمية على كشفها على الملا بعد أن أخذت منذ عام ١9995‏ تجرى 
مجرى العادة . 

استمراء النظام لذلك العنف غير المبرر ضد المدنيين» واستهانته بكل التحذيرات الدولية 
(بما فى ذلك تنبيه الأمين العام للأمم المتحدة)» قاد الرئيس الأمريكىء بيل كلنتون فى ١5‏ 
شباط/ فبراير ٠٠٠١‏ لتوجيه تحذير للنظام» وكان بذلك أول تحذير توجهه أمريكا على أعلى 
مستويات صنع القرار للنظام حول جرائم الحرب. جاء فى التحذير: إنه لأمرمثير للغضب أن 
تصبح تلك الممارسات الفظيعة ضد المواطنين السودانيين الأبرياء أمرأً معتاداً فى الحرب 
الدائرة فى السودان» ودععا كلنتون حكومة السودان إلى وقف القصف الجوى على الأهداف 
المدنية؛ والكف فوراً عن مهاجمة المدنيين. ذلك التحذير جاء فى أعقاب هجوم مدمر على 
مدرسة إبتدائية كاثوليكية فى قرية كاودا بجبال النوبه» مما دفع الأسقف مكرم ماكس قسيسء 
المسكئول عن أبرشية النوبة» للانتقال بشكواه إلى المنظمات الدينية الطوعية فى الولايات 
المتحدة . ومن المفارقات أن تجىء تلك الشكاة فى الوقت الذى كانت فيه المنظمات الطوعية 
المسيحية فى الولايات المتحدة تتعاضد فى دعم المسلمين الكوسوفار ضد النظام المسيحى فى 
بلغراد. وقد رأى المسلمون فى الوطن العريى (بمن فيهم أهل السودان) فى ذلك التعضيد 
انتصاراً للإنسانية» فوق كل اعتبار دينى. فى ذات الوقت كثير من المسلمين فى الوطن العربى 
بقى كالشياطين الخرس إزاء القمع المنسوب للإسلام والذى كان النظام يمارسه على أهل بلاده 
من غير المسلمين. هؤلاء الشياطين الخرس لم تسعفهم الإنسانية» ولا تأسوا بحديث الرسول 


209 


الكريم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» ونصرة الأخ الظالم لا تكون بمؤازرته على الظلم؛ بل 
بصده عنه. 

كما هو متوقعء أنكر النظام اعتداءه على أى هدف مدنىء بل ادعى أن كل الأهداف 
التى رماها كانت أهدافاً عسكرية لا شك فيها. عن ذلك الرأى عبر دبلوماسى يمثل النظام 
فى نيروبى لصحفى مسلم دون أن يدرك بأن الصحفى كان عائداً لتوه من موقع الهجوم؛ 
وهو موقع نشك كثير أن الدبلوماسى المستميت فى الدفاع عن خطايا نظامه؛ كان يستطيع 
تحديد مكانه على الخارطة. تحدى الصحفى الدبلوماسى بالأدلة» وقدم له تصويراً بالفيديو 
استغرق سبع دقائق لمنطقة مدنية» ليس بها جندى واحد أو قطعة سلاحء وإنما مجموعة من 
الكتب المتناثرة: والأطفال المرعوبونء وسبورة لم يمح بعد الدرس الذى سطر عليهاء 
ومناضد ومقاعد تملا الساحةء ثم جثث لأطفال ملقاة فى باحة المدرسة فى انتظار من 
يجنزها.(**) عمليات القصف الجوى تلك لم تكن أعمالاً حربية بقدر ما كانت؛ كما أسلف 
القولء انعكاساً لسياسة شريرة تهدف إلى ترويع البشر وتدميرهم. تساءل أحد المراقبين: 
أماذا يستهدف النظام المدنيين؟ هل لأنه موقن أن المدنيين العزل لا يملكون سبيلا لرد 
العدوان؟ أم لأن تلك الممارسات أصبحت جزءا من استراتيجية الخرطوم لترويع الآمنين 
حتى تصبح حياتهم سلسلة من العذاب؟ هل من المحتمل أن يكون للحكومة هدف شرير ألا 
وهو إبادة السكان فى الأقاليم الثائرة؟ (3*). هذه الأسئلة ظلت تتكرر فى مقالات المراقبين» 
خاصة بعد أن أصبحت تلك الهجمات لا تطال إلا المدنيين» وقلما تصيب هدفاً عسكرياً. 

استهانة النظام بكل الأعراف بلغت حداً لا يطاق فى السادس من آزار مارس ,٠٠٠١‏ 
ولربما كان ذلك هو الخط الفاصل الذى تجاوزه . فى ذلك التاريخ قام الطيران السودانى 
بهجوم على مستشفى لوى الذى أنشأته مؤسسة محفظة السامرى (ء5؟ناظ مفاتدصه5)» 
وهى مؤسسة طوعية يرعاها الأب فرانكلين قراهام» ابن القس المعروف بيلى قراهام. وقد 
ظل قراهام الأب يؤم بكل الرؤساء الجمهوريين من ايزنهاور إلى بوش الأب فى صلواتهم. 
وأصبح فرانكلين وريثا لوالده» بل كان هو الذى أشرف على مراسم تنصيب جورج دبليو 
بوش . زاد الطين بلة وقوع ذلك الهجوم أثناء زيارة المبعوث الخاص للرئيس كلنتون» عضو 


600 


البرلمان السابق هارى جونستون للخرطوم للمرة الأولى منذ تعيينه. منذ تلك اللحظة لم 
يصبح فى مقدور النظام الادعاء بأنه لا يستهدف غير المواقع العسكرية بغاراته الجوية. مع 
هذاء وبعد مضى بضعة أشهر من الهجوم على لوىء قام سلاح الطيران السودانى بهجوم 
على مهبط جوى تستخدمه اللجنة الدولية للصليب الأحمر لنقل الغذاء لضحايا المجاعة فى 
الجنوب(''). مرة أخرىء بدلاً من الاعتراف بالخطأء ذهب النظام إلى اصطناع الأكاذيب: 
فادعى أن طائرات الصليب الأحمر والأمم المتحدة تعمل على نقل العتاد ل المتمردين: مما 
دفع كل المنظمات التى تعمل فى إطار برنامج شريان الحياة للاحتجاجء وتنبيه النظام بأنها 
تعمل وفق اتفاقية وقع عليها كل من الحكومة والحركة. كما حملت الحكومة المنظمات 
المسئولية عن عدم وصول العون الغذائى للمحتاجين إليه؛ وذكرتها بأن جميع المنظمات 
تلتزم بميثاق أخلاقى أهم عناصره. الحيدة» وعدم التحيزء والشفافية . وعقب ذلك الاحتجاج 
الصارخ, أصدرت السيدة/ كاثرين بيرتينى المدير التنفيذى لبرنامج الغذاء العالمى التابع 
للأمم المتحدة بياناً جاء فيه: لا نستطيع بتاتأ التسليم بأن تلك الهجمات كانت عفوية ولهذا 
ندينها بشدة . تلك الهجمات تؤكد أن النظام لا يحترم العاملين فى الإغاثة والذين يبذلون 
جهد طاقتهم لمساعدة السودانيين الأبرياء('') ولعل كل الشواهد تشير إلى أن "السودانيين 
الأبرياء؛ لم يكونوا محل اهتمام حكامهم . 

مع كل هذا الصخب الدولىء استمرت الهجمات العشوائية» وبمزيد من العنف("؟) مما 
دفع بعض المنظمات للمطالبة بفرض حظر جوى فى جنوب السودان. وفى نهاية عام 
٠‏ أهاب مجاس السودان الجديد للكنائس (5500)('') بالمجتمع الدوتى لاتخاذ 
إجراء حازم لإيقاف القصف الجوى على المدنيين» وأعلن تأييده لدعوة أربع منظمات 
طوعية دولية أمريكية وسويدية وبريطانية لمجلس الأمن كى يفرض حظراً جوياً على 
المناطق التى تتعرض للقصف فى جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب ألنيل الأزرق. 
انطوت ردود فعل النظام على التهديد بنقل الأمر لمجلس الأمن؛ على تناقض واضحء فمن 
ناحية» استمر فى هجماته العشوائية» لا يأبه كثيراً للمخاطر الكامنة فى دعوة مجلس الأمن 
للتدخل يسبب الانتهاكات المريعة للأعراف الدولية المتعلقة بالحربء, ومن ناحية أخرى» 


001 


انتقل بقضيته إلى الوطن العربى يشكو من مؤامرة وهمية يقودها الغرب كجزء من مخطط 
متكامل ضد العرب والمسلمين يشمل العراق وليبيا. تلك الدعاوى المفتعلة وجدت عطفاً من 
دول عربية وغير عربية لم تكلف نفسها أدنى جهد للاستيثاق من الاتهامات إلى وجهها 
المجتمع الدولى للنظام. فعلى سبيل المثال رفضت هذه الدول التعبير عن استنكارها الصريح 
للقصف الجوى على الأهداف المدنية بما فى ذلك المستشفيات. والمدارسء والنساء» 
والأطفال فى واحد من اجتماعات لجنة حقوق الإنسان» رغم توفر الأدلة عليها فى تقارير 
ممثل اللجنة فى السودانء» والمنظمات الطوعية العاملة فيه.(؟') ذلك السهو المتعمد ذهبت 
إليه أيضاً بعض الدول الأوروبية صاحبة المصلحة فى النفط السودانى» وكأنها كانت بذلك 
تبارك عمليات القصف الجوىء لاسيما إن كان الهدف منها هو تفريغ مناطق إنتاج النفط 
من سكانها. عن هذا الاحتمال عبر بعض الصحفيين الذين زاروا المناطق المستهدفة. كما 
عبرت عنه تقارير بعض المنظمات الطوعية الأوروبية . فمثلاً نقل الصحفى الإذاعى بهيئة 
الإذاعة البريطانية» اندرو هاردنق» صورة مرعبة لعمليات القصف والتهجير فى مناطق 
إنتاج النفط. ورد على سؤال وجهه الإذاعى لمواطن من قبيلة النوير التى تقطن فى تلك 
المناطق حول الأسباب التى تدفع النظام لاستهداف المنطقة» قال المواطن (جون ويجيال) : 

لقد وجدت الحكومة نفطأ فى منطقتنا ولكنهم؛ فيما يبدوء يريدون النفط ولكن لا 
يريدوننا!*'). الإمعان فى ذلك القصف العشوائى المستهتر دفع تييرى دوراندء مدير 
عمليات أطباء بلا حدود 04559) إلى كتابة تقرير لرئاسته يندد فيه باستهداف الحكومة 
للمدارس والمستشفيات7'')» كان أخطر ما جاء فيه إشارته للعثور على أدلة على تورط 
السودان فى استخدام الأسلحة المحرمة دولياً فى حربه ضد المدنيين. ورغم تواتر الروايات 
حول تصنيع السودان لهذا النوع من الأسلحة("؟) إلا أن الشهادة المباشرة حول تصنيع 
الأسلحة الكيماوية جاءت من طبيب كردى عراقى ( الحسن عبد السلام) فرمن بلاده 
لاجئأ إلى الدانمارك. تعرض الطبيب العراقى لاستجواب مكثف من جانب الانتربيول 
وجهاز المخابرات الدانماركى أبان خلاله أن هناك جهوداً مشتركة بين العراق والسودان 
لتصنيع أسلحة الدمار الشامل. أضاف الطبيب المستجوب إن هؤلاء السودانيين المساكين 


6002 


الذين يعيشون فى جنوب السودان ربما يكونون أسوأ حالاً من أكراد العراق(*"). ومما يرجح 
رواية الطبيب العراقى التعاون الوثيق بين نظامى الخرطوم وبغداد بعد حرب الخليج» وإمداد 
العراق للنظام السودانى بالطائرات والطيارين الحربيين. ومما يجدر ذكره فى هذا الشأن» 
الظروف المريبة التى أحاطت بتحطم طائرة حربية من طراز أنتونوف كانت تحمل على 
متنها وزير الدفاع السودانى وكوكبة من كبار ضباط الجيش فى نيسان/ أبريل 7٠١١‏ . فى 
ذلك الحادث لقى ثلاثة عشر ضابطأ؛ بمن فيهم الوزير» مصرعهم بينما نجا الطيار 
ومساعده وأكثر من عشرين راكب من ركاب الطائرة. وبالمخالفة لجميع العادات الثابتة فى 
مثل تلك الحوادثء لم يسمح المسئولون للطيار ولا لمساعديه بالإدلاء بتصريحات لتوضيح 
ما حدث. وبما أن قائد الطائرة ومساعديه كانوا من العسكريين العراقيين» قرر النظامء فيما 
فوتجلن: حدم تطريتهم للامكدرلن أخفاء لوريتهق 

الجبهة والاسترقاق 

جرائم الحربالجهادية لم تقتصر على القصف الجوى على المدنيين» وليتها لم تجاوز 
الجنايات ضد أسرى الحرب. فى فصل سابقء أشرنا إلى دور الحكومة السودانية» منذ عام 
5 » فى تجييش القبائل الشمالية التى تعيش فى حدود الجنوب بيهدف خلق منطقة 
عازلة بين المتحاربين. وعقب تولى المهدى للحكم اتخذت ممارسات الميليشيات منحى 
شريرأء خاصة بعد إمداد الحكومة لها بأسلحة أشد فتكاً من الأسلحة التقليدية التى كانت 
تستخدمها. بيد أن قيادة الجيشء كما أسلفت الإشارة؛ كانت تعترض على الزج بالقبائل فى 
الصراع العسكرى المباشرء وتطالب بتسريحها كما كشفت عن ذلك مذكرة الجيش للصادق 
المهدى (الفصل السادس) . ولكن ما أن جاء نظام الجبهة» حتى انحرف بالحرب إلى وجهة 
اساءت إلى سمعة السودان كلهء ألا وهى تشجيع الميليشيات القبلية فى غرب السودان على 
اختطاف الأطفال والنساء من بين أفراد القبائل الجنوبية المؤازرة للحركة الشعبية» وإرخاء 
الزمام لهذه المليشيات لبث الرعب فى المناطق الجنوبية التى افترضت الحكومة» أو خشيتء 
أن تكون نقاط إرتكاز للجيش الشعبى. فعلى ضوء اتفاق غير مكتوب بين الحكومة وقادة 
الميليشيات القبلية» أصبح دور الحكومة هو توفير العدة والعتاد للميليشيات وإطلاق العنان لها 


003 


لاقتحام الجنوب واغتنام كل ما تقع عليه يدها من المواشى, وسبى الحرب تحت سمع النظام 
وبصره. ولعل مفتى الحرب فى النظام استنبيط من آية الأنفال ما يحل به هذا الأمر النكر: 
(فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله» (الأنفال 19/4) . 

تلك الأفاعيل التى لا يقدم عليها نظام يرعى الذمم؛ وصفها أحد قادة المليشيات (فرج الله 
ود مطر) لصحفى أمريكى أفريقى الأصل بصورة لا لبس فيها. قال فرج الله أن العقيد بابكر 
السيد هو الذى عينه لمحاربة الكفرة وأن من حقه سلب ممتلكات الكفرة واختطاف نسائهم 
وأطفالهم لأنهم لا يتقاضون راتباً لقاء عملهم العسكرى. أضاف قائد الحملة القبلية» أنه ينتمى 
لأسرة عريقة يدين لها الناس بالولاء.(؟؟) الدلالات المستخلصة من أقوال فرج الله ود مطر لا 
تشرف النظامء بل تعريه أخلاقيأء ودينياء وسياسياً» ومعنوياً. سقط النظام أخلاقيا لاستغوائه 
فئة من المواطنين على فئة أخرى لتفترسها. وسقط دينياً عندما أخذ يبرر هذا التسكع فى 
الضلال والإفساد فى الأرض باسم الدين. وسقط سياسياً عندما أطلق العنان لأدنى الغرائز فى 
البشر: الخيلاء العرقية. وكان سقوطه المعنوى فى تهيبه» لكيلا نقول جبانته» من الاعتراف 
بمسئوليته عن النتائج التى قاد إليها الزج بالمليشيات القبلية فى الحرب. عيى النظام عن 
الحجة؛ فلجاأ إلى أغاليط يعمى بها الأمور وذلك كان مكرا كبيرً. وكانت جريدة بلتمور صن 
قد بعثت باثنين من محرريها لتقصى الحقيقة حول تهم العبودية فى أعماق المناطق التى 
تدور فيها الحربء وعادا بقصص يشيب من هولها الولدان. تلك القصص اعتمدت على 
حوارات صحفية أجرياها مع الضحايا والخاطفين على حد سواءء وحددا فيها أسماء الأماكن. 
والوسطاءء والضحاياء والمسترقين» كما رويا كيف كانت القبائل المغيرة تستقبل أبناءها 
بالأغانى والرقصاتء وكأنها قد انتصرت على عدو خارجى. وبالإضافة إلى خطف النساء 
والأطفال: أطلقت العقول المدبرة لهذه الغزوات العنان أيضا للمليشيات لكيما تهاجم مراكز 
الإغاثة. فى إحدى هذه الغارات قام مئات من أفراد الميليشيات؛ باقتحام مستوصف للصليب 
الأحمر فى قرية شيلكون وهم يمتطون صهوات الجيادء وانتهبوا كل ما به من معدات طبية 
وأدوية» كما دمروا الخيام وأحرقوا السيارات.!” '') هذا عمل سوء. لا يعادله فى القبح» غير 
تشجيع النظام له واستهانته بنتائجه. 


604 


وهكذا عاد نظام الجبهة بالسودان إلى عهود العبودية والاسترقاق بعد حوالى قرن من 
تحرير البريطانيين للرقيق فى ربوعه؛ وانتهاء الرق من على وجه المعمورة. لقد تعسف 
النظام منذ بدء حربه الجهادية كل طريق سلكه حتى أوقع نفسه» كما أوقع السودان معه. 
فى بلية مخزية افتضح امرها. وكعادته اطرح النظام الحقائق المبسوطة حول ممارسات 
الاسترقاق جانبأء وأخذ يلهى الناس بحديث لا محل له من الإعراب عن الإسلام والرق. 
مثال ذلك ما ذهب إليه سفير السودان فى واشنطون» مهدى إبراهيم؛ فى معرض رده على 
صحيفة بلتمور صن. نفى السفير كل الوقائع التى أوردها الصحفيان بعد جولتهما الميدانية؛ 
ولكن بدلاً من دحض الاتهامات بدلائل متينة» قنع بالقول أن العبودية محرمة فى 
السودان» وتتنافى مع عادات الإسلام. وصف الصحفيان هذا الرد ب الدهن والغباء. 
وأضافا أن السفيرء فيما يبدو قد ظن بأنهما يجهلان تاريخ العبودية فى أفريقيا وفى 
السودان.!''') السفير مهدى غطرس من غطارس الجبهة» وقلما يحترم الغطارس ذكاء 
الآخرين. هو أيضاً فصيح لا يفصحء يقول لا شىء ولكن يقوله بلسان طلقء فحديثه دوماً 
جيد اللفظ سيىء التأليف. 

لم يكن السفير وحده هو الذى تحاشى الخوض فى تلك القضية الهامة» مؤثراً إلهاء سائليه 
بكل ما هو غير ذى موضوع. فعندما سكل» مثلاً» بعض الذين خفوا للاستماع لمحاضرة 
الترابى فى فلوريدا عن قضية العبودية فى السودان» أجاب: العبودية لم تكن معروفة فى 
البلاد إلى أن جاء محمد على باشا وأصدقاؤه الأوروبيون. لا شك فى أن خيبة أمل السائلين 
فى الترابى كانت مزدوجة: أولا لتهربه من الإجابة على سؤال محدد يتعلق بمشكل راهنء 
وثانياً لما ينطوى عليه الرد من استغفال لباحثين متمرسين يعرفون جيداً تاريخ بلادناء أكثر 
مما يعرفه بعضنا. فلا يعقل المرء أن الترابى يجهل أن العبودية كانت ظاهرة سائدة معترفا 
بها فى المجتمع السودانى الشمالى القديم؛ كما كانت فى غيره من المجتمعات القديمة. 
يستحيل الظن أيضاً بأن الترابى لم يكن على دراية كاملة بأن محمد على باشا وأصدقاءه 
الأوروبيين لم يكونوا هم أول من أدخل العبودية فى السودان» مع الاعتراف بأن خديوى 
مصرء كما سبق أن أبثاء لعب دوراً كبيراً فى التصاعد بالرق فى بلادناء دون دفع من 


6)05 


أصدقائه الأوروبيين. ولا نخال الترابى يجهل أن أول غاز من خارج حدود السودان فرض 
الاسترقاق على أهله هو عبد الله بن سعد بن أبى السرح عندما هادن حاكم دنقلا وفق 
شرائط معروفة»ء من بينها تزويد حاكم مصر بثلاثمائة وثلاثة وستين رقيقاً (بمعدل رقيق 
لكل يوم)» مما أوردنا ذكره فى الفصل الأول. ومن المحزن أن تحيد انتهازية السياسة؛ بكل 
ما فيها من تسطيح للأمورء وتغافل عن الحقائق الساطعة» بالترابى المجتهد عن الطريق» 
وتعدل به عن المحجة» وتحمله على تناقض لا نرضاه لهء وكم تمنينا أن لا يرضاه لنفسه. 
وليست هذه هى المرة الأولى التى تنكب فيها الترابى الطريق فى الحديث عن الرق. فإن 
كانت انتهازية السياسة هى التى أهربته من الرد على مسائليه فى فلوريداء إلا أن حديثه 
لشيفاليرياس لا ينبغى أن يصدر من مجتهد مسلم يقول أن الإسلام هو مستقبل الإنسانية. 
ففى رده على سؤال للكاتب الفرنسى عن ملك اليمين» أجاب الترابى بأن الإسلام يبيحه 
طالما أن الأمة وقعت فى أسر جندى مسلم أثناء الجهاد فى سبيل الله؛ أو أوكله غيره 
برعايتها نيابة عنه أثناء المعركة .("'') أى جهادء وأى يمينء وأى رعاية ونحن فى القرن 
الحادى والعشرين. أو لا يدعو للسخرية أن يكون عنوان الكتاب الذى تضمن حوارات 
الترابى مع شيفاليرياس هو الإسلام مستقبل العالم. فأى مستقبل يترجاه العالم تحت ظل 
إسلام ما برح حتى اليوم يبيح ملك اليمين؟ أقرب إلى موضوعنا دلالات هذه الفتوى 
بالنسبة للجنوبيات اللائى يقعن فى الأسر أثناء الجهاد السودانى. 

وإن ألقينا جانباً الأطاريح الفقهية الجدباء الخائرةء والحجاج البائرة» نقول أن الاسترقاق 
الذى تباشره الميليشيات اليوم (الاختطاف القسرى والإفراج عن المختطفين مقابل فدية) لا 
يقارن» بأى حال من الأحوالء مع تجارة العبيد التى سادت فى القرن التاسع عشر. ولكن. 
القضية هنا ليست قضية تمييز بين نوع وآخر من الاسترقاق مهما كان المنظار الذى ننظر 
من خلاله لتلك الظاهرة. القضية تتعلق باختطاف أشخاص رغم إرادتهم؛ وإجبارهم على 
العمل دون رغبتهم» واستخدام النساء كمحظياتء أو مبادلة البشر بالنقود. كل تلك العناصر 
تعتبر من مكونات العبودية التى تلزم القوانين الدولية الحكومات بعدم السماح بهاء 
وبتجريمهاء ومعاقبة مجترحيها. وكما قال مراقب محايد: فى الحقيقة لا نستطيع اتهام 


06006 


الحكومة بالاشتراك مباشرة فى ممارسة العبودية» ولكنها أدارت باقتدار الفوضى الاجتماعية 
التى أذنت بميلاد العبودية من جديدء من أجل هدف إستراتيجى7'''). فالحكومة تعلم حق 
العلم أن الأطفال والشباب كانوا يختطفون قسراً ويسخرون للعمل من جانب الميليشيات 
باعتبارهم غنائم مشروعة للحرب. وأن النساء كن يختطفن قسرا ويتبادلهن الآسرون كملك 
يمين أحل الله وطأهن رغم إرادتهن. لهذا السبب وحدهء إن لم يكن لأى سبب آخرء لا سبيل 
للنظام للتهرب من المسدولية عن تلك الأفعال المشينة» أو للظن أنه بمنجاة عن اللوم عنها. 
النظام أيضاً ملزم إلزاماً تاماً بالامتثال إلى اتفاقيات لاهاى ١859(‏ و1107) التى تنص 
على حماية المدنيين من الاستعباد أو العمل القسرى فى الحربء كما تقضى لوائح محكمة 
العدل الدولية أن الاسترقاق وجميع الممارسات المرتبطة به وكذلك العمل القسرى» يشكل 
كل منها جريمة حرب إذا ارتكبها محاربء» وجريمة ضد الإنسانية إذا ارتكبها مسئول 
حكومى أثناء الحرب ضد شخص آخر بغض النظر عن الظروف التى قادته لذلك.(؟'١)‏ 
إضافة إلى ذلكء تلزم اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين فى وقت الحرب كل الدول 
بملاحقة المتورطين فى جرائم العبودية ومحاكمتهم ( المادة »)١41‏ وبالمثل تحرم اتفاقية 
منظمة العمل الدولية التى بدأ العمل بها فى تشرين ثان/ نوفمبر :٠7٠٠١‏ تعريض الأطفال 
للأعمال الشاقة أو القسرية. لا يمكن؛ بأى صورة من الصورء أن تكون حكومة السودان 
جاهلة بهذه القوانين والأعرافء وبالالتزامات المترتبة عليهاء إلا إن كانت حقأ حكومة 
مارقة عن الشرعية الدولية. 

أي كان الحالء فإن القانون الدولى قد تطور تطوراً واسعاً بحيث لم يعد الاسترقاق هو 
الاسترقاق القديمء فقد أضيف إليه اليوم الاسترقاق مقابل الديون (6ء602028 )ا46): والعمل 
القسرىء والاستغلال الجنسى والبدنى لخدم المنازل المهاجرينء والإتجار فى البشر لأغراض 
الدعارة وغيرها("''). ولا يطالب القانون الدولى المعاصر الدول باحترام تلك القواعد 
فحسبء وإنما أيضاً بتوفير الضمانات القانونية الفعالة لحماية من يتعرضون لمثل هذه 
الجرائم. وإن لم يكن فى كل هذه المواثيق والعهود والسوابق القانونية الدولية ما يكفى» فإن 
نظام الخرطوم ملزم على الأقل؛ باحترام أحكام الميثاق الأفريقى الخاص يحقوق الإنسان 


06007 


والشعوب »)118١(‏ والذى أصبح سارى المفعول فى بلادنا منذ عام ١9147‏ وصار بذلك 
جزءاً لا يتجزأ من قوانين البلاد (1220 0) 6ه /39[ ء8) 01 :83) . وتحرم المادة الخامسة من 
ذلك الميثاق كافة صور الاستغلال والممارسات التى تحط من كرامة الإنسان» خصوصا 
العبودية والإتجار فى الرقيق. فى واقع الأمرء نظام الحكم الحالى فى السودان لم يخرج على 
الشرعية الدولية والإقليمية بانتهاكه لكل قانون أو عرف أطرته تلك الشرعية حول الرق؛ 
بل خرج أيضاً على ما أرسته القوانين السودانية من أحكام . فقانون عقوبات السودان كان 
يتضمن نصوصاً واضحة تجرم الأفعال الشبيهة بما قامت به الميليشيات القبلية تحت سمع 
النظام وبصره . من ذلك المادة ١7١‏ الخاصة بالااختطاف والإقصاء عن مكان السكن 
الأصلىء والمادة ١77‏ المتعلقة بالخطف طمعاً فى الفدية» والمادة ١77‏ حول العمل القسرى. 
والمادة ١75‏ التى تتناول الاحتجاز القسرى المخالف للقانون. وهكذا لم يبق النظام لنفسه 
فضاء كافياً ليستتر فيه» كما لم تعد تجدى دعايته الوقائية المتمثلة فى الإشارات المتكررة 
لتحريم الإسلام للاسترقاق. وبغض الطرف عن صحة هذه الدعاية أو عدم صحتهاء 
([بمعنى أن أحكام الرق مازالت حتى الآن باقية فى الفقه السائدء وظلت هى الغذاء الروحى 
الذى يظعم نه ققهاء اتجبهة مجاهديهم): إلا أن القضضية هَى ما هو الذى فده وتفعله 
الحكومة لتطبيق القوانين التى كانت سارية فى السودان حول اختطاف اليشرء أو الالتزام 
بالشرائع الدولية والإقليمية فى هذا الشأن. 

كان ينبغى على النظام» تبرئة لنفسه وللإسلام الذى تحجج بهء التحقيق فى اتهامات 
الرق وملاحقة المسئولين عنها قضائياً. ولربما إن عجز عن هذاء فمرد عجزه هو أنه لا 
يستطيع تجريم أحدء إن كان هو المحرض على الجريمة إبتداء. ولكن من سوء حظ نظام 
الجبهة أن الاتهامات لم تأت هذه المرةء من جانب أساتذة جامعيين لا حول لهم كما حدث 
فى الثمانينيات من القرن الماضىء بل جاءت من مجموعات ذات نفوذ فى الداخل 
والخارج: الصحافة مثل ريده بلتمور صنء كورييرا دى لا سيرا؛ وجماعات حقوق 
الإنسان ومن صمنها منظمة حقوق الإنسان فى السودان. المنظمة الأخيرة قامت بزيارة 
ميدانية للمنطقة» وتوصلت إلى دلائل دامغة على قيام الميليشيات بأعمال الخطف والإتجار 


6008 


فى البشر؛ كما خلصت إلى أن أعمال العبودية تمارس على نطاق واسع وبدعم مباشر من 
السلطات.(''') ونقدر للمدنظمة شجاعتها فى التصدى لهذا الموضوع والإفصاح عنه» 
فمؤامرة الصمت والتستر على تلك الجريمة شارك فيها كثيرون فى الشمال بمن فى ذلك 
الزعماء المعارضون للنظام» بل ذهب بعضهم إلى مجاراة الحكومة فى إنكارها. نقهم أن 
يفزع هؤلاء إلى إنكار تلك الشناعات»: رغم الخبر المتواتر عنهاء لما تلحقه بهم وببلادهم من 
وصمة. إلا أن تبرئة النفس والوطن لا تتم بالتكذبء وإنما بالاستيقاق أولاً من صحة 
الاتهامات؛ ثم إن صحت بتحديد الجناة وإدانتهم. إلى هذا ذهب الحقانى محمد إبراهيم 
خليل عندما كتب لجريدة الشرق الأوسط يقول ليس صحيحاً أن كل الذين يتحدثون عن 
الرق صليبيون وصهاينة» ودعا للتقصى فى الأمر. هذا قول شجاع وأمين» خاصة وقد جاء 
الإتهام أيضاً من منظمات دولية مرموقة مثل اليونيسيف التى قدرت أن عدد الذين 
يرزحون تحت وطأة العبودية فى السودان من جراء الحرب يتراوح ما بين ١7‏ إلى 


0300 


شخص."١٠)‏ 
قضية العبودية فى السودان أصبحت أيضاً محل اهتمام الأمريكيين ذوى الأصول 
الأفريقية» بصورة جعلت كل سودانى شمالى (والكاتب من بينهم) يحس بالكثير من الخزى 
والعار وهو يتابع تلك الحملة. ففى آيار/ مايو ٠٠٠١‏ اجتمعت ست منظمات سوداء تقودها 
كوريتا سكوتء أرملة الراحل مارتن لوثر كنق؛ لإعلان حملة لإنهاء العبودية فى 
السودان.(*'') وصف والتر فونتوروىء الممثل السابق لمدينة واشنطون فى الكونقرسء تلك 
المبادرة بأنها حافز لتوحيد الأحفاد الروحيين لهارييت توبمان؛ ولويد قاريسون» وجون 
براون!؟'') وتعبئتهم للقضاء على العبودية فى القرن الحادى والعشرين. من جانب آخرء 
استضاف راديو واشنطون مذيعاً أمريكياً مرموقاً من ذوى الأصول الأفريقية كان قد زار 
السودان. قال الضيف الإذاعى؛ ماديسون: انا امريكى من أصول افريقية» اى إننى انحدر 
من سلالة العبيد. لقد شعرت خلال تلك الزيارة أن آلة الزمن قد رجعت بى إلى الوراء 
لأشاهد أجدادى يرزحون تحت واد العبودية. هذا هوالواقع» وذلك هوما يحدث فى 
السودان.(''') أضاف ماديسون أن قضية العبودية تثير فى نفوس الأمريكان السود على 


)009 


وجه الخصوص أحاسيس عاطفية عارمة» قال نحن نستطيع أن نتغافل عن ذبح الرجال فى 
جنوب السودان. إلا أنا لا نستطيع الصمت عن استعباد نسائهم وأطفالهم؛ خاصة بعد أن 
شهدنا ذلك بأعيننا.(''') وهدد كل من فونتوروى وماديسون» بعد زيارتهما للسودان» 
باللجوء إلى تكتيكات تشبه تلك التى لجأ إليها الأمريكيون السود فى الثمانينيات من القرن 
الماضى ضد السياسة العنصرية فى جنوب أفريقيا. وبالفعل قام الرجلان ومعهما الزميل 
بمعهد هدسونء مايكل هورفيتز (أمريكى أبيض) بتقييد أنفسهم بالسلاسل فى مدخل السفارة 
السودانية بواشنطونء واختاروا لذلك يوماً ذا دلالات: الجمعة الحزينة ١7(‏ أبريل .)7٠٠١١‏ 
وعند اعتقالهم رفض ماديسون الإفراج عنه بضمانة حتى يرى ما الذى سيصنعه الرئيى 
بوش بما يدور فى السودان.(') ومن الطريف أن المحامى الذى تطوع للدفاع عن الثلاثة 
هو كينيث ستارء المحامى الذى باشر الادعاء ضد كلينتون. 

فى الوقت الذى كانت تجرى فيه كل هذه الضغوط صد نظام الخرطوم للكف عن 
سياساته العنصرية» قال وزير خارجية النظام»ء مصطفى عثمان اسماعيل أمام الدورة 
الخامسة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة (19 أيلول / سبتمبر عام ٠٠٠١‏ (أن 
السودان يتطلع للمشاركة بفاعلية فى مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالعنصرية (انعقد المؤتمر 
فى ديربان فى مطلع سبتمبر١١٠3)‏ . يومذاك لم يكن العالم يتطلع إلى مشاركة السودان 
"الفعالة فى مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالعنصرية» بل كان» من بعد أن لاذت حكومته 
بالصمتء أو استقوت بالأكاذيب على الاتهامات التى طالتها من كل فج؛ يستشرف رد فعلها 
تجاه الصرخات التى تصم الآذان» والتى أطلقتها الفتاة الجنوبية ماجاك بوك ماجاك. كانت 
ماجاك تريض فى مخيم أمام ميدان الأمم المتحدة مع حشد من المناصرين لها وهى تحمل 
صبياً عمره أربعة عشر شهراً احتجاجاً على زيارة البشير المزمعة لنيوينورك لإلقاء خطاب 
أمام مؤتمر قمة الألفية. وروت الفتاة للصحفيين قصة وقوعها فى أسر رجال القبائل عام 
7 وبقائها فى الأسر حتى نجحت فى الهرب فى 11917 . قالت لأحد الصحفيين: إن 
الذين هاجموا قريتها جاءوا على صهوات الجيادء وروت له قصة فرارها المذهل من الأسر. 
وكانت ماجاك تحمل لافتة تطالب فيها بالقبض على البشير الذى يمشى طليقاً فى شوارع 


610 


نيويورك؛ لأنه هو وحده المسئول عن توجيه الميليشيات إلى ممارسة آفة 
الاستعباد.(''')ءبلا ريبء تلك الفتاة غير المتعلمة كانت أصدق حدساأء وأكثر أمانة مع 
النفس بتحديدها اس الداء. كثيرون فى الشمالء كما قلناء ظلت تؤرقهم الاتهامات ضد 
بلادهم بممارسة الرقء ولكن قلة منهم سعت للبحث فى غور المشكل: صحة الاتهامات. 
وإن صحت فمن المسئول عنها. الغالب الأعم من الشماليين كان ينكر الاتهام جملة 
وتفصيلا» وكأنهم بهذا يبرئون نظاماً ما فتئوا يلحقون به كل إثم. ماجاك البريكة لم تذهب 
إلى اتهام الشمال كله؛ أو حتى إلى اتهام الميليشياتء وإنما نسبت الجرم لمن حسبته الراعى 
المحرضص. 

وزير خارجية النظام ليس كرفيقه مهدى غطرساً من غطارس النظام» بل هو جذع منه 
قليل النفع . ولئن لم تكن صيحات ماجاكء وهتافات مناصريهاء واحتجاجات الصحافة» 
وبيانات الناشطين فى ميدان حقوق الإنسان؛ بمن فيهم المنظمة السودانية لحقوق الإنسان, 
تؤرق بالهء كان جديراً به» بحكم موقعه الرسمىء أن يلقى بالا على تقارير الأمم المتحدة 
حول الرق فى السودان: لاسيما عندما يتباهى بإسهام حكومته الفاعل فى محارية 
العنصريةء فى إطار جهود الأمم المتحدة للقضاء ادعليها . ما الذى جاءت به تقارير الأمم 
المتحدة حول الرق فى السودان؟ تقارير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدةء والتى 
وردت من مراقبيها بالخرطوم» روت الكثير عن تلك الممارسات المهينة . فعلى سبيل المثال 
كتب ليوناردو فرانكوء فى خاتمة تقريره السنوى مايلى: لا يكتمل هذا التقرير دون التأكيد 
على وجود عمليات خطف وإيعاد لأشخاصء معظمهم من النساء والأطفال؛ ينتمون إلى 
أقليات عرقية أو دينية من 0 جنوب السودان» وجبال النوبة» ومرتفعات 
الأنقسنا.!؟'') وأوصى فرانكو لجنة حقوق الإنسان بالمزيد من الضغط على حكومة 
السودان حتى تكف عن دعم الميليشيات القبلية» وتوقف الهجمات على المدنيين» وتعاقب 
الذين يقومون بخطف النساء والأطفال. وفى وثيقة سابقة )١996(‏ سجل بيرو حادث 
إختطاف وإبعاد مائتين وسبعة عشر شاباً من قبائل الدينكا وقع على طول خط السكة الحديد 
الذى يربط بين بابنوسه وواوء مضيفاً أن الحكومة التى لم تنكر وقوع الاختطاف لتواتر 


611 


الأدلة على وقوعه» ما برحت تقول أن اتهامها بممارسة العبودية اتهام لا أساس له من 
الصحة . وأوضح ما فى إستهانة الحكومة بالحادث من انتهاك للاتفاقيات الدولية التى التزم 
بها السودان(؟''). الاتفاقيات التى أشار إليها بيرو تتضمن المادة الأولى من اتفاقية الرق 
»)١957(‏ والمادة الأولى من الاتفاقية الإضافية لإلغاء الرق» والمناجرة بالرقيق» 
والمؤسسات والممارسات المشابهة للرق )١1157(‏ . وفى تقريره الأخير قبل اعتزاله العمل 
أبدى فرانكو أسفه؛ وكشف عن شعوره بالإحباطء لعدم قيام النظام بأية تحقيقات لاكتشاف 
الأسباب الجوهرية لتلك الممارسات. أضافء بلغة دبلوماسية رصينة:» أن السبب فى هذا 
العجز هو إما مشاركة القيادة السياسية العليا فعلياً فى تلك الممارساتء أو عدم رغبتها فى 
التعاون مع الأمم المتحدة )'١7(.‏ تلك هى المصادر التى تستقصيها الأمم المتحدة لتعرف إن 
كان لحكومة السودان دور فعال فى محارية العنصرية أم لا. ومن الواضح أن الوزير كان 
يخاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة وكأنه يخاطب طراطير (الطرطور هو الوغد 
الضعيف) . وفى الفصل التاسع سنميط اللثام عن الطراطير الحقيقيين بعد أن تهالك من 
تهالك إزاء الضغوط الأمريكية حول موضوع الرق» ورضخ من رضخ للتحقيق الدولى فى 
موضوع تلك الممارساتء, وقبل من قبل المراقبة الأمريكية للإجراءات التى ستتخذ للحد 
منها. فمع السناتور دانفورث انتهى حديث الفقهاء الشكسين عن أحكام الجهاد فى الإسلام 
وتوقف التذرع باستهجان الإسلام للرق» كما أمسك مفتو الجهاد عن الفتاوى بجواز السبى. 
تلك لغة لا يفهمها السناتوراتء فشكراً لدانفورث الذى أبرز أئمة الجهاد على حقيقتهم؛ لاهم 
بررة أتقياء» ولا فجرة أقوياء. 

للعنصرية وجه آخر لابد من إجلائه» فإن كان استرقاق الميليشيات لأبناء وبنات الدينكا 
قد أعاد إلى الأذهان ماضياً لا يريد أكثر أهل الشمال أن يذكروه؛ ناهيك عن أن يذكروا به. 
إلا أن نزوح الجدوبيين بأعداد غفيرة إلى الشمال ولد عنصرية من نوع آخر شبيهة بتلك 
التى عرفها السودان فى مطلع القرنء وأوضحنا أمرها فى الفصل الثانى: مشاعر الخوف 
الفوبائى من الجموع الغفيرة ممن كانت تسميهم الإدارة الاستعمارية المجندين السود الذين 
حلوا فى مدن الشمال واستقروا فيها. بروز هذا الشعور المنحرفء بعد قرن من الزمان التحم 


612 


فيه الجنوبيون بالشماليين» واتخذ فيه السودان لنفسه موقعاً بارزأ فى أفريقياء وتعرض فيه 
الشماليون الذين أتيح لهم الانتقال إلى خارج البلاد لأطياف من المهانات بسبب لونهم. 
وشارك فيه الكثير من أولئك المهاجرين فى التظاهرات ضد الميز العنصرى فى المهاجر. 
يعنى أن هناك عاهة مستديمة فى الحافظة الذهنية التى تختزن الوعى الجمعى لشريحة 
كبيرة من الدخب التى تكيف السياسات والرأى العام. 

بحلول هذه الأعداد الغفيرة من أبناء منطقة جبال النوبة وجنوب السودان فى الخرطوم هريآً 
من ويلات الحربء واستقرارهم فى مناطق هامشية خارج حدود العاصمة؛ أخذت تلك 
الشريحة المتعنصرة تطلق على هذه المناطق همسا اسم الحزام الأسود. ولا شك فى أن 
العنصريين البيض فى جنوب أفريقياء والذين لم يكونوا أقل استهجاناً للأفارقة السودء كانوا أكثر 
شجاعة فى حديثهم عن الخطر الأسود. كان المرء ليتفهم هذه المخاوف لوقامت على أسباب 
موضوعية مثل الاختلاف فى الطباع والعادات: أولولم يصحبها ما يوحى بالترفع على 
الآخرء أو بالانتقاص من حقه. فتعبير أسود يطلق فى أمريكا على كل ذوى الأصول الأفريقية» 
ومع أن التعبير غبى إلا أنه لا يتبعه افتراض بأن اللون الأسود ينتقص بأى قدر من حقوق 
المواطن الذى يتسم بهء أو أن اللون الأبيض يمنح صاحبه تميزأ بحكم لونه. مع ذلك؛ الوصف 
غبى لأنه ينسحب فى أمريكا على كل ذوى الأصول الأفريقية حتى وإن كان تسعة أعشار الدم 
الذى يجرى فى عروقهم من الدم الأبيض (إن كان هناك شىء مثل هذا) . الوضع فى السودان 
يختلف لان النعت يتبعه اثرء على الاقل فى دواخل الذين يتحدثون عن مخاطر الحزام الاسود. 
فالفرق» إذنء بين الحالتين هو فرق بين تمييز عنصرى لونى (011122)120108 [2أ2:)غبى 
فى أمريكاء وبين نزعة عنصرد ية (0هنازدهم15ل 54أ2) أشد غباء فى السودان. نكاد نجزم بأن 
أصحاب هذه النزعة سيغضبون أشد الغضب إن وصموا بالعنصرية؛ بل سيقضمون بأسنانهم 
من يلحق بهم تلك الوصمة. هذا شعور لا نستبدعه لأننا ندرك أن الذين يعيشون فى مجتمعات 
مغلقة ومجحفة بحقوق الآخرين؛ قلما يدركون الأزمة التى يعانون. ففى استطلاع أجراه مركز 
قومى للجماعات المهمشة فى البرازيل (وجلهم من ذوى الأصول الأفريقية) أقاد 741 من 
البيض الذين تم استطلاعهم بأنهم غير عنصريين. فى ذات الوقت ذكرت الأغلبية» فى الرد 


613 


على سؤال آخرء بأن أكبر مشكلة اجتماعية فى البرازيل هى العدصرية. وفى تعليقه على نتائج 
الاستطلاع قال الأمين العام للمركز: لا شك فى أننا نحارب عدوا خفياً مستترا.("') هذه 
التقافة العنصرية ذات الأصل الخفى (191005/ا32012)هى لس الداء. 

العنصريون الخفيون فى الشمال نحوا بعيداً فى القصدء عندما أخذوا فى تهامسهم 
يستحضرون الأخطار الكامنة التى ستتعرض لها الأسر العربية بسبب وجود جموع غفيرة 
من "السود فى وسطها. ولسنا فى حاجة للتنبيه أن منطقة تمركز هذه المجموعات هى 
الخرطوم» عاصمة السودان الذى ننادى بأن لا انفصام لعرى وحدته . الخشية من المخاطر 
الكامنة فى وجود هذه العناصر فى عاصمة بلادها بلغت حد الهلاوس حين أخذ البعض 
يقارب بين ما سيقع فى السودان وما وقع فى زنجبار عام )١11(.19754‏ فى تلك المقارنة 
جهل بالغ بما حدث فى زنجبارء كما هى مثقلة بالمعانى والدلالات. ما لا يعرفه أولئك 
المرعوبون عن ثورة زنجبار »)١1174(‏ هو أنها ثورة بكل المعانىء قادها أبناء الأرقاء (عبيد 
كرومى وعبد الرحمن بابو) ضد الأسرة العربية الحاكمة (أسرة بوسعيدى) التى استولت 
على الحكم فى الرق القديم. ومنذ ذلك العهد ارتبط اسم الجزيرة بالرق: برالزنج (زنجبار) 
باللغة السواحيلية . وكانت جميع قيادات تلك الثورة ضد الأسرة الإقطاعية الحاكمة من 
المسلمين» بل إن كل أهل زنجبار مسلمون. ومن المثير للحيرة أن بعض الذين يغذون تلك 
النظريات التالفة» هم من العناصر الإسلامية التى تكاد لا تعى وجه القربى بين أطروحاتها 
وأطروحات الأبارتايد» كما يغذيها عروبيون أو تقدميون فى عين ذاتهم. الإسلامويون 
هؤلاء يسيكئون إلى دينهم بالغ الإساءة عندما يجعلون من التمايز العرقى بين المواطنين 
معياراً للأهلية والصلاح فى الوطن الواحدء كما يكشفون عن خداع كذوب فيما يتداعون به 
عن المواطنة التى لا تميز بين المواطنين على أساس أصولهم ودياناتهم. ومن المفارق أن 
هذا النوع من التمييز الذى تلحقه تلك الفئة بغيرهاء لا ترضاه لنفسهاء ودوننا فى إثبات ذلك 
قصة طريفة رواها الدكتور خالد المبارك(9''). أما ذوو الميول التقدمية الذين يتداولون فى 
أمر زنجبرة الخرطومء فلعلهم لا يلمون ‏ ولريما لا يعنيهم الإلمام ‏ بالموقف المبدئى الذى 
اتخذه جمال عبد الناصر عندما ناشده البعض بالتدخل فى الصراع الزنجبارى لمصلحة 


614 


الأسرة الحاكمة. قال ناصر: هذه ثورة يقودها المسترثون (بفتح الراء) ضد المسترقين 
( بكسر الراء)» ولا أخالكم تريدون منى أن أنتصر للسادة ضد العبيد. ١‏ 

فيما يظهرء تلخصت ثورة زنجبار فى أذهان هؤلاء فى اعتداءات على النساء وقعت 
خلال الأيام الأولى للثورة» وهى اعتداءات تعرفها الحروب والثورات فى كل مكانء بما فى 
ذلك حروب السودان الراهنة» بل عرفتها مدينة الرسول فى عهد يزيد بن معاوية . ومن 
المؤسى أن ينضم إلى أهل الهلاوس والوساوس هؤلاء السيد الصادق المهدىء ففى دعوة 
لمائدة رمضانية أقامها على شرف الدبلوماسيين العربء قال الصادق أن السودان مهدد 
بثورة مثل تلك التى اشتعلت فى زنجبارء!'"') وإن الولايات المتحدة هى المحرض الأول 
على ذلك. ولريما أراد الصادق من خطابه ذلك استنهاض همة العرب للوقوف بجانبه فى 
الصراع الدائر فى السودان بين الشمال والجدوب بحسبانه صراعاً عربياً ‏ أفريقيأ» دون تدبر 
للنتائج التى ستترتب على تلك الأطروحة فى علاقات السودان الأفريقية» ودون وعى بما 
لإسقاطات أطروحته من أثر على العلائق بين العرب وغير العرب فى السودان الذى يتمنى 
له أن يبقى موحداً. وفيما يبدوء يعول الصادق كثيراً على إهمال ذاكرة الناس لما يردده. 
خاصة وهو يعلم أنهم لو حرصوا على تتبع نقائضه لما بقى لهم وقت للانشغال بهموم أخر. 
فالصادق المهدى الذى سعىء موضوعياء لدق أسفين بين العرب والأفارقة لم يجد. من بين 
كل بقاع العالم» عواصم يهاجر إليها للاستنجاد بأهلها على حل مشكل السودان المستعصى 
غير العواصم الأفريقية غير العربية (كمبالاء أسمراء جيبوتى: أبوجا)» ثم العاصمة 
الأمريكية؛ المحرض الأول على ثورة زنجبارية فى السودان. 

أما الذين لم يروا فى الثورة الزنجبارية الموهومة غير مخاطر افتحال النساءء فقد أخطأوا 
خطأ مزدوجاً. الخطأ الأول هو سهوهم التام عن المطالب المشروعة لهؤلاء النازحين» وعن 
الإجحاف التاريخى البالغ بحقوقهم. والخطأ الثانى هو النظر للفتية الجنوبيين داخل الحزام 
الأسود وكأنهم أباعير بينة الفحولة؛ لا هم لها غير امتطاء التياق. فمع حياتهم الضنكة فى 
بيكة غير صديقة؛ يسعى هؤلاء على كسب عيشهم الحلالء ويترددون على المدارس 
والمؤسسات المهنية لاكتساب خبرة جديدة» ويتعاونون مع الراشدين من أهل الشمال للتعبير 


615 


عن ظلاماتهم. هذه الهلاوس والوساوس تعيد إلى الذاكرة قالة شائعة لمارتن لوثر كينق 
توجه بها إلى العنصريين البيض فى الولايات المتحدة . قال: كل ما أبتغى هوأن أكون أَخاآ 
لكم؛ وليس زوجآ لأخواتكم )1"١(.‏ 


لله[ هأ - تعطامع] عناملا )0م ,معطامعط عناملا ع0 م0 غرصدنت 1) 


الذين يثيرون تلك المخاوف لا يهدفون» فيما نظن.ء إلا إلى توليد شعور بالخوف المرضى 
من الجنوبيين الذين يعيشون فى الشمال. والخوف من المجهولء أو الخوف المرضى من 
الآخرء وفقاً لعالم اجتماعى معروفء يتزامنان دائماً مع حالة نفسية تفرز أحاسيس من 
القلق والاضطراب والشعور بعدم الراحة وفقدان الرزانة.('"') هذه الأحاسيس الدفينة لا 
تتفجر تلقائياًء وإنما يثيرها دوماً من يثيرها لأنه يعرف جيداً أن فيما تدعو له الحركة تهديدا 
للهيمنة الموروثة؛ وتهشيما لمنظومة فكرية تقوم على الاستعلاء ترسبت فى العقل الجمعى 
للمهيمنين. وفى هذا المجال» درج صديق لنا يروى فى كل محفل أن قرنق قال (لم يذكر 
لمن قال) أنه لن يهداأً له بال حتى يشرب القهوة فى المتمة. رويت القصة لقرنقء فقال» 
المتمة دى شنو؟. أمثال هذه الأقاصيص لا ترد إلا ممن يحسبون أن موطن أجدادهم هو 
سرة السودانء إن لم يكن سرة العالم. وإيغالاً منهم فى تشويه صورة الرجلء يلجأون إلى 
استثارة أدنى المشاعر فى أكثر أهل الشمال اعتداداً بأصولهم . أدنى لذهن قرنقء إن أراد 
التسيد على الشمال؛ أن يقول لن يهدأ لى بال حتى أحتل قصر الرئاسة» أو سلاح المدرعات 
فى الخرطوم. فلو تحقق له هذا لشرب القهوة فى المتمة كما شريها الرائد فلان؛ والعميد 
علانء والعقيد فرتكان» وقوبل» كما قوبلواء بالزغاريد. 

ظل الجنوبيون» خاصة عقب اتفاق أديس أباباء يعيشون فى وثام مع إخوتهم الشماليين» 
فالسودان لم ينته أبداً لما انتهت اليه رواندا. كما لم يعتر أهله (شماليين وجنوبيين) ما 
اعترى نيجيريا من صراع دام بين قبيلتى الهوسا واليوروبا. حتى فى هذين البلدين» لم تكن 
المذابح المروعة التى أدمت كليهما لتحدث بدون تحريض من أصحاب المصلحة فى 
الاضطراب من النخب السياسية والقبلية. فالسياسيون الراغبون فى إدامة الهيمنة» 
والأيديولوجيون الذين توحى لهم خيالاتهم أنهم سيضعون السطر الأخير فى تاريخ السودان» 


616 


والمثقفون الزائفون الذين لا يبغون إلا مصلحته ذاتية غير واعية» هم أول من أشاع نظريات 
الكراهية بين المواطنين البسطاء فى كلا البلدين. إضافة إلى هذاء نقدر أن معظم الذين 
حملتهم ظروف الحرب على النزوح إلى الشمال» سيفضلون العودة للعيش فى قراهم 
المتواضعة فى الجنوب وجبال النوبة» إن أصبح بقاؤهم فى الشمال مصدر خوف واسترابة. 
إن الكذب العهار والتلميحات السخيفة عن المخاطر"الزنجبارية» لا تحيد عن الحقيقة فقطء 
بل تدحض كل دعماوانا بأن السودان وطن للجميع. ويجدربنا أن نذكّر مرة أخرى أن 
صراع المهمشين يهدف إلى المساواة وليس السلبء ويضع نصب عينيه العدل وليس النشوة 
والمتعة . 


الهوة بين الواقع والخيال 
فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى بلغ الغضب بأحد أعضاء البرلمان الانتقالى 
الطيع (المجلس الوطنى المعين) حداً جعله يقول أن "عناصر الجبهة» تحت مظلة الحكم 
الإسلامى» زحفوا لاحتلال كل المواقع فى القطاعين العام والخاصء حاسبين أن بمقدورهم 
فعل ما يشاءون طالما تزيا الواحد منهم بلحية منفوشة. مضى العضو يقول الإسلام والورع 
لا يعتمدان» بالضرورة؛ على عدد الشعيرات التى تنبت فى وجه الرجلء وان الجبهويين 
بأفاعيلهم هذهء يضعون فى موقف شديد الحرجء المؤمنين الذين لا يعتريهم شك فى أن 
الإسلام هو دين الإنسانية.('') ذلك مثال واحد من ردود الأفعال العنيفة التى صدرت من 
بعض مناصرى النظام»ء وما قاد إلى ردود الفعل تلك إلا تجاوزات النظامء وغروره البالغ» 
وظنه بعصمته من الخطا. فرغم كل الطهرانية المزعومة بدا يتضح» حتى للاقربين» ان 
النظام لا يختلف كثيراً عن الأنظمة البائدة فى غفلته عن قضايا الوطن الحقيقية» كما لا 
مجال للمقارنة بينه وبينها فى الرحمة بالعباد. فالنظام الإسلامى لم يأخذ الناس؛ كما يقول 
الإسلام» بالتى هى أحسنء بل تعمد أخذهم بالتى هى أخشن. 
تلك الهوة بين الخيال والحقيقة أثارت فزع بعض نصراء النظام؛ للدرجة التى أخذوا يتحدثون 
فيها بصراحة غير مسبوقة عن جنايات الحكم . كان من بين أولئك المحارب القديم» كما كان من 
بينهم من لعب الترابى دوراً كبيراً فى تشكيل وعيه السياسى. وإن كان ضمن ذلك النفر من عرف 
617 


باستقلاله الفكرى بين الإسلامويين مثل الطيب زين العابدين!؟'') ءإلا أنه ضم أيضأ من كان 
شريكا فى الجرم إما بالصمت عن الحقء أو تجميل الباطل. مع ذلك يحمد لهم المرء استشرافهم 
للنهاية المحتومة التى قادت إليها سياسات النظام. ولربما أفرط واحد منهم قليلاً فى القول عندما 
نصح الترابى باعتزال الحياة السياسية» إن كان له أن يتولى أى دور غير مباشر فى الحياة العامة 
فى مستقبل أيامه.(”'') نقول أفرط» لأن صاحب المقال هو نفسه الذى نسب من قبل الحركة 
الإسلامية السودانية كلها لرجل واحد؛ أسماها ثورة الترابى. وقبيل توجيهه الدعوة لمفجر الثورة 
الإسلامية كيما يرحلء كان الكاتب من دعاة الجمع بين نقيضين لا يلتقيان حتى فى اللانهاية: 
الديموقراطية والشمولية. ففى دراسة نقدية لمسيرة نظام الجبهة بهدف إصلاحه؛ فيما حسب وقدرء 
استقر رأى الكاتب على أن التحرير السياسىء أو إعادة صياغة الدستور فى السودانء لابد أن يتما 
بالتدرج للوصول إلى تعددية سياسية. ذلك التدرج؛ حسب قوله» يبدأ بتعزيز الحركة الإسلامية 
الجديدة» وإصدار دستور يضبط العمل السياسى ويقلص دور الانحيازات الطائفية والقبلية 
والإقليمية.(""') وإن طرحنا الأمر بصورة أخرىء نقول إن تعزيز الحركة الإسلامية الجديدة » فى 
حسبان الكاتب» هو شرط لزوم لإقامة التعددية السياسية وإصلاح الحياة العامة. وعندما يقضى 
محلل سياسى أن تصبح الحياة السياسية كلها رهينة ل الحركة الإسلامية الجديدة حتى يقوى 
عودهاء وتمكن لنفسها فى الأرضء يقع فى أمر عظيم. هذا لا يعنى بأية حال اختلافنا مع الكاتب 
فى أن الذين أنتجوا الأزمة منذ الاستقلال ليسوا هم أكثر الناس تأهيلا لعلاجها. فى الوقت نفسه؛ لا 
يمكن أن يكون البديل لصانعى تلك الأزمة هو دكتاتورية إسلاموية لا تمت بقربى أونسب إلى 
الديموقراطية أو التعددية. هذه دعوة للشينفينية؛ فكلمة (شين فين) التى تطلق على المنظمة 
الأيرا لندية تعنى أنا وحدى (31026 1) الديموقراطية التعددية» بالضرورة» ترفض الوحدانية 
السياسية» كما ليست هى معتقداًء أو بوفيهاً سياسياً يتذوق الآدبون ما فيه من أطعمة» ويتخيرون 
منها ما يطيب لهم. الديموقراطية ثقافة قبل أن تكون نظاماً أو مؤسسات نظامء والوضع الأمثل فيها 
هوالذى لا تحد فيه حرية أحد إلا عندما تصبح ممارسة تلك الحرية انتهاكا احقوق الآخرين. وعل 
هذه الامثلية أشبه بأمثلية باريتو فى الاقتصاد (0:نا0:ذامه 7:0©) القائلة بأن الوضع الاقتصادى 
الأمثل هو الذى يتحقق فيه نفع الفرد دون إلحاق ضرر بمصلحة شخص آخر. إزاء هذاء لا نفهم 


6015 


لماذا يظن منظرو الجبهة أن قدر السودانيين هو أن يظلوا أبد الدهر خنازير غينية يجرى عليها أهل 
العقائد تجاربهم» وما عليهم إلا الرضى بهذا القدرء والامتذال له؟ 

ترى ما هى الخاصية المائزة للحركة الإسلامية الجديدة ؟ لم يدرك الداعية لهذه 
الشينفينية مجالاً لقراء رسالته الإصلاحية كى يوجهوا له فيه السؤال؛ بل فاج مخالفيه 
الرأى - قبل صحبه الأقربين ‏ عندما اعترف بالخيبة المزدوجة للتجرية "الإسلامية 
السودانية. فلا هى أفلحتء كما قالء فى احتذاء النموذج الأصيل للإسلام واستصفاء 
جوهره؛ أو وفرت لمواطنى السودان ما توفره الديموقراطيات المغاصرة لمواطنيها.(""١)‏ 
ذكر الكاتب أيضاً أن استبداد وعسف النظام يعدلان الفاشية» وأن الدولة لا يمكن أن تكون. 
فى النهاية» إلا دولة ديموقراطية(*"'). العود إلى الصواب يبعث دوماً على السرور, لاسيما 
إن صحبه نقد أمين للذات. ومن الواضح أن الكاتب قد وصل إلى نتيجة سبقه إليها غيره. 
فبعد عشر سنوات مليكة بالأشجان والأحزان» نسى الجبهويون "الحوت وما أنساهم إلا 
الشيطان أن يذكروه.(؟") فبانهماكهم فى صراع السلطة» وبإدمانهم للسلطة المطلقة» أهملت 
الطهرانية التى كان صداها يتردد فى كل ركن من أركان السودان. ما بقيت من تلك 
"الإسلامية إلا الأكلشيهات المحنطة: تكبيرء تهليل؛ مع كل ما فى التسخير السياسى لتعظيم 
اسم الله من ابتذال لاسمه. 

أخذ الصراع على السلطة منحى خطيراً عندما قرر أقرب المحسوبين على الترابى 
المروق على شيخهمء وعلى رأس هؤلاء كان نائبه» على عثمان محمد طهه الوافه (القيم) 
على بيعة الشيخ» وأكثر أصحاب الشيخ تشبهاً به فى الحديث والإيماء والاختلاجات. كان 
هدف المارقين هو تقليص حجم سلطة شيخهم واحتواؤها فى إطار المؤتمر الوطنى. وفى 
البدء لم يكن الوريث الشرعى للزعامة يفصح عن نفسهء بل كان يوجه الجماعة من وراء 
الكواليس . ولاشك فى أن الكيل قد فاض ببعض المؤامرين من جراء تحقير الشيخ لهم» كما 
لم يطق بعض منهم عنزله لهم عن مواقع السلطة» وكأن السودان كله؛ بله الإسلام» قد 
اختزل فى السلطة. وحقا كان الترابى قاسياً فى احتقاره لبعض صحبه؛ ففى حديث له مع 
مجلة الايكونومست وصف أبناءه المارقين عليه بالكتبة» وخدم كل العصورهء والمنافقين.: 


6019 


0 و 

المضاضة التى تحدث بها الترابى تبين ان مسيح السودان قد اصيب بجرح عميقء من 
خيانة حوارييه('''). ولسوء حظه لم يكن يهوذاه واحدأء بل كانوا عشرة»ء تآمر العشرة على 
يسوع الناصرة السودانى؛ وحملوه وحده المسئولية عن أخطاء النظام. على أن تلك العصبة 
المتمردة ضمت بين صفوفها بعضاً من أكثر عناصر النظام الحاكم جدارة باللوم» واستحقاقا 
لكراهية عامة أهل السودان» لولوغهم فى دماء البشر فى الأجهزة الأمنية. 

لم تقدم العصبة فى البداية على إزاحة الترابى من منصبه الرسمى الوحيد وهو رئاسة 
البرلمان» رغم تداولهم الرأى حول هذا الإجراء. ولربما لم يكن المتمردون على شيخهم حتى 
تلك اللحظة على ثقة من أنفسهم للإقدام على تلك الخطوة . وكشفت الأيام أن ذلك التردد كان 
خطأ سياسياً فادحأًء إذ أن الترابى مضى فى الخفاء يخطط تحركه القادم على ثلاثة محاور: 
المؤتمر الوطنىء والبرلمان» وصنع السلام. جاب الترابى أنحاء البلاد لعدة شهور ليعد قواعد 
الجبهة تمهيداً لمبارزة البشير عند انعقاد المؤتمر الوطنى. ولهذا لم يفاجأ كثيرون فى منتصف 
عام ١135‏ بتعزيز مركز الترابى فى المؤتمر وهزيمة المتمردين العشرة. أما التحرك الثانى 
للترابى فقد تميز بقدر أكبر من الدهاءء ففى أوائل آيار/ مايو595١:‏ خطط الترابى» بدون علم 
البشيرء لعقد اجتماع مع صادق المهدى فى جنيف للاتفاق على أرضية للتصالح بين 
الطرفين» تمهيداً لتصالح أوسع. تم ذلك الاجتماع فى مقر المنظمة العالمية للملكية الفكرية 
(78/150): بتسهيل من مديرها العام؛ كامل الطيب. ذلك الاجتماع أثار ثائرة المعارضة 
السودانية لما فيه من شق لصفوفهاء إلا أن حدة تلك المعارضة انخفضت عندما اتخذت الحركة 
الشعبية موقفاً مغايراً. قبلت الحركة حديث الصادق على علاته عندما وصف لقاءه بالترابى 
باللقاء الاستكشافى» وقالت أن من حق الصادق وجماعته أن يقوموا بمثل هذا الاستكشاف 
تمامأء كما هو الحال بالنسبة للحركة فى مفاوضاتها مع النظام الحاكم عبر مبادرة الإيقاد. 
ولعل الحركة كانت تسعى لمد الصادق بطوق نجاة» بدلا من دفعه إلى الخصوم. 

من الناحية السياسيةء يرى كثيرون أن أوجه التشابه بين الصادق والترابى تفوق 
الذى يثب فوق ذاته ليهوى على الطرف الآخر.(١'')‏ الاثنان أيضا ملتزمان بإضفاء صبغة 


6020 


دينية على السياسة؛ وتعاونا سوياً على فرض هذا التوجه على أهل السودان رغم أنوفهم. 
يسيب من هذا انتابت أحزاب المعارضة الشمالية خشية من أن يكون وراء الأكمة ما وراءهاء 
وظلت تتطلع إلى سماع موجز من زعيم حزب الأمة عن نتائج اجتماع جنيف. لم يتردد 
الصادق فى لقاء زملائه فى التجمع لإبلاغهم عن نتائج ذلك الاجتماع» ولكن بلاغه جاء 
فى اسلوب غلب عليه الحذرء قال إن الاجتماع كان إستكشافياء وان ليس لديه ما ينقل 
لزملائه غير انطباعاته عن ذلك اللقاء. نفى الصادق أيضاً ما تردد عن توصله لاتفاق مع 
الترابى . ذلك الحذر عزز التكهنات المعقولة بان الترابى يرغب فى بعث الروح فى التحالف 
القديم بينه وبين صادق المهدى. 

لا جدال فى أن الترابى كان يسعى لإنقاذ الحركة الإسلامية التى بناها حجراً حجراً 
خلال أربعين عامأء وانتهتء كما هو واضح. إلى كارثة . على الجانب الآخرء كان المهدى. 
رئيس الوزراء الشرعى الذى ما برح يبكى على اللبن المسكوبء حريصاً على استعادة 
المركز الذى أضاعه؛ بسلوك أقل الطرق مقاومة . على أن نجاح تلك الخطة كان يدوقف 
على أمر آخر: إقناع الميرغنى وقرنق بالقفز فى الحافلة . الغرض من تلك المناورة لا يخفى 
على أحدء ألا وهو حرمان التجمع من مساندة الحزبيين الشماليين الرئيسيين (الأمة 
والاتحادى الديموقراطى)» وكذلك من القوة المقاتلة الرئيسية (الجيش الشعبى) . ولوتم هذاء 
لانتهى التجمع كقوة معارضة موحدة . وفى حالة فشل السيناريو الأول» كان الخيار الثانى 
أمام الترابى هو العمل على ضم الميرغنى إلى التحالف الثنائى لخلق تجمع شمالى مسلم؛ 
مقابل تجمع جنوبى لغير المسلمين. وكما هو معروفء لم يحالف الحظ طرفى اتفاق جنيف؛ 
فلا الميرغنى وقرنق كانا على عجلة من أمرهما للقفز فوق الحافلة» بل انتقد الاثنان» 
ومعهما كل أعضاء التجمع الآخرينء اتفاقية جنيف السرية؛ وأكدا بأن أى حوار مع النظام 
الحاكم لن يتم إلا عقب اتضاح موقفه من القضايا الأساسية التى أججتء أو فاقمت من 
الحرب. تلك القضايا هى السلام العادل؛ الديمقراطية التعددية» الترتيبات المؤقتة فى الفترة 
الانتقالية» الدين والدولة» واحترام حقوق الإنسان كما هو منصوص عليها فى المواثيق 
والعهود الدولية. 


6021 


الأحداث اللاحقة أكدت صدق مخاوف التجمع فقد أوردت الدوائر المقربة للترابى أن 
اجتماع جنيف قد تكلل باتفاقية مكتوية بين الزعيمين» احتفظ الترابى بدسخة منهاء وأخذ 
الصادق النسخة الأخرى. ولاريب فى أن إنكار الصادق لزملائه فى التجمع وجود أى اتفاق 
بينه وبين الترابى قد أُضرٌ كثيراً بسمعة ذلك الرجل الصادق. أهم بنود الاتفاق كان هو 
تعاون الطرفين على توحيد قواهما لزعزعة البشير من خلال العمل الجماهيرى المشترك. 
وفى غيبة الأطراف الأخرىء سيرث الطرفان الأرض ومن عليهاء ثم يحددان من بعد 
أحكام اللعبة للآخرين. تلك أحموقة لا يجدر صدورها من رجلين عركتهما السياسة: 
فالحزيان الكبيران ظلا منذ الستينيات يتعاونان مع الحركة الإسلامية» ويشاركانها الرأى» 
بدرجات متفاوتة حول تديين السياسة» ويوحدان جهودهما معاً للقضاء على "التمردء فما 
الذى جنياه ؟ ولماذا تراود أياً منهما الظنون بأن التحالفات الجديدة ستحقق ما عجزت عن 
تحقيقه التحالفات السابقة» وفى ظل ظروف أكثر تعقيداً؟ 

انطلق الترابى بعد عودته من جنيف فى التحرك الأخير والحاسم بالنسبة له: استخدام 
البرلمان لقص أجنحة البشيرء وتهيكة الأجواء لتنفيذ اتفاق جنيف. ولتحقيق هذا الهدف 
أشرف الترابىء بوصفه رئيس للبرلمان» على تقديم اقتراح بتعديل الدستور فى تشرين 
ثان/ نوفمبر ١5195‏ . وكان الهدف من الاقتراح استحداث منصب رئيس للوزراء يكون 
مسئولا أمام البرلمان» مما يجعل من البشير مجرد رئيس شرفى فى المرحلة الأولى» قبل 
أن يسقطء فيما بعدء فى دوامة النسيان. وإنصافاً للترابى نقول أن استراتيجيته تلك كانت 
تهدف أيضاً إلى إنهاء هيمنة العسكر على الحكم» وخلق نظام تعددى من تصميمه وتنفيذه» 
وإيكال اختيار الولاة للشعب (عبر الانتخابات لا التعيين كما كان عليه الحال) . من جهة 
أخرىء أوردت الصحافة العربية المقربة لنظام الجبهة أن الترابى كان يهيئ نفسه للرئاسة» 
على أن يشاركه فى قيادة السلطة التنفيذية رئيس للوزراء وفقاً للنمط الفرنسى للحكم. ذلك 
أمريروق كثيراً للمهدى الذى ما انفك يدعو لنظام رئاسى فى السودان وفق النموذج 
الفرنسى؛ رغم تناقضات ذلك النظام وعدم ملاءمته لأوضاع السودان. فمن ناحية يتسم 
النظام الفرنسى بمركزية طاغية تعود إلى صراع الجيروندين واليعاقبة فى عام 210985 


622 


حين كانت المجموعة الأولى تدعو إلى تكريس هيمنة المركزء فى حين دعت الثانية إلى 
تقليصها. ومن الغريب أنه فى الوقت الذى كان فيه الصادق يدعو لمثل ذلك النظامء كان 
الرئيس جاك شيراك يقول أن هرمية الحكم كادت أن تخدق فرنسا. كما أن حروب السودان 
كلها منذ ستينيات القرن الماضى كانت يسبب هيمنة المركز الطاغية. من جانب آخر» 
تناءت كل القوى السياسية فى السودان عن فكرة الرئاسة بسبب التشققات الأفقية 
والعمودية . 

وذهبت» منذ الاستقلالء لابتداع نظام برلمانى له كوابحه الخاصة مثل إيكال العمل 
التنفيذى لمجلس وزراء يخضع خضوعاً كاملا لبرلمان منتخب» ويحظى فيه القضاء 
باستقلال كامل؛ وتعهد فيه رئاسة الدولة لمجلس يعكس التعددية القائمة فى البلادء دون أن 
تكون له أية سلطات تنفيذية أو تشريعية إلا فى الحدود الضيقة التى حددها الدستور. النظام 
الفرنسى الذى أسسه الجنرال ديقول فى الجمهورية الخامسة نظام هجينء وعلّهِ إن أفلح فى 
إنهاء الخمج السياسى الذى عرفته الجمهوريتان الثالثة والرابعة فى فرتساء فإنما اعتمد فى 
فلاحه على الهيمنة الكاملة للديقوليين على الجهازين التنفيذى والتشريعى طوال فترتى حكم 
الجنرال ديقول وخلفه جورج بومبيدو. ولكن ما أن بدأ التعارض فى الحكم بين الرئيس 
المنتخب شعبيأًء والبرلمان الذى ينتمى للحزب المعارض والمنتخب شعبياً أيضأء حتى 
تصدع النظام (خلافات الرئيس ميتيراند الاشتراكى مع بلادور الديقولى» خلافات شيراك 
مع جوسبان) . ومن الطريف أن فرنسا هى البلد الوحيد فى العالم الذى يمثله شخصان (قد 
تكون لهما رؤى مختلفة فى القضايا) فى المحافل الدولية الهامة: رئيس الجمهورية ورئيس 
الوزراء. ولا شك فى أن الذى أبقى على سلامة الدولة فى فرنسا هوخدمتها العامة 
المتميزة . وللرئيس ميتيراند وصف طريف لدستور الجمهورية الخامسة؛ أسماه الانقلاب 
الدائم .(اعناعم:ء2 غهاء'0 مناون)ولكن ميتيراندء بسخريته الفائقة» قال للرئيس نيكسون: لم 
نكن نحب ذلك النظام البتة عندما كان ديقول على رأسهء أما الآن ونحن على رأسه فنحبه 
حبآ جما(" ولااشك فى أن الذين ييشرون بمثل هذا النظام السلطوى يحبون: هم 
الآخرون» هذه السلطوية حباأ جماً. 


6023 


البشيرء من جانبه» رفض رفصا بات اقتراح الترابى بخلق منصب لرئيس الوزراء يحوله 
إلى رمزء ولهذا ناشد البرلمان تأجيل مناقشة الاقتراح. على تلك المناشدة رد الترابى ردأ 
يكشف عن حقرته للبشير. قال لا نتوقع أن يشارك الرئيس فى اتخاذ قرار حول اقتراح 
برلمانى» ولكنه يستطيع فقط أن يدلى بملاحظاته إن أراد ال ا ا 
الحد من التحقير» لا محالة من أن تنشق عصا الجماعة؛ ويستعصى الخرق على الرائق 
ففى ١١‏ كانون أول/ ديسمبر 1155» لبس البشير زيه العسكرى ليلس على الأمة. أعلن 
حل البرلمان» وفرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة شهورهء ثم توجه بنقد فارص للمؤتمر 
الوطنىء الذى هو حزيه» وللمجلس الوطنى (البرلمان)» الذى هو صنيعته. وبدأ التلبييى 
عندما اجتمع البشير أولاً بقيادات الجيشء وليس الهيئة القيادية لحزيه» ناهيك عن قواعد 
ذلك الحزب. هنا تتضح سخرية الموقف» فبعد عقد كامل من اغتصابه للسلطة باسم القوات 
المسلحة (وليس باسم الجبهة) » يعود البشير بالزمن دورة كاملة للوراء ليلتمس أولاً وأخيرأًء 
الدعم من نفس القوات المسلحة التى خدعهاء ثم انتهى بها إلى انقلاب لم تخطط له سلفاً. 
ولريما كان البشير يدرك أن الجيش السودانىء أو بالحرى ما بقى من جيش السودان 
المحترفء قد ضاق ذرعاً بالأسلوب الذى ظلت تنتهجه الجبهة فى إدارة شكون البلاد» 
وبوجه خاص فيما يتعلق بإدارة الحرب. 

كان خطاب البشير عنيفاً فى لحنه» وذرائعياً فى جوهره؛ ومسيئأ للعقول فى جملته 
وتقاسيمه . كان الأخلق بالرئيس الذى أطلق فى خطابه المعسكر كل النعوت السيئة على 
نظام حكمهء أن يبدأ ذلك الخطاب باعتذار لشعب السودان ععما حاق به من جراء سياسات 
النظام . كما كان الأجدر به» بعد أن حمل شيخه وحده المسئولية عن كل أخطاء الجبهة» أن 
يبين للناس» وهو صاحب البيعة» لماذا رضى لنفسه أن يكون أداة طيعة لرجل لا يحتل أى 
موقع فى جهاز الدولة الذى كان يدير الحربء ويروع المواطن الآمن» ويعذب الخصوم. 
وبلغ الخطاب غايته من التلبيس عندما أعلن البشير ثباته على المبادئ التى تأسست عليها 
ثورة الإنقاذ. وبصورة لا تخفى على بصيرء لاحت أطياف ثوابت الترابى واضحة خلال 
الخطاب . انتقل البشير من بعد إلى التخليط المشبوه عندما حض الشعب السودانى على 


624 


الاتحاد لمواجهة "التهديدات الخارجية . قال: أعلنت أمريكا الحرب على السودانء ولن يهدأ 
لمادلين أولبرايت بالا إن لم تفلح فى الإطاحة بالحكم فى الخرطوم.(*"') ولوكان رئيس 
النظام يدرك الكليات لأدرك بأن مادلين أولبرايت لن تتمنى على الله شيئاً غير الإطاحة 
بنظام أصبح شغله الشاغل التبشير بدنو عذاب بلادها. ولوكان مدركا لسير الأمم؛ لقاده 
ذلك الإدراك إلى أن أمريكا بطغوانها وجبروتها لا تتمنى الأشياءء بل تمضى إلى فعلها 
بصواريخ تعبر القارات؛ كما حدث من قبل فى قلب الخرطوم. على أن الذى كان ينبغى أن 
يؤرق بال البشير أكثر من هذاء هو أن أهل السودان الذين كان يستحثهم لمواجهة "تهديدات 
أولبرايت بالإطاحة بالنظام» كانوا يقولون فى دواخلهم ليتها فعلت. 

أكثر كلمات البشير إثارة للدهشة هى إيماءاته إلى الحزب والحكومة. قال نحن نشكل 
نظاماً واحداً وحزياً واحداً فى الحكومة وفى البرلمان. هذه الكلمات جاءت على لسان نفس 
الرجل الذى تفاخر ذات يوم فى أعقاب الانتخابات المزيفة التى جرت منذ سنوات قليلة قبل 
خطابه» بالدعم الشعبى الواسع الذى لقيه فى الانتخابات الرئاسية من قوى خارج حزبه. 
فأين مكان هذه القوى التى فاخر البشير بدعمها له فى دولة الحزب الواحد المهيمن على 
البرلمان والحكومة؟ مضى البشير أيضاً يسرد اتهاماته للمؤتمر الوطنى والبرلمان قائلاً: 
"عندما يقرر رئيس الجمهورية عقد اجتماع مع أعضاء البرلمان» يرفض البرلمان الطلب. 
وعندما يريد تسليم رسالة إلى رئيس تلك المؤسسة يبقى طلبه بلا إجابة» بل يعلن رئيسها فى 
مؤتمر صحفى أنه ليس ملزماً بالتنسيق مع السلطة التنفيذية فى أى أمر يعنيها. أما عن 
المؤتمر الوطنى فقد نعى عليه البشير ما أسماه الممارسات التى أسفرت عن زعزعة سلطة 
وهيبة الحكومة» وأردف مهدداً: لن يكون هناك تسامح بعد اليوم مع أى قوة معادية.(9"١)‏ 
ختم البشير رسالته بالتأكيد على أربعة أهداف: مقاومة التهديدات الخارجية المتوهمة» 
حتمية وقف الحربء إنهاء الازدواجية داخل هياكل السلطة؛ والاستمرار فى عملية المصالحة 
الوطنية . ولاشك فى أن رئيس النظام كان سيكسب تأييداً قوياً لو أعلن أن مهمته الأولى هى 
إنهاء الحرب وإتمام المصالحة الوطنية. فالحديث عن التهديدات الخارجية أبطولة من 
أباطيل النظام الكثرء أما إدمان الوهم حول الحفاظ على هيبة النظام بتكريس سلطاته فينسقف 
كل محاولات إنهاء الحرب وتحقيق المصالحة الوطنية من أساسها. 


6025 


رد فعل التجمع الوطنى على رسالة البشير كان سلبيأ» كما يتوقع أى مراقب حصيف. 
وكان رد الفعل سينحو للإيجابية لو حدث تغيير سياسى جوهرى فى طبيعة النظامء وليس 
فقط مجرد تغيير حرس فى القصر. اتسم رد فعل الحركة الشعبية أيضأ بالحذر والتمنع» ففى 
بيان نشر فى ١7‏ كانون أول/ ديسمبر قال قرنق: إن انقلاب البشير على الترابى فى 
5 يشكل أزمة داخلية للحزب الحاكمء ولا يمثل أى تغيير فى النظام . قال أيضاً 
إن مجموعة البشير ‏ على عثمان التى قادت الانقلاب ريما تكون أكثر صلابة وعنادا فى 
تطرفها من المجموعة التى أزيحت. رغم ذلك» رحبت الحركة بأحداث ١191/17/17‏ 
لأنها اننقلت بصراع الشعب السودانى إلى آفاق جديدة وإيجابية. قد يكون هذا التحليل 
صحيحاً إلى حد ماء ولكن» بجانب العنصر الشخصىء هناك ما يحمل المرء على الظن بأن 
للصراع أيضآ أبعاده السياسية. أهاب قائد الحركة أيضاً بالشعب السودانى لكيما يظل يقظأء 
ويحسن استغلال أزمة الجبهة الداخلية لإحداث تغيير تام وحقيقى فى البلاد» كما ناشد 
الجيش للتحرك ضد النظام الحاكم لأن الجيشء على حد قوله» يعلم أن ما كان مستحيلا قبل 
ا أصبح الآن فى حكم الممكن. وفى الختام أعلن زعيم الحركة أن الجيش 
الشعبى والقيادة العسكرية الموحدة لقوات التجمع سوف تقوم بالاتصالات المناسبة» وتراقب 
الموقف عن كثبء لأن ذلك التصدع هو بداية النهاية لذلك النظام المغلق. فأى شرخ يحدث 
داخل طائفة دينية مغلقة يقود حتمأً إلى التمزق والانفجار الداخلى. حقيقة» لقد جاء الأوان 
لأن تذوق الجبهة مرارة الشقاق؛ بعد أن قضت عقدا من الزمان تبث فيه الفتن لتمزيق 
القوى السياسية الأخرى. 

بعد حل البرلمان وهزيمته داخل المؤتمر الوطنىء» تحرك الترابى فوراً لتأسيس حزيه» 
المؤتمر الوطنى الشعبى. لم ينسب ذلك الحزب نفسه للإسلام» كما حدث من قبل بالنسبة 
للمؤتمر الوطنى؛ رغم وجود كم هائل من الشعارات والبلاغة الإسلامية فى خطابه 
السياسى . هذه المراوغة ليست جديدة» وللترابى فيها شروح. ففى إحدى زياراته الرسمية 
ليوغندا للمشاركة فى عيد استقلالها كممثل لحكومة السودان؛ قدم الرئيس موسيفينى الترابى 
بالقول: أقدم لكم ممثل السودان» وقبل هذا رئيس حزب سياسى فى البلد الجارلن يسمح لى 


6026 


بأن أصبح عضواً فيه بحكم ديانتى. رد الترابى على الرئيس اليوغندى مبيناً أن الجبهة 
القومية الإسلامية قد قدمت الانتماء القومى على الدينى فى اسمها لأنها نظام مفتوح. ولكن 
هذه المرةء تفوق الترابى على نفسه عندما شرع فى تفسير الأسباب التى أدت به إلى تكوين 
حزيه. قال إن مهمة الحزب الأولى هى محارية الديكتاتورية العسكرية» واستعادة السلطة 
للشعبء ووقف الانحراف تجاه العلمانية.("'') وبصرف النظر عما يعنيه تعبير العلمانية» 
كيف يمكن للمرء أن يدعو للديموقراطية والامتثال لإرادة الشعب» فى ذات الوقت الذى 
يضع فيه شروطأ قبلية للخيارات المتوفرة للشعب؛ صاحب الإرادة . ذهب الترابى» من بعدء 
للكشف عن دوره فى تأمين الدعم المادى للنظام الحاكم من الحركة الإسلامية العالمية 
ومن العراقء ومن أنور إبراهيم نائب رئيس الوزراء الماليزى السابقء» وأجلى على التاس 
كيف أن تلك الأموال قد وجهت لإنتاج البترول ودعم صناعة السلاح.("") إلى تلك ' 
التصريحات أضاف على الحاجء نائب الترابىء اتهاماً جديداً لزملائه السابقين فى معسكر 
البشير بإساءة استغلال العائد من مبيعات البترول(7'')» وتحداهم بأن يكشفوا للشعب 
السودانى عن كيف أنفقت تلك الأموال.(5؟١)‏ 

بهذا المستوى من الخلافء وصل الإسلامويون إلى نهاية الطريقء ولكنهم آثروا التغاقل 
عن محنتهمء مع أن تلك المحنة ألقت بظلالها على الحركات الإسلامية الأخرى فى شتى 
أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال» نشرت مجلة أسبوعية قاهرية وثيقة تتضمن تقويماً داخلياً 
صدر عن الإخوان المسلمين فى الأردن» أرجعوا فيها فشل التجربة السودانية إلى إدمان 
السلطةء وغياب آلية للتحول السلمى للحكم. وذكرت الصحيفة تأكيد الإسلاميين الأردنيين 
على أن الانقسام داخل صفوف الجبهة الإسلامية بالسودان سوف يكون له أكبر الأثر على 
الحركة الإسلامية ككل('*'). فشْل الإسلامويين فى إصلاح ذات البين بين الإخوة/ الأعداء 
فى السودان» وإصرار الترابى على مواقفه المبدئية التى تبناها فى البرلمان» دفعا عصبة 
البشير إلى حيلة ساذجة لإضفاء ظلال الشرعية الشعبية على نظامهمء ولربما حسبوا أن تلك 
الحيلة غير البالغة ستنطلى أيضاً على التجمع المعارض. دعا البشير إلى إجراء انتخابات 
رئاسية مبكرة وتحدى جميع الأحزاب بما فيها حزب الترابى» منافسته فى الانتخابات. 


6027 


وعندما أبلغه بعض الحادبين على نجاح المصالحة الوطنية أن إجراء انتخابات رئاسية» فى 
الوقت الذى يتداول فيه النظام ومعارضوه الحديث حول قيام فترة انتقالية تشارك فيها 
المعارضةء عمل استباقى لا مبرر له» أصر البشير على رأيه. وطبيعى أن تقاطع جميع 
الأحزاب تلك الانتخابات الزائفة الهزلية عندما عقد البشير العزم على إجرائها. وكما كان 
متوقعاء أعيد انتخاب البشيرء وكانت براعة النظام فى التزييف مذهلة. أبرزت نتائج 
الانتخابات المزعومة فوز البشير بسبعة ملايين وسبعمائة وخمسين الف صوتء وإن عرفنا 
أن عدد الناخبين الذين شاركوا فى التصويت فى انتخابات ١185‏ (بمن فيهم من صوت 
للجبهة) لم يتجاوزن 0,4١7,757‏ ناخبأء وإن عرفنا أيضاً أن الذين صوتوا لصالح الجبهة فى 
تلك الانتخابات لم يتجاوزوا السبعمائة ألف. سندرك حجم الزيف والكذب. ولكيلا نرمى 
النظام بالكذب والتزويرء فربما أفلح إمام الجهاد فى تسخير الجن للإدلاء بأصواتهم: كما 
سخرت القرود من قيل لدعم المجهوذ الحربى فى الجدوب: 

لم يكتف البشير باستغلال صراعه مع الترابى داخلياً للحصول على شرعية ظنون؛ بل 
انتقل بأحابيله للخارج ليوحى للعالمين بأن النظام قد عوفى من أدوائه بعزل الترابى . وبما أن 
الترابى كان هو الرأس المدبر والعقل المفكر للجبهة, لم يعسر كثيراً على البشير إقناع الناس 
بهذه الأبطولة. وهى أبطولة لأن بعض الدمى التى كان يحركها الترابى قد ششبت عن الطوق 
وأصبحت لها أجندتها الخاصة» وهى أجندة دموية شريرة كما أبانت الأحداث من قبل. كانت 
مصر والبلاد العربية هم أول من ابتلع الطعم لا حب فى على ولكن بغضاً فى معاوية(!؟'), 
فشجعت البشير على المزيد من تلك الخطوات. وبالطبع استشاط الترابى غضبأء واتهم البشير 
بالديكتاتورية» وكأن الذى كان يفعله البشير خلال عشر سنوات كان هو إقامة الحق وبسط 
العدل. حذّْر الترابى أيضاً معارضى البشير بقوله كيف يمكن لرجل خان الذين ارتقوا به إلى 
سدة الحكم أن يكون صادقاً فى تعاونه مع من عارضوه منذ البداية.('4١)‏ 

من بعدء اندفع الترابى صاحب الإسهامات العديدة فى المجال الفكرى يعيد صوغ أفكاره 
لتتوافق مع الواقع السياسى المستجد. فقد دعاء مثلا» إلى إقامة ديموقراطية بلا حدود لأن الله 
سن الحرية للإنسان ليستمتع بها إلى حد الكفرء أو ليصل طوع إرادته إلى الإيمان 


628 


بالغيب.('*') هل يجوز عقلاً أن يكون صاحب هذه الفتوى هو نفس الرجل الذى صاغ فى 
عام ١988‏ المادة”7١‏ من قانون العقوبات السودانى والتى نصت على عقوبة الإعدام للمرتد 
عن إسلامه؟. ولكن» تلك لم تكن هى المرة الأولى التى تتناقض فيها آراء الشيخ فى هذا 
الموضوع؛ ويصادم بعضها بعضاً. ففى عام ١190‏ ذكر الشيخ فى حديث مع كاتب أمريكى 
أن التحول عن الدين الإسلامى لا يعد ارتدادا.(؛*') ولا شك فى أن الترابى وجد ضالته فى 
آيات القرآن التى تتسم بعدة ظلال توحى بالتناقضء كما أشرنا من قبل. فالقرآن يحضء؛ من 
جانبء على الجهاد ضد الكفارء ولكنه يأمر النبى , من جانب آخرء أن يفسح صدره لغير 
المؤمنين: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف »)11/١8‏ ويقول 
عن المرتدين» فى آية أخرى» يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله 
بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا 
يخافون لومة لائم» ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم» (المائدة ©/ 54) . ليت 
الشيخ المجتهد فطن فى عام ١184‏ إلى ما فطن إليه بعد سبعة أعوام. شجب الترابى أيضاً 
الحرب التى تدور فى الجنوب بحسبانها حرب بغاة لا جهاداً فى سبيل الله» كما نعى على 
البشير تجنيده القسرى للشباب متسائلا: "أين جيشك؟7**') تلك الفتاوى "السياسية أذهلت. 
فيما نظن» من بقى من الدبابين والمشائين والمرابطين الموعودين بفردوس مقيم وحور عين» 
قبل أن تذهل الخصوم. فرأى الخصوم قد استقر منذ زمان على أن فقه الضرورة» لا الشريعة 
(أيأ كان معناها) » هو مصدر التشريع الأساسى فى دولة الجبهة. 

من جانبهاء لمست الحركة الشعبية فى تصريحات الترابى ظاهرة صحية؛ إن كان حقأ 
يعنى ما يقول. وكان فى تقديرها أن الرجل يملك ما لا يملكه بقية صحبه: قرون الاستشعار 
التى تجعله يدرك حالة الانسداد السياسى التى قد تقوض كل ما بناه خلال أربعة عقود من 
الزمان. ففى مؤتمر صحفى (78 تشرين أول- أكتوبر) كشف الترابى عن مفاوضات 
تجرى بينه وبين الحركة الشعبية لأن قرئق» فى تقديره» رجل اتحادى التوجه يقود حرباً 
عادلة من أجل مطالب مشروعة. لم تقابل الحركة الشعبية تصريح الترابى بالصمت بل 
ردت عليه فى بيان يتكون من سبع نقاط. قال البيان: 


629 


١‏ ظلت الحركة فى مفاوضات مستمرة مع جميع الحكومات المعاصرة فى الخرطوم 
بدءاً من نميرى وإلى البشير. وعقب إعلان كوكادام واتفاق الميرغنى _ قرنق تكللت 
مساعى الحوار بتأسيس التجمع الوطنىء والذى يمثل أمل السودان الوحيد لتحقيق الوحدة 
الوطنية . 

١‏ - تفاوضت الحركة مع قيادة الجبهة يوم أن كانت جماعة الترابى جزءاً لا يتجزأ منها. 

"'- بالرغم من وقوع الانقسام فى صفوف الجبهة استمرت الحركة فى التفاوض مع 
جناح البشيرء وليس هناك ما يمنع الحركة من أن تحاور أيضاً مجموعة الترابى» مادام 
الهدف من الحوار هو الوصول إلى تسوية سياسية شاملة لازمة السودان. 

4 - تصريحات الترابى الجديدة حول "الجهادء وتفهمه للأهداف الوحدوية للحركة تبين 
بوضوح أن هناك موقفاً إيجابياً قابلاً للتطور. 

© تعتقد اتحركة بضرورة التخلص من النظام الشمولى الحالى» وإحلال نظام آخر محله 
يحترم الاختلاف العرقىء والدينى؛ والثقافى فى السودان. فى ذات الوقت تعترف الحركة 
بالتيار الإسلامى السياسى» وهى على استعداد للحوار معه بهدف الوصول إلى تحقيق إجماع 
وطنى. 

١‏ - لقد عاهدت الحركة نفسها على تحقيق وحدة السودان على أسس جديدة» وضرورة 
محاسبة أى جماعة يثبت تورطها فى ممارسات خاطئة منذ عام ١15657‏ ؛ وبوجه خاص 
المحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت إبان حكم الجبهة. وفى هذا تسترشد 
الحركة بقرارات التجمع. 

- ضرورة إيقاف ما يسمى بالمشروع الحضارىء لأن فى استمراره خطراً على وحدة 
السودان» وزعزعة لاستقرار المنطقة وسلام العالم.(7؟١)‏ 

م0 


030 


خلاصة 

استولت الجبهة على مقاليد السلطة فى عام »١545‏ وهى تدعى أنها ما جاءت إلا لإنقاذ 
السودان من الهرج والفوضى والخراب الذى سببته الأحزاب. ولكن» بعد مضى عشر سنوات 
من حكمهاء أصبح "الإنقاذ لعنة. على عكس إمامة نميرى لم يكن "حكم الإنقاذ حلقة فى 
تاريخ السودان الحديث؛ بل فترة لهدم كل ما ورثه السودانيون منذ الاستقلال. فخلال عقد 
كامل من الزمان كرس النظام كل جهده لتدمير المؤسسات القائمة» وطمس القيم الموروثة» 
وإبدالها ب شىء جديد اسمه المشروع الحضارى. نقول شيئأء إذ يفتقد المشروع المزعوم كل 
ما تتمتع به المشروعات من تهيئة ورصانة وإستحكام» كما هو ليس من السمو الحضارى فى 
شىء. لهذا لا يمثل ذلك المشروع ثورة ثقافية» بل ثورة مضادة ليس فقط لمواريث السودان 
الحضارية» بل للحضارة الإنسانية كلها. وبسبب من هذا عنونا هذا الفصل بتعبير دامغ: 
عشر سنوات خارج القرن العشرين. 

انهماك الجبهة الدائم فى الجهاد ضد جنوب السودان؛ وفى أمن النظام كان له أثرمدمر 
على الاقتصاد السودانى. فمشروع الجبهة الاقتصادى الأول (قبل وبعد إنتاج البترول) لم 
يكن هو بناء السودان» بل كان تمويل الحرب. ففى عام »١195‏ مثلاً» وصل حجم التضخم 
فى السودان إلى »/77١‏ كما بلغ حجم الدين العام ٠١‏ مليار دولار أمريكى(!؟') . وكان لتلك 
الكارثة الاقتصادية آثار مدمرة على السودان كله» وعلى الجنوب بصفة خاصة. وبوجه عام 
أخذ النظام فى سلب ثروات الوطن بحماسة منقطعة النظيرء فعلى سبيل المثال لم يعد باب 
العقود الحكومية مفتوحاً أمام العطاءات» بل كانت العقود تتم مباشرة مع رجال الأعمال 
الذين يرضى عنهم الحزب الحاكم. وكونت الجبهة شبكتها الاقتصادية الخاصة» وأعفت 
المؤسسات التى تنتظمها تلك الشبكة من جميع الضرائبء بما فى ذلك الإعفاء من الرسوم 
الجمركية.(**') وبذا أصبح الكسب غير المشروع سياسة حكومية ثابتة» كما انهارت قواعد 
التنافس التجارى الشريفء وحرمت الخزينة العامة من مورد من أهم مواردها. وهكذا أصبح 
الدين والنهب متلازمين (نا55ةم 033)ء فى حين ظل الجبهويونء يتظاهرون بالورعء» ولا 
يرون ثمة تناقضاً بين ذلك الورع وتلك الممارسات التى يندى لها الجبين. 


631 


فى تلك البيئة غير الملائمة اضطر بعض رجال الأعمال المتمرسين إلى حزم أمتعة 
ومغادرة بلادهم بعد إستنزاف جميع أصولهم المالية» إلى مرعى أكثر اخضراراًء فى حين 
بقيت قلة منهم قانعة بالفتات المتساقط من مائدة الجبهة. جماعة أخرى حملت نفسها على 
اللعب وفق الأحكام التى قررها النظام الحاكم فانغمست فى فساده . وهكذا ساء الحال إلى الحد 
الذى أصبح معه الغنى فقيراً» والفقير على حافة التضور جوعاً. تلك الصورة تبدلت قليلاً بعد 
إنتاج النفط» دون تأثير كبير على القاعدة الاقتصادية. ولكن» رغم هذه الصورة المخيفة 
للأوضاع الاقتصادية» ما برح الجبهويون يصورون السودان فى عهدهم» على أنه جنة الله فى 
الأرض. فى تلك الجنة الأرضية لم يستح النظام من ترك مهمة إطعام شعب الله لمنظمات 
مثل كاريتاسء وأكسفام» والمعونة المسيحية النرويجية. كما دابواء كلما ضاق الحال بالعباد» 
على وصف المجاعات التى استشرت بأنها ابتلاء من الله؛ بدلاً من معالجتها ككوارث طبيعية» 
أو فى أغلب الأحيان كوارث من صنع الإنسان. هذا أمر يدعو للأسىء إذ كان البعض يتوقع 
من كوادر الجبهة التى نالت حظأ وافراً من التعليم» وأخذت على عاتقها مهمة تغيير العالم إلى 
الأفضلء أن تكون أكثر دراية بالعناصر الاجتماعية الاقتصادية التى تفرز ظواهر مادية معينة؛ 
فالاقتصاد لا تحكمه الخوارق» بل تتحكم فيه الظواهر الاجتماعية؛ ومصائح الأفراد 
والجماعات؛ والسياسات التى تعبر عنء أو تحمى تلك المصالح. 

كل هذه ذرائع» ولا نحسب أن الترابى نفسه كان يؤمن بهاء فقد شهدناه يقول فى لقاءاته 
مع الدوائر الأكاديمية فى أوروبا وأمريكا أن حقوق الإنسان لا تنتهك؛ وأن الجهاد هو بالقطع 
عمل دفاعىء وأن لا تمييز بين النساء والرجال فى سودان الجبهة:؛ وأن الإسلام يتسم 
بسماحة تترك فضاء واسعاً للتعايش بين أهله وبين أهل الديانات الأخرى. وبغض النظر عن 
تعريته الفكرية لنفسه بترداد هذه الهرهرة (الضحك استهزاء بالحق)» لأناس يعرف جيداآً 
أنهم يملكون القدرة على كشف الأستارء فإن الترابى أيضاً قد قوض بالفعل مشروعه 
الحضارى. فعندما يوحى للعالم الغربى أنه يحترم كافة المبادئ والشعارات والقيم المعيارية 
التى يرفعها الغرب. وهو العليم بأن تلك الشعارات والقيم تتنافى مع السياسات التى يتبعها 


صم 


نظام حكمه» فكأنا به يستحى من حقيقة مشروعه الحضارى. 


6032 


ممارسة الترابى للسلطة» شأنه فى ذلك شأن كافة الأيديولوجيين» كانت مخيبة ليس فقط 
لآمال أنصارهء بل أيضاً لمن كانوا يكنون له عميق الاحترام. افتقد الشيخ الحكمة (والحكمة 
ضالة المؤمن)؛ ولم يحسن الحسبة فى تدبير الأمور عندما آلت إليه مقاليد السلطة. فقد 
أوهنتء مثلاً» المغامرات الخارجية العابثة (سواء كان هو الذى بدأها أو تغاضى بالسكوت 
عنها) النظام الحاكم وأدت فى النهاية إلى تركيع السودان بأسرهء بل حولته إلى دولة 
منبوذة عالمياً وإقليمياً. وكان جلياً أن الترابى وصحبه قد اعتراهم يقين بأنهم قادرون على 
أن يصبحوا نمور الساحة» رغم نصيحة عدد من الجماعات والأصدقاء لهم فى الغرب 
والشرق بالكف عن تلك العنجهية. لم يدركواء ولم يسعوا لأن يدركواء أن الخروج الجائر عن 
الشرعية لابد أن يكون له ثمن لم يكن السودان قادراً على دفعهء ولا راغباً فى ذلك. وفيما 
يبدوء أصبحت تلك الأوهام يقيناً عن حواريى الترابى» فعلى سبيل المثال قال غازى صلاح 
الدين لطلاب جامعة الخرطوم:عندما انفتحنا على العالم وضح لنا أننا أكفاء للقوى التى 
تهيمن على العالم» وفى مقدورنا أن نتحداهم بأفكارنا ويمكن أن نكون ندا قوياً لدول 
الاستكبار(؟؟') ما هى هذه الأفكار فى الاقتصادء وفى الهندسة» وفى الصناعة» وفى 
تكنولوجيا المعلوماتء بل وفى الإعلام والفنون والآداب التى كان يطمح غازى بأن يجعل 
بها سودان الجبهة نداً لدول الاستكبار؟ هذه أوهام عليه» وعندما تقترن معها السلطة 
الأرضية الوائقة من نفسهاء والادعاءات ذات الطابع السماوى» ينمحى الخط الفاصل بين 
العجرفة وجنون العظمة . لهذا تشكك الكثيرون فى تحول الترابى الجديد نحو الديموقراطية» 
بل ذهب بعضهم إلى القول بأن هناك دالة عكسية فى هذا التحولء بمعنى أن الحماسة التى 
يدعو بها للديموقراطية اليوم» تتناسب عكسياً مع عدم إيمانه بها. فى هذا الحكم ظلم للرجلء 
لأنه مهما كانت درجة الخلاف معه. أو الاستنكار للسياسات التى رعاها منذ أن سطت 
الجبهة على الحكمء لا بد من الاعتراف أن له من الذكاء ما يجعله يدرك انسداد الطريق 
أمام الحركة الإسلامية إن سارت الأمور على النحو الذى ظلت تسير به فى العشر سنوات 
الماضية . هذا الانسداد إن استمرء بعد كل ما صنعته الجبهة بالسودانء لا يقود إلا إلى البيود. 
مصداقية الترابى اليوم تتوقف على قدرته على الاعتراف بأن الطريق الوحيد المفتوح 
أمام التيار الإسلامى هو أن يعود للسياسة بحجمه الطبيعى. من ناحيته؛ نسب البشيرء كافة 
3 


جرائم النظام ومغامراته الفاشلة إلى الترابى» ولكن بعد مرور أكشر من عامين على الإطاحة 
بالترابى من مؤسسات الحزب الحاكم والسلطة؛ ظل النظام يغوص فى وحل الظلم والجور. 
وكان مقرر لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المدتحدة هو أول من أعلن ذلك. ففى البدء 
رفض النظام السماح لمقرر حقوق الإنسان» جيرهارت بوم» مقابلة الترابى بوصفه سجينآ 
سياسياً. فى ذات الوقت تعرض ناشط مرموق فى ميدان حقوق الإنسان (غازى سليمان) . 
إلى تعذيب أعاد إلى الأذهان أسوأ فترات الحكم قبحاً: فترة التعذيب فى بيوت الأشباح.('19) 
ويكهريكن ولحداهن اكيس ناشطى حقوق الإنسان لمثل هذه المعاملة القاسية» كانت رسالة 
النظام واضحة: لاا حصانة فى ظل هذا النظام لأحد من الحيس غير القانونى والتعذيب. 
ولهذا كان جيرهارت بوم محقآ عندما أعلن بأن هناك فجوة فاغرة بين السياسات المعلنة 
والواقع الملموس فى السودان.('*') لهذا أصبحت أزمة البشير أكثر تعقيداً من أزمة الشيخ؛ 
ليس فقط لأنه هو الحاكم المباشرء وإنما أيضاً لأن العنافة التى ظلت تشو ب أسلوب حكمه بعد 
إقصاء الترابى كذبت كل الدعاوى التى حمل فيها شيخه المسئولية الكاملة عن أوزار النظام 
فى الماضى . 

مضى النظام أيضاً يخادع النفس بأن فى مقدوره إنهاء الحرب وتحقيق المصالحة 
الوطنية» بل وتوحيد السودان» مع استمرار نفس السياسات القمعية: الحرب» الكبت الداخلى 
للمعارضينء الرقابة على الصحفء مضايقة القساوسة المسيحيين» استغلال مبادرات السلام 
لتقويض الجماعات المعارضة لا من أجل تحقيق سلام عادل. ومن الواضح أن النظام لم 
يدرك أن هامش المناورة المتاح له قد أصبح ضيقاًء خاصة إزاء تحدى الترابى السافرله؛ 
وضغوط العالم من حوله وعلى رأسها ضغوط الولايات المتحدة . فسجن الشيخ» مثلا لا يعبر 
عن قوة بقدرء ما يعكس ضعفاً كامناً. ولعل القيصر السودانى قد فعل مع راسبوتينه كل ما 
فعله قيصر روسيا بلا جدوى. وكما يروى التاريخ لجأ أعداء راسبوتين أولاً إلى رميه 
بالرصاص فنجى من رميهم. ثم دسوا له سم السيانايد فى الطعام ولم يفلح فى قتله» وانتهى 
بهم الأمر إلى شد يديه من خلفه بالكتاف وإغراقه فى نهر المالايا نيركا. تلك مغامرة لا 
نحسب أن أجهزة الأمن المهزومة داخلياً بقادرة على القيام بها. 


6034 


الطريق الوحيد الذى بقى للنظام للخلاص من أزماته هوالتراجع عن الهرج الذى بدأهء 
وتقليم أظافر الطغاة الصغار الذين يسيطرون على مفاصله. أخطأ النظام الحساب أيضاء 
عندما احتسب أن كل ما يحتاج له هو الوقت لتهدئة الأعصاب الثائرة» ولخداع العالم من 
جديدء فللعالم الذى يتمنون خداعه سجلات سميكة لكل الجرائم التى ارتكبت فى عقد 
التسعينيات» فيها أسماء الجناة» وفيها مواقع الجناية» وفيها تواريخها وضحاياها. ذلك هو 
سيف ديموقليس الذى سيظل مسلطأً على رؤوس المعاندين من الطغاة الصغار. حاد نظام 
الجبهة أيضاً عن جادة الطريق عندما ارتهن بقاءه بما سيدره النفط من عائدات» فالنفط 
سلعة متفجرة» إن سلم من حريق لهيبها فى الحربء فلن يسلم من نيران الضغوط الخارجية 
عليه وعلى من يعينه على استخراجها. أخطر من كل هذا أن النظام لم يدرك بعد أن بقاءه 
لأى فترة زمنية يريدهاء لن يعينه على عمل أى شىء بالهيكل العظمى لبلد كان يعرف 
بالسودان. هذا أمرء لو إجتمع كل أهل السودان لتحقيقه» لما نجحوا إلا بعون من الله تعالى. 
الطريق الوحيد لخلاص النظام هو اقتفاء الخطوات التى قطعها ليحول البلاد إلى هيكل 
عظمىء إن كان إنقاذ السودان هو حقاً مبتغاه . ولعل بداية العود هى بروتوكول ما شاكوس 
الإطارى الذى لايرفضهء فيما نعلم» إلا مجرمو القانون العام الذين يهابون المحاسبة» 
ويخشون الكشف عن هياكل عظمية أخرى تكتظ بها خزاناتهم» ولكن هيهات. 

مصص 


035 


هوام وإحالات 





.1996 .10 رطععداة ,دعكا علوملا بجع71 ,كل بوعامك1 .36 معسيدل (1) 
(2) الدكتور مراد وهبة» ماذا حدث للإمام الصدر؟ مجلة المصور ١5‏ فبراير؟١٠7.‏ 
(3) أطلق السودانيون هذا الاسم على المنازل المعزولة (وبعضها كان فى الأحياء السكنية) التى 
اتخذها النظام مأوى للمعتقلين السياسيين» وكان يجرى تعذيبهم فيها. 
(4) عند إكمال مهمته تبعه ليوناردو فرانكو (قانونى من الأرجنتين)» ثم قيرهارت باوم (وزير 
سابق للداخلية فى ألمانيا) . 
.4 2 ,1993 ,لالطموعوعة لهوعدع لآآنا عطا 0 رممع8 ,مرزظ (5) 
(6) ذكر بيرو أنه نصح سروراً قبل اعتقاله بأن يكون على حذرء وبما أن الحين قد يسبق جهد 
الحريصء فقد تم اعتقال سرور قبل أن يأخذ حذرهء ولقى فى السجن ما لقى من أصناف 
العذاب .215 ,1993 ,80 
(7) تفص المادة على أن : 
- كل من يأتى فى مكان عام فعلاً أو سلوكاً فاضحاً مخلا بالآداب العامة؛ أو يتزيا بزى فاضح» 
أو مخل بالآداب العامة» أو يسبب مضايقة للشعور العام يعاقب بالجلد بما لا يتجاوز أربعين جلدة» أو 
بالغرامة» أو بالعقوبتين. 
- يعد الفعل مخلا بالآداب العامة إذا كان كذلك فى معيار الدين الذى يعتنقه الفاعل؛ أو عرف 
البلد الذى يقع فيه الفعل. ولهذا فإن نجيت السودانية غير المسلمة» أو السائحة الأجنبية» لخروجها 
حاسرة الرأس أو مرتدية سروالا من الجينز بسبب عدم اعتناقها للإسلام؛ فلن تنجو من الذى يتريبص 
بها باعتبار أن ذلك اللبس يخل بالآداب لتعارضه مع عرف البلد الذى وقع فيه الفعل. 
2 ,13 نإلنة معارولا بعالا ع1 رمدقلن5 درهذا ععااعآا ,تعمصدمظ8 لمم ادع (8) 
(9) «وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم» (الأعراف 47/7)؛ <فقال 
إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب» (ص7/58”) ؛ ومن بيننا وبينك 
حجاب فاعمل إننا عاملون» ( فصلت ١5/4)؛‏ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء 


6036 


حجاب» (الشورى )5١/47‏ ؛ #جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورأ» ( الإسراء 
0/7 ؛ «فاتخذت من دونهم حجابأً فأرسلنا إليها روحنا » (مريم .)17/١5‏ 

(10) فى المعاجم احتجب: استترء وحجب بينهما حالء ومنها الحجاب الحاجزء أى الذى يفصل 
بين الصدر والبطن. أما الحجب شرعاً فهو منع الشخص عن ميراثه إما كلية أوحجب نقصانء أى 
من سهم أكبر فى الورثة إلى سهم أدنى. 

(!1) رشيد رضاء حقوق النساء فى الإسلام» المكتب الإسلامى بيروت» ,١985‏ ص ؟8١.‏ 

(12)محمد سعيد العشماوى حقيقة الحجاب وحجية الحديث» مطبوعات روزاليوسف. 

(13) الأهرام» 7/ يونيو/ حزيران .7٠١7‏ 

(14) إقبال بركة؛ الحجاب» رؤية عصرية» دار روز اليوسف. 

(15) الشرق الأوسط 77 نوفمبر / تشرين ثان 7٠١7‏ . 

(16) حوارات مع الان شيفالييه. 

(17) سونا (وكالة أنباء السودان)» ١4‏ يناير ٠٠١١‏ . وقد ظلت منظمة اليونيسفء خاصة نائب 
مديرهاء السيدة كارين شان بوء تحث البشير وحكومته على التصديق على الاتفاقية . 

(18) ورد ذلك النقد فى الفقرات ١7١757-55‏ من تقرير بيرو للجمعية العامة 1994 .15©114/نا . 

(19) الخرطوم ؟ فبراير ١954‏ . 

4 ,26 عمدلا رادم لماع متطكة/لا (20) 

(21) تقول الآية إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فساداً أن يقتلوا أو 
يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى 
الآخرة عذاب عظيم. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم» (المائدة 
74) . وكان الرسول قد أمر بقطع أيدى وأرجل لصوص اعتدوا على ماشيته وقتلوا راعيها. 
وفى الآية عتاب من الله لرسوله إذ أن الرسول كان قد أمر أيضاً بسمل عيون اللصوصء فأسقطت 
الآية السمل . كما كان الله رحيماً بعباده إذ جعل التوبة تسقط الحد. 

(22) محمد سعيد العشماوى : ضمير العصر. 

بطتتاعع06آ ,اللاو انقتل1 ,رععتاذناآ 01 لماوتصنا/1 ,64 /نناع ممم 8/13 0/خلانا (23) 


60_77 


(24) فى واحدة من نصائحه للأمير قال ميكافيللى: الناس (الخصوم) يجب أن يسحقوا لأن فى 
مقدورهم الاقتصاص لأنفسهم من الأذى البسيطء أما الجسيم فلن يترك لهم حولاً أوقدرة على 


الاقتصاص. 
(25) محاضرة عن الإسلام» الديموقراطية»ء الدولة» الغرب» مؤسسة دراسات الإسلام والعالم» 
جامعة فلوريداء تاميا؟599١.‏ 


(26) قاد الشيخ محمود شلتوت حواراً حضاريا مع الإمام تقى الدين القمى» أبرز علماء الشيعة فى 
زمانه» للتوفيق بين المذهبين . وقد تكونت لجنة لهذا الغرض باسم لجنة التوفيق بين المذاهب ضمت 
بين أعضائها شيخ الأزهرء عبد المجيد سليم. 

(27) فى شهر أكتوبر/ تشرين أول 7٠٠١7‏ حكم المتشددون على أغاجيرى بالإعدام بتهمة الارتداد 
(السيف المسلط على راس كل صاحب رآأى مناهض للغلواء والتشدد باسم الدين) » ورفض أغاجيرى 
استكناف الحكم وكأنه أراد أن يعطى كأس الموت "شفتى محب يشتهى التقبيلا» كما فعل سقراط. 
وإزاء هذا الموقف الشريفء وبتدخل من خاتمى» كلف محامى المتهم بالاستئناف ضد الحكم تمهيداً 
لإلغائه. وجاء حديث أغا جيرى الذى أثار المحافظين فى خطاب له بمناسبة الذكرى الخامسة 
والعشرين لوفاة المجدد على شريعتىء الأب الروحى للحركات الإصلاحية الإسلامية. 

(28) الشرق الأوسط " يناير7١٠7.‏ 

,3 طءة81 ,عستامدع 1/12 دع2: 11 ليهلا سعلط ,لإعلاوء8 اازظ (29) 

(30) باستثناء منطقة البجة فى شرق السودانء» تكاد كل قبائل السودان الشمالى تمارس الشرب 
مثل العرقى(العرق) فى الشمال والسودان الوسيط وهو شراب يقطر من الذرة الرفيعة أو من التمور 
(وهذا أجودها)؛ كما يستطيب أهل الغرب (دارفور وكردفان) وبقية المناطق الريفية فى السودان 
الوسيط شراب المريسه (مشروب مخمر من الذرة) . وفى كثير من الأحيان تعتبر المريسة غذاء رئيساً 
لأهل تلك المناطق. 

(31) شرب المريسه أمر متعارف بين فقهاء الريف منذ العهد السنارى وحتى هذا الزمان فى 
بعض أرياف السودان. ويروى عن الشيخ الحكيم ابن سينا الذى كان يتأهب كل مساء لمجالس الشرب 
بعد صلاة العشاء قوله: حرمت الخمر على الدهماء؛ وأحلت لأبى محمد. 

(32) تبيح قبائل البقارة للمتحابين من البنين والبنات مضاجعة بعضهم البعض داخل دورهم عند 
بلوغهم الحلم» شريطة أن لا تحبل الفتاة من فتاها. وفى الغالب الأعم ينتهى الأمر بالاثنين إلى 


6038 


الزواج . ولريما رأى البقارة فى تلك العادة حماية للمجتمع» وتمكيناً للفتى من أن يتعرف على فتاته» 
وللفتاة أن تتعرف على فتاهاء فى خلوة طاهرة» وهى ليست طاهرة فى كل الأحيان. 

(33) الخرطومء 8 نوفمبر 7٠٠١‏ 

(34) يحتفى الأقباط فى السودان ومصر كل عام بمولد مار جرجس (حقيقة يوم موته أى مولده 
فى الحياة الخالدة) » وتشارك فى ذلك الاحتفال بعض نساء المسلمين ويقدمن النذور طمعاً فى الولادة 
أو الشفاء . 


طاعتدعدع1 صوءااطنامع1 عكناه11 ,عتداعد177 ععباوع,عء20ل] له لاكممدء؟ وو ععيوظ لو15 (35) 
2 صقبمطء ,كع لاتأمأاوعوعومع]] أن عدنا10] ,عع ا تصره 0 


(36) داخل شبكة القاعدة الدولية للذرهاب له علنكه1 (مع1 ؛ه عاروساء1ة دلعد0 » 

(37) حسبما جاء فى التقرير (5؟ أعلاه)؛ ضم الفريق» 75 جزائرياً و١٠‏ تونسيين للعمل فى 
فرنسا؛ و7١‏ جزائرياً و4 وتونسيين للعمل فى بلجيكا؛ وعشرة مصريين للعمل وسط الجماعات 
الإسلامية فى أورويا. 

(38) المصدر (8) أعلاه.. 

.20 أكناعنات ,لماع لتطكة/لا ,5ناء[1 ناظلمْ ,م510 دعدطعد8 (39) 
(40) الشرق الأوسط لندن» الرياضء المملكة العربية السعودية» 74 نوفمير/ تشرين ثان 7٠١7‏ . 
4 ,اه طتزاععع12 ع طتدء 1109 ,كعتدكاخ مواععه1 ,عع 1لانقةا طاتلسآ (41) 

(42) المصدر (8) أعلاه. 

(43) تشير أصابع الاتهام إلى المجموعة التى تقود الأجهزة الأمنية وعلى رأسها وزير الخارجية 
يومذاك والنائب الأول لرئيس الجمهورية الآن على عثمان محمد طه. وكان على رأس المدبرين» 
صلاح قوشء منسق العملية» الذى أشرف على نقل السلاح وقام ببروفة ميدانية للعملية فى أديس 
أبابا. وكان إلى جانب قوش العصبة الممسكة يزمام الأمور فى أرخبيلات الأمن الأربعة عشر. 

(44) الشرق الأوسط ٠١‏ مايو؟١٠7.‏ 


.169 © ,مقلنا5 ع15510 رممدئنئاءط ل1[دده2آ] (45) 


(46) نفس المصدر. 


639 


(47) قال الترابى لصحيقة لندنية أن مصر اليوم تعانى من قحط فى العقيدة والدين» ولكن الله 
يريد للإسلام أن يبسعث من السودان ويجرى مع النيل إلى مصر ليطهرها من الرجس؛ الشرق 
الاأوسطء " يوليو .١5965‏ 

(48) تصريحات الترابى حول إيقاف مياه النيل دفعت وزير الرى المصرى لوصفه بعدم 
المسئولية» آخر ساعةء ١١‏ يوليو ١985,‏ 

(49) حوار مع حمدى رزقء المصورء 4> نوفمبر ١955‏ . 

(50) كانت مصر على علاقة وثيقة بنائب البشيرء الراحل الزبير محمد صالحء وفى وقت لاحق 
بوزير الدفاع عبد الرحمن سر الختم (لم يكن جبهويا) . تلك العلائق خلقت انطباعاً فى السودان أن 
مصر تسعى لتقويض النظام من الداخل عبر عناصر من غير الأيديولوجيين. وكان بعض النافذين 
فى مصر يتظنون أن إقصاء الترايى هو المفتاح للحل. 

(51) اتهمت يوغندا السودان بدعم جماعة دينية محلية (التبليغ) لبث الفتن فى البلادء ونشر 
ثقافة العنف بين الطوائف الإسلامية. وحتى ذلك الوقت كانت الجماعات الإسلامية فى يوغندا 
تؤدى رسالتها فى المجتمع بامتثال كامل للقانون» وتعاون وثيق بين مختلف الطوائف الإسلامية» 
واحترام عام للديانات الأخرى. 

عاع[8 ,عانل؟ عانط/1] هز ,ومعلعه8 دلصدع نآ -مدله5 عط عحملة لإاتلتطقاكم1 لمة عهالآ ,أكصدء01 (52) 
.195-08 2 ,2000 ,دوع هع5 لع ,(لء) طعا سوعط لمة عمال اندم5 .لممواظ 

(53) قال موسيفينى أن جميع المحاولات التى قام بها لإنهاء الأزمة السودانية باءت بالفشل لأن 
نظام السودان يريد لبعض مواطنيه من غير العرب وغير المسلمين (أهل الجنوب) أن يعيشوا 
مواطنين من الدرجة الثانية. وعندما يضيق الحال بمهضومى الحقوق هؤلاء؛ ويلجأون إلى بلادنا 
(فى يوغندا ثلاثمائة ألف لاجى) لا نستطيع أن نقفل الحدود دونهم. الشماليون يريدون منا الحيلولة 
بينهم وبين النضال من أجل حقوقهم فى بلادهم . .12,2000 اععداة .ه416 أكد8 10" 

6,001 لإمةنانا12 ,كمعاناع ا (54) 

(55) ضم وفد الاتحاد الأوروبى السفير لو يجى نابوليتانو (سقير إيطاليا فى كمبالا) » والسفير 
هانس اندرسون سفير السويد فى نفس العاصمة. وكالة الأنباء الصينية» شنهواء "7 مارس 7٠١١‏ . 


640 


(56) صرح العميد شعبان بانتيرزاء قائد الحملة اليوغندية أن ألفأ وثلاثمائة مقاتل من المجموعة 
التى كان يقودها جمعة أوريسء وزير الاعلام فى حكومة عديدى أمين؛ قد استسلموا للجيش 
اليوغندى. 2002 ,8122م ,42 . كما عرض وزير الدفاع اليوغندىء اماما امبابزى» فيلماً يصور 
فلول جيش الرب بعد القبض عليها وبحوزتها تشكيلة من الأسلحة الخفيفة والثقيلة تشمل صواريخ 
كاتيوشكا وبعض الدبابات ,5قى .14,2002 ارمخ ,ةلصدعتآ ,مطده8 

2 انمم ,ط1م 

(57) فى ذلك القرار أبدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قلقها من تمديد النظام لحالة 
الطوارئ والاحكام العرفيةء واستمرار الاعتقالات السياسية دون التزام بسيادة حكم القانون. 

(58) أعلن كاهندا اوتافيرىء» وزير التعاون الإقليمى اليوغندى؛ أن تصويت حكومته لصالح قرار 
اللجنة كان يعبر عن موقف مبدئى يدفعها إليه الأسلوب الذى تتعامل به حكومة السودان مع 
الجنوبيين. .24,2002 ارخ ,تله لطة ,قلهم مك1 ,ووزوأل/ا بوعلز 

(59) أذاعت هذا الخبر جريدة 8260© عمءاوءدهداه1 تحت عنوان جنوب أفريقيا والحرب الأهلية 
فى السودان (5” يناير )١135‏ . وقبل عام كامل من إلغاء نظام الابارتايد اعترف الناطق الرسمى 
باسم ارمسكور بالتعاون مع السودان بعلم وزارة دفاع نظام الأبارتايد .عتدطدعم مم1 ,لاه ددعمنوس8 
4 ,30 طاعرة1ةا 

(60) ورد بين أسماء المشتبه فيهم بالإعداد لتفجير مبنى الأمم المتحدة بعد تفجير مركز التجارة 
العالمى» اسم السكرتير الثانى ببعثة السودان بالأمم المتحدة؛ سراج الدين حامد. وما أن تردد اسمه 
فى أجهزة الإعلام حتى سارعت حكومة السودان بإخراجه من نيويورك تحت غطاء حصانته 
الديلوماسية. ش 

(61) ضمت مؤسسات بن لادن فى السودان مؤسسة مالية (وادى العقيق)»؛ وشركة زراعية 
(الثمار المباركة) » ومصنعاً لدبغ الجلودء وشركة تعمل فى الإنشاءات. كل هذه الشركات تلاشتء إما 
لأنها استنفدت الهدف الذى أنشئت من أجله أساساً (كقناه لتحويل الأموال لأغراض غير اقتصادية) » 
أو بسبب انتقال بن لادن لأفغانستان. 

(62) أدلى جمال أحمد الفضل المتهم فى قضية تفجير السفارتين باعترؤفهت فى محكمة مانهاتن 
جاء فيها أن الأنشطة التى قام بها فى السودان لحساب بن لادن شملت استيراد صواريخ من 


641 


أفغانستان لاستخدامها فى حرب جنوب السودان» تهريب الأسلحة عبر بورت سودان إلى عدن 
لمناهضة نظام اليمن الجنوبى الشيوعىء والدعم المادى لجماعة الجهاد الإسلامى الإريترى؛ تدريب 
كوادر عسكرية فى منطقة الدمازين بالنيل الأزرق. ولكن أخطر إفاداته هى كشفه عن سعى بن لادن 
للحصول على اليورانيوم من بعض الدول الأفريقية وتعاونه مع العقيد عبد الباسط حمزة فى الجيش 
السودانى لتصنيع الأسلحة الكيماوية. الشرق الاوسط ١١‏ فبراير١١٠7.‏ 

(63) الشرق الأوسطء ؟ سبتمبر/ أيلول: .7٠١7‏ 

(64) الشرق الأوسطء 5 نوفمير .7٠٠١‏ 

(65) بالإضافة إلى التحذيرات التى وجهتها الإدارة الأمريكية عبر سفرائها فى الخرطومء أوفدت 
أيضاً للتأكيد على قلقهاء السيدة مادلين أولبرايت (وكانت وقتها ممثلا للولايات المتحدة فى الأمم 
المتحدة) فى نهاية مارس ١114‏ » كما بعثت لنفس الغرض نائب مساعد وزير الخارجية للشئون 
الأفريقية» روبرت هودوك أكثر من مرة. 

(66) كتب السفير بترسون عقب لقائه بالترابى والمسئولين السودانيين أن الترابى يؤمن أن العالم 
سيقبل به كأمر واقع لامناص منه. وقد اشتففت من محادثاتى مع المسئولين السودانيين؛ أنهم لم 
يدركوا بعد أن الاختلاف الأساسى كان حول نشاط الجماعات الإرهابية؛ وليس توجهات 
النظام .5 2 ,رققلن5 علتكص! بومدععاءط 1202210 . 

(67) جهد جدء وجاهد فى الأمر احتاط» وجاهد العدو جد فى العداوة (الفيروزابادى» القاموس 
المحيط) . 

(68) حسن البنا : رسالة الجهاد فى سبيل الله . 

(69) يقول الشيخ محمد متولى الشعراوى وما شرع الجهاد فى الإسلام إلا لدفع العدوان» وكف 
الطغيان؛ والتخلية بين الدعوة والناس. وما كان يوم لحمل الناس على اعتناق. الجهاد فى الإسلام» 
مكتبة التراث الإسلامى. 

.25 2 ,ععمعءاها7 لوعن ناه ما ععمعلة اأطوسية عتصصداذ! ,دنهلل -مة (70) 


(71) ورد فى .0ع265[] ,كاطع0]آ مقط 01 كمه 2لهتنام لأوعترامهده0[تطط عط ,(لء) منعمء1] أسةط 


(72) فى أبريل/ مايو551١‏ عقدت الجبهة مؤتمراً جامعاً لوضع إستراتيجيتها بهدف إعادة 
صياغة المجتمع السودانى (المشروع الحضارى) . ومن بين ما جاء فى قرارات المؤتمرء أن الجهاد 


6242 


ضد الأخطار الداخلية والخارجية فرض على كل مسلم فى ظل نظام يقوم على هدى الإسلام. 
3 ممع 1997 مزق (73) 
7 ([1/13! ,نهالكدنان عغط) بأكننة؟ 12210 (74) 
(75) انضم السودان فى 7١‏ سبتمبر ١561‏ إلى اتفاقيات جنيف )١1143(‏ المتعلقة بالحرب. 
0 ,3 لإكقناكة1 ,نماث ع2 00-11 ممع 1 عط ,ومااء14100 اع1884 (76) 

77) أورد مقرر حقوق الإنسان» بيرو قصة مخزية عن الضابط الجنوبى كاميليو اودونجى لويون 
الذى رفض الانخراط فى الحرب. وقال بيروء بناء على شهادة الضابطء أنه قيد إلى قضبان النافذة 
وربطت خصيتاه رباطاً موثقاً بالحبال» ثم أخذ معتقلوه يضربونه ضرباً مبرحأ إلى أن فارق 
الحياة. 13 © ,رومع82 1993 ,مرزظ 

(78) قامت منظمة حقوق أفريقيا 5ااع81 45802 بدراسة مستفيضة عقب رحلة ميدانية لجيال 
النوبة . ويقول كاتبا الدراسة أن نوايا الحكومة واضحة» فهى تهدف التطهير العرقى والتنقية الثقافية 
عن طريق الاستكصال الجسدىء لو لزم الأمر. إعداد راقية عمر والكس ديفال. ,056:06 عماعه؟ 
3 1995 ,ندلنا5 كه دطابل8 عد 

.2000 ,لإققنانا 2[ ,16401012]31115 ق٠طنال!‏ عطا أن ععناعاذدجع11 ,]1 ,1نا0ل1»2 دلطة لنصسط؟ (79) 

(80) فى السابع والعشرين من أبريل ١197‏ أصدر أئمة المساجد بمدينة الأبيضء فى اجتماع لهم 
بمقر اللجنة الشعبية ألتى تسيطر عليها الجبهة؛ فتوى بتكفير مسلمى النوبة الذين رفضوا الانخراط فى 
سرايا الجهاد وإياحة سبيهم ومصادرة ممتلكاتهم :06006 ,02]6م7] 030نا5 ,135315,م 

(81) روى ضابط نوباوى مسلم لقس كاثوليكى زائر (الأب كيزيتو) قصة قصف قريته التى كان 
يناصر أهلها المسلمون الجيش الشعبى ضد الحكومة وتسوية مسجدها بالأرض . ,11208 بإقفمب5 »15 
لالقناقة ل ,لمعتل 

4 ,9 معطورء 1107 رقعاككة ,عند الا عاطونظ مقصسن1] ,600 )0 عسدلط ع1 هآ (82) 
183-4 22 ,81000 عاعدوا8 وز ,عاممءط وطرلط عط ,ععند الا معع 10 (83) 
رطاعول! عطا هذ مهودع لععدام15ئآ أكمتدعة عكباطق 01 دعناتلوط ,كمع نت عاطتتلاه] مدلن84(5) 


5 ,كاطع ن! ونام 


)43 


(55) أشار بيرو إلى معسكرات فى منطقة أبوردوم» قاروق» الجاز (قرب مشروع الرهد) , درديب 
وحنتوب . 
5 دتطنالا عطا 220 قنقلناذ 7221آ)نا50. هذل عل1ع0مع0) مملل 1 ناه0ن0) عسسظ 83113 (86) 


10 كه ,5عععنااع 1 06) ع1116ده © 05] ,(1983-1998) 


(87) نفس المصدرء صفحة ؟7١.‏ 

0 لإنقناكناء*1 ,46 عناككا ,5 1م31 مدع كلق ,رمتسة (88) 

(89) المصدر أعلاه 5010 ,تلدمه0 وعاعدط) 

(90) أسقط السلاح الجوى أربع عشرة قنبلة على مهبط طائرات الصليب الأحمرء واصابت إحدى 
القذائف ذيل طائرة كانت تحط بالمطار. 18,2000 نإان1 ,18100 

0 اإذناع للك ,11211051 ,51320250 اتمدعتلة أمدظ 112 (91) 

(92) فى ٠١‏ مارس 7٠٠٠١‏ أصدرت اجنة اللاجتين بالولايات المتحدة تقريراً رصدت فيه تسع 
هجمات جوية على المدنيين فى غضون شهرين: مدرسة كومبونى بقرية كاودا يجبال النوبة (“» 
فبراير) » مستشفى لوى (/, مارس)»ء مركز الإغاثة فئ يرول (" مارس)؛ مستشفى صوت الشهداء 
١4(‏ مارس)ء مستشفى أبرشية توريت فى نمولى (14 مارس)» مركز اللاجلين فى كوتبى (75 
مارس) ء هجوم آخر على مستشفى لوى (1؟ مارس) . 

(93) شجعت الحركة الشعبية المسيحيين والمسلمين على تكوين تنظيمات غير حكومية لترعى 
شئون الأديان فى المناطق الواقعة تحت سيطرتها. لأجل هذا أنشئ مجلس للمسيحيين هو مجلس 
السودان الجديد للكنائس» ومجلس للمسلمين هو المجلس الإسلامى الجديد. 

(94) لجنة حقوق الإنسان» جنيفء أبريل 7٠١١‏ . 

21,2001 اذخ ,وبدع1! 88 ,عدالءد1] عردم (95) 

(96) تعرض المستشفى الذى يشرف عليه أطباء بلا حدود فى منطقة كاجوكيجى للقصف الجوى 
عشر مرات فى عام ,1199 ومن المفارقات المذهلة أن ذلك العام كان هو العام الذى منحت فيه 
المنظمة جائزة نوبل للسلام. 

(97)أنشأ النظام فى سنى حكمه الأولى مؤسسة تحت اسم الشعبة الفنية بالقوات المسلحة بغرض 
تطوير الأسلحة» والاكتفاء الذاتى منها. وأوكل أمر تلك المؤسسة لعدد من المهنيين: عبد العزيز 


644 


عثمان» عماد حسين؛ جمال زنقان؛ عبد الباسط حمزة» كما أنشأ النظام بنك خاصاً (بنك أم درمان) 
للإشراف على تمويل العمليات السرية لتلك المؤسسة ومن بينها إنتاج الأسلحة الكيماوية؛ وظلت 
المؤسسة تعتمدء قبل تصدير النفطء على العائد من احتكار السكرء ثم من بعد على أرياح سوداتيل» 
إلى جانب الدعم الخارجى الذى كشف عن بعض منه الدكتور حسن الترابى فى تصريحاته بعد 
عزله . وقد واستعانت المؤسسة فى عملياتها بخبرات من العراق وبلغاريا والصين. 
.010 لاأند0آ اع71 0لرولالا ,83:00 م1 زمممنمة (98) 
.16,16 ع ناآ ,الناد 82111201 ,عصفكا لرمعء02 لمة 7216 ابرع .ا .لهل أرءع5 11 (99) 
(100) وكالة رويترزء ١59‏ يداير .7٠١١‏ 
(101) المصدر 54 أعلاه . 
(102) شيفاليرياس: الإسلام مستقبل الإنسانية» حوارات مع حسن الترابى 
7 ,2002م.آ ,عغ2لم[آ 5030 .0دلنا5 قنز لإوع5129 ,لإعمع/ رعاءط (103) 
(4)104 شريف بسيونى لقصننا10 نالدع نالونا عأرملا بوعل! رعمرلءن) لمممتاتقمعاها مد كه امعدمع د اكدظا 
445-7 ط2 ,23,1991 / ,5ع نا تلوط لمة نهآ لقممتا2 دعام أه 
ده الطتطوء عط 01 ممتانالملا8 عغطا لسة نوع 512 أن كممه] درم لاء020) ,مودكق] عمتلوحةا(105) 
305-77 7ط 1999 ,39 .لا ,نهآ /22)1002ضمعاهآ 1ه لقضئنا0[ دتمتعل/ , بجع حواذ 01 
0 بإمقنوناء1 ,لالع ةنا كاطعت1 مممسسة] مدلن106(5) 
3,2001 /إدل/ا رصماع متطاعه ,طم بهللء0) عع:مء0 (107) 
1 1/12 ,1400101 ععرعاع5 لمدتاك من بلع0ل0120 ااعودن 8ه [ندنار108) 
(109) هارييت توبمان أمريكية سوداء هربت من مسترقيها فى عام ١854‏ وأنشأت شبكة واسعة 
من عمال السكك الحديدية لمحاربة الرق؛ وأطلق عليها تابعوها اسم موسى الشعب. أما جون براون 
فهو أحد شهداء حملة إلغاء الرق فى البوتوماك فى مطلع القرن التاسع عشرء كما أن وليام قاريسون 
صحفى أمريكى شارك أيضْأ فى قيادة الحملة ضد الرق وخصص لحملته تلك صحيفة أسماها المحرر 
(تمنهعطئة) . 
(110) المصدر ٠١8‏ أعلاه . 


(111) نفس المصدر. 


6045 


01 اوم ,أنه «ماع ل تطكة/لآ ,وه5ان54 معلاعا5 (112) 
(113) وكالة الأنباء الفرنسية. /ا سبتمين .7٠٠١‏ 
1155111 16 01 19و56 5310 عط ما أرممع ]1 ,معموءر ملتقومع] (114) 
5 18/011 / عوومع8 ,معزظ (115) 
 ,0‏ ءعطامرعامء5 /ذذلة/لانآ(116) 
0م | لاإنقنائة[ رعصناطر1' للدعع1؟ اددهم تدمع نمآ (117) 
(118) فى مقال لجريدة الرأى العام السودانية كتب حسن مكى نبه فيه إلى خطر التحول 
الديموغرافى الذى وقع فى الخرطوم العاصمة بسبب نزوح عدد كبير من ذوى الأصول غير العربية 
إليها على الكيان العربى ‏ الإسلامى؛ خاصة وهذه الجماعات أكثر تناسلاً من العرب فى تقديره . كما 
أبدى خشيته من أن تتحول الخرطوم إلى سويتوء وسويتو هى معقل السود فى جوهانسبرج البيضاء. 
(119) روى خالد فى مؤلفه حول مغامرة الترابى أن حسن مكى وإبراهيم السنوسى وآخرين زاروا 
السفير الإيرانى فقال لهم "أحبكم أيها السودانيين كما أحب الإمام على عبده الذى وقف يذود عنه 
حتى هلك. وحسب الرواية» قال حسن مكى أنه تقبل ذلك لأنه متعود على هذا النوع من التفكير إلا 
أن وجه السنوسى احمر من الغضب (ولعل الإشارة لاحمرار الوجه من باب المجاز) . 
6 ,2000 ,60نةن) ,قكدوقط1 لد 1032 [اظ1 ,عتناوةء7 أؤذتصةاد1! د_تطقعن!' ,علدتدطن54 [د لألدكا 
لمعم مم 
(120) الشرق الأوسط ١7‏ ديسمبر .7٠٠١‏ 
2 ,تعلعتلث لدصتنا0[ لملا بوعلة (121) 
8 ,عأهاذ لضة نهدا رعاومءط (لء) عجعج ه84 دز ,لإالعتصطاظ 01 عمتلد84 عط ,رمعطم© متطم] (122) 
9 1999 ,لمآ ,كلناة 11 
4 .2 40 .1995,701 842 ,أرممع1 وعلث ,أمناط عنأسآ (123) 
(124) سجل النظام الحاكم يحفل بالجنايات. واحدة من هذه الجنايات هى مصرع عشرات 
الطلاب فى معسكر للتجنيد الإجبارى بالعيلفون عندما حاولوا الخروج من المعسكر لقضاء عطلة العيد 


646 


مع ذويهم الأمر الذى لم توافق عليه السلطات. ولدى محاولتهم الخروج أطلق الحراس عليهم الديران 
بمن فى ذلك من شقوا طريقهم إلى النيل» ولقوا حتفهم فيه إما رمياً بالرصاص أو غرقاً. وبالرغم من 
أن الحدث وقع فى أكثر فترات الهوس الدينى صخباء إلا أن زين العابدين كان هو الصوت الوحيد 
الذى ارتفع جهيراً ليذكر صحبه بجنايتهم على الأيفاع» وبخروجهم عن أدب الإسلام. 

(125) عبد الوهاب الأفندىء القدس العربى» لندن» ؛ أغسطس ٠٠٠١,‏ 

(126) عبد الوهاب الأفندى, الثورة والإصلاح السياسى» صفحة ,774 

(127) عبد الوهاب الأفندىء الإسلام والدولة الحديثة» صفحة ١/8.‏ 

(128) نفس المصدرء ص ص 796-١74‏ . 

(129) «فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره» (الكهف 77/18) حديث شعيب 
لموسى بن عمران. 

(130) فى حديث للايكونومست ١5(‏ أغسطس )٠٠٠١‏ تحدث الترابى عن بعض رفاقه الذين 
لاذوا بحمى البشير بكثير من المضاضة. ومن بين هؤلاء وزيرلم تفصح المجلة عن اسمهء قال عنه 
الشيخ: شخص مثير للشفقة» انتهازى» طموح» ضعيف, ولكنه ما زال قريباً منا. ترى من هوهذا 
الوزير الانتهازى الضعيف؟ 

رلاع5ا! ومقعا-ععء0 اعتطنة ,لملاأتطصة عمتالسه".أتتلا ,1 ,لأعطعة184 ,عمدعمدع5121 «1120ا للا (131) 

."اه عطا ده ذالد؟ لمم 
بقععق عا هآ رومءتلظ لمدطءنظ8 (132) 

.١91994 ديسمير‎ ١١ سوناء‎ )133( 

.١999 ديسمبر‎ ١١ سوناء‎ )134( 

(135) المصدر السابق. 

(136) البيان» دبى» 76 يونيو 3٠٠١‏ . 

(137) الشرق الأوسطء ٠١‏ يوليو .7٠٠١‏ 

.7٠٠١ يوليو‎ ١8 الخرطوم»‎ )138( 

(139) المصدر أعلاه» ١١‏ يوليو .7٠٠١‏ 


)]17 


(140) القاهرةء ١١‏ يوليو .7٠٠١‏ 
(141) قال وزير خارجية مصرء عمرو موسىء فى حديث لصحيفة سعودية؛ أن مصر متهمة 
بمسائدة البشير فى تحركه الأخير. نعم نحن نساند ذلك التحركء ولكنا لا نتدخل فى شكون السودان 
الداخلية عكاظء ١6‏ ديسمير 1559 . 
(142) الشرق الأوسطء ١١‏ يونيو .7٠٠١‏ 
(143) الشرق الأوسطء 77 ديسمبر .١555‏ 
وعاء101 ,الغ متعم عتصوهاك1 كمقلن5 عبرو ضز دروللماضعص حلصن ,أمولما مو التالز (144) 
1995 عهنل/ئة38/1 74 .و8 .كمتقاام 
(145) الشرق الأوسط 7١‏ يوليو .7٠٠١‏ 
(146) بيان بتوقيع ياسر عرمان "١‏ أكتوبر 7٠٠١‏ . 
(147) انخفض حجم التضخم بعد تطبيق وصفة صندوق النقد إلى /٠١‏ كما زادت المديونية» 
بسبب تراكم الخدمة (الربوية) إلى 74 بليوناً. 
(148) خلال توليه منصب وزير المالية» أثار عبد الوهاب عثمان موضوع هذه الامتيازات» 
وأثرها على الخزينة العامة مما أثار عليه سخط أصحاب المصلحة الحقيقية فى الفساد. 
(149) أخبار اليوم» الخرطومء فبراير ١1556‏ . 
(150) أعتقل غازى فى يناير 7٠٠١1‏ (بعد عام من إقصاء الترابى) وحبس فى مكان مجهول لمدة 
شهرين تعرض فيها لضرب مبرح من زبانية النظام قادت إلى إصابته بارتجاج مخى. 
(151) الحياة ١‏ مارس ٠٠١١,‏ 


لآلالا 


الباب الثالث 
لآلا 
السودانيون 
من هم؛ وإلى أين؟ 


مصيرأفريقيا معلق بالسودان, فإن نجح 
السودان في نتمقيق مصالحة بين عنصرى 
الوطنء. فإنه يؤدى بذلك عملا رائدا 
تيد منه القارة كلها. أما إن دام الصراع 
في السودان وأضحى مزمنأ؛ فسيؤدي ذلك 
إلي ارتضاع حدة التوترفى البلدان 
الأفريقية المنشطرة كلها. وآجلأ أوعاجلا: 
ستصبح أفريقيا السوداء بؤرة للتذمر 
ضد أفريقيالالشمالية".. 

أرنوطد تواينبي )١(‏ 


لألا 


58 


مأزق الهوية 
السودانيهك 


649 


من الناحية الجيوفيزيائية يضم السودان أرضاً واسعة يتخللها نهر النيل من أقصى 
الجنوب إلى أقصى الشمال. والنيل» إضافة إلى أنه شريان حياة بالنسبة لدولتى العبور 
والمصب (السودان ومصر)» هو أيضا الحبل السرى الذى يريط قلب أفريقيا بشمال القارة 
وبالبحر الأبيض المتوسط. ففى الشمال (على وجه التقريب المنطقة الواقعة بين الخرطوم 
العاصمة والحدود المصرية) تضم هذه الرقعة الواسعة من الأرض مجموعة من الأراضى 
الصحراوية وشبه الصحراوية القاحلة» كما تقطنهاء على ضفتى النيل وضفاف روافده فى 
الشرق» جماعات متفرقة من السكان. أما منطقة الوسط (المنطقة التى يجرى فيها النيلان 
الأزرق والأبيض)» فتتميزء إلى حد ماء بمناخ معتدل. هاتان المنطقتان بوجه عام هما 
موطن الشماليين المستعربين» والمسلمين من غير العرب مثل النوبيين فى الشمال» والبجة 
البداويين فى الشرقء والنوبة فى الوسطء والفور والزغاوه والمساليت وغيرهم فى الغرب 
القصى . أما الجنوب فيختلف فى تضاريسه الجغرافية والاجتماعية عن الشمالء فطقسه أقل 
حرارة وأكثر رطوبة» والمسطحات المائية فيه أكثر وفرةء وأغلب أهله من الحاميين النيلويين 
الذين تعتنق غالبيتهم الديانات الأفريقية . علينا أن نأخذ فى الحسبان أيضاً أن السودان هو 
أكبر الأقطار الأفريقية مساحة:ء(') ولربما يكون السودان» بسبب من هذاء هو الدولة 
الأفريقية الوحيدة التى تتعايش فيهاء جنباً إلى جنب نقائض عنصريةء ودينية» وثقافية» 
وطبوغرافية» واجتماعية بهذا الحجم. هذه العناصر مجتمعةء بجانب الخيرات الطبيعية التى 
حبا الله بها السودان» كان من الممكن أن تجعل من القطر نموذجاً يحتذى فى أفريقيا كلهاء 
إن تم تطويعها والملاءمة بينها. ولكنء للأسباب التى ذكرنا فى الفصول السابقة؛ استعصى 


651 


على حكام السودان التوفيق بين المتعارضات,ء بل استجادوا تعميق الفوارق» فكانت الحروب. 
لهذاء لا معدى لنا عن القول أن جانباً غير يسير من اللوم على استدامة حرب السودان مع 
نفسه قرابة نصف قرن منذ الاستقلال» يتحمله أهل السودان أنفسهم. 
من ناحية التركيب العرقى للسودان» يدعى كل من الشماليين المستعربينء والجنوبيين 
الزنوج أو الحامونيلويين» نقاء عرقي ليسوا على شىء منه. ذلك الادعاء ينطوى على مغالطة 
كبيرة لغلبة عنصر التهجين على التركيبة الشمالية والجنوبية للسكان. هذا الموضوع تناوله 
بالبحث المحللون والمعلقون الأكاديميون» من الشمال والجنوب(')» ولكن رغم إسهام بعضهم 
المقدرء والحجج الناصعة التى طرحوهاء حاد أغلب المعلقين عن القضية الأساسيةء وريما 
تغافلها نفر عن عمد. فالصراعء فى الجوهرء يرتبط بالهيمنة السياسية والاقتصادية أكثر من 
ارتباطه بالتمايز العرقى» بغض النظر عما إذا كان النقاء العرقى أمراً ثابتأً من الناحية 
البيولوجية؛ أو هو وليد قصص خيالية تؤكد أن أمة أربى من أمةء وتنفى تلك الأمة عن نفسها 
أعراق السوء؛ أى أعراق الآخر. وفى حديثنا العام فى الشمال نصف المواطن الذى ينحدر من 
أصل زنجى» خاصة إن كان من صلب أبيه؛ بأن "فيه عرق. لهذا السبب أضحى موضوع 
تحديد الهوية السودانية عنصراً هاما فى علاقات الشمال مع الجنوب. هل المحدد لهذه الهوية 
مثلاء هو العرق؟ وإن كان الأمر كذلك؛ فعرق من؟ أيآ كان الرد على السؤال» فبمجرد ما 
تصبح العرقية أداة لإضفاء شرعية على هيمنة مجموعة قبلية (قبائل الشمال المستعربة) على 
قبائل أخرى (أهل التخوم من غير العرب) يصبح الوطن فى ضيق. تلك الهيمنة التاريخية 
ظلت صفة ملازمة لتاريخ السودان السياسى منذ القرن الماضىء ولريما صح القول أن هذا لم 
. يكن هو الحال فى الأنظمة الإسلاموية الشمولية. يصدق هذا الحكم على المهدية الأولى (فى 
المهدية الثانية أصبح الحكم سلاليًا يعيد تلقائياً إنتاج نفسه)» كما يصدقء إلى حد ماء على 
حكم الجبهة . فالأصل العرقيء مثلاًء لم يكن يشكل أى عائق أمام الترقى السياسى فى عهد 
الإمام المهدى(؟). ولنبو توجه المهدى عن ثقافة الشمال السائدة حول الجدارة بالحكم والقيادة؛ 
نقم قادة الجيش المهدوى من أهل البحر (النيل)» بمن فيهم أقرباء المهدى؛ على ما أسموه 
محاباة الإمام للغرابة(")» وعابوه عيبا كثيراً. أما بالنسبة لإسلاميى الجبهة؛ فلم يشكل الأصل 


6032 


العرقى عاملاً حاسماً فى الترقى السياسى إلى المراتب العليا للحزب أو الحكومة . مع ذلك» 
كانت لبعض أبناء الغرب (دارفور) شكاوى معلنة عن محاباة النظام الخفية للشماليين الذين 
ينحدرون من الإقليم النيلى» والذين استأثروا بالمناصب العليا جميعها فى الحزب والحكومة» 
بل إن واحدا منهم أخذ مؤخرأ يتعزى بعشيرته بصورة ملحوظة أقلقت حتى رفاقه('). وعلى 
كلء ضمنت شكاوى أهل دارفور فى وثيقة وزعها كاتبوها واختاروا لها عنواناً صارخاً: 
"الكتاب الأسود(")؛ وأعلن الترابى ونائبه» على الحاج» تأييدهما لما ورد فى تلك الوثيقة 
الدامغة.(*) ومن المدهشء أن يندفع بعض أنصار الترابى من الشماليين ومن والاهم فى 
القدح همساً بموقف شيخهم من «الغرابة؛ ناعتينه بالعنصرية. كحال الأعراب الذين كانوا 
يطلقون وصف الشعوبية على كل من لا يدين للعرب ‏ لا الإسلام ‏ بالفضل» حتى وإن كان 
من أحفاد كسرى أنو شروانء أخذ مستعرية السودان يصغون كل من لا يدين لهم بالفضل 
والأولوية بالعنصرية «ولسوواحظ هؤلاء السدهجديق أنهم لا يتتمون إلى كسرئ لو ساضان 
حتى يتعزوا بهما كما تعزى بشار الذى رمته العرب بالشعوبية» أى عدم الاعتراف بفضل 
العرب على غيرهم من الشعوبء بمن فيهم أهله: 
هل من رسول مخير 
عنى جميع العرب 
منكان حيآامنهم 
ومن ثوى فى الترب 





باننى ذو 
عال على ذى الحسب 
جدى الذى له به 
كسرى وساسان أبى 
وقيصر خالى إذا 
عددت يوما تسيى 
العنصريةء أي كان منبتهاء حموقة متناهية» لهذاء فإن حوسب الترابى» رغم كل أخطائه 
السياسية الفادحة» على تبنيه لقضية أبناء الغرب يكون الرجل قد حوسب على واحدة من 
مزاياه المنجية .(5ع©2؟ع 5210128) 


053 


بيد أن ا المشكلة فى حالتى المهدية والإسلامويين الجددء هى اتخاذهما الدين معياراً أساساً 
لتحديد الهوية والتأهيل للمسئولية العامة. هذاء بدوره» أدى إلى نوع آخر من التهميش على 
أساس الولاء الدينى. فالتسامح (إن كان هناك ثمة تسامح) الذى تتعامل به الجبهة مع 
المسلمين فى الشمالء بغض النظر عن أصولهم العرقية» لا يمتد ليشمل غير المسلمين. 
هؤلاءء كما يقول الإنجليزء سقطوا بين مقعدين .(560015 30 هعء5اء6 [11]) فى الحالين 
تعرقتهم الخطوبء فلا الأحزاب والجماعات شبه العلمانية الحاكمة انتصرت لهم فى 
الماضىء ولا الدولة الدينية عفتهم من وطأتها الطاغية. ففى مطلع الاستقلال وبعيده» حرم 
الجنوبيون من المواقع المتقدمة فى الدولة نظراً ل تخلفهم الذى ابتغى أولتك الحكام انتشالهم 
منه قبل أن يكون لهم دور فى حكم بلادهم. ثم جاء دور الإسلامويين ليلاحقوهم بلعنة 
الوثنية والكفرء فقبل أن يكونوا أصحاب حق فى الولاية الكبرىء كان لابد من انتشالهم؛ هذه 
المرةء من وهدة الخطيئة. ذلك المذهب التخليصى المتشدد الذى لم يعرفه الجنوب إلا فى 
فترة حكم المهدية» ثم حكم البشير- الترابى بِعْض أولئك الخطائين فى الإسلام» ونفى 
طمعهم فى وحدة وطن يحيون فيه كرماءء فأخذوا يدعون للانفصال نجاة بأنفسهم عن ذل 
التهجينء فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً. 

أوهام النقاء العرقى التى ثبتت ثبتت واستقرت فى عقول أهل الشمالء» كما فى الجنوب داق 
حالة القبائل المتسيدة (655) :ع]35) هى نتاج لأفكار وتصورات ذاتية تستخدم نظرية 
التفوق والتميز الموروث لتبرير السيطرة على الآخر. وما كانت هذه الأوهام لتصبح ذات 
بال» لولا النتائج الاجتماعية المؤذية التى ترتبت عليها. من أكثر تلك النتائج إضراراً 
بالمجتمع» ظاهرة إسناد الأدوار فى المجتمع تيَاعاً لتقسيم ثقافى عرقى مُسبقء مما قاد؛ 
بمرور الزمنء إلى تعميق الظلم وعدم المساواة . فالمظالم الاجتماعية فى السودان ارتكزت 
على بنية تحتية ثقافية معقدة» لها أساطيرها الخاصة عن الذات والآخرء وصحبها تواطؤ 
جماعى فى باطن العقل . تلك البنية الثقافية التحتية الماكرة ابتدعت لها أمثالاً تكسب بها 
قدراً من المصداقية لدعاواها بأن بعض البشر ما خلقوا إلا لأداء وظائف معينة. تخيل! سجم 
أل سا ل يد شرا اك د عد) :لال ارا ع 


654 


(كلما طعن العبد فى السن قلت قيمته وجدارته) . ومغزى المثل الأول هو أن العبيد ليسوا 
بذوى جدارة للقيادة» أما المثل الثانى فيؤكد أنهم لا يصلحون إلا للعمل العضلى . والأمثال» 
كما نعرفء؛ هى حافظة الوعى الجمعى. كان من الجائز احتمال مثل تلك الأمثال إيان حقبة 
العبودية باعتبارها ملازمة لطبيعة ذلك النظام الردىء؛ وكانت العرب تقول:لا تطعم العبد 
الذراع فيطمع فى الكراع. ولكن الحال يختلف عندما تزجى مثل تلك الأمثال فى استهانة 
غريبة بعد عقود من انتهاء العبودية» ولا يعنى بها إلا أحفاد العبيد "الأرقاء؛ أو من ينتمون 
للقبائل التى كانت نهباً للاسترقاق. أوهام التفوق والسيادة هذه لاقت دعماً من السياسات 
التى» وإن لم تكن مخططة لتعميق تلك الأوهام؛ إلا أنها لم تكن أيضأ مخططة لإزالتها. 

السودان: دولة أم وطن؟ 

قبل الولوج فى الحديث عن عناصر الهوية الوطنية فى السودان؛ يجدر بنا أن نستكشف 
ما إذا كان هناك وطن سودانى فى الأساس. فى الحديث الشائع كثيراً ما يعتبر الناس أن 
الدولة والوطن شيئان مترادفان. هذا الخلط فى المفاهيم لا يقتصر على عامة الناس بل 
ذهبت إليه أيضاً المؤسسات الدولية الكبرى. فكما لاحظ كونورا")» دشنت المنظمة الدولية 
الأولى (الأمم المتحدة) » والتى هى فى الأساس تحالف بين الدول» كاتحاد بين الأمم. وعلنا 
نشير إلى أن ميثاق الأمم المتحدة نفسه هو ميثاق للشعوبء وليس ميثاقاً للأمم أو الدول» 
فديباجته تبدأ بالآتى: نحن شعوب الأمم المتحدة. وعلى أىء استكمالاً لإشاراتنا فى الفصل 
الثانى إلى قضية القومية» قد نحتاج إلى إلقاء إضاءة كاشفة على موضوع القومية أو 
الوطنية باعتبارها أعلومة يهتدى بها فى تحديد الهوية. 

نبدأ أولاً بالتعريفات لنقول أن جميع قواميس العلوم السياسية تميز بين الأمم والدول. 
فمن ناحية» تعرّف الدولة على أنها مفهوم قانونى يصف كياتاً اجتماعياً يحتل إقليماً محدداًء 
ويدار بواسطة مؤسسات سياسية عامة وحكومة فاعلة» أما تعبير الأمة فيطلق على كيان 
اجتماعى يتشارك أفراده أيديولوجية محددة» ومؤسسات عامة»ء وعادات مشتركة» وشعور 
بالتجانس(''). إن أخذنا بهذا التعريف؛ يتضح أن مفهوم (الأمة) كأيديولوجية أو كسلوك 


)6)55 


جماعىء رغم تصمنه بعض السمات الموضوعية:؛ هو مفهوم ذاتى يحدده الاختيار 
الشخصىء وتغذيه الخيالات العامة. فى حين أن الدولة تظل مفهوماً سياسياً قانونياً تؤطره 
معايير قانونية وسياسية بحتة. ويصف أنطونى سمث!(١١)‏ الأمة بأنها مجموعة محددة من 
البشر تقطن إقليماً تاريخياً معيناء وتتشارك نفس الأساطير والذكريات والثقافة الجماهيرية 
الفاشة يميا نظام اقتصادى واحدء كما يتمتع أفرادها بنفس الحقوقء والواجبات. على 
الجانب الآخرء عرف سمث الدولة أنها مؤسسة عامة تمارس سياسات القسر والاقتلاع 
(همناءعهماءاء 0ه 0مأن0061) صضمن حدود إقليم معترف به(١١)‏ . وسوف ذبين كيف تنطبق 
أو لا تنطبق هذه الاعتبارات على حالة السودان. 
فى الفصل الأول من هذا الكتابء. أشرنا إلى أن الدولة السودانية (بشكلها الذى نعرفه 
اليوم) لم تبرز إلى الوجود إلا بعد أن أحكم محمد على باشا قبضته على البلاد. . وفى 
الفصول الى كلت سبعينا لأن توضخ أن تلك الدولة م تمنح الفرصة لأن تدحول طَبِيعياً 
(]8)نا2) إلى وطن واحدء مما أدى إلى بقاء أقوام السودان على شتاتهم المتشظلى بسبب 
سياسات عمدية كانت تهدف إما لتغذية الانقسام» أو لتكريس الهيمنة السياسية والثقافية. 
سعر من نيران الانقسام استدامة الأعراض التى نشأت من ثقافة العبودية فى القرنين 
الماضيين؛ أى ديمومة نظرة السيد للعبد التى نشأت فى الحقب الأولى فى المخيال الجمعى» 
وكان لها تداعيات سياسية واجتماعية. لم يخفف من وطأة هذه الخيالات جعل المواطنة 
أساساً لكل الحقوق والواجبات فى الدولة السودانية. صحيح أن المواطنة ارتباط حاسم 
بالأرض التى يقيم عليها الشخصء وليست ارتباطأً بالعرق؛ أواللغة» كما هى عقد 
اجتماعى بين الأفراد الذين يتساكنون على هذه الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم. 
ونظرية المواطنة لصيقة بالدولة المدنية (لا الدينية) لما فى الوطنية من رباط موضوعى - 
لااذاتى مثل الدين والعرق ‏ بين أبناء وبنات الوطن الواحد. ذلك العقد الاجتماعى. 
بطبعه» يرمى إلى تغليب الجوامع وتقليص الفوارق بين المواطنين. بهذا الفهم» لن ترسخ 
فكرة المواطنة فى العقل الجمعى دون الاعتراف بالتنوع والتعدد كحقيقة ثابتة وباقية فى 
كل السياساتء وليس فقط باحتمال (0161201088)) التعدد. لابد أيضأ من توفير الحرية 


66 


الكاملة للتعبير عن هذا التعدد والتنوع فى كل مجالات الحياة العامة» وليس فقط الاكتفاء 
02 إليه 0 0 الصماء . بهذا وحده ولك ا اريت 
ميلر("') ثلاثة ثة شروط لتحقيق ذلك: 
تنقية تنقية الأجواء السياسية من الممارسات والرموز والأعراف التى تجسد القيم التى 
تتبناها المجموعة الحاكمة (القيم التى تكرس ظاهرة الهيمنة) . 
المشاركة الفعالة للجماعات المهمشة فى الحياة السياسية على قدم المساواة مع 
الآخرين» وتشجيعها على تأكيد الخصائص الثقافية المميزة لها. 
 '‏ حسأاسية صناع القرار السياسى نحو الاختلافات بين الجماعات. 


وحسب قول ميلر فإن المواطنة التى لا تتميز بمثل هذا الشمولء» ولا تعود بنفع ملموس 
على كل عناصر الوطنء لا جدوى لها. (؟١)‏ 

الطبقة النتواسية فى الفتمال ظلت تبوردوما (شانها فى ذلك سآن كل التجمرعات 
الحاكمة التى تزدرى الأغيار) حقها المزعوم فى السيطرة على أولتك الأغيار متساندة إلى 
مفهوم إرادة الأغلبية» والأغلبية تعبير إحصائى لا معنى له إن لم يلحق بإطار مرجعى 
معين مثل: الأغلبية العرقية» أو الأغلبية الدينية» أو الأغلبية النوعية (الجنوسة) . فما الذى 
سيصنع دعاة نظرية سيادة رأى الأغلبية إن قال قائل بما أن أغلبية أهل السودان (حسب 
إحصاء )١1157‏ هم من غير ذوى الأصول العربية (كل الجنوبيين» والنوبة» والبجة» والفور» 
وقبائل الغرب الأخرى)» يجب أن يعاد صوغ الهوية الثقافية للسودان وفقاً لهذه الحقيقة؟ 
لهذا نقول أنه كلما كانت هناك رؤى متعارضة حول الهوية» لا يمكن ولا يجوز تحديد 
الإطار المرجعى لتلك الهوية وفق معايير ذاتية. أصاب الدكتور النعيم كبد الحقيقة عندما 
لاحظ أن: «الأمم كثيراً ما تضم فى أحشائها أقواماً مختلفين تسيطر عليهم وتتسيدء وتعتبر 
أن الوضع الأمثل للتكامل الوطنى هو استيعاب هؤلاء الأقوام فى الثقافة السائدة» حتى إن 
كانت هذه الأقوام تمثل فى مجموعها أغلبية سكان البلد ككلء .(*') لو طبقت الدول المبتلاة 
بالنزاعات والتشقق مفهوم سيادة إرادة الأغلبية (أياً كان تعريف تلك الأغلبية) » لما توحدت 


20137 


مطلقاً دول مثل كندا (اختلافات لغوية)» الهند (اختلافات دينية وثقافية)» نيجيريا 
(اختلافات عرقية وثقافية ودينية) » لبنأن (اختلافات دينية وطائفية) . وفى سودان اليوم لا 
يعبر الإلحاف من جانب الإسلامويين ودعاة الصحوة الإسلامية على إعمال مبدأ سيادة 
الأغلبية فى السودانء إلا عن ذريعة لفرض نهج دينى معين على السياسة. تلك النظرة 
تجعل أيضأ من زعمهم أن المواطنة وحدها هى أساس كل الحقوق هزالة سخيفة. 

هذه الأقكار ريما كان لها رواج حتى ستينيات القرن الماضى حيث كان الاستيعاب 
الجبرى للأقوام المتعددين داخل الوطن الواحد مقبولاً كأداة لتحقيق الوحدة: إلا أن الأمور 
تغيرت بصورة جذرية فى عالمنا المعاصر. فالسودان الآن ملزم باحترام العديد من المواثيق 
الدولية والإقليمية التى تنص على مبادئ معينة حول حقوق الأقليات. فمثلاًء تحظر المادة 
7 من الميثاق الدولى حول الحقوق السياسية والمدنية على الدول التى تضم أقليات عرقية» 
أو دينية» أو لغوية إنكار حقوق تلك الأقليات فى التمتع مع سائر أفراد الوطن بخصائصهم 
الثقافية» واعتناق الدين الذى يرغبونه وممارسة شعائره»: وكذلك حقهم فى استخدام لغتهم 
الأصلية . كما تؤكد المادة ١/77‏ من الميثاق الأفريقى الخاص بحقوق الإنسان والشعوب حق 
كل الأقوام (داخل الوطن الواحد) فى العمل على تطوير أنفسهم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً 
مع إعطاء الاعتبار الكافى لحرياتهم وهويتهم؛ فى ذات الوقت الذى يستمتعون فيه؛ على 
قدم المساواة مع الآخرينء بالتراث العام للإنسانية. 

وفى حالة السودان؛ تعبير الأقليات ليس هو التعبير الأوفق» ولهذا نتوقف للتمييز بين 
أمرين وقع فيهما تخليط : الأقليات؛ والأقوام الأصلية. فنحن كثيراً ما نصف بالأقليات 
الجماعات الوطنية من سكان البلاد الأصليين» والذين لا تتفق عوائدهم؛ أو تتعارض 
خصائصهم الثقافية» مع السياق الثقافى السائد. هذا خطأ شائع» ليس فى السودان فحسبء. 
بل وفى بلاد أخرى. فالأقباط فى مصرء والأكراد فى العراقء والإيمازيغيون فى الجزائر» 
ليسوا أقليات بل هم أقوام اضلووة (5ء1ممعم 5داممءع18ل12) فى بلادهم . وفى هذا الشان 
تطور القانون الدولى تطوراً ملحوظأًء فمثلاً» تميز تقارير اللجنة الفرعية للأمم المتحدة لمنع 
التمييز ضدء وحماية» الأقليات: بين الأقليات والأقوام الأصلية . فالأقوام الأصليون هم 


6055 


جماعة من الناس يتصف وجودها بتواصل تاريخى (08110109» 115]011021) يمتد إلى ما 
قبل غزو جماعات أخرى لهاء وقبل الاستعمارء ولا تزال ترى نفسها ذات صغة تفرزها عن 
المجموعة السائدة فى القطرء وتسعى للحفاظ علىء وتلمية؛ مواريثها الثقافية بهدف نقلها 
إلى الأجيال القادمة.(١١)‏ أما الأقلية فلا تمثل بالضرورة» وجوداً تاريخياً يسبق الاستعما ر أو 
غزو أقوام آخرين للمنطقة. كما هى محدودة عددياً. الأقلية أيضاء رغم انتماء أهلها للوطن» 
تتمتع بخصائص ثقافية» أو لغوية» أو عرقية» أو دينية تميزها عن التيار الثقافى؛ أو اللغوى. 
أو العرقىء أو الدينى الغالب. وطبقاً لهذا التعريف تعكف الأمم المتحدة على إعداد إعلان 
دولى حول حقوق الأقوام الأصليين ينص» فيما ينصء على احترام الحق الجماعى لهذه 
الأقوام فى المحافظة على» وترون هرقهد المميزة» وخصائصهم التقافية» بما فى ذلك 
حقهم فى مطالبة الآخرين بالاعتراف بهذه الهوية .("') فالذين نتحدث عنهمء إذن» هم من 
يعر 0 فى الفقه الدستورى الجديد بالشعوب الأصلية (ع لومعم كتناممعع نل 1) أى 
المجموعات التى «استقرت تاريخياً فى أرض معينة» ولها علاقة سلفية (300©5081) بتلك 
الأرضء وتواصل وجودها فيها قبل غزوها من جانب أقوام وافدين؛ أو خضوعها لاستعمار 
أجنبىء ونمت وتطورت فى تلك الأرض بصورة متميزة (015]1000)عن تلك التى تطورت 
بها المجموعة السائدة» كما هى عازمة على الحفاظ على خصائصها الموروثة ونقلها 
للأجيال المقبلة:.(*') وكما سلف الذكر فإن قرارات الأمم المتحدة تنص على حق هذه 
الجماعات فى المحافظة جماعياً (لإاء001160110)على خصائصها وهوياتهاء بما فى ذلك 
«الحق فى اعتبار نفسها كميدوعة أصلية والاعتراف لها هن ال الصفة:(؟١).‏ وكما يعرف 
أهل القانون» تسبق حقوق الفرد حة حقوق المجموعة»فى منظومة حقوق الإنسان المعاصرة» 
كما سبق حقوق المجموعة حقوق'الدولة: 

هذا هو العالم الذى نعيش فيه» وتلك هى القواعد التى تحكمه. فإن كان الذين يتصدرون 
الأمور فى السودان (حكاماً ونخبأ ذات تأثير على السياسة) يجهلون حقائق هذا العالم الذى 
نعيش فيهء فتلك مصيبة . وإن كانوا يعلمون تلك الحقائق» ولكنهم غريوا وأولعوا بتكريس 
الهيمنة التاريخية معاندة للواقع الدولى الذى يحيط بهم؛ فلا شك فى أنهم سيحملون على ما 


6039 


يتأبون. فلو كانت معاندة الواقع أمراً مقدوراً لأى حاكمء لفعلها بوريس يلتسين ضد دول 
وشعوب ظلت تخضع للروسنة منذ عهد بطرس الأكبر والملكة كاثرين. وكان يلتسين يومها 
يحاط بترسانة نووية» قلنا عنها أنها كانت تكفى لتدمير العالم ثمانى مرات. هذه المعاندة 
محال فى عالم أضحت تدكم الدول فيه مدونات مسلوكية» وعقود وعهود دولية» ورقباء 
على حقوق الإنسان والشعوب. وروم المحال كمضغ للماءء لا يقدم عليه إلا أحمق. 

جذورالسياسات العرقية فى السودان 

إن كان مفهوم الهوية فى السودان» كما قال فرانسيس دينقء أمراً تحدده اعتبارات 
موضوعية لهان الأمرء واختصر الطريق إلى خلق وطن مستقر واحد. ولكن» يقول الكاتب» 
الهوية فى السودان ليست دائماً وصفاً للحقائق المحايدة» بل أصبحت أيضاً معياراً لتحديد 
مكان الفرد فى المجتمع؛ مع كل ما يصحب ذلك من نتائج. يزعم الكاتب أيضآء أنها 
أصيحت فى السبودان نقطة البداية لتحديد من يحوز على ماذاء ومن يشغل أى منصبء 
ومن هو جدير بالاضطلاع بهذا أو ذاك الدور فى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية 
والثقافية فى البلاد.('") نتج عن هذه الرؤية المعلولة» كما تقول إحدى الدراسات» ظهور 
مجموعة من السياسات المعقدة التى يرمى أصحابها من ورائها التحكم فى المجموعة 
العرقية التى ينتمون إليهاء وإدامة السلطة النسبية لتلك المجموعة على الجماعات 
الأخرى.('") بعبارة أخرىء لا تقع المسئولية عن تلك السياسات المعلولة على عامة الناس» 
بل على النخب المتحكمة عليهم» والتى كثيراً ما تلجأ إلى إثارة أدنى الغرائز فى نفوس عامة 
الناس بمداهنتهم والإيحاء لهم بأنهم خير أهل السودان طراً. بتلك المداهنة تسيطر الذنخب 
على عامة الناس وتضمن تأييدهم للسياسات النازعة نحو الهيمنة على الآخرء ولا يهيمن 
على الآخر إلا تلك النخب المتحكمة. وهكذا لم يعد التراتب الاجتماعى أداة لتصور الذات» 
بل أيضاً معياراً لتحديد مكان الآخر. 

بدهي أن تتحدى الجماعات التى طالها التهميش هذه السياسات المعقدة» إلا أنها لم تقف 
عند تحدى السياسات بل أخذت أيضأ تنظر بارتياب إلى البنية التحتية الداعمة لها. ومن 
المحزن أن ذلك الارتياب قادء بدوره هو الآخرء وبصورة مباشرة أو غير مباشرة: إلى 


0600 


استنفار أدنى الغرائز فى الإنسان الآخرء وشحذ الوعى العرقىء وإستدعاء أسوأ ذكريات 
الماضى: ذكريات حقبة الرق. وإن نظرنا للرق نظرة موضوعية داخل إطار تاريخىء كما 
سعينا لأن نفعلء لما وجدنا فيه غير تعبير عن عوامل الإنتاج الاقتصادى فى المجتمعات 
القديمة؛ وعن الخلل الهيكلى فى توزيع السلطة والثروة وتوازن القوى فيها. ولكن إعمال هذا 
التحليل الموضوعى والسياقى لظاهرة الاسترقاق يستحيل فى مجتمع ما زالت الرواسب 
المتبقية من ثقافة العبودية متفشية فيه» ويظهرها بلطف ماكر (وأحيانا دون تظاهر بذلك 
اللطف) قسم من المجتمع تجاه القسم الآخر. نتساءل مرة أخرىء إن كنا فى الشمال قد 
تفكرنا ملياً فى علاقة تلك الرواسب بالأزمة السياسية فى السودانء أو أدركنا أن التخلى عن 
الاستعلاء الذى ولدته تلك الرواسب هو شرط وجوب لخلق بيئة مواتية للتعايش السلمى بين 
طرفى القطر. نتساءل أيضاً إن كان الذين يسرفون منا فى الترداد المكرور لمفهوم المواطنة 
كأساس دستورى للحقوق والواجبات» يعون النتائج المترتبة على تلك الأطروحةء خاصة 
ولكل أطروحة نقيض. حقيقة الأمرأن جميع النصوص التى أوردتها الدساتير حول 
المواطنة» لم تتبعها البتة إصلاحات فى المناهج التربوية بالصورة التى تعكس التنوع والتعدد 
بكل أبعاده التاريخية والراهنة» ولم يلحق بها تعديل على برامج الإعلام الجماهيرى الذى 
تسيطر عليه الدولة حتى يعكس أوجه التنوع الثقافى المختلفة. لا مكان أيضاً لهذه القضايا 
فى الأجندات السياسية للأحزابء بالقدر الذى يعين على خلق وعى شعبى بين جماهير 
تلك الأحزاب بماهية التعدد. هل يعود العجز عن تحقيق كل هذا إلى محدودية خريطة 
الاهتمام السياسى؟ أم هو تعبير آخر عما وصفناه بالإجداب الفكرى وتبلد الحس السياسى؟ أو 
لعله تأكيد على أن الطبقة الحاكمة والنخب السياسية فى الشمال لا تريد إلا تكريس الهيمنة 
بأقل التكاليف: التعبيرات الدستورية المائعة دون أدنى سعى للتوفيق الجدلى بين الأطروحة 
ونقيض الأطروحة:» والذى هو انقسام السودان إلى بلدين. 

ظل الساسة والباحثون الشماليون كلما تناولوا قضية العبودية وآثارها الباقية فى المجتمع 
المعاصرء يلتمسون المعاذير لتلك الآثارء وينسبون ظاهرة الرق المشينة لشىء واحد: استغلال 
الإرساليات لموضوع تجارة الرقيق. ولا مشاحة فى أن الإرساليات قد استغلت موضوع الرق 
استغلالاً انتهازياً مكثفاً ولا محاجة فى أنها عمقت من مخاوف الجنوبيين من الشماليين. 


661 


ولكن لولم يكن هناك استرقاقء لما وجد الإرساليون ما يستغلون. فالرق فى السودان ليس 
ظلاً بلا محتوى. ولعل السؤال الذى كان يجب أن نوجهه لأنفسنا فى الشمال هو: لماذا بقيت 
قضية العبودية» وظلت آثارها محفورة فى الذاكرة الجماعية لأعداد كبيرة من الجنوبيين 
وغيرهم من أهالى المناطق المهمشة» فى الوقت الذى تلاشت فيه تقريباً من ذاكرة الشعوب 
الأخرى فى أفريقيا؟ ففى تلك البلاد لم يعد موضوع الرق مكان اهتمام إلا عند المؤرخين. 
قد يكون أحد الأسباب هو الكبرياء الزائفة التى تحول بيننا وبين الاعتراف بأخطاء آبائتا 
وأجدادنا . وقد يكون السببء رغبة كامنة فى الإبقاء على أساطير التميز العرقى كمبرر 
لإدامة مكاسب موروثة :#والسبي الأحين (آن علت) يقتي حكما دسي الشدقب إلى سادة 
ومسترقين» أو مؤهلين للاسترقاق. 

على المستوى الشخصىء سكل الكاتب مراراً بأسلوب استتنكارى من جانب بعض 
الشماليين (ومنهم من يفترض فيه اعتدال الفكر) : هل 3 تتوقع حقاً أن يصبح قرنق رئيساً 
للسودان؟ وبغض الطرف عن أن ليس من مهام هذا الكاتب التقرير فى أمر من سيحكم 
شعب السودان» فإن السؤال يذخر بالمعانى» خصوصاً عندما يجىء من قبل سائلين ارتضوا 
العيش ناعمين فى ظل حكومات شمالية» مدنية وعسكرية» تصدرها حمقى منهم من هو 
أقرب إلى البراذين. للسؤال وجهانء الوجه الأول هو استنكار اختيارنا الوقوف بجانب قرنق» 
وهذا أمرلا نعتذر عنه»ء بل به نباهى من تأووا إلى د بعضهم البعض خانعين لحكم البراذين: 

إذا محاسنى اللاتى أل بها 
كانت ذنوبى؛ فقل لى كيف اعتذر 


أهّربالشعرأقواما ذوي وّسن فى 
الجهل لو ضريوا بالسيف ما شعروا 
على نحت القوافي من مقاطعها 


وماعلى لهم أن تفهمالبقر 
أما الوجه الثانى» فيتعلق بالتوجه العنصرى للسائلين» فالمسألة التى تطغى على عقول 
هؤلاء» فيما هو واضحء لا تتعلق بالتأهيل للحكم الرشيدء ولا بالسمات الشخصية المائزة 


662 


للحاكم» وإنما تتعلق بالبيكة الهابطة التى يفترض أن قرنق قد انحدر منها. وفى حالة 
قرنق» على وجه التحديدء نلمس سببا آخر للسؤال: إقدام الرجل؛ كما قلناء على قلب المناضد 
على السياسة السودانية» فلا هو بالرجل الذى قدروا على استدلافه بالمناصب والأعطيات 
(كما حدث مع غيره من قبل)» ولا هو بالانفصالى الذى كان سيريحهم بوضع الخطوط 
واضحة على الرمال. محنة هذا الهادم للتماثيل المقدسة هى تجاوزه لكل الثرثرة حول 
المواطنة وذهابه توا إلى المعنى الحقيقى للفظء وإلى دلالاته المؤثرة على الخطط السياسية» 
والسياسات الاجتماعية» والبرامج الاقتصادية والثقافية للبلاد. 

كان فى مقدور الشماليين والجنوبيين معا التغاضى عن مرحلة العبودية فى علاقات الشمال 
بالجنوب» باعتبارها مرحلة تاريخية عاشت مثلها كل الدول فى الشرق والغرب؛ والشمال 
والجنوب. كما كان من الممكن أن يتعاطى المؤرخون الشماليون مع تلك المرحلة من التاريخ 
باعتبارها ظاهرة قد انتهت, كما فعل البعضء("") لو أفلحت حكومات فترة ما بعد الاستقلال 
فى القضاء على كافة المظالم التاريخية والمعاصرة. فشل الحكومات فى تحقيق ذلك الهدف لم 
يؤد فقط إلى ضياع كافة الفرص لتحقيق الوحدة والسلام» وإنما أهدر أيضاً الفرصة لمحو 
صححة مكؤية فى ناد السردان من ااخطاب التعواس ابعص اللجاوووين مضلة النتلام 
والوحدة» بلا ريبء تقضى أن يواجه السودانيون تلك القضية بشجاعة» وصراحة» ووضوح. 
وربما يكون التغافل عن هذه القضية هو الذى حمل فرانسيس دينق للخروج بتعبيره البريع: 
ليس ما يقال هو الذى يسبب الانقسام» ولكن ما لا يقال.('') ولعل إلحاحنا على الأمر فى هذا 
الكتاب هو محاولة لاستنطاق الصامتء واستكشاف غير المنظور. 

من هم السودانيون إذن؟ 

نعود بالقارئ إلى الفصلين الثانى والثالث حيث ألقينا الضوء على استهجان الطبقة 
الحاكمة» وشريحة كبيرة من النخبة الشمالية» للثقافات الأفريقية غير العربية. ومع إدراكنا 
لحق هذه المجموعات فى التفاخر بالثقافة العربية (كما نفاخر)» إلا أن إضفاء الطابع العرقى 
على العروبة أوقع أنصار العربية فى حرج كبيرء كما جعل الثقافة العربية نفسها محل 
اتهام. فبدلاً عن أن تكون العربية إنجازأ ثقافيًء أضحت ‏ أو بدت وكأنها سمة عرقية. إن 


6063 


ازدراء أية ثقافة» فى بلد يموج بعرقيات وثقافات عديدة» حمق متناه. كما أن الظن بأن فى 
الثقافات نسبية أو تراتبية ينم عن جهل بمضمون الثقافة» فكل البشر يعتزون بثقافتهم 
بصرف النظر عما يعتقده الآخرون فيها. وكما أوردنا من قبل؛ ظل العرب. مثل 
الأوروبيين» يتداولون فى أمر الثقافات الأفريقية بغير قليل من الزراية. فهى عند العرب 
ثقافات فجة غير مصقولةء تماماً كما يعتبر الأوربيون الفن الأفريقى فنا ساذجاً» والموسيقى 
الأفريقية موسيقى متنافرة النغمات (05ا02008020)» والرقص الأفريقى شهوانى داعر 
(كناه ا لءكة1) ,(1؟) ومهما كان من أهل هذه النعوتء فإن تلك الفنون ترتبط بالثقافة» بدرجة 
لا تقل عن ارتباط الأدب المتسامى (180-6:08) بها. فالثقافة تمثل كلا متكاملاً يجمع فى 
طياته كل عوالم المعرفة الإنسانية والحكمة» إذ تندرج تحته المعتقدات الدينية» والعادات 
والتقاليدء والقيم المعيارية» والبنيات الاجتماعية» والفنون المرئية» والموسيقى والرقصء» 
والخرافات» والمأثورات الشفهية» والعلوم المنبثقة من البيئة الطبيعية المحيطة» بل والسحرء 
فما السحر إلا علم تنكب الطريق .(إ2تاكة 86مع عءمعل50) 

دعنا نحسن الظن بالنخبة السودانية القديمة ونقول أنها ريما كانت تسعى لتخليق هوية 
سودانية تتجاوز الفوارق العرقية والقبلية» وتستند إلى الثقافة الإسلامية العربية المتفوقة. 
ويعززها التعليم» والإعلام الجماهيرىء والإرشاد الإسلامى. بيد أن الحماسة المفرطة التى 
صاحبت تطبيق تلك السياسة أفقدتها الصدقية» كما أكدت أسوأ مخاوف أهل الجنوب. تخيل 
هذا القول: إن السودان دولة عربية» ومن لا يشعر بأنه عربى» فعليه مغادرة البلاد. أطلق 
هذا التصريح الغريب وزير شمالى فى البرلمان الأول»!”') رداً على طلب تقدم به عضو 
جنوبى فى نفس البرلمان يلتمس فيه اتخاذ الإنجليزية لغة رسمية لأهل الجنوب. تصريح 
الوزير لم يكن متمادياً فى عدوانيته فحسبء بل كان أيضأ بلا مبرر('"). ذلك النوع من 
التصريحات أعطى الساسة الجنوبيين ذخيرة لا تنفد فى حربهم الثقافية ضد الشمال. إن 
الاعتراف بأى لغة (غير اللغة السائدة) كلغة عمل» حسبما تقضى الضروراتء أمر ليس 
بالغريبء وليس أدل على ذلك من اعتماد البرلمان السودانى آنذاك اللغة الإنجليزية كلغة 
عمل . كما أن تبنى العربية كلغة رسمية لا يقتضى أن يكون السودانى المتحدث بها عربياً أو 


664 


غير عربىء فاللغة ليست أكثر من وسيط رمزى للتواصل بين البشر. هذا الموضوع عولج» 
كما أبنا فى الفصل الخامسء بقدر كبير من الحكمة فى اتفاق أديس أبابا. ولعل فرانسيس 
دينق كان على صواب عندما قال بعد اتفاق أديس أبابا إن الاعتراف بالبشر كما هم 
واحترام خصائصهم الثقافية كما هى» يجعلهم أكثر رغبة فى تبنى النموذج الثقافى 
للمجموعات التى يتفاعلون معهاء على نحو أكثر نجاعة من أى مسلك آخر.!("") 

على أن السودان بخلاف كافة البلدان العربية الأخرىء يتميز بأنه الدولة الوحيدة فى 
الوطن العربى التى يتحدث أهلها بمائة وثلاثين لغة أصلية(") تلك اللغات مازالت حية 
حتى بين الأقوام التى دانت للإسلام مثل النوبة والبجة» فى حين انمحت عملياً اللغات 
الأصلية فى كافة البلدان العربية الأخرىء ماعدا شمال أفريقيا(الجماعات الأمازيغية). 
والعراق (الأكراد) . وفى الحالتين حافظ المواطنون غير العرب على ثقافتهم ولغتهم 
باعتبارهما علامتين فارقتين فى تحديد الهوية. وحتى فى مصرء التى كانت تعرف قبل 
الإسلام ببلاد القبطء وحيث لم يعد للغة القبطية أى دور فى الحياة اليومية للأقباطء لم يبدأ 
التعريب إلا بعد الغزو الإسلامىء وبقدر أكبر بعد سقوط الدولة العباسية فى أيدى التتار 
وهجرة آلاف العائلات العربية إلى مصر. عملية التعريب تلك استمرت فى العهدين 
الفاطمى والأيوبى حتى طال التعريب الأقباطء بل كل الجماعات غير المصرية التى 
ارتحلت إلى مصر مثل البربر والأكراد والشركس. هذا الاستعراب الطبيعى لم يحدث فى 
السودان» رغم تحول كافة أهل شماله وغربه وشرقه إلى الإسلام. 

السودان؛ بلا أدنى شكء ليس هو البلد الوحيد فى العالم الذى يعانى منء أو يتميز (حسب 
الزاوية التى ينظر بها المرء للأمر) بالتعدد اللغوى. لهذا يفيد أن نستنير يما صنعته تلك 
البلاد بتعددها اللغوى. فمثلاً لا يحوى دستور الولايات المتحدة ولا دستور الاتحاد السوفيتى 
القديم أى مادة تحدد اللغة القومية. وينطبق نفس الحال على الدستور الإيطالى حتى 
5 تموز/ يوليو 2٠٠٠١‏ حين قرر البرلمان الإيطالى اعتماد اللغة الإيطالية دستورياً كلغة 
قومية .('") نجد أيضاً أن العديد من الدول متعددة اللغات أقرت أكثر من لغة رسمية واحدةء 
بغض الطرف عن الثقل العددى للجماعات اللغوية. مثال ذلك الإنجليزية والفرنسية فى 


)06065 


كنداء والفرنسية والألمانية والإيطالية والرومانشية (10:7335) فى سويسراء وشيوع أكثر 
من سبع عشرة لغة فى الهند (بجانب الإنجليزية والهندوسيه) . فاللغة المشتركة ليستء. 
بالضرورةء أساساً لوحدة الأمة» وإلا فلم توحدت كنداء أو الهندء أو جنوب أفريقيا؟ 

وكما فى حال المقومات الأخرى للهوية الوطنية» ظلت الطبقة الحاكمة تتجاهل حقائق 
الحياة من حولها تجاهلاً تامآء كما لوأن السودان حالة فريدة من نوعها. وربما يجد المرء 
عذراً للقدامى الذين حال الانغلاق الثقافى بينهم وبين تبصر الواقع من حولهم» ولكن كان 
يخلد بالأجيال الحديثة التى ربيت فى زمان ثورات التحرير الأفريقية» وتغنت ل جومو 
كينياتا الذى نعرفه» وكادت أن تجعل من باتريس لومومبا قديساًء أن لا تقتفى آثار أسلافها 
المنغلقين» أو تبقى على نفسها داخل محارة ثقافية مصطنعةء على الأقل فيما يتعلق بالقارة 
التى يتغنون بها. لا يحق أيضاً للذخب المعاصرة أن تغفل عنء أو تجهلء قرار قمة منظمة 
الوحدة الأفريقية التى عقدت فى حزيران/ يونيو 118 (وكان السودان عضو فيها) ؛ حول 
تطوير اللغات الأفريقية» وتنمية الإحساس بقيمتهاء كما لا ينبغى لها أن تجهل قرار اليونسكو 
الصادر سنة ١196‏ (عام محو الأمية) الخاص بتشجيع دراسة اللغات الأصلية واستخدامها 
كوسيلة لمحاربة الأمية('"). ولربما كان هؤلاء المنغلقون على أنفسهم لا يدركون أن ثلاثا 
من المجموعات اللغوية الأفريقية الأريع ذات أصل سودانى. فباستثناء اللغة الخوسية (لغة 
الجنوب الأفريقى)» نلمح فى المجموعات الثلاث الأخرى (النيجرية ‏ الكونغولية - 
الكردفانية) و(الحامية ‏ السامية) و(النيلوية الصحراوية) أثراً سودانياً. ولعل هذا أوضح ما 
يكون فى التقارب الكبير بين اللغة الأمهرية والتقرانية من جهة: والنوبية ‏ الكوشية؛ من 
جهة أخرى (المجموعة الحامية ‏ السامية)؛ وبين لغة الشارى فى تشاد والمابان فى 
السودانء أو الدينكا فى السودان والولوف فى السنغال (المجموعة النيلوية الصحراوية) . لا 
يليق أيضاً بالكتاب والأدباء السودانيين السهو عن نتائج مؤتمر الكتاب الأفارقة الذى انعقد 
بأسمرا فى كانون ثان / يناير .)2'(77٠٠١‏ ومن الواضح أن هؤلاء الكتاب والأدباء ما برحوا 
عاجزين حتى اليوم عن الوصول إلى ما وصل إليه المؤرخ البريطانى» بازل ديفدسون حول 
ماهية الثقافات الأفريقية والإسهامات العديدة التى قدمتها للحضارة الإنسانية بوجه 
عام اآنضة 
666 


ولعل الأمانة العلمية تقضى أن نضيف أن بين ساسة الشمال من فطن إلى أهمية اللغات 
المحلية؛ كما بينهم من استنكر فرض اللغة السائدة على غير أهلها. وكنا قد أشرنا من قبل 
إلى مذكرة عبد الرحمن على طه حول اعتماد اللغة العربية لغة رسمية للتعليم» واستخدام 
اللغات المحلية فى المستويات الدنيا من التعليم. نذكر أيضاً عبد الخالق محجوبء السكرتير 
العام للحزب الشيوعى السودانى الذى نادى فى إحدى وثائق الحزب الشيوعى:المسألة 
القومية/ القبلية واللغات إلى التشجيع الفعلى للنموالحر لثقافات المجموعات ولغاتها " حتى 
تصبح مكوناً عضوي للثقافة السودانية. باستثناء هاتين المحاولتين تفلت موضوع الثقافات 
المحلية من محاور اهتمامات كل الأحزاب. عبر عن موقف الحزب الشيوعى تعبيراً جيداً 
الأستاذ عبدالله على إبراهيم حين قال إن تفوق اللغة العربية يحدده الدور المحورى الذى 
تلعبه تلك اللغة فى الحياة العملية كوسيلة للتجارة؛ والتواصلء والتفاعل الاجتماعى بين أقوام 
السودان المتفرقينء ولا ينبغى تحديد ذلك التفوق عبر نصوص دستورية لا تعبر إلا عن 
خيلاء عرقية تلقائية. وكما قال الأستاذ عبدالله ":ود العرب (الشمالى المستعرب) يفرز 
خيلاء العرقية ببداهة وتلقائية» ويغرق فى تعصبه لمجرد أنه لم يفكر فى أى كائن آخر. 
وكأن الإقرار بتفوقه أمر مفروغ منه ولا يتطرق إليه شك أو تساؤل.("") 

حرى بنا أيضاً أن نستهدى بتجارب العالم من حولناء فإن أخذنا نيجيريا مثلاًء نجد أنها 
استقرت باختيارها على الإنجليزية كلغة رسمية مشتركة» فى ضوء استخدام النيجيريين 
المكثف لهاء فى ذات الوقت بقيت لغات الهوسا واليوروبا والايبو وغيرها كلغات تواصل بين 
أهلهاء وكوسيط للتعبير حتى عن الأدب الرفيع. وفى شرق أفريقيا انتخب أهلها اللغة 
السواحيلية (التى تأثرت كثيراً بالعربية) لغة رسمية مشتركةء خاصة فى كينيا وتنزانيا. 
أثبتت التجارب أيضاً أن أى محاولة تقوم بها جماعة لفرض لغتها على جماعة أخرى 
تنتهى دوماً إلى عكس النتائج المرجوة» بل قد تؤدى إلى ردود فعل حمقاء. فمثلاء قام كل 
من أهل أذربيجان» وتركمنستان» وأوزيكستان بالتحول إلى الحروف اللاتينية عن السيريلية 
(0111) وهى لهجة سلافية قديمة تنسب للقديس سيريلء كتعبير عن رفضهم لمحاولات 
الروسنة فى ععهد ستالين» فى الوقت الذى ذهب فيه الطاجيكستانيون لاستبدال المروف 


6067 


السيريلية بالحروف العربية لنفس السبب. وكان من أكبر حماقات ستالين سعيه لروسنة 
الثقافة فى دول أسيا الوسطىء: وغلاظته فى التعامل مع من دعوا للحفاظ على خصائصهم 
النقافية» بمن فيهم أكثر أهل تلك المناطق ممالأة له(؛"). وحدث شىء شبيه بهذا فى 
الولايات المتحدة الأمريكية التى تعتبر من أكثر المجتمعات نجانساً ثقافياً» عندما أخذت 
موجات المهاجرين الجدد تطالبء مع تبنيها للثقافة الأمريكية بوجه عام بحفر موضع 
لثقافات أجدادهم فى المزيج الثقافى الأمريكى. وصفت خبيرة تعليمية تلك الحركة بأنها رد 
فعل طبيعى للمحاولات التى تقوم بها جماعات أمريكية لجعل الإنجليزية اللغة الوحيدة فى 
البلاد.(5؟) 

فى السودان سيطرت اللغة العربية على كل مناحى الحياة الاقتصادية والاجتماعية 
والثقافية» ولم يكن هناك أى حاجز طبيعى أو صناعى يحد من السيرورة الطبيعية للتناضح 
(2051320515) اللغوى عبر البلادء والامتصاص الثقافي التلقائى من البيئة المحيطة. حدث 
هذا أولاً بسبب الميزات التى وفرتها العربية كلغة للتواصل بين الأقوام مختلفى اللغى: كما 
فى تعاملهم إلى ومى والتجارى. ثانياً لأن العقل البشرى جادة رحيبة تتسع لكافة صنوف 
الرأى والمعتقدات والأفكار دون أى عائق من العوائق التى يضعها الذين يسعون لتكبيل 
العقل. وفى حديث له عن انتشار العربية فى ربوع السودان الجنوبى» قال دوقلاس جونسون 
إن الحواجز الجغرافية الهائلة التى أعاقت حركة الأسلحة»ء والأساطيل الصغيرة» والقوافل» 
عجزت عن أن تكون عائقاً لحركة البشرء أو تحول دون تدفق اللغات والثقافات 
والأفكار( ') . واللغة ليست وسيلة لنقل الأفكار فحسبء بل تلعب أيضاً دوراً هاماً فى تشكيل 
الفكر. ودون ريبء تقف المحاولات اليائسة التى قامت بها الإرساليات والمستعمرون 
لتقليص دور اللغة العربية فى الجنوب وإحلال الإنجليزية محلهاء دليلاً حياً على أن القسر 
ليس هو السبيل الأمثل لمحو الثقافات أو إثباتهاء هذا الدرس لم يستوعبه دعاة التعريب 
القسرى. كما أكدت التجارب التاريخية فى السودان أن الانتشار والتخلل الثقافى يتمان 
بصورة أكثر عفوية عن طريق وسائل غير سياسية مثل الموسيقى والأغانى. فأهل الفن 
يتوجهون بقنهم إلى عصب حساس فى الأمة هو المشاعرء وعلى المشاعر وحدها يراهنون. 


6658 


كم كان جون فول صائباً حين قال: إن مستقبل السودان على المدى الطويل يتوقف على 
قدرة السودانيين على تطوير التوازنات المهزوزة إلى توليفة وطنية» والشعراء والموسيقيون 
هم رواد وحداة هذا الطريق. بقى أن ننتظر لنرى إن كانت القيادة السياسية للحكومة 
والمعارضة قادرة على اتباع أولئك الفنانين.("") لا نشك أبداً فى أن الثقاقة العربية ستكون 
فى وضع أحسن أن ترك أمر نموها للسيرورة الطبيعية:ء ولإبداعات أهل الفن الذين 
يخاطبون الوجدانء بدلاً من إيكال أمرها إلى الساسة الانغلاقيين» والمهووسين الدينيين» 
والعنصريين من ذوى الخيلاء التلقائية . فالفنون تلعب بالصوت والكلمة والحرف على أوتار 
القلوب وحنايا الوجدان» ولا تعبر إلا عن أسمى العواطف فى البشر. 

إن المحاولات الرامية إلى محو الثقافات السودانية غير العربية هى فى» حقيقتهاء تعبير 
عن عصبية ثقافية (012,دم 20م [052]أنك)» والعصبيات الثقافية» كما يحدث التاريخ» قد 
تدخل بالأمم إلى نطاق الجنون. وكان من حسن حظ السودان أن المظالم التى عبر عنها 
الجنوب خاصة:؛ كانت دوماً مظالم سياسية واقتصادية. ولكن من سوء حظه أن القوى 
السياسية التى كان فى مقدورها رد تلك المظالم» لم تفشل فى تحقيق ذلك فحسبء بل أضفت 
على تلك الظلامات أبعاداً ثقافية ذات ظلال عنصرية»ء مثل تلك التصريحات التى كادت أن 
تجعل من قبول هيمنة اللغة العربية على المحيطين التربيوى والثقافى شرط لزوم للانتماء 
الوطنى. نتيجة لذلك لم يعد الجنوبيون ينظرون إلى استخدام اللغة العربية فى الجنوب 
كوسيلة للتواصل اليومى بين البشر كما كانت دائتمأء وإنما اعتبروها أداة أخرى لتحقيق مزيد 
من السيطرة من جانب الحاكم الشمالى. مع ذلكء نوقن أن اللغة العربية تستطيع أن تقوم 
بدور محورى فى تحقيق التجانس الثقافى داخل السودان شريطة أن لا يقسر عليها الآخرون. 
فالوحدة الثقافية لن تتحقق أبداً عبر فرض التماثل؛ ولكن بإتاحة الفرصة لكل التقافات كيما 
تتفتح» وتنفتح على بعضهاء وتتلاقح. فالتجانس (80100862122]100) ليس رديفاً للدمج 
القسرى والهيمنة (0ه1)ة2 نه ه0ممععع0) ولو أعاد الشماليون قراءة تاريخهم جيدا لأدركوا بأن 
الامتصاص التلقائى كان هو السبيل الذى طرقته العربية عند دخولها للسودان» وأعطت ثقافة 
الشمال نفسها الصفة السودانية التى ميزتها. 


669 


قضية الهوية فى السودان غرقت أيضاً فى مستنقع الأساطير المتصلة بالأنساب: أساطير 
النسب والسلالات وروابط الدم. تلك الأساطير لعبت دوراً هاما فى تحديد الهوية العرقية فى 
كل من شمال وجنوب السودان. وفى نطاق المنطقتين هناك أشكال ظاهرية وممارسات 
اجتماعية تحدد هوية الجماعة المعينة مثل الملبسء ولون البشرة» والأسماء. ونستطيع القول 
أن افتعال الحواجز بين النفس والآخر يشكل عنصراً هاماً من عناصر بناء الهوية العرقية: 
بل إن بعض المجتمعات المنغلقة على نفسهاء كان ذلك بسبب حياتها الفطرية أو تمركزها 
فى الذاتء تتوهم أنها الكائن الوحيد فى الكون. فعلى سبيل المثال» يوقن رعاة البقر فى 
المنطقة الاستوائية فى أفريقيا الشرقية (التبوسا فى السودان» والتركانا فى كينياء 
والكارامجونق فى يوغنداء وهم فى الأصل قبيلة واحدة) أن مواطنهم هى أصل كل أبقار 
العالم ولهذا يحلون لأنفسهم الإغارة على القبائل الرعوية المجاورة لانتهاب أبقارهاء ظانين 
أنهم يستردون حقاً سلب من أسلافهم. كما كان قدامى الإغريق يحسبون أن العالم كله 
ينتهى عند معبد هيركيوليس فى غرب المتوسطء ولربما ذهب إلى مثل هذه الظنون موسى 
بن نصير وهو يقف بخيله عند الأطلسى: لو كنت أعلم أن وراءك أرضاً لاقتحمتها بحصانى 
هذا. فليس أهلنا فى الشمال وحدهم هم الذين تستعبدهم الأوهام حول كينونتهم ودورهم 
المركزى فى الكون» مع فارق بسيط هو أن المتمركزين فى ذواتهم هؤلاء» ليسوا فى فطرية 
رعاة الأبقار فى أفريقيا الاستوائية» كما لا يعيشون فى زمان الإغريق» وعهد موسى بن 
نصيرء أو هكذا نتمنى. مع ذلك نقولء إن تجاوز الأوهام التى يصطنعها المرء حول نفسه 
أمر عسيرء لأنه يتطلب تعالى المرء على أهوائه وانحيازاته الفطرية. 

على أىء ذكر العالم الإنثريولوجى كنيسون أن ليس فى السودان أى سلالات تابتة؛ إذ 
تميزت التغيرات داخل تلك السلالات ب حذف أجيال بأكملهاء ودمج الفروع ذات القرابة 
البعيدة (0112]681) إلى الأصلء واستيعاب الغرباء داخل السلالات القائمة» واستبعاد 
الجماعات التى انتقلت بعيداً عن موطن الأسلاف (عصتمط لدموععهة)(55) رغم هذه 
التحولات بقيت الأساطير المتعلقة بنقاء السلالات كحقائق ثابتة استأخذت فكر الناس 
ووجدانهم» ولم يبتغوا غيرها أمرأ. أيضاً يقول كنيسون؛ أن بعض الجماعات السودانية 


010 


المستعربة ذهبت إلى إرجاع جذورها العرقية إلى زمن سحيق يمتد إلى ما وراء اسم الجد 
الأكبر للقبيلة ليصل ذلك الاسم بمهد قديم» وهو فى هذه الحالة الأرض العربية(؟") .على أن 
كنيسون ربط أيضاً بين ربط مستعربة شمال السودان أنسابهم بالمهاد القديمة» وبين سجلات 
الأنساب التى احتفظت بها الشعوب الأفريقية. تلك الشعوب كما قال» ظلت تسعى هى 
الأخرىء إلى افتعال وشيجة بين الجد الأكبر للقبيلة وبين اللهء أو بينه وبين زعيم روحى 
تقليدىء أو أحداث خارقة للعادة فى بداية العالم أو المجتمع('؛). على أن النزعة الدينية 
التى سادت مجتمع الشمال المستعرب كانتء بلا مرية» من أهم العوامل التى قادت إلى 
أسطرة الأنسابء فكثيراً ما افتعلت تلك المجموعات نسباً لجدها الأول مع آل البيت أو كبار 
الصحابة» علماً بأن ليس فى التاريخ ما يؤكد أن صحابياً واحدأ وفد إلى السودانء وإن كنا 
نعلم أنهم هاجروا واستقروا فى الحبشة المجاورة. ومن المثيرء أن أهلنا القدامى لم يختاروا 
غير القرشية نسبأء فلا كعباً أرضتهم ولا كلابا. 

لنا أن نتساءل إن كان إدمان السودانيين المستعربين لافتعال تلك الأنساب هومن باب 
اللعنة التى لحقت بأبناء إبراهيم جميعاً. كتب القاص المعروف خورخيس لويز بورخيس 
بلغته الساحرة رسالة بعنوان أنا اليهودى. قال بورخيس وهو يسخر من أهله الذين أصبحوا 
أسرى للتاريخ: إن أهل الحضارات الفينيقية» والجرمانية» والمغولية» والبابلية» والفارسية» 
والمصرية» والهندوسية» والفاندالية» والقوطية الشرقية» والأثيوبية» والبريطانية» وحضارة 
البريرء وكذلك ليالى الإسكندرية وبابل» وقرطاج» وممفيسء لم يلج أوا أبدا إلى تعزى 
سلالاتهم بالأباء القدماء» تلك الموهبة لم تتمتع بها إلا قبائل البحر الميت(١؟)‏ . ولعلنا 
نضيف إلى قبائل البحر الميت» قبائل الصحراء العربية» والقبائل الضائعة (81665] :105) التى 
انحدرت من أصلابها ثم هامت على وجهها فى ربوع السودان. 

هذه النزعة الدينية للتأصيل لا تقلل من أهمية الأهداف الدنيوية من ورائهاء والتى 
استفضنا فى الحديث عنهاء ألا وهى استدامة الحقوق الراسخة المدعاة . وريما كان ذلك هو 
السبب الذى يدفع بعض الجماعات الشمالية؛ بمن فيهم شريحة لا يستهان به من النخبة إلى 
نبذ الدعوة لهوية سودانية تحتضن كافة التقافات لأن المنطق الداخلى لتلك الدعوة يهدم 


6/1 


الأفكار والأساطير التى قسمت السودانيين إلى عنصر متفوق بسبب أصله العرقى له ما 
يشتهىء؛ وعنصر ذى عرق خبيث محمول بأصله على الدناءة. هذا الأسلوب المنحرف 
لمداهنة النفسء بل للحفاظ على الذات له مخاطره فى صراع الهويات بين مستعربين لا 
يتنكرون فقط للمقوم الأفريقى (النوبى أو الزنجى) فى تشكيل شخصيتهمء بل ينكرون أيضأ 
الخصوصيات الثقافية لإخوتهم من سكان البلاد الاصليين» وبين جماعات أصلية تنكرء 
بحكم وجودها القبلى على الأرضء أن يكون لأولئك الوافدين أى حق فى تلك الأرض. عبر 
عن هذه المخاطر أكاديمى شمالى قائلاًء أنه فى ظل الدعاوى المتعارضة حول من هم 
أصحاب الحق الأصلى فى السودان» قد تقود المحاولات لإثبات أو نفى حقيقة من هم أهل 
البلاد الأصليين إلى هزيمة ذاتية لمن يلحون على تأكيد أصولهم العربية(؟؟) . الأكاديمى 
المدقق لا يصدر بهذا حكماً على صدق أى من الدعاوى المتعارضة (بين من لا يرى فى 
السودان إلا وجهه العربى» ومن ينكر عليه أى نسب عربى)ء بقدر ما أراد أن يكشف عما 
فى هذه الدعاوى من اختلال منطقى. كان أصحاب هذه الرؤى المتعارضة سيريحون 
بعضهم البعضء ولا يخطئون وجه الصوابء لو اعترفوا بأنهم» قبل أى انتماء آخرء 
سودانيون. لو فعلوا لما أوقعوا أنفسهم فى ضيقء ولتعافوا نفسياً. 

جماعات كثر من بين الجنوبيين» كما سلف الذكرء ذهبت إلى وضع الشمال كله فى 
قائمة الاتهام بسبب الأخطاء التى ارتكبتها الطبقة الحاكمةء وعانى منها الجنوب أيما معاناة. 
من بين تلك الجماعات من حمله الغلو إلى مدى بعيدء حين أنكر على أهل الشمال النيلى 
انتسابهم العربى . وجه الخطأ فى هذا الإنكار هو أنه» رغم كل نظريات التسيد الشمالى ذات 
الطباع العدصرى الذى لا ينكرء لا يمكن لأحد إغفال أثرثلاثة قرون من الأسلمة 
والاستعراب على شمال ووسط السودان منذ مملكة الفونج» وعلى غرب السودان منذ إعتناق 
سليمان سولونج (الأحمر) للإسلام فى دارفور. فإن نحينا جانباً الأساطير المتعلقة بالأنساب, 
نجد أن الثقافة العربية الإسلامية قد استقرت كسمة مميزة للهوية الثقافية الشمالية» و إلا 
فبأى نعت يستطيع المرء أن يصف شعباً أصبحت اللغة العربية التى ارتضعها مع لبان أمهء 
هى وسيلته الوحيدة للتعبير؟ ولأى ثقافة يمكن أن ينسب أقواماً شكلت الثقافة العربية» لقرون 
عديدة» طريقة تفكيرهم ووعيهم بالحياة؟ فى هذا لا يختلف السودانيون الشماليون كثيراً عن 


672 


غيرهم من الشعوب المستعربة فى شمال أفريقيا (أهل المغرب الكبير) . فأهل المغرب. من 
الناحية الجينية» ينتمون إلى سلالة من كان يسميهم الرومان البربر (كهدتعدطءةم)9؟؟) إلا 
أنهم أصبحوا عرباً ثقافياً باتخاذهم العربية الإسلامية ثقافة لهم. تلك الثقافة لعبت دوراً 
محورياً فى تشكيل عالمهم الفكرى بأكمله؛ فى حين عجزت عن هذا الحضارات الفينيقية» 
والرومانية» والفاندالية. وفى الواقع» يعنى تعبير الأمازيغ الذى يطلقه «البربره على أنفسهم: 
الشعب الحرء وذلك تعبير عن رفضهم الذوبان فى تلك الثقافات القديمة. وإن علمنا أن العدد 
الفعلى للقوات العسكرية العربية التى غزت أفريقيا (أفريقيا هو الاسم الذى أطلقه الجغرافيون 
العربى على برقة وبلاد البربر) لا يزيد عن عشرات الآلافء ندرك بأن استعراب هذه 
المجموعات كان استعراباً ثقافياً. فكما حدث فى السودانء توافد على المغرب الكبير حشود 
من المهاجرين الذكور منهم الوعاظء والتجارء والمرتزقة» واستقر بهم الحال جميعاً فى 
الموطن الجديدء ثم تزاوجوا مع أهلهء خاصة فى منطقة الساحل التى كانت أكثر تطوراً من 
منطقة الجبال بحكم اختلاطها بقرطاجنة. عملية التمازج هذه بين المهاجرين والبربر 
تميزت بدرجة عالية من التسامح والاحترام للتقاليد المحلية . ومن بين هؤلاء المستعربين 
برزأئمة مرموقون فى الفقه الإسلامى مثل أسد بن الفرات» وحبيب بن سعيدء وسحنون 
صاحب المدونة الشهيرة فى الفقه المالكى. وقد زعم بعض البربر الانتساب إلى حمير: 
وكانوا فى هذا أقل طموحاً من أهلنا الذين ذهبوا تواً بنسبهم إلى العباس بن عبد المطلبء كما 
يقول الجعليون أو إلى الزبير بن العوام؛ كما يتظنى الحسانية . ونسبة «البريره لحمير أنكرها 
ابن حزم إذ قال: «وادعت طوائف منهم (أى من البربر) إلى حميرء وبعضهم إلى برين 
قي عولان. وهذا ,انكل لا خف فيه وما علد التسايزن قيس غيلان ينا امير 
أصلا .(؟*) لا ندرى ما الحكم الذى كان سينتهى إليه الشيخ القرطبىء ابن حزمء لو تطرق 
فى جمهرته إلى نسبة مستعربة السودان أنفسهم إلى قريش. 

وسواس الحسب والنسب داء قل أن تتعافى منه الأممء خاصة تلك التى لا تملك ما تفاخر 
به فى حاضرها. فالإيطاليون بكل إنجازهم المعاصر فى الفن والعمارة والصناعة لم يجدوا 
أنفسهم بحاجة لتذكير الناس كلما أمسى مساء وأشرق صباح بأنهم ورثة جستنيان ويوليوس 
قيصر وهوراس. ورثة الحضارة الرومانية أولئك: تركوا ماضيهم خلفهم بالرغم من 


0713 


محاصرته لهم فى كل أزقة روما وأخذوا ينهلون من المعارف الحديثة» لأنهم أدركوا جيداً 
أن الحضارات كلها قامت على الاستعارة أو المثاقفة. فقد أخذ اليونان عن مصرء وأخذت 
روما عن اليونان؛ وأخذ العرب عن فارسء كما أخذت أوربا عن العرب. هذا الوسواس لا 
يصيب إلا الذين توقفت ساعاتهم عند أصولهم وأحسابهم الرفيعة» حتى وإن كان فى 
انتمائهم لتلك الأحساب شبهة. يقول صاحب المقدمة عن ذلك الوسواس: «قد يكون للبيت 
شرف أول بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منها لذهابها بالحضارة» ويختلطون بالغمار 
ويبقى فى نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون أنفسهم به من أشرف البيوتات والعصائب» 
وليسوا منها على شىء:. 

لإتبات «فرية» النسب العربى لأهل الشمال: ذهب بعض المعلقين الجنوبيين للمقاربة بين 
مستعربة الشمال ومسلمى أفريقيا الغربية والشرقية» بجامع الأفريقية والإسلام فى كل. تلك 
مقارية مغلوطة؛ فرغم أن مسلمى السهل (السنغال؛ مالىء النيجر)» أو الساحل الأفريقى 
(كينياء تنزانياء زنجبار) . اتخذوا الإسلام دينآء إلا أنهم حافظوا على لغاهم وخصائصهم 
الثقافية الأصلية؛ كما لم يتخذوا العربية أبداً لغة لهم» أو يتأثروا بالثقافة العربية كما تأثر بها 
أهل شمال السودان والشمال الأفريقى. بالإضافة إلى كل ذلك, عمق من مشاعر الانتماء 
العربى فى شمال السودان جيرته المباشرة لمصر وللسعودية عبر البحر الأحمرء وقد روينا 
فى الفصل الأول أطيافاً من القصص عن تواصل السناريين والفور قبل مجىء الحكم 
التركى بالأزهر والحجاز. وبلغ اشتداد رغبة حكام دارفور فى تعلم العربية حداً تكشف عنه 
قصة أوردها المرتضى الزبيدى فى مقدمة مؤلفه العظيم تاج العروس عن أن سلطان دارفور 
غير العربية قد بعث إليه بمبلغ ضخم من المال ليقتنى التاج. إن الوشائج التى تنمو بين 
أفراد أى مجموعة من البشر عبر روابط متينة» ظاهرة أو خفية» مثل اللغة المشتركة. 
والذاكرة التاريخيةء والعاداتء والتقاليدء والأحاسيس لابد من أن تخلق إلفة ومودة بين 
أولنك الأفرادء وفقاً لايزايا برلين. هذه الإلفة» فى تقدير برلين» هى حاجة إنسانية طبيعية 
ماسة لا تقل فى أهميتها عن حاجة الإنسان للطعامء أو الشرابء أو الشعور بالأمن والرغبة 
فى الإنجاب والتناسل.(5؟) 


674 


هذه الرؤى المتصادمة للهوية السودانية رؤى فاسدة من كل وجه لأنها لا ترتفع مع 
الواقع على حال ثابتة» فسادها فى تناقضها مع معطيات ذلك الواقع . فالسودانيون الذين 
يتحدثون عن هوية سودانية أفريقية تستبعد المواريث العربية هم فى الواقع أعداء لأفريقياء 
لأن أفريقيا بوتقة تتجمع وتتفاعل فيها مختلف الجماعات والثقافات والأعراق. هذا بالطبع» 
إن لم نعتبر الأفريقانية رديفاً للزنوجة. كما أن السودانيين الشماليين الذين ينكرون إنكاراً 
تامأ أن يكون للثقافات والأعراق الأفريقية أى دور فى تشكيل شخصيتهم وهويتهم الوطنية» 
تكذبهم كل الظواهرء بدءاً من السحنة» وانتهاء بالعادات والتقاليد والفنون. 

الأسلوب الذى عالج به المفكرون الشماليون موضوع الهوية السودانية منذ عهد المؤتمر 
كان وليداً طبيعياًء كما قلناء للانغلاق الثقافى .(30109اناه1 [2:ن6أناك) لنأخذء على سبيل 
المنال» كيف صور الثقافة السودانية واحد من أبرز رموز الأحياء الثقافى فى سودان 
الأربعينيات من القرن الماضىء محمد أحمد محجوبء الفارس اللامع فى ذلك الجيل. ولعل 
بروز محجوب فى المجال الفكرى هو الذى جعل المؤرخين السياسيين من الجنوب 
والشمال!!' *) يمحصون ما كتب للوقوف على حقيقة تفكير ذلك الجيل. ذكر محجوب أن 
الثقافة السودانية المميزة لابد أن تعتمد على التراث العربى الإسلامى وتغذى نفسها بالفكر 
الأوروبى» بهدف خلق فكر قومى حقيقى يعبر عن خصائص شعب السودان فى صحاريه 
وغاباته. تلك الآراء وردت فى محاضرة هامة ألقاها محجوب فى عام ٠714("*؛)‏ ليبين 
فيها المسار الذى يجب أن تتخذه الحركة للحركة الفكرية السودانية لكيما تحتل مكانها فى 
عالم الفكر الإنسانى. فما هى المعالم التى حددها المحجوب لتهتدى بها تلك المسيرة ؟ 

جاءت المحاضرة تحت ثلاثة عناوين فرعية: ماضى السودان البعيد والقريب» تأثير 
الثقافة الإسلامية والعربية» أثر البيئة على الثقافة. وفى البدء؛ اختزل المحاضر ماضى 
السودان البعيد والقريب فى دخول العرب السودان» فى حين اختصر التاريخ النوبى المضىء 
إلى مجرد حقبة تاثر فيها السودان بالحضارة الفرعونية الوثنية وب الديانات السماوية 
الأخرى. هذه الديانات السماوية "الأخرى التى لم يذكرها الأديب اللامع بالاسم؛ هى 
المسيحية التى سادت شمال السودان (وليس جنوبه) لسبعة قرون. وربما لم يكن كل جيل 


6)0015 


محجوبء أو الإسلامويون المعاصرونء على دراية بأن أول شخص غير يهودى(860111) 
تم تعميده مسيحياً كان سودانياً[2؛) . ولكن اختصار ه للحضارة السودانية (بل الأفريقية) 
الأولى إلى مجرد حاشية على متن التاريخ يجسم الضباب الذى غشى الذاكرة التاريخية 
لمفكرى فترة ما قبل الاستقلال فى الشمال. فالحضارة النوبية التى ازدهرت كحضارة 
أفريقية:؛ منذ عام قيل الميلاد وإلى عام "6٠‏ بعدهء لم تكن حضارة ة تأثترت 
بالفرعونية» بل حضارة أصلية ترعرعت وازدهرت بجانب المضارات الرومانية» 
والمصرية اليونانية» والفرعونية» ولهذا ينبغى أن تكون مصدر فخر لكافة السودانيين. وكان 
طبيعياً أن تنمو تلك الحضارة وتزدهرء حيث نمت وازدهرتء لاستقرار أهلها على ضفاف 
النيل. فالمجموعات المستقرة وحدها هى التى يتوفر لها الوقت لتطوير حياتها إلى ما هو أبعد 
عن أمور المعاش. ذلك الاستقرار لم تعرفه المجتمعات التى ظلت تلهث وراء الكلاً والماء فى 
السودان الوسيط. وإن كانت نظرة مثقفى السودان فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى. 
للحضارات السودانية الزاهية مثل حضارتى مروى وكوش بهذا القدر من الاستهانة» فمن 
البدهى أن لا يولوا أدنى اهتمام لثقافات السودان الأصلية الأخرى. 

هذا النهج فى التقويم» لا يفصح فقط عن غياب للحس التاريخى مثيرء بل أيضاً عن 
قراءة للتاريخ ممعنة فى الخطأ. فارتباط أهل شمال السودان بالعروبة والإسلام ليس بأكثر 
من ارتباط بلدان المغرب بهماء بل إن بلاد المغرب الإسلامى كانت هى الرافد الأساس 
للإسلام الشعبى فى السودانء إذ جاءت منها إليه أكبر الطرق الدينية مثل القادرية والتجانية 
والشاذلية. مع ذلك. لم يجحد أهل المغرب الإسلامى (تونس والجزائر) مواريثهم التى 
سبقت الإسلام: الرومانية» والقرطاجينية» والأمازيغية. وكان الرئيس الجزائرى, عبد العزيز 
بوتفليقة موفقاً عندما سعى مؤخراًء رغم أجواء التطرف الدينى المحموم الذى ساد الجزائر» 
لاسترداد سان أوغسطين الأفريقى إلى أهله. ففى افتتاح ندوة عن سان أوغسطين نظمها 
المجلس الإسلامى فى الجزائر وجامعة فريبورج قال الرئيس بوتفليقة: لقد عاش سان 
أوغسطين وطور فكره قبل نزول القرآن» ولكن هذا لا يجرد أعماله من صفتها الإنسانية 
المستلهمة من الكتب السماوية من إبراهيم إلى موسى وعيسى. أضاف الرئيس الجزائرى أن 
الاحتفاء بأوغسطين يعيد للجزائر جزءاً هاماً من تاريخها('*) . وكان الرئيس الجزائرى أكثر 


06 


براعة عندما أصدر مرسوماً رئاسياً يجعل الأمازيغية لغة وطنية (أقره البرلمان الجزائرى 
من بعد فى أبريل )3٠١7‏ . ولا شك أن حال الجزائر يختلف عن حال جنوب السودانء إذ 
كانت العقيدة الإسلامية هى اللحمة والسدى فى وحدة عربه وأمازيغه. تلك الوحدة جعلت 
العربى والأمازيغى يقفان كتفاً إلى كتف فى ثورة التحريرء وفى تلك الثورة قدم الأمازيغ 
للثورة الجزائرية بعضأ من أعظم قادتها: زيروت يوسفء وبلمهيدى العربى. 

السودان أيضاً نيس أكثر عروبة من سوريا والعراق والأردن» فسوريا لم تتنكر لتراثها 
الرومانى فى تدمر الذى تأسس فى فترة حكم اودايناسوس وزوجته زنوبيا؛ والعراق لم يغقل 
تاريخه الآشورى والبابلى؛ والأردن ما برح يحتفى بآثار النبطيين فى البتراء. فما خطبهم 
ورثة الحضارة النوبية العظيمة يجحدون فضلها ويتنكرون لها؟ ألأنها بعيدة ونائية (الأمر 
الذى لا يشكل سببا معقولا) ؟ أم لأنها محسوبة على الوثنية ؟ إن كان الأمر كذلكء فتلك 
نظرة لا تجدر إلا بطالبان. ما يدهشنا أكثرء هو أن تلك الكوكبة من مفكرى الشمال الذين 
ظلوا دوماً يتطلعون لمصر يستلهمونهاء لم تستهد أبداً بالاحترام الذى ظل يكنه رموز الفكر 
المصرى للتراث الفرعونى. لم تستهد بما كتبه نجيب محفوظ (كفاح طيبه؛ رادوبيس)» أو 
بما عمل على تحقيقه الراشدون من ساسة مصر من أجل تعميق الوعى الوطنى بالتاريخ 
بين الناشئة مثل قرار وزير التربية» على ماهر فى عام ١577‏ بجعل زيارة الآثار الفرعونية 
جزءاً من المناهج الدراسية لغرس حب الوطن فى نفوس الأجيال الجديدة» أو بما نظمه أحمد 
شوقى من خرائد فى نتمجيد مينا وخوفو وسيتى. وكان قول شوقى فى هؤلاء الفراعين 
الوثنيين ذائعاً وشائعاً بين من كانوا يدمنون قراءة «الشوقيات» . فى السودان: 


مشت بمنارهم في الأرض روما 
ومن أنوارهم قبست اثينا 


نضيف إلى ذلك إقدام مصر مؤخراً على إحياء مكتبة الإسكندرية 2ع10]06ا816) 
(ههمعلمةءء41 التى أنشكت فى عهد وثنىء» وقيل إن عمرو بن العاص هوالذى أمر 
بإحراقهاء وهو أمر فيه قولان7'”) . نخشى أن يكون إفراط ذلك الجيل من مفكرى الشمال 
فى تأكيد الهوية العربية الإسلامية على حساب كل المواريث الثقافية الأخرى؛ وافتراضهم 


26077 


أن تاريخ السودان لم يبدأ إلا بدخول العرب والإسلام إليه» تعبيراً عن عقدة نقص تجاه 
العرب الآخرين خارج السودان» قادت؛ بدورهاء إلى عقدة استعلاء تجاه غير العرب داخله . 
فمستعربة الشمال الذين يعيشون فى تخوم الوطن العربى (من الناحية الجغرافية)» والذين 
دخلوا فى رحاب الإسلام بآخرة (من الناحية الكرونولوجية) لا يرضون لأنفسهم إلا أن 
يكونوا عرباً أكثر من غيرهم من العرب؛ ومسلمين أكثر إسلاماً ممن عداهم من أمة محمد. 
فى محاضرتهء قال المحجوب أيضاًء إن السودان كان قطباً جاذباً للمهاجرين من اليمن» 
والحجازء والحبشة. هؤلاء المهاجرون» فيما روى محجوب. استقروا فى موطن هجرتهم 
7 ثم اتجهوا جنوباً ليطردوا السكان الأصليين إلى أعماق الخفوت حي لل 
لاء يحتفظون بثقافاتهم الأصلية . صحيح أن هذه هى | الكيفية التى تخلقت بها 
ل البشرية فى السودان فى الفترة التى تلت سقوط الدولة 000 ملاظ 
محجوب العابرة حول تلك العملية أغفلت قروناً من التواصل بين البشرء والتهجين بين 
الجماعات العرقية» والتداخل بين أساليب الحياة والأعراف والتقاليد. ذلك التفاعل التاريخى 
الذى خلف أثراً فى الشمال والجنوب معأء وأسهم فى تشعيل الووية السودانية» لم يكن له 
وجود الخريطة الثقافية التى رسمها المحجوب للسودان. لهذا لم يكن غريبآ أن لايرى فى 
الجنوب غير ظواهره الجغرافية: الغابات» أى أن أعماق الجنوب لم تعد إلا بعداً ايكولوجياً 
للحركة الفكرية السودانية. ولكن الأوطان ليست ممتلكات عقارية» وإنما هى عقار يقطنه 
بشر لهم تاريخ معين» وخصائص ثقافية مميزة» وطرائق مختلفة للتعبير عن القيم 
الإنسانية. وفيما يلوح لناء ظل بعض مفكرى الشمال من جيل محجوب يحسبونء أو 
يرغبون فىء أن تبقى تلك الممتلكات عقاراً غير مأهول. 
قلة الاهتمام بالثقافات الأفريقية السودانية أو تعمد إنكارهاء عقد من أمره مسلك شمالى 
يفير الريب. فجميع الدساتير السودانية منذ استقلال السودان؛ كما أوردناء تضمنت؛ بصورة 
أو أخرىء بنوداً تتعلق باحترام التعددية الثقافية للبلاد. ولكن التاريخ الذى فرغنا توا من 
قراءته يثبت أن ذلك الاحترام كان قضية مفتوحة: إذ لا تمثل تلك الثقافات المتعددة 
(باستثناء الثقافة العربية) جزءاً من الوعى الوطنىء ولا مكان لهاء كما أسلف الذكرء فى 
السياسات التى تشكل ذلك الوعى: لا مكان لها فى المناهج الدراسية:ء ولا فى برامج 


6078 


الإعلام ولا فى الحفريات الأثرية (فى الجدوب والغرب)» ولا فى الفنون. وكما أكد أديب 
شمالى مراقب, المكان الوحيد لتلك الثقافات هو المتحف الأنثروبولوجى الآيل للسقوط فى 
الخرطوم('”). وبالطبع» نتحدث هنا عن العقل الرسمى ومقاصده. لا عن الجهود الفردية 
للمبدعين من أهل المغنى (محمد وردى مثلا)» والتشكيليين (إبراهيم الصلحى وأبنائه) » 
وجموع الشعراء والقاصين الذين سعوا فى إبداعاتهم للتعبير عن هذا التنوع» وعلى رأس 
هؤلاء الشاعر الفحل الراحل؛ محمد عبد الحى .هذا التناقض بين النصوص الدستورية 
والممارسات العملية لا يعكس تخبط فكرياً وسياسياً فحسبء وإنما يوحى أيضأ بدرجة عالية 
من العجز الأخلاقى. فكيف يتسنى لمن يسعى جاهداً إلى إبادة كافة الثقافات باستثناء الثقافة 
المسيطرة من أجل تحقيق التماثل والوحدة» الحديث عن احترام التعددية الثقافية ؟ 
مفكر شمالى آخر انتهى به الرأى إلى أن الثقافة العربية قد اختلطت تمامأ وتمازجت فى 
شمال السودان مع الثقافات الأفريقية للدرجة التى أصبح فيها الشمال تجسيداً حي لأفريقيا 
أكثر من الجنوب7””). هذا رأى صائبء وكنا سنصفق لصاحبه الأكاديمى المعروفء لو 
أعترف بأى قيمة للثقافات الأفريقية فى السودان» ولكن ليس عندما يقول أن كل الثقافات 
الأفريقية المعاصرة, والمعتقدات التقليدية» وحتى الحضارات الوثنية التاريخية مثل الحصّارة 
الفرعونية والحصارة النوبية» لا تستحق تحق جميعها أى تقدير(””). ثمة خطآن فى تلك النظرة» 
أولاً القول بأن الحضارات تقوم بموقفها من الأديان» أو موقف الأديان منهاء يعبر عن 
موقف أيديولوجىء, ولا يصدر عن قراءة موضوعية للتاريخ» واستنطاق علمى لأحداثه؛ أو 
حكم عقلانى على ماهية تلك الحضارات حسب الفهم المتعارف للحضارة . وإن نهجنا هذا 
النهج فى الحكم على الحضارة العربية قبل الإسلامية لحكمنا بإلغائها من جدول حضارات 
العالم بسبب من وثنيتها. ثانياً أى محاولة لتفسير التاريخ تفسيراً إثنياً أو طائفياً يخرج 
بالمؤرخ من دائرة التحليل الموضوعى للتاريخ إلى حيز التبرير الأيديولوجى. 
من الواضحء إذن» أن مفكرى الشمال فى الماضىء وطائفة من المفكرين ارين 
يرفضون الثقافات الأفريقية لأنها أولاً "بدائية فى تقديرهمء ولأنها ثانياً لا تتفق مع النموذج 
الثقافى الذى يحتذونء ولا مع النماذج الثقافية الغربية التى تبنوها. على أن مفهوم البدائية 
أمر فيه قولان» فمثلاء يقول العالم الأنثروبولوجى ايفانز برتشارد أن كلمة "بدائى تحمل 


69 


فى طياتها معاني منطقية وزمنيةء (21ء0201081متدكء له لقعازع10)؛ وا المعنيان كثيراً ما 
اختلطا حتى فى أذهان كبار العلماء(؛*). فبعض الثقافات قد تنسب إلى البداءة لأنها تمثل 
طوراً أدنى من أدوار النشوء بالقياس إلى ثقافة أخرى أكثر حداثة (المفهوم الزمنى)؛ وبعض 
آخر يعتبر بدائياً بحساب القيم المعيارية التى يقيس بها المؤرخ الثقافات. على أن القياس لأى 
ثقافة لن يكون علمياً إن لم يسترشد بمعايير موضوعية وإنسانية شاملة. ولا جدال فى أن 
المفكرين الشماليين الذين تناولنا أمرهم قد استكانوا لأحكام الجغرافيين العرب حول السودان 
(بلاد السود) ؛ بالرغم من أن أولتك الجغرافيين قد أدخلوا أهل بلادنا (النوبة والزنج) فى 
رَستَرَةَ أولتك السودان . هؤلاء المفكرون استراحوا أيضاً أيما راحة للمفاهيم الأوروبية عن 
أفريقياء دون أن يعن لهم أنهم جزء لا يتجزأ من أفريقيا التى كان يتحدث عنها الأوروبيون. 
ولربما وجد هؤلاء المستريحون حل للتناقض الداخلى فى هذه الأغلوطة فى تمثيلية زائفة: 
نحن أحفاد العباس والزبير بن العوام» أهل العزة القعساء والأرومة الطاهرة» مع آبائنا جثنا 
وهكذا سنبقى قرشيين إلى أن يفنى الله الأرض ومن عليها. لهذا لم يعسر على هؤلاء إغفال 
مواريث السودان النوبى القديم» ناهيك عن ثقافاته المعاصرة "وضيعة الاصل. فتمجيد القديم 
(الحضارة النوبية) تركوه للمؤرخين وشعراء الملاحم الذين جاءوا من أوطان قصية وكانوا 
أكثر وعياً بمساهمة السودان التاريخية فى إثراء التراث الأفريقى والحضارة الإنسانية بصفة 
عامة مثل ليوبولد سنغور وشيخ انتا ديوب» وبول بريمان(””). لو تفكروا قليلاً لأدركوا أن 
الحضارة الفرعونية والحضارة النوبية يمثلان ظاهرة لا مثيل لها فى التاريخ؛ انتقال 
الحضارة ضد التيار من الشمال إلى الجنوب. والمراد هنا ليس هو أن نحيا فى الماضىء بقدر 
ما هو أن لا نتبرأ منهء خاصة إن كان فيه ما نفاخر به. 

لحق الدرابى مؤخراً بطائفة العرب المتأفرقين فى السودان. قال فى تصريح لأحد 
الصحفيين الأمريكيين أن السودان صورة مصغرة من العالم الأفريقى» فشرق السودان جزء 
من القرن الأفريقىء وغرب السودان جزء من غرب أفريقياء وشمال السودان جزء من شمال 
أفريقياء وهذا الوضع يؤهله تمامأ للارتباط بكل أفريقيا'”). من الناحية الجغرافية لا 
اعتراض لنا على حكم الترابى: ولكن أين هو موقع أفريقيا فى خريطة ترابى الثقافية؟ أبان 
ذلك فى حديث صحفى آخر قال فيه أن الإسلام فى السودان تتهدده الأخطار من جانب 


6)0260 


أمريكا التى لا تفقه شيئاً فى هذا العالم» ومن جانب الأفارقة الذين لا تعكس أفكارهم إلا 
طبيعتهم البدائية("”). وإن كانت حقاً هذه هى طبيعة الأفارقة» فلماذا تستبد النشوة بالترابى 
(أو بغيره) ليكون السودان عالماً مصغراً للبدائية؟ حديث بعض القادة الشماليين بلسانين 
عن انتمائهم الأفريقى» يصدم النفسء ليس فقط لإبطال بعضه بعضاأء وإذما أيضاً لخلوه من 
الفطنة» إذ لا يتنبه هؤلاء» مع فرط حديثهم عن وحدة القارة» أن وحدة أفريقيا لا تتحقق إلا 
عند الاعتراف بكل تعددها الذقافى» وتنوعها العرقى» من أقصى الشمال إلى أقصى 
الجنوب . لذلك فإن الذى يعمل جاهداً لتحقيق التماثل الثقافى قسراً فى بلاده (العالم المصغر 

لأفريقيا) على حساب التنوع الثقافى فيهاء ليس له إلى تلك الوحدة سبيل. 
فى الآونة الأخيرة بدأت الجبهة» بعد فشلها فى غزو أفريقيا فكريأء تتردى بوشاح أفريقى 
كجزء من إستراتيجيتها الجديدة للإنفكاك من عزلتها. ففى اجتماع فى شباط/ فبراير 
١‏ لقمة دول الصحراء والساحل التى أصبح السودان عضواً فيهاء تحدث للصحافة 
مصطفى عثمان اسماعيلء وزير خارجية السودان عن إنجازات ذلك الاجتماع. ومن بين 
الإنجازات» عدد تبنى مشروعات لتعزيز الثقافات الأفريقية بالتعاون التام مع المؤسسات 
التعليمية والإعلامية(”) .صدور ذلك التصريح من جانب واحد من وزراء النظام الذى 
جعل من إبادة الثقافات الأفريقية فى بلده واجباً مقدساًء هو قمة المغالطة والمخادعة. ولا 
يظنن راعى الثقافة الأفريقية الجديد أنه يختل الناس من حيث لا يعلمونء إذ لا شك فى أن 
عدداً غير قليل من الذين يؤمنون صادقين بتعزد يز الثقافات الأفريقية» فى داخل السودان 
وخارجهء سيتساءلون عن مدى تعزيز النظام داخل بلاده للثقافات السودانية "الافريقية فى 
المناهج الدراسية أو فى برامج الإعلام؟ يتساءلون أيضاً عن كم من السودانيين الأفارقة غير 
المسلمين يرى وجهه ووجه أهله فى تلك البرامج. استحقار النظام لعقول الناس بلغ به حدآً 
جعله لا يأبه بتناقض أقواله مع أفعاله فحسب. وإنما أيضاً بالتصادم البالغ بين أقوال رموزه 
حول الموضوع الواحدء وفى نفس الأفق الزمنى. ففى حديث لوزير العدل؛ المرحوم عبد 
العزيز شدو أمام مؤتمر البرلمانات العربية ورد ما يلى: "نناشد الدول العربية بدعم النظام 
الإسلامى فى السودان» حماية للإسلام والعروية من هجمة أفريقية مسيحية(”). هذا 
الاستغراق فى خداع النفسء لكيلا نقول الكذبء لا يليق بحكومة:» ولا يخلد بحاكم صاحب 
6651© 


رسالة. كما أن الذى ضاق ذرعاً بمواريث أهل السودان الثقافية والتعليمية التى لا تتفق مع 
رؤاهء لا يملك» فيما نحسبء كبير وقت لتعزيز الثقافة الأفريقية . هذه المواريث أخذ النظام 
فى تحطيمها عبر التشغيب المعرفى فى الراديو والتلفزيون» وتسخير تلك الأجهزة لذوى 
السقف الفكرى المتدنى من الفقهاء لإصدار الفتاوى النابية عن الحجم الشرعى لذكر الرجل 
بدلا عن بث المعارف الحديثة . وكأن ليس فى هذا التشغيب ما يكفىء انطلق النظام ليشحن 
المناهج التعليمية بخرافات وأفكار ضارة لا تورث إلا الشحناء» وتمحو ذاكرتهم الجماعية. 
ليس أدل على ذلك من استعمار الجبهة لمجلة الصبيان لتستبدل فيها طرائف عمك تنقو 
والأقاصيص التى تربى الناشئة على معرفة بلادهم» وسبل كسب العيش فيهاء بأحاديث عن 
الجهادء الفريضة الغائبة. أسفنا كبير على مآل واحدة من أكبر الدرر فى تاج وزارة 
المعارف» جلاها وثبتها على ذلك التاج معلمون نابهون أماجد: بدءاً بمكى عباس» أحمد 
الِب اأحمد: فكر الذين محمد» وود الشيخ وانتهاء بشرحبيل أحمد الذئ دقع للمجرة بقلنه 
وقيثاره إلى حيث يستجيد الناس القراءة والسماع. قولوا لنا بربكم: كيف يطيق احتمال 
الثقافات الأفريقية من عجز عن احتمال عمك تنقو؟ 

إمعاناً فى التضليل والرواغ تضمن دستور الجبهة الذى صاغه الترابى فى عام 1594»: 
مادة (المادة 77) تتحدث عن حرمة المجتمعات الثقافية وتنص على أن يُكفل لكل مجتمع 
أو جماعة من المواطنين حق الاحتفاظ بثقافتهم الأصلية» ولغتهم» وممارسة شعائر دينهم, 
ولا يجوز إجبارهم على طمس كل ما سبق أو التخلى عنه. تلك كلمات جميلة حقاًء ولكن 
الواقع بعد إقرار الدستورء ظل على ما كان عليه قبله. ونعيد إلى الأذهان؛ ما أوردنا فى 
الفصل السابق من روايات عن إجبار الفتيان الجنوبيين الذين ارتحلوا إلى الشمال على 
التحول للإسلام» واستغلال المعونات الغذائية كأداة لذلك التحول؛ وإعلان الجهادء لا كحرب 
سياسية من أجل الحفاظ على وحدة الوطن وسلامة أراضيه: وإنما كفريضة على المؤمن 
لحرب الكفار والمشركين» وهدم دور العبادة المسيحية. 

بعد صدور ذلك الدستور (فى عام )7٠٠١‏ وقع حدث كاشف لا يلقى الضوء فقط عن 
النفاق» بل أيضاً عن اللامبالاة التامة التى تتصف بها الجبهة تجاه الأديان الأخرى. ذلك 


0262 


الحدث أوردناه فى كتاب سابق!'')» ولا نمل من ترداده. ففى ١‏ تشرين أول/ أكتوبر من 
ذلك العام» ضم البابا يوحنا بولس الثانى إلى أسرة القديسات بالكديسة السيدة جوزفينا بخيته» 
وهى من أهل دارفور. وكانت بخيته قد وقعت فى الأسر أثناء حملات الرق فى جنوب 
السودان وظل الشراة يتداولونها حتى انتهى أمرها إلى يد القنصل الإيطالى بالخرطومء الذى 
صحبها معه إلى إيطاليا حيث ترهبنت فى فينسيا. وخلال الحرب العالمية الثانية لعبت 
الراهبة السودانية دوراً محورياً فى حماية أهل شيو (إيطاليا) من القصف المدفعى مما قاد 
إلى تكريم الأب المقدس (البابا) لها فى سنة ١147‏ تقديراً لجهودها الإنسانية. وفى عام 
٠‏ ضمت بخيتة رسمياً إلى قائمة القديسات بالكنيسة. فى أى بقعة من المعمورة عندما 
يطوب (0631159) أحد أبنائها وبناتها فى عداد القديسين لا يمر الحدث مرور الكرامء فالبلاد 
التى تقدر أبناءها النابهين» وبناتها الناجحات» تحتفى بنباهتهم ونجاحهمء وتفاخر بهم . ذلك 
حدث لم تأبه به وسائل الإعلام فى السودان» بل تركته لكنائس الأمريكيين السود. 
وللصحافة الخارجية. الرحلة المدهشة التى قطعتها تلك السيدة السودانية الفريدة من نوعهاء 
من مرحلة العبودية إلى مرتبة القديسات» لم تكن جديرة بالتنويهء ناهيك عن الإشادةء فيما 
يفترض أن يكون وطنهاء وبين من يزعمون أنهم أهلها. ولكن مشكلة القديسة بخيتة هى 
أنها لم تكن فقط تنتمى إلى البلد الخطأء بل كانت أيضاً تعتنق الدين الخطأ. وما برح القوم 
يتحدثون عن احترام التعدد والتنوع فى السودان» وعن سماحة إسلامهم. 

عقب كل هذه السياحة الثقافية» من هم السودانيون إذن؟ هل هم قوم لا تبين أصالتهم» 
ولا يعكس تميزهم الثقافى إلا الاستعرابء, كما تفكر شريحة كبيرة من النخبة فى الشمال؟ أم 
هم أفارقة محض ترتبط هويتهم برباط وثيق مع هوية أفارقة جنوب الصحراء؛ كما تفكر 
بعض النخب فى الجنوب؟ الجواب عندناء لا هذا ولا ذاك. ففى زيارة له لخمس دول 
أفريقية (نيجيرياء السودان» أثيوبياء مصرء ليبيا) فى مطلع سنى الاستقلال أقصح المؤرخ 
البريطانى الكبيرء ارنولد تواينبى عن رغبته فى دراسة الرؤى المتصادمة حول صراع 
التقافتين العربية والزنجية فى القارة . وكان المناصرون لفكرة الزنوجة (ع2©87000) يقولون 
أن أفريقيا الحقيقية هى أفريقيا السوداءء إذ فى تقديرهم أن ثقافات أفريقيا السوداء تتمتع 


60633 


بإبداع مستقل عن أى مؤثرات نابعة من الشمال. تحدى تواينبى هذه النظرية وتساءل: :ألم 
تلعب مصر دوراً رائداً فى التاريخ منذ بزوغ الحضارة؟ ألا تشكل مصر جزءاً حقيقياً من 
أفريقيا ؟ أبان المؤرخ فى كتابه أيضاً مدى إسهام حضارتى مروى وكوش فى إثراء الثقاقات 
الأفريقية» مما يجعل من السودان صورة مصغرة من القارة . وحول السودان المعاصرء قال 
تواينبى إن المحاولات التى يقوم بها شمال السودان لقسر الجنوب على انتهاج أساليب للحياة 
متمائلة مع أساليب حياة الشمال» قد تكون ذات مردود عكسىء لأن التحام الجنوب بالشمال 
لن يتم إلا بإرادته الحرة» وبوقوفه مع الشمال على قدم المساواة . وكان أبرز ما قال تواينبى 
هو أن مشكلة أفريقيا كلها هى مشكلة سودانين (الجنوب والشمال) . هذه الفروق الدقيقة فى 
العلاقة المتبادلة بين السودانين (الشمال والجنوب)» وبين السودان التاريخى وأفريقياء وأثر 
كل هذا على القارة بأجمعهاء لم يدرك أبعادها بعد المتعصبون فى الشمال والجنوب معاً. 

الدين والهوية الثقافية 

يتضح مما سبقء أن هناك شريحة كبيرة من مفكرى الشمال تعتقد أن العروبة والإسلام 
هما المحددان الوحيدان للهوية السودانية. هذا الافتراض الخاطئ قاد إلى استقطاب ثقافى 
حادء ولربما لو أخذنا البعد العربى وحده كمحدد للهوية لهان الأمر؛ لأن اللغة العربية» كما 
أوردناء أصبحت برضاء أهل السودان جميعاً هى لسان التواصل الوحيد والمقبول طوعاً. أما 
الدين فمحل خلافء حتى بين مسلمى الشمال أنفسهم . فالادعاء بأن الشمال المسلم بأسره 
يؤمن أن الدين هو المحدد الرئيسى للهوية الوطنية؛ ادعاء لا يسنده برهان على المستويين 
الإدراكى والامبريقى. لا مرية فى القول أن الهيكل الاجتماعى فى شمال السودان (وليس 
فى السودان) قائم على الإسلام» وقد تطور الإسلام تاريخياً ليصبح أساسأً للقيم المعيارية 
التى يحتكم إليها المسلمون فى شمال السودان. مع ذلك أبقى مسلمو الشمال» كما قلنا الفصل 
السابع على عوائد توارثوها لا يقرها الدين» كما تلبثوا عند ممارسات لا يحلها. مع ذلك ما 
برح مسلمو الشمال يوقنون أن تلك الممارسات والعوائد لا تخرم من دينهم شيئأء وظل 
الإملام تيْراساً هأنياً لهو ومتهدداً قاماً لهويكهع..ظلوًا أيضا يسدمشكون يمعذداك أخرى 


634 


لهويتهم؛ شأنهم فى ذلك شأن شعوب إسلامية آخرى لعبت الخصائص والسمات اللغوية 
والعرقية والإثنية دوراً فى تشكيل هويتهم. ولاحظ البروفسور هاليداى أن اتخاذ الإسلام من 
قبل البعض شعاراً لتحديد الهوية ما هوإلا "مخطط يستغله أولئك الذين يريدون السيطرة 
على؛ أو استئصالء من هم من أصل إسلامى (حالة نظرة الغربيين للدول الإسلامية أو 
المسلمين المهاجرين للغرب)» أو ادعاء كاذب ينبع من رغبة فئة داخل المجتمع الإسلامى 
فى التحكم فى فئات اجتماعية أخرى وفقاً لتفسير خاص للإسلام واعتباره التفسير الشرعى 
الوحيد الموثوق به(''). وثمة دليل كاف على صحة رأى هاليداى؛ ففى الغرب اليوم اتجاه 
متنام لوضع المسلمين من مختلف الأجناس واللغات والثقافات المتباينة فى قالب واحدء 
ومعاملتهم ‏ بسبب إسلاميتهم ‏ على أنهم إرهابيون وهمجيون وجنس بشرى متبلد الشعورء 
أو أنهمء بصفة عامة» غير قادرين على التجاوب مع الحضارة الغربية. وفق هذا التعميم لا 
يرى الغربيون كبير بون بين المسلم المصرى والتركى والمغربى والباكستانى . وثمة أكثر من 
دليل على نعت هاليداى بالكذب للادعاء أن الإسلام هو العامل الرئيى لتحديد الهوية» 
مثلما ظل ينادى الإخوان المسلمون فى ذلك الزمان إلى أن هداهم الله جميعاً إلى صراط 
مستقيم اسمه المواطنة . ولعل فى انفصال بنغلاديش المسلمة عن باكستان المسلمة» وإلحاح 
الأكراد المسلمين فى العراق على إقامة دولة مستقلة» ونضال الإيمازيغيين (البربر) 
المسلمين للحفاظ على هويتهم فى الجزائر» ما يؤكد أن الدين لا يمكن أن يكون هو المقوم 
الوحيد لهرية المواطنين فى بلد متعدد الأعراق وللثقافات : . وما القول أن هناك هوية حصرية 
لأى مجتمعء تحددها المجموعة التى تنتمى لتلك الهوية غير مشروع سياسى يروم 
الاستحواذ على المجتمع باسم هذه الهوية("')» وليس تقريراً لحقيقة موضوعية . 

نعم» 0 ديانة وثقافة» ونعم» لعب الإسلام الشعبى دوراً هامأ فى تكييف وعى أهل 
الشمال. ولكن أثبتت الشواهد أن التطرف فى الدين ليس بالأمر المرغوب عند مسلمى 
الشمالء» ذلك كان مثلهم فى القرن التاسع عشر (المهدية)» وأكثر منه اليوم فى ظل حكم 
الجبهة . فعلى الجانب العملى روينا فصولا ععن استنكاف رجال الدين (المتصوفة والعلماء) 
لممارسات المهدية» تحديداً بسبب تجاوزاتها فى أمر الدين» واحتكارها للحقيقة» وتطرفها 


005 


الدينى الجامح. أما بالنسبة للإسلاموية المعاصرة فقد سخر مسلمو السودان من إمامة 
نميرى؛ وأدانوا المافيا الإسلامية التى جاء بها البشيرء ولا يستطيع أى من الحاكمين 
الإسلامويين اللذين حكما السودان باسم الدين فى القرن العشرين (نميرى والبشير) الادعاء 
بأن تديينهما للسياسة لاقى تاييداً شعبياً بين قواعد المسلمينء وإلا لما فرضاه عنوة. 
فباستخدام القوة الغاشمة وحدها فرضا نظاماً دينياً للحكم على شعب معروف بتدينه غير 
المتعصب. هذه الحقائق التاريخية والراهنة تكشف زيف استنتاجات بعض المعلقين 
السياسيين فى السودانء والأكاديميين الغربيين الذين رأوا فى ظواهر الإسلام السياسى 
المعاصر تعبيراً عن توق عامة المسلمين إلى تديين السياسة وإحياء الشريعة. وليس من 
المنطق فى شىء الادعاء بأن الشعوب تحمل بالعصا والقوة الغاشمة لكيما تستمتع بما تتوق 
إليه . لم يفطن هؤلاء المعلقون إلى تجارب لافتة فى تجارب السودان الدستورية المعاصرة: 
إحياء دستور 19605 شبه العلمانى فى تشرين أول/ أكتوبر ١174‏ (عقب سقوط نظام 
عبود)» رغم كل المحاولات التى قام بها الإخوان المسلمون لتعديله فى خمسينيات القرن 
الماضى لكيما يتوافق مع الشريعة» واجتماع أهل السودان على دستور ١157‏ فى أكتوبر 
لإقتناعهم بأنه الوثيقة الدستورية الوحيدة التى يمكن الإجماع الطوعى عليهاء ثم تبنى 
نميرى لدستور شبه علمانى فى عام 15177 » واستمرار العمل به لمدة ٠١‏ سنوات فى كل 
هذه الحالات كان التوافق على دستور محايد فى موضوع الدين ضرورياً لتثبيت أركان 
السلام؛ وضمان وحدة البلاد. جاءء من بعدء إلغاء الأحزاب السياسية الشمالية التى تستند 
إلى قاعدة دينية للقوانين التى فرضها نميرى ونسبها للإسلام؛ وأخيراً تواضعت نفس 
الأحزاب مع الحركة الشعبية وبقية أحزاب الشمال على قرارات أسمرا فى سنة ١955‏ حول 
الدين والسياسة. لا يغيب عن البال أيضاً النصوص المخادعة التى تضمنها دستور الجبهة 
»)١1598(‏ والتى تناقض كافة المبادئ التى أرساها الترابى فى عام ١974‏ كشروط مسبقة 
لوضع دستور إسلامى للسودان (مثل حرمان غير المسلم من الولاية الكبرى) . كل هذه 
دلائل على أن الإرادة العامة لأهل الشمال المسلمء إن تم التعبير عنها فى جو ديموقراطى 
معافى وبعيد عن التزيد والابتزاز والقهرء لا تتجه أبداً إلى تديين السياسة. 


6036 


وحول القوانين (الشريعة) التى يتوق المسلمون لتطبيقها توق عارماً فيما توحى به 
مقالات الاسلامويين ومنهم صادق المهدىء فإن الواقع أيضأ يذب تلك المقالات. وإن كنا 
ندرك الدوافع الأيديولوجية ذات الطابع الكوزمولوجى (حالة الإخوان المسلمين)ء أو الطابع 
التراثى المحلى (حالة الصادق المهدى)؛ التى حدت بهما لتبنى فكرة تطبيق الشريعة: إلا 
أن العقل يعيا عن فهم صدور هذا الرأى من مثقف علمانى مستنير. كتب الدكتور عبدالله 
على ابراهيم يقول إن قوانين السودان الجنائية والمدنية مستوردة وتفترض «خلو السودان قبل 
الاستعمار من أقباس العدالة والشرائع.... وأنها أساءت إلى السودانيين فى عزتهم وخلقهم 
إساءة مرة؛.(') بدءاً نقول ليس صحيحاً أن قوانين السودان لم تستهد بالشريعة» فكثير من 
قوانين السودان المدنيةء خاصة قوانين الأراضى (الشفعة» حقوق القصاد والمساقاة مثلا) 
استلهمت الشرع أو العادات المرتكزة على الشرعء ولقضاة السودان أحكام بارعة فى هذا 
المجال. كما استلهم القانون الشريعة فى ضرائب العشور والتى حددت على ضوء أحكام 
الزكاة . وفيما هو واضح من المقالء اتخذ الأستاذ عبدالله رأيين لقانونيين عماداً لحجتهء رأيأ 
أبداه القانونى الضليع زكى مصطفى فى كتابه حول قوانين السودان تساءل فيه لماذا لم 
يستصحب قانونيو السودان الشريعة عندما أرسوا قواعد قانون بلادهم؛ ورأياً آخر نسبه لعبد 
الرحمن إبراهيم» القاتونى الجبهوى الذى قلما يميزء حسبما خبرناء بين القاتون 
والأيديولوجية. قال القانونى الأيديولوجى أن بعض جوانب القانون الجنائى على طلاق 
صريح مع الأخلاق والأعراف الإسلامية» وتحد للشريعة لأنها أباحت الزنى طالما كانت 
المجامعة برضاء وأذنت باللواط طالما كان الفعل الجنسى مبنياً على الرضى . ولعله كان 
يشير إلى المادة 47"7من قانون عقوبات السودان القديم (الزنى بامرأة متزوجة)ء والمادة 
حول الاعمال المنافية للطبيعة. 

الكاتب المحقق عبدالله رجل لا يأتى بالهواهى (اللغو من القول)؛ وله أفكار رصينة نقلنا 
عنهاء ولكن قلمه زل عندما جزم الأمر حول قوانين السودان التى وضعها الاستعمار وأبقى 
عليها أذناب الاستعمارء ثم قال فيه بالثقة. كان حقيقاً بمثله التروى فى الموضوعء وفى 


6037 


اختيار الأسانيد التى يرتكز عليها. فالدكتور زكى مصطفىء مثلاً» وهو قانونى يجرى ولا 
يجرى معهء قد أتيح له - كما لم يتح لقانونى غيره ‏ أن يعيد صوغ كل قوانين السودان إبان 
عمله كنائب عام. وفى ذلك أفلح فلاحاً كبيراً فى إعادة صياغة القوانين؛ هو ومن تعاون 
معه أو استرشد بهم (القاضى أبو رناتء القاضى مجذوب حسيبء القاضى عبد المجيد إمام» 
المحامى أحمد متولى العتبانى» القاضى محمد يوسف مضوىء عميد القانون محمد الفاتح 
حامدء أستاذ القانون سليم عطية) . تلك كوكبة من أهل القانون لا يضل أو يهلك من يستنجد 
بها. وفى تلك المراجعة المستأنية استصحب المراجعون الشريعة كما استهدوا بالتجارب 
السالفة» وبعوائد أهل السودان» وما استقرت عليه تجارب الأمم. من بين هذه القوانين قانون 
العقويات لعام ١917/5‏ الذى تبناه القضاة والمحامون كقانون نموذجى بديل لقوانين نميرى 
بعد سقوطه. ومن المثير أن الدكتور الترابى عندما كان نائباً عاماً وتوفر فى عام ١9174‏ 
على إعادة صياغة قوانين السودان حتى تد ار مور كراد ان 
14,: والتى بلغت 450 مادة» غير عشر منها تستوجب التعديل» وكانت جميع هذه المواد 
تتملقة بالعدود: أراكلت سئلة بها : رهم ذلك لم بدح القراني إلى تلبق العدود كما زات 
فى القرآن وفسرها الفقهاء» بل عطل بعضها وترخص فى تطبيق البعض الآخر. 

لهذا فإن ما جاء به القانونى الجبهوى وجعل منه الباحث الأريب مسنداً لأطروحته 
يتناقض حتى مع ما انتهى إليه الترابى فى عام 1118 ولعله كان يعبر عن فتوى أخرى 
للترابى فى تجليه الجديد (قانون )١1147‏ . ولا ننعى على أهل الايديولوجيات الانحراف 
الفكرى والمنهجى طالما أنه يكسبهم شعوراً بالرضا عن النفس (عدذاءعه؟ 00مع -اءت1!)؛ غير 
أن الداهية المنكر هى اختزال الشريعة كلها عندهم فى الزنى واللواط» ولربما لو طولبوا بأن 
يضيفوا لهما شيئاً آخر لأضافوا الشربء ثم الإيحاء أن هذه البلايا كانت غريبة على السودان 
قبل حلول الاستعمار. ثمة أخطاء عديدة فى هذه النظرة» فأولاً نكرر ما قلناه قى فصول 
سابقة عن أن مدونة قوانين السودان تحتوى على قوانين لم تعرفها الشريعة» وهى الأعم؛ 
ولهذا كان من الطبيعى أن يستهدى فيها المشرع بالتجارب الراهنة للأمم (قوانين الصناعة» 
المصارفء تنظيم استخدام الأدوية والسموم» التعليم الجامعى) . وما قول الاسلامويين بقبول 
هذه القوانين لأنها لا تتعارض مع الشريعة إلا تحايل غير حاذقء بل تأكيد لأن الشريعة 


68 


التى يتحدثون عنها لا تتجاوز الحدود. وإن كان هذا هو الحال؛ فأين شموليتها التى تؤهلها 
لأن تكون مصدراً رئيسيا للنشريع؟ ثانياً لماذا يحسب التواقون لتطبيق الشريعة؛ بمفهومهم 
القاصر لهاء أن تضمين الحدود فى القوانين الوضعية يكسبها شرعية إضافية؟ فأحكام 
الشريعة (بمعناها المحدود) ترقد بين دفتى الكتاب منذ أن تنزل على الأرضء مع هذا لم 
يزل بعض المسلمين يرتكب الموبقات» ويواظب عمداً على المعاصى وتعاطى المكروهات. 
وكما قال شاعرنا ود الرضى: من تعاطى المكروه عمداً غير شك يتعاطى الحرام. نعم لم 
يزل المسلمون فى دنقلا القصية وديار الشايقية يستطيبون العرقى» وما انفكت شفاه مسلميه 
فى الجزيرة الزرقا وفى ربوع دارفور وكردفان التى ينحدر منها القانونى الفقيه تتلمظ 
شفاههم عند شراب المريسة . هذه عادات توارثوها من عهود سبقت تمسلمهم.ء والعادات 
رهينة لمعطيات نفسية واجتماعية وتاريخية بل وحياتية ينبغى أن يتجه إليها المصلحون. 
وكان الترابى (فى تجليه المايوى) أقرب إلى وجه الصواب عندما ترخص فى هذا الأمر 
بتحديد فترة انتقالية لتطبيق حد الشرب فى أقاليم السودان» وإجازته لغير المسلم وللبعئات 
الأجنبية» حتى فى الخرطوم. ثالثاً نلمس تشويشاً مقصوداً فى القول بأن إباحة الزنى واللواط 
تحد للشريعة وطلاق صريح مع الأخلاق والأعراف الإسلامية. فالقانون لم يبح الرذيلتين» 
وإنما أخضعهما للرضا. ذلك القانون ظل قائماً منذ حكومة الأزهرى الأولىء إلى عهد 
نميرى حتى سبتمبر 1187 . وخلال تلك الفترات تعاور وزارة العدل السودانية وزراء بدأوا 
بالشيخ مدثر البوشى وانتهوا بالرشيد الطاهر بكرء كما اعتلى دست الوزارة فيها أشياخ مثل 
الشيخ محمد أحمد المرضى والشيخ على عبد الرحمن. كل هؤلاء لا يقلون إسلاماً عن 
التواقين لتطبيق شرع اللهء بل هم أكثر تعبيراً عن ضمير الشمالى المسلم لأنهم لم يصلوا 
لدست الحكم على متن دبابة» وفى غفلة من أهله. جميع هؤلاء لم يجعلوا من قضيتى الزنى 
واللواط شغلا شاغلا لهم؛ فدعوى القانونى الأيديولوجىء إذنء بأنه يعبر عن نظرة مسلمى 
السودان للأعراف والتقاليد» دعوى زائفة. وأخيراً فإن الزنى واللواط كانا أمرين شائعين فى 
السودان منذ العهد التركى (دولة الخلافة الإسلامية) دون أن يتحول السودان بسبب 
شيوعهما إلى سدوم. كتب أحد الرحالة الفرنسيين الذين زاروا السودان فى ذلك العهد يقول: 
.ومن مظاهر حياة الانطلاق ازدحام البيوت بالجوارىء وانتشار البغاء بشكل ليس له مثيل 


639 


فى مكان آخر على سطح الأرض. فتجارة البغاء تجارة رائجة» ومعظم بيوت المومسات 
كان فى سلامة الباشا وفريق الترسء وأغلبهن كان من الحبشيات والزنجيات والمصريات 
والقليل منهن من السودانيات» . (تاريخ مدينة الخرطوم 187١‏ - 1885» د.أحمد أحمد سيد 
أحمدء الهيئة المصرية العامة للكتاب .)3٠١١‏ روى نفس الكاتب مرفوعاً إلى مصادره 
«واللواط فى الخرطوم أكثر رواجاً من البغاءء ففى السوق والميادين العامة تشاهد الجماعة 
من المخنثين فى ملابس النساء والكحل فى ععيونهم والخضاب فى أكفهمء وكان رئيس 
اللوطيين شاب قوياً فى العشرين من عمره»ء ومن أسرة طيبة يمكن اعتبارها من أحسن 
العائلات البرجوازية فى المدينة». (ص 14؟) . 

الزنى واللواطء كما قلناء ظاهرتان تفرزهما ظروف اجتماعية خاصة:؛ تلك الظروف لم 
تنج منها المجتمعات الإسلامية منذ العهد الراشد. فالزنى؛ مثلاً عرفته المجتمعات الإنسانية 
قبل نهى القران عنهء ورغم النهى عنه فى الوصايا العشر فى الكتاب المقدس. وفى الفصل 
السابع أشرنا إلى ما رواه الإمام السيوطى عن ظهور اللواط بين المحاربين المسلمين فى 
صدر الإسلام» ولم تكن العرب تعرفه قبل ذلك العهد. كما ظل التغنى بالغلمان طبقاً هامآ 
فى مأدبة الشعر العربىء ودون القارئٌ أشعار الفاسق حماد عجردء وديوان أبى نواس. 
والأخيرء فيما نعرفء لم يكتف بالحداء بألوية السكرء بل أتبع ذلك بصور مقززة عن أحمده 
المرتجى فى كل نائبة» والذى لم يبال أن يقول له: «قم سيدى نص جبار السموات.. كان 
ذلك فى عهد أبى حنيفة وصاحبيه؛ لا فى عهد فقهاء الحيل والتقية. فعن فقهاء الحيل 
يروى قولهم فى أحد المثليين أنه روح طاهرة فى جسد قبيح» ونسب الفقيه خبثه إلى ما 
أسماه قرينه. ما نرمى إليه بهذه الإشارات هو التأكيد على أن هذه الظواهرء مع استقباحهاء 
ضارية فى القدم» ولهذا من الظلم لأهل السودان تصوير بلادهم وكأنها أضحت مستوطنة 
للإثمء ثم الادعاء بأن كل هذه الآثام تعود لقانون مستورد. 

الخطأ الأخير هو الحديث عن المنظومة القانونية الاستعمارية التى نريد استبدالها 
بالشريعة» وكأنها تنحصر فى العقوبات الجزائية. فالقانون ليس مدونة للأحكام فحسبء بل 
هو نظام متكامل يؤطر المعايير الدستورية (سيادة حكم القانون» الفصل بين السلطات) . 


690 


وينظم قواعد الحكومة بين المتقاضين (درجات التقاضى والاستئناف)؛ ويحدد الإجراءات 
الضابطة للتقاضى. فأين مكان هذا فى الشريعة كما يفهمها المتلاحون؟ فالنظام الإسلامى 
مع كل ما أرساه من قواعد للتقاضىء ومبادئ سامية للنصفة: إلا أنه لم يعرفء على امتداد 
تاريخه» فصلا بين السلطاتء إذ ظل الخليفة هو المشرع والقاضى والمنفذ فى العهد الراشد. 
بل فى دولة الرسول التى قال الترابى أنه أنشأها من جديد بعد خمسة عشر قرن. وإن كان 
فقهاء الجبهة لم يذهبوا إلى ما ذهب إليه الشيخ القرضاوى (الفصل السابع) من أن النظام 
البرلمانى الغربى وقواعد الإنتخابات المتعارفة اليوم هى الشورى بعينهاء إلا أنهم سيلجأون: 
مرة أخرىء للتحايل غير الحاذق والقول بأن ٠«شرع‏ من بعدن»! مستحب إن لم يتناقض مع 
الشريعة . هذا ليس هو السؤال» السؤال مرة أخرى هوإن كانت "الشريعة مصدراً أساسياً 
للتشريع فلماذا تقصر على أدنى ما يهتم به القانون: القوانين الجزائية» وحتى هذه تحصر 
فى الزنى واللواط والسرقة؟ 

ولعلنا أرجأنا الصاعقة لآخر الحديث رداً على من قال أن قوانين الاستعمار المستوردة 
"أساءت إلى السودانيين فى عزتهم وخلقهم إساءة مرة. فى العام ١5١”‏ اسلدوت جكمنة 
الاستعمار قانون المحاكم المحمدية والذى ظل سارياً إلى عهد نميرى مع تعديل شكلى فى 
عام ١17177‏ . المادة الأولى من ذلك القانون تنص فى فقرتها 5 )١(‏ على اختصاص المحاكم 
الشرعية بالنظر فى قضايا الزواج» الطلاق» الوقفء الميراث؛ الوصية إلخ. ولكن الفقرة 
الثانية من نفس المادة» أى ؟ (؟) تركت للمتقاضين حقأ تقديرياً إن أرادوا الاحتكام لتلك 
المحكمة للنظر فى أى قضية مدنية طبقاً للشريعة» شريطة أن يكون قبول طرفى النزاع 
مكتوباً وموقعاً عليه من كليهما. خلال قرن كامل لم يلجأ أى متقاض مسلم إلى المحاكم 
الشرعية لتطبق الشريعة على دعواه . ومن الطريف أن المرة الوحيدة التى أعملت فيها هذه 
الفقرة من القانون كانت عندما لجأ قبطيان للمحكمة الشرعية لتطبيق أحكام الشرع فى نزاع 
بينهما حول ورئة. وكانت تلك القضيةء بما فيها من مفارقةء موضوعاً لبحث أعده المستر 
قوتمانء أستاذ القانون بجامعة الخرطوم ونشره فى عام .)١577561‏ لهذه القصة دلالتان» 
الأولى هى أن الناس (المسلمين) عندما يكون لهم الطوع والاختيار فى أمر القانون الذى 


691 


يطبق عليهم؛ ينتخبون ما يرونه الأنسب. والثانية هى زيف الدعوى بأن مسلمى السودان 
يتوقون إلى تطبيق الشريعة» أو بأن عزتهم قد أسيئت بسبب عدم تطبيقها عليهم. 

فى الجانب الآخرء تنص المادة 4" من قانون القضاء المدنى القديم على عدم أهلية 
المحاكم المدنية للنظر فى قَضايا الأحوال الشخصية بين المسلمينء إلا إن كان هذا برضا 
الطرفين. وفى مرتين فقط سعى متقاضيان مسلمان إلى المحكمة المدنية للنظر فى قضيتين 
تقعان فى اختصاص المحاكم الشرعية. المرة الأولى كانت عندما تقدم بالطلب على 
الحويرص فى دعوى ضد أحمد رمضانء ورفض القاضى عثمان الطيب الطلب لأنه جاء 
من طرف واحد؛ والمرة الثانية كانت فى عام ١157‏ عندما تقدم ورئة الطيب المليك فى 
دعوى وراأثة صد زاوية الأحمدية» ولنفس السبب رفضت الدعوى. هاتان هما الحالتان 
الوحيدتان اللتان استنجد فيهما متقاض مسلم بالقانون المدنى للإفلات من تطبيق أحكام 
الشريعة عليه. لكنء أوليس من الغريب أن لا يحاول مسلم واحد عبر قرن من الزمان 
الاستنجاد بالشريعة من قوانين الطاغوت الاستعمارى رغم الرخصة التى منحها قانون 
المحاكم المحمدية للمسلمين؟ فمن همء إذن» الذين أساء القانون الاستعمارى إلى عزتهم؛ أهم 
التجارء أم أهل الصنائعء أم المحامون, أم هم المودعون أموالهم فى المصارف الربوية؟ فإن 
كان بهؤلاء توق لتطبيق الشريعة عليهم فى القضايا المدنية» بدلاً من القوانين الاستعمارية» 
لفعلوا. ولسنا بحاجة للقول أن الذى لم تنزع نفسه مرة واحدة خلال قرن كامل لتطبيق 
أحكام الشريعة عليه فى القضايا المدنية» لن يتمنى عليها تطبيق الحدود. 

ظهور الجبهة إلى ساحة الأحداث كان؛ على كل حال» رحمة خفية 5 عماددها5) 
(»ونناعةذك فتطرفها وبلوغها بالاستقطاب الدينى إلى أقصى مدىء قاد إلى تفجير قضية 
الهوية على نطاق واسع. فبالإضافة إلى التصدعات الأفقية التى تعانى منها البلادء أحدثت 
سياسات الجبهة شروخاً رأسية . هذه الشروخ والتصدعات العميقة دفعت السودانيين للبحث 
عن هوية وطنية جامعة بعيداً عن المعايير المتشددة لتحديد الهوية الوطنية. بتعبير آخرء بدأ 
السودانيون فى إعادة صياغة معايير الهوية الوطنية لتنتسع حتى تضم فى قلبها كافة 
الهويات المتصارعة: من أجل الحفاظ على وحدة بلادهمء وإشاعة الاستقرار والسلام العادل 


6002 


فى ربوعها. الحاجة إلى إعادة الصياغة تلك. برزت فى مجال الدين أكثر من أى مجال 
آخرء كما تبين خبرات القرنين الأخيرين. هذا أمرلن يتحقق إلا من خلال الفصل 
الدستورى بين الدين والدولة» وخلق أرضية متينة للتعددية تفسح مجالاً لكافة الأديان» 
والفلسفات السياسية؛ والأنظمة الاجتماعية لكيما تتعايش وتتنافس فى سلام وعلى قدم 
المساواة . فالدولة الدينية» سواء كان ذلك حسب نشأتها التاريخيةء أو وفق التجارب 
المعاصرة من إيران إلى السودان: لا تفسح المجال السياسى لغير المسلمين» أو حتى للمسلمين 
الذين لا يشاركونها الرؤى. وتقول التجارب أن هذا النوع من الدول الدينية» رغم تكرارها 
القول عن سماحة الإسلام» لا توفر أدنى مجال للتعددية السياسية مثل ذلك الذى توفره 
الأنظمة الديموقراطية المعاصرةء والتى أخذ السودان منها بطرف. هذا الطرح لا ينفى الدين 

عن المجتمعء ولا ينكر على صاحب أى ملة الالتزام بأحكام ملته. ولربما لولم يقع 
الاشتطاط والتزيد باسم الدين» واستغلال كل أجهزة الدولة ومؤسساتها وثرواتها وأدوات 
قمعها لتغليب دين على آخرء وإنكار حقوق المواطنين الذين لا يدينون بهء لما طالب البعض 
بالعلمانية» ولما دعى البعض الآخر للفصل الدستورى بين الدين والدولة» أواستنكر آخرون 
حتى الإشارة للشريعة فى الدساتير كمصدر من مصادر التشريع. 

إن إقرار الجبهة نفسها فى دستور ١988‏ بالمواطنة كأساس للحقوق والواجبات بعد مرور 
أقل من عقد على حكمهاء وإلغاء الإشارة إلى دين الدولة حسبما كان ينص عليه من قبل 
(الإسلام دين الدولة)» يعنى تهافت الأسطورة المركزية لفقه الجبهة الدستورىء ألا وهى 
إرساء السياسات العامة على أساس مبادئ دين واحد فى مجتمع تتعدد فيه الأديان» وفى 
ظل دولة عصرية مركبة لا تمت فيها عملياً أغلب القوانين بأدنى صلة للأديان ‏ أى دين. 
وكما سبقت الإشارة» فإن أكثر من تسعين بالمائة من القوانين التى تنظم الدولة» والعلاقات 
ما بينها وبين المواطنين والشخصيات المعنوية» حسبما قضى به الترابى فى عام 1514, لا 
ال . ولهذا فإن جعل البعض من الشريعة مصدراً أساسياً للتشرد » فلن تدل 
كلمة "أساسى إلا على التزيد؛ وإن وصف هذا البعض الشريعة بأنها المصدر المعرف بالألف 
واللام للتشريعء لجاز القول بأن كل القوانين السائدة فى السودان والتى لا أصل لها فى 


)003 


الشريعة» قوانين غير دستورية . لهذا لم يبق لفقهاء الجبهة غير الركون إلى الرموز وكأن 
الشريعة رموز. حقيقة الآمرء إن القوانين الوحيدة؛ خارج نطاق قوانين الأحوال الشخصية 
للمسلمينء والتى عبر بها المسلمون عن «عزتهم؛ هى الحدودء وجوانب من قوانين الإثبات 
بالنسبة للمرأة. فالمراة» كما سلفت الإشارة» منقوصة حق فى الشهادة فى دولة الجبهة» 
حتى وإن كان القاضى الذى تختصم أمامه» كما يختصم الرجالء امرأة. أوترى إلى أى 
مدى يقود الترنح بين النقائض؟ ندرك أزمة الجبهويين الذين يبحثون لهم عن هوية 
مميزة» فلو لم (يتشعبطوا) فى هذه الأطروحات المتهالكة» لما بقى لهم ما يميزهم عمن 
سواهم من السياسيين . هذا الترنح الفكرى بين دستور فى عام ١154‏ ودستور نقيض فى 
عام 1144: وبين قانون للعقوبات فى عام 1977 وآخر فى التسعينيات التى تلته 
(1147)» هوالذى جعل الجبهة تتعثر فى سعيها نحو فردوسها الأرضى كمن أحرقت 
الرمضاء قدميه. 

أياً كان الأمرء سواء كانت الجبهة قد قصدت حقا التحول عن بعض مواقفها الزميتة 
بصوغها لدستور 11318ء أو ابتغت التحلى بلباس مستعار مصانعة للآخرينء فإن هذا فى حد 
ذاته أصدق دليل على أن ما أسمته الثوابت الراسخة هو أبعد ما يكون عن الثبات والرسوخ . 
لقد هدد الإسلام السياسى خلال عقود ثلاثة (منذ الستينيات إلى التسعينيات فى القرن 
الماضى) كيان وطن هش . والآن وقد وصلت البلاد إلى حافة الإنهيار» أصبح جلياً لكل ذى 
عينين أن النقيض لنظرية فرض الدين أو الثقافة من جانب مجموعة على أخرى؛ هو 
تقطيع أوصال السودان. ولكن بالتوازن الصحيح للقوى» سيصيح ما كان بالأمس مطلقاًء أمراً 
نسبياً. وفى اعتقادناء لا يتطلع كافة السودانيين اليوم» مسلمين كانوا أو غير مسلمين 
(باستثناء غلاة الجبهة)» إلى شىء بقدر ما يتطلعون إلى وضع حد للبرنامج السياسى الذى 
رسمته الجبهة» وظلت تسير عليه خلال العقد الأول من حكمها. لقد عاش السودان» ومازال 
يعيش» تحت ظل أحزاب سياسية تستلهم أفكارها من المعتقدات الدينية» ولكنه لا يستطيع 
العيش فى ظل أفكار نخبة تقوم على احتكار الحقيقة» وتتظاهر بأن الله أوكل لها مهمة 
التحكم فى الوطن؛ بل وفى جسد وروح إنسانه. وما كنا لنثير أى واحدة من النقاط التى 


664 


أثرناء لوجاءت الجبهة للحكم بإرادة الشعبء وسعت لتطبيق البرنامج السياسى الذى 
تعاهدت معه عليه؛ وكان ذلك فى إطار دستور يتم فيه تداول السلطة سلميا. لهذا نعجب 
غاية العجب من قول من قال بأن الذى تصنعه الجبهة اليوم بالإسلام والمسلمين هو تحقيق 
لرغائب مسلمى السودان. 

موقف الإسلامويين تجاه الجنوب لا يختلف كثيراً عن موقف المبشرين المسيحيين. خال 
المبشرون الأوروبيون فى القرن التاسع عشر أن دورهم الأساس فى أفريقيا هو إنقاذ أهلها من 
"الجوانب اللاحضارية فى الثقافات الأفريقية الأصلية(9'). والحضارة التى يعنون هى تلك 
التى تستهدى بالقيم الفيكتورية المسيحية وفق خلطهم المضلل بين الثقافة الأوروبية والديانة 
المسيحية . الساسة التبشيريون فى سودان الجبهة لا يقلون تعالي فى نظرتهم لإخوتهم فى 
الجنوب عن قدامى المبشرين؛ ويكادون يوحون بأن الله قد استوصاهم خيراً بهؤلاء القصرء 
أو أنهم مكلفون من العناية الإلهية لإنقاذهم من شر ما يعتقدون. هذا التفكير المنحرف الذى 
يقود البعض إلى الظن بأنهم مكلفون بإعادة تكييف البشر وهندستهم اجتماعياًء لا ينحصر 
فقط فى "إرساليى الجبهة. ففى رواية لمراسل صحفى من أفريقيا الجنوبية زار شاتام هاوس 
فى لندن للاستماع إلى صادق المهدى» وصف الصحفى الصادق قبل استماعه للمحاضرة 
بأنه "سياسى تلقى تعليمه فى جامعة اكسفوردء وأنه صاحب عقلية لا يستهان بها قد تمكنه 
من النجاح فيما فشل فيه العسكريون(7'). ولكن المراسل الصحفى أُصيب يصدمة حياته 
عندما استمع إلى الزعيم السودانى يتحدث عن إعادة تكييف هوية غير المسلمين من 
السودانيين عبر ما اسماه الهندسة الاجتماعية .(6»0810667128 [5013) قال الصحفى الجنوب 
أفريقى: تلك هى الأفكار التى ظللت أسمعها من أَشد أنظمة الحكم بغضأ إلى نفسى. لقد 
أصابنى المهدى برجفة عندما استعرض وجهة نظره فى حل المشكلة الجنوبية . وحقا لا 
يفكر فى إعادة تشكيل البشر إلا الفاشيون: أو أصحاب الرسالات الموهومة؛ وصادقء فيما 
نعتقدء ليس من الفاشيين. لقد شهدت أفريقيا جميع صنوف أصحاب الرسالات الحضارية 
الذين هبطوا عليها من كافة الدول الاستعمارية؛ ولكن لم تشهد أبدا إرساليين تحضيريين من 
داخل أراضيهاء ريما باستثناء أولئك الذين نموا فى رحاب البلد الذى ينتمى إليه المراسل 
الصحفى؛ ويا لتلك من رفقة. 


)005 


هؤلاء المهندسون الدينيون يجهلون طبيعة أنظمة الاعتقاد الأفريقية» بما فى ذلك تلك التى 
نمت فى بلدهم السودان. فألفاظ مثل الشرك والوثنية كثيراً ما ترد فى معرض أحاديثهم عن 
تلك المعتقدات. النتيجة المنطقية لإطلاق هذه الأوصاف على تلك المعتقدات؛ فى ظل نظام 
حكم دينى منغلق على نفسه كحكم الجبهة» هو إبادة معتنقيها عبر الجهاد ضد الكفر والشرك؛ 
بدلاً من تحليلها وتمحيص تطورها عبر التاريخ وصولاً إلى ممارساتها فى العصر الحالى؛ 
ووسائل التعايش معها. إن الدين ظاهرة غافة لم نكل هنين كافة الثقافات منذ نشأة الخليقة لأن 
الأديان» إلى حد بعيد» تمد الإنسان بقدرة فائقة (مهما كانت تخيلية) على أن يمنح وجوده 
الحسى معنىء بالبحث عما وراء ذلك الوجود الحسى. ولربما إن افتقد الإنسان الخبرات 
الإيمانية» لعجز عن أن يجعل معنى لحياته. وتثبت عودة البلدان الشيوعية السابقة (بما فى 
ذلك روسيا) إلى الدين» بعد أكثرمن نصف قرن من الإلحاد» بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك 
رغبة عميقة لدى البشر لإخضاع ذواتهم لقيم معيارية توصى بها قوة عليا. وحتى الأنظمة 
غير الشيوعية التى كادت تجعل من العقلانية دينأء لم تفلح فى هذا لأن العقلانية الوضعية» 
بطبعهاء لا تصلح أساساً لبناء منظومة أخلاقية . صحيح أن العقلانية لا تلغى الأخلاق؛ ولكن 
صحيح أيضاً أنها محايدة بالنسبة للقيم الخلقية. هذه الأنظمة» رغم عقلانيتهاء تبنت؛ إلى 
جانب القيم الوضعية التى أعلت رايتها الثورة الفرنسية: الحرية؛ الإخاء؛ والمساواة» منظومة 
من القيم المسيحية أو اليهو مسيحية» جاء بعضها من الوصايا العشرء وبعض آخر من القيم 
الكالفينية المتمتلة فى الصدقء الوفاء» تقديس العمل» والاقتصاد فى الإنفاق .(108211007) 
أغلب هذه القيم يعود لمصدر مستقل عن المعرفة أو الخبرة الإنسانية. وعندما أخذت هذه 
المجتمعات فى التحلل من هذه القيم بسبب من طغيان ثقافة الاستهلاكء وتفتت الأسرة» 
وارتباط النجاح بمعايير مادية بحتة» تنبعت قيم أخر: ى ذات دالة متسامية [2)تاع0ءن05ن) 
(6100نا عن هذه القيم عبر كتاب جديد للوك فيرى (161:79 عداءآ) وزير التربية الفرنسى 
الحالىء وأستاذ الفلسفة السابق فى السوربون!''). قال فيرى إن المجتمع» رغم تقلص تدينه» 
أخذ يتبنى قيماً جديدة تتجاوز المعرفة البشرية مثل العدل» والحبء والجمال. أهى أرسطية 
جديدة؟ فأرسطو هو القائل بأن القيم العليا هى الحق والخير والجمال؟ لا نظن» بل نرى فى 


6006 


قول فيرى توكيداً لمزعمنا بأن الإنسان يسعى دوم إلى الاستهداء بقيم تعلوعلى تجاربه 
البشرية» كان مصدرها دينياً أم فلسفياً. 

أنظمة المعتقدات فى المجتمعات الأفريقية لا تشذ عن هذه القاعدة العامة» فقوام الأديان 
جميعاً معتقدات وعبادات ثم قيم معيارية أرستها سلطة عليا لتهدى الناس سواء السبيل حتى 
يتعايشوا سعداء مع بعضهم البعضء ولا يؤذى أحدهم الآخر. الإسلامويون الإرساليون؛ 
وغيرهم من المهندسين الاجتماعيين؛ لم يجهدوا أنفسهم أبدا فى فهم المعنى الحقيقى لهذه 
المعتقدات» واستكشاف الروحانية المتأصلة فيهاء وتبين المعايير الأخلاقية العالية التى 
تضبط بها سلوك أتباعها. هذا الفهم ضرورى لأن عدداً كبيراً من مسلمى الشمال (المتعلم 
منهم وغير المتعلم) يعتقد أن أنظمة المعتقدات الأفريقية ما هى إلا معتقدات روحانية 
مرتبطة بالشعوذةء والسحرء والخرافة» ولا شىء آخر. على أن لفظ الروحانية (8ذتطأهد) 
نفسهء الذى سكه ى .ب . تايلور فى كتابه المعروف الثقافة البدائية» استند إلى الاعتقاد 
بوجود تراتبية بين الأديان» أى أن فى الأديان مستويات مختلفة من الروحانية . ويقدر 
تايلور أن الروحانية البدائية تتعامل مع الأشياء والكائنات غير الحية باعتبارها مخلوقات 
ذات قوة وشعور وإحساسء وهنا يجىء عنصر السحر والخرافة. الروحانية أيضاً ممقوتة 
لجعلها بعض الأشياء رموزاً محورية للحياة» ولدعوتها إلى توقير الكائنات الحية وغير الحيةء 
بل مداهنتها فى بعض الأحيان. بيد أنا لا نعرف أى دين راسخ لا يضم طقوساً لتقديس 
الأشياء» والأيامء والأحداث. أو لتوقير الصور والرموزء فليس هناك من دين ليس له أساطير 
وتقديس للأشياء. مع هذاء لا تنسب تلك الأديان للروحانية. يصعب على المرء كثيراً أن 
يجد تفسيراً منطقياً للرموز التى يعبر عنها رداء الكهنة فى المسيحية» أو تبجيل اليهود لقرن 
الحملء أو لربط اليهود والنصارى والمسلمين بين السواد والشرء أو للتقديس الذى يوليه 
المسلمون للحجر الأسودء ولأمير المؤمنين عمر فيه قول مشهود ('"). ولولا الاستحياء 
لاقتلع عمر ذلك الحجر كما اقتلع شجرة البيعة (الذين يبايعونك تحت الشجرة) لأن الصحابة 
كادوا أن يجعلوا منها شجرة مقدسة:ء فنهاهم عن ذلكء لما لم يرتدعوا أزالها. أو لا يصح, 
نتيجة لهذاء أن يقارب المرء بين تلوين الأجساد وصبغها فى بعض أنظمة المعتقدات 


06017 


الأفريقية (النوبة فى السودان مثلا) » وبين الأردية المزركشة التى يرتديها الكهنة فى 
المسيحية. تلك الرموز والأشياء المبهمة تستعصى على التفسير المنطقى لأن الإبهام فيها 
ينبئق من الظن بأنها سر خفى من أسرار الدين. ومن المقطوع به أن الرموز الدينية لا يمكن 
أن تخضع للتحليل الفلسفى لافتراض صدورها من سلطة مطلقة» وليس فى الفلسفة مطلق» 
بل برهان يتطابق مع العيان. 

أما من ناحية القيم الأخلاقية» فالمعتقدات "الروحانية تتشابه مع سائر الأديان فى أنها لا 
تقدر اعمال الإتنيآن عن أبناين القطا رالصبوات: فحميت: بل أرعنا على ايناس هنا يفل 
ويحرم . كما تشتملء بالنسبة لمعتقديهاء على كل الخصائص التى تميز الأديان الأخرى 
مثل: الاحترام والتقديس لكائن أعلىء وروح التساؤل عن ماهية الحياة. ومما يجدر بالذكر 
أن جميع الأسماء التى تطلق على الكائن الأعلى فى الأديان الأفريقية تحمل كلها أسماء 
للذات مثل الخالق أو الأب الذى فى السماء.("') ومن بين هذه الأسماء فى جنوب السودان 
اجوكء جوونق» كووثء نيالج. كما تطلق على تلك الذات صفات لا تختلف عما يطلقها 
عليها الكتابيون مثل الرحيمء القائم بذاته العليم بكل شىءء الذى لا يدرك معناه» الموجود 
فى كل مكان. ('") وإن نظرنا بتمعن إلى أنظمة المعتقدات الأفريقية فى السودان» لاسيما 
تلك التى يدين لها النيلويون» لوجدنا فيها درجة عالية من الاحترام للقيم الأخلاقية. من 
ذلك شيوع مفهوم الكوونق (0098©) بين النوير وهو مفهوم يحض البشر على التصرف فى 
حياتهم العادية على نحو يتجاوز العالم المادى المحيط بهم؛ ويدعوهم إلى السلوك القويم مع 
إخوانهم فى الأرض حتى يكونوا على صراط مستقيم فى علاقتهم مع الرب. النيلويون 
أيضاً يؤمنون بوجود قوة قاهرة وراء نطاق المعرفة البشرية (![862ع00ع13056)) هى الاب 
السامى الذى خلق الإنسانء ولهذا ينبغى أن يعبده الإنسان('"). هذا منهاج لا وثنية فيه. 
فلا فيه هبل يعبد أو أصنام يعكف عليها. ومما لا شك فيه أن السحر ©:ع2) والعرافه 
(/2ءطاء1/) تحتل مكاناً فى منظومة ة الأديان الأفرية يقية.ء ولكن الدين لا يدور حولها. 
السحرة والعرافون هم كهنوت هذه الأديان» يقربون (أويدعون تقريب) حقائق وتعاليم العالم 
العلوى. ولربما تكون أنظمة المعتقدات الدينية الأفريقية» فى جانب منهاء أعمق وداً للبيئة 


008 


الطبيعية» وأصدق تعبيراً عن وحدة العوالم واستمرار الحياة من أديان أخرى. فالمجتمع فى 
نظر هذه الجماعاتء مثلا؛ لا يضم الأحياء فحسب. بل أيضأ الأسلاف القدامى» وكل 
الأجيال القادمة التى لم تولد بعد. ومن هنا جاء المثل الأفريقى حول ملكية الأرضء والذى 
يستشهد به العديد من أنصار البيئة اليوم؛ عندما يناقشون التنمية المستدامة» ويدعون 
للحفاظ على سلامة الموارد الطبيعية. يقول المثل: نحن لم نرث الأرض من أسلافنا لتكون 
لناء وإنما لنحافظ عليها لمصلحة الأجيال القادمة التى لم تر النور بعد. 

لا نرمى بهذا الشرح المستفيض امنظومة الأديان الأفريقية المحافظة على الطبيعة 
الفطرية لهذه المجتمعات حيث تتضافر روابط الدم والتقاليد والأديان الموروثة؛ وأنماط 
الاستهلاك. وتشارك القيم والمعاييرء لتصبح حائلاً دون نمو الدولة المدنية . هى بالقطع 
حائل لأن استمرارها يعمق من التأسل والتأسن (3]371510): (تأسل أسلافه أى تأسى بهم 
وتبعهم) . ولكنء كما ظللنا نقول عبر هذا الكتابء إن اختلاق الدولة المدنية لا يتم بقهر 
الناس على ما لا يريدونء أو الزراية بما يعتقدونء وإنما بإدراك الأنساق الفكرية والمجتمعية 
التى تشكل رؤاهم حول الحياة. 


المأزقالعرويبى 

القومية» بمعنى الانتماء والولاء لإقليم معين والسيادة الكاملة عليه» مفهوم جديد نسبيآ 
فى التاريخ السياسى للعالم. فقبل ظهور الدولة القومية كان المواطنون فى أوروبا (حيث 
تطور المفهوم) يمنحون ولاءهم إما لمجتمع أبرشىء أو لأمير عشائرىء أو لرابطة دينية 
كبرى مثل الإمبراطورية الرومانية المسيحية. وعقب الصراع الذى دام ثلاثة عقود من 
الزمان بين الإمبراطورية الرومانية المسيحية وأمراء الجيرمان. تم الاتفاق بينهما فى 
ويستفاليا (ألمانيا) على منح السيادة الكاملة للأخيرين (ثلاثمائة أمير) على المناطق الواقعة 
تحت سيطرتهم. وقد أصبح اتفاق ويستفاليا )١744(‏ جزءاً لا يتجزأ من الدستور الألمانى» 
وبقى هكذا حتى سقوط الإمبراطورية فى عام 1805 . وكان من أهم آثار الاتفاق الإيذان 
بظهور الدولة القومية ذات السيادة» إذ سرعان ما تحولت بعض تلك الإمارات إلى دويلات 
(النمساء بافارياء برندنبيرج)» ثم توحدت على يد بسمارك من بعد. أما من الناحية 


699 


النظرية» فقد عرف جان جاك روسو الدولة القومية ‏ مستهدياً بتجربة الدولة المدينة فى 
أثينا - بالمحور الأساسى للمناشط الإنسانية فى إقليم معين ذى سيادة» والتى لا يتحقق 
استقرارها إن لم تعبر قوانينها ومؤسساتها عن خصائص المجموعات المكونة لهاء وتعكس 
إرادتهم المشتركة (الإرادة العامة) . وعلى مدى قرنين عقب الثورة الفرنسية نمت فكرة 
الدولة القومية وأضحت هدفاً تصبو إليه المجموعات البشرية المختلفة» وقطباأً جاذبآ 
للمجموعات العرقية المتجانسة» وبوتقة تتمازج فيها اللغات والثقافات. وفى الحالة الأخيرة: 
لعب اختراع المطبعة ونشوء الصحافة المطبوعة فى أوروبا دوراً هاما فى تقوية الروابط 
الثقافية بين المجموعات التى تتشارك نفس الثقافة وتتحدث نفس اللغةء فلولا المطبعة. لظلت 
اللغات المحلية سائدة» ولما توحدت الثقافات القومية الأوروبية . تلك المشاعر القومية وهنت 
إلى حد كبير خلال فترة الحرب الباردة بسبب التحالفات عبر القومية بين الدول الغربية 
بهدف الوقوف صفاً واحداً ضد عدو مشترك (الاتحاد السوفيتى)» ولكن بانتهاء الحرب 
الباردةء وإزالة الستار الحديدى الذى فرضه ستالين على دول شرق أوروباء أخذت تلك 
المشاعر تتأجج من جديدء ليس فقط فى دول البلقان التى عرفت بصراعاتها التاريخية؛ بل 
أيضاً داخل دول الاتحاد السوفيتى نفسه. 

لم تقف فكرة الدولة القومية عند حدود أورويا بل تجاوزتهاء خاصة فى حقبة النضال 
لإنهاء الاستعمار إلى بلاد آسياء وأمريكا اللاتينية» وأفريقياء بيد أن ولادة الدولة القومية فى 
أفريقيا تشوهتء منذ البدايةء لأن الدول الجديدة كانت تخيلية إلى حد كبيرء فالحدود بين هذه 
الدول استندت على الروابط العرقية أو القبلية» أكثر من اعتمادها على المصالح المشتركة بين 
شعوبها وأقوامها. وكان القادة الأفارقة فى غاية الحكمة عندما قرروا فى القمة الثانية لمنظمة 
الوحدة الأفريقية (القاهرة )١1154‏ الإبقاء على الحدود الوطنية كما تسلموها من المستعمرين 
الراحلين» بالرغم من أن تلك الحدود لم تكن دوماً تتماهى مع الحقائق السياسية على أرض 
الواقع . الحكمة فى ذلك القرار تكمن فى الحرص على عدم تشجيع الانشقاقات التى قد تنجم 
عن استثارة القوى الطاردة عن المركز (014150821©): جهوية كانت أم قبلية» داخل الدولة 
للزاحده وبين الذول .كلك الحكامة لم مسحديها ببواسات حكيعنة تطض من رامل الانشفاق: 


000 


وتشجع القوى الجاذبة نحو المركز (668]5156431) على النمو. ومن المفارق أن الاستعمار كان 
أكثر وعياً من الحكومات الوطنية» على مستوى التكامل الاقتصادى بين الدول الأفريقية» لأنه 
لم يعالج اقتصاد هذه الدول كاقتصاد دول متفرقة (كينياء يوغنداء تنجانيقا)» وإنما كاقتصاد 
إقليم شرق أفريقى متكامل. ذلك كان هو الحال بالنسبة لغرب أفريقيا البريطانية (دولة لاغوس. 
شمال نيجيرياء غاناء شمال الكمرون) . وبلا أدنى شك كان للاستعمار مصالح فى هذاء ليس 
أدناها هو الاستفادة من وفورات الحجم (52165 04 600201710) ووفورات التركيز الجغراقفى. 
كان السودان أوفر حظاً من غيره من الدول الأفريقية المجاورة إذ تعود حدوده الحالية 
إلى العهد التركى فى القرن التاسع عشرء ولكن مشكلته كمنت فى شىء آخرء فأمام عملية 
تحول السودان إلى وطن كانت هناك عقبتانء أولهما دينية والثانية سياسية» تناولناهما 
بتفصيل واف. ولكيلا نكرر أنفسنا فى هذا الفصلء نقول باختصار أنه فى المجال السياسى» 
ظل المستعربون الشماليون من أصحاب الأيديولوجيات حتى أواخر الثمانينيات» كما ظل 
العرب عموماًء لا يأبهون لمطالب الجنوب باحترام خصوصيته الثقافية» ولا يرون فى تلك 
المطالب إلا تعويقاً لمسيرتهم نحو قومية عربية شاملة. وقد تركز اهتمام العروبيين منذ 
سقوط الخلافة العثمانية على استعادة أمجاد الأمة العربيةء بحسبانها كياناً تاريخياً موحداً. 
وتعود جذور فكرة القومية العربية الشاملة (الأمة الواحدة) إلى النضال المشرقى ضضد 
الاستعمار التركى (تصادم القوميتين العربية والتركية)» فى حين لم يكن موضوع القومية 
العربية الشاملة قد حسم فى مصر آنذاك. ففى الوقت الذى كانت تدعو فيه الثورة المصرية 
بقيادة مصطفى كامل للرابطة الإسلامية (وليس الوحدة العربية)» وتطالب بتوثيق العلائق 
مع الخلافة العثمانية» كان قوميو المشرق يدعون لحربها. وحتى فى عهد سعد زغلول كان 
الهاجس الأول لحزب الوفد المصرى هو الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط» لا الوحدة 
العربية عبر الأقطار. إلى ذلك التيار انضم عميد الأدب العربىء الدكتور طه حسين وكانت 
له رؤية أبعد ما تكون عن العروبية(""). حقيقة» كان العرب وغير العرب من المسلمين قد 
اندمجوا داخل حدود الإمبراطورية العثمانية طوال فترة الحكم العثمانى» وعاهدوا أنفسهم 
على الولاء الكامل لها امتداداً لما كان عليه الحال فى كل عصور الخلافة الإسلامية منذ 


701 


عهد عمر بن الخطابء حيث قلصت شمولية الدولة الإسلامية من المشاعر الوطنية . ولكن: 
بتزايد الغضب فى الشرق الأدنى بعد الحرب العالمية الأولى ضد الجور المتزايد للحكم 
العخمانى» التهبت المشاعر الوطنية» وكان شعار القومية العربية أداة طيعة لتأجيج تلك 
المشاعر ضد الأتراك. كان الشعار أيضاً وسيلة ملائمة لإضفاء الشرعية على الحركة 
الوطنية الناشكة. 

الشعور بكراهية العثمانيين لم يكن شعورً عاماً لدى كل العربء فعلى سبيل المثالء ظل 
عرب المغرب شديدى الالتصاق بالخلافة الإسلامية؛ وبالغى الحرص على تأييدها. ذلك 
أمرمفهوم لأن الإسلام كان هوالبطاقة الوحيدة التى حدد بها الفرنسيون هوية أهل 
المغربء فالاسم الذى كان يطلقه الفرنسيون على الجزائريين هو المحمديون» 
(801131810605)» فى حين كان الجزائريون يعرّفون الفرنسى بال «رومىء»؛ أو بالتعبير 
التركى «قورى»: أى أجنبى . فالانتماء للإسلامء والولاء للخلافة فى المغربء كانا تعبيراً 
عن تأكيد الشخصية الوطنية ورفض الفرنسة. لهذا نزعم بأن فكرة الأمة العربية المفترضة 
(1ةاناط) لم يكن لها وجود آنذاك خارج نطاق الشرق الأدنى» وذلك قبل أن ينبرى بعض 
مفكرى الشرق الأدنى لأدلجة الفكرة؛ إن لم يكن أسطرتها("). هؤلاء المفكرون استلهموا 
فكرة توحيد الأمة من نجاح بسمارك فى توحيد المانياء وقاريبالدى فى توحيد إيطالياء وفيما 
نعرف فإن سبيل الرجلين للوحدة كان هو القوة» وتغليب اللغة والتاريخ والعرق على أى 
اعتبارات أخرى كمكونات للقومية. لهذا لا يشير الدهشة إن دعا هؤلاء المفكرون 
الإيديولوجيون إلى صهر كل القوميات الأخرى فى الوطن العربى فى بوتقة العروبة. 

تطوران هامان وقعا فى النصف الثانى من القرن العشرين؛ وكان لهما أكبر الأثرفى 
تنامى فكرة القومية العربية: الأول هو ظهور دولة إسرائيل فى سنة 1444١»ء‏ والثانى تولى 
جمال عبد الناصر السلطة فى مصر. فقيام إسرائيل فى قلب الوطن العربى؛ واشتعال 
الحروب بينها وبين الدول العربيةء لم يعمق فقط من حدة الشعور بالهوية العربية؛ وإنما 
جعل منها أيضاً راية يحتشد تحتها كل العرب ضد هذا العدو الجديد. وكما كان شعار القومية 
العربية أداة لتعبئة إرادة المشرقيين ضد الأتراك؛ أصبح شعار الوحدة العربية هو المهماز 


7202 


الذى يحرك العرب أجمعين ضد إسرائيل. وهكذا تحولت الفكرة إلى أيديولوجية سياسية 
امتدت إلى ما وراء الشرق الأدنى. وفى الفترة الناصريةء خاصة بعد انقضاء شهر العسل 
المحدود بين عبد الناصر والولايات المتحدة وانحيازه للاتحاد السوفيتى فى الصراع بين 
الدولتين العظميينء اتخذت الأيديولوجية القومية موقفاً مناهضاً للغرب, وداعماً لحركات 
التحرير ضد الاستعمار الغربى/؛"). وهكذا اتسعت الأيديولوجية القومية لتشمل الوطن 
العربى كله من الخليج إلى المحيط. على أن التوجه القومى لعبد الناصر نفسه لم يتبلور 
بصورة واضحة إلا فى مطلع الستينيات. فبيان هيئة التحرير (أول تنظيم أقامته الثورة 
الناصرية فى عام )١191‏ لم يشر إلى القومية العربية» كما لم يكن للقومية العربية مكان فى 
كتاب فلسفة الثورة الذى نسب لعبد الناصر وفرض كمقرر على المدارس عام 6 . فأول 
عهد الثورة الناصرية بقضية الوحدة العربية كان فى العام ١17١‏ عند إقرار ميثاق العمل 
الوطنى الذى تبنى شعار ٠حرية»‏ اشتراكية» وحدة». حقيق بالذكر أيضاً أن الرئيس التونسى» 
الحبيب بورقيبة» كان هو الزعيم العربى الوحيد الذى شكك فى شرعية الفكرة وجدواها. 

لما يمض وقت طويل حتى أصبحت ت تلك الأيديولوجية أداة داخلية لإضفاء الشرعية على 
أنظمة الحكم المتطرفة» والتى يي عه السلطة عبر الانقلايات العسكرية, 
باستثناء وحيد هو الجزائر التى جاءت بقياداتها إلى الحكم ثورة شعبية سارت يذكرها 
الركبان. ومع عسكرة الحكمء قمعت الحريات: ووئد المسار الطبيعى للديموقراطية؛ وأجهض 
نمو المجتمعات المدنية. ويكاد الجميع يتفقون اليوم على هذا التحليل وتلك النتائجء إلا أن 
الإفضاء بمثل هذه الأحكام فى عقد الستينيات من القرن الماضى كان يعد هرطقة وخيانة. 
على المرء أن يتساءل: ما الذى حدا بالآباء الأوائل الذين استلهموا تجربة بسمارك الألمانى 
فى تطبيق النموذج الوحدوىء عن الاستهداء أيضاً فى إقامة ذلك النموذج بتجارب أخرى 
فى إقامة الدول وتوحيد أهلهاء مثل تجرية الثورة الأمريكية بميثاقها للحقوقء أو تجربة 
الميثشاقيين فى بريطانيا من قبل؟0*") نغلب الظن بأنهم قد تخيروا الوحدة فى سلم القيم 
السياسية قبل الحرية والديموقراطية . ليتهم قرأوا مع تجارب بسماركء وثائق توماس 
جيفرسون.ء فالماقنا كارتا قديمة عهد. 


103 


الهزيمة العربية فى يونيو/ حزيران 11717 كانت نقطة تحول فى أقدار القوميين العرب» 
ليس فقط بسبب الذل والهوان اللذين ألحقتهما تلك الهزيمة ب الأمة» بل أيضاً لوقوع 
انشقاقات عديدة داخل صفوف الجماعات القومية الأيديولوجية» حيث أخذت كل جماعة 
تنتحل المعاذيرء أو تفتعل المبرراتء للهزيمة. ومن المؤسى أن واحدة من القبائل 
الأيديولوجية العربية لم تملك الشجاعة الأدبية» أوالأمانة الفكرية» لنقد الذات» كما فعل 
المفكر العروبى الكبير قسطنطين زريق('"). تلك الهزيمة قادت الكاتب المؤرخ إلى اعتراف 
مثير؛ قال أنه سيتجنب الإشارة إلى "الأمة العربية لأن واقع الحياة على الأرض العربية 
يثبت أن ليس هناك أمة عربية واحدة» بل مجتمعات عربية ذات خصائص مختلفة 
ومعقدة("). فى مقدمة لتقرير أعده منتدى الفكر العربى (عمان) حول تعليم الأمة العربية 
فى القرن الحادى والعشرين تحت عنوان الكارثة أو الأملء قال العالم الاجتماعى المرموق. 
سعد الدين إبراهيم إن المجتمع العربى كيان معقد تتداخل فيه عناصر الولاءات الوطنية؛ ولا 
تتطابق فيه حدود الجغرافيا مع حدود المشاعرء ولا حدود السياسة مع حدود الأمة. أونجنى 
على أحد من آباء الأمة»ء إن قلنا أنهم فضلوا الكارثة على الأمل؟ وأخيراً دق نظام البعث 
العربى فى العراق المسمار الأخير فى نعش فكرة الأمة الواحدة عندما قام بغزو الكويت فى 
عام »١44٠‏ وكان لذلك تداعيات لعلها تقف عند انسحاب ليبيا من جامعة الدول العربية فى 
اكتوبر/ تشرين أول ٠٠١7,‏ 

من جانب آخرء شقت طريقها إلى الاستقلال فى عقد الستينيات دول عربية جديدة من 
بينها السودانء أياً كان انتسابها للعروبة» (عرقاً أو ثقافة) . هذه الدول» على خلاف كل دول 
المشرق (باستثناء لبنان والعراق)» وكل دول الجزيرة» بليت بتعددات متشابكة (دينية؛ لغوية» 
ثقافية» عرقية) . مع ذلك انضمت تلك الدول طوعاً إلى جامعة الدول العربية التى تأسست فى 
سنة 14545 (انضم السودان للجامعة فى عام ١157‏ فور إعلان استقلاله) . وتجدر الإشارة إلى 
أن مؤسسى الجامعة كانوا على قدر كبير من الحكمة عندما أسسوا الجامعة أولاً كرابطة بين 
دول ذات أنظمة سياسية واجتماعية مختلفة؛ بل متباينة» وثانياً عندما أوكلوا لها واجبات 
وظيفية بهدف رعاية وتنمية المصالح المشتركة لهذه الرابطة ولأعضائها. ولو مضى الحال 
على هذا المنوال فلريما تحققت للعرب وحدة أفضلء إلا أن أهل الأيديولوجيات آثروا فرض 


704 


وحدة عربية فورية تقفز على الواقع الجهير فى الأوطان العربية. هذا الواقع الذى ذهب أهل 
الأيديولوجيات لمراغمته لم يقتصر على الأوطان العربية المتصدعة فحسبء وإنما شمل أيضاً 
بعض الدول العربية المتماسكة تاريخياًء والعريقة فى عروبتها. ولا شك فى أن تجاهل تلك 
الحقائق الساطعة قد قوض شرعية الوحدة بين الدول العربية التى يجمع بينها أكثر مما يجمع 
بين الدول الأوروبية التى وحدتها اتفاقية روما (1101)» بعد اثنى عشر عاماً من إنشاء 
الجامعة العربية (وقعت على اتفاق روما ست دول أوروبية: فرنساء ألمانياء بلجيكاء هولنداء 
إيطالياء لوكسمبرج) . وليت الأمرء وقف عند الاستهانة بالمعطيات السياسية والاجتماعية 
والثقافية على أرض الواقع؛ بل صحبت تلك الاستهانة أيضأء حرب أهلية عربية انقسم فيها 
"التقدميون ضد الرجعيين» واليمين العربى ضد اليسارء والوطنيون العرب ضد "العملاء؛ وما 
بمثل هذا التنابز توحد الشعوب ؛ «ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب» (الحجرات 
64 . على أن الصراعات بين الدول العربية المتماسكة تاريخيأء لم تكن كلها صراعات 
أيديولوجية؛ فمنذ ثلاثينيات القرن الماضى وقعت على الأقل خمس حروبء أو صراعات حول 
الحدودء أو تنازع حول المصادر الطبيعية المشتركة بين دول ععربية خلت من أى صراعات 
عرقية أو ثقافية: الحرب بين المملكة العربية السعودية واليمن »)١514(‏ الجزائر والمغرب 
»)١1975(‏ الكويت والعراق »)١1190(‏ السودان ومصر حول حلايب ١916(‏ و1135١)»‏ قطر 
والبحرين (1194)» إلى جانب صراعات مشابهة بين أبى ظبى وعمان: وعمان واليمن» 
وأبى ظبى والسعودية حول مصادر النفط. ومن الغريب أن أياً من تلك الخلافات لم يحل عن 
طريق جهود الجامعة العربية» وإنما جاء الحل إما عبر وساطات أجنبية» أو تحكيم خارجىء أو 
المصالحة بين الأطراف. فقد حلت»ء مثلاً» منظمة الوحدة الأفريقية الصراع الذى كان دائراً 
بين الجزائر والمغرب فى سنة »١1477‏ وعالج مجلس الأمن قضية العراق والكويت» وقضت 
محكمة العدل الدولية فى الصراع بين قطر والبحرينء وتم الفصل فى النزاع بين السعودية 
وأبى ظبى عن طريق التحكيم. 

حقأء لواتبعت الدول العربية السكة العملية التى اتبعتها الدول الأوروبية للحد التدريجى 
من الفوارق بينهاء وتعظيم الجوامع» واستشراف المستقبل المشتركء لقطعت بالتأكيد خطوات 
كبيرة نحو الوحدة . على ضوء هذا الافتراضء كان انضمام السودان للجامعة العربية قراراً 


105 


صائباً قضت به عوامل اللغة والثقافة» والتواصل الجغرافى؛ والمصالح الاقتصادية المشتركة. 
فتشارك اللغة والثقافة» مثلاً» جمع بين دول ليس هناك من وشيجة أخرى تجمع بينها مثل 
دول الكومنولث البريطانية» ومنظمة الفرانكفونية الدولية 01177) كما وحد التواصل 
الجغرافى» والمصالح الاقتصاديةء والثقافة السياسية المشتركة بين دول غرب أوروبا كلهاء 
رغم الحروب السياسية والدينية التى كانت مشتعلة بينها حتى القرن الماضى . هذا التوجه 
يختلف كثيراً عن مشروعات التوحيد التى بشر بها الأيديولوجيون فى عقد الستينيات» 
وأنكروا معها كل ضروب التمايز بين الأوطان العربية» ثم أقاموا أنظمة قهرية هدفها 
المزعوم هو التوحيد والتحريرء ولما تبلغ الأمة الغايتين بعد. 

على المستوى السودانى» كان لإنكار هذا التمايز نتائج خطيرة على وحدة القطر. فأولاً ظل 
العروبيون لا يرون فى مطالبة الأقوام غير العربية داخل السودان بالاحتفاظ بخصائصها 
الثقافية إلا مؤامرة يدعمها الخارج لتمييع الهوية!لعربية. لهذا دعمت بعض الدول العربية» 
والكثذير من مثقفى الوطن العربىء؛ استخدام الشمال للعنف ضد الجنوب» حتى كادت حرب 
السودان الأهلية أن تتحول إلى حرب عربية أفريقية . ليتهم وعوا أن السودان الموحد بطوع 
أهله» هو الأقدر على أن يكون سد حماية منيع للدول العربية. ثانياً ما برح العروبيون يقولون» 
حتى عهد قريبء أن الدول القائمة اليوم داخل نطاق العالم العربى هى كيانات وهمية. هذا 
الرأى قد يكون صحيحاً ولكنه لا يفيد النقاشء إذ أن كافة دول العالم» بوجه أو آخرء نشأت على 
نحو اصطناعى ولكنها تطورت ككيانات مستقلة لها هوياتهاء ومصالحهاء وخصوصياتها 
البنيوية والمزاجية (52125125لإء1010) لذلك ع المرء كثيراً الحوار الصحي الذى أخذ يدور 
فى أوساط حزب البعث العريى السودانى حول المفاهيم؛ مثل محاولة إزالة التمييز المصطنع 
بين القومية والوطنية» أو الزعم بأن قضية الديموقراطية داخل الأوطان العربية يمكن أن تؤجل 
إلى حين تحرير فلسطين وقيام الوحدة العربية الشاملة؛ أو المناهج مثل الاستيلاء على الحكم 
عنوة("") . بعثيو السودان ليسوا وحدهم الذين ذهبوا لهذه المراجعات؛ ففى سلسلة من المقالات 
الناضجة كتب القومى العربى المعروف انطوان مقدسى يصف فكر البعث بأنه نص شيوعى 
ردىء الصياغة:ء كما قال أن فكرة "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة هى لغة فاشية 


06 


بالأمس» ودونكيشوتية اليوم('"). على أن أهم ما توصل إليه مقدسى؛ كما توصل إليه بعثيو 
السودان» هو خطورة النظرة الشمولية الكامنة فى فكر البعث. فى هذا يقول مقدسى ان إحدى 
الخصائص الأساسية للحكم الشمولى التى لا ينتبه لها الناس هى أنه يوقف التاريخ تلقائيآً 
ليجعل من ذاته بداية مطلقة لتاريخ آخر.('*) 

الجبهة الاسلامية بين الأمة والوطن 

ظهور الجبهة الإسلامية كحزب حاكم فاقم» كما سلف الذكرء من تصدعات السودان» بل 
جعل للجانب الدينى دوراً محورياً فيها. بهذا خلقت الجبهة تحدياً جديداً هز العقول هزأًء 
وجعل كل أهل السودان ‏ من غير أعضائها ‏ يعيدون النظر فى تقويمهم للأزمة السودانية. 
زعمت الجبهة» فى بداهة عهدهاء رفضها للتراتبيات الاجتماعية القائمة على العرقء أو 
الانتماء الوطنىء باعتبار أن الألفة الوحيدة بين البشر التى تقر بها هى إلفة الإسلام (أمة 
الإسلام) . وحقاً وردت كلمة أمة» كما ذكرناء سبع مرات فى الكتاب الكريم!('*)؛ فى حين 
لم ترد كلمة دولة إلا مرة واحدة» وليس بمعناها السياسى المتعارف7”*). قالمسلمون؛. بغض 
النظر عن أصولهم العرقية» أو لغاتهم الأصليةء أو ثقافاتهم» أو المواطن التى ريوا فيهاء أبناء 
أمة واحدة؛ يسعى بذمتهم أدناهم. تبعاً لهذا المفهوم رفض الإسلامويون الدولة القوميةء 
ودعوا لنظام أكثر شمولاً ينضوى تحته كل مسلم؛ ويستمد شرعيته من خضوع المسلمين 
جميعاً لله رب العالمين. هذا المفهوم» له حجيته الشرعية فى داخل سياقه التاريخى» فالمسلم 
يعيش فى عالمين أو محيطين» محيط الأخوة الإسلامية ومحيط الوطن. ولكن فى عالم 
القوميات وحقوق الأفراد والجماعات لا بد من التوفيق بين مقتضيات هذين المحيطين. 
الجبهويون اعتبروا قضية وحدة أمة الإسلام أمرأً مسلماً به» فانصرفوا تواستلامهم السلطة 
إلى تغيير قانون الجنسية السودانى فى عام ١197‏ حتى تصبح الجنسية السودانية حقاً أصيلاً 
لأى مسلم. هذا أمرلم تقدم عليه أى دولة إسلامية فى التاريخ المعاصرء بما فى ذلك الدولة 
التى ترعى الحرمين الشريفين؛ أو جمهورية إيران الإسلامية. وهكذا أصبحت المواطنة» 
والتى هى علاقة عضوية قانونية بين الدولة ومواطن أصيل فى أرضهاء أو غريب اختارها 
مقراً له» مفهوماً فاقد المعنى. ولا نحسب أن قانونيى الجبهة كانوا يجهلون هذه الحقائق؛ 


0/07 


فمثلاًء عرّف الترابى نفسه المواطنة فى أحد أعماله بأنها التصاق المرء بوطنه وولائه 
لأسلافه.(”*) فالالتصاق بالأرضء والانتماء التاريخى لها بالميلاد أو عبر التبنىء شرطا 
لزوم للمواطنة» دون اعقبار للدين. مع ذلكء قال البشير للذين انتقدوا منح الجنسية السودانية 
لغير السودانيين على أساس دينىء أن الشرط الوحيد للحصول على الجنسية السودانية 
سيكون فى عهده هو شهادة أن لا إله إلا اللهء وأن محمداً رسول الله . 

على أن نظام الجبهة لم يتجاوز الأعراف التى تحكم المواطنة فى جميع دول العالم: بما 
فيها الدول الإسلامية المعاصرةء إرضاء لغرور فكرى متأصلء أو إيمانآً بشرع الله وإنما 
لهدف سياسى شرير: فتح الأبواب على مصراعيها لجماعات الإسلام السياسى من كل 
حدب وصوب. فأمة الإسلام التى أراد النظام أن يفىء عليها من فيضهء لم تكن هى الفلاح 
المصرى الذى كان يمكن أن يعينٍ على تعمير أراضى السودان القاحلة» ولا الهوساوى 
المسلم الذى سيضيف يدا عاملة لجناء القطن فى الجزيرة» إنما كانت المتطرفين الملتحين 
من أصحاب الرسالات عابرة القارات. العديد من هؤلاء كانوا أشخاصاً غير مرغوب فيهم 
فى مواطنهم الأصلية . بيد أن الأحداث فيما بعدء أبانت أن نظام الجبهة لم يكن فقط يستهين 
بكل الشرائع المعاصرة التى تحكم قوانين الجنسية» وإنما كان أيضاً عاجزاً عن تحمل النتائج 
التى تترتب على قراراته. فعقب تصديق السودان على المعاهدة الأفريقية لمكافحة الإرهاب 
(الجزائر عام »)١194‏ ونظيرتها العربية من قبل (القاهرة فى عام )١434‏ حوصر النظام 
حصاراً لا إنفكاك معه. فوجئ النظام بتقديم بعض الدول لقوائم تضم أسماء لإرهابيين 
مطلوبين من العدالة فى بلادهم؛ أضحوا بنص قانون الجنسية السودانى الجديد سودانيين» لا 
بالميلاد أو التجنسء وإنما بالإرهاب. ولو كان النظام جاداً أو صادقاً فى تطبيق قوانينه التى 
زعم أنها "مستمدة من الشريعة لأجار هؤلاء المجاهدين» فالله يأمر بالإجارة حتى 
للمشركين» «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله» (التوبة 1/4)» 
دعك عن حماية مواطنيه الجدد الذين احتازوا المواطنة بالشهادتين. وفى عام ١198‏ لم 
تتراجع الجبهة عن فكرة المواطنة الأممية فحسبء بل جعلت أيضا من المواطنة القطرية 
عاملاً محدداً للحقوق والواجبات للمواطن المسلم وغير المسلم؛ وضمنت هذا المعنى فى 


108 


المادة 77 من الدستور. هذا عود حميد للحق» ولكنه» فى نفس الوقتء» دليل على كيف كان 
النظام يستهتر بالدين استهتاراً لم تنج منه الشهادتان. 

رغم كل تلك المغالاة» أسدت الجبهة بعض الخير للسودان؛ لاسيما بإنهاء الضبابية فى 
خطوط المعركة. ففى الشمال عزلت الجبهة نفسها عزلاً كاملاً عن كل القوى السياسية 
بسبب سياساتها الطاردة . وعندما أحكمت قبضتها بلاهوداة على السودان ثقافياًء وسياسياء 
واقتصادياًء ودينيأء بدأت الطبقة السياسية فى الشمال (بما فى ذلك الأحزاب التقليدية) 
تستقرئ مستقبلاً للسودان تسوده المساواة والعدل لكيما يبقى السودان موحداً. تلازم هذا 
التحول» مع تحول آخر فى الجنوب حيث وقع انحسار نسبى للتوجه الانفصالى» وظهرت 
حركة سياسية جنوبية المنشأء إلا أنها وحدوية الرؤى. ولربما لم يلق هذا التوجه استحساناً 
من بعض السياسيين القدامى فى الجنوب الذين فطموا أنفسهم منذ زمن طويل عن وحدة 
السودان» باعتبارها غاية لن تدرك. ذلك الشعور بالإحباط لم يلق طريقه إلى العناصر 
الشابة التى أطلقت على نفسها اسم "السودانويين الجددء وحررتها من أعراض الظلم 
والاضطهاد وما تولد عنها من عقد النقص. هؤلاء أخذوا يجاهرون بالقول بأنهم سودانيون 
أصحاب حق فى تكييف مصير السودان كله. ومركب النقصء تماماً مثل مركب العظمة» 
ما هو إلا حالة نفسية. 


وجهة نظر من الشمال: الاسنيعاب والتمييز 

لا يملك السودانيون فى الشمال» بصفة عامة:ء الإدعاء أنهم عانوا كثيراً تحت ظل 
الحكومات التى تعاقبت على الخرطوم قبل حكومة الجبهة» بدءاً بحكومة الأزهرى ووصولاً 
إلى حكومة نميرى. فمن الناحية الدينية» كانت كل تلك الحكومات تحت قيادة حكام 
مسلمين تعاملوا فى أمر الدين بتسامح كبيرء إلا فى فترة الدستور الإسلامى »)١558(‏ 
والإمامة النميرية )١11817(‏ . ومن الناحية الاقتصادية» تركزت التنمية فى الشمال النيلى» 
للحد الذى أفادت معه الشرائح الطبقية الفاعلة فى تلك المنطقة من التنمية» ونال غيرهم 
منها طل. أما من الناحية السياسية فقد ظل الحكم متداولاً بين الأحزاب التقليدية الشمالية 
من جهة» والجيش من جهة أخرىء وكانت قياداته دوماً بيد الشماليين النيليين. 


709 


هذه الأوضاع تبدلت جذرياً باستيلاء الجبهة على الحكمء للحد الذى نملك أن نقول معه 
ان النكبة لحقت باهل الشمال والجنوب على حد سواءء فاتباع النظام وسدنته هم وحدهم 
الذين استفاءوا من خيره . ذاق الشماليون أيضأ وجع الحرب بصورة مباشرة؛ من بعد أن 
كان الجنوب فى الماضى هو وحذه الذى يتجرع كأساتها المريرة» فالنظام لم يضف على 
الحرب صبغة دينية فحسبء بل أخذ يدفع بشباب الشمال قسرأ إلى غمارها رغم إرادتهم 
وإرادة ذويهم. حكومة الجبهة أيضاً هى الحكومة السودانية الأولى منذ الاستقلال التى حولت 
الاقتصاد الوطنى كله إلى اقتصاد حربء كما كانت الحكومة الأولى التى دفعت معارضيها 
مجتمعينء فى الشرق والغرب والشمال والجنوبء إلى حمل السلاح. 

وبسبب من هيمنته الطاغية على كافة مناحى الحياة» بدأ أغلب السودانيين الذين لا 
يساندون النظام أو يوالونه» يحسون بأنهم غرياء فى بلدهم. ففى تقرير للخدمات البحثية 
التابعة للكونجرس الأمريكى فى عام ١156©‏ جاء ما يلى: ٠إن‏ تماسك الجبهة الإسلامية: 
وتنظيمها الداخلى: وسيطرتها على الجهاز الحكومى أضفى قوة كبيرة على الجبهة: 
فأعضاؤها يهيمنون اليوم على كل المراكز القيادية فى حكومة البشيرء وخاصة فى قطاع 
الشئون الخارجية»ء وقطاع الاقتصاد. ذكر التقرير أيضاً أن الجبهة قد عمدت إلى تطهير 
المؤسسات المدنية عن طريق تسريح الموظفين» والمعلمين» وخمسة آلاف من العسكريين 
الذين لا يكنون ولاء للنظام؛ . وكما رأينا فى الفصل السابع تضاعفت أعداد هؤلاء المسرحين 
منذ صدور ذلك التقرير. ومضى التقرير يتحدث عنء إقامة الجبهة لمؤسسات موازية 
لضمان بقائها فى السلطة مثل الميلشيات العسكرية والمعروفة ب "قوات الدفاع الشعبى. 
والتى يكاد عدد أفرادها يوازى عدد أفراد الجيش النظامى. بالإضافة إلى ذلكء أنشأ أجهرة 
أمنية متشعبة يتولى إدارتها وزراء فى حكومة البشير.(؛*) من جهة أخرىء كثف النظام 
من عمليات التجسس على المواطنين» والتنصت لأحاديثهم الخاصة» ولهذا السبب تم إيكال 
أمر كل أجهزة الاتصالات لعناصر أمنية تسيطر على مراكز الاتصال الهاتفى الفرعية فى 
الأحياء» رغم أنها ظلت تدار كمؤسسات تجارية. ومن الغريب أن هذه الممارسات استمرت 
حتى بعد صدور دستور النظام )١1198(‏ والذى تنص المادة 79 منه على كفالة حرمة 


710 


المحادثات الهاتفية وخصوصيتها. ولكن من الذى قال أن القوانين والدساتير فى ظل 
الأنظمة القهرية توضع لتحترمء ناهيك عن أن تنفذ؟ 

هذه الصورة المرعبة لسودان الجبهة» زادها رعبأ تقرير منظمة هيومان رايتس ووطش 
الذى صدر تحت عنوان ما وراء الخط الأحمر(**) . ذلك العنوان اقتبسته المنظمة من خطاب 
ألقاه البشير فى كانون ثان/ يناير ١197‏ قال فيه: «عندما نتحدث عن تسليم مقاليد السلطة 
للشعب. فإننا نقصد بذلك ان الشعب سوف يمارسها داخل حدود معينة» ولن نسمح لاحد أن 
يتجاوز الخطوط الحمراء التى وضعناها لمصلحة الأمة؛.('*) فى تحليله للوضع السياسى فى 
السودان (متجاوزاً الخطوط الحمراء)» قال التقرير: «لئن تكون مسلمآً فى السودان اليوم» فهذا 
لا يضمن لك حرية المعتقد فى الدولة الإسلامية. فأكبر طائفتين إسلاميتين (الختمية 
والأنصار) أصبحنا نهب لمحاولات النظام للسيطرة عليهماء ومصادرة مساجدهما ودور 
عبادتهما. ففى رأى الجبهة تعتبر الجماعات الإسلامية الأخرى المناهضة لها مناهضة 
للدين.. فرضت الجبهة أيضاً قيوداً مشددة على أئمة الصلاة فى المساجدء خاصة أولتنك 
الذين ينقدون سياساتها علانية» أولا يتوافقون معها على توجهها الأيديولوجىء علماً بأن 
المسئولية الدينية لهؤلاء الأئمة تحتم عليهم إسداء النصح لرعاياهم فى الأمور الدنيوية 
والروحيةء على حد سواء». ومن الجلى أن حكومة السودان الإسلامية لم تكن ترى فى نقد 
أئمة المساجد لسياستهاء إلا انتقاصاً من شرعيتهاء لذلك اتسم رد فعلها تجاه هؤلاء الأئمة 
بالقمع والتطرفء وحدا بها فى آخر الأمر إلى جمع كل الأئمة تحت مظلة عريضة» هى 
رابطة الأئمة التى تتحكم فيها الجبهة. تلك: إذن» هى الخطوط الحمراء التى أراد البشير أن 
يرسم بها حدود المصلحة الوطنية. أليس غريباً أن يضيق النظام الذى ما فتئ يكرر أن الدين 
هو الحياة ذرعاً بنقد أئمة المساجد لسياساته التى تتناول قضايا الحياة؟ 

أياً كان الحال؛ تعرض أهل الششمال المسلم لهذا الاضطهاد الغليظ من جانب نظام الجبهة 
"الشمالىء لابد أن يكون قد جعلهم أكثر إحساساً بالظلم النظير الذى كان يتعرض له 
الجنوبيون . فبينما اقتصر الاضطهاد الدينى فى الماضى على الجنوبيين غير المسلمين» إمتد 
اليوم ليشمل المسلمين المناوئين للجبهة فى الشمال. وبينما كان الجنوبيون أغلبهم هم الذين 


711 


يحرمون من حريات التجمع والتنظيم والعمل السياسى الطليق» أصبحت أحزاب الشمال 
اليوم محرومة من تلك الحريات. وبحرمان نظام الجبهة رجال الأعمال الشماليين الذين لا 
يوالونها من الفرص المتساوية فى مجال النشاط الاقتصادىء امتد التهميش الاقتصادى حتى 
إلى رجال الأعمال فى الشمال. لهذا أصبح من العسير على الطبقة الشمالية الحاكمة أو نخب 
الشمال أن تصارع نظام الجبهة لاسترداد حقوقها المشروعة» وفى ذات الوقت تنكر حق 
الآخرين فى النضال من أجل استرداد نفس الحقوق» واحتلال مكانهم تحت الشمس. 

وجهة نظرمن الجنوب: من الانمّصال إلى الوحدة 

منذ الاستقلالء لجأ الجنوب إلى كافة أشكال التعبير عن ظلاماته؛ بدء) من المعارك 
السياسية فى البرلمان من أجل الحصول على اعتراف بخصوصية وضعه وحق أهله فى 
إدارة إقليمهم وانتهاء بحمل السلاح. العجز عن الوصول إلى حل لذلك المشكل على مدى 
قرابة نصف القرن من الزمان قاد إلى إلهاب المشاعر فى الجنوب للحد الذى تبهمت معه 
الأمور وزادت إشكالاً. على أن المشاعر الجنوبية قد بدأت الآن فى النضوجء بل بدأ الجنوب 
يضطلع بدور قيادى فى الجهود الوطنية الرامية إلى خلق بيئة أكثر عدلاً ورخاء للأجيال 
القادمة. ذلك ما كان ليتم لولا انضمام الحركة الشعبية لمجمل القوى الوطنية فى الشمال 
والشرق والغربء والعمل معها لإرساء دعائم سودان ديمقراطىء طوعاً لا كرهاً. 

ظهرت الحركة الشعبية على الساحة السياسية» فى بيئة غير صديقة: البيئة التى مزق 
فيها نميرى أوصال السلامء وأعلن فيها إمامته المشبوهة:ء وقاد البلد بأسره إلى صراع 
حتمى. وعند تكوين الحركة» توجه قائدها بنداء إلى كل الشعب السودانى عبر فيه عن 
وجهة نظر هدامة (عناكة100001) حول وسائل حل الأزمة السودانية. الجانب الهدام فى 
وجهة النظر تلك هو حيدانها عن أكليشيهات الماضى حول مشكلة الجنوب؛ والتى كانت لا 
ترى إلا سطح الأشياءء مما أعجزها عن تبصر المياه التى تمور فى الأعماق. هى هدامة 
أيضاً لأنها تسامت فوق عقدة النقص التى دفعت العديد من قادة الجنوبء إما إلى القنوع 
بالمقاعد الخلفية فى دهاليز السلطة الوطنية» أو فقدان الأمل تماماً فى تحقيق الوحدة» ولذا 


712 


قصروا أحلامهم على حل "مشكلة الجدوب. ورغم تبنيه لوجهة النظر الهدامة تلك؛ لم يحمّل 
زعيم الحركة الشمال كله المسئولية عما حاق بالجدوبء يل قال أن السلطة المركزية (سواء 
كانت تلك السلطة استعمارية» أو برلمانية» أو عسكرية» أو أصولية دينية) هى التى أعملت 
السكين فى الروابط التى تجمع بين السودانيين؛ ولذا ظلت الأمة منقسمة إلى " شماليين 
وجنوبيين» وغربيين وشرقيين» وحلفاويين ومن يطلق عليهم أولاد البلد. أما فى الجنوب فقد 
كان الانقسام تبعاً للانتماء القبلى للأطراف المتصارعة . كل تلك الصراعاتء بدون شكء لا 
تخدم إلا مصالح المتجبرين وتضير بمصلحة الشعب الذى استغل وانتهكت حقوقه: .(”*) 
فبينما كانت رؤية ساسة الجنوب للمشكل فى الماضى تتسم بالمرارة بسبب كل الاستهانة 
والخداع اللذين وسما السياسة الشمالية نحو الجنوب» قصد زعيم الحركة إلى تجاوز كل 
مرارات الماضىء ليتجه صوب المشكلة ويضعها فى سياق سياسى جديد. ومن الواضحء أن 
الانحراف بالحكم فى الخرطوم فى منعرجات دينية وعنصرية خلال سنوات عديدة شاب 
القاععدة الأخلاقية للحكم» ولوث كل السياسات الصادرة عنهء الإدارى منهاء مثل 
الاقتصادى والدينىء والثقافى. لهذا لا محيد لأى راغب فى الإصلاح عن الاتجاه لإعادة 
تشكيل الدولة والسياسات بالتراضى بين الجميع. هذا أمر لا تحققه الصيغ الدستورية المائعة 
المتشاطرة. أو التعبيرات الرخوة المخادعة عن اخواننا الجنوبيين. فالجنوب لم يعد هو 
الجنوب. الجنوب اليوم هو منطقة البجه» مثلث السل؛ وهو منطقة النوبة حيث مازال الناس 
يعيشون فى الكهوفء وهو المعذبون فى الأرض فى الغرب والجنوب الشرقى ممن أنهكتهم 
المجاعات؛ وهو أيضاً الشمال القصى الذى حمل رأس ماله البشرى إلى الهجرة إلى الخليج 
ومصر والمملكة السعودية» بعد أن ضاق بهم الحال فى وطن الجدودء أنت الوطن. هذا هو 
السياقء الذى لما تدركه بعد جمهورية المدن الثلاثء الاسلامية واللاإسلامية. 


بناء الجسوربين الشمال والجنوب 
لذلك, يقتضى خلق سودان جديد يختلف عن السودان السياسى الذى عرفناه منذ 
الاستقلال» وبالقطع يختلف عن ذلك الذى سعت نظام الجبهة لخلقهء الإدراك الجماعى 
لضرورة قيام سودان يستوعب مطامح كل هؤلاء ويحقق مصالحهم المشروعة. عن ذلك 
السودان الجديد عبر قائد الحركة فى مؤتمرها الوطنى الأول (مارس/ أبريل )١595‏ 
713 


بالكلمات الآتية: .إن المسار السياسى للحركة موجه أولاً وأخيراً لرفع المعاناة عن كاهل 
جميع المضطهدين والمستغلين من أبناء الشعب السودانى؛ بغض النظر عن أقاليمهم أو 
قبائلهمء أو أديانهم» أو خلفياتهم الثقافية. هذه دعوة للنضال من أجل معالجة المشاكل 
الأساسية للبلاد وإيجاد حل دائم لها. ولن يتحقق هذا إلا بتغييرات أساسية فى الهياكل 
السياسية والإدارية والمفاهيم. ولهذاء ما أن فرغ زعيم الحركة من إرساء دعائم الحركة فى 
الجنوب» حتى اتجه على المستوى الوطنى إلى ثلاث جبهات: الاستمرار فى الكفاح السياسى 
والنضال المسلح ضد نظام الجبهةء وتعزيز التجمع الوطنى المعارض لنظام الجبهة كبديل 
قوى فاعل للحكم فى الخرطوم» واجتذاب العقول للحوار حول مفهوم السودان الجديد. وفى 
أوائل التسعينيات روج قرنق لفكرة لواء السودان الجديد (7158) كواحد من وسائط التغيير 
السياسى والاجتماعىء ودعا لتنظيم منتدى عام لذلك الحوار. الهدف من المنتدى كان هو 
إجراء حوار واسع عن فكرة السودان الجديدء وماهيتهاء والأدوات المتاحة لهاء أو تلك التى 
ينبغى أن تتاح لتحقيقها. ثئمة سبب آخر لتكوين اللواء: الرغبة فى تكوين قوة محاربة فى 
الشمال بالقرب من مركز الحكمء لتسريع عملية الإنقاذ من "الإنقاذ؛ وكان ذلك قبل بروز 
القيادة العسكرية الموحدة للتجمع الوطنى. ولربما كان من بين العوامل الضاغطة لإنشاء 
ذلك الشق العسكرى للواء المبررة من بعض عناصر الجيش الشعبى: لماذا نريق وحدنا 
الدماء من أجل بناء السودان الجديد؟ وقرفى قلب قرنق أيضأء أن نظام الجبهة لا يقارب أو 
يماثل نظام عبود فى الستينيات؛ أو نظام نميرى فى الثمانينيات. فنظام الجبهة» فى تقديره» 
نظام ذو قاعدة جماهيرية» مهما كان حجمهاء وأنصار متفانون» وقوة عسكرية تضاهى 
الجيش النظامى (المليشيات)» كما هو نظام مسيطر سيطرة كاملة على قمم الاقتصاد. أسلوب 
التعامل مع نظام كهذا لابد أن يختلف عن أسلوب الانتفاضات الجماهيرية ضد الحكم 
العسكرى التى خبرها السودان فى عامى ١5754‏ و985١‏ . وكان قرنقء بنظرته هذه» أكثر 
واقعية من كثير من المناضلين الذين دعوا لاقتلاع النظام وهم على الارائك متكئون» 
لاييصرون الصلة بين الاقتلاع والنضال من أجله» ولا يلمسون الصلة ما بين ذلك النضال 
والتجهيز له من عدة . وعلى كلء فقد لاقت فكرة لواء السودان استحساناً كبيراً لدى كثير من 


714 


العناصر الشابة فى الشمالء وانخرط بعضهم فى قوة محاربة على الجبهة الشرقية ضمت 


عناصر من كافة مناطق السودان» وأصبحت أكبر وحدة مقاتلة فى قوات التجمع على 
الجبهة الشرقية. 


بيد أن الجانب الأهم فى تكوين اللواء كان هو تعميق مفهوم السودان الجديدء ففى مذكرة 
له بعنوان لواء السودان الجديد: برنامج العمل» نادى قرنق بإعمال مفهوم السودان الجديد 
والسودانوية الجديدة وتطويرهاء ليس فقط كسلاح أيديولوجى فى الصراع من أجل البناء 
الوطنى» وتعميق وحدة أقوامه» والاعتراف بثقافاتهم المتنوعة» بل أيضاً لبث الوعى 
بحضارات السودان القديمة واستبطان أمجاد الماضى» فباستبطان معانى القديم يكون التقدير 
الجيد لتبعات الحاضرء والاستشراف الرشيد لآفاق المستقبل. وإن كنا نعرف الآن ما هى 
تبعات الحاضرء فما هوالماضى الذى تحدث عنه قرنق؟ وما هى افاق المستقبل الذى 


دض هه 


يستشرفه . 

فى تعريفه لماضى السودان التاريخىء لم يتجه قرنق الأفريقى إلى ممالك غانا وبنين 
ومالى» وإنما ذهب إلى إسهام السودان الأفريقى القديم: مروى وكوشء فى إثراء الحضارة 
الإنسانية» وانعكاس ذلك على خلق السودان المعاصر. ذكر أيضا أن ذلك التاريخ يتسع 
ليشمل عصرر النوبة المسيحية(") والممالك الإسلامية. تلك الرؤى كانت جماعاآً 
لمحاضرات نشرت بالانجليزية والعربية» وأشرف على تحريرها وترجمتها للعربية الدكتور 
الوائق كميرل'*) ولهذا فهى متوفرة لمن يرغب قى أن يعرف قرنق «داير شنو؟» وعلى أى؛ 
فبعض هذه الفصول من تاريخ السودان» كما أوردناء تغافلها عمداً مفكرو الحركة الوطنية 
قبل الاستقلال؛ واندفعت الأنظمة المتأسلمة (من نظام صادق المهدى إلى نظام البشير) 
لإستدصالها من العقول. لا يستبدع المرء موقف النظام الجبهوى من تلك الحضارات 
"الوثنية» كما يقولون» ولكن لم يدر بخلدنا أن يذهب إلى هذا الغلاء حاكم وطنى متعصرن. 
ففى عهد الديموقراطية الثالثة (حكومة صادق المهدى) أقدم وزير على ما لا يقدم عليه أى 
رجل يملك حسأ وطنيأء ناهيك عن أن يكون ذلك الرجل هو وزير الثقافة فى بلده: إزالة 
الآثار النوبية والقبطية من المتحف الوطنى. يا للهول» وزير للثقافة يعادى الثقافة» ولعله 


715 


بهذا إستن فى السودان سابقة لم تقدم عليها إلا طالبان عندما أمرت بهدم تمثال الملك 
الكوشانى كانيشاء وكان ذلك قبل تدميرها لتماثيل بوذا. كما يتوقع المرءء أثار ذلك القرار 
الأحمق غضبة عارمة من جانب القيمين على إدارة المتحف والعلماء, إلا أن رئيس الوزراء 
لم يرء فيما يبدوء ما يستوجب محاسبة وزيره على تلك الأحموقة. لا عجبء فبين يدى هذا 
الكتاب الكثير من الإشارات والتنبيهات التى تؤكد أن رئيس الوزراء السابق لا يذكر لبلاده 
تاريخاً فى العهد القديم قبل دخول الإسلام إلى رحابهاء كما لا يؤرخ لها فى العهد المتأخر 
إلا بإحياء الإسلام فى الثورة المهدية. يذهب العقلء أن لا يدرك الوزير أن دولة النوبة 
الوثنية والمسيحية التى سعى لاستكصال تاريخها هى السودان الشمالى قبل وفود الجيوب 
العربية عليه وأهلها هم أهله الأصليون فى الشمال. ويؤكد المؤرخون أن النوبة القدامى» من 
بين أقوام السودان كلهاء هم الأكثر شبهاً بشماليى اليوم من حيث لون البشرة والسحنة ونسيج 
الشعر.('؟) ماأغرب الإنسان» فخداع نفسه لإرضاء غروره الأيديولوجى: أو بالحرى 
حماقاته المؤدلجة» لا يعرف الحدود. ثم ألا يذهب العقل أيضاً أن لا ينبرى للحث على 
إجلاء حضارات السودان القديمة» من كل ساسة السودان إلا ابن الجنوب هذا؟ لربما كان 
تخفف هذا الجنوبى من أى عبء أيديولوجى» أو شعور بالنقص من أصلهء قد حصنه ضد 
مشاعر الاستعلاء الثقافى من جانب العروبيين المتمسلمين على حضارات السودان القديمة: 
والازدراء لثقافاته الأصلية الراهنة. 

كان قرنئق صادقاء إذن» عندما قال أن الإشارات فى الخطاب السياسى الشمالى للهوية 
المتنوعة فى السودان لم تكن أبداً صادقة»ء بل هى غطاء تتوارى خلفه سياسات تكرس 
الاضطهاد السياسى والتعصب الدينى الأعمى. ففى حديث له قال: هلم تنشأ الأمة السودانية 
عبر مسار حكمته الوقائع التاريخية والحقائق الماثلة» وإنما عبر أوهام اصطنعها النفعيون 
الذين لا تحركهم إلا المصالح الذاتية الضيقة». ونقطع بأن اهتمام زعيم الحركة بالتاريخ 
النوبى القديم لم تكن تمليه رغبة فى إحياء ذلك التاريخ بهدف تمثله فى الحاضرء بقدر ما 
كان المقصود به حث السودانيين على ألا يحرموا أنفسهم من التنوع الذقافى الذى يزين 
حضارتهم منذ القدم» تلك كانت هى رسالته لأهل الشمال. أما رسالته لأهل الجنوب فقد 
قصد من ورائها دحض الثنائيات الخاطئة التى ما انفكت تسيطر على أذهان بعضهم ممن 


716 


يربطون بين الأفريقية والأفريقانية والزنوجة فى السودان» ويحرمون أنفسهم من الانتماء 
إلى ثقافة أفريقية زاهرة» لا لسبب إلا لأنها نشأت فى الشمال. 

على أن الأمور فى السودان ليست بالسهولة التى يتوقعها المرء. يؤكد هذا الفشل الذى 
منى به مشروع لواء السودان» خاصة بين العناصر التى كان يفترض أن تنجذب طبيعياً 
نحوه . ينطبق هذاء إلى حد كبيرء على النخبة السياسية فى الشمال التى كفرت بالسياسات 
القديمة» ومازالت تستقبح البيكة السياسية التى أنجبتها. من هؤلاء نستثنى كوكبة من 
المثقفين (مجموعة امبو) استجابت منذ الثمانينيات» وقبل استيلاء الجبهة على الحكمء 
للدعوة لخلق سودان جديدء وأسهمت إسهاماً مقدراً فى تطوير تلك الدعوة .('*) ظلت تلك 
المجموعة مثابرة على موقفها الفكرى رغم ضغوط حكومة الخرطوم عليها فى عهد 
الصادق المهدىء والتى ذهب الأمر بوزير داخليتهاء مبارك المهدى؛ لرمى المشاركين فى 
تلك الندوة بالخيانة العظمى. ولسخرية الأقدارء انضم رئيس الوزراء ووزير داخليته» بعد 
سقوط نظامهماء إلى زمرة «الخائنين» هذه عندما وقع حزيهما العهود والمواثيق مع الحركة 
الشعبية . ولكن» لكيلا ننعى على أحد قبيحاً دون وجه حقء نقول أن من الأسباب التى قادت 
لإحجام بعض المثقفين الشماليين عن الاقتراب من لواء السودانء الإيحاءات العسكرية 
لكلمة لواء. فالمجاهرة بمساندة حركة آلت على نفسها الإطاحة بنظام الحكم بالقوة ريما 
كانت؛ء فى تقدير البعضء» ضربا من الفتنة لم يكونوا بعد واثقين من رغبتهم فىء أو قدرتهم 
على» الاضطلاع بها. كان المعارضون الشماليون للنظام أيضأء نهب للابتزاز النفسى من 
جانب ذلك النظام فكل من سولت له نفسه التعاون مع الحركة» ناهيك عن الانخراط فى 
اللواء» كان يعد إما رديفاً لقوات مسيحية تسعى إلى هزيمة الإسلام (البعد الدينى)ء أو 
طابوراً خامساً ضد الوطن (البعد الوطنى) . 

ثمة عنصر آخر لا يجوز التهوين منهء ولا ينبغى التقليل من شأنهء ألا وهو الإحساس 
الذاتى بالتفوق الذى تحس به شريحة من النخبة المسيسة فى القوى الحديثة . هذه القوى 
وقعت فى حيرة من أمرها عندما جوبهت ببروز الفكرة من"قائد جنوبى لتنظيم كان ينبغى 
أن يبقى» على أحسن الأحوالء حليفاً جنوبياً لها. فى هذاء لا يختلف الوحدويون الشماليون 


7177 


الحداثيون عن الانفصاليين الجنوبيين الانغلاقيين. هؤلاء أيضاً كانوا سيشعرون بكثير من 
الراحة لو أبقت الحركة على الأفكار التى خبروها واستكانوا لها حول طبيعة صراع الشمال 
والجنوب: العرب ضد "الأفارقة» والمسلمون صد غير المسلمينء كما قدروا أن الحركة» لو 
حصرت جل جهدها فى حل مشكلة الجنوبء بدلاً عن أن ترمى بثقلها على قضايا الوطن 
كلهء لحلت مشكلة الجنوب من زمان بعيد. 

وعلى أىء» فإن نأت شريحة لا يستهان بها من "القوى الحديثة بنفسها عن الحركة واللواء 
حذر الابتزازء فإن شرائح أخرىء لا يمكن الاستهانة بها أيضأء ترفعت عن التجاوب مع 
دعوة الحركة حتى لا تأتى ما تلعن عليهء ألا وهو الرضا بقيادة من لا مكان له إلا فى 
الصفوف الخلفية . وأصحاب هذا الرأى» مع ذلك وحدويون حتى النخاع. من هؤلاء 
نستثنى» إلى جانب الأفراد الذين لم يخفوا انتماءهم للحركة أو يجاهروا بتعاضدهم معهاء 
مجموعة سياسية شمالية من الخير لها وللحركة أن تبقى فى الخفاء إلى حين إعلان آخرء 
وقوات التحالف التى اتخذت قراراً شجاعاً فى فبراير7١٠٠‏ بالانخراط فى الحركة. لسنا 
عيبة» ولكن يدفعنا إلى تعيب تلك الجماعات الوحدوية التقدمية الرافضة للسياسات القديمة؛ 
موقفها غير المنطقى تجاه حركة أصبحت هى رأس الرمح فى النضال ضد الطغيان 
المعاصرء والضلال السياسى القديم. وتأكيداً لهذاء نذكر أنه منذ استيلاء الجبهة على الحكم 
اتصلت بقيادة الحركة عشر مجموعات وبعض أفرادء يبدون الرغبة فى التعاون معها على 
اقتلاع النظامء وبناء السودان الجديد. فى واحدة من هذه اللقاءات لم يتجاوز عدد 
المناصرين للجماعة الراغبة فى ذلك التعاون» عدد أعضاء الوفد الذى ابتعثته للتفاوض مع 
الحركة . وفى حالة أخرى ضم الوفد أخلاطأً من المثقفين يتشاركون الفكرء إلا أن الذى جمع 
بينهم كان هو تصادفهم الظرفى فى عاصمة أجنبية. الذى تمناه جميع هؤلاء هوأن 
تتحالف الحركة» على حد قولهمء ٠معناء‏ لمعارضة النظامء وبناء السودان الجديدء دون أن 
يحدد ضمير الجمع الذى 520 به عن أنفسهم: من هم؟ وما هى القاعدة الاجتماعية التى 
يقفون عليها؟ وما هو عديدهم محسوبا بالمعايير الموضوعية مثل الانتخابات: انتخابات 
البرلمان؛ أو انتخابات المجالس المحلية» أو انتخابات دوائر الخريجين؟ لم يبينوا أيضاً 


18 


كمجموعات عرفت نفسها بضمير الجمع؛ دورهم الفطى فى النضال الجماهيرى الذى يدور 
داخل السودان أو العمل السياسى الذى يدور خارجه. ولا شك فى أن رأى هؤلاء قد قر على 
أن هناك قيادات "تاريخية شمالية فى القوى الحديثة هى وحدها المؤهلة لقيادة تيار التغيير. 
بهذا الفهمء لا تختلف هذه القيادات التاريخية الحديئة» فى كثير أو قليل» عن القيادات 
التقليدية التى استقر رأيهاء هى الأخرىء على أن القيادة السياسية حق لها بالوراثة . ولعل 
المرء يجد تفسيراً لمثل تلك الدعاوى من جانب القوى التقليدية» دون أن يوافقها على 
تمسكها بالحكم السلالى أو الوراثى. فللقوى التقليدية قواعد اجتماعية ثابتة تؤمر فتطيع (إلى 
حين إعلان آخر) . كما أن لها من الناحية التنظيمية مساجدء وزواياء وحوليات» يلتقى فيها 
الأحباب طوعاً وعلى نمط دورىء وليس بصورة موسمية» ولها أيضاً مانفستوات دينية تلج 
عبرها إلى السياسة؛ أسميتها الراتب أو البراق فى مدح النبى المصداق. أولا يجوز للمرء» 
إذن» القول بأن الذى كانت ترغب فيه وتطمح إليه؛ تلك المجموعات (أبى أهلها اللعن) هو 
الوكالة عن الحركة فى الشمال؛ دون أن تعى أن الحركات السياسية لا تؤجر من الباطن؛ ولا 
تتخذ لها وكالات للبيع بالتقاسيم (القطاعى) . 

بالتأكيد لم تبد الحركة رغبة فىء كما لم تبتغ» أن يتصدر لواء السودان العمل الوطنى 
على حساب أى قوى وطنية أخرىء أو يقفز فوق رؤوس القوى السياسية مجتمعة. ليست هى 
أيضا بالغباء الذى تظن معه بأنها يمكن أن تستأثر بالساحة السياسية السودانية كلهاء وهى 
التى لا تستأثر سياسياً بالجنوب. فخلال العشرة أعوام الماضية» لم تتردد الحركة فى الدخول 
فى تحالفات عديدة مع القوى السياسية الشمالية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. ما 
أرادته الحركة هو إسهام جميع السودانيين الذين تتفق رؤاهم مع رؤاها فى تطوير هذه 
الرؤى حتى تصبح ملكيتها للجميع. إلى جانب ذلك؛ تمنت الحركة تسخير خبراتها 
النضالية» وإمكاناتها العملية» لدفع العمل الجماهيرى فى القطر كله حتى يستقوى على نظام 
لم يعرف السودان من قبل مثيلاً له فى العنف والجبروت. هذا العامل بالذات لا يتغافله إلا 
العاجزون عن القراءة الصحيحة للخارطة السياسية فى سودان اليوم. فالذى جعل الحركة 
كياناً سياسياً يختلف عن كل الكيانات السياسية التى نشأت فى الجنوبء ليس هو أطروحتها 


719 


الجديدة فقطء وإنما أيضاً عوامل أخرى. وجه الاختلاف أولاً» هو ترجمتها لتلك الأطروحة 
إلى برنامج عمل؛ وثانياً تحديد أهداف لها واضحة على المديين القريب والبعيد؛ وثالثاً 
تفعيل النضال من أجل تحقيق تلك الأهداف وتوفير الموارد اللازمة لذلك النضال؛ ورابعآ 
النجاح العملى الذى حققته فى المجالات السياسية» والعسكرية» والفكرية؛ وخامساً حملها 
النظامء بسبب كل ما حققتهء على الاعتراف بها والسعى لاستئلافهاء إن لم يكن الوفاق 
معها؛ وسادساً الحضور الإقليمى والدولى الذى أثبتته» لا بسبب حب الآخرين لهاء وإنما 
لثباتها على المبدأء وواقعيتها فى الاقتراب من المشاكل؛ وقدرتها على إبانة مواقفها. ولدن 
كان كل ما جاء به قرنق هو كتب ومحاضرات تبين رؤيته للسودان الجديدء لانتهت رسالته 
إلى الأضابير» ولما شهد السودان عزنا للهجرة إلى الجنوب . فالسامرية (5310271)321512) 
ليست أصلا من أصول اللعبة السياسية» وكما قالت مارقريت ثاتشر:لوكان كل مايطكه 
السامرى هو النوايا الحسنة لما تذكره أحدء كان يملك نقوداً أيضاً. 

يدفع للحيرة أن بعض هذه القوى؛ رغم موقفها المتلبس من الحركة؛ أخذت عليها العلائق 
التى ظلت تؤسسها مع الأحزاب التقليدية» بل وأخيراً مع المؤتمر الشعبى . ذلك النقد يصدر 
أيضاً من قراءة خاطئة للخارطة السياسية. فالحركة عندما فعلت هذا لم ترم بنفسها فى أحضان 
تلك القوى لأنها تشاركها رؤاهاء وإنما لأن بينها وبين القوى التى تعاهدت معها وفاقا على حد 
أدنى من الأهدافء لابد من التواطؤ عليه من أجل بناء السودان الجديد. فالسودان الجديد لن 
يبنى بسياسات الاستبعاد؛ وأخلد الناس بإدراك هذه الحقيقة البسيطة هم ضحايا سياسات 
الإقصاء والفيسيق ؛ التسيهون أو الاحتواء السياسى والاجتماعى اةغ1)1اهم لمة [ذأء0؟) 
(5100نااء12 هو السبيل الوحيد لبناء السودان الجديد. قد يقول قائل أو لا نناقض أنفسنا عندما 
نتحدث عن الاستيعاب الشامل لكل القوى؛ فى الوقت الذى ندعو فيه إلى محاربة الجبهة التى 
تتحكم أليوم فى رقاب العباد؟ نحن لا نناقض أنفسناء لأنا لا ننكر على التيار الإسلامى مكانه 
على الساحة السياسية حسب حجمه الطبيعى» والتزامه بأحكام اللعبة الديموقراطية» كما كان 
الحال فى الماضى. الذى نرفض هو مكابدة الجبهة للشعبء وإناختها على صدور أهله؛ 
وفرضها لرؤاها وثوابتها عليهم» رضوا أم أبوا. تلك ليست ظنونا أو أوهاماء بل أفكار عبروا عنها 


0 


بغرور بالغ فى أكثر من مناسبة» وأوردناها بحذفارها فى أكثر من فصل فى هذا الكتاب. بل 
كاد أهل الثوابت هؤلاء يقولون وما يهلكنا إلا الدهر ومالهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون» 
(الجاثية ©14/4) . الذى يفكر على هذا النحوء هو إلى دودة القزأقرب»؛ فدودة القز تنسج حول 
نفسها خيوطا معقدة متشابكة حتى تتشرنق وتموت. ولهذاء إن أراد بعض من هؤلاء البقاء. 
وثابوا لرشدهم؛ فلا مناص حينئذ من التعامل معهم فى دولة "الديموقراطية التعددية. 

لقد أثبتت تجارب السودان منذ أكتوير 1574 أن التغيير المرتجى لا يتم ب أخوى 
وأخوكء فتوازن القوى فى اللحظات التاريخية الحاسمة هو وحده الكفيل بتغيير الموازين» 
وجعل ما كان مستحيلا بالأمس, ممكناً اليوم. فالذى نتحدث عنه اليوم ليس هو استبدال 
حاكم بحاكمء أو نظام بنظامء وإنما بناء أرضية متينة لسودان جديدء لا يسعى فيه إقليم 
للهيمنة على الأقاليم الأخرىء ولا يملك فيه حزب حق التسيد على بقية الأحزاب» ولا 
تصبح فيه ثروات البلاد ملكا لقلة أو وقفاً على منطقة محظوظة:, ولا تظن فيه مجموعة 
نادف أ رادها هو الفم ل اها الأجندة لا تتحقق عبر حيث عرضئ» وإتما فى أفق 
زمنى ممتدء تمثل فترة الانتقال بدايته» وليس فقط البداية والنهاية. علينا أيضاً أن نستذكر. 
قدامى ومحدثينء أن بين الذين أراقوا دماءهم من أجل السودان الجديد محاربين ينتمون 
إلى كيانات عرقية مختلفة مثل البجة والنوبة والفور والفونج. ويخطئ من يظن أن الروابط 
التى ألفت بين هذه الجماعات هى روابط أيديولوجية» فالذى وثق عرى التلاحم بينهم هو 
الأوجاع والآلام التى عانوا منها فى السودان القديم. 

وعلى كلء فإن المسيرة المتعثرة لأطروحة لواء السودان؛ بل التربص من جانب البعض 
بكل ما ظلت تدعو له الحركة حول السودان الجديدء يكشف عن توانى العقل البشرى عن 
قبول التغييرء وتردد البشر فى قبول التخلى عن القيم والمفاهيم الموروثة . هذه المغاهيم» يكل 
ما عجنت به من أساطيرء وبكل ما اشتملت عليه من هوى وتعصبء لن تلغيها التشريعات 
والأوامرء وإنما ستزول لا محالة عبر سياسات تعليمية» وتربوية» وإعلامية» هادفة؛ كما 
حدث فى كل الدول التى عانت وتعانى من تلك الانحيازات. هذا أمرلا نتصامم عنه» 
ولكن يخالجنا أسى كبير عندما نرى فتور النخب السياسة الرائدة (أو التى كان ينبغى أن 


721 


تكون) عن قبول الأفكار الجديدة» حتى وإن كانت هذه الأفكار هى السبيل العملى الوحيد 
لتحقيق ما ظلت هذه النخب تقول أنها راغبة فى تحقيقه لا لسبب إلا الخيلاء الزائفة. 
إستكانة شرائح هامة من تلك النخب لهذه الخيلاءء إن لم يكن استطابتها لهاء أفقدهاء كما 
أومأنا من قبلء القدرة على التمرد. هذا هو السودان بكل تعقيداته؛ ولا شك فى أن أى 
شخص لايدرك تلك التعقيدات سيصل إلى حكم غريب هو أن بعض أهل الشمال يفضلون 
القهر على يد حاكم شمالى؛ على الانعتاق والحرية على يد سياسى جنوبى. سأل فرانسيس 
دينق نفسه فى خطاب ألقاه أمام ندوة حول الثقافات السودانية نظمها مركز الدراسات 
السودانية بالقاهرة: هل نحن عنصريون سودانيون أم متطرفون وطئيون. ثم أجاب: نحن 
الاثنان معاً. يؤسف هذا الكاتب الاتفاق مع دينق على هذا الحكم الذى يعلقم الحلق. 

06 

خلاصة 

لقد أسفر: تت الأرد بعة وأرد بعون عاماً الماضية من المحاولات والأخطاء (5تملء لقة 5لهممغ)اء 
بهدف تأسيس وطن سودانى» عن انهيار كامل فى العلاقات بين الجماعات التى تعيش داخل 
الحدود الجغرافية لذلك الوطن. وبلغ الانهيار درجة لم يعد معها فى مقدور أى واحد من هذه 
الجماعات أن يقول أنه اليوم فى وضع أفضل من الوضع الذى كان عليه عند إعلان 
الاستقلال. أفدح الأخطاء التى قادت إلى ذلك الانهيار هى عجز السودانيين عن الاتفاق على 
طبيعة الرابطة التى تجعل منهم جميعاً مواطنين سودانيين. بدلاً من ذلك الاتفاق» ظل 
السودانيون محاصرين برؤيتين متوازيتين للهوية انعكست فى تنميط اختزالى مسطح: الجنوبى 
المسيحى الأفريقى والشمالى العربى المسلم. الرؤيتان تعبران عن جهل بالغ (أو تجاهل أبلغ) 
لماهية السودان» كان ذلك من جانب الشماليين العروبيين؛ أو الجنوبيين الأفريقانيين. فالسودان 
أولاً جزء من أفريقياء أي كانت أعراق أهله وأنسابهم.!'*) وكما ألمحنا من قبل؛ لم تحل كل 
الموانع الجغرافية دون امتداد إشعاع الحضارة النوبية إلى الحزام السودانى (1اء0 500281) فى 
الغرب. والنطاق النيلو- حاموى فى الجنوبء أو الحاموى فى الشرق. هذه الموانع أيضاً لم 
تقف حائلا دون الانمياع الطبيعى للغة العربية فى أعماق الجنوب؛ رغم جهود الإرساليات 


722 


للحد من نفوذها فى ذلك الإقليم. كما أن مستعربة الشمال؛ رغم تواصلهم الجغرافى مع الوطن 
العربىء ليسوا امتداداً لذلك الوطن فى أفريقياء بل هم مجموعات ذات أصول عربية» وذات 
ثقافة عربية تميزت بخصائص جعلت منها كياناً مختلفاً. وكما نقول دومأء هم سودانيون 
عربء وليسوا عرب السودان. ولو أدرك السودانيون فى الشمال والجنوب هذه الحقائق البدهية 
لما استعصى عليهم التوحد .بيد أن مسئولية الشمال فى تعميق هذه الرؤية الخاطئة أكبر» 
فالشمال هو الطرف الذى لجأ إلى استخدام القوة فى المقام الأول للحفاظ على الوحدةء كما هو 
المكان الذى انبعثت ت منه الأفكار الداعية إلى تشكيل الهوية الوطنية على نمط حدد الشماليون 
بمفردهم مقوماته. ومما لا شك فيه أن عملية التفاعل الثقافى بين الشمال والجنوب والشرق 
والغرب ولدتء ثقافة سودانية متميزة فى تنوعهاء ومن الممكن أن تصبح متجانسة . وكان 
البرفسور مزروعى محقاً فى ملاحظته أن الانقسام العربى الأفريقى فى السودان لا يعبر عن 
تشعب ثنائى (01010]0170105)» بقدر مأ يعبرعن تواصل معقد (01)11010012© يرع امصم)(355) 
بهذاء يقول مزروعىء أسهم السودان إسهاماً فريدا للعروبة بإضافته بعداً زنجياً لهاء مما جعل 
منه نموذجاً للهوية الأفريقية ‏ العربية المشتركة . فإن كان للسودانيين أن ينموا كشعب واحدء 
ويطوروا بلادهم كوطن واحدء قالمطلوب منهم ليس هوإعادة اختراع هويتهم من جديد؛ بل 
النظر إلى وجوههم على حقيقتها بدلا عن التمرئى فى مرأة خادعة. ويوم أن يتوافق 
السودانيون على هذا الفهم؛ سيصبح السودان أكبر بكثير من مجموع الأجزاء المكونة له . هذا 
أمرلن يد تسق بتاك بقررعة الهويات الصغرى عن الاستمساك بدعاواهم . وكما نصح 
مزروعى فإن التكامل الوطنى يتطلب تسامياً فوق كافة الخصائص العرقية والثقافية للجماعات 
المتفرقة» والاندماج فى هوية جديدة عابرة للاعتبارات العرقية . وكما يقولون» العاقل من اتعظ 
بغيره» وفيما حولنا عبر. فليس هناك من بلد أفريقى تميز بالتناغم العرقى والثقافى والدينى 
مثل الصومال. أين هوالآن؟ أو هل صمنت وحدة الدين واللغة والثقافة وحدة كيانه السياسى؟ 

ثم أوهل فى العالم الحديث دولة وأحدة . صنعت صنعاً على أساس التمايز الدينى غير الباكستان» 
فما الذنى فجر الخلاف فى إقليميها المسلمين السنيين: السند والبنغال؟ أهو المؤامرات الكنسية 
كما يقول بعضنا فى السودان؟ أم هى الإمبريالية والصهيونية كما يقول بعض آخر؟ واقع 


73 


الأمرء أن نوازع التعدد اللغوىء والفوارق الاقتصادية؛ والولاءات القبلية فى تلك الدولة ظلت 
أبقى وأقوى من الرباط الدينى. لهذا إنتفض أهل البنغال المسلمون السنيون على إخوتهم السند 
السنيين (وكلاهما ورثة للمودودى وأحفاد لمحمد إقبال) بسبب ظلامات اقتصادية نسميها فى 
السودان التهميش. وإن كان الكتاب المقدس يقول: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» نملك أن 
نقولء ليس بالأديان وحدها تحيا الأمم. وكم كان بليغاً المهاتما غاندى عندما قال فى أحد 
أعوام المسغبة بالهند:لو تنزل الله إلى الأرض فى هذا الزمان لكان من الواجب أن ينزل على 

التشوهات التى لحقت بمعنى وجوهر الهوية عمقت من أزمة البلاد. وللتشويه» كما سبق 
أن أبناء مظاهر عدةء منها المحاولات المتنوعة لطمس الحقائق التاريخية والمعطيات 
المعاصرةء إما لفرض هيمنة معينة أو لإضفاء مصداقية على الطموحات الفكرية لبعض 
النخب. كما منهاء على الجانب الآخرء ردود الفعل الغاضبة على هذه الهيمنة» والتى ذهبت 
مذهباً قصيآء وأخذت. هى الأخرىء تفتعل إطاراً أيديولوحياً لردود الأفعال تلك. هذا أمر 
نفهمه لأنه من طبع البشرء فما قل امرؤ من قيمة أحدء أو استخف بهء إلا ودفعه إلى 
التنبيش عن جذور يؤكد بها تميزه واستفراده. وقد أصاب الهدف الكاتب المسرحى 
الأمريكى آرثر ميلر عندما ذكر للأسبوعية الإنجليزية الأوبزيرفر :إن لم تكن هناك موجة 
عداء للسامية» لما تذكرت يوماً أننى يهودى. أمام كل هذه الادعاءات الجامحة» من أى 
طرف جاءتء أصبح السودانيون عاجزين عن إدراك جوهر الهوية السودانية ذات الوجوه 
المتعددة . على أن ظهور الجبهة على سطح الأحداثء واختلاقها لهوية سودانية فصلت على 
مقاييسهاء وبروز الحركة الشعبية» من الجانب الآخرء مصحوبة بمفهوماتها حول السودان 
الجديدء عجلا بظهور بدائل أخرى للمسلمات الشمالية القديمة . عن ذلك عبر قرنق كما يلى 
":.مشكلتنا الحقيقية تكمن فى أن السودان ظل دائمأًء ومازال» يبحث عن روحه؛ عن هويته 
الحقيقية . وعندما فشل فى ذلكء اتخذ السودانيون من العروبة ملجأ لهم. وعندما فشلت 
العروبة اتخذوا الإسلام ملاذاً كعنصر موحد للأمة. نتيجة لهذا أصيب سودانيون آخرون 
بالإحباط» لأنهم عجزوا عن إدراك الكيفية التى سيصبحون بها عرباً إن كان خالقهم أراد 


724 


لهم شيئأ آخرء ولذا آثروا الانفصال. فى كل ذلك الكثير من الغموض والتشويش الذى لا 
يخدم إلا المصالح الطائفية المختلفة(')تلك أدق قراءة يمكن أن يصادفها المرء لأزمة الهوية 
السودانية. 

قد يقول المتشائمون أن الزمن قد تجاوز السودان لبناء وطن متماسك فى نطاق الرقعة 
التى وحدها فيه محمد على باشا. فتوحيد السودان» فى رأى هؤلاء؛ أمر ميلوس منه. ولكن 
الذين يناضلون من أجل وحدة السودان على أسس جديدة» لم ينتبهم اليأس بعدء لأنهم 
يدركون بأنهم يحركون الجبال» ويدركون هذا ملياً. قد يتساءل البعض: هل تستحق الوحدة 
كل العناء الذى يلاقيه الناس فى سبيلها بالرغم من الخسائر التى تكبدها السودان؟ إجابتتاء 
نعم لأن الذى يؤمن بوحدة أفريقياء ولا يرى للعالم الثالث خلاصاً إلا بتضامن دول الجنوب 
الكونى فى عالم يتزايد انقسامه إلى شطرينء واحد يضم الذين يملكون كل شىء والثانى 
يحتضن من لا يملكون أى شىء.ء لا يمكن له أن يؤيد تمزيق أوصال الكيانات القائمة 
أفريقياء وفى دول الجنوب الكونى. هذه الفكرة التزمت بها كافة المدارس السياسية فى 
أفريقياء وما برحت نبراساً هادياً لتوجهات زعيم الحركة . على أن تفعيل هذه الفكرة يتطلب 
مقدماً توفر الحس التاريخىء والقدرة على مواصلة النضال من أجل الفكرة» وتوافق 
المعطيات السياسية المحلية معها. ولا شك لدينا فى أن زعيم الحركة يملك ذلك الحس 
التاريخىء وإلا فلما ذهب ينقب عن تاريخ السودان القديمء ويؤكد فى كل مقالاته عن دور 
السودان الإقليمى والدولى فى الحاضر. لا شك لدينا أيضاً فى أن إمعان كل القوى السياسية 
السودانية فى الحديث عن الوحدة العربية» والوحدة الأفريقية» والتضامن العربى الأفريقى» 
يؤكد صواب الفكرة» بالرغم من أن بعض السياسات الداخلية تتناقض مع المنطق الداخلى 
لتلك الفكرة. أما حول القدرة على مواصلة النضال من أجل الوحدة بمعناها الوطنى» 
ومفهومها الكونى (وحدة المستضعفين)» فقد أثبت زعيم الحركة أنه عداء المسافات الطويلة 
فى مضمار السباق فى ماراثون السياسة السودانية. وإن كان هناك ما قد يخذله فهو 
المعطيات السياسية على الأرض فى بلد يفضل بعض أهله ظلم هذاء على نصرة ذاك. قد 
تخذله أيضاً طبيعة مجتمع تخالجته الأوهام ونسج حول تلك الأوهام أساطير يرددها جيل 


15 


بعد جيل حتى أصبحت تلك الأساطير حاملة تاريخية لرؤاه حول ذاته. مع ذلك؛ أراد 
قرنقء أم أردناء نعترف بأن ماندعو له من فكر كونى (وحدة أفريقيا ووحدة العرب 
وتضامن كليهما فى إطار وحدة كونية أوسع) لا يعبرء هو الآخرء إلا عن فكرة نخبوية لن 
تحول دون ارتحال الجنوب عن السودان الكبير .(ء730-12:8 038ا5) فإن لم ير الجنوبيون 
فى السودان الجديد الذى نصنعه سويا ما يرد ظلاماتهم» ويرضى طموحهم: ويضمن 
حقوقهم المشروعة» فسيقولونء سرأ أو علانية» فلتذهب أفريقيا إلى الجحيم» وليلحق بها 
العالم الثالث. نقول هذا حتى نكون جميعاً على بينة من أمرنا. 

ولربما مازال بين ورئة ونجت موضوعياً (أصحاب سياسة فرق تسد) من يظن بأن 
الانفصال أمر عصىء ليس فقط لأن سياسة فرق تسدء أو بالحرى فرق تدمر ستأتى أكلها 
فى النهاية» وإنما أيضا لأن الجنوب» بسبب من تشققاته القبلية» لن يقوى على حكم نفسه. 
هذه واحدة من الأوهام السائدة فى العقل الرسمى والنخبوى فى الشمال. فالجنوب اليوم 
أحسن حالاً من كثير من الدول الأفريقية عند استقلالها من ناحية كوادره المؤهله؛ كما هو 
غنى بثرواته الطبيعية (الأرض الصالحة للزراعة» المياه» الثروة الحيوانية» الثروة الخشبية) » 
وغنى أيضاً بثرواته المعدنية والنفطية. وبسبب من هذاء سيزداد اهتمام العالم به» مما سيفتح 
الباب واسعاً للاستثمار الخارجىء ونقل المعارف والتقنيات والخبرات إليه. أثبتت أيضاً 
تجارب التواصل مع الحركة (حتى فى اللقاءات بين الخصوم فى مفاوضات السلام) أن فى 
الجنوب اليوم قيادات سياسية شابة واعية» وقادرة على مصاولة خصومها بكل ما يتطلبه 
الأداء السياسى من براعة وبلاغة ولياقة. هذه القيادات تجاوزت خلافاتها القبلية إلى حد 
كبيرء فما الذى يجعل الواهمين يتمادون فى وهومهم بأن الجنوبيين سيدمرون أنفسهم 
بأنفسهم. أهو إرضاء للغرور النفسى؟ أم خداع للذات؟ أم يقين غبى بأن العبد عبد وإن 
طالت عمامته. جوهر الأزمة ليس فى مشروعية أو عدم مشروعية مطالب أهل الجنوب. 
ولا فى تعنت الحكومة الراهنة» ولا فى ضرورة أو عدم ضرورة بناء السودان على أسس 
جديدة» ولا فى الدين أو اللغة. الأزمة فى عقول أناس عجزوا عن تحرير أنفسهم من أصفاد 
الماضى . والذى لا يحرر نفسه من أصفاد ماضيه؛ء لن يكون مستقبله (بمفهوم بروستى) 


726 


أكثر من إسقاط ظل هذا الماضى أمامه أبد الدهر. ولا سبيل لأسارى التاريخ غير النزوح إلى 
الماضى على الدوام . وفئ النهاية» نستطيع القول أنه إن توافرت المعطيات الصحيحة فقد 
تكون أطروحات الحركة محفزاً على خلق السودان الجديد الموحدء إن لم تكن القابلة التى 
يولد على يديها. 

ومن المفارق أن أقرب النظراء للحركة فى الشمالء هم أكثر أهل الشمال عداء للجنوب: 
الجبهة القومية الإسلامية . فالجبهة هى التنظيم السياسى الوحيد الذى عقد العزم على إعادة 
تشكيل السودان فى صورة جديدة» وإعادة بنائه على عينه. ولكنء ثمة اختلافين جوهريين 
بين المفهومين لإعادة تشكيل السودان. الاختلاف الأول هو أن الحركة تدعو لأن تتم إعادة 
التشكيل هذه برضا الناس وطوعهم . فهى من ناحية» تدعو لصيغة للحكم يتراضى عليها 
السودانيون جميعاً فى مؤتمر قومى دستورىء كما تدعو بالنسبة للجنوبء إلى ممارسة حق 
تقرير المصير والاستفتاء على الصيغة المتراضى عليها للحكم. هذه الأطروحة:» تعاهد 
السودانيون جميعاً على قبولها فى قرارات أسمراء وفى الاتفاقيات الثنائية التى عقدها النظام 
مع الفصائل الجنوبية التى وصل معها إلى وفاق حول "السلام من الداخل» وفى بروتوكول 
ماشاكوسء وبهذا انتقلت ملكيتها إلى كل القوى السياسة السودانية. الجبهة؛ من الجانب 
الآخرء لها مشروعها الخاص لإعادة تشكيل السودانء لم تفاوض فى أمره أحداً فى بداهة 
الأمورء ولم تتوافق يشأنه مع جماعة فى أعجازها. هى وحدها العليم يما ينفع أهل السودان 
فى عالم الغيب والشهادة» وما على السودانيين إلا الطاعة والاحتذاء. ولهذا لا يملك المرء أن 
يصف دعدوة النائب الأول لرئيس النظام لأهل السودان فى نهايات اكتوبر/ تشرين أول 
07 للتشاور حول مفاوضات ماشاكوس إلا بالغباء والاستهزاء. فالنظام لم يشاورهم فى 
دستوره وقوانينه» كما حرم ممثليهم من المشاركة فى الإيقاد» وأعلن على لسان نائب رئيسه 
نفسه أن التعددية لن تعود إلا بعد تطهير البيئة السياسية من القوى التقليدية. أما الآن وقد 
بطشت بالجبهة الكروب, وأدلهمت عليها الدروب» سارع الذين لا يؤيدون إلا سلاماً يببقى 
على سلطانهم, إلى أهل السودان يستمزجون رأيهم. فالاستهزاء واضح إذنء أما مكمن الغياء 
فهو افتراض أى شخص غباء كل الناس» وإفتراض قدرته على خداعهم كل الوقت. 


127 


الاختلاف الثانى فى أمر الدين» فحيث توسلت الجبهة بالدين (صدقاً أو دهانة) لتحقيقء أو 
بالحرى فرضء سياساتهاء نادت الحركة» بفصل الدين عن السياسةء ودعت إلى عدم 
استغلاله فى الحيز العام بعد أن تحول الدين إلى أداة للكراهية» ومبرراً للاستعداء على 
الآخرين» ووسيلة لتدمير الحرث والنسل. وما لمثل هذا بعث الله الأنبياءء وأقام الأديان. 
فالأديان جميعاً؛ فى جوهرهاء محبة. ولكن الأديان أيضاً هى أطوع الأدوات لتحقيق 
الأغراض الدنيوية الشريرة . ما أصدق بنجامين فرانكلين حين قال:الدين هوالملاذ الأخير 
للأو غاد .(ؤ5اء2701نام500 ]0 )1م5ع2 ]5دا عطا 15 ممأونتاءخ1) 

فى كتابه عن أفول نجم الإمبراطورية الرومانية» أوجز إدوارد جيبون الأمر ببلاغة» قال 
إن الشعوب دوماً تؤمن بصحة المعتقدات الدينية» والفلاسفة يحسبونها خداعاً وتضليلاً» فى 
حين يجد فيها الحكام (713815152065) أداة نافعة . رغم هذه الأداة النافعة سقطت 
الإمبراطورية الرومانية "الوثنية»ء وسقطت الإمبراطورية الرومانية المسيحية.» وسقطت دول 
الملك العضوض الإسلامية» ثم أتى على الإنسان حين من الدهر تكارست فيه مفاهيم 
جديدة حول حقوق الإنسان وحرياته . هذه المفاهيم لم تنتقص من حق أى فرد أو مجموعة 
فى الاعتقاد فيما يشاءون من ديانة» ولكنها أيضاً حرمت قسر أى فرد أو جماعة على 
الاعتقاد فى أى دينء أو الارتداد عن أى عقيدة . وبأيدينا الكريمة مهرنا الاتفاقات التى 
أطرت هذه المفاهيم» وأعلنا على الملاً التزامنا بهاء وأودعناهاء رياء ومخاتلة» فى دساتيرنا. 
فمن نخدع؟ لن نخدع أحداً. سنظل نتوه» ومعنا السودان» فى سراديب لا برنثيه لانهاية 
لها. أكاد أرى ساسة شمال السودان المسلم ومكيفى الرأى العام فيه إن كان للجنوب أن 
يذهب لشأنه برغبة أهله» وقيض الله للأفكار الظلامية أن تبقى» يتلاحون ويتساجلون خلال 
ربع القرن القادم حول أمور لا شأن لها بالحكم الصالحء ولا بالنماء الاقتصادىء ولا بعافية 
المواطن وتعليمه . محور التلاحى والمساجلة سيبقى هو"الشريعة المثلى: أنطبق الحدود أم لا 
نطبقها؟ هل الربا حلال أو حرام؟ هل حجاب المرآة مأمور به شرعاً أوهو فرض كفاية؟ 
هل يقبل شرعاً الطلاق عبر الإنترنت؟ هل يصح للممرضة أن تصحب الجراح فى غرفة 
العمليات إن لم يكن من محارمها؟ تلك بيئة لا تصلح إلا كمادة خام لسينمائى سودانى مثل 


1228 


بونويل يجيد صنع الأفلام السيريالية. أوهى أحداث لا تدور إلا فى ملاعب الجنء؛ ويعسر 
حتى على سليمان أن يفهمها: ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان. 

فى بدايات الاستقلال كتب الصحفى البريطانى انطونى مان كتاباً عن السودان عنوانه 
عندما ضحك القدر (0©وداة.آ 604 78/065): قال» "خلق الله السودان ثم أطلق ضحكة: 
(لعطا08دا عط لقة مقلتناد عط) لعنهعى 000) . ولكن الله - جل جلاله - أكثر رأ أفة بعباده 
ممن حسبوا أنفسهم ظلالاً له على الأرض. فكل الماسى التى نعيش صنعناها بأيديناء 
وما زال بعضنا يوالى الصنع القبيح. حقا رب العباد أكثر رحمة بالناس؛ وليس أحب إليه» 
كما يقول صموئيل بتلر(*') من أن تكون لنا رؤية مستنيرة لمصالحنا الذاتية. 
(أقع6 1ص أأعى عناه 01 لاعانا لعمعاطعلاء مه مقط 000 0 عأطمقامععع2 ع1مم ذزر عمتطنمل8) 


وفى الحديث: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. 


لالالا 


729 


هوامش وإحالات 





عاخلطظ علطا لهه عععنلظآ عط وععء ساع8 ,ععطولزه1 .ل لامهم )1١(‏ 

(2) تبلغ مساحة السودان ما يقارب المليونين ونصف من الكيلومترات المريعة (مليون ميل مربع) 
وهى مساحة تتسع لاستيعاب سبع دول أوروبية (المملكة المتحدةء ايطالياء البرتغال؛ فرنساء النرويج 
السويد) , كما تقارب مساحة كل المنطقة الواقعة شرق نهر المسيسبى فى الولايات المتحدة. 

(3)مدثر عبد الرحيم . الإمبريالية والقومية» فرانسيس دينق صراع الرؤى. 

(4)باختيار المهدى لخليفته وبعض كبار قادته مثل حمدان أبى عنجه من بين قبائل الهامش 
(النوبة والتعايشة) » قام المهدى بانقلاب على الفكرة السائدة حول هيمنة أهل الشمال النيلى على أهل 
التخوم . 

(5) الغرابة» كما أوردناء لقب تهجينى يطلق على أهل غرب السودان. و كان على رأس 
معارضى استخلاف المهدى لواحد من أبناء هذه القبائل التعايشة» أبناء عمومة المهدى الذين كانوا 
يترجون وراثته» لا بحكم بلائهم فى مناصرة المهدية» بل بحكم قرياهم للإمام . 

(6) يلاحظ أهل السودان أن النائب الأول» على عثمان محمد طهء أخذ مؤخراً يحيط نفسه 
(خاصة فى الأجهزة الأمنية) بأهله من قبيلة الشايقية. ويشاع أن ذلك التوجه جاء نتيجة لنصح 
صدام حسين له أن البقاء فى الحكم يتطلب منه أولاً أن يولى اهتمامه الأكبر لعشيرته الأقربين» 
وثانياً أن يبطش بلا هوادة بمعارضيه. وإن صح هذاء فلا شك فى أن النائب قد قطع رحلة طويلة من 
الأممية الإسلامية (أمة الإسلام)ء إلى الوطنية السودانية؛ ثم الوطنية الصغرى (الشمال ضد 
الجنوب) » وأخيراً إلى العشائرية . 

(7) أشار الكتاب إلى إغفال أبناء دارفور فى الاختيار للمواقع المفصلية للنظام» وكان هذا النوع 
من الشكاوى فى الماضى يصدر دوماً من الجنوبيين. 

٠٠٠١ يوليو‎ ١١6 الخرطوم‎ )8( 

لإألكرعلالونا وماأععموظ ,عمتلمماذيعل2تنا ع0 أذ5عن0) ع1 ,د 0201002115 -مصطاط .تممه ععطلوللا ر9) 
60 1994 ,ووعرط 


(10)نفس المصدر 
له و(متنداظ ,علممعء8" ص1 .عنهقاذ لمة ممناول! ,تآذا ,كع الوط أن عمودعلوء©) طااتدود .(آ لإاممطاصكة )1١1(‏ 
9 م 1999 ,2001م0] ,كصنة1 1.8 ,رزلع) معسضول8 "عاناك 


130 


(12)نفس المصدر 
نان .(ل010) ,ععع لاه لاأعتأقسل8 ,بممعط1 امعناتامط لمة أدنعو5 هذ بجولاء) 841116 لتعوط (13) 
63-0 22 ,2000 ,00لمم.1 ,العساعداظ .لقدعل1 لمومنئدل؟ لمد متطجم 
(14 )نفس المصدر 
5 2 ,1518 /ة50101نا )00115 320 لأكوعع356 ,لمناوع0ا0) [125082! ع1 ستنمللدوة .فك 15١‏ ) 
6 )ل .ع0 آنا .369 موعذط (16) 
/2.طنذ 8/0114 .عمل اانا ,عامومع2 كناممععالهآ أه كاطعنظ عط نه وملندمواءء1 اقدءط .11 ) 8 مث (17) 
1094 
مامه /الا) دعا مونلا له مماععاور لله ر10اقمتموتكؤتجآ لله مامتاوع عط هو عع !)سدوريه -طيرد (18) 
مناه 
(19)المصدر ١١‏ أعلاه. 
3 ,ععوع2 ع0! لأععدع5 ع1" .لهس ]أ ع عمع»”ا. 5 20) 
4 © ,كع ااتاصعل1 أقصمنخدل! لعاذعام0) .مملناك تطاعدع .1 لإءادمكلة ممى 1١‏ 2) 
.0 2 .ان111دهن) ما لملنامععءاعد8 عبطوءظ8 .54.0 (22) 


أسهم بشير أكثر من كل زملائه؛ إسهاماً كبيراً فى وضع قضية الجنوب فى دائرة الضوء, إلا أن 
رأيه حول الرق كان مربكاً. قال إن الرق قد انتهى فى السودان قبل الفتح ولم تبق غير حالات 
محدودة من الاختطاف القسرى الذى يصحب الحروب القبلية» أو من بقايا العبيد القدامى الذين 
يعملون فى الزراعة أو كخدم فى المنازل. ولريما كان بشير محقأ إن كان المعنى بالرق هو الرق 
المؤسسى الذى عرفه السودان فى القرن التاأسع عشرء إلا ان الاأمر ليس كذلك فيما يتعلق باثاره 
وتوابعه . 
ناد م[ 5أوت) 01 العلرعع2 مدلا عطا مه ممطياءه/7/ مععع8 نعدوع2اآ 84 كأعموظ (23) 
7[85003ن] ,دعصوءللا لمة كنطع نظ أدمسعلنن) تمهلا/زطذ ممملمظ رج24) 
(25) وزير المعارفء. على عبد الرحمن» محاضر البرلمان السوداتى الجلسة الثانية» الدورة 
الأولى؛ ١564‏ 
(26) لم يكن الوزير فى حاجه إلى كل ذلك الاشتطاط إذ أن الأعضاء الجنوبيين فى نفس 
البرلمان كانوا يدلون بخطبهم وأسئلتهم باللغة الإنجليزية» وكان للبرلمان مترجم بليغ (محمد عامر 
بشير) يتولى الترجمة من العربية إلى الإنجليزية» ومن الإنجليزية للعربية. 
.1 2 ,11921011 تأضعل1 01 دعا مفصلاطآ , عمعط .لز و عمد" ر27) 
515,6 تناعطذ! أن عالناناك2] تعلتصناد ,ممتاتلء طا 13 ,عنعهاممطاظ عط1 (28) 
(29) ظلت إيطاليا على مدى قرن ونصف القرن منذ توحيدها على يد كافور تتحدث لغة أهل 
الشمال؛ والتى أصبحت عملياً اللغة الرسمية للقطرء دون أن يتضمن الدستور أى نص حول اللغة. 


731 


وفى يوليو/ تموز 7٠٠١‏ اعتمدت الإيطالية دستوريآ كلفة رسمية بأغلبية ساحقة. ذلك القرار عارضه 
الشيوعيون (باعتباره قراراً لا معنى له)» ولربما فعلوا ذلك مناصرة للمجموعات اللغوية الصغيرة 
التى استذكرت القرار مثل المتحدثين بالألمانية واللادنية (12010)» لغة أهل التيرول. 

(30) رصد المكتب الإقليمى الأفريقى التابع لمنظمة إلى ونسكو فى داكار أكثر من مائة لغة 
أفريقية (بما فى ذلك العربية) يمكن استغلالها كوسيلة لنشر التعليم. ذلك الرصد لم يشمل اللغات 
المحلية السودانية بحسبان السودان بلداً عربياً. 

(31) تم الاجتماع تحت رعاية منظمة الوحدة الأفريقية» وكان من أهم قراراته صيانة الثقافات 
الأفريقية وتطويرها كجزء لا يتجزاً من عملية تحرير القارة والنهوض بها. 
نان 125865 ,عل اكلة1/1 علطا هذ لإرماونة1 لذ ,دعلاخ 0) طءعدءذ 11 ,«مهول12221 اأكدظ (32) 

100. 4 

(33)عبد الله على إبراهيم» الماركسية ومسألة اللغة فى السودان» دار عزه للنشر 2٠١١‏ . 

(34) من بين الذين ناصروا ستالين من أهل تلك المناطق الكاتب التترى سلطان غالييف الذى 
طوع جيشاً من أهله للانخراط فى الجيش الأحمرء ودعا للتعايش بين الإسلام والماركسية . ولكن ما 
أن نادى غالييف بحكم ذاتى للمسلمين يحافظون عبره على خصائصهم الثقافية» حتى لحق به 
عذاب ستالين. 

0 ,12أممثم .عاعءبسدوناع ل ,عمطت >1 مث ركذ 


9 ,اكه 5_قنقلناك5 لتعطأنا50 أ0 عتننانظ عطا .ومكقطول خداصنصط (36). 


جونسون مؤرخ سياسى عمل فى جنوب السودان» خلال فترة الحكم الذاتى» كنائب لمدير 


9 لإانىم1017 ها لإعلولا .مقلند عط .لأولا تاسضدك ين عامل (37) 

9 8 بمعكلتة هأ مدلناذ ,لر0كتصتيات) لذ[ 381 
(39) نفس المصدر 
(40) نفس المصدر 


,لإكةتطنا أقأهن1 ع1 ,وعمووظ.1.ل رالى 

(42) محمد عبد الرحيم محمد صالح؛ عالم اجتماع سودانى عمل فى جامعة الخرطوم ومعهد 

الدراسات الأفريقية بجامعه أوبسالا (السويد) » ويعمل حاليً بالمعهد الدولى للدراسات الاجتماعية بلا 
هاى (هولندا) . وقد وردت الإشارة فى خطاب منه للدكتور فرانسيس ديئق. 


732 


(43) يعنى التعبير عند الرومان الأغراب الأجلاف. كما للتعبير دلالات استرذالية عند العرب. 
فالبربرة فى لسان العرب هى اختلاط الأصوات غير المفهومة. 
(44) الجمهرة» فصل عن بيوتات البرير بالأندلس» ص 416 
العتممعاطع ألمظ وعادراه0) ع1 ,متامعظ طهتدكآ رك4ة) 
عد/الا .عدعدا .81 دأعصوءظ لصة 113 © ,لردتلههمه11300 لمة متاق فعمط1آ يسنطمع. ابلطم عنطتدلن54 رمق 
5 .دووووالا أن 
(47)محمد أحمد محجوبء الحركة الفكرية وإلى أين يجب أن تتجه. 
(48)أول من تم تعميده مسيحياً من غير اليهود خصى كان يرعى خزانة الملكة النوبية كنداسى» 
ورد ذكره فى الكتاب المقدس(أعمال الرسل :48: 54-77) . وقد أشار الكتاب المقدس لكنداسى النوبية 
باعتبارها ملكة أثيوبياء وأثيوبيا هو الاسم الذى يطلق فى ذلك الزمان على كل المنطقة التى تقع 
جنوب الشلال الأول غير أن المعروف والمثبت تاريخياً هو أن كنداسى هى إحدى ملكات دولة كوش 
النوبية . 
الجزائر» ١١‏ مارس 7٠٠١١١‏ .عنمرممعظ أالعسصسمئة رو 
(50)أنشأ المكتبة بطليموس الأولء ونقل إليها ديميتروس الفاليرى» تلميذ أرسطو كل مكتبة معلمهء 
كما أضاف إليها بطليموس الثالث التراجيديات اليونانية . مع ذلك آثرت مصر الإسلامية استرداد تلك 
المكتبة "الوثنية لتضيفها إلى مواريثها الوطنية الثقافية. 
)5١١‏ فضيلى جماعء العرقية والثقافة» ندوة حول الثقافات السودانية» مركز الدراسات السودانية 
بالقاهرة . 
(52) مدثر عبد الرحيم» إحالة فى ,عساطءةئلا اعطد0 .لمعئلط ادعامماك1] 
(53)تفس المصدر 
8 ط ,رماع ناعظ عالأتووط 01 دعممعط]1' ,لمقطءعو مط كمواط ر54) 
(55) بريمان شاعر مجيد من جزر الكاريبى» وواحدة من عيون شعره قصيدة ذات عنوان دال: 
"1 عبعلاع8 م8 هن و فيها حضارات النوبة ومالى وتمبكتو وبنين. قال: 
"لقد صهرت الحديد فى بلاد النوبة يوم أن كنتم أمماً تشق الأرض بالمحاريث الخشبية» وسبكت 
النحاس فى بنين يوم أن كانت لندن مستلقهاتك و :ويديت تمبوكتو لأجعل منها ملاذاً للعلماء فى زمان 
كان فيه الرهابنة الأميون المتسخة أجسامهم يرتجفون من البرد فى أروقة اكسفورد. 
9 بمقتططء"1 ,هلما ,طموععءاء1 لإاتدط (56) 


233 


2 ,13 لإأنال ,علولا بجع1ظ! ع1" ,تعصصمظ8ظ لرمطرردظ (57) 
(58)الشرق الأوسط > فبراير ٠٠١١‏ 
(59)الخرطومء ١8‏ مايو/ا59١‏ 
(60)جنوب السودان فى المخيلة العربية. 
.2 ,1995 ,0لهمآ ,5ككئلة1 1.1 ,1000209 نه ]0 طانزل8 ع1 ,سداك1 ,بإدلنالد1ز لعءءظ ر61) 
(62)عزيز العظمة:ء العلمانية تحت المجهرء دار الفكر المعاصرء دمشق» ص . ١85‏ 
(63)الحياةء ١‏ ايلول/ سبتمبر ٠٠١7‏ 
0م .1957 ,6 .اول لإأمعامهن0) ناما علاناد عدم طزهن) لمج أهحمم تام معام[ رل6) 
3 ,2001مآ ,عع11260نا10 ,لإكننائء) 20115 عط هزر عاممع ممعترلة ررث ,ئ1/12 لإنيا (65) 
0 لاتقناقة[ , كاناط5ء 102210 ,30 ألعدنن لقة أندل8 , «ه0لده2آ ممععدرد©) ولامة (66) 
(67)أثار الكتاب جدلاً واسعاً فى فرنساء وتداولته بالبحث الصحف وأجهزة التلفزيون والمنتديات 
الجامعية . قال فيرى ان المجتمع الفرنسى تجاوز الدين والأخلاق» فهو اليوم فى زمان الروحانية غير 
الاكليركية (109ادداءأم5 129) » زمان حكمة الحداثة . فالدين كما قال لم يعد هو الهادى لكل الآمة» 
كذلك لم تعد القيم الوضعية التى نشرتها الثورة الفرنسية» مع هذا ما زال الفرنسيون يرفضون أن 
يقاس النجاح بمعيار مادى بحتء ويرفضون فى ذات الوقت المعايير الأخلاقية التى تميز الأعمال 
بين الخير والشر وتمنى الناس بجنات النعيم فى الحياة الآخرة. 
(68)قال عمر بن الخطابء الخليفة الثانى لرسول الله عندما قبل الحجر الأسود: أعرف انك حجر 
لا يضر ولا ينفع . والله لولا أننى شهدت رسول الله يقبلك لما قبلتك. 
5 ,025نم 1لع]1 مكلخ 10 لم0 1اأعنال0مام1 .عانطل8 مطمل ر69) 
(70)نفس المصدر ص 08-54 . 
١71)يسمى‏ الدينكا هذا الإله القاهر نياليج (ع:1/121)» كما يسميه الشلك كووث (20108!) . راجع 
لمتدسلط لمة مماوناعظ؟ا ععنلط :لمقطءوظ-كموا8 باعص لمعم لمه لإاتمطلط :البقطمع] لمعت 
ركععنناانان) ع لالاتضفط .ضاير 8.1 
(72) مع وجود توجهات نحو الوحدة العربية الشاملة فى مصرء إلا أن الساحة الفكرية كانت 
أيضاً تعج بأفكار تدعو إلى اتجاه مصر نحو الشمال خارج النطاق العربى. وكان عميد الأدب 
العربىء طه حسين على رأس أصحاب هذه الأفكارء إذ دعا فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر إلى 
أن انتماء مصر الثقافى ليس للشرق بل إلى شمال المتوسط 


134 


(73) ساطع الحصرىء قسنطين زريق؛ ميشيل عفلق الخ. 

(4) مع صدق التوجه الناصرى فى دعم حركات التحرير فى أفريقيا على وجه الخصوصء» 
ومناصرة الثورات الاجتماعية فى دول عدم الانحيازء إلا أن مناهضة الاستعمار لم تكن دوماً موقفآ 
مبدئيا ثابتاً. فعلى سبيل المثال» ناصر التيار العروبى على إمتداد الوطن العربى (بما فى ذلك 
السودان) غزو السوفييت للمجر فى الخمسينيات» واجهاضهم العديف لذورة التشيك فى الستينيات. 
ومن المدهش أن انقضاض السوفييت على ثورة المجر واحتلالهم لبراغ كان محل إدانة من الحزب 
الشيوعى الإيطالى المتفرد دوم بمواقفه. 

(05) أهم ماجاء به الميثاقيون هو الميثاق الإنجليزى العظيم (3:28© 843803) بعد إرغام الملك 
جون على توقيعه فى عام 217١5‏ ثم قانون أمر المثول أمام المحكمة (اعث كنام,ه0 كدء1130) فى عام 
4 », وعريضة الحقوق (كاطع181 أه ومناناءط) فى عام 751748 . والأخيران مستمدان من الفقرة 9" 
فى الميثاق. هذه القوانين الثلاثة هى التى ثبتت قواعد الديموقراطية فى بريطانيا وأمريكاء وأنهت 
إلى الأبد طغيان الملوك. 

(76) فى عام ١144‏ كتب زريق فى أذيال الحرب العربية- الإسرائيلية كتابه المشهور معنى 
النكبة» الذى دعا فيه إلى توحيد الأمة وحشد قواها بحسبانه الطريق الوحيد لإزالة آثار النكية . ولكن 
بعد عقدين من الزمان» وعقب هزيمة يونيو/ حزيران» كتب زريق معنى النكبة مجدداً ليعيد فيه 
النظر حول أطروحاته الأولى؛ ويقول أن السبب الرئيسى للنكبة هو غياب الديموقراطية؛ وانتهاك 
حقوق الإنسان» وطغيان الأنظمة الاستبدادية فى المنطقة. 

(77) نفس المصدر. 

(78) محمد على جادين:ء البيان» دبى»؟77 نوفمبر 3٠٠١‏ . فى اعتراف شجاع أدان جادين 
مشاركة حزبه فى الانقلابات العسكرية» وقال إن الانقلابات يجب أن لا تكون بديلاً للتغيير 
الديموقراطى عبر صندوق الانتخابات. 

7٠٠١” مايو‎ ٠١ الحياةء‎ )79( 

(80) الحياةء 71 مايىو ٠٠١07‏ 

(81) البقرة ١79‏ ؛ النساء »4١‏ الأعراف 74» يونس 147١ء‏ الرعد 27٠‏ الأنبياء 57» المؤمنون 07 . 

(82) كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (الحشر 7/59) . 

(83) حسن الترابى» المصطلحات السياسية فى الإسلام؛ ص. 79 

.995 ,14 بعطصرع 110 ,عمعدط”ا دمعلمعط!1 نزط ووعرع مه :10 مرمرع 015 (84) 


135 


تناد هأ موتذدءومع]1 أمعتاتامط ,عونا لعظا عط لستطء8 بوعقككم ,طءغهة ما خخطعنظ ممصسنك] رك8) 
1997 
(86) هامش فى تقرير جون هاركر (المبعوث الكندى) » صفحه ١*‏ 
7 7 ,لإعممع0تاء2آ 101 الةن) ع1 ,وصدعة0 صطول (87) 
(88) أشار قرنق إلى ما ورد فى العهد القديم (الجزء الثانى من أخبار الأيام؛ الإصحاح الرابع 
عشرء )١7/8‏ حول غزو الكوشيين لأرض يهوذا بجيش ألف ألف وبمركبات ثلاثمائة . وما جاء فى 
الجزء الثانى من سفر الملوك (الإصحاح التاسع عشرء الآية التاسعة)؛ عن غزو ترهاقه 
ملك كوش الذى حارب أورشليم من الجنوب إبان حرب الآشوريين لها من الغرب (حصار 
سنحاريب) . :وسمع ترهاقه ملك كوش قولا أنه قد خرج ليحاربك. فعاد وأرسل رسلا إلى حزقيا قائلاً 
: هكذا تكلمون حزقيا ملك يهوذا قائلين : لا يخدعك إلهك الذى أنت متكل عليه . ولريما نضيف ما 
يغفله المؤرخون عن زواج موسى بامرأة كوشية (سفر العدد, الإصحاح الثانى عشرب١)‏ وتكلمت 
مريم وهرون على موسى بسبب المرأة الكوشية التى اتخذها. وكانت مريم وهرون قد آخذا موسى 
على ابتنائه بامرأة وضيعة الأصل فأنيهما الرب قائلاً: وأما عبدى موسى فليس هكذاء بل هو أمين 
فى كل بيتى وشبه الرب يعاين. فلماذا لا تخشيان أن تتكلما عن عبدى موسى(سفر العددء الإصحاح 
الثانى عشرء الآية 8) . 
(89)جون قرنق» زؤية للسودان الجديدء قضايا الوحدة والهوية (ترجمة وتحرير الوائق كمير) . 
01 11111201013 ذل ,عم2عء364 :عتمصمتط2.5 ,دعتلة ما 0ل1ه0) ,قتطنال8 : مدل .دناللا (90) 
لننكالت 
(91) إنعقدت الندوة فى امبو (أثيوبيا) فى 4 فبراير 21985 وشارك فيها من مثقفى الشمال: 
عدلان الحردلوء محمد الأمين التوم» الواثئق كميرء يوسف إلياس»: محمد يوسف أحمد المصطفى» 
محمد أحمد محمودء طه إبراهيم» محمد على المحسىء محمد عبد الرحيم شدادء والراحل محمد زين 
شداد. وقد ساهم كل واحد من هؤلاء المشاركين فى الندوة بورقة حول القضايا التى أثارتها ورقة 
العمل التى قدمتها الحركة» وقام بإعدادها لام أكول. ومما يطرف ذكره أن دعوة قد وجهت رسميآ 
من جانب الحركة للحزب الشيوعى للمشاركة فى ذلك المنتدى الفكرىء إلا ان الحزب اختار عدم 
الاشتراك فى اجتماع قد يرى فيه الآخرون تكتلاً يسارياً. ونغلب الظن أن الحزب الشيوعى كان حذراً 
يومذاك من أن تلحق به تهمة الطابور الخامس للحركة. 
(92)أثار شينىء ببراعة فائقة» هذه النقطة فى حديث له بجامعة الخرطوم حين إعترض على 
عنوان المحاضرة التى كلف بها : الحضارة النوبية وأثرها على أفريقيا. قال إن العنوان خاطئ لأنه 


236 


يفترض أن النوبيين ليسوا جزءاً من أفريقياء فى حين أن العكس هو الصحيح. فجغرافيأ تقع بلاد 
النوبة فى أفريقياء وسكانها ليسوا إلا أفارقة» ولغتها جزء من منظومة اللغات الشرقية السودانية. 
,علمصلطذ 42-50 ط2 معماة رد لنلناك 

2 2 بقعرات 13 نقل0ناد .ألمعة11! أاذى (93) 

7 8 الإعووعمويعطط رو الدن) ع1 .عمدعدن مطحل (94) 

طوع1ط الم أن نووثالا ع1 ,ععلانظ8 أعنحصدك رك9) 


لالالا 


37 


«سألت نمسي مراراًإن كان هناك ماهو 
أبلغ فى الدفاع عن السلام على وجه 
الأرض؛ وفى كشف ويلات الحربء من ذلك 
الحشد الهائل من الشهود الصامتين». 
"جومج الخامس عند زيارته 

لمقبرة فلأندئ. سنة 1122" 


لالا 


5-6 


السلام والوساطات, 
وحل التراع 


739 


الصراع السودانى صراع عنود استعصى على اللجام؛ فإبادة مليونين من السودانيين فى 
جردا زم تزاشرة خلى أرط المغركة ار ووية خير مبائرة سك تعرصهم للدخطار 
المرتبطة بالحروب» لم تكف لوضع حد لتلك المأساة. تسببت الحرب أيضاً فى نزوح ضعف 
هذا العدد من مواطنهم الأصلية؛ إما إلى الشمال أو لدول الجوار الجنوبية والشرقية. مع ذلك» 
ل ا ا 1 
يلوح فى الأفق ضوء يبشر بنهايتها. إحصائيات الموت والنزوح وحدها تقف دليلاً كافيآ 
على الدمار الذى أحدثته تلك الحرب» ومع ذلك بقيت الحرب عقبة صعبة المرتقى على 
الوسطاء وصانعى السلام. ففى كل مرة خمد فيها لهيبهاء عادت الحرب من تحت الرماد 
لتفاجئ الصديق والعدو بالظهور مرة أخرى كطائر العنقاء الأسطورىء وعلى نحو أشد 
ضراوةء وأكثر إيجاعاً لوطن نالء بكل المعاييرء أكثر من حقه من المعاناة والانقسام. حتى 
خلال فترات الهدوء النسبىء ظلت التوقعات بتجدد الصراع تموج تحت السطح كغول 
شيطانى. ورغم أن الجذور العميقة للحرب. والحلول الممكنة لهاء لم تكن خافية على 
المتحاربين؛ ما انفكت قيادات الشمال تتمارى وتتلوى خلال نصف قرن من الزمان. ولا 
شك فى أن اعتراف قيادات الشمال المتأخر بطبيعة الأزمة (كوكا دام 13185ء أديس أبابا 
, أسمرا »١1195‏ ماشاكوس )3٠١7‏ بعد قرابة الخمسين عاماً من أول اندلاع لهاء 
يكشف عن ماهية تلك القيادات وطبيعتها. 

بدأت الحرب الأهلية بتمرد سنة 1155 الذى تبعته سلسلة من الجهود الفاترة لصنع 
السلام» سارت جنباً إلى جنب مع موجات من العنف وإراقة الدماء. وظلت مسيرة السلام 


741 


تتعثر إلى أن جاء نميرى فى عام ١115‏ ليقيم سلاماً دام عشر سنوات ثم تحطم فى عام 
87 تاركاً تحت الرماد وميض نار. من ذلك الرماد تضرم الصراع بقدر من العنف لم 
تشهده البلاد فى أى وقت مضى من تاريخ الحرب الأهلية. وبحلول نهاية القرن الماضى 
كاد السودان أن ينتهى إلى ما كان عليه فى بدايته. كتب يومذاك ج. و. ستيفنسون 
الصحفى الذى جاء مصاحباً للورد كيتشنر أن السودان صحراء بل صحراء غير مأهولة» 
فشمال الخرطوم قفرء وجنوبها دمار.(١)‏ واليوم» اتسع نطاق الحرب بصورة لم يعرفها 
السودان من قبلء بقاء الأسباب الجوهرية لصراع الشمال مع ألجنوبء لم تعد الحرب فقط 
حرباً يخوضها الشمال ضد الجنوب» بل أصبحت حرب الجميع ضد الجميع: فالشمال 
يحارب الجنوبء والشمال يقاتل ضد الشمال. الصراع أيضاً شمل الجنوب نفسه» فقد 
تصارعت قوى الحركة الشعبية ضد بعضها البعضء بصورة محزنة ومخزية فى أن. هذا 
الصراع أيضاً يتسم بايقاع غريب يغذى نفسه ويكاد يفرض ديمومته . والآن؛ وقد بلغ العداء 
أوجهء وصلت الحرب إلى ذروتها بقوى دفع ذاتية تجاوزت أسباب الخلافء حان الوقت 
لإرساء دعائم السلام من خلال التفاوض على أمل أن يكون سلاماً دائماً هذه المرة . 

قبل أن نأمل فى تحقيق تلك المعجزة» لابد لنا من فهم صحيح لطبيعة القوى التى ظلت 
تحرك ذلك الصراع الوحشىء فعلى النقيض من التبسيط الذى يلجأ إليه من يسعون لإثبات 
أحكامهم المسبقة حول ثنائية الصراع؛ نكرر القول أن الصراع السودانى أعمق بكثير من مجرد 
كونه نزاعاً بين الجبهة الإسلامية والحركة الشعبية» أو بين العرب والأفريقيينء أو بين 
المسلمين والمسيحيين. صحيح أن بعض هذه العناصر تمثل أبعاداً هامة» غير أن الصراع؛ فى 
حقيقته» يكاد يشبه البصلة؛ فهو متعدد الطبقات» كل طبقة منه تحمل فى طياتها مجموعة 
فرعية من الطبقات تعمل على إذكاء نيران التناحر. لهذاء فلا التحليل التبسيطى الشائع؛ ولا 
الحلول السطحية والزائفة التى ظللنا نتداولها فى الماضىء يعينان على خلق سلام دائم. شىء 
واحد يبقى مؤكدأء ويمكن تخليصه فى كلمات قليلة: أحابيل السودان السياسى القديم لم تعد 
تجدىء بل إن السودان القديم نفسه أوشك على الفناء» دون أن يرى السودان الجديد النور. ولعل 
تلك الكلمات تمثل تعريفاً واضحاً لما يسمى فى الأدب السياسى أزمة .(61515©) 


742 


الصراع وجوانبه المتعددة 

فى المقام الأول تمثل الحرب فى السودان ثورة صريحة قام بها الجنوب ضد مساعى 
نظام الحكم فى الشمال للهيمنة عليه» وبهذه الصورة فهى تعبر عن تحد من جانب الأطراف 
لمركز الحكم. وكما أوضحنا بتفصيل كاف» عمقت من الحرب الجهود الدائبة لأنظمة الحكم 
المتعاقبة فى الخرطوم للاستهانة بمطالب الجنوبيين. على صعيد آخرء لعب الصراع المدمر 
على السلطة بين القوى السياسية الحاكمة فى الشمال دوراً هاما فى إطالة أمد الصراع لأن 
إنهاء الحرب (باستثناء فترة أكتوبر وأوائل فترة مايو) لم يكن يمثل أولوية قصوى فى أجندة 
الحاكمين. ثم جاء تغليف الصراع السياسى الدنيوى بالدين ليضيف بعداً جديداً للحرب 
الأهلية. فى إطار هذا الصراع السلطوى الدينىء استغلت الأحزاب السياسية التقليدية هياكل 
السلطة وسعت عبرها إلى كسب تعاطف التيارات الدينية» والتقليص من دور التيارات التى 
لا تتوسل للسياسة بالدين» لكيلا نقول التيارات العلمانية. وعبر تلك الهياكل ذهب 
الإسلامويون المحدثون إلى تطبيق متطرف للدين لم يبغوا من ورائه استكصال التيارات 
العلمانية فحسبء بل أيضأ تحدى سلطة وقوة الجماعات الإسلامية التقليدية» بالابتزاز طوراًء 
وبالقهر أطواراً أخرىء» خاصة فيما يتعلق بالإقبال على حل مشكلة الجنوب. ولعل استيلاء 
الجبهة على الحكم قد كشف أمراً آخر لم تعه القوى الحديثة: هشاشة قواعدها الاجتماعية 
المفترضة (1:0021؛)أمام تحدى قوة حديثة أخرى (على الأقل من ناحية التنظيم وأساليب 
الأداء) . ولربما كان افتقار القوى الحديثة إلى التنظيم» وعجزها عن ابتداع الو سائل المناسبة 
لمجابهة هذه القوة الحديثة الطارئة» أكثر من انعدام المساحة الديموقراطية التى تمكنها من 
القيام بدور سياسى هامء هو الذى أقعدها عن أن تلعب دوراً ترجيحياً فى الصراع ضد تديين 
السياسة. 

ثانياًعندما يشرع شخصان فى التصارعء يبرز حتماً شخص ثالث إما لحثهمء لدوافعه 
الخاصة» على المضى فى الصراعء أو لتصفية الصراع بينهما. هنا يبرز المستوى الآخر 
للحرب وهى المستوى الدولى. فمنذ زوال حكم نميرىء توالت الجهود بلا انقطاع للتوسط 
بين الفرقاءء وتحرى إمكانيات السلام؛ وتسهيل الحوار بين المتخاصمينء وإعمال الفكر فى 


43 


تحليل دوافع الصراع. على هذه الجهود سنأتى تباعاً. على أن بعض الجهود الخارجية 
لإحلال السلام فى السودان انحدرء فى النهاية» إلى صناعة يجرب الجميع أيديهم فيها بلا 
استثناء. وما كان توغل الخارج فى مشاكل الداخل ليقع لولا سياسات الجبهة الإسلامية 
بنهجها الرسالى» وتقحمها فى شئون الآخرء مما جعل من تدخل الآخر فى شئون السودان 
أمراً محتوماً. فبداية» ذهبت الحماسة الدينية بنظام الجبهة ‏ إن لم نقل التعصب الدينى ‏ إلى 
فرض الإسلام على معتنقى الديانات الأخرى فى السودان بصورة منفرة» تناولنا فى القصل 
السابع ألواناً منها. على الجانب الآخرء جاهر النظام بأن رسالته الدينية لا تقتصر على إنقاذ 
السودان فحسبء بل تمتد إلى ما وراء حدوده حتى يكمل المهمة السامية التى أوقفها 
الاستعمارء وهذا إنذارلا يقابله متلقوه ببهجة وترحاب وهم مكتوفو الأيدى فى انتظار 
وصول المنقذين. على النقيض تلقوه بغضب مكتوم» وقلق خفيت. وبتصاعد الغضب والقلق 
من جيرة السودان» ازدادت حدة قلق وغضب المجتمع الدولى. وأخيرأء أدى تدهور الحرب 
الأهلية والصراع الداخلى فى الجنوب إلى مأساة إنسانية مرعبة لم يعرف السودان لها 
مثيلاً. تلك المأساة التى لم تلق من الاهتمام إلا القليل فى الداخلء أرقت بال المجتمع الدولى 
ودفعته إلى عمل جماعى لتخفيف المعاناة على المضارين. وقلما ينتبه الذين يتحدثون عن 
تدويل الحرب الأهلية إلى هذا الجانب من آثارها. 


ساهمت عوامل أخرى فى تحويل الحرب إلى ظاهرة تغذى نفسها بنفسها. من تلك 
العوامل الفوائد المادية التى أخذ يجنيها بعض المحاربين من الحرب مما أغراهم بالحرص 
على استمرار الصراع؛ فمثلاً أصبحت المناطق التى كان يجرى فيها التطهير العرقى 
بصورة منظمة (جبال النوبة) » مصدر إثراء لتحالف غير مقدس بين الجنود والتجار. كما 
أخذت تتزايد أنشطة مثل اختطاف الماشية» وتهريب العاج والذهب والأحجار شبه الكريمة: 
واختزان السلع والتريح منها فى بعض الحاميات العسكرية» بجانب التجارة فى الأسلحة بين 
الميليشيات القبلية. كل هذا جعل من الحرب نشاطاً تجارياً عالى الريح للباحثين عن الثروة . 
وإن علمنا أن لا سبيل لمقاتلى الجيش الشعبى للحياة إلا بالاستغلال الجائح للأرض والثروات 
الطبيعية: الغابات والحيوانات» أدركنا أن بعداً جديداً وخطيراً قد أضيف إلى الصراع, ألا 


744 


وهو المنافسة الشرسة على الموارد الطبيعية المحدودة وتهديد قاعدة تلك المصادر بالفناء. 
إضافة إلى ذلك لم يكن الجيش الشعبى نفسه بمنجاة من جشع بعض الجانحين من قياداته 
الميدانية التى ألهاها حب المال عن النضالء فلجأ بعضهم إلى المتاجرة بالبشر فى قضايا 
تحرير المسترقين؛ والاستغلال الجائح للثروة الخشبية. يبقى بعد آخر للصراع؛ إضافة لكل 
هذاء ألا وهو الصراع على الموارد الطبيعية» بل وعلى أكثرها أهمية راهنة: النفط. اكتشاف 
النفط فى ظروف طبيعية؛ حدث مبهج يحمل فى طياته وعدا بالرخاءء ولكن بسبب 
الحرب» أصبح النفط مجرد سلاح آخر للحربء وسببآ آخر للتقاتل. وفى هذا السياق بالذات» 
لم تعد الحرب صراعاً متعدد العناصر فحسبء بل أصبحت أيضأً صراعاً يصعب حسمه 
بجهد داخلى. 

تلك هى خريطة الصراع الحالية» وسنسعى فى هذا الفصل إلى تبيان القوى المحركة 
لتلك العناصر المتداخلة: السياسية والاقتصادية والإنسانية (بما يحويه كل منها من أبعاد 
دولية) . ومن البدهى أن أى تسوية قائمة على التفاوض لابد أن تأخذ فى الاعتبار كافة 
العناصر»ء فإيقاف العنف وحده (وهو شىء فى حد ذاته شديد الصعوية)ء لن يحقق سلامآ 
دائماً وعادلاً. السلام الدائم والعادل يقوم على إزالة وجوه الجور السياسى والاقتصادى 
القديم» وإيجاد حلول للأزمة الإنسانية التى أفرزتها الحرب» ومعالجة المشاكل المرتبطة 
باستغلال المصادر الطبيعية (النفط» المعادنء المياه» المراعى) » إلى جانب مداواة الأمراض 
الاجتماعية التى أفرزتها ثقافة الحرب» وهذا يعنى تجذير ثقافة السلام . 

الدين كمحمز للحرب 

تحولت حرب السودان الأهلية بعد استيلاء الجبهة على الحكم إلى ضرب من الجهادء 
جعل النيل يزيد بالدم» كما جعل المسيحيين» فى داخل البلاد وخارجهاء يرغون بالغضب. 
فمن رقة العقل الزعم بأن تزايد اهتمام الدوائر المسيحية بحرب السودان يعود أساساً لرفضها 
لتوجهات النظام الدينية. ففى العقود الثلاثة الأخيرة» تحديداً بعد اتفاق أديس أباباء لعبت 
المنظمات المسيحية العالمية دوراً كبيراً فى مساعدة السودان كله (شمالاً وجنوباً) على 


145 


مجابهة الكوارث الإنسانية التى حلت به: إعادة التوطين فى الجنوب؛ ومحارية المجاعة فى 
الغرب وفى الشرق فى الثمانينيات من القرن الماضى7') . ولكن؛ بعد استيلاء الجبهة 
الإسلامية على الحكم تغير الموقف كثيراًء إذ تقلص إسهام المنظمات المسيحية فى العمل 
الإنسانى فى الشمال» ليس بسبب رفضها للتوجه الدينى للنظام ‏ كما يدعى النظام ‏ ولكن 
لسببين آخرين: أولهما التعصب الذى أخذ نظام الحكم يعامل به أهل المعتقدات الأخرى. 
والثانى محاولته السيطرة على المعونات الخارجية وتوجيهها على النحو الذى يريد. بسبب 
من هذا لا يحق لإسلاميى السودان الغضب والغيظ من رد الفعل المسيحى لسياساتهم. فمثلاً 
خلال عقد التسعينيات من القرن الماضىء استقبل السودان للمرة الأولى فى تاريخه اثنين 
من آباء الكنيسة: البابا يوحنا بول الثانى (فبراير197١)»‏ وكبير أساقفة كانتربرى (يناير 
6©”» جاء الرجلان للدعاء للسلام فى السودان» ولكن» على نفس القدر من الأهمية» 
لإبلاغ قيادات السودان أنه لا ينبغى للدين أن يكون مبرراً للشر. فمثلاً فى لقاء جماهيرى 
حاشد فى الخرطومء دعا البابا إلى التسامح الدينى» كما أعلن كبير الأساقفة خلال اجتماع 
للمصلين فى جوبا فى 78 أبريل: لا أعتقد أن هناك مبرراً دينياً واحداًء فى السودان أو فى 
أى مكان آخر فى العالم» للجوء المسلمين والمسيحيين للعنف ضد بعضهم البعض. وقبل 
زيارة كبير الأساقفة الأولى للسودان» عبر بيتر فون» أسقف رامسبرى؛ عن طبيعة مخاوف 
الإنجليكانيين من سياسات النظام. رأى فون نظام الخرطوم على حقيقته كخطر على 
المسيحيين والمسلمين على حد سواءء وانتقدء بلا مواربة» أخطاءه ضد كليهما. قال لصحيفة 
لندنية أسبوعية إن اضطهاد المسيحيين والمسلمين فى السودان يتم أساسا لزرع الخوف فى 
قلوبهم .(؟) 

ولربما أدرك النظام فى وقت متأخر خطورة ردود فعل العالم المسيحى فسعى لاستئناسه 
وكسب تأييد الجهات النافذة فيهء بدلاً من تبديل السياسات التى قادت لردود الأفعال تلك. 
فمع حملة تجميل الوجه فى الخارج اتخذ النظامء مثلاًء سلسلة من الإجراءات القمعية ضد 
المسيحيين والهيئات المسيحية دفع مؤتمر الأساقفة الكاثوليك السودانيين لأن يبعث إلى 
الأمين العام للأمم المتحدة» بطرس بطرس غالى» رسالة يشكو فيها من المضايقات التى 


746 


يتعرضون لها بصورة متزايدة. كما انتهز الأساقفة الكاثوليك السودانيين فرصة زيارتهم 
الخمسية للأب المقدس فى " أكتوبر سنة 937١»ء‏ والتى تعرف باسم "2108سا 20 9/1518" 
لقرع ناقوس الخطر. ففى نداء مؤثرء أعلن الأساقفة السودانيون أمام الفاتيكان: نحن زعماء 
روحيين وقسس ولسنا برجال دولة أوساسة بأى حال من الأحوال. لهذا يجب النظر إلى 
دفاعنا عن حقوق الإنسان كجزء لا يتجزأ من مهمتنا الدينية. كلمة الأساقفة لم تكن دعوة 
للتعصب أو الانحياز الدينى» بقدر ما كانت دعوة للسلام ولاحترام حقوق الإنسان. قال 
الأساقفة إن السلامء لا يتحقق الا عن طريق العدل واحترام حقوق الإنسان» وتوضيحاً لما 
يعنون» أضافوا أن الحكم الحالى ينكر تماماً الحريات الأساسية للإنسان» بما فى ذلك حق 
الحياة نفسه؛ وحرية التعبير» وحق التعليم» وحق المرء فى اعتناق الدين الذى يختار. 
الإضطهاد الدينى الذى أشار إليه الأساقفة اتخذ أشكالاً عديدة بدءاً بتدمير أماكن العبادة 
وانتهاء بمضايقة الأساقفة. فمثلاً فى ديسمبر ١137‏ » دمر نظام الجبهة مراكز العبادة 
الكاثوليكية فى الدروشاب» وهى مراكز تستخدم أيضأ للأغراض الاجتماعية . وفى مارس 
سوى مركزاً مشابهآ فى قرية تريا بالأرضء كما دمر فى 7 أبريل من نقس العام 
مركز ا آخر فى الكلاكله القبة» وتبع ذلك تدمير مركز آخر فى جبل أولياء فى شهر يوليو.(0*) 
إزاء كل هذه التهم لم تجد الحكومة ما تقول غير الادعاء الواهى أن تلك المراكز أصبحت 
مصدر إزعاج للسكان» وكأن المفترض أن لا تقام أماكن العبادة حيث يقطن الناسء بل فى 
المنطقة الصناعية . وبغض الطرف عن أن الشكوى من إزعاج مراكز العبادة لم تجىء أصل 
من السكانء نقول أن تفادى الإزعاج العام لم يكن البتة شرطاً من شروط بناء المساجد التى 
أقامتها أو شجعت الجبهة على إقامتها بجوار المستشفيات ورياض الأطفال. ولئن تحدث 
القدامى عن الإزعاج العام (©©دهداناه “تانام) الصادر من أماكن العبادة» فقد كانوا أكثر 
صدقاً. ففى الأربعينيات من القرن الماضى طالب الشيخ بابكر بدرى إدارة مسجد أم درمان 
العتيق بالكف عن استخدام مكبرات الصوت فى رفع الآذان لما يسبيه من إزعاج للمرضى 
والأطفال فى الحى المجاورء ولما لم تستجب الإدارة لطلبه رفع الأمر إلى قاضى أم درمان 


7 


(ولعله كان الأستاذ محمد إبراهيم النور) فأجاب طلبه. ولم يكن الشاكى المؤمن بدينهء أقل 
إيماناً من القاضى الذى استنصر به فنصره. 

من جانب آخرء ألقت السلطات القبض على الأسقف الإنجليكانى بالخرطوم وأخضعته 
للجلد بالسوط فى ميدان عام بتهمة الزنى. وبغض النظر عن حقيقة أنه لا يجب إخضاع 
غير المسلمين نقوانين العقوبات الإسلامية» فإن أشد القواعد صرامة فى الإسلام هى قواعد 
إثبات الزنى» والتى تتطلب وجود أربعة شهداء شاهدوا الحدث فى وقت واحد. كان فى 
استطاعة النظام إن أراد الترخص أن يستنجد بأحكام الفقه الذى لا يرى له: ولا يعرف عنه 
بديلاً. الزنى» فى تعريف ذلك الفقه هو وطأ الرجل الحر المحصن العاقل امرأة حرة عاقلة 
فى نكاح صحيح. إلا أن الفقهاء اختلفوا فى إن كان الإسلام شرطأ من شروط الإحصان. 
ففى حين قال ابن القيم (أعلام الموقعين) أنه ليس شرطأء اتفق رأى الأحناف على وجوبه 
(نيل الأوطار للشوكانى 49/7» وفتح البارى .)17١/1١7‏ قاضى الجبهة لم يراع (لكيلا 
نقول أنه لم يكن يلم) تلك القواعد عندما أمر بحد القس مما يؤكد أن المراد من الحكم ليس 
هو تطبيق حدود الله» بقدرما هو إذلال الأسقف الذى رفض الصمت عن مخازى النظام 
وتعدياته على المسيحيين. 

استهانة النظام بالمسيحيين طالت حتى الرموز؛ فمنذ استقلال السودان ظلت الكنيسة 
الإنجليكانية الأولى فى السودان قابعة داخل قصر الحاكمء وكان الحاكم البريطانى يفد إليها 
لأداء صلواته عبر نفاج يقود إلى القصر. تلك الكنيسة بقيت مكاناً لتعبد الإنجليكانيين طوال 
عهود الأزهرى وعبد الله خليل وعبود وأوائل عهد نميرى فى الحكم. وفى النصف الأول 
من عهدهء اقتطع لهم نميرى أرضا لبناء كنيسة جديدة» فى حين ظلت الكنيسة القديمة فى 
موقعهاء واعترض نميرى على استخدامها كمكاتب توقيراً لهاء وأمر بأن تجعل متحفاً. ثم 
جاءت الجبهة لتامر بهدم سارية الكنيسة لآنها لا تطيق؛ فيما يبدوء النظر إلى رمز كنسى لم 
يؤرق بال كل من سبقها من حكام السودان المسلمين. الحادث فى حد ذاته بسيط لولا العقلية 
التى قادت إلى التفكير فيه» ولولا تناقضه الفاحش مع ما يزعم به النظام» بل ويردده دعاة 
الدولة الإسلامية المحدثون فى كل مكان» عن تسامح نموذجهم الإسلامى مع أهل الكتاب. 


148 


يقولون فى معرض جدلهم مع أهل الكتب الآخرىء أن الإسلام يأمر باحترام أهل الكتاب 
وأنبيائهم» إلا أنهم لايطيقون النظر إلى رمز كنسى, دعك عن احترام من تنصر واستنصر 
بالكنيسة. ثمة تناقض آخر يعنى أمره أهل السودان من غير المسلمين» فبآخره قال 
الإسلامويون أن الانتماء للوطن (لا للدين أو العرق) هوالمعيار الذهبى لحقوق وواجبات 
المواطن. فما الذى تعرفه عن المواطنة دولة لا تكن احتراماً للرموز الدينية لبعض 
مواطنيهاء دع عنك الديانات التى تعبر عنها هذا الرموز. كلمات؛: كلماتء. كلماتء ولكن 
العالم» لسوء حظ من يتحدث بأكثر من لسانء قد أصبح قرية. 

يصعب القولء إذنء أن النظام الحاكم قد خاطب المطالب المشروعة للمسيحيين داخل 
السودان» ومخاوف من هم بخارجه؛ بطريقة مرضية. على النقيض؛ مضى فى خداع 
العالم المسيحى فى الخارج بادعاءاته عن تسامحه مع الديانات الأخرىء بينما استمر فى 
اضطهاد ومضايقة غير المسلمين داخل السودان. ذهب النظام أيضاً إلى تغطية تجاوزاته 
الدينية ضد المسيحيين عبر حوارات إسلامية ‏ مسيحية مضللة. أول هذه الحوارات تم فى 
الخرطوم عام »١315‏ وكان ألهدف منه كما قال الترابى هو خلق جبهة إسلامية مسيحية 
عريضة للعمل معاً على إعادة هيكلة الأمم المتحدة. الترابى الذى قاد تلك المناظرة كان فى 
أشد حالات السرورء ولعله كان يظن أنه قادر على إعادة هيكلة المنظمة الدولية بما جمع من 
أشياخ وقسس ورهبان فى ذلك الاجتماع. ولكن كان هناك بين المؤتمرين من لا يشاركه 
السرورء واحد من هؤلاء جون ايزاياء معلم الدراسات المسيحية فى دنقلة (شمال السودان) 
الذى تحدى الترابى قائلاً ينبغى علينا قبل الشروع فى إعادة هيكلة الأمم المتحدة أن نفكر 
فى إعادة هيكلة بلدناء وفى هذا الصددء ألمح إلى المضايقات التى تعرض لها فى المدرسة 
التى يعمل بها. رد الأمين العام للجبهةء غازى صلاح الدينء رداً عنيفاً على ايزايا قال فيه: 
إن كانت هناك ضغوط حقيقية على المسيحيين؛ فكيف يتسنى لمثلك أن يقول ما قلته )١(.‏ 
تلك العبارة تلخص تلخيصاً بالغأ مفهوم الجبهة الإسلامية للتسامح الدينى» كما تعكس 
منهجها الإدراكى لمعانى حرية الضمير وحرية الفكر. الحريتان تتداخلان» بل يتبع الواحد 
منهما الآخر فى الإعلان العالمى: المادة 14 المتعلقة بحرية المعتقدء والمادة 15 الخاصة 


749 


بحرية الفكر والتعبير. ولا شك فى أن أمين سر الجبهة لا يرى فى حرية التعبير إلا عطية 
يجود بها الراعى على رعيته . فات على ايزايا المعلم الجنوبى المسيحى الذى جاء من دنقلا 
أن يشير إلى هدم النظام لكنيستين أقامهما النازحون الجنوبيون الذين ارتحلوا إلى دنقلاء لأن 
النظام لم يطق أن يرى كنيسة فى تلك المنطقة فى شمال السودان القصى. لم يفطن النظام 
طامس القلب إلى حقيقتين. أولاً أن فى نزوح الجنوبيين واستقرارهم فى دنقلا القصية ما 
يقوى ويمتن وحدة السودان ان حقوق المواطنة التى يتلهى بالحديث عنها تعنى إتاحة 
الفرصة لأى مواطن لكيما د يعتنق الدين الذى يريد ويمارس شعائره فى أى بقعة من بقاع 
السودان. على أن المسيحية ليست غريبة على دنقلاء فمن بين كل مدن السودان كانت 
دنقلا العجوز هى مقر أول دولة مسيحية فى السودان؛ بل هى الدولة التى صدت أول هجوم 
إسلامى على السودان. هذه الحقيقة, فى مدينة لا تقرأء ذكّر بها استانسلاوس بياساماء فى 
البرلمان السودانى الأول» بعض المتطرفين الذين كانوا يتحدثون عن مخاطر النشاط الكنسى 
فى الشمال. قال ستانسلاوس فى مجلس الشيوخ ٠١(‏ يناير )115‏ أى بعد عشرة أيام من 
إعلان الاستقلال ‏ أن المسيحية الجديدة لم تدخل السودان مع الاستعمارء وإنما دخلته فى 
عام 1847 فى ظل دولة الخلافة الإسلامية» مضيفاآ ما أورده أبوصلاح الأرمنى عن 
كنائس سوبا الأربعمائة» وأبرشيات دنقلا السبع. 


مع هذه الاستهانة البالغة بمسيحيى السودان وبحقوقهم؛ مضى النظام يظهر للخارج 
خلاف ما يبطنه فى الداخلء بل بلغ أقصى درجات الكلبية (وكءنهلرع)(') عندما زار 
مصطفى عثمان اسماعيلء وزير الخارجيةء الفاتيكان (يوليوء )3٠٠١‏ للإعراب عن دعمه 
للجهود الدائبة من جانب الكنيسة لصنع السلام. والكنيسة التى تشكر فى روما على جهودها 
الدائية لصنع السلامء هى نفسها التى تهدم دورهاء ويطارد أحبارها فى داخل السودان. تمت 
تلك الزيارة فى وقت كان فيه القصف الجوى لأماكن العبادة المسيحية فى الجنوب على 
أشدهء وكان موقف النظام إزاء قضية الدين والسياسة أثناء مفاوضات إيقاد فى أكثر حالاته 
مغالبة ومعاندة. وبجنان ثابت تحدث الوزير لجان لوى تاوران» المسدول عن الحوار بين 
الأديان فى الفاتيكان» عن مدى التزام حكومة السودان بالتسامح الدينى» وجهودها لتحقيق 


030 


التعايش السلمى بين الديانات» وحرصها على تعميق الاحترام المتبادل بين الكقافات 
المتنوعة.(*) حقآء إن احتقار رجالات الجبهة للذكاء الإنسانى» أو لعقول محدثيهم, لا 
يعرف حداً. 

هذا الامتراء على الحقء قاد الأساقفة الكاثوليكيين السودانيين» بالتعاون مع المؤتمر 
الكاثوليكى الأمريكىء إلى إصدار نداء فى واشنطن فى ١4‏ نوفمبر 7٠٠٠١‏ تحت عنوان 
صرخة من أجل السلامء لم يترك النداء شاردة ولا واردة إلا أحصاها. جاء فى النداء: إن 
الحكومة التى لا تمثل شعب السودان أطلقت حملة إرهاب منظمة ضد المسيحيين وأهل 
الديانات الأفريقية التقليدية» وضد غير العرب فى الجنوب وشرق البلاد. ففى الشمال 
دمرت الكنائس وأحمندت أصوات للتعارصين :على اخفلاف كزاناتهم - بقسوة شديدة: 
وتأكيدا وتوضيحاً لموقفهم المحايد تجاه أطراف النزاع» أضاف الأساقفة أن جميع الأطراف 
بما فى ذلك الجيش الشعبى لتحرير السودان» متورطون فى انتهاكات صارخة لحقوق 
الإنسان» بيد أن الحكومةء كما قال بيان الأساقفة» تتحمل المسئولية الأكبر عن الانتهاكات 
الجسيمة لحقوق المدنيين والتى تشمل الاستعبادء وتعذيب الخصومء والإعدامات خارج 
نطاق القانون» والاضطهاد الدينى» والحرمان اللا أخلاقى للجوعى من الحصول على 
الغوث الغذائى» وإخضاع بعض المواطنين لقوانين تمييزية»ء وقصف الكنائس والمستشفيات 
والمدارس بصورة عشوائية» والتدمير المنظم للكنائس ونزع ملكيتها. وفى جلسة استماع 
للجنة الأمريكية الخاصة بالحرية الدينية الدولية سبقت ذلك البيان»عبر دان ايفيى عن 
حنق شديد تجاه النظام قائلاً: لقد كنت قسيساً فى جنوب أفريقياء وتم اعتقالى تحت قوانين 
الأبارتايد كرجل دين يحارب من أجل حقوق السود. ولكنى أقول أن الحكم العنتصرى فى 
جنوب أفريقيا لا يقارن» على بشاعته؛ مع ما يحدث فى السودان. فالسودان اليوم هو 
جحيم العالم؛ لا يوجد شك فى هذا.. هو فعلاً جهنم العالم» وينبغى ألا نسمح باستمرار هذه 
المعاناة.(1) 

ربما يتراءى للمرء أن هذه الضغوط المعنوية ستجعل النظام يبصر أخطاءه . تلك رؤية 
خائبة: إذ يبدو أن مثل هذه الأنظمة لا تروضها المعانى أو يريعها الشجبء. وإنما تتذلل 


51 


انقياداً عندما ترى العين الحمراء وكان ذلك بعد ١١‏ سبتمبر/ أيلول من عام ألفين وواحد. 
حتى ذلك التاريخ ظل النظام سادراً فى غيهء فمثلاًء خلال احتفالات عيد الفصح (أبريل 
١‏ اشتبكت قوات الأمن التابعة للنظام مع آلاف المصلين المنتمين إلى الكنيسة 
البروتستانتية السودانية» والذين تجمعوا ليستمعوا إلى رينهارد يونك. ميشر بروتستانتى 
ألمانى . نتيجة لهذا الصدام مات البعض وأصيب العديد بجراحء كما تم اعتقال آخرين من 
بينهم نائب الرئيس السابقء» أبيل ألير» ومراسل الإذاعة البريطانية فى الخرطوم» الفريد 
تعبانء والأمين العام للكنيسة؛ ازيكيل كوندو. أثار الحدث اهتمام منظمة العفو الدولية 
فناشدت الحكومة "لإجراء تحقيق محايد ومستقل حول الحادثء والإسراع بتقديم المسئولين 
عن إطلاق النار بصورة غير قانونية إلى المحاكمة.('') تأملء وقع ذلك الحدث أثناء انعقاد 
لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة فى جنيف لمناقشة انتهاكات حقوق الإنسان فى 
السودان. أو نحتاج إلى دليل أكثر من هذا على تبلد الحس المذهل لنظام الجبهة. أدعى 
للتأملء المبرر السخيف الذى أدلى به النظام حول مهاجمة الجموع المسالمة فى عيد 
الفصح.ء قال إن الإسلاميين المتطرفين قد خططوا لمهاجمة جموع المصلين المسيحيينء ولذا 
نصحت الحكومة أولئك المصلين بضرورة الصلاة فى مكان آخر. وكان المكان الذى 
إختارته لتلك المناسبة غير معد لها بأى حال من الأحوال. حقيقة الأمرء أن الحكومة كانت 
ماعضة أشد الامتعاض من مشهد مسيحى يؤمه الآلاف فى قلب الخرطوم؛ خاصة بعد أن 
أزَ المكان بالناس. وحتى اللحظة لم تدل الحكومة بأى تفصيل عن كنه هؤلاء المتطرفين» 
كما لم تقع محاسبة للذين أطلقوا النار. ْ 

أثناء احتفالات عيد الفصح أيضأ انقضت الحكومة جوأ على قرية كاودا فى جبال النوبة» 
كما لو أن ما تعرضت له تلك القرية سابقاً لم يكن كافياآ .ونذكر القارئ بأن الأعتداء لويم 
على تلك القرية هوالذى قاد إلى شجب الرئيس كلينتون للقصف الجوى على المدنيين. 
الهجوم الجوى هذه المرة كان مروعاً: إذ استخدمت فيه طائرات الأنتونوف لإلقاء براميل 
تحتوى على ذخائر حية تتخللها المسامير. حتى موسولينى لم يلجأ إلى مثل تلك الإجراءات 
الشيطانية ضد مواطنيه» وإن كان قد استخدم الغازات السامة على الأحباشء ولريما كان 


732 


النوبة هم أحباش الدوتشى السودانى. النوبة ومن هم على شاكلتهم ليسواء فيما يبدوء بشرآ 
يستحقون الحياة أوهم جديرون بحمل الشموع فى نظر الجبهة. ويعتقد البعض أن الهجوم 
ريما كان يهدف إلى قتل الأب مكرم ماكس قسيس الذى كان يزور المنطقة للاحتفال 
بالأسبوع المقدس مع عشيرته. وألمحت بعض التقارير الإخبارية أن الحكومة السودانية لن 
تغفر أبداً لمكرم جهوده الرائدة لتأسيس معاهد مدنية ودينية والحفاظ عليها حتى فى أثناء 
الحرب. أوضح التقرير أيضاً أن تلك الجهود كانت شوكة طاعنة فى جانب النظام الذى ظل 
يأمل فى تفريغ جبال النوبة من سكانهاء ويعمل على إضعافء إن لم يكن تدميرء كل 
المؤسسات غير الإسلامية فى تلك المنطقة لمحو أثرها فى الشمال الجغرافى.('') ولكن 
النظام أخطأ خطأ جسيماً عندما قدرأن مثل هذه الانتهاكات الصارخة لن تثير غضب 
مسيحييها فى الداخل؛ أو تحمل كل مسيحى خارج السودان على التنديد بها وإدانة صانعيها. 

لم يقنع نظام الحكم بالتعصب الدينى الذى يمارسه داخل السودان» وإنما كثف جهوده» 
كما أوضحنا فى الفصل السابع» لتصدير نظريته إلى البلدان المجاورة» وكان النظام فى ذلك 
جريئاً جراءة يحسد عليها. فمثلاً» فى واحدة من الدورات المبكرة للإيقاد فى نيروبى 
(سبتمير »)١1154‏ صدم مبعوث النظامء غازى صلاح الدين» الوسطاء عندما قال إن مهمة 
الجبهة الإسلامية لا تتمثل فى غرس الإسلام فى السودان فحسبء بل تتعدى ذلك إلى حمل 
شعلته إلى باقى دول أفريقيا. لم يفطن غازى إلى أن وزراء الخارجية الأريعة الذين خاطبهم 
كانوا من المسيحيين» كما لم يدرك أن ليس من بينهم من كان يحمل دينه فى كم قميصه. 
كانوا جميعاً ينتمون لدول تتعدد فيها الديانات؛ ولم يعرف عن حكوماتها التقحم فى 
معتقدات أهلها. لذلك وجد هؤلاء الوزراء أنفسهم أمام ظاهرة جديدة وغريبة على الإقليم» 
وكانت ظاهرة تقض المضاجع. فإن لم يكن لشىءء فلهذا السبب وحده كان لابد لتصريح 
غازى أن يجعل هذه الدول تحس بأن التأثير فى مسار حرب السودان أصبح جزءاً لا يتجزأ 
من اهتماماتها القومية. 


1533 


انقسامات الجنوب: صراع داخل الصراع 

أضيف للصراع بعد آخرء ألا وهو تصاعد الصراعات القبلية فى كل من الشمال 
والجنوب . النزاعات القبلية ليست جديدة على السودان» ففى الشمال: كما أسلفت الإشارة؛ ما 
فتئت القبائل الرعوية تتقاتل فيما بينها (الرزيقات والمعاليا مثلا) » أو ضد القبائل الرعوية 
فى الجنوب (المسيرية والدينكا) على الموارد الطبيعية: الماء والكلاً. ولكن منذ بدايات عهد 
الديموقراطية الثالثة» أخذ الصراع منحى سياسياً خاصة بعد الزج بالميليشيات القبلية فى 
المعركة» وجعل السودان مسرحاً لصراعات الآخرين. مثال ذلك اتخاذ النظام الليبى لدارفور 
كمعبر للدعم الذى كان يوفره لادريس دبىء حاكم تشاد الحالى. ولعل ذلك الصراع ما كان 
ليتصاعد لو اقتصر الأمر على استخدام السودان كمعبر لتشادء وكان إغضاء حكومة السودان 
الطرف عنه جائزة تقدمها الخرطوم للنظام الليبى الشقيق. ولكن الأمراستفحل باضفاء 
طابع عرقى/ سياسىء فمن ناحية نسب دبى نفسه وقبيلته الزغاوة للعرب» وصور صراعه 
مع غريمه حسين هبرى كصراع عربى أفريقى. فى ذات الوقت انحاز دبى إلى القبائل 
الرعوية المستعربة فى شمال دارفور (الجلول والمهره والعريقات) فى صراعها الوجودى مع 
القبائل الأصلية المستقرة فى مناطق السافانا (الفور المساليتء البرتى) . ذلك الصراع 
الوجودى كان نتاجاً مباشراً للتصحر الذى حمل الرعاة المستعربة جنوبآ إلى الأراضى 
الزراعية التى تقطنها القبائل الأصلية المستقرةء ولم تكن للسياسة يد فيه إلا بقدر ما أغفل 
الحاكمون صيانة الموارد الطبيعية لقلة وعيهم البيئى. وبصرف النظر عن أسبابه» قضى 
ذلك النزوح على الاقتصاد التكاملى الذى كان سائداً فى ظل نظام اقتصادى مغلق. داخل 
ذلك النظام كانت القبائل المستقرة غير العربية تقوم بالإنتاج الزراعى وبيع فائض ناتجها 
للرحل المستعربة» فى حين يقوم الأخيرون بنقل الناتج الزراعى للأسواق القريبة ومراكز 
التخزين فيها. ولكن» بسبب حماقات السياسة وانتهازيتها غير الواعية أخذ الصراع طابعآ 
عرقيأء وبدأ الرحالة المستعربة والسياسيون الذين يتعاطفون معهم يصورونه كصراع بين 
العرب والزرقا (الأفارقة السود) . فى ذلك الصراع انحاز الليبيون ل العرب برضاء تام من 
حكومة الصادق يومذاك. ولعل انتماء القبائل الرعوية للأنصارية» وانتماء أغلب المستقرين 
للتيجانية كان له أثرفى ذلك الرضاء والانحياز. وكما قلنا ليس من هم أكثر قدرة على 


754 


تدمير بلادهم من كل حكام العالم» غير حكام السودان. هذا الصراع لم تخف حدته مطلقاً 
بعد مجىء الجبهة» بل زاد اشتعالاً فيما أخذ يعرف فى بيانات الحكومة ب النهب المسلح. 

فى الجنوب أصبحت الصراعات بين الميليشيات القبلية (البقارة والمسيرية ضد الدينكا) » 
وكذلك بين الحركة والميليشيات الجنوبية التى خلقها النظام (النوير ضد الدينكا) عنصراً 
هاما فى الحرب» وكانت الآثار الموجعة للصراع الأخير أوضح ما تكون فى منطقة بحر 
الغزال. تلك الصراعات اتخذت أشكالاً عديدة شملت القتل» ونهب الممتلكات» والاختطاف 
القسرى للأطفال والنساء مما عكس العنصرية فى أبشع صورها. كما سهل من إشعال 
الصراع القبلى فى الجنوب (النوير ضد الدينكا) الطموح المشروع وغير المشروع لبعض 
الساسة الجنوبيين» والذين لم يكونوا يأبهون» وصولاً للسلطة؛ من السير فوق أجداث أهليهم. 
مما جعل منهم مطايا هينة المصعد لنظام ما فتئ يفرق ليسود. وبالرغم من أن الجنوبيين 
كثيراً ما ينظرون إلى أنفسهم, أو ينظر المعلقون إليهمء كجسم واحد بغرض تيسير التحليل» 
إلا ان بين النخب فى الجنوب تميزات وتحيزات كثيرة»ء كما بين أهل الجنوب نفسه من 
انقسامات ذات طابع أساسى ((8:7006012) مثل الانتساب القبلى وصلات النسب .(؟') تلك 
التحيزات وصلات النسب قلما كانت تقود فى الماضى إلى مواجهات مسلحةء ولكن بحلول 
عام 119١‏ أخذت الحركة الشعبية تعانى من انقسامات داخلية حادة نتج عنها انشقاق 
الحركة إلى تيارينء التيار الرئيس الغالب بقيادة جون قرنق من ناحية» وتيار آخر يقوده 
رياك مشار ولام اكول؛ من ناحية أخرى. ففى الثامن والعشرين من أغسطس عام 199١‏ 
أعلن رياك مشار فى مدينة الناصر أنه أطاح بقرنق من قيادة الحركة» ووقع معه على 
البيان الأول للانقلابء لام اكولء والقائد جوردون كونق. فى ذلك البيان برر الثلاثة 
انقلابهم على قرنق بالأسباب التالية: 


١‏ افتقاد الحركة إلى الديموقراطية. 


١‏ - ضرورة توجيه النضال للحصول على حق تقرير المصير تمهيداً للانفصالء بدلا 
من القتال من أجل خلق سودان جديد موحد. 


٠‏ - انتهاك الحركة لحقوق الإنسانء وفقدانها للبنى المؤسسية 


1355 


النقد الذى وجهه مشار لم يكن كله عاريا عن الحقيقة» ففى غمار وحشية الحرب التى 
تقودها الحركة ضد عدو قاس لا يقف عند حد فى حربه؛ ما كانت الحركة لتستطيع؛ فى 
معظم الأحيان» أن تجعل من نفسها مثالاً فى الديموقراطية واحترام الحريات الفردية . كما 
مما لا شك فيه أن بعض القيادات الميدانية للحركة ارتكبت أخطاء جسيمة ضد المواطنين» 
وفى أكثر من حالة أشارت منظمة العفو الدولية وبعض منظمات حقوق الإنسان لتلك 
الانتهاكات. وكان رد الحركة دوما على تلك التجاوزات: نعم هناك انتهاكات تقوم بها 
قيادات ميدانية خارجة على القانون» ولكنها يجب أن لا توضع فى ميزان واحد مع 
الانتهاكات البنيوية ([0053نه]5) ألتى ترتكبها الحكومة؛ كما أنه متى اكتشفت هذه 
المخالفات» يتلقى مجترحوها عقاباً صارماً على ما جنوه . فالحركة التى تعيش وسط الناس 
كالسمك فى البحر لا يمكن لهاء ولا تستطيع» أن تجعل سياسة لهاء انتهاك حقوق الذين لا 
حياة لها بدونهم. وعلى كل» فكما يحدث دائماء كانت المحنة منبعاً للقوة والتجددء ولربما 
كانت النقطة الثالكة فى بيان مشار وصحبه جرساً للإيقاظ. 

مهما كان الحالء عانى أهل الجنوب من القتال الضارى بين جناحى الحركة بصورة لا 
تقل ضراوة عما عانوا خلال الحرب مع نظام الخرطوم. ففى الفترة من أكتوبر إلى نوفمير 
من عام الانقلاب هاجم رجال قبيلة النوير (أنصار مشار) الذين سخرهم لمعونة الجيش 
الحكومى منطقتى بور و كونجورء (من مناطق الدينكا) وأجبروا ٠٠٠,٠٠١‏ من السكان على 
الفرار» تاركين وراءهم 0٠,٠٠١‏ رأس من الماشية التى كانوا يملكون.(') وكانت 
الخرطوم منتشية بذلك الصراعء بل اندفعت تزيد الحريق حطبآء بالرغم مما كان للانقسام 
داخل الحركة الشعبية من أثر على عملية السلامء إذ لم يعد الصراع صراعاً بين طرفين بل 
أصبح يدور فى ثلاثة محاور. بيد أن مشار أخطأ فى وصف تمرده بالانقلاب» فقرنق لم 
يكن حاكماً يدير المنطقة التى يسيطر عليها من عاصمة:. والحركة ليست حكومة ممأسسة 
تشل إذاعتها ومفاصل الحكم فيهاء فيسيطر المؤامرون على الحكم. لم يحدث شىء من هذاء 
بل اجتمع قرنق مع قياداته فى ظل غابة وارفة استأسد نباتها لتقويم الموقف. انعقد 
الاجتماع خارج توريت فى الفترة من إلى ١١‏ سبتمبر١5131١؛:‏ وحضره عشرةٍ من قواد 


256 


الحركة ليؤيدوا قيادتهم التاريضية» كما اتخذوا ثمانية عشر قراراً غطت باقة من 
الموضوعات. من تلك الموضوعات مبادرات السلام القائمة» دور الحركة الشعبية فى 
التجمع الوطنىء الإدارة المدنية للمناطق المحررة» الاقتصادء السياسة الخارجية» عمليات 
الإغاثة الإنسانية» التوجه الفكرى للحركة» قواعد السلوك بالنسبة للمحاريين» حقوق الإنسان 
والحريات المدنيةء قضايا الجنوسة (8685067)» حماية الحياة البرية والبيئية. ووفقاً لتلك 
القرارات أنشئت بنيات إدارية جديدة للمناطق المحررة عرفت باسم السلطة المدنية للسودان 
الجديد (24105) 5دلن5 ماع31 عط عه؟ '(نرمطاناخ 1011©. وكان من رأى قرنق أن استخدام 
تعبير سلطة» بدلا من "حكومة لا يقير أحدأء لأن المصطلح الثانى قد يوحى بأن الجنوب 
مقدم على الانقصال. أعقبت اجتماع توريت سلسلة من الاجتماعات كان الهدف منها 
وضع أطر جديدة لإدارة المناطق؛ على رأسها: 

تحويل الجيش الشعبى من جيش يعيش على الأرض إلى جيش يسهم فى الإنتاج مع 
المجتمع الذى يقاتل من أجله. 

© تغيير بنيات الإدارة والحكم من جذورها لتحقيق ذلك. 

« غرس وعى أكبر بحقوق وحريات الفرد فى كل مستويات الحركة. 

© عقد مؤتمر جامع للحركة الشعبية. 

© عقد مؤتمر عن دور المجتمع المدنى. 

وبالفعلء تم انعقاد المؤتمر الجامع للحركة فى شقدم (من ” إلى ١4‏ أبريل/ نيسان 
15 )»). كما انعقد مؤتمر منظمات المجتمع المدنى فى أبريل/ مايو"15١‏ بهدف بتاء 
القدرات الذاتية لهذه التنظيمات لكيما تتمكن من خلق وعى شعبى بدور الرقابة الشعبية على 
المحيط العام» حتى فى مرحلة الحرب. وفى مرحلة لاحقة اكتملت الحلقة بعقد مؤتمر 
لتطوير الاقتصاد فى المناطق المحررة باعتبار أن البناء الاقتصادى يجب أن يصبح واحدآ 
من واجبات الحركة فى مرحلة التحرير. (؟') هذه هى الجوانب الإيجابية فى حركة مشار. 

بالرغم من أن حركة مشار كانت بمثابة جرس الإيقاظء إلا أن هذا لايعكس المبررات 
الحقيقية للانقلاب» فدعاوى الديموقراطية كانت أيضاً قناعاً للتعطش للسلطة . كانت 


37خ 


المجموعة الانقلابية تلعب على وتر حساس لدى المنظمات الطوعية التى تازرت معهاء 
وكان لذلك التآزر دوافعه. فبعض المنظمات الطوعية العاملة فى الجنوب لم تعد تخفى 
بغضها لقرنق لأسباب لا صلة لها بمنهجه "غير الديموقراطى فى الإدارة» أو بسبب 
انتهاكات بعض القادة الميدانيين لحقوق الإنسان. خلاف تلك المنظمات مع قرنق لم يكن 
بسبب تلك التهم المزجاة» وإنما لرفضه للأجندة السياسية التى سعت لحمله عليها: الكف عن 
الحديث عن السودان الجديد الموحدء وتركيز جهده على تحرير الجنوب من الشمال؛ أى 
فصله عنه. وقد وجدت تلك المنظمات فى المؤامرين ضالتهاء لاسيما وقد أصبح شعار 
الانفصال عقيدة سياسية لبعضهم. ففى رأى تلك المنظمات أن الشمال شمالء والجنوب 
جنوبء ومن المستحيل عليهما أن يتلاقيا. المتصلب قرنق لم ينصع للأمر كما أرادواء وكان 
هذا سبباً كافياً لكيما تتعاون هذه المنظمات مع الشيطان» إن دعا الحال» على إزالته . وقد 
حولت واحدة من هذه المنظمات العمل الإنسانى فى جنوب السودان إلى صناعة سياسية» 
بل على وجه الدقة إلى صناعة أكواخ (550ناله1 001386)» هدفها الوحيد هو الإطاحة 
بقرنق. فحتى بعد انهيار انقلاب مشار عملت هذه المنظمة الهامشية التى يترأسها أليكس 
دى فال جاهدة على تمزيق أوصال الحركة بالسعى لإبرام تحالف بين قائد منطقة جبال 
النوبة (المرحوم يوسف كوه مكى) ومالك حقارء قائد منطقة جنوب النيل الأزرق (وكلاهما 
من قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان)» ولام اكول؛ أحد المتمردين على قرنقء بالرغم 
من انضمام الأخير لحكومة البشير. وكانت تلك المنظمة الهامشية تمنى الجميع بتأييد ذولى 
حاشدء هى قادرة على تعبكته؛ إن أعانوها فى القضاء على هيمنة قرنق السياسية. تلك 
المنظمة اندفعت أيضأاً إلى تضخيم التجاوزات فى بعض ممارسات القادة الميدانيين وإلحاقها 
بانتهاكات النظام لحقوق الإنسان. وبالتأكيد لا ينكر أحد وقوع تجاوزات (بعضها خطير) من 
جانب القادة والمحاربين» وكما قلناء ظلت المنظمات غير الحكومية التى ترعى حقوق 
الإنسان دون أى هدف ذاتى أو سياسى تلفت الأنظار لتلك الانتهاكات دون اللجوء إلى 
مقاربتها أخلاقياً مع الانتهاكات البنيوية التى تمارسها الحكومة. فمثلاً أوردت لجنة 
الولايات المتحدة الخاصة بالحريات الدينية الدولية أنه برغم أن الجيش الشعبى قد قام 


38 


بارتكاب بعض الفظائعء إلا أنه من الخطأ الفادح القول أن هناك تناظراً أخلاقياً بين فداحة 
الانتهاكات الإنسانية التى تمارسها الحكومة» وتلك التى يمارسها الجيش الشعبى.(5') 

فشل الانقلابيين فى التأثير على قواعد الحركة وقياداتهاء وعجز المؤامرين معهم عن 
تفتيت تفتيت الحركة بعزل العناصر غير الجدوبية منها (النوبة والأنقسنا) » » يجانب بطلان دعاواهم 
0 ة على تعبئة الرأى العام العالمى وراء الانقلاب» لم يبق للانقلابين غير واحد من 
خيارين : العودة إلى الحركة: أو الانحياز للنظام. فبحلول عام ١114‏ (مؤتمر توريت) لم 
تكن هناك أية فروق نظرية جوهرية بين الحركة الشعبية والمنقلبين عليها. ففى ذلك المؤتمر 
أكدت الحركة موقفها حول وحدة السودان على أسس جديدة: إلا أن المؤتمر أوصى أيضآ 
بأن يكون تحقيق ذلك الهدف طوعاً عبر ممارسة حق تقرير المصير. كما عزز المؤتمر 
التزام الحركة الشعبية بمبادئ التجمع الوطنى وحثها على العمل بفعالية فى صفوفه . ولا 
شك فى أن الإشارة لحق تقرير المصير قد قصد منها تهدئة خواطر الانفصاليين الذين 
خدعهم الانقلابيون بأمرين : ابتعاد الحركة عن الاهتمامات الأصلية للجنوبء والإدعاء بأن 
تعاونها مع الأحزاب التقليدية الشمالية تعاون مشبوه لأن تلك الأحزاب» وفقآأ لرأى 
الانقلابيين» لا تختلف كثيراً عن الجبهة الإسلامية. إلى جانب تهدئة الخواطر. أوضحت 
الحركة بما لايدع مجالاً للشك أنها أولاً لم تتخل عن المطالب الأصلية لأهل الجنوب. وثانياً 
لا ترى وجهاً للمقارنة بين الأحزاب والحكومة فى هذه المرحلة. فالحكومة القائمة» حسب 
رأى الحركةءهى التى تراوغ اليوم للحيلولة دون تحقيق الحقوق الشرعية للجنوبء كما أن 
الحرب التى تخوضها الحركة ضد تلك الحكومة 8 حرباً أيديولوجية بقدر ماهى حرب 
سياسية ضد نظام مهيمن. انطلاقاً من هذا الفهم دعت الحركة كل من يدعو لتوحيد 
السودان» تماماً مثل من يدعو لانفصال الجنوبء لتركيز الصراع على ذلك النظام المهيمن. 

ريما يعتقد البعض بعد هذا الوضوح فى موقفى الفريقين أن الفتق لن يعجز الراقع» 
ولكن اللقاءات التى تمت بينهما فيما بعد عبر الوسطاء عززت الانطباع بأن مصدر الخلاف 
هو قيادة الحركة والجيش الشعبى. كان فى ظن مشار أنه الأصلح للقيادة» وقد أملى عليه هذا 
الإيمان بقدراته الفائقة القول للسفير الأمريكى بالخرطوم بأن الفريقين لن يتحدا إلا بموته أو 


39 


بموت قرنق. مع هذاء ظلت قيادة الحركة تسعى للتوحيد بين الطرفين خشية من التداعيات 
القباية للصراع. وفى هذا الشأن دعا بعض الوسطاء إلى اتفاق سلمى يبقى بمقتضاه قرنق 
كزعيم للحركة» فى حين يصبح مشار نائباً له وربما لو تحققت هذه التسوية لرضى بها 
مشارء دون أن يكون الحل على حساب جتثته الميتة أو جثة قرنق. إلا أن أغلبية قيادات 
الحركة كان لها رأى آخر فى تلك التسوية» رأت فيها مكافأة للعصيان مما سيؤثر سلب على 
الانضباط وسط الجيش الشعبى. إزاء هذا أعلن مشار أن قبيلة النوير التى ينتمى إليها (وليس 
حركته السياسية الديموقراطية) تفضل التحالف مع الجبهة الإسلامية على البقاء فى حركة 
معارصة يقودها غيره . 

بوجه عام ألقت تلك الأزمة ظلالاً كثيفة» ليس فقط على قضية الجنوب وإنما على 
قضية الديموقراطية فى السودان كله. فمن ناحية» أصبح الجنوب بيتاً منقسماً على نفسه. 
مما أعطى الجبهة الإسلامية فرصة العمر لتنفيذ مخططها لتفتيت قوى الجنوبء ليس فقط 
بهدف هزيمتهاء وإنما أيضأ لإضعاف مصداقيتها السياسية والدبلوماسية. والعامل الأخير 
كان يؤرق بال النظام» خاصة بعد إفلاح الحركة فى وضع قضية الجنوب على خارطة 
الاهتمام الإقليمى والدولى بصورة بارزة. على الجانب الآخرء كرس مشارء نصير 
الديموقراطية والتجديد» جهده لإشعال نار العداء القبلى ضد الدينكا فى محاولة منه لتقوية 
مركزه كقائد للنوير. وهكذا أطلق مشار من القمقم المارد القبلى» الخطر الماثل دوماً والذى ما 
انفك البعض يسترجعه مراراً للتأكيد على أن مصير الجنوب هو التشظى فى دويلات 
صغيرة. ويقدر المراقبون عدد ضحايا تلك الحرب القبلية المفتعلة بعشرين ألف قتيل من 
المدنيين. 

كان للصراع القبلى الدامى أيضاً أثر بالغ على المجتمع الدولى العريض الذى كان يولى 
قضية الجنوب رعاية لا تنكرء إذ أخذ لا يرى فى الصراع إلا الفقدلن الكامل للجدية وانعدام 
الإرادة للتوحد بين قوم يجمع بينهم هدف مشترك. على ذلك الرأى ترتب فى أذهان أولئك 
المناصرين سؤال: إن لم تكن الحركة الشعبية قادرة على توحيد صفوفها لمحاربية عدو 
مشتركء فكيف يمكن لها أن تكون بديلاً مقبولاً ؟ وإزاء التأبى من جانب مشار بدأ خطر 


200 


يلوح فى الأفق. : استعانة أحد الطرفين بالعدو المشترك لكى يهزم الطرف الآخر. ولكن؛ حين 
ظل قرنق كدق فى ذلك العدو المشترك وجهاً لوجه (1لهطعلزء 0 !/ه5علاء) دون أن ترمش 
له عين» طرفت عينا مشارء فوقع فى إسار الجبهة. التعاون بينه وبين الجبهة»ء فى البدء. 
كان تعاوناً خفيآء ولكن سرعان ما انكشف الغطاءء وأصبحت ميليشيات النوير التى يقودها 
مشار جزءا لا يتجزأ من جيش النظام. وبصرف النظر عن الاتصالات الدبلوماسية 
ومحادثات السلام المزعومة مثل محادثات فرانكفورت7'')؛ صار مشار قائداً لحرب 
بالوكالة عن النظام ضد الحركة الشعبية. وما أن حل عام 1556»: حتى أصبح المصدر 
الأساس لتغذية قواته بالسلاح هو رئاسة الجيش السودانى فى ملكال. 

وبما أن الاستسلام الصريح للجبهة الإسلامية نوع من الانتحار السياسى؛ كان لابد من 
تزفيرغطاء سياس للعملية يمكن مغنار من حغظ ماء وجهه؛ كى ذات الوقت الذى تحافظ 
فيه الجبهة الإسلامية على ثوابتها حول الدين والدولة ووحدة السودان» خاصة وقد بلغ 
النظام؛ فى تلك اللحظة» أقصى درجات الاطمئنان إلى سياساته والثقة من نفسه. ولم لا 
يتظنى هذاء وقد أفلح فى خلق شرخ كبير فى جدار الحركة» وتجنيد ساسة جنوبيين ذوى 
نفوذ فى صفوفهء وإقامة سلام خال من المضمون وإن كان فيه مايرضى طموح ذوى 
الحاجات. مبادرات السلام من الداخل التى شرع فيها النظام كانت ثمرة لهذه الثقة وذلك 
الاطمئنان. وإن نظرنا لتلك المبادرات من خلال هذه العدسة لاتضحت لنا هشاشتها 
وروغانها. ومن المثير أن سقوط مشار فى فخ الجبهة جاء بعد إعلان هام فى 7 أكتوير 
9 أكد فيه أن لا تعاون بينه وبينها. كان ذلك الإعلان فى لقاء جمع بينه وبين قرنق 
فى مكتب الكونقرسمان؛ هارى جونستنء رئيس اللجنة الأفريقية الفرعية فى مجلس التواب 
الأمريكى. فى ذلك اللقاء اتفق الزعيمان على: حق تقرير المصير لأهالى الجنوب وجبال 
النوبة وجنوب النيل الأزرق الجنوبى» وإيقاف الصراع بين الفريقين» ومعارضة سياسات 
الجبهة الإسلامية أوأى نظام يحل محله وينكر حق الجنوب فى تقرير مصيره .("') تلك 
المبادئ اتفق عليها الطرفان دون أن يوقعا على الوثيقة لسبب فنى» إذ رفض قرنق إطلاق 
مؤلفى مسودة الاتفاق على الحركة التى يقودها اسم التيار الرئيسى للحركة الشعبية لتحرير 


76 


السودان (1433105)56310 ,58131)» فى حين أطلقوا على حركة مشار اسم الحركة الشعبية 
المتحدة (101160] ,551.86)» فبالنسبة لقرنق لم تكن هناك إلا حركة شعبية واحدة. وعلى 
أىء لم تعد الأسماء ذات أهمية بعد أن أعلن مشار اسماً جديداً لحزبه» وعقيدة جديدة له: 
حركة استقلال جنوب السودان والجيش التابع لهاءءم0ء00ءم1006 مدلت5 ممعذااناه5) 
(5511//4 ,لادك / 8407606 فى حين احتفظ لام اكول باسم "الحركة الشعبية المتحدة 
لتحرير السودان (521.14/1101160)لتنظيمهء دون تنازل عن المطلب الأساس للانقلابيين: 
انفصال الجنوب. 

لا شك فى أن مال أى حركة سياسية تفتقد المبدأ وتعوزها الإستراتيجية الهادية هو 
التفسخ» لهذا سرعان ما وقع طلاق بين مشار ولام اكول. فرغم عقيدتهما الانفصالية 
الجديدة» انتهى الأمر بمشار كمحارب بجانب جيش النظام؛ كما أصبح لام وزيراً فى دولة 
السودان الدينية» عقب اتفاق صلح تم فى فشوده لإنقاذ ماء الوجه مرة أخرى. ذلك 
الاجتماع شهده الرثء الزعيم القبلى لقبيلة الشلك التى ينتمى لها لام» وجاء انضمامه للنظام 
بعد فترة تيه قصيرة كاد أن يكون فيها وحدوياً فى الأيام الفردية» وانفصالياً فى الأيام 
الزوجية . فعلى سبيل المثال» أعلن لام لجريدة أسبوعية أفريقية فى مارس ١1917‏ أن الحركة 
الشعبية المتحدة تدعو لممارسة الجنوب لحق تقرير المصيرء لأن من حق الجنوب أن يقرر 
إن كان راغباً فى الوحدة أم فى الانفصال. ("') ولريما كان لام اكول مدركاً تماماً أن 
قرارات توريت قد سحبت البساط من تحت قدميه» ولهذا سارع مع التوريتيين لإرضاء 
جمهور قلق. ولكن؛ فى مفارقة واضحة مع ذلك الموقف. سعى اكول جاهداً قبل عامين من 
ذلك التصريح إلى الانضمام إلى التجمع الوطنىء وابلغ قائده» الميرغنى بتلك الرغبة فى 
لندن:(؟') وحسب رواية الميرغنى أكد لام أنه يقف قلبأ وقالباً مع وحدة السودان. 

المأساة الكبرى التى حاقت بمشار ولام تكمن فى مبالغتهما فى الاتهامات التى وجهاها 
للحركة؛ كما فى تقاعسهما عن المضى بأطروحاتهما إلى حيث ينبغى أن تقود منطقياً. فبعد 
أن ذهبا إلى تضخيم السلبيات المفترضة فى قرنقء متجاهلين كل إيجابياته» صاغا تنظيمآ 
هو نسخة طبق الأصل من صيغة الحركة والجيش الشعبى. حاكى مشار النموذج التنظيمى 


1602 


للحركة التى ظل فيها البعد السياسى أداة للبعد العسكرى حتى اجتماع توريت. وقد كان هذا 
أكثر الجوانب التنظيمية عرضة للنقد من بين كل وجوه التنظيم فى الحركة:» ولولا غلبة 
العسكرية على السياسة لما تمكن الرجلان من إعلان العصيان على الحركة . كان بمقدورهما 
الفوز بغنائم سياسية أكثر فى الجنوب (باعتبار أن الجنوب» فيما زعماء هو محل اهتمامهما 
الأول) إن استطاعا فصل الجيش عن السياسة» حتى ولولم يذهبا إلى مدى إخضاعه التام 
للسلطة المدنية كما هو سائد فى الأنظمة الديموقراطية. هذا بالطبع أمر عسير المنال فى 
كنف حركة للتحريرء المحاربون فيها بداهة ساسة يحملون السلاح؛ رغم تصويرهما لقرنق 
كعسكرى فحسب. فالعقيد قرنق هو أيضاً الدكتور قرنق؛ ولعله سخر ذلك اللقب العلمى فى 
إجلاء أفكاره على العالمين مما جعله يدحت للحركة موقعاً بارزأ على الساحات الوطنية 
والإقليمية والدولية يصورة أفضل من تلك التى سعى بها دكاترة الحركة الآخرون لاحتلال 
موقع لهم تحت الشمس فى الساحات الثلاث. وعلى الصعيد التنظيمى لم يكتف مشار ولام 
بتبنى نموذج الحركة الذى أداناه» بل أشادا طائرة ذات جناحين ومحرك واحد (عسكرى)» 
لها الجتاح:القاقى .فد زوه بمحرك.زهمى تتسيلق تلخصن: فى 'شغارات + النترقراطية: 
احترام حقوق الإنسان» ومثل هذه الطائرة مالها السقوط مهما كانت قدرات ملاحيها. وإن 
كان قرنق قد جعل نفسه عرضة للانتقاد بسبب تبنيه لذلك المنهج حتى اجتماعات توريت» 
إلا أنه تمتع بمزيتين» الأولى هى نجاحاته العسكرية والتى كانت دوماً تخرس خصومه فى 
الداخل والخارجء والثانية هى قدرته على الإبداع والابتكار والاستماع الصبور للنقد 
وامتصاص الغضب. 

إن نظرنا للأمر من جانب آخرء نقول أنه ليس بمقدور أحدء حتى ألد الأعداء» أن يتكر 
صلابة قرنق فى نضاله ومهارته فى تلقين الممترين من حكام الخرطوم دروساً أليمة. 
أحببته أو لم تحببه سواء» ظل قرنق دائماً ثابتاً على مبدئه لا يحيد. يقول البعض إن الرجل 
مثير للريبة» ولكن ربما يكون الوصف الأفضل هو تكتمه على تكتيكاته؛ فإستراتيجيته 
واضحة. هذا أمرلا يستبدعه من يعرف أن السياسى الوطنى جنوبى الأصل يتفاعل مع 
ساسة لم يفوا فى الماضى أبداً بوعودهم, أو يعترف بأنه يتعاطى فى الحاضرء مع نظام ما 


103 


انفك منذ بداياته يسبح فى الأكاذيب. ولا شك فى أن لأى رجل يستقيم على مبدئه على 
هذا الوجهء تصور متكامل لنهاية اللعبة. ولوكان مشار وصحبه يؤمنون حقاً بمقالاتهم عن 
أن الشمال ككل يمثل عدواً للجنوب كله لذهبوا إلى استغلال الإمكانات المتاحة لهم فى 
قواعدهم الجنوبية» إذ ليس فى مقدورهم الادعاء أنهم كانوا يفتقرون إلى الفضاء السياسى 
الذى يتحركون فيه. فالذى يريد أن يحارب الشمالء لا يحاريه من العمارات بالخرطوم» 
والذى يريد استئصال قرنق لن يفلح فى استكصاله من مبنى النادى الكاثوليكى (سابقا) 
بالخرطوم والذى أصبح مقراً للحزب الحاكم بعد أسلمته» أى بعد إزالة الصليب من واجهته. 
كان فى مقدورهما استخدام قوتهما العسكرية فى الفترة ما بين أغسطس وديسمبر ١15١‏ 
ضد الحاميات الحكومية فى أعالى النيل» لوفعلا لريما نجحا فى أسر قلوب الكثيرين فى 
الجنوب. عوضاً عن هذا لاذا بحمى هذه الحاميات لمواصلة الحرب ضد إخوتهم الجنوبيين. 
هذه هى العوامل التى نزعت عن الانقلابيين أهليتهم كمحررين للجنوب إلى جانب تكاثر 
الأدلة على تعاونهما العسكرى مع النظام» ومشاركتهما إياه المذابح التى ارتكبت فى 
جونقلى» ومنحهما الجيش معبراً لإقصاء الجيش الشعبى من شرق الاستوائية» إلى أن عاد 
اليها باحتلال كابويتا فى الأسبوع الثانى من عام ,؟١٠٠‏ 

لم يكن الانقلابيون وحدهمء هم الغاضبون على مناهج الإدارة فى الحركة؛ء قأهل 
الاستوائية أيضاً لم يكونوا على حماس كبير لها فى البداية» بالرغم من أن أمينها العام واحد 
من أبرزهم (جميز وانى) . وكان لفقدان الحماس هذا أسباب بعضها وهمى يردده الساسة 
المحترفون منهم عن هيمنة الدينكا على الجنوبء» وهذا موضوع تناولناه بتفصيل فى الفصل 
الخامس. مع ذلكء تبدل الحال بصورة لا تتفق مع هوى الانقلابيين» إذ أخذ الاستوائيون 
يرون فى قائد الحركة مدافعاً صلبأ عن المصالح الجنوبية» فتدافعوا نحوها. وهكذاء أعان 
الانقلابيون بمسلكهم المريب على ضخ دماء جديدة للحركة زادتها قوة وحيوية. إلى هذه 
النتيجة توصل أيضاً قواد جيش مشار ورجاله؛ وعلى رأسهم تعبان دينق قاىء القائد الذى 
كان يلى مشار مباشرة فى الهرم العسكرى. ففى أواخر مايو١٠٠7»‏ وقع تعبان» نيابة عن 
حركة استقلال جنوب السودان» مع جستن ياج أروبء نيابة عن الحركة» اتفاقاً تم بمقتضاه 
صهر الجيشين وتوحيد الحركتين. 


764 


أفنى مشار الذكى أيضأ الميراث الدبلوماسى الضخم الذى حصل عليه فى عام ,١11357‏ إِذ 
حشدت زوجته الراحلة ايما ماكون 1856© 384 1510133 عدداً من المنظمات الطوعية وراءه» 
أياً كانت الأسباب التى حركتهاء كما لقى دعماً كبيراً من الكنيسة البروتستانتية فى الولايات 
المتحدة» والتى كانت على استعداد لتمويل وتعزيز جدول أعماله فى الخارج. ووقف أيضآً 
بجانبه كل من المتحدث الرسمى باسم الحركة فى لندن (جون لوك جوك)» والمتحدث 
باسمها فى واشنطن (بول انادى) بعد أن ظنا خيراً به وصدقا دعاواه التجديدية. لم يقفا 
على الحياد كما فعل مثقفون جنوبيون انتهازيون فى انتظار استقرار سحابة الغبار حتى 
يقرروا إلى أى الجانبين يلقون بثقلهم. بتلك المجموعة من الأنصار الصادقين»: وذلك القدر 
من الدعم كان بإمكان مشار وصاحبه هدم الأسوار التى أنشأتها الحركة فى الغرب . ولكن» 
ما أن أصبح مشار فى قارب واحد مع نظام البشيرء حتى ذهبت كافة مكاسبه الدبلوماسية 
أدراج الرياح. لهذا من الصعوبة بمكان فهم الدوافع التى جعلت اثنين من الجنوبيين الذين 
حازوا درجة عالية من التعليم» وينتمون إلى طبقة المفكرين الجدد فى الجنوبء إلى 
التصرف بدرجة أسوأ بكثير مما فعل الانتهازيون الجنوبيون الذين إنضموا إلى النظام منذ 
البداية. نعرف جيداً أن التعليم وحده ليس مصدراً للحكمة:ء أو حافزاً على الوعى الوطتىء 
ولكن أقل قدر منه ينبغى أن يعزز الفطرة السليمة والحكم الصائب . فإن لم يحقق التعليم هذاء 
يصبح التساؤل واجباً عن مدى قيمته . ولعلنا لا نظلم المتقّفين الجنوبيين» فلهم نظراء فى 
ساسة الشمال أبرزنا صوراً من سياساتهم السقيمة رغم تعليمهم الغربى الرفيع . 

تلك الفترة المأسوية من تاريخ الحركة عالجها الدكتور لام فى كتابه الذى وردت الإشارة 
إليه فى الفصل السادس. ورغم أن الكتاب احتوى على مجموعة كبيرة من وثائق الحركة 
العملياتية التى وقعت فى يده وأجلاها فى كتابه» ظناً منه أنها تعطى الكتاب مصداقية فى 
نظر من لا يلم بدخائل الحركة» إلا أن تلك الوثائق لم تدعم بأى وجه الأحكام والاستنتاجات 
التى توصل إليها. ونشكر للصديق لام إهداءه الكتاب لناء ونحسب أنه يتوقع منا إبداء الرأى 
فيهء وهذا ما سنفعلء بل نتولج فى الآمر بلا تهيب ولا شفقة» وسيبقى الود ما بقى الإخاء. 
وقد حظى الكتاب مؤخراً بتعليق فاصل قاطع من الدكتور عبد الله على إبراهيم» خاصة وقد 


1605 


رأى فيهء كما قالء فكرأ قسيماً وعاطفة رحيمة.('") قرأنا ما كتبه عبدالله وأرصن سبكه 
بأسلوب قليل القطيع» وليت الكاتب البريع لم يأخذ كل ما أورده «لام؛ كمسلمات ينقاد لهاء 
ويتوغل فى ابتناء الأحكام عليهاء لولم يفعل» لكان بين ذلك قواماً. 

فى البدء نعيب على الكاتب جعله كتابه كله عريصة اتهام انتقامية (107أ11201) ضد 
فرنق؛ وكأن لبس للرجل من امل واحدة امدجية . كان الأحرى به أن لا يدع الغواية 
الانتقامية تستقر فى نفسه؛ ثم تبيض وتفرخ. . من هذا الفكر القسيم سنطرح جانباً كل 
"الحقائق التى أوردها لام حول نشأة الحركة والصراعات التى دارت فى داخلها ولعب فيها 
قرنق» حسب رأى لام» دوماً دور الشرير. حقائق لام حول تلك المرحلة التى لم يعشها ولم 
نعشها تعتمد على روايات سمعية (ا16353)تبطل إن لم يسندها دليلء وتصح إن دعمتها 
أسانيد. ولتواتر هذه الروايات (دوماً من المضطغنين شيئاً على زعيم الحركة) كان لوفد 
الحركة فى ماشاكوس موقف شجاع طالب فيه بإنشاء لجنة للحقيقة والتصالح سنعود إلى 
أمرها فى الموقع المناسب من هذا الفصل. إلا أن هناك قضية واحدة نمكث عندها قليلاً هى 
نفى لام لأى نسبة لقرنق بالحركة عند منشئها لأنه» كما قال» كان من اللاحقين, لا 
السابقين فى ساحة الوغىء إذ لم يبحضر معركة توريت ضد الجيش عام ١187‏ وهى 
المعركة المؤسسة للحركة الشعبية. ولعل لام الباحث لم يستذكر أن الحركة لم تبدأ فى 
توريت؛ رغم أن معركة توريت كانت هى الشرارة التى اندلع منها العصيان والتمرد. فقبل 
توريت كان للحركة تنظيم» على المستوى التخطيطىء داخل السودان عقب الغاء نميرى 
لاتفاق أديس أباباء ولم يكن قرنق الرجل الأول فيه . فقيادة الحركة فى الداخل كان يتولاها 
ثلاثة عسكريون رابعهم قرنق: الثلاثة على التوالى هم البينو أكول أكول؛ بيتر شيريلوء 
ادوارد بيتر ايزارا. وعندما تهيأت الظروف للانتفاضة» تخلف ثلاثتهم وكان قرنق هو 
الوحيد الذى شد الرحال إلى الجنوب. 

من هذه النقطة العابرة حول مسعى الكاتب لتجريد قائد الحركة من دوره التاريخى» 
نذهب إلى بعض أحكام لام التى تتهافت كبيت من الكرتون؛ إن تعرضت لتحليل فاحص. 
تلك الأحكام نحصرها فى قضايا أربع أوردها لام وأخذها المعلق الأريب كمسلمات دون 
امتحانها على ضوء حقائق أخرى مبسوطة على العالمين: فقدان قرنق لأجندة للسلام» عدم 


766 


اكترائه بجيشه وقصره الاهتمام على الكتائب التى تحميه» وفقدان الحركة للديموقراطية 
الداخلية» وأخيراً ما أضافه المعلق» فى معرض إطرائه على كتاب لام» عجز عرب الحركة ‏ 
هكذا ‏ من إجالة النظر فى ديموقراطيتها دفعآ لما يقوله خصومها. 

نبدأ بالحديث عن أجندة السلام التى لا يمتلكها قرنق لأنه» كما قال الكاتب ونقل المعلق» 
«يريدها حرباً أهلية لا تبقى ولا تذر ولن يجنح للسلم أبدأ.. فلا هوء كما زعم الكاتب» راغب 
فى الاتفاق مع النقابات» ولا هو عازم عليه مع الأحزاب. يتساءل المرء عم يدفع رجلا 
منحه الله عقلاًء وحباه بقدرات تؤهله لأن يحيا حياة رغيدة داخل السودان أو خارجه؛ أن 
يفطس (يموت فطيس) بلا مبرر. أوليس فى مقدور هذا الرجل أن يصبح نائباً أو مساعداً 
للرئيس» كما أصبح غيره ممن تورمت جسومهم من غير داء؟ أولم يكن فى استطاعته. 
بحكم ما يملك من مؤهلات وعلائق» أن يجد لنفسه مخرجاً فى الجامعات والمنظمات 
الدولية» كما فتح الله على غيرهء وهو خير الفاتحين؟ أولم يكن فى حيز الإمكان أن يصبح 
رجلا ذا مال وفير فى دولة لا تجيد غير القمع والرشاء؟ لماذاء إذأء لا يريد هؤلاء أن يصدقوا 
أن الرجل لا يعانى من مرض نفسانى يدفعه دفعاً إلى الموت بلا غاية» بل هو صاحب مبدأ 
لا يبالى إن مات دونه؟ مبلغ الظن أن الرجلء بقلبه لجميع المناضدء جعل الكثيرين 
يتغيظون منه غيظاً له زفير. ولكن ما بال لام أكول الذى شهد اجتماع كوكا دام كعضو فى 
وفد التجمع» وترأس أغلب مفاوضات الحركة منذ النصف الثانى من الثمانينيات» وشارك 
فى اجتماعات أبوجاء يذهب إلى هذا الإرجاف؟ أولم يكن للحركة فى كل هذه اللقاءات 
رؤية محددة حول السلام» توج بعضها باتفاق مع النقابات والأحزاب (إعلان كوكا دام؛ 
مبادرة السلام السودانيةء الاتفاق مع الأحزاب الجنوبية)» وفشل بعضها فشلاً ذريعاً 
(المحادثات مع الجبهة فى أديس أبابا »١1941‏ نيروبى 583١ء‏ أبوجا 1997) ؟ وباسم من 
كان يتحدث لام فى تلك الاجتماعات؟ فإن كان يتحدث باسم الحركة ويقدم أطروحتها 
حول شرائط السلام» سقطت دعواه حول فقدان الحركة التى يرأسها قرنق لأجندة للسلام. 
وإن كان يجتهد الرأى فى تلك المفاوضات دون زاجرء رد اتهامه بأن قرئق غير 
الديموقراطى وصاحب أجندة الحرب التى لا تبقى ولا تذريهيمن هيمنة كاملة على صنع 


0167 


القرار بل يترك لصحبه حيزاً واسعاً للاجتهاد. مثل هذه الاتهامات لا تصدر إلا ممن 
يريدون استسلاماء لا سلاماً. هذا طريق سلكه آخرونء وكانت سنونهم فى ظل ذلك النوع 
من السلام (السلام من الداخل) سنون فواسد لا خير فيهاء هرعوا فى نهاية المطاف إلى 
النجاة منها. 

أما حديث لام بعدم إكتراث قرنق بجيشه فحديث رهيف ذو ثقوبء فعندما يقول أن فى 
الحركة جيشين جيشا عاديا ذا إمكانات ومعدات متواضعة» وكتائب القائد العام.المدججة 
بالسلاح يغالط الواقع. فقرئق قائد سياسى ‏ عسكرى يريد أن ينتصرء ناهيك عن أن يواصل 
حو دلا بق ولا تذناء ككف لييخا للقائد إذن أن يكوه حؤيه تلك اله التضير مكين 
ضعيف مهترئ. ولعل لام؛ يعرف أن ذلك الجيش «المهترئ؛ الذى بدأ من نقطة ضعف لا 
تنكر بعد انقطاع خطوط إمداده من أثيوبياء هو الذى أحبط كل محاولات النظام للقضاء 
عليه فى حملات مسك الختام» وسيف العبورء وغيرهما من الأسماء التى تنبئ عما كان 
يبتغيه النظام من تلك الحملات. يعرف لام أيضاً أن ذلك الجيش هو الذى حررء من بعد 
غرب الاستوائية والجزء الغالب من شرقهاء ومنطقة البحيرات» ووصل إلى مشارف غرب 
الاستوائية» وصمد فى مواقعه فى جنوب النيل الازرق» وجبال النوبة» وانتقل بجانب من 
قواته ‏ لا من كتائب القائد ‏ إلى شرق السودان. هذه الخفة فى تناول الموضوع تسئ إلى 
لام؛ أكثر مما تسىء إلى من أراد إساءته. 

موضوع الديموقراطية» لن نضيف فيه إلى ما أوردنا بشأنه غير صمت الكاتب عن دور 
مشار فى» ومسئوليته عنء كل الأوزار التى نسبها لقرنق. فمشارء فى تلك الفترة» كان أميناً 
لسر زعيم الحركةء والمسئول الأول عن مكتبه. هذا بالطبع لا يقلل من حجم الاتهامات التى 
وجهها لام لقائد الحركة» وإنما كان سيضفى مصداقية أكثر على حديثه لو تناول هذا 
الجانب» وستكون بالقطع أدعى لحمل القارئ على تصديق ما كتب من كل الرسائل الداخلية 
التى ازدحم بها الكتاب. بنفس القدر نتجاسر على القول أن فى الصور التى رسمها الناقد 
المعلق لعالم الحركة "الكافكى مغالاة تحيط بها شبهة. مصدر الشبهة هو أن كل عوالم 
أحزاب الشمال الفاعلة» من أقصى اليمين إلى أقصى اليسارء عوالم كافكية . تلك الأحزاب 


7168 


لا تعرف جميعها أية درجة من درجات الديموقراطية الداخلية» وفى عهود السلم؛ لا 
الحرب. هذا لا يبررء بأى وجهء أن تتعزى الحركة بهم أو تقتدى. ثمة سببان لهذاء الأول: 
كما يقول الأمرد يكيون» لاا يصنع واحداً قويماً اجتماع خطأين 12316 506 مل ذعدمعنت وبدن) 
(180 006ء وثانياً: يعترف المرء أن الحركة التى قدمت نفسها رائداً للتغيير ينبغى أن 
تخضع لمعايير فى التقويم أشد صرامة من تلك التى تطبق على من أسمتهم قوى السودان 
القديم. ولكن من الظلم بمكان أن لا يعترف الناقدون بأن الحركة» رغم انهماكها فى الحرب 
ومع الظروف القاسية التى تعيش فيهاء كانت هى التنظيم السياسى الوحيد الذى سبق غيره 
لتجديد إهابه وفقاً للمتغيرات التنظيمية والفكرية فى العالم» كما كانت هى التنظيم الوحيد 
الذى لم تستعبده "الثوابت فأخذ يراجع نفسه بعد انقلاب مشار مراجعة كاملة. وستظل 
الحركة تحمل هذه الصخرة المرمرية (0©1: :31383566) على مدى الشهور والسنينء طالما 
ظلت تحمل راية التجديد. هذا أمرتعيه الحركة» ويعيه أيضاً «عربهاء الذين انتقى من بينهم 
المعلق» أفرخ الله روعه» كاتب هذه السطور والدكتورين الواثق كمير ومحمد يوسف أحمد 
المصطفى . ونحرص على وضع كلمة عرب بين قوسى حصرء لأن العقل الذى يوحى يمثل 
هذه التصنيفات هو أس الداء. هم سودانيون فحسبء مهما اختلفت أصولهم وأعراقهم. 
فأساطير الأصل نعال خلعها ,عرب الحركة عند "الوادى المقدس الذى يبتغونء ألا وهو 
السودان الجديد. 


شروط الاستسلام: الميثاق السياسي (ركوهة١ا)‏ 


بعد سنوات من التعاون مع العدوء والعمل العسكرى إلى جانبهء والمناورات الديلوماسية 
الخائبة التى لم تقنع أحدأء توصلت حكومة الجبهة فى "١‏ أبريل 1131 إلى اتفاق مع رياك 
مشار زعيم حركة انفصال جنوب السودانء» وكارابينو كوانين بولء: قائد الحركة الشعبية 
لتحرير السودان (مجموعة بحر الغزال وهو تنظيم مجهرى انشق أيضأ على الحركة) » تحت 
اسم الميثاق السياسى. بجانب هذين السياسيين الجنوبيين وقع على "الميثاق أيضاً صمويل 
أروب بول (اتحاد الأحزاب السودانية الأفريقية - يوساب),('") القائد ماكوى زعيم حركة لم 


تعرف من قبل هى مجموعة جنوب السودان المستقلة» تون أروك تون (مجموعة بور) ء 


169 


ثيوبولوس أو شائق لوتىء وهو أيضاً رئيس لتنظيم اصطناعى يدعى قوة دفاع الاستوائية. 
ولم يكن لام أكول من بين الموقعينء إلا أنه انضم إلى الميثاق بعد توقيعه على اتفاق فشوده 
الذى سلفت الإشارة إليه. 

فى ذلك الميثاق ألزمت الأطراف الموقعة نفسها بأشياء عديدة من بينها الآتى: 

١‏ تأكيد سلامة أراضى الوطن وحمايته من أى عدوان داخلى أو خارجى» فى إطار 
نظام الحكم الدستورى القائم (أى نظام الجبهة الإسلامية) . 

. الاعتراف بالترتيبات الدستورية والنظام الفيدرالى والسياسى (أى النظام القائم)‎  '" 

إجراء إستطلاع للرأى فى الجنوب بعد استتباب السلام الكامل والاستقرار» ويعد 
الوصول إلى مستوى معقول من التطور الاجتماعى فى الجنوب (تأكيد من الكاتب). 

: - قبول الشريعة الإسلامية والأعراف كمصادر للتشريع. 

ه ‏ الاعتراف بالتنوع الثقافى فى السودان واحترام الحريات الدينية. 

 ”‏ إنشاء مجلس تنسيقى لمراقبة تنفيذ نصوص الميثاق والاتفاقيات المترتبة عليه. 

الإقرار بأن المواطنة هى أساس الحقوق المدنية والسياسية. 

فى هذه النقاط» كما فيما تبقى من نقاط الميثاق الأربع عشرة» تناقضات جلية؛ وما أريد 
بالميثاق: كما قلناء إلا توفير غطاء سياسىي يحفظ لحلفاء النظام الجدد ماء وجههم؛ ويوفر 
غطاء دستورياً لمشاركتهم الجبهة الحكم. أما إسهام الوثيقة الجديدة فى إنهاء الحرب» 
وتحقيق سلام من الداخل» فأمر مشكوك فيه. مشكوك فيه أيضاً إسهامها فى تحقيق مطامح 
الذين خرجوا على الحركة بدعوى أنها أهدرت مصالح الجنوب فى سبيل التعاون مع 
أحزاب المعارضة الشمالية. فأولاً. أعلن مشار عند انقلابه على الحركة أنه لا يتفق مع 
توجهها الوحدوىء وأععد نفسه ليكون بطل تقرير المصير المؤدى إلى انفصال الجنوب. وفى 
حديث للسفير الأمريكى دونالد بيترسون فى لقاء بينهما بقرية أولانق قال مشار أنه وحزيه 
لن يحيدا أبداً عن الإصرار على الانفصال الكامل للجنوب عن الشمال.!'") ولكن» فى 


2720 


الميثاق الذى وقعه مع الجبهة» دار الرجل مائة وثمانين درجة ليعاهد نفسه على الالتزام 
بسلامة أرض الوطن كما تفهم تلك السلامة حكومة الجبهة. ذلك موقف لا يتعارض فقط 
مع مبدئهء بل مع الاسم الذى أطلقه على حركته: حركة استقلال جنوب السودان. 
بالإضافة إلى ذلك كان أحد اعتراضات مشار على قيادة الحركة الشعبية هوما أسماه 
المنحى غير الديموقراطى وتآمرها مع الأحزاب التقليدية سيئة السمعة؛ ولهذا أثار العجب 
تعاونه مع أكثر أنظمة الحكم إمعاناً فى القمع والتسلط فى سودان ما بعد الاستقلال» وأشدها 
تعصباً دينياً. بلا مرية» فقدت كل دعاوى مشار حول الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان 
مصداقيتها عندما رضى لنفسه أن يكون شريكاً فى الحكمء وبالتالى شريكاً فعلياً فى كل 
جرائم النظام. ولعل هذا هو السبب الذى جعل مشار ينضو عن نفسه الوشاح الذى كان 
ينسبه لاستقلال الجنوب» ويتدثر بلباس جديد هو للجبهة أقرب عندما تخلى عن اسم حزيه: 
حزب انفصال جنوب السودانء ليستبدله باسم جديد: جبهة الإنقاذ الديموقراطية المتحدة . 
وإن كان أهل الشمال كلهم ما برحوا يقولون: ياويل السودان من الإنقاذ» فقد آن الأوان أيضاً 
لأهل الجنوب أن يتويلوا. 

الجوانب الأخرى من الميثاق منحت النظام حيزاً واسعاً للمراوغة» وجعلت تنفيذ ذلك 
الاتفاق وإعماله يعتمد اعتماداً مطلقاً على النوايا الحسنة لنظام لا يعرف حتى معنى كلمة 
حسن. يتحدث الميثاق؛ مثلاً» عن الحدود المعروفة للجنوب ولكن على مر السنين أضحت 
حدود الجنوب التى كانت واضحة كل الوضوح عند إعلان الاستقلال فى مطلع يناير ١157‏ 
أمر لا تدركه الحواسء ولا يتبينه العقل» كلما استبان فيه بعض حكام الشمال ثروة تذير 
اللعاب. موقف مشار أثار الشفقة» لأن واحدة من المناطق الجنوبية التى استَيهم أمر نسبتها 
على الحاكم الشمالى (راجع الفصل الخامس) هى منطقة بانتيو(موقع إنتاج النفط الحالى) 
مسقط رأس مشار. ألزم الميثاق أيضاً مشار وصحبه بقبول النظام الدستورى السودانى كما 
هو عليه وقت توقيعهء وكما قال ابيل الير فى مذكرة بعنوان ,تعماعدط0 أدء1)ناوط ع1 
1ه 001010 380 505أ)03مء065 إن الموقعين ألزموا ١‏ أنفسهم بالعيش فى كنفء والدقاع 
عن دولة إسلامية متطرفة. هذه الدولة» يقول اليرء هى دولة» حرمت السلطة القضائية من 


77 


استقلالهاء وجعلت من جيش السودان وأجهزة الأمن الأخرى مؤسسات للجهاد وحماة 
للحصارة الإسلامية . يتساءل المرء: لماذا تخلى مشار ورفاقه عن مبادئ ظلوا يحاربون من 
أجلها لفترة طويلة من حياتهم ؟ تحدثنا من قبل مطولاً عن دور بعض الساسة الجنوبيين فى 
تعميق مآسى أهلهم: ولكن قبول الميثاق السياسى؛ فى ضوء الأسباب التى ذكرناء يمثل 
واحداً من أخطر أنواع الخيانة التى تعرضت لها قضية السلام والديموقراطية فى البلاد. 

نقطتان أخريان لا يكتمل الحديث عن ذلك الميثاق المشئوم دون الإشارة إليهما: 

١‏ بينما أعلن الميثاق أن الشريعة والعرف مصدران من مصادر التشريع؛ إلا أن 
الطريقة الملتوية التى تمت بها صياغة الدستور فيما بعد لم تعط أولوية مطلقة للشريعة 
فحسبء بل طالبت المحاكم بالاستهداء بها بحسبانها المصدر الرئيس للتشريع . هذا التلوى 
واضح فى دستور ١198‏ الذى تم إقراره بعد عام من انضمام مشار إلى النظام» فمثلاً 
صيغت المادة الخامسة والستين المتعلقة بمصادر التشريع بدهاء فائق بهدف إرباك القارئ. 
لا تنويره . وتنص المادة على أن: "الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاء ودستوراً وعرفا 
هى مصادر التشريع» ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول ولكنه يهتدى برأى الأمة العام 
وباجتهاد علمائها ومفكريها ثم بقرار ولاة أمرها. الواو بعد "الشريعة الإسلامية عاطفة تشير 
للتتابع» أفهل يعنى هذا وضع إجماع الأمة على قدم المساواة مع الشريعة ؟ ثم ما الذى 
تعنيه كلمة إجماع ؟ ففى الديموقراطية ليس هناك إجماع بلء» كما سلفت الإشارةء حكم 
للأغلبية موقوت بزمان (فترة الولاية إلى حين الانتخابات التى تليها) » ومقيد بكوابح 
دستورية (فصل السلطاتء احترام المبادئ الدستورية الراسخة الخ) . كما ما الذى يعنيه 
حرف الاستدراك فى آخر المادة (ولكنه يهتدى)» أو يعنى هذا إباحة الخروج عن الشريعة 
امتثالاً لرأى الأمة (وهوء فيما يبدوء غير إجماع الأمة) ولاجتهاد العلماء والمفكرين وولاة 
الأمرء خاصة وحرف الاستدراك يثبت لما بعده حكماً مخالفاً لما سبقه كما يقول النحاة. ثم 
فى النهاية» ما الذى تعنيه "الشريعة» أهى كتاب الله والثابت من سنة رسوله ؟ أم هى ما 
تواطأ عليه الفقهاء منذ زمان سحيق وإن كانت الأولى» فكيف يجوز للبشرء استفتاء ودستوراً 
وعرفاً الخروج على الأصول» خاصة فى ظل مفهوم لا اجتهاد مع النص. 


772 


- نص الميثاق أيضأ على أن الاستفتاء (تقرير المصير) فى الجنوب يتم بعد تحقيق 
السلام والاستقرار والوصول إلى مستوى معقول من التطور الاجتماعى فى الجنوب. مثل 
هذا النوع من النصوص الملغزة والمفتوحة بلا نهاية يمكن أن ينطبق بيسرء على أى من 
المستويات التى حددها روستو للتنمية الاقتصادية» كما يسرىء من الناحية الاجتماعية. 
على أى من المراحل التى وضعها كارل ماركس لتطور المجتمع الإنسانى. 

الخداع هو اسم اللعبة بالنسبة لنظام الجبهة. فمن البداية» لم يكن النظام جاداً فى تطبيق 
تلك الاتفاقية» كما لم يؤمل أحد خارج النظام بجدواها. لهذا لم يصدم أحد من إعلان النائب 
الأول لرئيس السودان؛ على عثمان محمد طهء لصحيفة لندنية عربية أن ليس هناك وقت 
محدد لإعمال حق تقرير المصيرء فالسلام من الداخل المشار إليه فى الميثاق كما قال؛ 
يتطلب تحقيق درجة معينة من الاستقرار والتنمية تمكن الجنوبيين من ممارسة ذلك 
الحق.('") وبعد أربع سنوات بالضبط من توقيع اتفاقية السلام من الداخل؛ أعلن مكى أحمد 
بلايل» الوزير المكلف بمهمة السلام فى رئاسة الجمهورية أن اتفاقية السلام من الداخل غير 
قابلة للتنفيذ نظراً لبقاء الحركة الشعبية خارج نطاقها.!(؟') نتيجة لهذه التطورات أعلن بيتر 
عبد الرحمن سولىء رئيس جبهة الإنقاذ الديموقراطية المتحدة والحليف الجنوبى للنظام» أن 
هذه التصريحات تؤكد أن الحكومة فقدت مصداقيتها كلية (5”) 

يستعصى على الأذهانءإذن» عجز هؤلاء السياسيين والعسكريين ذوى الخبرة عن إدراك 
الحيل التى انطوت عليها اتفاقية السلام من الداخل. نشك كثيراً فى أن الأطراف الجنوبية 
التى قبلت بها كانت تعتقد صادقة أنها تعمل مع الجبهة لإرساء سلام دائمء أو أن التعاون 
مع الجبهة لا يختلف كثيراً عن تعاون الحركة الشعبية مع التجمع الوطنى. يقودنا هذا للزعم 
بأن الدافع الوحيد (ولا دافع سواه) الذى حمل هؤلاء على المكروه هو خلطة قاتلة من 
الطموح وسوء التقدير. وقد أوضحنا دور الطموح ععلى مستوى قيادة المنقلبين على الحركة 
فى تفجير الأزمة» كما ألقينا ضوءاً كاشفاً على سوء تقديرهم لموقفهم وسط الحركة ولتعاونهم 
مع النظام؛ وثقتهم المفرطة فى بعض المنظمات الطوعية. ولكن سرعان ما تكشف 
للمتمردين على التمرد أن الحقيقة فى الحالات الثلاث هى غير ما كانوا يظنون. وهنا حبط 


113 


العمل؛ وخاب الأمل» وطغت العزة بالإثم. لا يريدون الاعتراف بالفشلء وأبى الكبرياء 
الزائف لبعضهم أن يعود للموقع الذى خرج منه بطوعه: إلا بعد لأى. 


وحدة الجنوب: التوحيد ومابعده 


الصراع الذى كشفنا عن أصله ومنعرجاته كان يدور على مستوى القيادات» أما على 
مستوى القاعدة فكان هناك تيار قوى يتمور تحت السطح. ففى الخامس والعشرين من 
مارس ١116‏ التقى عدد من المؤسسين لحركة استقلال جنوب السودان (حركة مشار) فى 
نيروبى ليعلنوا أن التعاون مع نظام الجبهة خيانة صارخة لأهدافهم» وكان فى هذا إنذار 
لمشار آثر تجاهله. و بعد شهر من ذلك الإعلان / الإنذار» وعلى وجه التحديد فى السابع 
والعشرين من أبريل 1156ء زالت الغشاوة من الأبصار وبدأ الطرفان يبصران مدى الدمار 
الذى ألحقته صراعاتهماء ليس فقط بقضية الجنوبء وإنما أيضأ بقضية الديموقراطية فى 
السودان. هذا الوعى أسفر عن إعلان لافون الذى تعاهد فيه الطرفان على الالتزام بوقف 
إطلاق النار» والتصالح بين جميع أقوام الجنوب» وتوحيد الحركة من جديدء وتكامل العمل 
العسكرى بين الفريقين المنشقينء واستعادة السلام فى الجنوب. وفى جلسة طارئة لمجلسها 
التنفيذى الوطنى (5150) انعقدت فى يوم عيد العمال سنة »١155‏ أقرت الحركة الاتفاق» 
كما اوصت باتخاذ إجراءات عملية لتفعيله. وبعد بضعة شهورء قام بعض قادة حركة 
استقلال جنوب السودان» من تلقاء أنفسهمء بانقلاب ضد رياك بسبب ما وصفمه بقلة 
التبصرء والاضطلاع بدور غير وطنى ضد وحدة الحركة وجنوب السودان» وكذلك 
"التحريض على إشعال الصراعات القبلية خدمة لمصالحه الذاتية("'). وقد أكدت الاتهام 
الأخير تقارير لاحقة لمراقبين مستقلين.("') وبعد إعلان لافون بعام واحد وقع القائد سالفا 
كير مايارديت» رئيس أركان حرب الجيش الشعبى» وجون لوك جوك القائد لجناح منفصل 
عن حركة استقلال جنوب السودان( مجموعة أكوبو) على اتفاق ينص على انضمام تلك 
المجموعة للحركة جاء فيه ما يلى: 


7174 


١‏ الانخراط فى الحركة وإقرار رئاسة قرنق وقيادته لها. 

 "‏ تأكيد مبادئ الحركة الشعبية وعلى رأسها: حق تقرير المصيرء المساواة والعدل, 
إرساء دعائم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان. 

 "'‏ تكامل البنيات الإدارية والسياسية لكلتا المنظمتين وتوحيد جيشيهما. 

هذه المواقف اتخذها بأمانة ووعى الذين هرعوا لتأييد الانقلابيين» وكان لذلك التوحيد 
أثر ملحوظ على قضية السلام من وجهين: أولاً: أصبح الجنوب يتحدث بصوت واحدء 
ويتفاوض كمجموعة واحدة. وثانياً: أكد التوحيدء من جديد مصداقية الحركة» ليس فقط فى 
أرض المعركةء وإنما أيضاً فى عيون العالم. وكان للعامل الأخير أثر معنوى هام على 
الجنوب إذ حث المجتمع الأهلى ورجال الدين على السعى لوضع حد لتلك الصراعات. 
فخلال عام ١194‏ انعقد اجتماعان شعبيان لإنهاء الصراع بين الإخوة ‏ الأعداء جاءا نتيجة 
لمبادرة من مجلس السودان الجديد للكنائس (71500)» والتسهيلات التى وفرتها لهما الحركة 
لشي 

ففى مارس ١1999‏ انعقد فى ونليت (بحر الغزال) اجتماع رعاه مجلس السودان الجديد 
للكنائس وشارك فيه زعماء القبائل» وكبار رجالات المجتمع» كجزء من جهود الجنوبيين 
أنفسهم لصنع السلام من الداخل. ذلك الاجتماع كلل بنجاح باهرء وكان له أثر ملموس على 
حياة الناس اليومية. من ذلك؛ ضمان حق الاستفادة الكامئة لكل المجموعات القبلية من 
المراعىء والمياه» والأرض الصالحة للزراعة» ومواقع صيد الأسماك. ولأجل التوسط لحل 
النزاعات التى قد تنشأ بين المكان على المصادر الطبيعية تكونت لجنة من الزعماء 
المحليين أوكلت لها هذه المهمة. اجتماع ونليت لم يكن مجرد إنجاز عظيم فى مجال السلام 
والتعايش المتناغم بين النوير والدينكا فحسبء بل جاء أيضاً فى أكثر الأوقات حرجاً اوضيقاً. 
فإلى ذلك الاجتماع يعود الفضل فى تمكين الآلاف من النوير المدنيين الذين هجر 
غرب أعالى النيل نتيجة تعرضهم للقصف الجوى العشوائى من طائرات الأنتونوف. 
والطائرات المروحية» والقوارب المحملة بالقذائفء من التماس الملاذ بين مجتمعات الديتكا 
فى شرق بحر الغزال. 


115 


شجع النجاح الذى أحرزه ذلك الاجتماع مجلس الكنائس للسودان الجديد على عقد 
اجتماع آخر للتوسط بين قبائل النوير فى أعالى النيل فى مناطق لاتقكبين؛ يوات؛ اكوبو. 
وات التى اضطرم الصراع بين أجنحتها المختلفة عقب اغتيال وليام نيون بانى على يد 
مشار وحكومة الخرطوم عقاباً له على عودته إلى الحركة بعد اتفاق لافون. وكان من نتائج 
ذلك الصراع انسحاب جميع وكالات الإغاثة الإنسانية من المنطقة» مما أدى إلى تدهور 
مريع فى الوضع الإنسانى. وكشأن اجتماع وتيت كان نجاح الوساطة باهراً؛ إذ تعاهد 
أطراف النزاع فى بيان ختامى على فض جميع وجوه النزاع فيما بينهم. وعن ذلك عبروا 
بكلمات مؤثرة: سوف نعمل على حماية هذا السلام ضد أى اعتداء سواء جاء هذا الاعتداء 
من جانب أى فرد ينتمى لصفوفناء أوكان موجهاً من الخارج لتدمير وحدتنا وسلامنا. 
ونتعاهد على الحفاظ على هذا السلام حتى الموت لكى ينعم أطفالنا بالعيش فى هناءة» 

يتمتعوا بخيرات الأرض الطيبة التى وهبها الله لنا. وهكذا أصبح من الواضح للجميع فى 

الجنوب بحلول منتصف عام »١515‏ أن الحرب الداخلية يجب أن لا تدوم» وأن المنشقين 
(باستثناء مشارء كارابينوء ولام) أيقنوا أن خلاصهم يكمن فى وحدة صفوفهم . 

من جانبهاء أخذت الجبهة تنظرء بصورة متزايدة» إلى مشار وشركائه على أنهم لم 
يعودوا أكثشر من مصدر للإزعاج» فمثل اللهاة التى تتدلى من الحلق» لم تعد لهم وظيفة 
سوى إثارة الضوضاء. هذا حكم لا يرضاه مشارء شديد الاعتزاز بنفسه وقدراتهء ولكن 
الرجل الذى يرفض نصح خاصائه الأقربين(')؛ لا معدى له عن لوم نفسه إن انتهى به 
الأمر إلى هذه النهاية. ومن الواضح أن مشار لم يكن قد صادف المثل القائل: إن الذى 
يرقص مع الذئاب عليه دائمأ أن يحصى أصابع قدميه . وفى النهاية ترك مشار السفينة وهو 
غاضب ومجروحء آثر الانسحاب من النظام» واعتزال منصبه كمساعد للرئيس» بعد سلسلة 
من الخلافات مع قيادات ذلك النظام. وفى خطاب تنحيه اتهم مشار حلفاءه بانتهاك شروط 
اتفاقية السلام من الداخل» والنكوص عن تنفيذ المواد الهامة فيهاء كما استهجن إعفاء 
وتعيين المحافظين فى الولايات الجنوبية بصورة ة نزوية» والإغضاء عن حالة الفوضى 
والإرهاب بين الجنوبيين» واتباع سداة :فرق تسد فى الجنوب. وما كان لكل هذه الأمور 


716 


أن تأخذ مشار الذكى على حين غرة . وفى خاتمة المطاف انقلب السحر على الساحرء إذ 
عاد مشار إلى الحركةء وانصهر جيشه انصهارا كاملا فى الجيش الشعبىء كما دق البشير 
المسمار الأخير فى نعش السلام من الداخل عندما أصدر فى الحادى والعشرين من 
مارس/؟7١٠٠‏ مرسوماً يؤجل به الاستفتاء فى جنوب السودان لأربعة أعوام أخرى. ولعل 
هذا هو الذى حمل لام أكول ‏ رفيق مشار فى التمرد على "المتمرد قرنق ‏ على الاستقالة 
من الحزب الحاكم. ففى بيان وزع على الناس بالخرطوم فى نهاية يونيو”١٠٠»‏ ووقع عليه 
لام مع جبهويين بارزين (أمين بنانى ومكى بلايل) ذكر لام بين دوافع استقالته» اختلال 
المعايير فى قسمة السلطة على المستويين الاتحادى والولائى» فقدان الحريات الداخلية» 
انعدام الشورى والمؤسسية» وتقويض السلام من الداخل حتى أضحى حبرا على ورق. وأنشأ 
الثلاثة» فيما بعدء حزياً أطلقوا عليه اسم حزب العدالة. أما مشار فقد أصبح فى الثانى 
والعشرين من نوفمبر ٠٠١7‏ نائبآً لرئيس الحركة» وأدى قسم الولاء لدستورها. 

اقتصاديات السلب: التمط وا لحرب 

اكتسب التنافس حول استغلال المصادر بعداً جديداً عندما أخذ نظام الجبهة فى إنتاج 
وتصدير النفط من الحقول الجنوبية . هذا المورد الطبيعى ذو القابلية الهائلة للاشتعال أضاف 
مزيداً من النيران إلى حريق الحرب اللافح. نعيد للذاكرة أن اكتشاف النفط تم فى عام 
18 فى منطقة بان تاو أو ونتاو فى بنتيو الشماليةء فيما يعرف الآن باسم محافظة 
الوحدة . وتمثل بنتيوء التى تقع فى أقصى الشمال من الحدود الجنوبية» قمة حقول النفط فى 
حين تكمن ترسباته الأساسية فى وسط الجنوب» وفى مناطق تسيطر الحركة الشعبية على 
أغلبها. يصدق هذا حتى على المناطق التى يتم فيها الإنتاج فعلا الآن (القطع )4.7١‏ تلك 
القطع (01015) تقع بأكملها فى مناطق يسكنها النوير (الجزء الغالب) والدينكا منذ قرون. 
مع هذا قررت الحكومة إبدال أسمائها المحلية بأسماء عربية مثل بان تاو التى أشرنا إليهاء 
وتمساح التى يطلق عليها أهلها اسم نيانق. كل هذا سخف لا معنى له ولايفيد فى شىء؛ 
بل يزيد من الشكوك والريب. 


117 


منذ اكتشاف النفط» انصب جل اهتمام أنظمة الحكم المختلفة فى الخرطوم (من نميرى 
إلى البشير) فى تصديره» وبدون أدنى اهتمام باستخدام جزء من ععائده فى النهوض 
بالمناطق الأكثر فقراً فى السودانء بما فى ذلك المناطق التى ينتج النفط داخل حدودها. زاد 
الأمر تعقيداً تسخير نظام البشير لعائد النفط من أجل هدفين: المجهود الحربى والأمن. وثمة 
تحرك آخر مثقل بالاحتمالات أشرنا إليه فيما سبقء ألا وهو المحاولات المتعاقبة لنقل 
السيظرة على المنملقة المندجة النفظل من قإأسة اللئلة الإدارية فى الجنوب إلى ملزلتها ف 
الشمال. لخص ذلك التحرك بتعبير دقيق أحد الناشطين فى مجال حقوق الإنسان بكنداء 
ميل مدلتون!(؟"), مدير منظمة البحث عن الحرية (01065]0 00198ع1*:26) في ندوة حول 
السلام فى السودان عقدت فى كالقرىء كندا عام 1159 . قال مدلتون إن واحداً من أهم 
العوامل فى تأجيج الصراع؛ والتى لا تلقى اهتماما كبيرًء قضية التحكم فى الموارد الطبيعية 
بما فى ذلك المياه» والأراضىء ومؤخراً النفط. معظم هذه الموارد تقع فى أراضى الجنوب. 
فى حين ظلت السلطة دائماً فى قبضة الشمال. ولأعوام عديدة» انفتحت شهية المجموعات 
الحاكمة المختلفة فى الخرطوم لهذه الأراضى وتلك المواردء فعملت على الهيمنة عليها 
لتنفيذ تصوراتهم حول التنمية العربية الإسلامية» دون أن يوسعوا المجالء إلا نادرأء لكى 
تشمل تلك التنمية ثقافات وأساليب حياة أهل الجنوب. مدلتون محق فى وصفه لمواقف 
الحكومات الشمالية تجاه ثروات الجنوب منذ اكتشاف النفطء والتى ظلت تشويها الأنانية؛ إلا 
أن تلميحاته عن التنمية العربية الإسلامية فخالية عن المعنى . فأولاً: ليس هناك ما يعرف 
بالتنمية الإسلامية» وثانياً: القضية؛ فى جوهرهاء هى قضية سياسية ذات أبعاد اقتصادية 
واجتماعية» لا دينية. 

الشروة التى تذخر يها أراضى الجنوب لاشك فى أنها واحد من مصادر لعنته؛ بل هى 
واحد من أهم أسباب الحرب. فلوكان الجنوب مثل صحراء العتمور لما اهتم بمصيره أحدء 
بقى أو انفصل. فمنذ عهد محمد على باشا كان الجنوب هو الثمرة الناضجة التى تنتظر من 
يلتقطهاء والمنارة التى تسترشد بها عصابات النهب القادمة من أقصى الشمال بحثاً عن 
العاجء وجلود النمورء وريش النعام» والرقيق. لهذاء لم تجفل الحكومات الوطنية» منذ عهد 


118 


عبودء عن إعادة ترسيم الحدود بين الشمال والجدوب» كما لو كان الشمال والجدوب ينتميان 
إلى بلدين مختلفين. ولكن؛ بينما كانت حكومات الخرطوم فى الماضى تبحث دوماً عن 
غطاء شرعى لتبرير إعادة ترسيم الحدود» أوقفت حكومة الجبهة هذا الزيفء وحولت المواقع 
الغنية بالمعادن فى الجنوب إلى المحافظات الشمالية» دون أدنى شعور بالندم. وبلغ 
الاستكبار على الحق أعلى درجاته عندما وصف وكيل وزارة الطاقة والتعدين» حسن على 
التوم» الاكتشافات النفطية الجديدة فى تار جال (183:3318) الواقعة فى عمق أراضى النوير 
كإكتشافات داخل السودان الشمالى . تعجب لماذا اختار مستعربة الشمالء إن كان الإقليم حقآ 
فى الشمال؛ هذا الاسم النويراوى لتلك المنطقة . التفوه بمثل تلك التصريحات التى تفتقر إلى 
الحصافة هو واحد من الأسباب التى عمقت المخاوف فى نفوس الجنوبيين» بل زادت من 
الانطباع السائد لديهم بأن الشىء الوحيد الذى يبغيه الشمال من الجنوب هو الثروة . ولربما 
لا يكون وكيل الوزارة يعبر عن سياسة؛ بل يجتهد رأيأ ولايتفكر فيما يقول» إلا أن الحدود 
المتنازع عليها لا تبدل بمثل هذه الاجتهادات التالفة؛ أو تعدل بالتصريحات التى يدلى بها 
البيروقراطيون المستهترون. فهناك سجلات تاريخية» والأكثر أهمية هناك سكان فى هذه 
المناطق المتنازع عليها. 

فيما يبدوء استقر رأى نظام الجبهة على أن هؤلاء السكان يشكلون تهديداً لخططه 
لاستغلال ذلك المورد الهام فشرعء, بمساعدة بعض المحاربيين الجنوبيين " الديموقراطيين» 
فى حملات مستمرة لتطهير حقول البترول تطهيراً عرقياً من سكانها الأصليين. فعلى سبيل 
المثال» انضم كارابينو كوانين بول وباولينو ماتيب إلى ميليشيات الجبهة لشن حملة مدمرة 
على السكان المحليين حتى يحملوا على الفرار من المنطقة» وكان من نتائج الحملة إخلاء 
منطقة بلغ نصف قطرها مائتى كيلو متر من السكان. حملات التطهير العرقى هذه أكدتها 
آيا شنيرسونء الناطقة باسم برنامج الغذاء العالمى فى حديث لصحيفة الفاينانشيال تايمز 
وحسب قولها أدت تلك الهجمات إلى مقتل وتشريد ما يربو على مائة ألف شخص. ('") 
عددت الصحيفة الوسائل المرعبة التى استخدمت لتحقيق ذلك الهدف الشرير مثل القصف 
الجوى العشوائى على المدنيين» والمذابح التى تورطت فيها الميلشيات» كما أوردت نقلاً عن 


719 


قروى محلى يدعى بيبال ثييين ما يلى: لقد أحرقوا القرية» ونهبوا الماشية» وخطفوا 
الأطفال. لقد كان القتل عشوائياء وفقدنا كل شىء. إلى ذلك أضافت منظمة العفو الدولية 
([22ه23)1عام1 لإأوء4102) بعض الحوادث المشابهة: منبهة إلى أن السكان المدنيين الذين 
يعيشون فى المناطق المحيطة بحقول النفط أصبحوا هدفا متعمداً لحملة مكثفة من انتهاكات 
حقوق الإنسانء والإجلاء القفسرىء والقصف الجوىء والقصف بالقنابل من 
المروحيات.(١").‏ وانضم إلى المحققين الصحفيين» وممثلى منظمات الأمم المتحدة» 
ليوناردو فرانكوه محقق الأمم المتحدة فى مجال حقوق الإنسانء إذ ذكر فى تقرير له أن 
سياسات الحكومات السودانية المختلفة لحماية إنتاج النفط على المدى الطويل تضمنت دومآ 
الإجلاء القسرى للسكان المشكوك فى ولائهم للنظام حماية لمناطق إنتاج ونقل النفط.("”) 
وفى تقرير لاحق (التقرير السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة» ١4‏ أكتوبر )١1513‏ أشار 
فرانكو لتفاقم الصراع فى مناطق إنتاج النفطء كما أوضح الدلالات السياسية والاستراتيجية 
لذلك التفاقم. وبوجه خاصء أفرد فرانكو حيزاً كبيراً فى تقريره لتدهور الأوضاع بالنسبة 
لحقوق الإنسان والقضايا الإنسانية (تفشى المجاعات والحيلولة دون وصول العون الغذائى 
الإسعافى) . فى نفس التقرير» وصف فرانكو وصفاً دقيقاً الهجوم الذى قامت به قوات الجيش 
لمدة عشرة أيام على إقليم روينق فى غرب أعلى النيل مستخدمة كل الوسائل: "القصف 
الجوى من طائرات الأنتونوف والمروحياتء الاختطاف القسرى للسكان» وحرق ستة آلاف 
مسكن ريفى بهدف إخلاء منطقة إنتاج النفط على مدى مائة كيلومتر. 

رغم كل هذه الجرائم التى ظلت الصحافة الأجنبية» ومنظمات وناشطو حقوق الإنسان 
بالخارج» تجليها على العالم» أحاطت بتلك الانتهاكات مؤامرة صمت رهيبة فى الشمال» 
وكأن الذى كان يدور فى مناطق إنتاج النفط فى السودان كان يدور فى بلد آخرء أو هو أمر 
عابر لايستحق التنويه عنه» ولو بالدرجة التى كانت تتحدث بها الصحافة والمجالس عن 
فيضان النيل فى الخرطوم أو دنقلا. كما ظل النظام يبذل جهد طاقته للحيلولة بين مواطنى 
المنطقة والصحفيين الزائرين من الوصول إلى تلك المناطق. هذا السد المانع للحقيقة 
اخترقته نشرة أفريقيا السرية("')عندما أفلحت فى لقاء بعض زعماء النوير» واستطلعت 


730 


رأيهم حول الهجوم العسكرى الذى شنته قوات النظام على منطقة شرق أعالى النيل لإقصاء 
سكانها وإغلاق المؤسسات المدنية فيهاء بما فى ذلك مراكز التغذية التابعة لبرنامج شريان 
الحياة . وصف واحد من الزعماء المحليين للصحفى الزائر مشاهد ذلك الهجوم فى كلمات 
تستحلب الدمعء قال: كان الآباء يفرون هرياً من النيران على غير هدى بحثأ عن الآباء, 
ووسط الفوضى عجز الأطفال عن العثور على آبائهم. تعرض السكان أيضأء كما أوردت 
النشرة للسلب والضرب حتى وصل | لعضهم إلى الملاجئ الآمنة مجردين من ملابسهم: كما 
تعرض آخرون للحبس فى أكواخ أصئرمت فيها النيران. وفى نفس الإصدارة ورد حديث 
آخر لتعبان دينق قاىء قائد قبائل النوير الذى خدم فى حكومة البشير كوزير للطرقء قال 
فيه إنه أجبر على ترك منصبه والفرار من الخرطوم بعد اختلافه مع الحكومة حول أسلوب 
استغلال عوائد البترول» كما أشار إلى مقتل وزيرين إقليميين (لويس كياح مادوت وشووك 
ديكيا) على يد النظام كانا يشاركان تعبان الرأى. إلا أن أكثر العبارات تهكماً كانت تلك التى 
وردت على لسان أحد السكان المحليين ويدعى جيمز دينق فى حديث لصحفى إذاعى» 
قال: فى هذا الجزء من العالم نوعان من الطائرات» نوع يسقط عليا الغذاء؛ والآخر يرمينا 
بالقنابل.(؟') ومن المفارقء أن الطائرات التى كانت تقصف المواطتين بالقنايل هى 
طائرات النظام الإسلامى الذى جاء ليطعم الناس من جوع فى حين كانت تلك التى 
ترميهم بطعام يقيم الأود هى طائرات الكفار. 

أي كان الأمرء يتعين النظر إلى قضية النفط من خلال منظار أوسع كثيراً من ذلك الذى 
يكشف عن المآسى الإنسانية التى خلفتهاء على أهميتها. الطريقة التى تم بها استغلال النفط 
أجهضت احتمالات السلام» كما أخمدت الأمل فى عودة سريعة للديموقراطية إلى البلاد. 
فبدلاً من البحث بجدية عن السلام» خيل للنظام أنه أصبح يملك القدرة الاقتصادية التى 
تمكنه من شن حرب ظافرة على "أعدائه فى الجنوب» وبهزيمة هؤلاء» سيهيمن هيمنة 
كاملة على الشمال. ومنذ بداية العمل الجاد لاستخراج النفط اكتنف الغموض العمليات 
المتعلقة باتفاقيات النفط واستغلال عائده» خاصة والجزء الأكبر منه»ء كما قلناء كان يوجه 
للمجهود الحربى والأجهزة الأمنية. فحسب ما أورده تقرير لصندوق النقد الدولى 


ا78 


(نوفمبر١١٠3)»‏ قفزت واردات السودان من الأسلحة من ١٠١‏ مليون دولار فى ١998‏ إلى 
7" مليون دولار فى سنة :2٠٠١‏ وكان الفضل فى هذه القفزة» كما قال التقرير يعود إلى 
ثروات النفط. من جهة أخرىء أكد المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية (1155) فى 
تقريره عام 11494 أن حرب السودان تكلف الحكومة (قبل تصدير النفط) 1١‏ مليون دولار 
أمريكى سنويآء وقدر التقرير جملة المبالغ التى أنفقت رسميا فى الفترة من ١487‏ إلى 
5 بحوالى 7,7 مليار دولار أمريكى. فأولويات النظام فى الإنفاق واضحة:؛ وهذا أمر لم 
ينكره وزير الطاقةء» عوض الجازء إذ قال لمجلة الايكونومست أن أهم أوليات النظام هى 
إعادة بناء الجيش.(*؟) 

تدقق الشروة الجديدة مكن النظام أيضا من أمرين: الخروج من العزلة السياسية 
والاقتصادية التى أدخل السودان فيهاء وتفريخ مبادرات السلام الزائفة التى تبهدف؛ فى 
المقام الأول» إلى إخراج عمليات السلام الجارية عن مسارها. وحول الموضوع الأول كان 
الدين الخارجى قبل بداية تصدير النفط يتراوح بين 17 و 7١‏ مليار دولار أمريكى» فى حين 
تراوحت المبالغ المستحقة الدفع سنوياً من هذا (الأصول والفوائد) بين 7٠١‏ مليون ومليار 
دولار أمريكى('"). وفى ظل العزلة الدولية والإقليمية نضبت خزائن الحكومة بحيث أصبح 
النظام عاجزاً عن جدولة الديون» ناهيك عن الاقتراض من جديدء وكان لذلك أثر ملحوظ 
على كل مناحى الحياة العامة والخاصة إلا فى ميدانين: الحرب والآمن. وصف صحفى 
بريطانى زار السودان تلك الأزمة بقوله: لتسديد فواتيرها إندفعت الحكومة فى طبع النقود 
مما دفع التضخم السنوى إلى ما يربو على )"!:7٠٠١‏ واضطر معه المهنيون للعمل 
كسائقى تاكسى أو بائعى فواكه لزيادة دخلهم وتحسين أوضاعهم. 

بيداية تصدير النفط حان وقت الاستفادة من عائده» ليسى بهدف تخفيف البؤس الذى 
يرزح تحته المهنيون وعامة الناس» بل من أجل الاستمرار فى الحرب. ففى أغسطس 
4»؛ صدر السودان أول كمية من النفط إلى سنغافورة وبلغ إنتاجه اليومى ١50,0٠0‏ 
برميل (قفز بعد ذلك إلى 180,٠٠١‏ برميل ومن المتوقع وصوله إلى نصف مليون برميل 
فى عام )3٠١‏ . التصدير الأول قامت به شركة كندية المنشأ مجهولة الهوية (أراكيس) من 


01652 


إنتاج ثلاث مناطق أقطعت لها (القطع ١١‏ 7» 4). تلك الشركة كان يملكها باكستانى تردد 
أن له صلات مع بعض مسكولى الجبهة» ولكن؛ ما أن سجلت الشركة ارتفاعاً فى قيمة 
أسهمها فى سوق المال الكندى حتى باعت أصولها لشركة تاليسمان إنرجى الكندية؛ وهى 
شركة ذات باع فى سوق النفط العالمى إذ تبلغ قيمة أصولها ٠١4‏ بلايين دولار. وبذلك» 
أصبحت تاليسمان أول شركة غربية تدخل سوق النفط السودانى بخمسة وعشرين فى المائة 
من الأسهم؛ فى حين وزعت بقية الأسهم على الوجه التالى: شركة الصين الوطنية +٠‏ 7 
باتروناس الماليزية ٠7؛‏ حكومة السودان ©*. وعلى كل اتنفقت المصادر على أن 
الاحتياطى النفطى فى باطن الأرض فى المناطق المكتشفة يزيد كثيراً عما هو معلن. هذا 
الدخل المفاجئ زاد من عائدات الحكومة بنسبة »47١‏ دون أن يكون لذلك أثرعلى حياة 
الجمهورء أو النخبة التى دفعت لبيع الخضر والفاكهة لتحسين أوضاعها. ففى عام ١515‏ 
(إنتاج اراكيس) بلغ عائد النفط 1١‏ مليوناً من الدولارات (7,7 7 من دخل الدولة) » وارتفع 
فى عام ٠٠٠١‏ إلى 515 مليوناً من الدولارات؛ أى صار يمثل 778.5 من الدخل. 
(إرتفعت النسبة إلى 4١‏ # فى نهاية عام 7٠١"‏ حسب تصريحات وزير المالية» التى 
أوردتها وكالة الأنباء الفرنسية )7٠١7/17/717(‏ ذلك الدخل المضاف لم يحسن من 
الأوضاع الاجتماعية» بل ساء الحال بوجه عام إذ ورد فى تقرير لوزارة المالية أن صادرات 
السودان من غير البترول هبطت فى عام 7٠١١‏ من 15: مليون دولار فى عام ٠٠٠١‏ إلى 
7" مليوناً فى العام الذى تلاه» فى الوقت الذى ارتفعت فيه فاتورة الواردات إلى بليون 
دولار.(8) 

إفلاح النظام فى إنتاج البترول؛ بغض الطرف عن سوء استغلال عائده» ينبغى أن 
يحسب فى رصيده الإيجابى. صحيح أن التوجه للتنقيب عن البترول فى الجنوب والغرب 
واكتشافه وإنشاء بنياته الأساسية تم فى عهد نميرىء إلا أن الفساد الكبير الذى صحب بعض 
عمليات النفط» واندلاع الحرب من جديد بسبب الحماقات السياسية التى ارتكبها نميرى 
(إلغاء اتفاق أديس أبابا ودستور*57١)»‏ حالا دون المضى فى ذلك المشروع الهام. فعقب 
إندلاع الحرب من جديد قررت شيفرون الانسحاب من السودان حتى يسود السلام منطقة 


703 


إنتاج النفطء ورغم الإغراءات العديدة التى قدمت لها.(؟') وفى عام ١197‏ تخلت شيفرون 
عن الامتياز الذى حصلت. وفيما بعد بذلت حكومة الصادق المهدىء وبالأخص وزير 
الطاقة؛ مبارك المهدىء محاولات عديدة لإغرائها بالعودة دون جدوى. ولئن استطاع نظام 
الجبهة» رغم الحصار الاقتصادى المفروض عليه وانغلاق ابواب مصادر التمويل التقليدية» 
أن يمضى فى تنفيذ المشروعء فهذاء بلا ريب» نجاح كبير. ذلك النجاح» يعزى إلى حد 
كبير إلى رجلين: الترابى ومشارء فحين سخر الترابى علاقاته المتميزة يببعض مصادر 
التمويل الأولى مثل وزير مالية ماليزياء أنور إبراهيم لإقناعه بالاستثمار فى البترول» وفر 
مشار بقواته فى مناطق النوير الحماية للعاملين فى صناعة النفط وتحييد مقاومة الحركة. 

الكونسورتيوم الدولى الذى أسهم فى تنفيذ ذلك المشروع تقدمته الصين (الشركة الوطنية 
الصينية للبترول)»؛ وماليزيا (المؤسسة الوطنية الماليزية للبترولء باتروناس)» ثم كندا 
(شركة تاليسمان للطاقة) » وتقدر الأموال التى ضختها هذه الشركات فى المشروع بمئات 
الملايين من الدولارات؛ فنصيب تاليسمان وحده قدر بسبعمائة وخمسة وثلاثين مليوناً من 
الدولارات . على أن تلك الشركات تقول إن المبالغ التى ذهبت مباشرة إلى النظام لا تتجاوز 
مليوناً من الدولارات الأمريكية؛ فى حين ذهبت بقية الأموال إلى تشييد المشروع؛ 
وهذا رقم يشكك فى صحته الكثيرون. كما هناك خلاف أيضأ حول حجم احتياطى النفط 
بالسودان» فوفقاً لما أورده خبير مرموق فى هذا المجال» يمثل السودان واحداً من الأماكن 
القليلة فى العالم التى يمكن فيها الحصول على النغط بتكلفة بسيطة ونقله مباشرة إلى السوق 
العالمية .(' ؛) وحسب المعلومات المتوفرة تبلغ تكلفة إنتاج البرميل الواحد من النفط السودانى 
ثلائة دولارات ونصفء وتقدر تاليسمان أن احتياطيات السودان سوف تزداد بمقدار ما بين 
٠ت‏ إلى 7٠٠١‏ بعد الاكتشافات الجديدة.(١؟)‏ 

شركة تاليسمان للطاقة؛ الشركة الغربية الوحيدة التى شاركت فى المشروع؛ كان يسهم 
فيها عدد من الشركات والمؤسسات الحكومية الأمريكية» ولهذا اتجهت معظم الضغوط من 
الكونقرس الأمريكى والصحافة الأمريكية» على هذه المؤسسات للتخلى عن أسهمها فى 
تاليسمان. ويضم حملة الأسهم هؤلاء ولاية نيوجيرسى (أربعمائة وثلاثين ألف سهم) . 


714 


صندوق المعاشات بولاية نيويورك (" ملايين سهم)» ولاية ويسكونسين (مائة وثمانين ألف 
سهم)؛ صندوق معاشات الموظفين بولاية كاليفورنيا (مائة وثمانين ألف سهم)» إلى جانب 
الكنيسة المشيخية بالولايات المتحدة والتى اتخذت قراراً بالتخلص من أسهمها لأنها لا تريد 
أن تبدو وكأنها تؤيد نظاماً يسترق الأطفال والنساء.("؛) وفى إطار حملة جماعات حقوق 
الإنسان ضد نظام الخرطوم كثفت هذه الجماعات نشاطهاء فى البدء» ضد الهيئات 
الأمريكية المساهمة فى تاليسمان للتخلص من أسهمها فى تلك الشركة» ولكن» سرعان ما 
توجهت هذه الجماعات بضغوطها إلى الشركة الصينية. رأس الرمح فى هذه الحملة كان 
عضو الكونقرس عن ولاية فيرجينياء فرانك وولف الذى كتبء فى أغسطس :١115‏ إلى 
رئيس اللجنة الفيدرالية للبورصة والأوراق المالية (©58) مطالبا إياه بمنع إدراج شركة 
البترول الوطنية الصينية (7/560) فى بورصة نيويورك لتواتر الأخبار عن استثمارها لحوالى 
مليار دولار أمريكى فى مشروع النفط السودانى. قال وولف أن أمريكا التى أدانت السودان 
بوصفه دولة راعية للإرهاب العالمى يجب أن لا تسمح باستغلال أسواق المال الأمريكية 
لتمويل الإرهاب بصورة غير مباشرة. أضاف عضو الكونقرس أن السماح للشركة الصينية 
برفع جزء من رأس مالها فى الولايات المتحدة سيقود إلى استخدام مدخرات المؤسسات 
والأفراد فى أمريكاء بصورة غير مباشرة» فى دعم شركة تساند نظاماً للحكم متورطأً فى 
ممارسة العبودية»ء والقتل الجماعىء والإرهاب. وقد تكللت جهود وولف بالنجاح عتدما 
كتبت إليه لاورا انقرء الرئيس السابق للجنة الفيدرالية للبورصة (©5582) بوصفه رئيساأً للجنة 
الكونقرس للمخصصات (عع)]01: 0010) 2121085م0مم8) وهى اللجنة التشريعية التى 
تشرف على اللجنة الفيدرالية للبورصة:ء تقول أنها لن تسمح للشركات المدرجة فى سوق 
المال بالولايات المتحدة بالقيام بأى عمل يعرقل سياسة العقوبات الأمريكية ,("*) ومن 
المعروف أن القوانين الأمريكية تلزم الشركات العاملة فى سوق المال بالإفشاء بأى معلومات 
عن المخاطر السياسية التى قد تتعرض لها الاستثمارات الصادرة من سوق المال الأمريكى. 
إلا أن شروطاً جديدة وضعت لمراقبة الاستثمار فى بلاد محددة (العراقء إيران» كوباء 
مانيمار (بورما)؛ السودان) . فى خطابها لوولف قالت انقر نحن نأخذ على محمل الجد 


255 


الاتهام الذى طال كلا من تاليسمان والشركة الصينية»ء ولهذا فإن أخفقت الشركتان فى 
الكشف لنا عن مناشطهما الاقتصادية فى السودان؛ وإن كان للمعارضة العامة لاستثمارهما 
أثر على ذلك الاستثمارء فستكونا محل حساب .(؟؟) والإشارة هناء فيما يبدوء للضغط 
المتصاعد على كلتا الشركتين داخل أمريكا نظراً لوجود شك معقول فى أن عملياتهما فى 
السودان تعزز من المجهود الحربى للحكومة؛ ومن قدراتها على المضى فى سياساتها 
القمعية» وانتهاكها للحقوق السياسية والدينية للمواطنين. 

عقب تلك الرسائل المتبادلة مع لجنة البورصة أصدر مجلس النواب الأمريكى 
(5يونيو/ حزيران: )3٠٠١‏ قانوناً يهدف إلى تيسير وصول الإغاثة لضحايا المجاعة؛ وإلى 
تقديم حل شامل للحرب فى السودان» وطالب القسم الثامن من القانون بحظر جميع الكيانات 
التى تقوم بأى نشاط تجارى أو اقتصادى فى السودان» وتتاجر فى سبيل ذلك النشاطء الأوراق 
المالية (أو قسائم الإيداع الخاصة بتلك الأوراق) فى أى سوق للمال فى الولايات المتحدة من 
العمل فى ذلك السوق ما لم تفصح عن الآتى. 

١‏ - طبيعة ومدى نشاطها في السودان. 

" - هوية المؤسسات التى تعمل معها فى السودان. 

"٠"‏ - علاقة أنشطتها بأية انتهاكات لحقوق الإنسان أو للحريات الدينية. 

* - كيفية استغلال الأموال التى حصلت عليها من أسواق المال الأمريكية فى تعزيز 
نشاطها فى السودان. 

كما طالب القانون وزير الخارجية بمد الكونقرس بتقارير دورية عن تمويل وتشييد البنى 
التحتية وخطوط الأنابيب اللازمة لاستثمار النفطء وآثار ذلك التمويل والتشييد على سكان 
مناطق إنتاج البترول» وعلى قدرة حكومة السودان على تمويل الحرب بعوائد استثمار النفط. 

واجه الصينيون اتهامأ آخر بدعم المجهود الحربى للنظام الحاكم فى السودان بإمداده 
بحرس خاص لحماية حقول النفط حتى يتوفر الجيش السودانى وأفراد الأمن لمهام أخرى: 
الحرب. ذلك الاتهام أكده التقدير السنوى للمعهد الدولى للدراسات الإستراتيجية (1155) 


7156 


عندما أشار فى تقريره السنوى (التوازن العسكرى )3٠١١- 7٠٠٠١‏ إلى وجود عناصر 
أجنبية فى الجيش السودانى تنحدرء بصفة أساسية» من ثلاثة بلاد: الصينء إيران؛ العراق. 
كما جاء فى صحيفة النيويورك تايمز خبر عن تزويد كل من الصينء وروسياء وبلغارياء 
وعدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة للسودان بالأسلحة فى مقابل الحصول على 
صادرات نفطية فى المستقبل.(”*) أقوال النظام نفسه حول سبل استغلال عائد النفط هى 
أسطع دليلاً من كل ما أوردته الصحفء وجاء به المعلقون» ولكن» مع هذاء لا يدرى المرء 
من يصدق من أهل النظام» أيصدق ما قاله وزير الطاقة نفسه عن أن بناء الجيش يمثل 
الأولوية القصوى فى جدول توزيع ذلك العائد؟ أم يصدق المزاعم المكرورة فى بيانات 
آخرين من أقطاب النظام عن توجيه التدفقات المالية الجديدة لتطوير البنية التحتية فى 
الجنوب ؟ نحن أميل لما قاله وزير الطاقة؛ فبناء الجيش لا يعنى شيئاً غير تمويل حربه فى 
الجنوب والشرق والجنوب الشرقىء وسداد فواتير صفقات الأسلحة التى أبرمها النظام مع من 
يمده بالسلاحء لاسيما وقد ظات الحرب تتواصل بلا هوادة أو رفق» كما ظل أكبر مورد 
للأسلحة للسودان (الصين) يتقاضى ثمن السلع الجهنمية التى أمد بها النظام من بترول 
السودان. من جانب آخرء تسارعت خطى النظام لتحقيق الاكتفاء الذاتى فى بعض الأسلحة 
من عائد النفط. وكان هذا محل فخر ومباهاة من جانب عسكرييه. ففى تصريح لمحمد 
عثمان يسء الناطق الرسمى باسم الجيش السودانىء» جاء أنه بحلول نهاية عام ٠٠٠١‏ 
سيكون السودان قادراً على إنتاج حاجته من الأسلحة والذخائر نتيجة لازدهار صناعة 
البترول فيه .(47) 

هذه هى الظروف التى جعلت الجيش الشعبى يكثف من ضغوطه على مناطق إنتاج 
النفط» ويطلق على نفط السودان اسم النفط الدموى 011 01000) ولهذا السبب أعلنت 
الحركة أن مواقع إنتاج النفط ونقله وتصديره ستبقى أهدافاً عسكرية مشروعة حتى يحل 
السلام أو يتفق على الوسائل لضبط إنفاق عائده . ونفهم أن لا يكون لهذه الكلمات وقع 
الموسيقى فى آذان أهل النظام» ولكن ما بال غير أهله الذين أخذوا يتهامسون بأن الحركة 
ثري كزهائهم من:رخاء طالزه بعذ هتنيق وغذة: فطل :من لنبضطظ الأمو بعد تصدير النضا+ 


137 


أعلى المعلّم الذى مازال يلاحق دون جدوى راتبه التافه لعدة شهور؟ أم على الموظف الذى 
ماترك مكتبه فى صميم الصيف القائظ إلا ليتجه إلى حافلة يقودها ليعوس بها (يكد 
ويكدح) على عياله؟ أم على الفتيات اللائى حملتهن المسغبة على ما تأباه نفوسهن؟ أو 
على بسطاء الحال الذين انتهى بهم الأمر لاقتيات المقمات (مواضع القمامة) . 

مهما كان من أمرء تصاعدت الضغوط على كنداء رغم ادعاءات تاليسمان الواهية بأن 
استثماراتها لا تساهم فى إلهاب الحرب وإطالة أمدها. أما الصين: رائدة حريات الشعوب 
التى تربت قياداتها على الكتاب الأحمرء فقد جعلها الذهب الأسود تتعاشى عن مواريتهاء 
فالتزمت الصمت المطبق. وفى حالة تاليسمان أعلن رئيس الشركة فى بيان اتسم بالوقاحة 
أنه لم يرما يشير إلى وجود أى انتهاكات لحقوق الإنسان فى السودان:(") وكما لو أن كافة 
القرارات التى أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة تدين فيها نظام الخرطوم لانتهاكاته 
لحقوق الإنسان» وصوتت عليها كندا بالموافقة» كانت مجرد حلقات فى قصص الأطفال. 
رغم جرأة رئيس تاليسمان على الحق» كان واضحاً أن الشركة بدأت تتأثر بضغوط منظمات 
حقوق الإنسان» إذ سارعت باستئجار شركة أمريكية للعلاقات العامة (20<:100م! لوهذ !1ذلا) 
لتجميل وجهها وإضفاء طابع إنسانى على استثمارها فى السودان. قال صحفى كندى أن 
تلك الاستراتيجية تشبه ما فعلته شركة شل فى منطقة اوقون فى نيجيريا.(*؛) فى حملتها 
التجميلية تلك» ذهبت تاليسمان إلى إصدار دورية إخبارية اسمها "الأمل (6م110)لتعرض 
فيها على الناقدين صوراً من إنجازاتها الاجتماعية فى مناطق الإنتاج مثل بناء المصحات 
وتعبيد الطرق.("؟) ذلك العبث المخادع لم يرض الجماعات الضاغطة أو يفت من عضدهاء 
إذ مضت فى حملتها على الشركة والحكومة الكندية للحد الذى دفع وزير الخارجية الكندى. 
لويد اكسويرثىء إلى التحقيق فى نشاط الشركة بالسودان والتعهد بمعاقبتها إن ثبت أن لها 
دوراً فى تفاقم الصراع. وبالفعل بعثت كندا فى أكتوبر ١595‏ بمحقق مستقل (جون هاركر) 
للتأكد من صحة الاتهامات الموجهة ضد تاليسمان. 

وعقب زيارته للسودان» قدم هاركر تقريره فى :7٠١ ١رياني 7١‏ مؤكداً فيه إسهام 
عمليات إنتاج النفط التى تساهم فيها تاليسمان فى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان» وفى 


10568 


زيادة حدة الحرب الأهلية. كما انتهى التقرير إلى أن عائدات النفط الجديدة عززت من 
قدرات الحكومة على الاستمرار فى الحرب.('*) لاحظ هاركر أيضأ أن تاليسمان أسهمت 
مباشرة فى الصراعء إذ سمحت للحكومة باستغلال مهبط الطائرات المدنية الذى أقامته 
حول حقول البترول فى هيجليج. فمن ذلك المهبط كانت الحكومة تشن هجماتها الجوية على 
المدنيين وممتلكاتهم . هذا الاتهام أيدته صحيفتان بريطانيتان مرموقتان.('”) هذه الغارات 
المنطلقة من مطار هجليج استهدفت المدنيين داخل وحول بانتيوء مما عرضهم إما للطرد أو 
الاستنصالء وهؤلاء هم الذين لم ترهم تاليسمان» ولم تسمعء أو تقل عنهم شيئاً. ولعل هذا 
هو السبب الذى دفع الأمم المتحدة لأن ترفض استخدام مهبط الطائرات فى هيجليج من 
أجل مناشطها الإنسانية» حتى لا تحيط العمل الإنسانى بالشبهات. 

إلى جانب ذلكء تناول هاركر فى تقريره حالات "الاختطاف القسرى للبشرء وهوء كما 
قال» اسم مقنع للعبودية. أضافء أن القضية ليست قضية ألفاظ» لأن المحصلة النهائية لهذه 
العمليات هى الاستغلال السيئ من الإنسان لأخيه الإنسان بالتسلط عليه وتملكه.("”) وفى 
النهاية» قدم هاركر اقتراحين اتسما بالعمق لحل المشكل الناجم عن سوء استغلال الحكومة 
لعائدات البترول؛ قال أمامنا طريقان لتحييد الأثر السلبى لإنتاج النفطء الأول هو إيقاف 
الإنتاج حتى يصل السودان إلى سلام حقيقى؛ والثانى تجنيب عائدات الحكومة من النفط 
حتى يستخدمها جميع السودانيين بإرادتهم عندما يحل السلام فى المنطقة.”) كان من 
المفترض أن يكون فى هذا التقرير الدامغ ما يكفى لإقناع اكسويرثى بالوفاء بالعهد الذى 
قطعه بأن يفرض عقوبات على تاليسمان» متى ما أثبت المحقق مسئوليتها فى إطالة أمد 
الحرب؛ ولكن للأسفء لم تنكص الحكومة الكندية عن تعهدها فحسبء بل سعت للتأثير 
على المحقق كيما يبدل فى بعض استنتاجاته وأحكامه. هذا النكوصء وأكثر منه محاولة 
مسخ التقريرء أثار غضب المنظمات الكندية غير الحكومية!؟”) على حكومتها ودفعها 
للمطالبة بالإفراج عن التقرير الأصلى فورأء بموجب قانون حرية الحصول على المعلومات. 
اتهمت المنظمات أيضاً الحكومة بالتلاعب فى فحوى التقرير وطالبت الوزير بثلاثة أشياء: 
إصدار إعلان يوقف بموجبه تدفق البترول فى السودان إلى أن يحل السلام فى ربوعه. 


759 


تمحيص ومراقبة أنشطة تاليسمان وغيرها فى حقول البترول فى السودان من حيث أثرها 
حقوق الإنسان؛ الاضطلاع بدور قيادى فى مجلس الأمن لحمله على أن يلعب دوراً 
فى قضية السلام بالسودان. 
تراجع اكسويرثى لاقى أيضأ هجوماً عنيفآً من جانب جماعات حقوق الإنسان خارج 
كنداء فعلى سبيل المثالء لفت روجر وينترء رئيس لجنة اللاجئين بالولايات المتحدة نظر 
الحكومة الكندية إلى النفاق الذى يشوب موقفها. ذكر وينتر أن كندا ظلت تقود حملة مكثفة 
لفرض عقوبات على الحكومات والشركات التى كانت تبتاع الألماظ من جماعة سافمبى 
(يونيتا) بأنجولا لأن تلك المبيعات كانت تفاقم الحربء ثم تساءل: لماذا اختلف الوضع الآن 
فى السودان حيث تدور أكبر حرب اهلية عرفها العالم» واعنفف صراع بين المدنيين منذ 
الحرب العالمية الثانية ؟ كما استنكر وينتر تبرئة كندا ساحة شركة تابعة لهاء رغم أثر 
عملياتها فى دعم تلك الحرب بصورة مباشرة وتامة.(””) تهال نظام الخرطوم فرحاً لتبرئة 
الحكومة الكندية لساحته من الاتهام بانتهاك حقوق الإنسان وتوسيع نطاق الحرب عبر 
عائدات النفطء حتى بعد إثبات هاركر لأن الطائرات التى توالى القصف الجوى للأهداف 
المدنية فى المناطق المحيطة ببانتيو كانت تقلع من مهبط طائرات تاليسمان. ولريما ظن 
المسئولون الكنديون أنه من الخير استكلاف نظام الخرطوم» بدلاً عن استعدائه» حتى يُجر 
جراً إلى عملية السلام. وبالفعل عينت الحكومة الكندية مبعوثها الخاص للسلام (السناتور 
لويز ويلسون) » وكلفتها بتقديم الدعم للجهود التى تقوم بها الإيقادء كما قررت كندا أن 
تستفيد من دورة رئاستها لمجلس الأمن لعرض قضية السودان على المجلس بهدف اتخاذ 
قرار يدعم مبادرات السلام القائمة» ويحث الطرفين على التجاوب معها. ولكنء ما أن شاع 
أمرإدخال مجلس الأمن فى قضية الحرب والسلام فى السودان حتى حشدت حكومة 
السودان كل قواها الدبلوماسية لإجهاض المحاولة الكندية» وأفلحت فى ذلك. هذا موقف لا 
يدهش الذين يعرفون طبيعة النظام؛ فهو أولاً: نظام لا يحفظ جميلا لأحدء وثانياً: لا يبغى 
سلاما عادلاً يرعاه ويضمنه المجتمع الدولى. فالسلام الوحيد الذى ينشده هو ذلك الذى 
يضمن له الإمساك بمقاليد السلطة إلى أبد الآبدين. 


790 


وصف نشطاء حقوق الإنسان محاولة الحكومة الكندية الدخفيف من وطأة النتائج التى 
توصل إليها هاركر بالخيانة» كما استخفوا بادعاءاتها بأنها لم تفعل ذلك إلا من أجل تيسير 
إشراك الخرطوم فى حوار بناء. ذلك الادعاء كان جديراً حقأ بالاستخفافء إزاء موقف 
النظام السودانى من مبادرة كندا لنقل الأمر إلى مجلس الأمن. فحتى إن كان استئكلاف 
النظام السودانى هو السبب فى نكوص الحكومة الكندية عن تعهداتها بمحاسبة تاليسمان 
متى ما أثبت تحقيق هاركر ضلوعها فى أى ممارسات تضاعف من الصراع؛ كان من 
الواجب عليها أن تستخلص الدرس من إجهاض الخرطوم لجهودها لإشراك مجلس الأمن» 
لا كحكم فى صراعء بل كميسر لصنع السلام بالسودان. هذا ما دفع ميل مدلتون لمخاطبة 
رئيس وزراء كنداء جان كريتين بالقول: ليس لدى الخرطوم أى حافز للاشتراك فى 
محادثات السلام والمساومة بغية الوصول إلى اتفاقية عادلة» خاصة وهم يعلمون تمامآ 
أنه ستكون لهم اليد العليا فى الأمور العسكرية» طالما بقيت عائدات النفط فى حوزتهم. 
اختار مدلتون عنوانا داوياً لرسالته: "المنطق المخيف وشبح نيفيل شمبرلين('”). 
لمتماقءطاسقطن) عااتاعاظ )0 أومطن عط لسة عاعمنا علتمعاطعت1) ولم يكن ميدلتون مغاليا 
عندما قال: إن التعاون البناء من أجل السلام لن ينجح فى السودان لنقس السبب الذى جعله 
لا ينجح مع هتلر فى بداية الحرب العالمية. وهكذا ظل تقرير هاركر شبحاً يؤرق الحكومة 
الكندية مما دفع وزير الخارجية الجديدء جون مانئلىء إلى الإعلان أمام البرلمان بأن 
عمليات تاليسمان فى السودان تساعد فى تمويل الحرب؛ ولكن كسلفه؛ لم يبد استعداداً 
لفرض عقوبات على الشركة خوفاً من خلق سابقة يعسر على كندا التعامل مع مثيلاتها 
مستقبلاً عبر العالم.(07) 

لم يقف الاتهام للشركات المنتجة للنفط فى السودان عند تاليسمان والشركتين الصينية 
والماليزية» (أكبر المستثمرين فى نفط السودان)؛ بل شمل شركاتء أغلبها غربية. ففى 
تقرير لها أوردت منظمة العفو الدولية قائمة طويلة لشركات تتعاون مع نظام الحكم 
السودانى فى إنتاج النفط» كما أشارت إلى صمت تلك الشركات عن الانتهاكات الجسيمة 
لحقوق الإنسان فى مناطق الإنتاج حول بانتيوء وحملتها كامل المسئولية عن النتائج المترتبة 


791 


على أعمالهاء وآثارتلك الأعمال على المجتمع المحلى.(”) دعت المنظمة أيضاً هذه 
الشركات إلى القيام بحوار بناء مع الحكومة لتعزيز حقوق الإنسان. وتشير الدلائل إلى أن 
هؤلاء المستثمرين» فى غمار سعارهم الجماعى لثروة السودان الجديدة؛ أداروا ظهورهم لكل 
القيم الإنسانية التى يتوجب على الشركات الكبرى الالتزام بها. وضمت الشركات التى 
أو ردتها المنظمة فى تقريرهاء إلى جانب الشركة السودانية سودابت ()500206)» والشركات 
الثلاث التى أتينا على ذكرها: لندين أويل (السويد)» أوإم فى سودان (النمسا)؛ اجيب 
(إيطاليا)» ايلف اكيتين (فرنسا)» قلف بتروليم (قطر)» الشركة الوطنية للغاز (إيران) » توتال 
فينا (فرنسا)ء شل (هولندا)؛ إضافة إلى شركات استشارية من كندا وبريطانياء 
والكونسورتيوم الذى قام ببناء خط الأنابيب بقيادة شركة ما نيسمان الألمانية. ومن بين كل 
هذه الشركات استجابت شركتان للضغوط 0 ربما لتدهور الحالة الأمنية فى المنطقة 
التى كانتا تباشران فيها العمليات: شركة لندين أويل السويدية وشريكتها النمساوية اوإم فى. 
ومما يجدر ذكره أن مربع 54المخصص لهذه الشركة قد شهد واحدة من أكبر عمليات 
التهجير القسرى للسكان لجأ فيها الجيش لسياسة الأرض المحروقة حتى يتم تشييد الطريق 
الذى يصل منطقة الإنتاج فى جاث بالمعسكر الرئيسى فى رابكونا.(1*) 
وفى منتصف مارس ٠٠١١‏ أصدرت المعونة المسيحية بالمملكة المتحدة مدناةة:8©) 
(101 .414 تقريراً موثقاً عن عمليات النفط فى السودان طال فيه الاتهام الشركة 
البريطانية للبترول (835).» بالرغم من عدم تورط تلك الشركة فى أى عمليات مباشرة 
بالسودان. هذه الحقيقة لم تكن خافية عن كاتبى التقريرء إلا أنهم ألمحوا إلى استثمار 
الشركة البريطانية فى شركة فرعية لشركة الصين الوطنية للبترول (128©-60ات2)ء» 
ورأوا فى ذلك الاستثمار ما يجرم الشركة البريطانية ولو بالتداعى» ولعل فى هذا التخريج 
شيا من الشطط. أضاف التقرير أيضأ إلى قائمة الاتهام شركة رولز رويس البريطانية 
لتزويدها العمليات البترولية فى السودان بالمضخات ومحطات الضخ. وفى النهاية؛ 
توصلت المعونة المسيحية إلى نقس النتائج والاستنتاجات التى أنتهى إليها هاركرء إلا أنها 
أضافت التوصيات التالية: 


02 


١‏ تعليق شركات النفط فوراً لعملياتها الدائرة فى السودان إلى أن يتحقق السلام. 

"- سحب شركة البترول البريطانية لأسهمها فى شركة الصين الوطنية للبترول وفى 
الشركات التابعة لها. 

'- بذل النظام الحاكم المزيد من الجهد من أجل الوصول إلى سلام عادل؛ ووضع حد 
فورى لجميع انتهاكاته لحقوق الإنسان. 

5- ضمان الاستغلال العادل لعائد النفط واحتياطيه لصالح جميع أهل السودان. 

5 اتخاذ المعارضة لخطوات فعالة وجادة من أجل تحقيق سلام عادل ودائم. 

 "‏ مراقبة صندوق النقد الدولى لعائدات النفط لضمان عدم استغلالها فى تمويل 
النشاطات العسكرية والأمنية. 

وفى نهاية أكتوبر/ تشرين أول 7٠١7‏ رضخت شركة تاليسمان للضغوط وقامت ببيع 
نصيبها فى شركة البترول السودانى لشركة البترول والغاز الطبيعى الهندية» وهى إحدى 
الشركات الفرعية التابعة للشركة القومية للنفط بالهندء لقاء ١.7‏ بليون دولار كندى (8/ات 
مليون دولار أمريكى) 

الأبعاد الانسانية للحرب 


فى تقرير له فى 77 آذار/, مارس ١9150‏ إلى لجنة العلاقات الدولية فى الكونقرس 
الأمريكى» أوضح إدوارد بيرن» مساعد وزير الخارجية بالإنابة للشئون الأفريقية» أن الأزمة 
التى يواجهها جنوب السودان هى نتاج لنزاع طويل لقى فيه ما يزيد على مليون شخص 
مصرعهم فى الحرب الأهلية التى خلقت أكبر مأساة إنسانية عرفها العالم. وحسب قوله كان 
هناك يومذاك حوالى 755 ,؛ مليون من السودانيين بحوجة إلى المساعدة الإنسانية؛. ويدون 
توفر تلك المعونة سيلاقى مئات الآلاف منهم حتفهم. ولا نخال أن العالم كان سيصمت أمام 
كارثة إنسانية بهذا الحجم» ولهذا أصبح وضع السودان الكارثى محوراً لاهتمامه . هذا 
الاهتمام نال حقه فى التعبير داخل الكونقرس الأمريكىء: كما لم يحدث فى أى مكان آخر» 


103 


فمثلاً» قام ثمانية وأربعون عضواً فى الكونقرس بزعامة هارى جونستون (ديموقراطى) » 
رئيس اللجنة الفرعية لآفريقياء وفرانك وولف العضو الجمهورى البارزء بالكتابة إلى الرئيس 
كلنتون فى ١‏ آذار/ مارس ١134‏ لإلقاء الضوء على المأسأة وإبراز حقيقة هامة ربما تكون 
قد أفلتت من وعى الكثيرين» بمن فيهم بعض أهل السودان. قال عضوا مجلس النواب 
الأمريكى للرئيس كلنتون أن عدد الذين لاقوا حتفهم فى حرب السودان فى الثلاث سنوات 
الماضية يفوق كثيراً عدد ضحايا الصراع فى الصومال والبوسنة مجتمعين. أضافا فى تلك 
الرسالة أيضاً أن عدد المهجرين داخلياً نتيجة لحرب السودان منذ عام ١187‏ يبلغ ضعف 
عدد المهجرين فى رواندا أثتاء احتدام الصراعء طبقاً لما أوردته تقارير الأمم المتحدة. ولهذا 
ناشدا الرئيس الأمريكى تعيين مبعوث خاص رفيع المستوى لوضع حد للإتجار بالسلام فى 
السودان» ولممارسة ضغوط على مجلس الآمن ليصدر قرارات صارمة لفرض سلام عادل 
وشامل. 

دفعت الكارثة الإنسانية بالسودان أيضا اللجنة الخاصة بالجوع فى مجلس النواب 
الأمريكى إلى اتخاذ خطوات عاجلة لإسعاف المتضررينء وقد لقى رئيس اللجنة؛ ميكى 
ليلاند» حتفه فى آب/ أغسطس ١584‏ نتيجة لتحطم الطائرة التى كانت تقله فوق هضاب 
أثيوبيا أثناء مهمة استكشافية للمناطق التى تأثرت بالمجاعة . ولاشك فى أن ليلاند الشجاع 
آثر المخاطرة بحياته فى أجواء أفريقيا المضطربة:ء بدلاً من الوقوف موقف المتفرج على 
الآلاف الذين يتضورون جوعأ كما وقف كثيرون غيره فى داخل السودان وخارجه: ولما 
يكلوا بعد عن الحديث عن التدخل الأمريكى فى السودان. وقبل رحلة ليلاند المشئومة كتب 
عضوا مجلس الشيوخء ألان سمسون وادوارد كينيدى فى ٠١‏ كانون ثانى/ يناير ١946‏ 
رسالة للأمين العام للأمم المتحدة؛ بيريزدى كويلارء يصفان فيها الوضع الإنسانى فى 
السودان بأنه موجع للغاية» ويناشدانه بممارسة قيادة دولية قوية لتلافى الكارثة الإنسانية 
فى السودان» وتحقيق السلام فى القرن الأفريقى. جاءت تلك الرسالة فى أعقاب زيارة 
مشابهة لزيارة ليلاند للمنطقة» قام بها بعض العاملين فى اللجنة الفرعية لمجلس الشيوخ 
الخاصة بالهجرة وشكون الإغاثة. وفى ١9‏ كانون ثان/ يناير ١185‏ كتب الأمين العام 


794 


لعضوى مجلس الشيوخ يشاركهما الرأى فى خطورة الموقفء إلا أنه أضاف أن هناك 
مساحة للتدخل الإنسانى من جانب الأمم المتحدة بالتشاور مع الحكومات المعنية؛ ولكن 
المنظمة تجد صعوبة فى المشاركة فى صنع السلام لأن الحكومات المعنية تعتبر الوضع 
السياسى الراهن شأناً داخلياً. هذا التمحك من جانب "الحكومات المعنية حول مفهوم الشئون 
الداخلية يمثل قراءة عفى عليها الزمن للمادة "(7) من ميثاق الأمم المتحدة» وأكثر من 
ذلك استهانة غريبة بحيوات البشر الذين تمارس عليهم سيادتها. 

ولربما كان وراء الحذر الذى أبداه الأمين العام تجربة أليمة فى السودان» تمثلت فى قرار 
حكومة صادق المهدى إعلان ممثل الأمين العام فى السودان» ونستون براتلى» شخصاً غير 
مرغوب فيه فى السودان. براتلى كان واحدآ من أميز موظفى برنامج الأمم المتحدة للتنمية 
(0782])ء وما جاء به إلى السودان إلا إنجازه المشهود فى كمبوديا. على أن خطيئته 
الكبرىء فى نظر حكومة الصادقء كانت هى اجتماعه بالحركة فى أديس أبابا فى 
شباط/فبراير ١185‏ للاتفاق على وسائل إيصال الإغاثة إلى الجنوب. وكان لنا شرف 
المشاركة فى ذلك الاجتماع بجانب الدكتور لام أكول. ومن الواضحء أن حكومة السودان» 
يومذاكء رأت فى ذلك الاجتماع مع الخوارجء والترتيبات التى اتفق عليها براتلى مع 
الحركة حول الإغاثة» تهديدآ للسيادة الوطنية. وكانت الأمم المتحدة آنذاك تقود عملية إغاثة 
مكثفة أطلق عليها عملية قوس قزح (2318008 08620100): لتوصيل الإغاثة إلى 
الجنوب» سواء كان ذلك فى المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة:» أو المناطق التى تسيطر 
عليها الحركة. من الواضح أيضاً أن رئيس الوزراء لم يكن منزعجاً بمعاناة الشعب الذى 
يحكمه فى الجنوبء أو ظن أنه يحكمه» بنفس القدر الذى انزعج به المجتمع الدولى. وليس 
أبلغ تعبيراً عن عدم اكتراث رئيس الوزراء بمعاناة أهل الجنوب من تصريحه الذى قال فيه: 
إن رفض قرنق السماح لجهود الإغاثة بالمرور عبر الخرطوم لايقود إلا إلى قتل شعبه.” 
وكأن رئيس الوزراء "صاحب السيادة على كل شعب السودان قد تخلى بذلك التصريح عن 
قطاع من هذا الشعب الذى يسود ليصبح "شعب قرنق. فات على رئيس الوزراء أيضاً مغزى 
التعبير قوس قزحء فدلالة التعبير هو أن هناك مشروعاً إغائياً إنسانياً تندرج تحته جماعات 


105 


مختلفة الألوان. الخلاف بين قرنق وحكام الخرطوم يومذاك كان يدور حول وسائل إيصال 
الإغاثة للمناطق الواقعة تحت سيطرة الحركة؛ فحين أصرت الحكومة على نقلها عبر 
الخرطوم تحت إشراف موظفين حكوميينء كانت الحركة تصر على نقلها للمناطق التى 
تسيطر عليها عبر كينيا وتحت رقابتها واشراف الأمم المتحدة» كما لمست الحركة فى إصرار 
الحكومة على وجود مراقبين حكوميين فى تلك المناطق محاولة للاختراق الأمنى. تبعأ 
لذلك حذرت الحركة بأنها ستمنع أى طائرة من طائرات الإغاثة من المرور عبر المجال 
الجوى للمناطق التى تسيطر عليهاء دون الحصول على موافقة مسبقة منها. 

اشتداد المأساة الإنسانية وتصلب المواقف حول سبل معالجتها دفع إدارة الرئيس بوش 
(الأب) لإصدار ورقة بيضاء فى 77 حزيران/ يونيو1145» ركزت على دور الحكومة 
الأمريكية فى وصول المساعدات الإنسانية للسودان» واقترحت إيفاد مراقبين دوليين 
للإشراف على وصول الإغاثة للمتضررينء والحيلولة دون استغلالها سياسياً من جانب أى 
من طرفى النزاع . تلك الورقة صدرت بعد إعلان وزير الخارجية؛ جيمس بيكرء عن 
استحالة الصمتء او الدفاع عن الوضع فى السودان. وصف صادق المهدى اقتراح بيكر 
بأنه إقتراح غير مقبول ولا يتسم بالود.('') تطلب الأمر بعد ذلك سقوط ثمانى عشرة 
حامية للجيش فى أيدى الجيش الشعبى!'') لإقناع رئيس الوزراء بقبول برنامج للإغاثة 
يشارك الطرفان فى الإشراف عليه» قام بهندسته باقتدار فائق المدير التنفيذى لليونيسيف. 
الراحل جيمز قرانت. وأطلق قرانت على البرنامج الجديد اسم عملية شريان الحياة 
(السودان) .(5آ0 .0قلنا5 عداءآ ءأأنآ «05)ةرعم0)على ضوء ذلك الاتفاق اتفقت الاطراف 
على أن يتولى إدارة البرنامج كيان ثلاثى يضم الأمم المتحدة» حكومة السودان» الحركة 
الشعبية» ومن ذلك التاريخ الذى أصبح فيه توفير الغذاء لجزء كبير من أهل السودان مهمة 
دولية» لم يعد حديث حكومات الخرطوم من الصادق إلى البشير عن السيادة والتدويل أكثر 
من وهم وأغاليط 6 

الاهتمام بالمأساة الإنسانية لم يقتصر على الولايات المتحدة والمنظمة الدولية فحسب. 
بل طغى أيضاً على هموم دول الاتحاد الأوروبى. فانتهاكات حقوق الإنسان؛ وتصاعد 
الحرب والكوارث الإنسانية الناجمة عنهاء دفعا وزراء الاتحاد الأوروبى فى / 


796 


آذار/ مارس554١‏ للمطالبة بفرض حظر كامل على مبيعات الأسلحة للسودان.(') فى 
نفس الوقت ناشد البرلمان الألمانى الحكومة الفيدرالية لإنهاء كافة أوجه التعاون الثنائى مع 
الخرطوم» والضغط على حكومته لإيقاف انتهاكات لحقوق الإنسان: والسماح بوصول 
الإغاثة إلى الجنوب دون أى معوقات.(””) طلبت أيضاً جماعة حقوق الإنسان فى البرلمان 
البريطانى» التى تنتظم أعضاء من جميع الأحزاب فى ذلك البرلمان» وزير الخارجية فى 
5 آذار/ مارس ١114‏ بعرض قصضية السودان على مجلس الأمن بعد أن تسلم اللورد 
ايفبرى» رئيس الجماعة البرلمانية لحقوق الإنسانء بناء على طلبه» تقريراً من جاسبر بيرو 
المقرر الأممى لحقوق الإنسان فى السودان حول الأوضاع الإنسانية فى البلاد.(؟*) فى تلك 
الفترة أيضاء زار جنوب السودان ععدد من الوزراء الأوروبيين ومن أعضاء الكونقرس 
الأمريكى للاطلاع بأنفسهم على حقيقة الموقف.(*') ولا نحسب أن هناك صراعاً آخر فى 
أفريقيا حظى بمثل هذا القدر من اهتمام الحكومات الأوروبية» أو المشرعين الأمريكيينء أو 
المنظمات الطوعية الدولية . ومما هو جدير بالذكر أن تلك المأساة التى هزت ضمير العالم 
من أقصاه إلى أقصاه لم تلق أدنى اهتمام من المنظمات الطوعية العربية» ناهيك عن 
الحكوماتء رغم أن الدول العربية كانت هى الأعلى صوتاً فى الحديث عن وحدة السودان» 
والتحذير من فصل الجنوب. من جانب آخرء تحملت الدول الأفريقية المحادة للجنوب 
(كينياء يوغنداء أثيوبيا) عبئا باهظاً فى إيواء اللاجئين الجنوبيين» كما قامت بإسهام لا ينكر 
فى تسهيل وصول الإغاثة لمستحقيها فى المناطق المجاورة لها بجنوب السودان. 

ما كان المرء ليتوقع أن يزداد سوءاً هذا الوضع الممعن فى السوء إلى أن جاء نظام 
الجبهة» ففى بداهة عهده» مارس ذلك النظام كل الألاعيب الممكنة لتعطيل جهود الإغاثة 
الدولية (برنامج شريان الحياة) بهدف القضاء على الإشراف الثلاثى على البرنامج. 
ولعلمهما بتسخير النظام للإغاثة لخدمة أهدافه السياسية (تقارير مراقبى حقوق الإنسان) , 
رفض الطرفان الآخران (الأمم المتحدة والحركة) أى تعديل فيما اتفق عليه من قبل. سعى 
النظام أيضاً لتوجيه الإغاثة» فى الشمال والجنوب» نحو المنظمات الإسلامية التى تسيطر 
عليها الجبهة(''). وما كان هذا ليثير ريبة أحدء لو كانت تلك المنظمات طوعية كما تسمىء 


1017 


ولكنء كما أبنا فى الفصل السابع؛ أصبحت تلك المنظمات واجهات إنسانية لعمل الجبهة 
السياسى والذى شملء فيما شملء محاولة تقويض الدول المجاورة» بل اغتيال الرؤساء. 
استرسال النظام فى العناد لم يكن أكثر وضوحاً مما كان عليه فى حالة إغاثة منطقة جبال 
النوبة» إذ أغفلت تلك المنطقة تماماً فى وجه وكالات الإغاثة؛ وخصوصاً تلك التى تعمل 
تحت مظلة برنامج شريان الحياة. هذا العناد حمل الأمين العام لللأمم المتحدةء كوفى أنان» 
على القيام بزيارة خاطفة للخرطوم عام ١145‏ للتدخل بنفسه فى الأمر. ومضت على تلك 
الزيارة» ثلاث سنوات دون أن ترفع الخرطوم حصارها على منطقة جبال النوبة. ذلك 
الموقف لم يتغير إلا بعد زيارة السناتور دانفورث. المبعوث الشخصى للرئيس بوشء للمنطقة 
وإصراره على أن سماح الخرطوم بوصول الإغاثة لمنطقة الجبال سيكون هو المحك لامتحان 
صدقيتها فى التعاون مع المجتمع الدولى فى القضايا الإنسانية. 

الموقف الإنسانى فى الجنوب» رغم وصول الإغناثة التى تستحق كل تقدير فى حينها 
(إما مباشرة من الدول المانحة أو بصورة غير مباشرة عبر برنامج شريان الحياة) لم 
يتحسن كثيراً. لذلك؛ استنتجت معظم وكالات المعونة الإنسانية أن المأساة صنيعة الحرب؛ 
وأنه بلا نهاية حاسمة للحرب فإن كافة التدخلات الإنسانية لن تكون غير مسكنات تهدئ 
الألم لبرهة. تلك الحقيقة ظهرت جلية أثناء المجاعة المدمرة التى اجتاحت منطقة بحر 
الغزال فى عامى 1994/1557 . تفجرت أنباء المعاناة الموجعة التى تعرض لها أهل تلك 
المنطقة فى الصحف العالمية» وتداعت معها إلى أذهان عابرى الطريق الأحزان التى أغمت 
ارمياء: أما إليكم يا جميع عابرى الطريقء تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزنى الذى 
صنع بى (المرثيات .)١7:١‏ وإن نحينا جانباً الفجيعة التى أوقعتها تلك المأساةء فإن 
مجاعة بحر الغزال؛ والاستهانة التى تعاملت بها الحكومة معهاء كان قمين بها أن تحمل 
المعنيين بأمر السودان على تركيز انتباههم على الأسباب الجوهرية للمشكلة. فاقت تلك 
المجاعة. فى هولها وإيلامهاء كل انتهاكات حقوق الإنسان» ولم يستطع المجتمع الدولى؛ 
وهو يرى صورها الوجيعة وإثخانها المؤلم عبر التلفازء أن يدير لها ظهره. كانت ضرباً من 
ضروب الماسى الإنسانية التى لا يصدقها عقلء أو ينغض عنها طرف رجل ذى ضمير 


108 


حى . وقد أتيح لنا متابعة تلك المأساة بصورة مباشرة وغير مباشرة من أربعة وجوه . الوجه 
الأول هو التواصل المباشر مع أهل الوجيعة عبر منظمة السودان للإغاثة وإعادة التأهيل 
(5814)» وهى الجناح المختص بالنشاط الإنسانى فى الحركة» والوجه الثانى هو التواصل 
مع المنظمات الإنسانية (الأهلية والدولية) خارج السودانء بما فى ذلك بعض المنظمات 
العربية» للإسهام فى إنقاذ ضحايا المجاعة» والوجه الثالث هو متابعة المأساة فى أجهزة 
الإعلام الدولية والعربية» والوجه الرابع هو مراقبة ردود قعل المواطن الشمالى لتلك الماسأة 
التى هزت العالم. ولربما نتوقف عند الوجوه الثلاثة الأخيرة لما لها من دلالات. وما فيها 
من عبر. 
اهتمام الصحافة العربية بالحدث كان محدوداًء إذ لم يلق فيها ما لقيه من اهتمام فى 
الصحافة الأجنبية» إن لم يكن لدوافع إنسانية فعلى الأقل لأهميته الخبرية. وعلنا نستثنى من 
هذا (حتى لا نقع فى تعميم ضار) الاهتمام الذى أولته اليوميتان» الشرق الأوسط والحياة 
للحدث كما نستثنى جريدتى البيان والاتحاد بدبى. نذكر أيضاًء بكثير من التقديرء إيلاء 
المحطات التلفزيونية فى دولة الإمارات»ء قطر (قناة الجزيرة) » وقناة الشرق الأوسط ».3.50 
اهتماماً ملحوظاأ بالمأساة. وعلى مستوى الحكومات العربية فقد جاء الاهتمام الرئيس من 
سمو الشيخ زايد بن سلطان الذى أمر بإرسال عشرات الآلاف من الأطنان من الحبوب: 
وخمسة مستشفيات متنقلة» كما كان للمملكة العربية إسهام مقدر. ولا يدرى المرء أين ذهب 
العون الغذائى الذى تسلمه النظام من دولتى الإمارات والسعودية» ولكن الذى نقطع به هو 
أن واحداً من المستشفيات التى جاءت بها دولة الإمارات لم يجد طريقه إلى أرض المجاعة. 
ذلك أمرلا يثير دهشتنا لأنه جاء من نظام تواترت الدلائل على فقدانه الحساسية نحو أهله 
فى الشمال» فما بالك ب شعب جون قرنقء أو كما قال. هؤلاء لا يرى فيهم النظام إلا رصيداً 
إستراتيجياً لالتمردء ولهذا فإن أهلكتهم المجاعة» فسيكفى الله المجاهدين عبء الإثخان 
والقتل لمن أركس منهم فى الفتنة("")؛ وفق قراءتهم الزائفة لكتاب الله. ومن الغريب أن 
النظام الذى استولى على تلك الإعانات ليدراً بها الجوع عن أهل بحر الغزال التى يسيطر 
عليهاء كما يقول» لم يترك منبراً فى الغرب إلا وقال فيه أن المسئولية عن المجاعة تقع كلها 
على الحركةء أى أن الحركة مسئولة عن كارئة حلت بأرض لا تسيطر عليها. 
709 


نوازع السياسة حملت النظام على درجة من الكلبية لا تطاقء ولكن ماكان ينبغى أن 
يكون هذا هو موقف بقية أهل الشمال الذين لا يشاركون النظام نظرته الهولية للأمورء ولا 
يصدقون أكاذيبه. أهل اعتدل هؤلاء واستووا ونظروا إلى تلك الفجيعة التى أرقت العالم 
كمأساة داخل بلادهم يتعرض لها إخوة لهم, أم أشاحوا عنها وكأنهم يتابعون مسلسلا للرعب 
لاتستأنس له القلوب الرهيفة. مبلغ الظن أن كثراً كانوا يشيحون عن المناظر التى يشهدون 
على شاشات التلفاز كمن يستبرئ من القاذورات» «وحسبك من شر سماعه. . فى هذا 
المجال» روى لنا السفير عبد الله محجوب حدثاً مربه وهز من مضجعه إذ نبهه إلى ما كان 
غافلاً عنه. قال عبد الله أن بضع فتيات فى عمر الزهور اعترضن طريقه وهو داخل إلى 
مقر الأمم المتحدة ليطلبن منهء كما طلبن من غيره؛ التبرع لضحايا المجاعة فى بحر 
الغزال. سألهن: من أين أنتن؟ فأجبن بأنهن من مدرسة ثانوية فى بروكلين» هزهن ما 
شهدن عبر ال ./2.3.© قال لى السفير: ترى كم من أبنائنا وبناتنا فى المهاجر قد إنتاب 
نفوسهم ونفوسهن مثل ذلك الهزيز الذى طال فتيات بروكلين. ياللأسفء حتى التظاهرات 
التى قادتها المناضلة فاطمة أحمد إبراهيم فى لندن وهى تتوكاأ لتستنهض الهممء لم تفلح فى 
استثارة أبيك وأخيك وذى مال. ولكيلا نظلم كل أهل الشمال» يجدر بنا أن نشير إلى جهد 
أقراد يقل عديدهم عن أصابع اليد الواحدة سعوا طوعاً لعون إخوتهم فى بحر الغزال. ترى, 
أيخطئ المرء إن قال أن دعاة وحدة الشمال والجنوب الذين لم يتوحدوا لمثل تلك الكارثة 
التى حاقت بأهل الجنوبء هم أقل الناس وعياً بمقومات تلك الوحدة؛ كان ذلك على مستوى 
الإدراك؛ أو مستوى الوجدان. 

لهذا السببء إن لم يكن لأسباب أخرىء؛ يصبح الحديث عن تدويل المشكل السودانى 
الذى يردده كثيرو الأباطيل من أهل السياسة فى الشمالء استهزاء بالحق. فما هو الحق الذى 
يبيح لأى حاكم أو متطلع للحكم يترك أمر إنقاذ شعبه لغيره» التجاسر بالحديث عن التدخل 
الأجنبى؟ كما ما هو الشرع الذى يحل لحاكم عادته ودأبه أخذ الناس ظلماً وقهرة» والتمادى 
فى الظلم والقهر إلى حد الإهلاك والإبادة» التفصح بالكلام عن السيادة الوطنية. فالسودان 
فى عهد النظام الحالى» دون كل العهودء أصبح كتاباً مدرسياً يعكس كل ما ترفضه 


200 


الإنسانية» ويقدم طرازاً بدائياً (عم270:0) للحكم اللاإنسانى الجائر.كم كان محقاأ فرانك 
وولف عندما قال فى وصف الماساة الإنسانية فى السودان بعد زيارته الرابعة للبللاد فى 
غضون الأحد عشر عاماً الأخيرة أن السودان يمثل امتحاناً دقيقاً لكل المعنيين بحقوق 
الإنسان» والحقوق المدنية» والاضطهاد الدينى» والمجاعات .(18) 

كوارث بهذا الحجم من شأنها أن تؤرق بال الأمم المتحدة وأمينها العام. فأمام قمة الألفية 
التى عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة قال كوفى أنان أنه ربما حان الوقت لإعادة 
تعريف المفاهيم التقليدية للسيادة الوطنية بما يسمح بتدخل المنظمة فى حالات الماسى 
الإنسانية المريعة. فى معرض حديثه أشار إلى عدد من الأزمات الإنسانية» بما فيها أزمة 
السودان» ثم أضاف متسائلاً: "هل يجوز إطلاق العنان لانتهاكات صارخة ومنظمة لحقوق 
الإنسان مع كل ما يتلوها من عواقب إنسانية فادحة دون تدخل رادع ؟ كما دعا أنان القمة 
إلى التمعن فى ميثاق الأمم المتحدة» فغرض الميثاقء حسب قولهء هو حماية الشعوب 
والأفرادء وليس حماية الذين يعتدون عليهم. فى ذلك الحديث أشار الأمين العام إلى خمس 
وعشرين اتفاقية محورية تتعلق بحقوق الإنسان والقضايا الإنسانية» منها ما تم اعتماده. 
ومنها ما لازالت الأنظمة المارقة ترفض التوقيع عليهاء أواعتمادها. على رأس تلك 
الاتفاقيات: الاتفاق الدولى حول الحقوق السياسية والمدنية» 5 والبر تكول الأول الاختيارى 
الذى يمنح المواطنين الحق فى طلب الحماية من لجنة حقوق الإنسان الأممية ضد أى 
خروقات لحقوقهم تقوم بها حكوماتهم. كما نبه أنان الرؤساء إلى المخاطر العديدة التى كان 
بمقدور العالم تجنبها لو التزمت الدول بالعهود والمواثيق حول حقوق الإنسان. قال: ينبغى 
للمجتمع العالمى أن يفكر ملياً فى إخفاقه فى الحيلولة دون ارتكاب ملايين من انتهاكات 
حقوق الإنسان فى النصف الأخير من القرن الماضى. لكل هذاء لا نرى فى إعادة الحديث 
المرة بعد الأخرى عن التدخل الأجنبى والتدويل إلا شيئين: الأول هو إلقاء ستار كثيف على 
الجرائم التى ترتكبها الأنظمة المارقة تحت راية السيادة» والثانى هو الغيبوبة الكاملة عما 
يدور فى العالم الذى نحسب أنا جزء منه. 


501 


الجبهة وربحية السلام 

تيار السلام الذى قاد للحوار مع التجمع الوطنى والحركة الشعبية »)١1947(‏ وبلغ ذروته 
فى إعلان كوكا دام» أصبح أساساً لكل المفاوضات التى دارت فيما بعد. وهنا أصبح تحول 
الحركة من حركة ذات أصل جنوبى لاشأن لها بما يدور فى القطر إلى حركة وطنية يعنيها 
ما يدور فى القطر أمراً ملموساً. وهنا تحول الجيش الشعبى من جيش الأرض والحرية إلى 
أداة وطنية للتغيير. وهنا أيضا أدركت الأحزاب الشمالية» (على غير رغبة بعض منهم) . 
أن الجنوب لا يقاتل من أجل حل مشكلته فحسبء بل أيضأ للمساهمة فى تحويل البلاد من 
مرتع خصب للتعصب الثقافى والدينى» والتسلط السياسى المدنى والعسكرىء إلى وطن 
للتسامح والديموقراطية التى تستوعب الجميع. ولئن فشل إعلان كوكا دام فى تحقيق 
السلامء فلم يكن ذلك لافتقاره إلى المكونات الأساسية للسلام؛ فهو يملكها كلها. وكما سلف 
الذكرء كان لغياب الحزب الاتحادى الديموقراطى عن اجتماع كوكا دامء ونكوص الصادق 
المهدى عن إعلانهء أثر مباشر فى إجهاض الاتفاق. بذلك النكوص عما تعاهد عليه حزيه 
مع الأحزاب التى شاركت فى الاجتماع أثبت الصادق أنه بطل الفرص الضائعة . كان فى 
مقدوره تحدى المفاهيم التقليدية السائدة ليصبح رائد السلام فى السودان» ولكن عوضاً عن 
ذلكء آثر اعتلاء موجة التقليدية السائدة» فابتلعه اليم. من جانب ثان» تساءل بعض المعلقين 
عن مدى صدق نوايا الميرغنى فى الاقتراب من قرنق وإبرام اتفاقية مبادرة السلام 
السودانية معه فى ١"‏ تشرين ثان/ نوفمبر 1588١ء‏ وعن إن كانت تلك المبادرة نتيجة 
لتهميش حزيه من جانب حكومة المهدىء أم هو تمرك صادق للوصول إلى تسوية 
دائمة(؟')؟ فى تقدير هذا الكاتب, ثبات الميرغنى فى الالتزام بشروط الاتفاق» ومساندته 
القوية والجهيرة لقرارات أسمراء تعزز الرأى الأخيرء ولكن ليس هذا هو القول الفصل؛ 
فالتاريخ وحدهء هو الذى سيكون خير حكم على الميرغنى. 

وبصرف النظر عن صدقية هذاء أو مسئولية ذاك» سقط السلام فى مستنقع الخلافات 
الداخلية مما أدى إلى تصاعد الجهود الخارجية لاستكشاف احتمالات الحل السلمى للمشكل 
السودانى. وكما أبنا فى الفصول السابقة» نبعت كافة جهود السلام فى الماضى من الداخل 


202 


بدعم فى اللحظات الحرجة من الخارج كما حدث فى اتفاقية أديس أبابا. ولكن منذ أن 
تسلمت الجبهة مقاليد السلطةء جرت أكثر من عشرين محاولة للوساطة وصنع السلامء كان 
الجزء الغالب منها بدعوة أو إيحاء من النظام. فى تلك المحاولات اشترك رؤساء للدول 
والحكوماتء والوزراء» والجماعات البرلمانية» والمنظمات الإقليمية» والوكالات التابعة للأمم 
المتحدةء ومراكز الأبحاث('"). ولا شك فى أن النظام قصد بدعوة كل هذه المنظمات 
والأشخاص للإسهام فى إحلال السلام؛ الإيحاء بأنه يجنح للسلم. وحقاً كان النظام جانحآ 
إلى سلام فصله على قده؛ سلام يسلّم به المعارضون مقادتهم للنظام» ولهذا أجمع المراقبون 
على أن النظام لا يبحث عن صانعى السلام إلا لإثارة الارتباك والحيرة . 

آخر شىء تمنى النظام الحاكم سماعه هو الإجماع التاريخى الذى توصلت إليه كافة 
الأحزاب السودانية فى الثمانينيات كما يبين أول بيان أعلنه البشير عند توليه مقاليد الأمور. 
فى ذلك البيان أدان البشير مبادرة السلام السودانية (تشرين ثان/ نوفمبر188١)‏ قائلاً أن تلك 
المعاهدة لا وجود لها أبداً بالنسبة لناء ولا مكان لها فى جهودنا لحل المشكلة الجنوبية . كما أن 
الشروط التى حوتها غير مقبولة للإنقاذ.('") كان هذا أول بيان من نظام الأقلية المنغتتصب 
يعلن فيه أن إرادته فوق إرادة أغلبية أهل الشمال وكل الجنوب. أعلن البشير أيضاً بأن نظامه 
يرفض رفضاً تاماً الفصل بين الدين والسياسة» فذلك؛ فى تعبيره» أمر غير قابل للنقاش ("") . 
وبلغت ثقة البشير فى نفسه وفى نظامه حداً جعله يقول فى مؤتمر صحفى عقد بالخرطوم فى 
٠‏ تشرين أول/ أكتوبر ١3194‏ أن لا تفاوض مع الأحزاب القديمة؛ و«ينبغى على أى زعيم 
شمالى يخامره الظن بأنه يتمتع بأى تأييد فى البلاد أن يعود إلى قواعده ليستيقن من أن كافة 
أهل السودان قد اندمجوا فى نظام الإنقاذ.("). وريما صدق رئيس النظام المعتد بنفسه أن فى 
مقدوره سحق إرادة الشعب وإجماعه على السلام؛ وإلا لما ذهب إلى الادعاء الجافى بأن 
الأحزاب الشمالية كلها تلاشت بمقدمه الميمون. ومع هذاء فما هى العصا السحرية التى كان 
يملكها البشير لاغتصاب سلامء وفق رؤيته للسلام» من الحركة الشعبية؟ 

فى خرق متناهىء أصدر البشير فى البداية عفواً عاماً عن جميع المتمردين؛ وأمر ببدء 
المفاوضات من الصفرء كما أعلن أن قضية الشريعة ستحسم فى استفتاء عام. أظهر أيضاً 


"203 


كرما فياضأ نحو الجنوب عندما وعد بإعفاء الجنوبيين من بعض مواد قانون العقويات 
والإعفاء مشبوه لأن الحدود تستثنى غير المسلمين» فلا فضل للبشير فى ذلك؛ كما أن 
الحدود لم تطبق مطلقاً فى جنوب السودان منذ أن فرضها نميرى. إلى جانب ذلك؛ وجه 
نداء لقرنق يدعوه فيه إلى حوار داخلى (سلام من الداخل)» وأعلن أن نظامه أكثر قدرة من 
الأنظمة السابقة للحوار مع الحركة مضيفاً: «هم جنودء ونحن جنودء ولذلك فنحن نتحدث 
بلغة مشتركة:(*"). لم تأخذ الحركة نداءات البشير مأخذ جد فى البداية» أو لربما آثرت 
التروى حتى تكمل مشاوراتها مع القوى المعارضة الأخرى. وفى ٠١‏ آب/ أغسطس 
8 أى بعد حوالى شهر ونصف الشهر من نداء البشيرء قدم رئيس الحركة تحليلا وافيآً 
للانقلاب . قال فيه إن كان ل العصابة العسكرية (03]3ا1) التى استولت على الحكم أن تكون 
ذات نفع للسودانء فعليها أن تنبذ تصور المشكلة باعتبارها مشكلة جنوبية» وتقبل ما استقر 
عليه رأى السودانيين بأن المشكلة أساساً مشكلة وطنية(”"). إلى جانب ذلكء انتقد قرنق 
إلغاء البشير لكافة اتفاقيات السلام السابقة؛ وسخر من عرضه بالعفو عن محاربى الحركة 
ودعوتهم للعودة إلى السودان والعمل من داخله. قال: :إن ذلك العرض يتميز بالسذاجة 
والسذف ولا يجدر أن يصدر من عمر. ومن الواجب على عمر أن يعى جيداً أننا نعمل 
ونحارب داخل السودان؛ ولكن ليست هذه هى النقطة. النقطة هى أن عمر ما هوإلا متمرد 
تماماً مثل متمردى الحركة. وفى هذا المجال هو حديث عهد بالتمرد. فما الذى يجعل 
المتمرد المستجدء أو يمنحه الشرعية للعفو عمن هم أقدم باعاً منه فى التمرد:('") . وحقا لم 
يكن البشيرءعندما دعا الحركة للعودة للسودان» يختلف كثيراً عن غيره من ساسة الشمال» 
وشريحة كبيرة من نخبه . السودان فى نظر هؤلاء هو الخرطوم» فالذى يحارب نظام الحكم 
فى الخرطوم من ج بال النوبة» أو الكرمكء أو ياىء أو ملكال يفترض أنه يفعل هذا من 
خارج البلاد. هذه الذهنية لا تعبر عن تمركز فى الذات فحسب, بل تؤكد أيضأ الغشاوة 
الإدراكية» والانشطار الوجدانى اللذين لحقا بهذا النفر. 

مضى قرنقء بعد أن حدد موقفه المبدئى؛ ليعرض على حكومة الأمر الواقع فى 
الخرطوم أسئلة محددة: ما هو موقفها من اتفاقيات السلام السابقة؟ ما هو موقفها تجاه 


504 


الجنوب؟ ما هو مدى استعدادها لاحترام الاتفاقيات التى ستبرمها مستقبلاً؟ كما طالب 
حكومة الأمر الواقع باستعادة الديموقراطية» وقبول مبادرة السلام السودانية كأساس 
للمفاوضات القادمة. بدلاً من الرد على هذه الأسئلة آثر البشيرء مثل الصادق من قبله» إلى 
الاستعانة بمن ظنهم حماة لقرنق: الأثيوبيين» علهم يعينون النظام فى تخفيف حدة موقف 
الحركة . ولتحقيق هذا الغرض أرسل عضوين من أعضاء مجلس قيادة ثورته» محمد الأمين 
خليفة ومارتن مالوال لمقابلة منقستو فى أديس أبابا.('”) وعقب هذا التدخل؛ ويعد التشاور 
مع الحركة» قررت أثيوبيا استضافة مؤتمر يجمع الطرفين إن رغبا فى ذلك. وسرعان ما 
عقد الاجتماع فى أديس أبابا فى ١9‏ آب/ أغسطس وترأس وفد الحكومة فيه محمد الأمين 
خليفة» كما ترأس وفد الحركة لام اكول. ومن البداية كان جلياً أن الاجتماع لن يفضى إلى 
شىء إيجابى» خاصة بعد أن أكد وفد الحكومة موقفه الثابت ضد إعلان كوكا دام واتفاق 
الميرغنى ‏ قرنئق. من جانبهاء أكدت الحركة مواقفها المبدئية» وأضافت أن أى درجة من 
الضغوط عليها لن تجعلها تحيد عن تلك المواقفء وكانت تلك إشارة لما أوهم به النظام نفسه 
حول جدوى الضغوط الأثيوبية . على رأس القضايا التى قالت الحركة أنها لن تحيد عنها قيد 
أنملة كان على رأسها فصل الدين عن السياسة» قيام حكومة للوحدة الوطنية تفضى إلى 
عودة الديموقراطيةء عقد مؤتمر وطنى دستورى. أما وفد النظام فقد قصر نفسه على 
أطروحة واحدة : وقف إطلاق النار وإنهاء الحملات الإعلامية» ثم تقاسم السلطة مع الحركة 
مع استبعاد كافة الأحزاب الأخرى. وكان رد الحركة على ذلك العرض السخى هو أن 
التحالف بين الجبهة والحركة لن يخلق حكومة وحدة وطنية»ء أما حول الدين والسياسة فقد 
ثبت وفد النظام عند موقفه فى وجوب تطبيق الشريعة» فى حين قبلت الحركة؛ كحد أدنى» 
تعليق قوانين سبتمبر إلى أن يبت فيها فى المؤتمر القومى الدستورىء وهو نفس الموقف 
الدى توافقت عليه مع الميرغنى. 

فى الشهر التالي عقد النظام موتمراً للحوار الوطنى عناع101210 أغمه8[2)1 ) 
5/1000 ,ععمع,ع0021) دعيت إليه الحر. كة قبل بضع ساعات من الافتتاح» وريما جاءت تلك 
الدعوة نتيجة لرأى دبرى» خاصة وقد نقلت للحركة عبر إعلان فى راديوأم درمانء لهذاء 


2305 


رأت الحركة الرد عليها من خلال الراديو. فى ردهاء طالبت الحركة برفع الحظر عن الأحزاب 
السياسية» والنقاباتء والإعلام المطبوعء قبل أن تقبل المشاركة فى المحادثات؛ وكان من رأى 
الحركة أن هذا وحده هو الذى يجعل الحوار وطنياً. وبما أن النظام لم يستجب لتلك الشروط: 
انعقد مؤتمر الحوار فى أيلول/ سبتمبر ١184‏ دون مشاركة الحركة أوأى حزب آخرء واستمر 
على مدى أكثر من شهر. فى رحاب ذلك المؤتمرتلاقت مجموعات من الأكاديميين» 
والمناصرين لنظام الجبهة؛ والشخصيات التى تسمى بالمستقلة» ولاندرى مستقلة عن ماذا. إلى 
جانب هؤلاء شارك ثلاثة وعشرون جنوبياً تم انتقاؤهم بعناية فائقة. كافة المؤشرات تبين أن 
الحكومة قد أقنعت نفسها بأن ذلك الجمع المختلط أمره سيكون بديلاً عن المؤتمر الدستورى 
الذى توافقت عليه الحركة مع الأحزاب الوطنية الأخرى. ما درت أن الجرح الذى يلتئم على 
مدة (قيح) لن يبرأ. 

وقبيل الاجتماع؛ ادعت الحكومة أن مؤتمر الحوار سيكون محفلا (50:077) لمناظرات 
صريحة وحرة يتناول فيها المشاركون كافة القضايا المتعلقة بالصراع فى السودان دون 
تهيب. رغم ذلكء لم يطق منظمو المؤتمر تقديم مذكرة وقع عليها سبعة وخمسون من 
المتعلمين والزعماء الجنوبيين حذروا فيها من خلط الدين بالسياسة فى بلد متعدد الأديان. 
والمثير للإعجاب أن بعض التجار الشماليين المسلمين الذين يقطنون مدينة جوبا شاركوا 
أيضاً فى الدوقيع على تلك المذكرة .(") ولسوء حظ النظام كان بين المؤتمرين ساسة 
حتوتيون لا تهون :ولا يمسق لاعن عانك عليه نضة . من هؤلاء اللواء بيتر شير 
يلو الذنى عبر بوضوح عن نفس وجهات النظر التى جسدتها المذكرة» وبالطبعء لم تلق 
ملاحظاته إلا التجاهل فى محفل الحوار الصريح الحر. 

بالرغم من الهيجان الذى افتعلته الحكومة بعقد هذا المؤتمرء إلا أنها أدركت فى النهاية 
أن لا مفر من التفاوض مع الحركة من أجل حل النزاع. وهكذا انعقد اجتماع آخر بين 
الطرفين فى نيروبى فى أوائل كانون أول/ ديسمبر 585١»ء‏ وترأسه الرئيس الأمريكى 
السابق جيمى كارتر. وكانت شبكة المفاوضات الدولية (17/27) التابعة لمركز كارتر فى 
جامعة ايمورى غارقة فى السعى لإيجاد حل للمشكل السودانى لفترة طويلة قبل انقكلاب 


506 


الجبهة. ففى نيسان/ أبريل 1144 زار كارتر وعقيلته السودان حيث التقيا رئيس الوزراء» 
صادق المهدى. كما زارا قرنق فى أديس أبابا لاستكشاف آرائه حول حل المشكل. خلال 
تلك الزيارة التقى الرئيس الأمريكى أيضاً الأمين العام لمنظمة الوحدة الأفريقية» عيدى 
عمرو للاستعانة به فى التقريب بين وجهتى نظر الطرفين. وبعد فترة وجيزة وجه كارتر 
الدعوة لقرنق لزيارته فى مسقط رأسه (بلينزء جورجيا) لإجراء المزيد من الحوار. فإلى 
جانب مكانته» كان كارتر مؤهلا لأن يلعب دوراً فعالاً فى حل المشكل. 

ولكن مما لاشك فيه أن السهولة التى استولى بها النظام على مقاليد السلطة فى 
الخرطوم؛ زادت من يقينه بأن الطريق سيظل دوماً مفروشاً أمامه بالورود والرياحين» 
ولربما يؤكد هذا اليقين اتسام مواقف وفده فى نيرويى بالتشدد والعناد. قدم الوفدء كخطة 
للسلام» تقرير مؤتمر الحوار الوطنى الذى تضمن دستوراً فيدرالياً يستند إلى الشريعة 
والعرف» وصيغة ليبية للديموقراطية تستند على اللجان الشعبية. وقد اليك الحجج التى 
قدمها الوفد لتبرير مشروعهم الجديد (اللجان الشعبية) » إما جهالة فائقة بطبيعة السودان؛ أو 
قصوراً معرفياً مفزعاً. فليبيا بلد صغيرء يقطنه عدد قليل من السكان يتشاركون الثقافة واللغة 
والدين: كما تملك فائضاً من الأموال لا يتوفر لغيرها من بلاد الله . لهذا تصعب مقارنة ليبيا 
بالسودان بكل التناقضات التى يحفل بهاء وكل الصراع الذى ما برح يدور بين أهليه حول 
السلطةء والموارد الطبيعية» والهوية . كما أن للسودان تقاليد راسخة فى العمل السياسى» حتى 
كاد لسوء الحظ ‏ أن يصبح كل مواطن فيه سياسياً. 

أصرت الحركةء من جانبهاء على تعليق العمل بالشريعة واسترداد الحريات العامة» 
وتكوين حكومة وحدة وطنية تضم كل الأحزاب. وفى محاولة منه لتقريب شقة الخلاف 
اقترح كارتر تعليق العمل بالقوانين "الإسلامية لمدة ثلاثة شهور ينعقد على أثرها المؤتمر 
الدستورى. كما اقترح الربط بين وقف إطلاق النار وتعليق العمل بالشريعة على النحو 
التالى: بعد وقف إطلاق التار وإلى أن يضع المؤتمر الدستورى قوانين دائمة للسودان 
يتوقف العمل بقوانين أيلول/ سبتمبر ١187”‏ ولا تأخذ بها المحاكم السودانية كاساس للعمل. 
ظن كارتر أنه بربطه وقف إطلاق النار بتجميد "الشريعة»؛ وإطلاقه عليها اسمآأ محايداً 


207 


(قوانين سبتمبر) يقى النظام الحرج. ولكن رئيس وفد الحكومة؛ محمد الأمين خليفة» رفض 
هذا الاقتراح أيضاً. حقيقة» عند النظر إلى المواقف المتصادمة» وإصرار النظام على رأيه 
بشأن الشريعة والديموقراطية التعددية» يثير الدهشة أن يجتمع الطرفان فى الأساس. 

فى أعقاب إجهاض جهود الرئيس كارترء انبرى لحل ذلك المشكل المستعصى رئيس 
سابق آخرء الجنرال أوليسيقون اوباسانجو (نيجيريا) . جاء الجنرال إلى ساحة الصراع 
السودانى كواحد من أكثر زعماء القارة حرصاً على وحدتهاء وكما قال» كان الألم يعتنصر 
قلبه وهو يرى أكبر دولة فى أفريقيا تدمرنفسها. ويتمتع الجنرال بصفات نادرة قلما تجتمع 
فى واحد؛ فهو صاحب تجربة ثرة فى الحكم كرئيس لبلاده» وذو مهارة دبلوماسية من 
الطراز الأول» إلى جانب خبرة عسكرية عملية إذ كان هو قائد اللواء الذى حارب ضضد 
انفصال بيافرا. اوباسانجو أيضاً حاكم عسكرى بلا نظيرء لم يجئ إلى الحكم عبر انقلاب؛ 
بل حمل على تولى الحكم باعتباره قائداً لأركان الجيش بعد مقتل مورت الله محمد. وكان 
أول قرار له بعد قبوله تلك المسئولية الصعبة:» الإيذان بعودة الديموقراطية والسماح بعودة 
الأحزاب» ووضع الدستور الذى يكفل التعددية» ثم إجراء انتخابات عامة انتهت بفوز 
الرئيس شيخو شيقارى. ومما يطرف ذكره أن اوباسانجو اختار عنوان ضد إرادتى لكتابه 
الذى روى فيه أحداث الفترة التى ولى فيها الحكم للمرة الأولى. كل هذه الخبرات 
والمؤهلات؛ لم تفد اوباسانجو فى خضم السياسات التى لا يحكمها منطق فى السودان. 

أول وساطة للجنرال سبقت نظام البشيرء إذ كان أول عهده بالمشكل السودانى عندما 
سعى للتعرف على جذور المشكلة فى لقاءات فكرية جمعت بين ممثلى أطراف الصراعء 
وأكاديميين ودبلوماسيين ذوى خبرة طويلة فى الصراع التاريخى فى السودان. فمثلاً ترأس 
اوباسانجو الاجتماع الذى عقده مركز وودرو ويلسون للباحثين فى شباط/ فبراير 19417 . 
وفى آذار/ مارس ,١1188‏ كما عقد أوباسانجو جولة ثانية للمحادثات فى هرارى 
(زيمبابوى) تحت رعاية مجلس التفاعل؛ وكان اوباسانجو يعول كثيراً على ذلك الاجتماع 
حتى أخذ يفكر فى تحويل جهوده الفردية إلى عمل جماعى يشارك فيه أعضاء من مجلس 
التفاعل ومن خارجه:(؟") بل ذهب إلى أبعد من هذاء وهو يستشرف المستقبل؛ عندما اقترح 


208 


على مجلس التفاعل تكوين لجنة ثلاثية من أعضاء المجلس لتعبكة الموارد لإعادة بناء 
السودان بعد نهاية الحرب7'*). ولا شك فى أن اوباسانجو كان أدرى بطبيعة السودان» 
وبحجم أزمته من الزعماء السودانيين الذين يمايزون بين وساطة عربية ووساطة أفريقية؛ 
وبلا ريب» كان أيضا يظن خيرأً بالطبقة الحاكمة» هى ليست جديرة به. فعندما تجتمع كل 
هذه المواهب والإمكانات لبسط السلام العادل والشامل فى السودان؛ وتهدر جميعها لأن تلك 
الطبقة أصبحت أسيرة لقوانين مشبوهة المنشأ إذ لم يعرفها السودان قبل إمامة نميرى. لا 
يملك المرء ما يقول. أدرك اوباسانجو أنه كان يدور فى حلقة مفرغة عندما وجه سؤالاً ثاقباً 
للصادق - ومن بين خصال اوباسانجو الوضوح والصراحة ‏ سأل الصادق عما هو خياره إن 
كان له أن ينتقى واحداً من اثنين : إمامة الانصار أو قيادة السودان. وبعد فترة من التأمل. 
قال الصادق أنه سيسعى للجمع بين الاثنين. قال له الجنرال : عليك أن تختار واحداً منهما. 
ولدهشة اوباسانجوء أجاب المهدى أنه يفضل الخيار الأول. وكانت آخر محاولاته فى عهد 
الأحزاب سعيه لإقناع قرنق بمقابلة المهدى فى سويسرا تحت رعاية الرئيس السويسرى 
السابق» ولكن» رغم حماس الصادق لذلك اللقاءء رفض قرنق مستذكراً اجتماعه الذى دام 
تسع ساعات مع المهدى فى عام »١185‏ ذلك المبررء فيما نرى» مبرر سطحىء فالمبرر 
الحقيقىء فى تقديرناء هو أن قرنق لم يرفى حماس الصادق للقائه إلا عملية للعلاقات 
العامة يخدم بها مصالحه الذاتية. على رأس تلك المصالح إضاعة الفرصة على خصمه 
الميرغنى الذى كان على وشك إبرام اتفاق سلام مع الحركة وضع خطوطه الرئيسية سيد 
أحمد الحسين والراحل محمد توفيق. تلك فرصة لم يكن قرنقء فيما يبدوء راغباً فى إتاحتها 
لرئيس الوزراءء خاصة وفى تجاريه معه ما يحمله على الظن أن الصادق لا يفى بوعدء أو 
تذكر وعده لقرنق أنه سيلغى قوانين سبتمبر بعد أربعين يوماً من لقائه معه فى أديس أبابا؟ 
بتولى البشير مقاليد السلطة وإقامته لنظام حكم ثيوقراطى فى السودانء بدا لاوباسانجو أن 
تحقيق السلام لم يصيح أمرأً عصاء فحسبء بل صار محالاً. ولكن؛ حرصه على سلامة 
السودان الذى يدمره أهله قاده إلى محاولة أخرى مع البشير. لم يدرك اوباسانجو أن 
الصخرة التى تحطمت عندها كل محاولاته مع إمام الأنصار/ زعيم الأمة/ رئيس كل 


209 


السودانيين قد صارت جبلا لا تهده إلا الصواريخ عابرة القارات (أو الخضوف من 
استخدامها)» كما أثبتت الأحداث بعد الحادى عشر من أيلول/ سبتمبر١١٠7,‏ ومن أطرف 
ما ورد فى لقاء البشير بالزعيم النيجيرى: قصة أوردناها من قبل فى مؤلف سابق (جنوب 
السودان فى المخيلة العربية) . قال البشير لضيفه أنه يتفهم هموم الجنوبء إلا أنه فشل فى 
فهم السبب الذى دعا شماليين مثل منصور خالد للانحياز إلى المتمردين. تلك العبارة 
تتضمنء بلا مراءء نظرة عنصرية عميقة الجذورء دون أن يتبين البشير ذلك أو يحس به. 
ففى أعماق أعماق “رئيس البلاد» هناك سودانان» سودان أولاد العربء وسودان الزنوج 
الأفارقة. وله فى تلك النظرة شركاء من ذوى الحجى. وفى رأى البشير على أولاد العرب 
الوقوف إلى جانب ذويهم حتى وإن كانوا قاتلى أنفس. لم يتبين رئيس السودان الأفريقى 
أيضا ما فى قالته من إساءة بالغة لضيفه؛ فبإنكاره لوجود شمالى فى وسط الجنوبيينء أراد 
البشير أن يقول أن أى حركة سياسية جنوبية لا يجدر بها أن تناقش أو تعالج إلا مشاكل 
الجنوب الأفريقى غير العربى» فى حين يسمح للشماليين (بمن فيهم الابن الضال) التوغل 
فى معالجة أمر الجنوب (حل مشكلة الجنوب) متى شاءوا وكيف شاءوا. هذه هى الفروق 
الدقيقة التى كثيراً ما تغيب عن إدراك الذين عمهوا فى أمرهم؛ وأصبحوا رهناء لمواريث 
تكبل العقل وتعشى البصرء (لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون4 (الحجر 77/١‏ . وليس 
البشير فى هذاء مختلفاً عن أضرابه الكثر فى الشمال؛ فكلهم أسارى مفاهيم مارضة:؛ نسأل 
الله لهم منها الشفاء. ولعلناء إن أسرفنا فى الحديث عن هذا الأمر وألححنا عليه» فإنما نفعل 
ذلك أملاً ورغبة فى استنقاذ هؤلاء المودرين (ودر سكر حتى أغشى عليه) حذر أن تأخذهم 
اللبوعة مدركين. 1 

حكومة الولايات المتحدة وصنع السلام 

. كانت الولايات المتحدة؛ كما ذكرناء مستغرقة فى صميم الأزمة الإنسانية السودانية على 
المستويات الرسمية (الكونقرس والإدارة)» وغير الرسمية (منظمات الإغاثة) . كما ظلت» 
عبر بعثاتها الدبلوماسية» تدفع طرفى النزاع للوصول إلى حل» خاصة وقد توفرت مقومات 


510 


ذلك الحل فى الاتفاقيات التى أبرمت بين الأطراف فى كوكادام وأديس أبابا. ولكن» بمجىء 
الجبهة تبدل الأمرإذ بدأ نظامها عهده بهدم كل مقومات السلام التى تراضت عليها 
الأطراف. من جهة أخرىء وجد النظام نفسه فى حرج بالغ حيث إن الولايات المتحدة 
كانت هى الداعم الرئيسى لبرامج الإغاثة الإنسانية» وبالتالى كان لها دور مباشر فيما يدور 
بالسودان. ذلك موقف قبله النظام على مضض بعد فشل جهوده للتدصل من الأسس التى 
كان يدار بها برنامج شريان الحياة. النظام أيضا كان فى أمس الحوجة لوقف إطلاق النار 
من خلال أى قناة ممكنة» خاصة وقد جاءت المبادرة الأمريكية فى فترة أمسك فيها الجيش 
الشعبى بزمام المبادرة فى الميدان حتى أخذ يتهدد جوباء بل كان يقوم بقصفها يوميآً. لهذا 
استجاب النظام» على كره منهء فى آذار/, مارس ١15١0‏ لطلب من الولايات المتحدة 
لتضطلع بدور الوسيط. ولاريب فى أن النظام قد حقق بتلك المبادرة مكسبأ دبلوماسياًء إذ 
رأت الحكومة الأمريكية فى قبوله العرض توجها جديداً. قبلت الحركة الوساطة أيضاًء إلا 
أنها أصرت على أن يتم الحوار بين طرفين ندين» بمعنى أن لا يقصر الحوار على القضايا 
التى تهم الجنوب فقطء بل يشمل مجمل القضايا الوطنية. 

وظناً منها أن الجوقد تهياً لحوار جاد بين الطرفين أوكلت الإدارة ملف السلام فى 
السودان لهيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية الأمريكى لشئون أفريقيا. وبعد بضعة أشهر 
من تكليفه خرج كوهين باستراتيجية للتوسط تقضى بأن ينسحب الجيش إلى الخط الحادى 
عشر تحت إشراف دولى» فى حين يوقف الجيش الشعبى قصفه على مدينة جوبا ولا 
يتجاوز المناطق التى يسيطر عليها. وبعد اكتمال ايقاف النار على هذا النحوء تتم الدعوة 
لمؤتمر دستورى تدعى له جميع الأحزاب تمهيداً للعودة إلى النظام الديموقراطى التعددى. 
تلك المقترحات نقلت إلى الطرفين عبر مبعوثين غير رسميين هما الجنرال اوباسانجو 
وفرانسيس دينق. ورغم تعبير الطرفين عن رضائهما عن المبادرة» إلا أنهما اختلفا حول 
مقترحات فض الاشتباك (01567838617680)» بصورة لا تضر بمصلحة أى منهما. كما 
أبانت الحركة لكوهين استعدادها لتخفيف قبضتها على جوباء وأعادت تأكيد إيمانها بسودان 
موحد يُحترم فيه التنوع العرقى والتعدد الدينى. داخل النظام لم يتأت قبول تلك الوساطة 


511 


دون حرب أهلية جبهوية قادهاء من جانب» الصقور الذين لا يرون للحل العسكرى بديلاً؛ 
ومن جانب آخرء القيادات الأقل تصلبا والتى كانت ترى ما حاق بالجيش من إهانة. ولربما 
ظن هؤلاء, كما تظنى غيرهم من قبلء أن الحركة الشعبية أداة طيعة فى يد الأمريكيين» 
وليس هناك من هو أقدر منهم على رد الحركة إلى رشدهاء أى إلى حملها اقتسام السلطة مع 
النظام مع تنازلات تحفظ ماء الوجه. ومع خلافهما حول الوساطة» اتفق طرفا النزاع 
الجبهوى على رفض الإشراف الدولى على فض الاشتباك. 

إزاء هذه المواقف عاد كوهين إلى منصة التأسيس ليعيد صياغة أفكاره» ثم نقل الأفكار 
الجديدة» هذه المرة بنفسه» للبشير وقرنق فى آذار/ مارس ١535‏ . تلك الأفكار الجديدة 
أخذت فى الحسبان أنه فى تلك اللحظة كان للجيش الشعبى اليد العليا فى الميدان» مما يعنى 
أنه يتحمل المسئولية الأكير عن محنة المدنيين الذين كانوا يتضورون جوعاً» وبنيت خطة 
كوهين الجديدة على سحب الحكومة نصف قواتها من الجنوب. على أن ينسحب الجيش 
الشعبى على مدى خمسة عشر كيلو مترأ من المدن المحاصرة . وبعد وقف إطلاق النار تنشأ 
فرق للإغاثة تحت إشراف دولى لكفالة وصول الإغاثة إلى مرافئ أمنة. يعقب هذا عقد 
مؤتمر دستورى يضم كل الأحزاب بلا استثناء. وتحت وطأة الهجوم الضارى للجيش 
الشعبىء وافقت الحكومة على وقف إطلاق النارء إلا أنها رفضت سحب قواتها من الجنوب» 
كما رفضت السماح للأحزاب "الخارجة عن القانون ‏ أى أحزاب المعارضة ‏ المشاركة فى 
العملية السياسية. وحول الإغاثة؛ أكد النظام ضرورة بقاء كل المناطق الإدارية فى محاور 
العمليات العسكرية تحت الإشراف المباشر للأطراف المعنية (الجيش الحكومىء والجيش 
الشعبى) بدون أى مراقبة خارجية» وهذا ما رفضته الحركة الشعبية. 

ولإعطاء مبادرته دعماً إقليمياً عقد كوهين اجتماعات مع السلطات المصرية لإدخال 
مصر كميسر (13011108:00) لعملية السلام» بل دار بذهنه أن يعقد مؤتمر السلام فى القاهرة . 
وكان المفاوض الرئيس مع كوهين» من جانب مصرء هو أمين النمرء الوزير برئاسة 
الجمهورية. ولعل فى رغبة الطرف الأمريكى إشراك مصر فى تلك العملية ما يكذب 
الشائعات التى تداولتها بعض وسائل الإعلام العربية» وروجها بعض الذين هم ليسوا على 


512 


شىء فى شمال السودان. قالت تلك الشائعات أن خطة كوهين لا يراد منها إلا فصل الجنوب 
وحجب مصر عن عملية السلام. وعلى أى؛ فبعد اشتعال حرب الخليج فى آب/ أغسطس 
واتخاذ حكومة الخرطوم قرارً بدعم العراق جانبه الصواب. تصدعت علاقاتها مع 
الوسيط الرئيس في ذلك الوقت: الولايات المتحدة . 

ما أن هدأت الخواطر بعد حرب الخليج» حتى استأنف المسئولون الأمريكيون مساعيهم 
من أجل السلام؛ وكان فى تقدير مدرسة دبلوماسية فى واشنطون أنه من الخير احتواء 
النظام رغم مغامراته الخارجية وقمعه الداخلى . وقد دار حوار لجوج بين تلك المدرسة. من 
جانب؛ والحركة الشعبية وبعض عناصر التجمع؛ من جانب آخرء حول جدوى الحوار مع 
النظام بعد رفضه مشاركة التجمع فى الحل السلمى فى مبادرة كوهين. عبر قرنق عن فكر 
معارضى النظام بقوله هذا نظام لا يمكن تحسينه»ء ولذا ينبغى التخلص منه 22206 )1) 
.(لت5261207 عط لأناملة )1 50 ,لم/ا10م 122 ع كما أر: تأت وات المعارضة الأخرى أن 
المبادرة الجديدة تضفى شرعية على نظام حكم دموى. ولكن دبلوماسيى واشنطون الذين 
تركز جل اهتمامهم على المآسى الإنسانية التى خلفتها الحرب» أصبحوا أكثر ميلا إلى 
تجزئة القضية: إنهاء الحرب أولاًء ثم استرداد الديموقراطية فيما بعد. تلك الإستراتيجية 
لقيت ترحيبا حاراً من النظامء لا لأنه كان فى عجلة من أمره لإقرار السلام الشاملء وإنما 
لتلاؤمها مع إستراتيجيته فى تقسيم المعارضة إلى شمالية وجنوبية» وإلى مسلحة وغير 
مسلحة» وإلى إسلامية وغير إسلامية. كما لقيت الفكرة قبولاً لدى بعض السياسيين 
والمفكرين الجنوبيين الذين كانوا يعتقدون أن استمرار معاناة الجنوب ثمن باهظ يدفعه 
الجنوب وحده من أجل وحدة البلاد أو لاستعادة الديمقراطية. فى الرد على هؤلاءء قالت 
الحركة أن عدم حماسها للمبادرة لا يعود لأنها أقل توجعاً منهم بمحنة الجنوبيين» بل لأنها 
أدرى منهم بطبيعة الجبهة» ويالذى ينتظر الجنوبيين فى نهاية الطريق إن صدقوا دعاوى 
النظام . وقد أثبتت الأحداث. فيما بعد أن حدس الحركة كان صائباًء وأن لهواجسها الداخلية 
يومذاك ما يبررهاء خاصة بعد أن وقع بعض هؤلاء السياسيين فريسة لخدعة السلام من 
الداخل. 


ثابر دبلوماسيو واشنطون؛ وعلى رأسهم ديفيد شين» مدير شكون شرق أفريقيا بوزارة 
الخارجية الأمريكيّة» على التوجه الجديد الذى أسموه سياسة الهبوط السهلء. 
(لإعناوط ع«نكهد!-50) كبديل لإزاحة النظام بالعنفء إن اقتضى الأمرء كما كان يرى 
التجمع وترى الحركة. ولربما تولد انطباع لدى هؤلاء الدبلوماسيين بأن التجمع أضعف من 
أن يزيح النظامء وأنه يريد للحرب أن تستمر حتى آخر جندى فى الجيش الشعبى . وعلى 
كل» نظر التجمع إلى سياسة : الهبوط السهل على أنها مكافأة لنظام شرير على خطاياه؛ فى 
حين قررت الحركةء رغم رأيها فى النظامء المضى مع المبادرة» خاصة إن كان هدفها 
الأول هو تخفيف وطأة المعاناة على المدنيين فى الجنوب» وضمان وصول الإغاثة 
للمحتاجين منهم دون أى عدوائق. من جانبهاء رحبت الخرطوم بالمبادرة الأمريكية 
الجديدة» لاسيما وقد جاءت فى وقت كان النظام يسعى فيه لإصلاح الجسور مع الغرب. 
ولهذا السبب أوفد 8 واشنطون رجلا مرموقاً من بين رجالاته (مهدى إبراهيم) كسفير 
لدى واشنطون. ويتمتع السفيرء كما قلناء بفصاحة اللسان والقدرة على أن يعمل: كما يقول 
أهل مصرء من الفسيخ شربات. ما ألاى ضنع المنيز يعدن ون ضرع منان عاب نيك 
تستطعمه أفواه واشنطون. ركز أغلب جهده فى التبشير ضد الحرب وهولها وفى إحدى 
بكائياته وصف الحرب فى السودان على أنها جهنم» (وربما اقتبس التعبير من الجنرال 
الأمريكى وليام شيرمان فى عام )*!7788٠‏ استدعت تلك الكلمات المعسولة تعليقاً لاذعاً من 
ستيفين وندوء ممثل الحركة فى واشنطنء قال وندو أن آخر شىء جاءنا من الخرطوم عن 
الحرب هو أن الحرب ليست جهنم؛ بل هى الطريق إلى جنات عدن حيث يكافأ شهدازها 
بالحور العين.(”*) ولكنء» كما يتوقع الجميع ارتطمت المبادرة بصخرتينء الأولى تمسك 
النظام بالشريعة» والثانية رفضه نه الديدواراية التعددية» إضافة إلى عجز الوسيط عن إقناع 
الحركة بالفصل بين قضيتى إنهاء الحربء وإجراءات ما بعد إنهاء الحرب (العودة 
للديموقراطية) . وهكذاء بعد عدة محاولات نشطة قام بها الدبلوماسيون الأمريكيون فى 
واشنطن والخرطوم وجنوب السودانء لم تسفر مبادرة الهبوط السهل عن شىء؛ ففى متاخ 
السودان السياسى المضطرب؛ وتضاريسه الملتوية» يستعصى الهبوط السهل. 


514 


استمرار المآسى الإنسانية» وفشل مساعى السلام الأمريكية دفعا الكونجرس الأمريكى 
لاتخاذ مواقف أكثر تشددا ضد النظام فى الخرطومء وكما نذكرء كان الكونقرس دوما سباقآ 
فى إدانة انتهاكات حقوق الإنسان فى السودان: والاهتمام بمعاناة المدنيين من جراء 
الحرب. ولكن؛ أصبح واضحآً فى النهاية أن الكونقرس والإدارة الأمريكية قد وصلا إلى 
قرار بأن لا سبيل للتعاون معء أو الذقة فى» نظام الجبهة. عزز من هذا الموقف أكاذيب 
النظام التى تجلت فى إيلاغه مبعوثى الولايات المتحدة بشىء.ء بينما كان الذى يدور فى 
الخرطوم هو دومآً غير ما أبلغ به: القصف الجوى لأهداف مدنية» المزيد من التجنيد 
الإجبارى للشبابء المزيد من اختطاف الميلشيات القبلية للنساء والأطفال فى بحر الغزال» 
المزيد من المضايقات لزعماء المعارضة: والمزيد من العوائق أمام جهود الإغاثة» وأخيرآ 
المزيد من التقحم فى الشئون الداخلية للبلدان المجاورة» والسعى لزعزعة أنظمتها. وإزاء 
إلحاح الكونقرس» وضغوط جماعات حقوق الإنسان» أصدر الرئيس كلنتون فى تشرين ثان/ 
نوفمبر الأمر التنفيذى ١7٠717‏ (13067 /150)الذى أعلن فيه أن سياسات وتصرقات حكومة 
السودان تشكل تهديداً فوق العادة للسلام الإقليمى والدولى معدداً: 

١‏ دعم النظام الحاكم فى السودان للإرهاب الدولى. 

؟ - زعزعة استقرار البلدان المجاورة . 

" - شيوع انتهاكات حقوق الإنسان بما فى ذلك العبودية والإضطهاد الدينى. ونص 
الأمرعلى تجميد ممتلكات حكومة السودان الواقعة تحت قبضة الولايات المتحدة» الحظر 
على التجارة فى السلع مع السودان وتصدير التكنولوجيا إليه» أو تقديم الخدمات له. نفس 
الحظر يسرى أيضا على العقود التى يبرمها أشخاص طبيعيون أو معنويون أمريكيون مع 
السودان فى مجالات الصناعة والتجارةء وكذلك فى مجالات القروض والائتمان. وكان 
الرئيس كلينتون عازماً على إصدار نفس العقوبات من خلال مجلس الأمن ولكن شركاء 
السودان التجاريين: وأولئك الذين يمدونه بالسلاح من أعضاء المجلس»: خاصة الصينء لم 


يستجيبوا لرغبته. 


515 


كان لهذه الإجراءات أثر كبير فى عزل النظام اقتصادياًء وامتداداً لسياسة العزل» دعت 
وزيرة الخارجية» مادلين أولبرايت» ومساعدتها للشئون الأفريقية» سوزان رايسء إلى دعم 
مباشر للمعارضة:ء إلا أن بعض المؤسسات غير الحكومية والتى كانت تسعى لاستئلاف النظام 
بأى ثمن مارست ضغ وطأ رهيبة على الإدارة لكيلا تمضى فى ذلك السبيل. من تلك 
المؤسسات مركز كارتر بأتلانتاء ومنظمة ويرلد فيشن (15100// 11/0:14) والتى كان يعنيها 
بوجه خاص عدم تسذير المعونات الإنسانية لأهداف سياسية. مع هذا التقت اولبرايت بقيادات 
المعارضة فى كمبالا فى يوم ٠١‏ ديسمير1457ء وكانت لها رسالتان: الأولى تعهد الولايات 
المتحدة بتقديم الدعم للمعارضة (باستثناء الدعم العسكرى) لتقوية قدراته السياسية 
والدبلوماسية والتفاوضية؛ والثانية ضرورة توحيد المعارضة لصفوفها ولخطابها السياسى 
خاصة حول المبادئ التى لن يتحقق سلام دون الاتفاق عليها. ولعل مسئولى الإدارة كانوا 
يرتابون فى صدقية موقف الأحزاب الشمالية التقليدية حول قضيتى حق تقرير المصير 
للجنوب» والفصل بين الدين والسياسة. ليس هذا ظنأء بل هو يقين» إذ وجهت السيدة سوزان 
رايسء مدير إدارة أفريقيا بمجلس الأمن القومى (قبل أن تصبح مساعداً لوزير الخارجية لشلون 
أفريقيا) سؤالاً للسيد الميرغنى يعبر عن تلك المخاوفء فى لقاء شارك فيه الكاتب. سألت رايس 
الميرغنى: ما الضمان لأنكم لن تعودوا مستقبلاً إلى مواقفكم السابقة حول هذه القضايا؟. 
فأجاب: الضمان هو ثباتى على موقفى الذى تعاهدت عليه مع قرنق منذ عام 1984 . 

محادثات أبوجا 

كلما ووجهت منظمة الوحدة الأفريقية بخلاف داخلى فى نطاق الدول الأعضاء. 
تمسكت حرفياً بالمادة " (؟) من ميثاقهاء والتى تنص على عدم التدخل فى الشئون 
الداخلية للدول الأعضاء. ولكن فى مؤتمر القمة الأفريقية الذى انعقد فى صيف ١14١‏ 
بأديس أباباء بلغ القلثق من الموقف فى السودان أقصى مداه فى أروقه المنظمة؛ ولهذا قررت 
أن تفيق من غفوتها عن أطول حرب أهلية أفريقية منذ إنشاء المنظمة فى عام 1517 . وفى 
حقيقة الأمرء كان الرؤساء الوحيدون الذين ظلوا يشيرون لتلك الحرب فى خطابهم السياسى 
للمنظمة هم كينيث كاوندا (زامبيا)» جوليوس نيريرى (تنزانيا)» وروبرت موقابى 


516 


(زمبابوى) . ولكنء فى عنام »159١‏ أبدى الرئيس الدورى للمنظمة» الرئيس النيجيرى 
إبراهيم بابنقيداء رغبته فى التوسط فى الأمرء ودعا طرفى النزاع للقاء فى بلاده . وعلى 
الفور رحبت الحكومة بالدعوة» كما رحبت بها الحركة» إلا أن الحكومة أضافت تحذيراً جاء 
فيه أنها تقبل مبادرة بابنقيدا بوصفه رئيساً لدولة نيجيرياء وليس بصفته رئيساً لمنظمة 
الوحدة الأفريقية. مع هذا التنحوط» يمثل قرار الحكومة تطوراً محموداً بالقياس لمواقف 
سابقة» ففى عام ١977‏ رفض رئيس الوزراء»ء محجوب. كما أشرنا من قبل» دعوة مماثلة 
قدمها كوامى كروما للتوسط فى النزاع السودانى» وكان من رأى محجوب أن تلك الوساطة 
تتعارض مع المادة 7(؟) من ميثاق المنظمة الأفريقية. 

وتماماً مثل عمليات السلام التى سبقتهاء بدأت عملية أبوجا بتعثر شديدء ضاعف منه 
أولاً الانقسام الشديد الذى كانت تعانيه الحركة بعد انقلاب مشارء وثانياً الانتصارات التى 
حققها النظام فى الميدان العسكرىء كما تزايدت ثقة النظام بنفسه عقب انقسام الحركة 
وتوقيعه عدداً من اتفاقيات السلام مع المنشقين عنها. ورغم إدراكه لزيف تلك الاتفاقيات» 
سعى النظام لاستخدامها فى أبوجا للقفز فوق المبادرة النيجيرية. إضافة إلى هذاء حسب 
النظام أن الانتصارات العسكرية قد قوت كثيراً من موقفه حتى خامره الظنء بل أخذ يجاهر 
بظنونه» أنه بعون من الله تعالى» سيحول جون قرنق عما قريب إلى لاجئ فى إحدى دول 
الجوار. 

كان الرئيس بابنقيداء من جانبه» فى حيرة من أمرهء فمع التزامه الصادق بقضية 
السلام فى السودان» وتفانيه من أجل تحقيقهء إلا أنه كان قلقاً من اتخاذ أى موقف يثير 
مشاعر المسلمين فى السودان» خاصة وهو نفسه مسلم. فى ذات الوقت صدق بابنقيدا 
دعاوى النظام أن انهيار الجيش الشعبى أضحى وشيكأًء ولهذا تمنى أن يوفر للحركة فرصة 
للصلح مع النظام قبل فوات الأوان. إلى جانب هذا وذاكء لم يكن بابنقيدا راضياً عن الطابع 
العرقى والدينى للحرب (العرب ضد غير العرب والمسلمين ضد المسيحيين)» لما لذلك من 
انعكاس على القارة» كما كان حري صا على أن لا يتطور ذلك النزاع إلى حد المطالبة 
بانفصال الجنوب كما حدث فى بيافرا. لكل هذه التعقيدات آثر بابنقيدا أن لا يتقدم بأية 


57 


مقترحات محددة بل ترك للأطرافء تحت رعايته» التفاوض المباشر. وفى سبيل هذا 
وضع كل إمكانيات نيجيريا تحت تصرف المتفاوضينء إلى جانب سلطته الشخصية بهدف 
تنفيذ أى اتفاق يتم التوصل إليه . ذلك هو المناخ الذى انعقد فيه أول اجتماع فى أبوجا فى 
أعقاب مؤتمر القمةء ومثل النظام فيه وفد برئاسة محمد الأمين خليفة» فى حين أرسلت كل 
من الحركة والجماعة المنشقة عنهاء وفداً يمثلها. 

ولعل أهم ما خرجت به أبوجا هو وضع مسألة الهوية الوطنية فى قلب النقاش؛ خاصة 
إزاء موقف وفد الحكومة المتطرف بشأن الدين» وإيحائه بأن إقامة الدولة الدينية هو الهدف 
الأول للجبهة فى السودان. ومن المفارق أن يعبر عن وجهة نظر النظام تلك عضو جنوبى 
فى وفد الحكومة (انجيلو بيدا) .(؟*) قال بيدا أن الهوية الوطنية لا ينبغى أن تستند على 
العرقية» أو الدين» أو اللغةء بل على المواطنة وحدهاء كما أشار إلى حقيقة ساطعة لا ينتطح 
عليها عنزان هى أن السودان يضم جماعات شتى تتنوع أعراقهاء وتتعدد ثقافاتها ودياناتها. 
مالم يوضحه بيدا هو كيف يمكن لسياسى جنوبى مسيحى مثله أن يعامل على قدم المساواة 
مع سياسى مسلم فى ظل نظام ثيوقراطى مازال ملتزماً بأحكام الفقه الإسلامى فى الولاية. 
ذلك موقف لم يجد مناصرة من أحدء بمن فى ذلك رئيس نيجيريا المسلم ورئيس الاجتماع 
الدكتور توتجى اولاقونجوء وهو مسلم أيضا. إزاء هذا الموقف أخذ المتفاوضون فى تناول 
القضايا بعيداً عن الكلمات الشفرية (770:05 0006)مثل الدولة الدينية والعلمانية» وأصبح 
محور النقاش هو كيف يمكن للسودان أن يبقى موحداً فى ظل الاختلافات العرقية والثقافية 
والدينية؟ وكيف تتحقق المساواة بين جميع السودانيين على أساس المواطنة المشتركة: 
وليس أى اعتبار آخر؟ فى هذا الشأن دار حديث صريح حول الحقوق الأساسية للفرد 
والجماعات بما فى ذلك الحريات الدينية» وإزالة كافة وجوه الجور التاريخية حتى يكون 
هناك معنى حقيقى لمفهوم المواطنة . كما أكد وفد الحركة الدعوة لخلق سودان جديد. 
وأضاف أن ذلك لن يتحقق عبر سياسات الاستيعاب (3551/01120108)»: أو تهميش الجنوب من 
التيار الرئيس للسياسة فى السودان. عن ذلك؛ عبر نيهال دينق على الوجه التالى: لم نأت 
إلى أبوجا للمفاوضة حول أفضل السبل لاستيعاب المهمشين فى "المؤسسات العنصرية» 


518 


والدينية» والطائفية القائمة فى البلاد. كما لن نقبل أبدأً دولة إسلامية أصولية» أودولة 
مغرقة فى تمسكها العرقى بالعروبة» لأننا لا ننتمى لأى منهما.(؛*) ذلك البيان المفصح 
جاء فى أعقاب موقف الحكومة المتصلب حول الدين والسياسة الذى أكدت فيه أن لا تراجع 
عن سياساتها الدينية» إلا فى حالة إعفاء الجنوب من الحدودء وإخضاع جميع السودانيين 
(بمن فيهم الجدوبيون الذين يعيشون فى المناطق غير المعفاة من الشريعة) للتطبيق الحرفى 
لنصوص الشريعة عليهم. ويذهل المرء فى هذا الإصرار تجافيه لأحكام الشريعة نفسهاء 
فالحدود ليست قانوناً إقليمياً (له671:0:1))وإنما هى قانون شخصى (!650921م)» أى قانون 
يطبق على المسلم ولا يطبق على غير المسلم حتى وإن أقاما فى مكان واحد. ولربما كان 
هذا هو السبب الذى جعل الترابى فى عام ١147‏ يستثنى غير المسلمين من حد الخمر. ومما 
يروى أنه ساء عمر بن عبد العزيز أن غير المسلمين من أهل الشام ومصر يحتسون الخمر 
ويأكلون لحم الخنزير» فساءل الحسن البصرى فى أمرهم. قال له الحسن دينهم لا ينهاهم» 
وأنت ممّبع لا مبتدع . تلك البدعة استنها نميرى فى عام 547١ء‏ وسار على هديه من 
اتبعه . وعلى كلء عادت الحركة:؛ إزاء هذا العنادء إلى موقفها الأساس: قيام دولة علمانية» 
مع الإقرار أن تصبح الشريعة مصدراً للتشريع فى الأحوال الخاصة بين المسلمين. 

تناول الطرفان أيضأء باقتراح من رئيس الاجتماع النيجيرى؛ قضية الترتيبات الأمنية 
خلال الفترة الانتقالية» إلا أن موقف الحكومة فى هذا الموضوع كان موضع دهشة 
النيجيريين والحركة» على حد سواء. أعلن رئيس وفد الحكومة جهارة أن هذا أمر يخص 
السودانيين وحدهمء ولا دور فيه لنيجيريا أو غيرها. ولربما إن كان لنيجيريا دور يمكن أن 
تلعبه أن قيض للاتفاق أن يتم فهو دورها فى مراقبة الاتفاقيات الأمنية. تلك المواقف 
المتشددة» والتى افتقد بعضها الحد الأدنى من الدبلوماسية» دفعت لام أكول؛ ممثل أحد 
الفريقين المنشقين عن الحركة؛ للقول أن وحدة شقى القطر أمر مستحيل ولهذا يجب على 
الجنوب والشمال التوقف عن الحديث حول الوحدةء ودعاء كبديل لإجراءات الفترة الانتقالية 
المطروحة: إلى إعلان اتعاد كونفدرالى تتبعه ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير. رد وفد 
الحكومة على تلك الأطروحة كان عنيفاً: لن يتحقق الانفصال إلا بالسلاح . ولاشك فى أن 


5319 


توجيه تلك العبارة للسياسى الجنوبى الذى وقع مع الحكومة» قبل عام واحد من محادثات 
أبوجاء اتفاقاً خاصاً بمنح الجنوب الحق فى تقرير مصيرهء(**) لا يكشف فقط عن قمة 
الخيانة» بل أيضاً عن الفقدان الكامل للمسئولية. وعند مجابهة النيجيريين لوفد الحكومة بما 
اتفقت عليه فى فرانكفورت, تبدل موقفه إلى الموافقة على إجراء استفتاء (012ال212,61) فى 
الجنوبء ولكن ليس فى منطقتى جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. 

انعقد اجتماع أبوجا الثانى فى الفترة من 7١‏ نيسان/ أبريل إلى ١7‏ آيار/ مايو ١1997‏ 
وضم وفد الحركة إليه وجها جديدا: الراحل يوسف كوه مكى من جبال النوبة. مشاركة كوه 
فى المؤتمرء كنائب لرئيس وفد الحركةء قصد منه إرسال عدة إشارات: الإشارة الأولى هى 
التأكيد لأهل المناطق المهمشة التى تقف جنبآً إلى جنب مع الجنوبيين فى ساحة التضال» 
أن الحركة لم تغفل أمرهم. الإشارة الثانية هى تنبيه الحكومة إلى أن الحركة ليست هى 
الحركة الجنوبية التى يصفون . أما الإشارة الثالثة فكانت موجهة لدعاة الانفصال الفورى 
وإبلاغهم أن الذين يحاربون فى صفوف الحركة ليسوا هم الجنوبيون وحدهمء وقضية هؤلاء 
لا تحل بفصل الجنوب. فى جانب الحكومة» لم يعد هناك ما تناقشه» بعد إصرارها على 
مواقفها المبدئية» غير بعض القضايا العارضة مثل الاتفاق على تكوين لجنة لإعادة توزيع 
الموارد الوطنية» واستقلال القضاءء وأسس تعيين قضاة المحكمة العلياء والواجبات الدستورية 
للمحكمة العلياء ووسائل صونها من التدخل السياسى. هذه قضايا لاشك فى أهميتها لإرساء 
حكم القانونء إلا أنه فى حالة عدم الاتفاق على القضايا الأساسيةء يصبح التداول بشأنها 
مجرد جدل أكاديمى. ولذا انتهى المؤتمر إلى شىء أشبه بالتعليق إلى أجل غير مسمى 
(©ذل 5156)» وهذا هو السبب فى عدم صدور بيان مشترك عما انتهي إليه الاجتماع: 
والاكتفاء بالبيان الصحفى الذى أصدرته الحكومة النيجيرية. 

ولكن» قبل ختام الاجتماع الثانى» قدم وفد الحكومة فى " آيار/ مايوء ما أسماه موقف 
حكومة السودان التنازلى بشأن قضايا الدولة والدين خلال الفترة الانتقالية 038نا5) 
مماعذاع1 200 عأهاذ 01 عنوذا عطا ده «ملكلوه [2م0أ5وءعم20) 5 أمءطالء0017) 


(لمءعط سمعامآ عطا ومسل أثار, ت الورقة جدلاً واسعآء وكانت» على الأقل» مشوقة 


2520 


(2167681108) ومن الواضح أن النظام بذل جهداً للوصول إلى اتفاق حول هذه النقطة» 
خاصة بعد أن لاحظ امتعاض النيجيريين (حتى المسلمين منهم) من موقفه المتشدد فى 
موضوع الدين. ولكن؛ مع هذا الموقف التنازلى أخفق النظام فى التخلص من طبعه المراوغ. 
إذ سعى لأن يأخذ بالشمالء ما قدمه باليمين. فالورقة» مثلاًء لم تتعرض للتناقض الفاحش 
بين القوانين القائمة وما جاء فى طرحها الجديدء ومثل هذه المراوغة لا تعين على الخروج 
من الطريق المسدود. تقول الورقة: السودان مجتمع متعدد العناصرء والأعراقء والثقافات» 
والأديان؛ والإسلام هو دين غالبية السكانء بينما يتبع المسيحية والعقائد الأفريقية عدد لا 
يستهان به من المواطنين. هذا النص أخذ حرفياً من المادة ١5‏ من دستور نظام مايو 
»)١97(‏ وهو الدستور الذى ألغاه الترابى ليمهد بذلك لدستور"إسلامى يتفق مع متطلبات 
عهد الإمامة. وتمضى الورقة للقول بأن المواطنة هى أساس اكتساب الحقوق وتطبيق 
الواجبات فى السودانء ويقف كافة السودانيين على قدم المساواة فى المشاركة فى جميع 
الأنشطة الحيوية» وتكون المواطنة هى أساس الاضطلاع بالمسئولية السياسية. أوضحت 
الورقة أيضاً أنه "يحظر استخدام سلاح الإجبار فى موضوع الدين» كما يحظر فرض أى 
دين على أى مواطن. بالإضافة إلى ذلك» جاء فى الورقة أنه لن يصاغ أى تشريع يؤدى 
إلى إهدار تلك الحقوق أو الإجحاف بهاء بينما تبقى الشريعة والعرف هما المصدران 
الأساسيان للتشريع. أكدت الورقة أخيراً أنه لن ترد فى الدستور أية إشارة للدين الرسمى 
للدولة» وأن الجنوب لن يخضع لأى عقوبات مستندة إلى الشريعة. 

هذا النوع من التنازلات التى تبدو معقولة لمن يجهل طبيعة النظام» يهدف إلى تضليل 
الغافلين» أو ربما خداع الذين لا يعنيهم وضع اقتراحات الجبهة فى سياقها الصحيحء أو لا 
يدركون السياق التاريخى لقضية تديين السياسة فى السودان. فالذين يعرفون تأريخ أسلمه 
السياسة منذ عام ١174‏ سيظنون محقين بأن هذه الاقتراحات تخص, بالتأكيدء بلدأ آخر. 
ففى منتصف الستينيات من القرن الماضى أطاح الإسلاميون بقرارات لجنة الاثنى عشر 
الخاصة بجنوب السودان؛ بادعائهم أن "الخضوع لمشيئة الله تستلزم أن يكون دستور 
السودان دستوراً إسلامياًء وأن تنسب الدولة لدين الإسلام. صحيح أنهم فعلوا ذلك بالتواطؤ 


521 


مع الأحزاب التقليدية» ولكن» أصبح لتلك الأحزاب رأى آخر فى الأمر بعد قرارات نيروبى 
وأسمرا. أما الآن فقد أصبح من الممكن أن يغفل الدستور قضية الدين حتى وإن كان فى 
ذلك المخالفة لمشيئة الله» وكأن مشيكته تعالى أمر يقرره البشر حسب الأهواء والنزعات 
والظروف وعواصم الدول. وربما يقول من يحسنون الظن أن البشر يتغيرونء وأن الجبهة 
ليست استثناء من هذه القاعدةء ولكن الواقع فى سودان الجبهة يجعل ذلك القول غير قابل 
للتصديق. فمثلاًء أكدت الورقة أنه لن يفرض أى دين بالقوة على المواطنين» فى الوقت 
الذى ينص فيه قانون العقوبات السودانى فى المادة ١77‏ كما ألمحنا سابقاء على أنه يعتبر 
مرتداً أى مسلم يهجر ملة الإسلام بالقول أو عن طريق القيام بأى تصرف صريح . كشفت 
أيضاً التقارير التى وثقها المراقبون المستقلون:!*) ومن ضمنهم مراقبو حقوق الإنسان 
التابعون للأمم المتحدة» عن ممارسات قام بها النظام بعد سبع سنوات من وثيقة أبوجا 
التنازلية لا تتفق مع ما قالت به الوثيقة» كما تتعارض مع الشرائع الدولية المتعارف عليهاء 
ومع أحكام الإسلام. مثال ذلك تحويل الشباب الجنوبيين فى الشمال والجنوب قسراً إلى 
الإسلام» وإرهاب القسس المسيحيينء وقهر المسلمين الذين يخالفون الجبهة الرأى حول 
الإسلام. جميع هذه الممارسات لم تعرفها أنظمة الحكم السابقة على اختلاف توجهها رغم 
جذورها الإسلامية. حديث النظام عن رغبته فى منع صدور أى تشريع ينتهك الحقوق 
الدينية للمواطنين يتسم بالنفاق» على أقل تقديرء خاصة والقضايا التى طرحها فى أبوجا 
قضايا مبدئية» لا تتعلق بنجاح مفاوضات أبوجا أو غير أبوجا. ولو كان النظام صادقاً فى 
التوجه نحو فعلها لفعل» كما فعل بالإشارة للمواطنة كأساس للحقوق والواجبات فى دستور 
:: وكما ألغى الإشارة لدين الدولة فى نفس الدستور. وعلى أىء. لاتكفى النصوص 
الدستورية وحدها ولا تعنى شيئاء طالما ظلت القوانين التى تستمد من الدستور متناقضة 
معهء بل أساساً لشرعنة القهر. كما أن النظام» بإبقائه على الشريعة كمصدر أساسى للتشريع» 
يستطيع أن ينسب كل قوانينه الجائرة لتلك الشريعة» بالصورة التى يعرف بها الشريعة. أما 
العرف (والذى تشير واو التتابع إلى استوائه مع الشريعة كمصدر أساس للتشريع)؛ فما 
وردت الإشارة إليه إلا للزينة» علما بأن العرفء ليس بالضرورة هو العرف القبلى؛ بل هو 


8222 


كل ما تعارف عليه الناس فى العادات والمعاملات. وللسودان أعراف فى السياسة؛ ليست 
بالأمر النكرء ومع ذلك لا مكان لها فى الدستور أو القوانين المنبثقة عنه. 

وبينما كان وفد النظام يعزف فى أبوجا على نغمة التنازلات التى قدمها لغير المسلمين» 
واظبت حكومة الخرطوم على مضايقة خدم الكنيسة» للحد الذى حرمتهم فيه حق تقديم 
العون لمجمعات النازحين» وقررت أن تقصر هذه المهمة على المنظمات الخيرية الإسلامية 
الموجهة من جانب النظام. ففى كانون ثان/ يناير197١‏ (أى بعد أربع سنوات من وثيقة 
أبوجا) » سنت الحكومة واحداً من أكثر القوانين إجحافاً بحقوق المسيحيين. نص ذلك القانون 
على اعتبار جميع الكنائس منظمات طوعية تقع تحت إشراف الإدارة المسئولة عن 
المنظمات غير الحكومية» تلك الدرجة من التجرؤ على المقدسات المسيحية لم يبلغها حتى 
قانون ععبود حول الإرساليات التبشيرية الذى صدر فى الستينيات من القرن الماضى. 
الهدف من ذلك التشريع كان هو تمكين الحكومة من إحكام قبضتها على مصادر دخل 
الكنيسة وإدارتهاء وعندما لا يطبق ذلك التشريع على المساجدء لا يتضح فقط الهدف منه» 
بل يتبين أيضاً روح التحيز الذى لا يمكن أن تجاهر به حكومة رشيدة يحاصرها العالم 
بتهمة الاضطهاد الدينى.(”*) 

لكل هذه الأسباب لم تأخذ الحركة ورقة التنازلات بمعناها الظاهرى(ءناة؛ ع22؟) بل 
نظرت بعمق إلى وجه أصحابهاء ثم قالت: لا ينبغى أن يكون للشريعة موضع فى الحياة 
السياسية للمجتمع» بل يجب قصرها على القوانين التى تسرى على المسلمين وحدهمء إن 
كان للسودان أن يبقى موحداً. أضافتء إن الشريعة» كما هى مطبقة اليوم» تشكل نظامآً 
قانونياً متكاملاً يتضمن مجموعة هائلة من القوانين العامة والخاصةء ولا يقتصر فقط على 
الجوانب العقابية . لهذاء فإن الانشغال بالحدود (والتى سيعفى الجنوب منها) يطمس معالم 
القضايا. وفى هذا المجال عدد وفد الحركة مجموعة من القوانين ذات الأصل الدينى ظلت 
سارية منذ عام ١187‏ (برنامج نميرى لأسلمة القوانين) . قال الوفد أيضاً أنه حين يمكن 
نظرياً إعفاء بعض مناطق السودان من تطبيق نصوص القانون الجنائى الإسلامىء إلا أنه 
من غير العملى أن يشمل ذلك الإعفاء المواطن الجنوبى غير المسلم الذى لا يعيش فيما 


223 


أسماه المنطقة الخالية من الشريعة 2026 5.66 513,43: أى فى الجنوب. وتساءل الوفد؛ء فى 
النهاية» إن كان فى مقدور الحكومة إعفاء الجنوبيين من تطبيق قوانين الشريعة الخاصة 
بإبرام العقودء والمعاملات مع البنوك» وبقية التشريعات الاقتصادية والاجتماعية؟ ومن بين 
التشريعات الاقتصاديةء بلا شكء قانون أسلمة البنوك الذى لم يقدم عليه بلد عربى واحد, 
بما فى ذلك المملكة العربية السعودية؛ ففى جميع الدول العربية تعمل البنوك الإسلامية مع 
البنوك التقليدية جنبآ إلى جنبء بل إن المملكة العربية لم ترخص حتى عام ٠٠١١‏ لأى 
بنك إسلامى للعمل فى داخل المملكة وكانت المرة الأولى التى أخذت تتدارس فيه الأمر 
عندما تقدم الراجحى بطلب لإنشاء بنك إسلامى فى ذلك العام. ولعل بعض التطورات 
الأخيرة لم تكشف فقط غلواء النظام» بل أيضاً نفاقه وتكذبه فيما يسمى أسلمة الاقتصاد.(8*) 

مهما يكن من أمرء أثبتت الأحداث اللاحقة أن الحكومة لم تسع إلى أبوجا بهدف 
التفاوض للوصول إلى تسوية سلمية عادلة وشاملة» وإنما لإذكاء روح الفرقة فى صفوف 
الحركة بالقدر الذى قد ينهى الحرب لصالحها. وقد أصابت الحكومة هذا الهدف عندما 
أفلحت فى إغواء رئيس وفد الحركة» وليام نيون بانى بالانضمام إليها. ولكنء كما ورد آنفأء 
تلك فرحة لم تتم» إذ سرعان ماعاد وليام أدراجه» ثم لقى حتفه على يد واحد من أنصار 
مشار عقاباً له على عودته للحركة مرة أخرى. 

أبوجا والمطاوضات الجانبية 

شىء آخر يكشف عن سوء نوايا النظام» أوإن شئت عدم جديته فى مفاوضات أبوجاء 
ذلك هو إشراعه الباب لعدد من المناقشات الجانبية مع أطراف النزاع. ففى آيار/ مايو 
9 » وأثناء انعقاد مؤتمر أبوجاء عقد النظام مشاورات فى نيروبى مع مجموعة مشار 
التى كانت تشارك فى ذلك المؤتمر. تلك المشاورات تناولت وسائل تحقيق السلامء الترتيبات 
الانتقالية؛ وهى نفس القضايا التى كانت مطروحة فى مؤتمر أبوجا. وكان من المفترض أن 
يناقش الطرفان فى ذلك الاجتماع أيضأء موضوعى المشاركة فى السلطة خلال الفترة 
الانتقالية» والدين والدولة» إلى جانب التنمية الاقتصادية فى إطار سودان فيدرالى موحدء 
غير أن النتائج المعلنة بعد الاجتماع جاءت منقوصة. انحصرت النتائج فيما يلى: 


524 


١‏ اقتسام السلطة بين الجدوب والحكومة المركزية (ويعنى هذاء ة فى الواقع؛» انتصهار 
000 
تحقيق النمو الاقتصادى. 
"'- مشاركة الجنوب فى الحكومة على المستوى القومى. 
2 إجراء استفتاء فى الجذنوب. 


أما خول القتريفَة فق اتفق ق الطرفان على الإبقاء عليها كمصدر للتشريع؛ مع منح 
الجنوب بعض الاعفاءات . تلك هى الخدعة التى رفضتها الحركة فى أبوجاء ولم تنطل. فيما 
يبدوء على من قنعوا بهاء كما أثبتت الأحداث اللاحقة. لم يتم أيضاً أى اتفاق بين الطرفين 
حولء أو بالحرى لم ترد أى إشارة فى اتفاق نيروبى إلى» الفترة الانتقالية من حيث الأفق 
الزمنى. هذا أمرلا يستغرب إذ أن الهدف من المفاوضات: كما عكست نتائجهاء »لم يكن 
أساساً هو إقامة سلام دائم» وإنما كان تعزيز موقف الحكومة بإيقاع المنشقين فى براثنها. 

الاجتماع الجانبى الثانى يكاد يجعلك تستغرق فى الضحك. لولا تراجيديته . فخلال 
انعقاد مؤتمر أبوجا اتفق الرئيس البشير مع الرئيس اليوغندى موسيفينى على التوسط بينه 
وبين رئيس الحركة الشعبية لعقد اجتماع بينهما وجهاً لوجه وكان من رأى الخرطوم أن يتم 
ذلك الاجتماع بين دورتى انعقاد أبوجا للتعرفء كما قالت الخرطومء على الأسباب التى 
دفعت الحركة لتقديم ورقة جديدة للنيجيريين تتحدث فيها عن وضع كونفدرالى خلال 
الفترة الانتقالية» وكأن ليس للموقف المتطرف الذى اتخذته الحكومة فى أبوجا بشأن الدين 
والدولة» وتلجلجها فى قضية حق تقرير المصيرء أثر فى ذلك التحول. رفضت الحركة 
الدعوة لذلك اللقاء المباشر قبل اجتماع أبوجا الثانية» كما لم يرحب بها النيجيريون الذين 
رأوا فيها محاولة للقضاء على مساعيهم. فى نفس الوقتء أبلغ قرنق موسيفينى أن ذلك 
الاجتماع يشكل لطمة فى وجه الرئيس بابنقيداء ولهذا يجد صعوبة فى المشاركة فيه . وبيعد 
جهد من جانب الرئيس اليوغندى لإقناع زعيم الحركة باستكشاف المياه على الأقل» قبل 
قرنق الاجتماع مع على الحاج كمبعوث للرئيس السودانىء شريطة أن لا يعتبر ذلك 


525 


الاجتماع بديلا لاجتماعات أبوجا. تم الاجتماع فى عنتبى فى مقر الرئاسة فى 7١‏ شباط/ 
فبراير ١15197‏ وأبلغ فيه موسيفينى على الحاجء أنه لا يشجع المسارات المتوازية فى مثل 
هذه القضاياء كما أوحى لمبعوث الرئيس السودانى بضرورة الالتزام بعملية أبوجا حتى تكمل 
مسارها. ولعل قرنق فاجأ على الحاج بقوله أن تحقيق السلام فى السودان لن يتم إلا 
باشتراك كافة أطراف المعارضة فى المفاوضاتء كما باغت على الحاج قرئق بقوله: نحن 
لا نتحدث إلا مع الذين يحملون السلاح . ولا شكء أن المعارضة الشمالية» بعد ذلك القول 
المنذرء أخذت القول على محمله الظاهرىء وحملت السلاح. 

فى ظل تلك الظروف ما كان للحرب إلا أن تزداد احتدامأء لاسيما وقد تزايدت ظنون 
الحكومة بأن النصر قريب. شجعها على ذلك الظن نجاحها فى بث الفتنة بين الجنوبيين» 
وتحويل الحرب إلى حرب جنوبية ‏ جنوبية. اعتماداً على تلك الظنون؛ أعلن النظام أنه بحلول 
نهاية عام ١1195‏ »: سيسحق الجيش الشعبى إلى شظايا. وفى حساباته تلكء تجاهل النظام القوى 
المعارضة الأخرى فى التجمع تجاهلاً كاملاً بحسبانها قوى مستهلكة عديمة النفع. ثم جاء 
وذهب الموعد الذى ضربته الحكومة للدصرء دون أن يفقد الجيش الشعبى زمام المبادرة» او 
ينتهى إلى شظايا. وكما يقول هنرى كيسنجر عن حرب العصابات: إن خسر الجيش النظامى 
معاركه فى القضاء على العصابات (806511135) فهو لم ينتصرء وإن بقيت العصابات تحارب 
رغم كل هزائمهاء فهى المنتصر.('*) هذا الدرس الذى وعاه كيسنجر من حرب فيتنام» لم 
يعه الرئيس البشير إلا بعد الحادى عشر من سبتمبر/ أيلول 72٠١١‏ . ولكن قبل وصوله لذلك 
الوعى» ظل البشيرء مثله فى ذلك مثل الجنرال غوردون قبله؛ يعلن أنه سيواصل إلى ما لا 
نهاية إرسال الكتائب تلو الكتائب تجاه الجنوب إلى أن يقضى على قرنق. ويحدثنا التاريخ أن 
مالا نهاية غردون كانت قصيرة جداً. أما عبارة على الحاج التى صور فيها المعارضة 
العزلاء ككم مهملء فقد تحولت إلى نبوءة حققت ذاتها بذاتها. فالحرب منذ ذلك التاريخ لم 
تعد تقتصر على مناطق الحرب التقليدية (الجنوب» وجبال النوبة» وجنوب النيل الأزرق) ؛ بل 
امتدت إلى الشرق حيث تجمعت كل قوى التجمع العسكرية فى ظل قيادة موحدة»ء قائدها العام 
هو قرنق. أمر عجبء ولكن عجائب السودان لا تنتهى. 


5226 


وساطة الايقاد (؟17199١٠١7)‏ 


مبادرة السلام التي أطلقتها دول الإيقادا'؟) تختلف كثيراً عن المبادرات التى سبقتها 
لأسباب حاسمة . فأولا أعلنت المبادرة فى اجتماع لرؤساء الإيقاد عقن خاصة للتشاور فيما 
بينهم حول إعادة الاستقرار لدول المنطقة التى تنتظمها الإيقاد حتى تتوجه جهود أهلها 
وحكوماتها نحو التنمية. ثانياً تضم دول الإيقاد أكذر الدول المجاورة للسودان تأثراً بالحرب 
(أثيوبياء إريترياء كينياء يوغندا) ء خاصة فيما يتعلق بضغوط اللاجئين على الاقتصاد الهش 
لهذه الدول. ثالث جاء الطلب لتدخل المنظمة فى 0 بدي مباشرة من الرئيس 
البشير اثناء انعقاد ذلك الاجتماع؛ وكان ذلك بعد ثلاثة من انهيار المبادرة النيجيرية . 
رابعاً استجابت الحركة للمبادرة بسرعة فائقة» خاصة 590 أغلب هذه الدول لجنوب 
السودان» فى الحرب أو السلمء وللدور المحورى الذى يلعبه يعضها فى تسهيل ودعم العمل 
الإنسانى فيه. وباستجابة الرؤساء لطلب البشير عهدوا لأربعة منهم (رؤساء أريترياء أثيوبياء 
كينياء أوغندا) بمتابعة الأمرء واتفق الأربعة على اختيار كينيا كرئيس للمجموعة . وبعد 
مضى أربع سنوات من بدء المبادرةء انضمت جيبوتى إلى الدول الأريع. 

فى للفترة ساابين آذا/ :مار إلى أيلول/ سبعمير 41444 عقنت أريع دوراتت رسمية 
للمفاوضات اشتركت فيها كل من حكومة الجبهة؛ والحركة الشعبية» وجماعة مشار ‏ أكول. 
تلك اللقاءات الابتدائية أفادت الوسطاء كثيراً على الإبانة عن جوهر الخلاق وأس المشكل» 
مما جعلهم يقدمون على ما لم يقدم عليه وسيط من قبل: وضع خارطة تهدى السراة فى 
ليل السلام المعتم . (جقم 1020 م 3) وكان للرئيسين أفورقى وزيناوى الفضل فى ابتداع 
هذه الفكرة التى نالت ترحيباً من زميليهما موى وموسيفينى. هذه الخارطة عرفت فيما يعد 
بإعلان المبادئ (202 بوعاماءملءط 6ه 1150هةاءء2 1081), ولكن قبل أن يفصح 
الوسطاء عن إعلان المبادئ قال وفد الحكومة» على لسان رئيسه محمد الأمين خليفة فى 
الاجتماعات التمهيدية: لاء لمسألة حق تقرير المصير('')» ولا لمسألة إجراء الاستفتاء. 
وبقاء السودان متحدآء وبقاء الشريعة مع العرف. مصدرين للتشريع . كما دعا وفد الحكومة 
إلى قيام فترة انتقالية يشارك فى الحكم خلالها خصمازها (الذين يحملون السلاح) من أجل 


2127 


استعادة الثقة» وإرساء المؤسسات الحكومية والإدارية» وإعادة التأهيل والبناء. وكما هو 
متوقعء اتخذت الحركة موقفاً نقيضاً من مقترحات النظام» فبعد تأكيدها على الالتزام بوحدة 
السودان» وبالحل السلمى للصراعء أوضحت أنه من المستحيل فرض الوحدة؛ بل لابد من 
تحقيقها طواعية خلال ممارسة أهالى جنوب السودانء وجبال النوبة» وجنوب النيل الأزرق» 
لحق تقرير المصيرء على أن تسبق ذلك فترة انتقالية تحت إشراف دولىء حددتها بعامين. 
ذلك التباين فى رؤى الفريقين» أضفى مصداقية على حدس الوسطاء بأن الحوار فى مثل 
هذه الظروف سيصبح حوار طرشانء ولهذا هدتهم حكمتهم إلى ضرورة وضع إطار عمل 
مؤسسى للحوارء إن كان للحوار أن يمضى بطريقة منهجية نحوغايات محددة. كان 
الرؤساء فى غاية الوضوح عندما قالوا لأطراف النزاع أن خيارهم (خيار الوسطاء) الأول 
هو وحدة السودانء إلا أن إرساء دعائم الوحدةء كما ذكرواء يتطلب الأخذ بمعايير جديدة . 
تلك هى المعايير التى ضمنت فى إعلان المبادئ» وكانت تلك هى المرة الأولى التى يجابه 
فيها الوسطاء طرفى النزاع بتفصيل واف عن مقومات الوحدة بدلاً عن ترداد التعبير 
المنهوك عن وحدة السودان وسلامة أراضيه دون تبيان لمقومات تلك الوحدة . ففى تقدير 
وسطاء إيقادء ينبغى أن تقوم الوحدة على الاعتراف الكامل بالتنوع العرقى والتعدد الثقافى 
والدينى» واحترام سيادة القانون» والالتزام بكل المبادئ المتعارف عليها حول حقوق الإنسان 
العالمية» والتوزيع العادل للثروة» والفصل بين الدين والسياسة . وإن تعذر على النظام القائم 
فى السودان قبول تلك المبادئ» ينبغى عليه الاعتراف بأن من حق الجنوب ممارسة حق 
تقرير المصيرء دون استثناء لأى خيار يمكن أن تفضى له هذه الممارسة. 

ويرى بعض المحللين7”') أن وساطة الإيقاد كانت مؤهلة لأن تلعب دوراً حاسماً فى حل 
المشكل السودانى لأنها أولاً» نجحت فى حشد فريق قوى من الوسطاء على درجة عالية من 
الإلمام بجوانب الصراع. ضم ذلك الفريق رؤساء دول كان لثلاثة منهم خبرة طويلة فى 
النضال المسلح (رؤساء أرتيرياء أثيوبياء يوغندا) » وتلك مزية تجعلهم أكثر إدراكاً من غيرهم 
لديناميكية النضال المسلح ضد الأنظمة القائمة. ثانيأ» كان الجميع راغباً فى إيجاد حل 
لأزمة اللاجئين التى ندجت عن ذلك الصراع وأثرت تأثيراً مباشراً على بلادهم. ثالثاً: 


5228 


عاش زعيما اريتريا واثيوبيا فى السودان» ولذا كانا على علم تام بحقيقة الأسباب التى أدت 
إلى ذلك الصراع. رابعاً: يرجع اهتمام الرئيس الكينى» موى بالصراع فى السودان إلى 
الستينيات عندما كان مكلفاً بمتابعة الشأن السودانى فى عهد الرئيس الراحل جومو كينياتا. 
خامساً: سادت روح جديدة» فى فترة ما بعد الحرب الباردة» حول حل النزاعات بالطرق 
السلمية»ء كما تواترت اتهامات عديدة ضد الحكومة السودانية باعتبارها دولة راعية 
للإرهاب الدولى والإقليمىء ولربما دفع هذا الاتهام الحكومة للتماشى مع أى مساع للحل 
السلمى» وإلا اعتبرت مناوئة للتيار السلمى المتنامى» أوغدت فى مخيلة الجميع دولة 
مارقة. 

أول اجتماع غير رسمى لرؤساء الإيقاد تم فى كمبالاء يوغندا فى ” تشرين اول / نوفمبر 
55 وقرروا فيه» إلى جانب اعتماد إعلان المبادئء تكوين لجنة وزارية دائمة (وزراء 
الخارجية) للقيام بوضع جدول أعمال للمفاوضاتء كما دعوا الحركة الشعبية للتنسيق مع 
جماعة مشار للاتفاق على موقف موحد بالنسبة لقضية الجنوب. واستجابة لتلك الدعوى 
وقع قرنق مع مشار اتفاقاً فى ” كانون ثان/ يناير ١١1954‏ بعد محادثات أطلق عليها اسم 
"وساطة داخل الوساطةء تضمن ما يلى: 

١‏ التفاوض فى وقف إطلاق النار باشتراك جميع أطراف الصراع على أن تتم مراقبته 
عبر إشراف مراقبين محايدين. 

"١‏ ممارسة حق تقرير المصير وذلك عن طريق إجراء استفتاء فى جنوب السودان» 
وجبال النوبه» وكافة المناطق المهمشة الأخرى. 

اتخاذ ترتيبات انتقالية تتفق عليها الأطراف وتسبق إرساء الترتيبات الدائمة .(15) 

فى نفس الوقت كان النظام منقسماً على نفسه حول المبادرة» ولعله» هو الآخر. كان فى 
حاجة إلى وساطة داخل الوساطة. فبينما كان مجلس الوزراء» يدعم مبادرة السلام نظراً 
للتقلب المستمر فى موازين القوى على أرض المعركة؛ وللانتصارات العديدة التى حققها 
الجيش الشعبىء آثر المتعصبون فى المجلس الأربعينى المهيمن على النظام؛ء مواصلة 


529 


الحرب. ولريما يفسر هذاء المواقف المتناقضة للنظام فى محادثات أبوجاء وفى الإقبال على 
إعلان المبادئ فى مبادرة الإيقاد. ولكن؛ فى ظل الاتهامات المتزايدة للنظام برعاية 
الإرهاب الدولىء لم يكن النظام راغباً فى تعقيد تلك الصورة بالتمرد ضد مفاوضات السلام 
التى دعا لهاء ابتداء» رئيسه . تلك الحرب الأهلية الجبهوية استغرقت ثلاث سنوات من بدء 
عملية الإيقاد» قبل أن يعلن النظام موافقته على إعلان المبادئ. على أن تلك الموافقة لم 
تجئ إلا بعد واقعتين هامتين: الأولى هى إقصاء محمد الأمين خليفة وعلى الحاج من الوفد 
لقبولهما المشاركة فى اجتماع نوقش فيه موضوع حق تقرير المصير. وحسبما جاء فى 
رواية مؤرخ سياسىء(4') اتهم الجانب المتشدد فى النظام الرجلين بالتآمر مع أهلهم الأفارقة 
على تدمير العروبة(*')؛ لذلك» تم استبدالها باثنين من أكثر عناصر الجبهة تشدداً فى تلك 
المرحلة: نافع على نافع وغازى صلاح الدين. الواقعة الثانية والتى ارتعد لها الحضورء هى 
إعلان غازى فى المؤتمر الرابع للإيقاد (أيلول/, سبتمبر »)١1994‏ لأربيعة من وزراء 
الخارجية الأفارقة المسيحيين» عن دور الجبهة التبشيرى فى أفريقياء مما أشرنا إليه آنفاً. لم 
يكتف الزعيم الجبهوى بتلك العبارة المثيرة» بل أضاف بجرأة فائقة أن إعفاء الجنوبيين من 
تطبيق الحدود ليس حقآ لهمء وإنما هو تنازل من جانب الجبهة. ولا شك فى أن أى مسلم 
حقيقى سيعتبر تلك الإفادة ضرباً من الهرطقة» فإعفاء غير المسلمين من الحدود هو حق 
تكفله الشريعة» ولكن يبدو أن الشريعة» حتى بمعناها المنقوص؛ أصبحت فى عهد الجبهة 
أداة من أدوات السياسة . وعلى كلء ليس هذا هو الذى يبعث على الارتعاد» أشد وقعاً أنه بعد 
ثلاثة عقود من تحرير أفريقيا من الاستعمارء وإنشاء منظمة الوحدة الأفريقية» ما زال فى 
العالم أمثال كوتز(2]نا»1)فى قصة جوزيف كونراد قلب الظلام (ؤ5عم!ءة2 4ه تندءا1)» 
يتوهمون أن الله قد نور قلوبهم ليضيئوا قلب القارة المظلمة. لهذاء لم نندهش عندما أعلن 
وزير البحث العلمى الكينى» ورئيس الاجتماع زاكرى أونيونكى؛ بعد استماعه لكلمات 
الغازى صلاح الدين» فض الاجتماع على الفور. 

مع ذلك واصلت اجنة الإيقاد مساعيها مع النظام لحثه على استمرار المحادثات» 
وطالبت اللجنة الوزارية بصياغة جدول زمنى للتفاوض حول القضايا التى لم يشتجر حولها 


230 


خلافء وإرجاء تلك المختلف عليها. وفق هذا التوجيه بدأت المفاوضات من جديد إلا أنه 
كان من الصعب بمكان التطرق إلى أية قضية ذات أهمية؛ لذلك؛ اقتصر الحوار فى اللقاءات 
الأولى على قضية المراقبين؛ والذين كان النظام يعترض على وجودهم على أى مستوى 
لأن القضية فى نظره قضية داخلية. تلك مزحة رديئة عندما تطرح على أربعة رؤساء 
لدول خارجية يتداولون فى أمر"القضية الداخلية. وكان رؤساء الإيقاد على يقين كامل 
بضرورة إشراك مراقبين دوليين فى المفاوضات»؛ وبسبب إصرارهم انفتح الطريق أمام دول 
أمريكا الشمالية وأوروبا للانضمام إلى المفاوضات كأصدقاء لمنظمة الإيقاد. ضم ذلك 
الفريق؛ ممثلين لسبع دول فى البداية: كنداء ألمانياء هولنداء إيطالياء النرويج» المملكة 
المتحدة» الولايات المتحدة . 

مع قبولها الظاهرى لإعلان المبادئ ومشاركة المراقبين الدوليين فى المفاوضات» سعت 
الحكومة لتقويض المبادرة التى دعت إليها أساساًء باللجوء إلى وسطاء جدد من الدول 
والمنظمات التالية: جنوب أفريقياء ماليزياء هولنداء النرويج» موزمبيقء وفى إحدى 
المراحل: حاولت إدخال مجلس الكنائس العالمى على الخط. كما ظهر الرئيس كارترمرة 
أخرى على ساحة الأحداثء ولكن هذه المرة بدنوجه مختلف. ناشد كارتر كلا الطرفين 
إعلان وقف محدود لإطلاق النار بهدف تمكين مركز كارتر فى اتلانتا من الاضطلاع 
بحملة فى الجنوب للقضاء على الدودة الغينية. ويالفعل وافق الطرفان على وقف إطلاق 
النار الفنى المؤقت. ولكنء بانتهازيته المعروفة سعى النظام لتحويل وقف إطلاق التار الفنى 
إلى وقف شامل لإطلاق الناره مع علمه أن الوقف الشامل لإطلاق النارء طبقاً لإعلان 
المبادئ الذى أعلن الالتزام بهء يأتى فى أسفل القائمة بعد الاتفاق على المبادئ والخطوط 
العامة للتسوية السياسية» أى أنه مواز ومتعاقب 5600650121 200 81161,ة©) مع محددات 
أخرى. وجلى أن كارتر لم يعط اعتباراً كافيآ لإعلان المبادئ» بل عبر عن رأى مخرب 
لمبادرة الإيقاد وإعلان مبادئها قال أن الإصرار على موضوع العلمانية يستفز الحكومة» 
وبالتالى لامعنى للإصرار عليه. ذلك الموقف يمثل انحرافاً كبيراً عن موقفه خلال جهود 
الوساطة التى قام بها بين الطرفين فى كانون أول/ ديسمبر 1586 فى نيروبى. 


آ85 


وعندما فشلت الحكومة فى تبضعها الدولى لجذب وسطاء جددء عادت لمائدة الإيقاد 
لتدهش الصديق والعدو على حد سواء. أكدت رفضها لمجمل الخيارات الأولى المفضية 
للوحدةء وطالبت الوسطاء بالذهاب على الفور إلى موضوع الفترة الانتقالية وحق تقرير 
المصير. وهكذا استأنفت الحكومة المفاوضات لا لتعزيز الوحدة (التى ظلت تزعم أن لا بديل 
لها) ‏ بل لوضع شروط الانفصالء ومقومات التعايش بين الطرفين خلال الفترة الانتقالية. 
أمر عجبء أن تذهب الحكومة التى كانت تقول أن لا معدى عن الوحدة» إلى القول بأن 
تذهب تلك الوحدة إلى الجحيم» إن كان ثمنها هو مشاركة الأحزاب الأخرى فى الحكمء 
أوتجميد الشريعة إلى حين البت فيها فى مؤتمر دستورى جامع. أعجب منه أمرأء قبولها 
ممارسة الجنوب لحق تقرير المصيرء الأمرالذى وصفت قبول عضوين من أعضائها له 
بالخيانة» ورأت فى قبولهما له تدميراً لعروبة السودان. وكأنا بتلك الحكومة تحمل اليوم 
معاولهاء هى الأخرىء لتدمر العروبة . عند هذه النقطة بالذات» قدمت الحركة فى تشرين 
أو ل/ أكتود بر1917١‏ خطة السلام ذات النقاط السبع» (مها2 ععوء8 غمزه-م52/6) التى أدت 
إلى إرباك الحكومة» وأثارت حيرة التجمع . ضمت النقاط السبع ما يلى: مطالبة الحكومة 
بتأكيد قبولها التام لإعلان مبادئ الإيقاد؛ فصل الدين عن السياسة خلال الفترة الانتقالية ما 
عدا فى مجال الأحوال الشخصية؛ حظر وضع أى سياسات وصوغ أى قوانين ذات أصل 
دينى فى المجال العام؛ قبول التعددية السياسية كأساس ملائم للحكم؛ كفالة حق تقرير 
المصير لشعب جنوب السودان ولشعبى جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق الجنوبى» 
وتخييرهما فى نهاية الفترة الانتقالية بين الاستقلال أو البقاء ضمن السودان الموحد؛ قيام 
فترة انتقالية لمدة عامين؛ استناد الحكم فى الفترة الانتقالية على أسس كونفيدرالية؛ مشاركة 
التجمع فى الحكومة المؤقتة؛ وعند الاتفاق السياسى على الشروط أعلاه يتم إعلان وقف 
شامل لإطلاق النار. 

لم تجد الحكومة شيئاً تفعله حيال تلك المقترحات غير استغلال طرح الخيار الكونفدرالى 
واتهام الحركة بأنها تمهد به للانفصال. كما صورت ضم منطقتى جبال النوبة وجنوب 
النيل الأزرق إلى مشروع حق تقرير المصير وكأنه اغتصاب لأرض شمالية» علماً بأن هذه 


232 


الأرض التى ستغتصب عبر ممارسة حق تقرير المصير هى أرض لاسلطان للنظام على 
أكثرهاء بل تسيطر عليها قوات من أهلها أصبحوا جزءا لا يتجزأ من الحركة. يومذاك» خرج 
على عثمان محمد طه على التلفاز ليذيع على أهل السودان سراً خطيرا ويكشف لهم عن 
مؤامرة دهيماء؛ وكان يحمل الخارطة التى تقدمت بها الحركة لتحدد المناطق التى ستشملها 
ممارسة حق تقرير المصير. حقيقة الأمرء لم يكن السودان أو البيضان فى حاجة لذلك 
الكشف المبين» إذ أن الحركة ظلت تردد حديثها على منح حق تقرير المصير لأهل تلك 
المناطق فى كل محفل» » بما فى ذلك المؤتمر الأول للتجمع فى أسمرا )١595(‏ . أثار الاقتراح 
أيضاً حفيظة الصادق المهدى لأنه شمل مناطق فى كردفان وجنوب النيل الأزرق تشكل. 
فى اعتقاده» مناطق نفوذ مقفول لحزب الأمة. وإلى جانب حملات بث الرعب فى النفوس 
حول أهداف الحركة "الاغتصابية» أعلنت الحكومة رفضها لإشراك التجمع فى الفترة 
الانتقالية» لأنهاء حسب قولهاء لم تسع إلى وساطة الإيقاد لتفكيك نظام حكمها وإنما لحل 
مشكلة الجنوب وإنهاء الحرب. غاب عن أذهان قادة الجبهة أنه ريما كان فى تلك 
الاقتراحات سبيل لاتفاق تاريخىء ولكن أفات النظام على نفسه تلك الفرصة:ء ثم عاد بعد 
بضع سنوات يطرق كافة الأبواب فى العواصم العربية والإسلامية للتوسط لدى التجمع» 
باسم العروبة مرةء وباسم الإسلام مرة7') أخرىء وبأسلوب لا يخلو من الخفة والتسطيح 
والاستهتار فى كل المرات. 

ما الذى ابتغته الحركة بذلك الطرح؟ أرادت» فيما نرى» تحقيق ثلاثة أشياء بتعرض 
نقاطها السبع. أولأء شرح ما تعنيه بتعبير العلمانية الذى طالما أثار الارتباك والحيرة . ثانياً: 
تهدئة مخاوف أعضاء الحركة من غير الجنوبيين الذين حاربوا جنبأ إلى جنب مع 
الجنوبيين (النوبة والإنقسنا)» والتأكيد لهم أن الحركة لم تغفلهم فى مفاوضاتهاء كما لا تريد 
أن تقرر مصيرهم نيابة عنهم. ثالثأء تأكيد موقف الحركة الوطنى (وليس فقط الإقليمى) 
بأنها تناضل أيضا من أجل الديموقراطية التعددية وحق قوى التجمع الأخرى فى المشاركة 
فى عملية التحول السياسى. ولربما أرادت الحركة أيضاً دحض مزاعم النظام بأن التعددية 
ستتحقق عبر تحالف مقفول بين النظام والحركة. هذه الخطة ما كان ينبغى أن تثير الحيرة 


2153 


بين فصائل التجمعء لو أوضحت الحركة مسبقاً للتجمع أن طرحها لخيار الكونفدرالية» فى 
تلك المرحلةء كان طرحاً تكتيكياً. وبالتأكيد ليس هناك أى مبرر للقلق من الخيار الاتحادى 
الكونفدرالى من الناحية المبدئية لأنه واحد من الخيارات المفتوحة للجنوب عند ممارسة 
حق تقرير المصير حسب قرارات أسمرا. كما أن مناداة الحركة بالاتحاد الكونفدرالى كملجأ 
أخير إزاء رفض الحكومة للشروط القبلية التى حددها إعلان المبادئ لتأسيس الوحدة (فصل 
الدين عن السياسة:. اللامركزية» حقوق الإنسان» مشاركة كل الأطراف فى الفترة 
الانتقالية) هو خيار أفضل من الانفصال. لهذا فإن كان هناك مدعاة للومء لتوجب توجيهه 
إلى المتسبب الحقيقى فى تقطيع أوصال السودانء ألا وهو النظام الذى وضع وحدة السودان 
فى كفةء ومشروعه الأيديولوجى فى الكفة الأخرى. على أن المشكلة الكبرى هى أن شريحة 
لا يستهان بها من متعاطى السياسة فى الشمالء يتداعون دوماً إلى قراءة ما بين السطور 
دون أن يقرأوا السطورء ويتعلقون بأهداب النتائج» دون أن يتمعنوا فى الأسبابء هذا إن 
أحسنا الظن بهم . 

على المستوى السياسى أفلحت مبادرة الإيقاد فى تحديد صوى لحل النزاع لا يستطيع أحد 
تجاوزها. ولعل هذا هو السبب ألذى جعل التجمع يرحب بإعلان المبادئ ويعلن تبنيه لهاء دون 
أن يكون شريكاً فى المحادثات التى تبعتها. أما على المستوى الدولى فقد نجحت المبادرة نجاحاً 
كبيراً فى جذب انتباه المجتمع الدولى» إذ احتشد حول البلدان السبعة الأصدقاء لمبادرة الإيقاد 
عدد كبير من الدول الأوروبية بهدف تعبئة العون» ليس فقط لدعم عملية السلام» وتوفير 
الإغاثة فى ظروف الحربء بل أيضاً لإعادة التأهيل بعد انتهاء الصراع. هذه المجموعة 
تحولت فيما بعد إلى منتدى شركاء الإيقاد 1219 -«تنده8 221261*5 (10481) وسعت مصر 
جاهدة إلى الانضمام لتلك المجموعة» وتحقق لها ذلك. 

من جهة أخرىء تدافعت الهيئات التابعة للأمم المتحدة للانضمام إلى تلك المبادرة» 
فمثلاً يسرت اليونسكوء ضمن برنامج ثقافة السلام الذى تضطلع به» عدداً من الندوات 
للتعصيف الفكرى (05318-5402128) بهدف تعميق فهم الاطراف للقضايا المطروحة 
وتداعياتها. الندوة الأولى انعقدت فى برشلونة بتمويل من برنامج الأمم المتحدة للتنمية 


5534 


(117/2) فى أيلول / سبتمبر 159950.ء كما انعقدت الثانية فى لاهاى فى ٠١‏ آيار/ مايو 
بدعم مشترك بين نفس المصدر والحكومة الهولندية. وشارك فى الندوة الثانية 
خبير التفاوض الدولى» البروفيسور روجر فيشرء أستاذ إدارة الصراعات فى جامعة 
هارفرد.("") اندهش فيشر كثيراً من الأسلوب الأخوى الذى ساد العلاقة بين الخصوم» 
خاصة فى اللقاءات الاجتماعية» رغم حدة الاختلافات التى كانت تطغى على النقاش فى 
الاجتماعات. قال لهذا الكاتب أنه قلما رأى مثل هذا التسامح بين أطراف النزاع فى كل 
الاجتماعات التى نظمهاء إذ لم يكن أولتك المتنازعون يتبادلون حتى التحية فيما بينهم. 
وروى كيف استبد الغضب بأحد المتفاوضين من خصمه فى واحدة من جاسات إدارته 
لصراع فى أمريكا اللاتينية» فأخرج غدارته. ذلك؛ بلا شكء أحد الوجوه التى تميز 
الشخصية السودانية» والذى يثير دوم إعجاب الأطراف الخارجية» وريما عجبهم. فهؤلاء 
كثيراً ما يتساءلون عما الذى يجعل هؤلاء المتسامحين عاجزين عن التمتع بأدنى درجة من 
التسامح الفكرى عندما يقبلون على حل مشاكلهم الحيوية الوجودية؟ ومن المؤسف أن 
الوكالات التابعة للأمم المتحدة قصرت تلك الحوارات على طرفين رضوخاً لإرادة النظام» 
رغم أن للأطراف الأخرى المعزولة دوراً مباشراً فى صنع السلام والديموقراطية . وإزاء 
إصرار الحركة على تمثيل التجمع فى تلك اللقاءاتء قبلت الأمم المتحدة فى النهاية اشتراك 
تلك الأطراف فى تلك العملية على نحو ملتف. ففى مذكرة للممثل المقيم لبرنامج الأمم 
المتحدة للتنمية ورد ما يلى: إن استمرار الحوار بنجاح بين جميع طوائف الآمة يتطلب 
إشراك كافة قطاعات المجتمع السودانى فى هذه العملية بصورة فردية وبدون الإعلان عن 
الانتماء لأى منظمة أو هيئة معينة.(*') مرة ثانية نجحت الخرطوم فى لى ذراع الأمم 
المتحدة المطواعةء لعزل أحزاب المعارضة (باستقناء الحركة) عن المشاركة فى عملية 
السلام حتى على مستوى الحوار الفكرىء كما كشفت عن التناقض البليغ» إن لم يكن النفاق 
البالغ» فى مزاعمها اللاحقة حول ضرورة الحوار مع الأحزاب الشمالية. 

عملية الإيقاد لم تكن مثالا للكمال» فقد ثارت؛ بحق» تساؤلات عديدة حول قدرات 
الأمانة العامة للميادرة فى التعامل مع صراع بكل ذلك التعقيد. وذكر أحد أعضاء 
المجموعة التى كانت تولى الإيقاد بالنصح(؟؟) أن هياكل المبادرة نفسها أعاقت الوصول 


2335 


إلى أى حل. كانت الاجتماعاتء مثلاء تقتضى مشاركة أربعة من وزراء الخارجية»؛ بكل ما 
يعنيه ذلك من تعقيدات الحضور وضغط الزمن عليهم. نتيجة لذلك كانت دورات الحوار 
قصيرة جداً نظراً لانشغال الوزراء الدائم بقضايا أخرى. وكما هو متوقع لم يترك قصر 
دورات المفاوضات فسحة ملائمة من الوقت لاستقصاء المواقف بالعمق اللازم. إلى جانب 
ذلكء اتهم نفس المصدر الأمانة العامة لمبادرة الإيقاد بعدم الكفاءة الإداريةء كما أضاف أن 
الخلافات بين الوسطاء حول "جهود الوساطة ومناهجها لم يعن على إحراز تقدم ملحوظ. 
وبينما نتفق مع المعلق على رأيه حول قلة كفاءة السكرتارية» إلا أن إشارته لتعارض 
وجهات نظر الوسطاء حول مناهج الإقبال على صنع السلام تفتقر إلى الدليل العملى. والحق 
يقال؛ أنه رغم الخلافات التى نشبت بين هذه الدول (أثيوبياء اريتريا) إلا أن رأيهم كان 
متحداً حول قضية السلام فى السودانء وظلوا جميعاً يستهدون فى وساطتهم بإعلان المبادئ 
منذ إقراره فى عام ١9315,‏ 

بعد مجاعة بحر الغزال المفجعة» كما أشرنا من قبلء ازداد يقين بعض أعضاء منتدى 
شركاء الإيقادء خاصة الأوروبيين منهمء بأن السلام وحده هو الذى يوفر المناخ المناسب 
لمعالجة أزمات إنسانية بتلك الأبعاد. وبالتالى» ربما دون قصد منهمء وقع هؤلاء الشركاء 
فى فخاخ الخرطوم عندما أخذوا ينادون بوقف شامل وفورى لإطلاق النار على كل 
الجبهات. هذا الموقفء كما نعرف الآنء يمثل خرقاً لإعلان المبادئْ الذى رهن وقف 
إطلاق النار الشامل بالوصول إلى تسوية سياسية. بعض آخر من الشركاء الأوروبيين أخذ 
يحث الحركة على مناقشة شروط الانفصال بهدف حل مشكلة الجنوب» وإنهاء الماسى 
الإنسانية فيه» بدلاً عن تعليق تلك القضية بقضايا أخرى تزيدها تعقيداً. وشجع على التوجه 
الأخير مساندة بعض المثقفين الجنوبيين الذين صدقوا دعاوى النظام بقبوله مبدأ ممارسة 
الجنوب لحق المصير دون استثناء لأى خيارء أو أرادوا امتحان النظام للكشف عن مدى 
صدق دعاواه تلك. ولا شك فى ان بعضص هؤلاء كان يتوجع من معاناة أهله فى الجنوب» 
كما كان من بينهم من اتخذ مأساة بحر الغزال تكأة للانتقاص من الحركة واتهامها بالتلهى 
بقضايا لا تعنى الجنوب (قضايا الجماعات المهمشة خارج الجنوبء والديموقراطية 
التعددية) » فى الوقت الذى يتضور فيه أهل الجنوب جوعاً. لم يكن لتلك الاتهامات مبرر 
836 


البتة لسببين» فأولاً كانت الحركة هى أول من دق ناقوس الخطر حول مجاعة بحر الغزال 
عن طريق الاتصالات المباشرة التى قام بها زعيمها مع الأمم المتحدة» والولايات المتحدة 
ودول منتدى الشركاء. وثانيأء إن كان نظام الجبهة قد قبل حقيقة منح الجنوب حقه فى 
تقرير مصيرهء فإن ذلك لم يتحقق بناء على نصائح العواصم العالمية البعيدة» أو جهود 
الغالبية العظمى من المثقفين الجنوبيين الجاحدين» وإنما عبر كفاح الحركة المتواصل 
والمستميتء والذى كلفها غالياً. صحيح كان لبعض هؤلاء المفكرين إسهام حقيقى وهام فى 
إجلاء قضية الجنوب للعالم عن طريق الإعلام والجهود الدبلوماسية» إلا أنه صحيح أيضاً أن 
عدداً آخر منهم لم يحرك ساكذاً طوال ستة عشر عاماً من النضال والمقاومة . بالإضافة إلى 
ذلكء قلما استذكر هؤلاء أن أهم الانتصارات التى حققتها الحركة خلال ستة عشر عاماً لم 
تكن محصورة على جبهة القتال فحسبء وإنما أيضاً فى مجال بلورة الرؤى والأفكار عندما 
نجحت فى غرس مفاهيم السودان الجديدء حق تقرير المصيرء عدم إستغلال الدين فى 
السياسة» فى طوايا الخطاب السياسى الشمالى. 

رفضت الحركة مقترحات الشركاءء وأكدت أنها لن توقف إطلاق النارء إلا فى المناطق 
المتضررة من المجاعة» ريثما تتم إغاثة المتضررين» وحتى تتمكن الجهات المانحة من 
الوصول إلى هؤلاء عبر ممرات آمنة. أما بالنسبة لوعد النظام منح الجنوب حقه فى تقرير 
المصيرء والذى انطلى على الشركاء»ء قالت أنه لن يكون أحسن مما أطلقته الجبهة من وعود 
من قبل. ذلك ظنء كما قالت الحركة» تسنده تجارب عديدةء بدءاً من اتفاق فرانكفورت». 
ومحادثات أبوجاء وما أطلق عليه اسم السلام من الداخل» وانتهاء بقبول» ثم النكوص عن» 
إعلان مبادئ الإيقاد. لكل هذه الأسبابء أبلغت الحركة الشركاء الذين أزعجتهم الماسى 
الإنسانية» أن السعى من أجل السلام سيقود إلى طريق مسدودء حسب التجارب المكرورة. 
إن لم يصحبه ضغط متواصل على النظام المغتر بذاته. وبالطبع» لم تكن الحركة تؤمل 
كثيراً فى أن يتحول النظام بين عشية وضحاها إلى نظام رحيم ذى قلب كبيرء ولكنها كانت 
تتوقع أن يكون أكثر وعياً بمصلحته؛ إن أراد أن يكون للتيار السياسى الذى يمثله مكان على 
الساحة السياسية. 


من بين الشركاء كانت الولايات المتحدة والنرويج» هما أكثر الدول إدراكاً لخريطة 
السودان السياسية» وإلمامأ بجذور مشاكله» ولربما كان للمنظمات الطوعية المهمومة بقضية 
السودان فى البلدين أثر على موقف الدولتين. فى حين ظلت حرب السودان بالنسبة للشركاء 
الآخرين مجرد حريق غاب يسهل إطفاؤه؛ وليس صراعاً يضرب بجذوره فى الأرض. مثل 
هذه الصراعات لا تسوى إلا على نحو حاسم وباترء لا بالمسكنات؛ ويحكى التاريخ أن أسوأ 
الحروب الأهلية كانت تلك التى عاودت الاشتعال فى أعقاب التسويات المختطفة اء1ن©) 
(5165ء أو الحلول المطاطية. يبدو أيضاً أن بعض الشركاء قد انخدع بإجراءات التحرير 
الاقتصادىء والانفراج السياسى الذى تمثل فى إطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين: 
ومثل هذه الإجراءات قد تبدو للسودانيين الموجوعين إنجازاً فى حد ذاتها نسبة للهوة السحيقة 
التى انحدر إليها النظام فى قسوته وغلاظته» ولكن كان ينبغى أن لا يكون فيها كفاء وغنية 
للدول التى ترعى الديموقراطية. فالإجراءات التجميلية التى زين بها النظام وجهه لم تكن 
تمت للديموقراطية بسببء ومن الغريب انطلاء تلك الحيل على دول مثل بريطانيا ما برحت 
تشجب ما تسميه انتهاكات الديمقراطية فى كينيا (حكومة موى) ويوغندا القريبتين 
وتتهددهما بكل أنواع العقوبات» لا سيما وقد أعلن أول وزير للخارجية فى حكومتها العمالية 
(روبن كوك)» أن محور سياسته نحو دول العالم الثالث هو موضوع حقوق الإنسان. وقد 
أكدت التجارب أن نجاح مبادرة الإيقاد يتوقف على التزام جميع الأطراف. بما فى ذلك 
الشركاءء بالمسار الذى حدده إعلان المبادئ» وأيضاً من خلال الضغط على الخرطوم لحملها 
على الالتزام بنفس قيم الديمقراطية التى يسعى هؤلاء الشركاء لفرضها على دول أخرى. 
وكما قال مراقب لأحداث السودان فإن أقوم السبل لإحراز تقدم فى إطار الإيقاد هو إعمال 
نوع من التنسيق الداخلى بين الوسطاء والشركاءء بحيث تعمل الحكومات الإقليمية مع 
المجتمع الدولى بأسره لشحذ الهمم فى البحث عن السلام. لتحقيق ذلكء قال المراقب» 
"ينبغى على الشركاء أن يستحدثوا نظاماً دقيقاً ومحسوباً يتضمن المحفزات والضغوط على 
المحاور الرئيسية حتى يتحقق نوع من الإجماع السياسى.(''') 

أيأ كان الحال» استمر شركاء الإيقاد فى جهودهم الإنسانية المحمودة لإنقاذ الأرواح فى 
جنوب السودان» ففى ٠١‏ أذار/ مارس ١115‏ التقى أعضاء لجنة مبادرة الإيقاد فى أوسلو 


236 


تحت الرئاسة المشتركة لكل من السيدة هيلدا جونسونء وزير التدمية الدولية وحقوق 
الإنسان» (النرويج) والسناتور رينو سيرىء نائب وزير الخارجية الإيطالى يومذاك. بحضور 
ممثلين عن أطراف النزاع والمنظمات غير الحكومية. كان ذلك الاجتماع من أكبر 
الاجتماعات التى عقدها الشركاء(' '')وتقرر فيه» بعد الاطلاع على حقيقة الموقف 
الإنسانى فى جنوب السودان» تضافر الجهود لتنفيذ البرامج التى أعدت من قبل فى روماء 
وأصبحت تعرف باتفاقيات روما حول السودان. اتفق الاجتماع أيضاً على أنه سيكون من 
الصعوبة بمكان أن يستمر المجتمع الدولى فى تقديم العون الإنسانى» ما لم يصحب ذلك 
توجه سياسى متزايد صوب السلام. لتحقيق ذلك الهدف أقر الاجتماع الاستمرار فى تعزيز 
عملية السلام داخل إطار الإيقادء وتقوية الهياكل الإدارية المساعدة للعملية» كما أوصى 
بضرورة تتابع الاجتماعات؛ وخلق لجان فنية لدراسة القضايا النوعية المطروحة» وتعيين 
مبعوث خاص لرئيس الإيقاد للزبقاء على فاعلية الوساطة. 

تبعاً لذلك؛ قررت لجنة الإيقاد الوزارية فى دورة انعقادها فى تموز/ يوليو113١‏ توسيع 
نطاق صلاحيات الأمانة» كما عين رؤساء إريتريا وأثيوبيا ويوغندا مبعوثين خاصين للعمل 
معاً بقيادة المبعوث الكينى . وأوجبت اللجنة على هؤلاء المبعوثين الاضطلاع بمهامهم فى 
صورة جماعية»؛ كما أخضعتهم امراقبة اللجنة الوزارية. أنشئت أيضاً لجنتان فنيتان 
للمشاركة فى مناقشة القضايا المطروحة قبل انعقاد الدورات الرسمية: لجنة سياسية لتناول 
الفقرات 5-١‏ من إعلان الميادئ» ولجنة أخرى لمعالجة الفقرات 5-4 الخاصة بترتيبات 
الفترة الانتقالية. هذه الإجراءات ساهمت إلى حد كبير فى تسريع خطى التفاوضء إلا أن 
المواقف ظلت كما هى سأكنة» مما دعا الحركة فى ختام الاجتماع الثالث للجان الفنية إلى 
مناشدة المجتمع الدولى للضغط على الحكومة كى تتعامل مع القضايا بجدية أكثر» خاصة 
بعد أن عاد النظام من جديد للتأكيد على رفضه مبدأ الفصل الدستورى بين الدين والدولة» 
ومنح حق تقرير المصير لأهالى جبال النوية» ابيى» جنوب النيل الأزرق.!"'') حدث هذا 
بالرغم من الحل الوسط الذى اقترحته الحركة؛ وجاء فيه: من اجل إقرار السلام الدائم» 
وبدون الادعاء أن تلك المناطق تمثل جزء) لا يتجزأ من الجنوب» نقترح إجراء استفتاء فى 


539 


كل منطقة من المناطق الثلاث على حدة وبمنأى عن الاستفتاء الذى سيجرى فى الجنوب. 
أما بخفصوص قضية الشريعة» فقد أصرت الحركة على أن يكون القانون الأساسى للبلاد 
(الدستور والوثائق القانونية الأساسية الأخرى) علمانياً خلال الفترة الانتقالية. وفى رفضها 
للاقتراح الأخير قالت الجبهة» كما هو متوقع» أن الإسلام دين ودولة ولهذا يستحيل الفصل 
بينهما. فات على الجبهة أن الموضوع المطروح للنقاش هو السودان وليس الإسلام. وعندما 
تتحدث الجبهة عن استحالة الفصل بين الدين والدولة لا تشيرء فى واقع الأمرء إلا 
لسودانهاء فجميع دساتير السودان منذ الاستقلال كانت شبه علمانية,» (219165 2191554 
)١1986 15175‏ . كما أن وفاق الحركة مع الأحزاب فى أبريل ١187‏ كان يقوم على الإيقاء 
على تلك الدساتيرء وتعليق الشريعة إلى أن يبت فى أمرها السودانيون. وفيما هو علم الكافة. 
لم يتأت للجبهة فرض دستور دينى إلا بحد السلاح فى حزيران/ يوني و985١‏ . لهذاء إن 
كانت هناك استحالة فى قبول طرح الحركة حول دستور الفترة الانتقالية» فإنما هى استحالة 
فى أذهان مجموعة نخبوية محددة اختطفت السودان» واختطفت الإسلام» وتريد من العالم 
إضفاء شرعية على ذلك الاختطاف. 

وهكذا استمرت الحرب بلا هوادة» بل صعد النظام منها بالقصف الجوى على الأهداف 
المدنية» كما لو كان يعاقب المدنيين فى الجنوب على تمرد الجيش الشعبى. نتيجة لذلك 
أعلنت الحركة فى 8 آيار/ مايو ٠٠٠١‏ وقف المحادثات مع الحكومة» فى نفس الوقت الذى 
أعلنت فيه مد فترة وقف إطلاق النار لثلاثة أشهر أخرىء مراعاة للأسباب الإنسانية» 
واستجابة لطلب الأمين العام للأمم المتحدة.("'') وفى إعلانها وقف المحادثات قالت 
الحركة: "لم يعد ضميرنا يسمح لنا بتجاهل الأسلوب الهمجى الذى يتبعه النظام فى التعامل 
مع شعبناء وهذا هو نفس النظام الذى يعلن عن جديته فى الحوار من أجل السلام. ومن 
الواضح أن القصف الجوى فى حد ذاته» لم يكن هو الذى أثار غضب الحركة:» بقدر ما أثارها 
تواصل الهجمات على المدنيين الأبرياء» وعلى الأهداف المدنية مثل مراكز الإغاثة 
والمستشفيات. 

وبعد أربعة أشهر أو يزيد قليلاً قبلت الحركة العودة إلى مائدة المفاوضات رضوخآً 
لضغوط الوسطاء والشركاءء إلا أنها أعلنت قبل انعقاد الاجتماع الرابع للجان الفنية فى 


340 


الفترة ما بين 7١‏ إلى ١‏ أيلول/ سبتمبر »7٠٠١‏ أنها لن تقبل الدخول فى محادثات أخرى 
حول ترتيبات الفترة الانتقالية قبل إيجاد حل لقضية الدين والدولة . لمعالجة هذا المععضل 
اقترحت الأمانة العامة حلا وسطأ شارك فى إعداده مستشاروها القانونيون» أوصوا فيه بأن 
تبقى كافة مؤسسات الدولة وهيكاتها محايدة تجاه الدين» بينما تخضع قوانين الأحوال 
الشخصية للمسلمين التى تعالج قضايا الزواج» والطلاق» والميراث وغيرهاء لأحكام الشريعة. 
أوصى المستشارون أيضاً بأن تأخذ تشريعات الدولة فى حسبانها الخصائص الدينية والثقافية 
التى تتميز بها المجموعة التى تطبق عليها تلك القوانين. ذلك الاقتراح» رفضته الحكومة 
وأصرت أن يكون كل من الشريعة والعرف والإجماع الوطنى أساساً للتشريع فى أى دستور. 
وهذه هى نفس الصيغ الدستورية التى وردت فى دستور الجبهة الجديد »)١154(‏ وكأنها 
جاءت لمائدة المفاوضات لتروج دستوراً صنعته بنفسها لكيما يصبح أساساً للسلام . 

ريما يعتقد البعض أنه فى أعقاب كل اللجاج حول قضية الدين والسياسة» وبعد رفض 
الحكومة اشتراك التجمع فى الفترة الانتقالية» سيعتبر النظام مبادرة الإيقاد فى عداد الموتى. 
ولكن المنطق؛ كما اتضح فى الكثير من المناسباتء لا يحكم أبداً تصرفات النظام. ففى الفترة 
من 7١‏ إلى 77 تشرين أول / نوفمبر 7٠٠٠١‏ استضافت الخرطوم القمة الثامنة لمنظمة الإيقاد. 
الذى تخلف عن حضوره كل من الرئيس موى وهو رئيس المجموعة: والرئيس اليوغندى: 
موسيفينىء إلا أنهما بعثا بممثلين عنهما. وبالرغم من أن ذلك الاجتماع قد انعقد لمناقشة 
برامج المنظمة الإقليمية» إلا أنه دلف أيضأ إلى موضوع النزاع السودانى» وقرر استمرار 
وساطة الإيقاد بشأنه. وكان واضحاً أن البشير لم يكن متحمساً لذلك اللقاء لما للمنظمة من دور 
فى صنع السلام فى بلاده؛ بقدر حماسه للرمزية التى جسدها عقد مؤتمر قمة إقليمى فى 
الخرطوم بعد سنوات طويلة من العزلة . يعزز هذا الظن الطريقة التى أوردت بها الصحف 
الرسمية فى السودان أخبار ذلك الاجتماع؛ والتى كانت تهدف إلى الإيحاء للسودانيين والعالم 
الخارجى أن النظام الحاكم قد خرج من عزلته الرائعة (هه121ه15 10لدعامة). 

وفى بداية عام 7٠٠١١‏ وصلت مبادرة الإيقاد» بكل المعايير» إلى طريق مسدود؛ خاصة 
وقد ساور بعض الشركاء ظن غريب بأن النظام لا يقهرء ولهذا خالوا أنه من مصلحة 


541 


الجنوب قبول ما تقدم به النظام من عروضء وإن دعا الحال» فرضها على الحركة. ويبدو 
لنا أن بعض الشركاء (خاصة من انتمى منهم للدول ذات المصلحة المباشرة فى نفط 
السودان) » كانوا يسعون لحمل العالم على التعايش مع النظام على مساوئه؛ رغم رفض أهله 
السودانيين الشماليين أنفسهم التعايش معه. تلك أغلوطة كبرىء فالدول التى أعانت النظام 
علىء أو أفادت منء استخراج النفط» وسمحت له باستغلال عوائده ليستقوى على خصومه: 
لا تملك الحق فى أن تجعل من قوة النظام ذريعة لفرض وجوده على العالم. ذلك السهم 
ارتد إلى نحر من أطلقه إذ حمل الحركة:» التى لم تكن تشعر بحماس كبير تجناه مبادرة 
الإيقادء إلى التشبث بها كآلية ضرورية لحل الصراع السودانى. 

وفى 78 آذار/ مارس »5٠١٠١‏ التقى الرئيس موى بالرئيس البشير فى الخرطوم لتنشيط 
عملية السلام عبر الإيقاد» وبنهاية اللقاء وقع الرئيسان على بيان مشتركء دعوا فيه اللجنة 
الرئاسية للمبادرة إلى عقد اجتماع على مستوى القمة للاطلاع على الجهود السابقة 
والراهنة؛ ورسم خطة للعمل فى المستقبل.(4'') ولكن بعد يومين فقط من صدور البيان 
المشترك فى الخرطومء ذهل الجميع عندما صرح البشير لوكالة أنباء الشرق الأوسط 
المصرية بأن مبادرة السلام الوحيدة التى يعتد بها هى المبادرة الليبية المصرية المشتركةء 
لأنهاء حسبما قال: أكثر شمولا.!”'') ويعنى البشير بالشمول استيعاب تلك المبادرة للقوى 
السياسية الأخرىء وهى نفس القوى التى قال قبل بضع سنوات أنها أصبحت غير ذات بال»؛ 
كما حضهاء فى خطابه فى افتتاح ميناء بشائر» على التطهر من ماء البحر إن أرادت العودة 
للسودان كرديف للجبهة. اضاف البشير ان الدعوة لدمج المبادرة المشتركة مع مبادرة 
الإيقاد قد يؤدى إلى انفصال الجنوب. أو هل يحتاج المتشككون إلى دليل أكثر فحشاً على 
عبث النظام بمبادرات السلام» بما فى ذلك تلك التى أنشأها ابتداء؟ فالمبادرة التى ستقود 
لانفصال الجنوب (الإيقاد)» هى نفس المبادرة التى وقع البشير على بيان مشترك بتنشيطها 
مع الرئيس موىء وكان ذلك قبل يومين (لا عامين أو حتى شهرين) من رحلته لقطر حيث 
أدلى بتصريحه لوكالة أنباء الشرق الأوسط. 

ولربما كان البشير محقاً بعض الشىء فى إشارته لشمول المبادرة المشتركة:ء إذ أنها هى 
المبادرة الوحيدة التى تجمع كل الفرقاء بما فيهم التجمع الوطنى. ونقول بعض الشىء 
802 


لسببين: الأول هو إغفال المبادرة المشتركة لموضوعين أساسيين ظلا هما العقبة الكنود التى 
تحطمت عندها كل المفاوضات السابقة: الدين والسياسة» وحق تقرير المصير للجنوب . هذان 
أمرانء إن أفلتا من ذاكرة رئيس النظام» فلن يفلت النظام من ضرورة التصدى لهماء إن 
كان حقاً يبتغى وحدة السودان. فشمول المبادرة المشتركة الذى أشار إليه الرئيس السودانى 
شمول شكلىء لا موضوعى. الأمر الثانى الذى تغافل عنه الرئيس البشير هوأن الخرطوم» 
وليس نيروبى وأسمرا وأديس أبابا وكمبالاء هى التى اعترضت على ضم التجمع إلى مبادرة 
الإيقاد. ففى 8 آب/ أغسطس ,3٠٠١‏ كلفت هيئة قيادة التجمع اللجنة الخاصة بالتسوية 
السياسية الشاملة الاتصال بالسفير دانيال امبوياء رئيس الأمانة العامة لمبادرة الإيقادء لتقديم 
طلب رسمى بانضمام التجمع للمبادرة» والنقاش حول أشكال التنسيق المقترحة بين تلك 
المبادرة والمبادرة المصرية الليبية. ضمت اللجنة نيال دينق نيال» رئيس وفد الحركة فى 
محادثات إيقاد الفنية» بل كان هو أيضاً المنسق العام لتلك اللجنة . وفى رسالة مكتوبة» عبر 
نائب رئيس التجمعء الفريق عبد الرحمن سعيدء عن إيمان التجمع العميق بأن السلام الدائم» 
إذا كان أصلا ممكناء يتطلب نوعاً من التسوية السياسية الشاملة التى لا يمكن تحقيقها دون 
التفاوض بين التجمع والحكومة السودانية. وذكر الفريق أن ذلك هو السبيل الوحيد للإسراع 
فى عملية السلام» وتأمين وحدة السودان. الاجتماع مع السفير امبوياء سكرتير لجنة الإيقاد» 
لم يتم بسبب رفض الخرطوم القاطع لهء إذ بعثت تحذيراً إلى الأمانة العامة للايقاد تهدد فيه 
بالانسحاب من المحادثات»؛ إن سمحت بأى اجتماع بينها وبين التجمع. لم يكتف النظام 
بالتحذيرء بل أوفد واحداً من أساطينه (قطبى المهدى) لينقل رسالة مختصرة إلى دول 
الإيقاد فحواها: إن دخل التجمع من باب فسنخرج من الباب الآخر. وستعود من جديد 
لمبادرة الإيقاد التى أخذت منحى جديداً كامتداد للتدخل الأمريكى المباشر فى تلك 
المبادرة . 


25343 


المبادرات الموازية للإيقاد 

المبادرة المصرية ‏ الليبية المشتركة ومناورات المهدى 

إغفال التجمع فى مبادرة الإيقاد» رغم تبنيه لإعلان المبادئ» خلق وضعاً لا يتفق مع 
طبائع الاشياءء وبفشل محاولته للانضمام إلى الإيقاد» كان من الطبيعى أن يجد التجمع فى 
المبادرة المشتركة مخرجاً مناسبا» خاصة وتلك كانت هى المرة الأولى التى اعترف فيها 
النظام بالتجمعء وأبدى الرغبة فى الحوار معه. ولكن رغم قصورها الإجرائى» يظلم المرء 
الإيقاد إن اتهمها بحصر نفسها فى قضية الجنوبء أو بإغفال قضايا القطر باكمله . فإعلان 
المبادئ يضع الخطوط العريضة لحل شامل للمشكل السودانى. مع هذاء لم تكن الحركة تملك 
حقاً فى التفاوض باسم التجمع دون تفويض منهء كما إنه ليس من المنطقى أن يتوقع أحد 
استكانة التجمع لدعاوى النظام بأنه المعبر الوحيد عن رأى أهل الشمال. وعلى أىء لم تكن 
المبادرة المشتركة هى أول عهد لمصر بصنع السلام فى السودان» فمصر لم تكن غائبة عن 
جهود السلام السابقة. فكما أوردنا من قبل» أبدت مصر الرغبة: مثلاً؛ فى أن تلعب دور 
الميسر (153011142:01) لمبادرة كوهين» كما سعت وأفلحت فى المشاركة فى اجتماعات شركاء 
الإيقاد. من جانبهاء اقترحت الحركة: إدراكاً منها لامصالح مصر الحيوية فى السودان» 
ولتعسر مشاركتها كطرف أصيل فى مبادرة الإيقاد باعتبارها مبادرة منظمة هى ليست 
عضواً فيهاء قيام منبر مواز لشركاء الإيقاد يضم دولاً عربية وأفريقية . وفى هذا الشأن» اتفق 
زعيم الحركة فى إحدى زياراته للقاهرة مع المصريين على بعض الأسماء مثل: جنوب 
أفريقياء نيجيرياء غاناء زيمبابوىء الإمارات العربية المتحدة.("*') هذه الجهود لم تحظ 
بنجاح لأن مصرء فيما يبدولم تتحمس كثيراً لها. 

وكانت هيئة قيادة التجمع قد اتخذت فى اجتماع لها بأسمرا (آذار// مارس )١118‏ ثلاثة 
قرارات هامة» قبل إطلاق المبادرة المشتركة رسمياآً. دعا القرار الأول إلى تضمين التجمع 
فى مبادرة الإيقاد موضحاً أن أزمة السودان لن تحل بطريقة مرضية إلا من خلال حوار 
شامل تشارك فيه كافة أطراف الصراع. وناشد القرار الثانى شركاء الإيقاد بضم الدول 
العربية والأفريقية التى أظهرت اهتماماً بحل الصراع لمنتدى الشركاء. كما رحب القرار 


544 


الثالث بالمبادرات التى تقدمت بها كل من ليبيا ومصر للتوسط فى حل الصراع. وتبعاً لهذا 
القرارء عقدت هيئة القيادة اجتماعاً فى طرابلس (آب/ أغسطس )١119‏ امناقشة المقترحات 
الليبية للسلام» والتى احتوت على ثلاث نقاط: الوقف الشامل دن النارء إنهاء الحمللات 
الصحفية المتبادلة» تكوين لجنة تفاوض للإعداد لملتقى للسلام يضم الحكومة والمعارضة. 
ومع ترحيبها بالوساطة الليبية» أبدت هيئة القيادة تحفظأً فى موضوع وقف إطلاق النار 
لنفس الأسباب التى رفضته بها الحركة فى اجتماعات الإيقاد. وبالطبع» ساورت الحركة 
الشكوك أن الحكومة» بعد فشلها فى تحقيق تلك الغاية فى اجتماعات الإيقادء أخذت تسعى 
لنقل الموضوع إلى الملعب الليبى» عساها أن تحمل التجمع والحركة على ابتلاع الطعم 
والسنارة معاً. أوصت هيئة القيادة» إلى جانب ذلكء بالتنسيق بين المبادرة الجديدة ومبادرة 
الإيقادء خشية أن تؤدى المبادرة الليبية إلى إجهاض مساعى الإيقادء مما سيخلقء بلا 
ضرورة لذلك؛ صراعاً عربيآ أفريقياً. وبعد أيام من لقاء طرابلس التقى الرئيس مبارك مع 
العقيد القذافى فى مرسى مطروح (7 آب/ أغسطس) للاتفاق على توحيد جهود البلدين 
حول السلام فى السودان» وكان ذلك إيذاناً بمولد المبادرة المشتركة . 

قلنا إن شمول إعلان المبادئ كان كفيلاً بحل المشكل السودانى حلا شاملاًء لولا إصرار 
النظام على اختزال الحوار فى قضية واحدة: الحرب فى الجنوب» وقصر الحوار على 
طرفين. ولذا فإن إخفاق مفاوضات الإيقاد فى التعامل مع المشكل بالصورة المنصوص 
عليها فى إعلان المبادئ يرجع» فى الأساسء إلى إصرار النظام على ذلك الاختزال. لهذا 
كان طبيعياً أن ترتاب الحركة فى توجهات النظام نحو المبادرتين. ضاعف من ريبتها 
حرص النظام المزعوم على التفاوض معها فى إطار الإيقاد لحل مشكلة الجنوب على أساس 
منحه الحق فى تقرير مصيره حتى ولو أدى ذلك إلى الانفصالء فى نفس الوقت الذى 
كانت تبارك فيه المبادرة المشتركة لأنها تكفل الحفاظ على وحدة السودان بإغفالها لموضوع 
حق تقرير المصير. أكد الريب أيضاً سعى النظام لتمزيق أوصال التجمع عبر المناورات 
الجانبية» خاصة مع الفصائل التى كان يظن أن بمقدوره استغواءهاء وقد برع النظام فى 
سياسات الإغراء والاستغواء تلك؛ رغم أن قرارات هيئة قيادة التجمع بكل عضويته منذ 


345 


مارس 1118 تؤكد رغبة التجمع فى الوصول إلى حل سلمى متفاوض عليه .("'') بدلاً من 
أن يجد التجمع أذناً مصغية من النظام» كان كل ما لقيه منه الرفض والزراية. كان فى 
مقدور النظام انتهاز تلك الفرص لتحقيق السلامء إلا أنه آثر بث الفرقة بين فصائل التجمع. 
لكل هذه الأسبابء لم تر الحركة فى مناورات النظام إلا تكتيكات لتحقيق غرضين: كسب 
الوقت» وتدمير إعلان المبادئ مما يعنى خسارة الحركة لكل المكاسب السياسية التى 
أحرزتها بسبب ذلك الإعلان» خاصة تلك المتعلقة بقضايا الدين والدولة» وحق تقرير 
المصير. وكما قلناء زاد الطين بلة إغفال المبادرة المشتركة لهاتين النقطتين. 

هذه الثغرة فى المبادرة المشتركة» وتزايد الإحساس بأن النظام لا يبتغى من تبنيه لها 
غير إجهاض إعلان المبادئ, أقلق الوسطاء وبعض الشركاء»؛ وبوجه خاص الولايات 
المتحدة . ففى زيارة لها لشرق أفريقياء (تشرين أول/ أكتوبر )١1155‏ أعلنت السيدة مادلين 
أولبرايت» وزيرة الخارجية الأمريكية أن حكومتها ترفض المبادرة المصرية الليبية كبديل 
فعال لعملية الإيقادء وتؤمن بأن تلك العملية هى أفضل وسيلة متاحة لحل الصراع. أضافت» 
أن الولايات المتحدة لا تساند أى عملية أخرى مقترحة؛» سواء كانت مصرية أو ليبية. 
وستفعل كل ما فى وسعها لتدعيم عملية إيقاد.(*') ذلك الرفض القاطع للمبادرة المشتركة 
من جانب الولايات المتحدة» لم يمنع الحركة من تجديد التزامها بتلك المبادرة» شريطة 
التنسيق بينها وبين مبادرة الإيقاد. 

تأكيداً لحرصها على تنشيط الإيقادء أعلنت الإدارة الأمريكية تعيين مبعوث شخصى 
للرئيس الأمريكى هو هارى جونستونء الرئيس السابق للجنة الفرعية الخاصة بشئون أفريقيا 
فى مجلس النواب. وجونستون يحظى بالكثير من الاحترام فى الكونقرسء كما ظل يتابع 
الشأن السودانى لسنوات إيان رئاسته للجنة أفريقيا.!(؟'') كلف جونستون بثلاث مهام: 
متابعة الوضع الإنسانىء مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان» دعم جهود السلام عبر الإيقاد. 
وغداة تعيينه» بدأ جونستون فى التحركء وكانت أولى محطاته فى المنطقة هى القاهرة, 
أسمرا ثم الخرطوم. ففى تشرين أول/ أكتوبر 1155 التقى فى الأولى عدداً من المسئولين 
المصريين للتشاور معهم حول أفاق السلام» كما اجتمع مع ممثلى المعارضة بمن فيهم 


546 


صادق المهدى بهدف اطلاعهم على خصائص مهمته. فى تلك الزيارة» حاول جونستون 
جاهداً إبراز حسن نوايا حكومته بشأن قضية السودان» خاصة فيما يتعلق بدور مصر. رغم 
تلك الإيضاحات التى أخذتها مصر بمحملها الظاهرىء بدأ الصادق المهدى يدق الطبول فى 
جبهتينء فى الجبهة الأولى ادعى أن أمريكا تخطط بأسلوب ملتو لتقسيم السودانء وأنها 
تستخدم الإيقاد كوسيلة لتحقيق ذلك الغرض؛ وفى الثانية زعم أن الولايات المتحدة تريد 
استبعاد العرب عمداً من القيام بدور لحل الصراع فى السودان. أضاف أيضآ أن الولايات 
المتحدة تعتبر السودان دولة أفريقية» وليس دولة عربية» ولا نخال الصادق قد قرأ البيان 
الذى أصدرته الولايات المتحدة ترحب فيه بمولد السودان فى عام ١1557‏ (راجع الفصل 
الثالث) . ليس هذا وحده هو الذى يدفع للعجبء العجب العجابء هو أن الصادق الذى كان 
يبشر فى منتصف التسعينيات بقرب نهاية نظام الجبهة» تحول إلى رجل يترقب بلهفة 
المصالحة مع نفس ذلك النظام الذى "قربت نهايته . مع ذلكء ما أن فرغ الصادق من إبلاغ 
جونستون فى لقائه معه بالقاهرة عن الصلح المرتقب؛ حتى قال للمبعوث الأمريكى أنه 
عائد للخرطوم. فالانتفاضة فيها وشيكة الحدوث. ذلك التناقض دفع جونستون للتساؤل: ما 
الذى يريده الصادقء أهو عائد لأن الصلح على الأبواب» أم عائد ليتصدر انتفاضة " وشيكة 
ضد النظام الذى سيصالحه؟ قلنا له» لست وحدك الذى حار فى أمر الرجلء الله لا يحير 
مؤمن. 

ومنذ إطلاق مصر وليبيا لمبادرتهما أصبح تصنيف الوسطاء إلى عرب وأفارقة لازمة 
فى كل أحاديث المهدى للصحف العربية. الهدف من ذلك التصنيف, فيما نظنء لم يكن 
تهييج العرب ضد أمريكا وأدواتها فى أفريقياء بقدر ما كان التعريض بالإيقاد التى لا تفتح 
الباب للقوى الشمالية» علماً أن الذى أوصد باب الإيقاد أمام التجمع هو نفس النظام الذى 
كان الصادق بتاعي الل معه. وشاء أم لم يشأء أثار المهدى بتصريحاته تلك المخاوف 
القديمة التى تفوق بعض الساسة الشماليين على أنفسهم فى تأجيجها: تصويرهم لأزمة 
السودان كمؤامرة من الأفارقة» والمسيحيينء والاستعماريين» فرادى ومجتمعين» لطمس 
معالم الشخصية العربية الإسلامية فى السودان. جزء كبير من هؤلاء الساسة تجاوزوا تلك 


217 


الوهوم» وكنا نحسب الصادق واحداً منهمء بعد أن هداه الله بين من يهتدونء وبعد أن وجد 
له فى أسمرا الأفريقية مستقراً ومتاعا إلى حين. حقأء لم يتدخل وسطاء الإيقاد لحل أزمة 
السودان» بحسبانهم دولا "أفريقية» وإنما باعتبارهم دول جوار يعنيها أمر السودان تصادف 
أن تكون أفريقية. إضافة إلى ذلكء لم تتوغل تلك الدول فى حل الأزمة من تلقاء نفسهاء 
وإنما بناء على طلب صريح من البشير. نضيف أيضاً أن انتماء كل من مصر وليبيا إلى 
القارة الأفريقية لا يقل عن انتماء أى من الدول الأخرى الوسيطة» طالما كانت الأفريقية 
رباطاً سياسياً جغرافياًء لا ثقافياً عرقيأً» كما توحى مقالات الصادق. وبلا شكء كان النظام 
أكثر حذاقة من الصادقء وأقل ثرثرة» فمع أنه مثل الصادق ‏ حاول اللعب على 
المبادرتينء ونبه الدول العربية زيفاً إلى الأخطار التى تتهدد وحدة السودان كما تتهدد 
عروبته من جراء إعمال حق تقرير المصيرء إلا أنه لم يكل عن السعى لإصلاح الجسور مع 
الدول الأفريقية المجاورة وغير المجاورة . فقد بعثء مثلاً» بالوفود إلى العواصم الأفريقية 
التى لا تنتمى إلى الإيقاد مثل بريتوريا وأبوجا لكسب تأييدها لعملية السلام . كما أن مناصرة 
البشير للمبادرة المشتركة» وتفضيلها على مبادرة الإيقادء لم تمنعه من الالتقاء برؤساء 
الإيقاد فى اجتماع القمة السابع فى جيبوتى (, تشرين ثان/ نوفمبر )١193‏ والذى تقرر 
فيه: 

١‏ يستمر إعلان المبادئ هو الأساس الفعال لحل الأزمة فى السودان؛ ويظل أيضآً 
الأساس لتحقيق مصالحة وطنية من شأنها أن تمهد الطريق لإنهاء الصراع فى الجنوب. 

"- إن مبادرة الإيقاد هى مبادرة أفريقية وينبغى أن تظل كذلك. 

والكلمات الأخيرة» إشارة مغلفة للرد على من يصنفون المبادرات تصنيفا إقليمياً. مع 
ذلك ورد قرارآخر فى قمة جيبوتى يقول: ترحب قمة الإيقاد بأى مبادرات تقوم بها دول 
أخرى لتحقيق مصالحة وطنية فى السودان على أساس المبادئ الواردة فى إعلان المبادئ 
والتى قبلها الطرفان. ذلك النص كان من الممكن أن يفتح ثغرة للتنسيق بين المبادرتين» 
ولكن مصر التى تصر على رفض منح الجدوب حق تقرير المصير ما كانت لترضى بأن 
يكون إعلان المبادئ أساساً للتنسيق. 


0218 


وإن كنتء أيها القارئ» قد تخبلت من تناقضات البشير الذى فضل المبادرة المشتركة 
على مبادرة الإيقاد فى الدوحة» وأكد فى جيبوتى على أن مبادرة الإيقاد "هى الأساس 
الفعال لحل الأزمةء فمن الخير أن لا تواصل القراءة حتى لا يتخبطك مس من تناقضات 
الصادق. فالبشير يتفق مع رؤساء الإيقاد على أن مبادرتهم "أفريقية وستبقى كذلك. والبشير 
يقر بإعلان المبادئ بما فيه من كفالة لحق الجنوب فى تقرير مصيره حتى وإن أدى ذلك 
لانفصاله» ولكنه أيضاً يلوذ بالمبادرة المشتركة لأنها ستحمى السودان من ويلات الانفصال. 
أما الصادق فقصته تبطل التفكير» فعلى هامش قمة جيبوتى, التقى بالبشير الذى كان يقول 
للعالمين بأن الانتفاضة ضده وشيكة الحدوث؛ لا ليقدم له إنذاراً بالتخلى عن السلطة حذر 
الانتفاضة "وشيكة الحدوثء بل ليعقد معه اتفاقاً. ذلك الاجتماع المعلن سبقه اجتماعان 
سريان للصادق مع بعض قيادات النظام» الأول كان مع رئيس الأمن فى النظام؛ قطبى 
المهدى فى أديس أباباء والثانى مع غازى صلاح الدين فى سويسراء وعن هذين اللقاءين 
السريين لم يبلغ الصادق حلفاءه فى التجمع. أما اجتماع جيبوتى المعلن فقد أسفر عن 
إعلان جديد للمبادئ اسهم المهدى فى صياغته» كما لوان ليس فى إعلان مبادئ الإيقاد 
ما يكفىء أو أن التجمع كان فى حاجة إلى إعلان للمبادئ كبديل لقرارات أسمراء وإعلان 
مبادئ الإيقاد التى تبناها. ولكناء وقد وصلنا فى الكتاب إلى هذه المرحلة» نعرف جيداً 
الرغائت للحامحة النئ: بطر على الضادق كن يسم بفيشمه كل شىء يمين الحياء العامة 
وإلا فسيظل فى بلبال من أمره. إعلان المبادئ الجديد الذى أشاد الصادق معماره كان 
مزيجا من أفكار ومبادئ» أخذ بعض منها من خطة الإيقاد (التى أعاد البشير تأكيد التزامه 
بها فى جيبوتى نفسها), والبعض الآخر من قرارات أسمرا (التى كان حزب الأمة الذى 
يقوده الصادق من ضمن الموقعين عليها) . استبدت الفرحة بالمهدى لذلك الإنجاز المبهر 
فقال إن إعلان المبادئ الجديد يحوى تسعين بالمائة من شروط التجمع للدخول مع الحكومة 
فى محادثات مباشرة . القضية ليست هى الحساب (إن كان إعلان جيبوتى يحوى تسعين 
بالمائة من شروط التجمع أو دون ذلك)» القضية هى لماذا يظن الصادق أن البشير الذى لم 
يفلح توقيع أربعة رؤساء معه على إعلان للمبادئ فى زحزحته عن موقفهء سيلتزم باتفاق 


549 


وقعه مع الصادقء دون أن يملك الصادق بمفرده أى فعالية ضاغطة (107:286) ليحمله 
على ذلك. وعلى كلء وقع رسمياً على الاتفاق كل من مبارك المهدى عن حزب الأمة 
ومصطفى عثمان اسماعيل (وزير الخارجية) عن الحكومة» وسبقت ذلك الإعلان المبهر 
سبقته مذكرة تفاهم وقع عليها كل من عمر حسن أحمد البشير رئيس السودان» وصادق 
المهدىء رئيس حزب الأمة. وهكذاء بين غمضة عين وانتباهتهاء خلع المهدى طواعية 
رداء الشرعية على الرجل الذى استولى منه على السلطة. ومن المثير أن المهدى حتى عام 
كان يقدم نفسه للعالم على أنه رئيس الوزراء الشرعى للسودان» ويناشد المجتمع 
الدولى لإعادته إلى ذلك المنصب.(''') ومن بين طرائف جيبوتى أن نافع على نافع» 
بيريا النظام» رفض إدراج أى نص فى الاتفاق حول المحاسبة» قائلاً: هل تريدون منا أن 
نمنحكم حبلاً تشنقوننا به» ومنذ ذلك التاريخ أخذ الصادقء» الذى صاغ بيديه النص حول 
محاسبة النظام على انتهاكات حقوق الإنسان فى أحد قرارات هيئة القيادة» يتحدث عن 
التعافى المتبادل. وكان غريباً أن يقبل الصادق على نفسه هذاء وهو الذى ما فتئ يتحدث 
عن الديموقراطية وحقوق الإنسان ويعلم أن العدالة الدولية تطارد عبر العالم مرتكبى هذه 
الكبائر» من بينوشيه فى أقصى جنوب المعمورة؛ إلى ميلوسوفتش فى شمالهاء والخمير الحمر 
فى شرقها. أكثر غرابة» اعتراف نافع ضمناً بجرائمه ضد الإنسانية» وبدلاً من إعلان 
توبته» سعى لأن يضفى على نفسه وصحبه حصانة تحميه من القصاصء والقصاص حياة 
يا أولى الألباب» كما يقول شرع الله الذى لا بديل له. 

مهما يكن من أمرء أوضحت اتفاقية جيبوتى التناقضات الغريبة التى تزدحم بها 
شخصية المهدى. فأولاًء جاءت الاتفاقية فى أعقاب إعلان البشير ورؤساء الإيقاد أن مبادرة 
الإيقاد هى الأساس الفعال لحل أزمة السودان. أكد ذلك الإعلان أيضاً أن مبادرة الإيقاد هى 
مبادرة أفريقية.. وينبغى أن تبقى كذلك. ثانيآ» كان واضحاً أن أولئك الرؤساء (بمن فيهم 
البشير) اتخذوا قرارهم ذلك بدون أى تحريض من الولايات المتحدة» أو حفز من المسيحية 
والاستعمار. ثالثاً أن لقاء الصادق والبشير تم برعاية الرئيس الجيبوتى» ولعله لم يكن من 
الرؤساء العرب الذين تسعى أمريكا لعزلهم من الشأن السودانى. ولكن سرعان ما غرق 


230 


المهدى الذى نصب نفسه داعية للمبادرة المشتركة فى أحابيله عندما أعلدنت مصر تبرأها 
مما دار فى جيبوتى حين أعلن وزير خارجية مصرء عمرو موسىء أن اتفاقية جييبوتى 
تتناقض مع القضايا التى تناقش فيها مع مصطفى عثمان اسماعيلء وزير الخارجية 
السودانى؛ وطلب تفسيراً لذلك من المهدى )١١١(.‏ 

اتفاقية جيبوتى جاءت قبل أسبوعين من اجتماع هيئة قيادة التجمع فى كمبالا لوضع 
إستراتيجية التجمع حول التسوية السلمية الشاملة» والتنسيق بين جهود الإيقاد والمبادرة 
المشتركة. فى ذلك الاجتماع أعلنت هيئة القيادة رفضها لصفقة جيبوتى نظرأ لعدم 
استشارتها مسبقاً قبل إبرامهاء كما انتقدت الأمين العام للتجمع» مبارك المهدىء لإقدامه 
على توقيع الاتفاقية» ووجهت إليه لوماً لإنتهاجه سياسة لا تتفق مع مبادئ التنظيم الذى 
يتولى أمانته. من جانبه» أبلغ قرنق الاجتماع عن مبادرة للجنرال أوباسانجوء رئيس 
نيجيرياء للتوفيق بين المبادرتين» وإعطاء دفعة لعملية الإيقاد بالتعاون مع البلاد المعنية. 
تلك المبادرة كانت صورة أخرى مما اقترحه قرنق على مصر لدعم منتدى شركاء الإيقاد 
بعناصر عربية وأفريقية . وبالفعل أوفد أوباسانجو الرئيس السابق إبراهيم بابنقيدا كمبعوث 
شخصى إلى الخرطوم وكافة عواصم دول وساطة الإيقاد ثم القاهرة . وفى نفس الاجتماع» 
أعلنت قيادة التجمع التزامها بتسوية سياسية شاملة» وقررت أن تكون المحادثات مع 
الحكومة وليس مع الحزبء ولعل تلك إشارة للاجتماع الذى تم بين المهدى والترابى فى 
جنيف . كما دعت الحكومة إلى تهيئة الأجواء للمحادثات» وحثتها على المضى فوراً فى 
تنفيذ الإجراءات التالية للوصول إلى تلك الغاية: 

إلغاء كافة المواد فى دستور118١‏ التى تعوق الحريات المدنية أو تفسح المجال 
لإعاقتها . 

- إلغاء كافة الإجراءات المناهضة لحقوق الإنسانء بما فى ذلك تلك المنصوص عليها 
فى قانون الأمن القومى» والتى تسمح بممارسات الاعتقالء والتفتيشء والاستدعاءات 
التعسفية دون سند قانونى. 


551 


- رفع الحظر عن نشاط الأحزاب السياسية؛ والنقابات؛ وإلغاء قانون النقابات الصادر فى 
عام ١937‏ » وقانون التوالى الصادر سنة ١194‏ . 


إلغاء محاكم النظام العام» وقوات البوليس الخاصة:» والمعروفة باسم البوليس الشعبى» 


وقوات المحافظة على النظام العام . 
كفالة حرية الانتقال» حرية التعبيرء حرية التنظيمء وإلغاء كافة القوانين التى تجهضص 
تلك الحريات. 


- إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين. 

- إعادة تعيين كل الأشخاص الذين طردوا من الوظائف العامة باسم الصالح العام. 

- رد كافة الممتلكات التى صادرتها الحكومة إلى أصحابها الشرعيينء وإعادة تلك 
الممتلكات إلى الحالة التى كانت عليها قبل المصادرة» أو تعويض أصحابها تعويضاً مناسباً 
عما لحق بالممتلكات من ضرر خلال فترة المصادرة. 

هذه المقترحات تهدف إلى تحييد مؤسسات الرعب والهيمنة التى أسسها النظام لتمكين 
نفسهء ووضع الجبهة فى حجمها الصحيحء لأن الفشل فى تحجيم الجبهة سيجعل السودان 
كله أسيراً دائماً لنظام حكمها. لم يكن المهدى سعيداً بتلك القرارات إذ انتهى به الرأى إلى أن 
خلاص السودان لن يتم إلا عبر اتفاق جيبوتى بينه وبين البشيرء بعد أن كان يقول قبل 
توقيعها بأيام أن المبادرة المشتركة هى السبيل الوحيد للخلاص. 

حقيقة الأمر» أن المهدى كان ميالاً للتصالح مع الخرطوم بأى ثمن» وهذا ظن تؤكده 
ثلاتة أشياء. أولأء إطلاق المهدى حملة شعواء ضد التجمع (الذى مازال حزبه فصيلاً من 
فصائله) . فى تلك الحملة اتهم التجمع علانية بالافتقار إلى الكفاءة» وعدم الاهتمام بمحنة 
البلاد» ومعارضة السلام؛ كما نعى على بعض أعضائه(الحركة الشعبية) وعدم الوطنية 
والإتجار بالحرب والترويج لها.!''') ثانياًء بعث الصادق خطاباً لهيئة القيادة فى دورة 
انعقادها بكمبالا كرر فيه تلك المزاعمء ودعا التجمع إلى تطوير عملهء وتقويم أدائه بدون أى 
تباطؤ. ثالثأء طالب التجمع فى ذلك الخطاب بعقد مؤتمر عام لمراجعة أعمال التجمع فى 


552 


الأربع سنوات الأخيرة» كما دعاه إلى عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية مع النظام فى الأول 
من كانون ثان/ يناير .7٠٠١‏ لا غرابة فى أن يدعو الصادق التجمع لمراجعة نفسهء فهذا 
أمر مرغوب فى كل الحالات. ولا تدهش المرء دعوته لمؤتمر للصلحء فهذا هو المآل الذى 
ستنتهى إليه كل مبادرات السلامء وهو أمر لم يلق أبداً اعتراضاً مبدئياً من التجمع. مصدر 
الغرابة والدهشة هو مطالبة الصادق للتجمع أن يعقد مؤتمراً عامأ فى منتصف ديسمبر 
وراجغ فيه بسواساته ويقوم أداءه» ثم يشارك فى مطلع الشهر الذى يليه فى مؤتمر للسلام. 
ذلك اقتراح تعجيزىء إن لم يكن عملا بطولياً لا يطيقه إلا الأفذاذ. رابع فى الوقت الذى 
كان الصادق يدعو فيه التجمع إلى تطوير نفسه؛ عقد اجتماعاً مع القيادة الإريترية فى 
أسمرا ليطلب ممن التقاهم عقد مؤتمر سلام فى العاصمة الإريترية يشارك فيه التجمع 
والنظام . تناسى» فى غمار لهاثه وراء الصلحء تأكيداته المتكررة أن المبادرة المشتركة هى 
السوئل الوخد لجمد ممنالحة وطتلة كما غابك عن كفن أقصير عه عو عزن أمركها 
للعواصم العريية عن صنع السلام» وارتكب نفس جريمتها بالدعوة إلى مؤتمر للسلام فى 
عاصمة افريقية؛» جنوب الصحراء . على أن رئيس الوزراء السابق فاق نفسه فى الموارية 
عندما ناشد الإريتريين أن يوقفوا الأعمال الحربية التى تشنها قوات التجمع ضد النظام 
الحاكم فى الخرطوم من "الأراضى الإريترية. وكما أوردنا مرارأء فإن ثقة الصادق فى 
قدراته لا حدود لهاء وعد القيادة الإرتيرية» فى المقابل» ببذل كافة المساعى الحميدة لعقد 
مصالحة بين أريتريا والسودان» وبين إريتريا وجييبوتى» وكأن إريتريا كانت تتلهف إلى 
وسيط لحل نزاعها مع البلدين . ويأدب جم قال الإريتريون للقائد السودانى أنهم لا 
يستطيعون عقد مؤتمر للسلام خاص بهم لأنهم وسطاء مؤسسون فى مبادرة الإيقاد . أما 
يخصوص العمل المسلح على حدود إريتريا مع السودان» فنفوا وجود أى قوات للمعارضة 
السودانية داخل الأراضى الإريترية» ودعواء الصادقء إن أراد إيقاف قوات التجمع التى 
تحارب النظام من داخل السودان على الحدود الإريترية» لمخاطبة زملائه فى قيادة 
التجمع . وبالطبع تجاهل الإريتريون عرض الصادق للوساطة مع السودان وجيبوتى. 

تلك الرواية المحبطة تبين مدى حرص الصادق على الوصول إلى مصالحة مع النظام 
الحاكم» حتى لو كلفه ذلك طعن أصدقائه من الخلف. فبينما كان يدعو الإريتريين فى أسمرا 


3ظظ5ظ 


لطرد زملائه» كان فى كمبالا يتظاهر بالعمل على تطوير نشاطهم» وتفعيل دورهم. ما الذى 
حمل الصادق على السعى لإضعاف القوى العسكرية للتجمع؛ خاصة وهى لا توجه بنادقها 
إليه؟ ريما كان أحد الأسباب إخفاقه فى حشد الأنصار فى جيش التجمع بالصورة التى كان 
يتوقعها الآخرونء ويتمناها الصادق نفسه. فعندما كان الصادق فى قبضة النظام» لم يترك 
مجالاً إلا وأعلن فيه تباعده عن الجانب العسكرى من نشاط التجمع» ولهذا نحت تعبيراً 
خاصاً به لتصوير معارضته للنظام: الجهاد المدنى. ولكن ما أن خرج من السودان واستقر به 
المقام فى أسمرا حتى وجه نداء للأنصار ل الهجرة إلى الشرق للمشاركة فى جهاد غير 
مدنى. وتأكيداً للصفة "الجهادية المهدوية لجيشه الجديد عين أبنه عبد الرحمن قائداً لذلك 
الجيشء وأطلق عليه لقب الأميرء أى أمير الجيش. رغم كل هذه الضوضاء لم يلتحق بالجهاد 
إلا ما يزيد قليلاً على مائة وسبعين مهاجراً. ذلك الوضع حمل جيش الأمة للجوء إلى التجنيد 
من بين العمال الموسميين فى الحدود السودانية/ الأثيوبية فى مناطق (الحمراءعبد الرافع» 
ماى خضره) . وكان المجندون يتراوحون» حسب الموسم» بين بضع مئات وألف مجند. 
ونحسب أن الصادق كان يتوقع أن يكون له جيش عرمرم يقتحم به الخرطوم كما فعل جده 
الأكبر العظيم» أو على الأقل كما حاول هو اقتحام الخرطوم خلال فترة حكم نميرىء وتلك 
مهمة لن يقوم بها بضع مئات. كبرى مشاكل الصادق هى رفصه الواقع» لا يعيش إلا واقعآ 
لا وجود له إلا فى خياله» فهو عندما يحول النضال العسكرى المسلح إلى جهاد مهدوىء بكل 
ما فيه من دعوة للهجرة وإمارات على الجيوشء لا يمضى بأطروحته إلى نهاياتها المنطقية. 
فالذين هاجروا للمهدىء بايعوه على زهد الدنيا وتركها والرضى بما عند الله رغبة بما عند 
الله والدار الآخرةء وعلى أن لا يفروا من الجهاد. وفى منشور الجهاد يقول المهدى: «يا أيها 
الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله إثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا 
من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل4 (التوبة 58/4؟) . الذى يهاجر مثل 
هذه الهجرة لا يعود رديفاً مسالماً كما عاد الصادقء بل فاتحأ غازياً. 

زاد من قلق الصادق أيضاً توسع قوات السودان الجديد فى إطار القيادة الموحدة لقوات 
التجمع» إذ بلغت فى ذلك الوقت عشرة أضعاف مجاهدى الأمة وكان - وما زال- عمادها 


254 


هو لواء السودان. ولا ريب فى أن الصادق؛ ومن يشاركونه الرؤى فى السودان» لا يمانعون 
فى أن يلعب الجيش الشعبى والقوى المتوحدة معه؛ دوراً فى إضعاف النظام واستنزافه من 
بعيدء ولكنهم لا يطيقون رؤيته وهو يلعب دوراً داخل حدود الشمال. لا يسألون أنفسهم إن 
كان السودان حقاً بلدين» فما هو المنطق الذى يبيح للميليشيات الشمالية أن تخوض المعارك 
فى كل شبر من أرض الجنوب منذ الاستقلال. لربما فهمنا استخدام النظام لهذه اللغة لتهييج 
مشاعر أهل الشمال باعتباره مستهدفاً من أى تحرك معارض من الشرقء ولكن ما باله يفكر 
على هذا النحو المعارض الذى ظل إلى حين يصف النظام بأنه نظام فاقد الشرعية؛» ويمصف 
الحرب فى الجنوب بأنها حرب جائرة» ويتوحد مع الآخرين؛ على اختلاق مللهم 
وأعراقهم» لإنهاء الحكم غير الشرعى وللقضاء على الجور. 

مناورات الصادق فى أسمراء واتفاقه الغريب مع النظام فى جيبوتى؛ جعل قرنق 
يستشيط غضبأء مما حمله على شن هجوم عنيف على حزب الأمة فى مؤتمر كمبالا. 
قال: "إن عليهم (حزب الأمة) أن يلتزموا بقرارات التجمع وإستراتيجياته وإلا فليرحلوا. ردأ 
على ذلك الهجوم كتب الصادق فى "١‏ كانون أول/ كسميو 5 155 وسالة مظولة وك فيا 
احتجاجاته السابقة على الإيقادء وأكد قوله بعدم كفاءتهاء كما دعا فيها إلى ضرورة 
الوصول إلى تسوية سياسية سريعة. أبرز الصادق فى رسالته أيضا المخاطر الماثلة فى حالة 
تدخل المجتمع الدولى لفرض تسوية على السودانيين» وفى كلمات تنضح بالغرور قال إن 
حزب الأمة هو أكبر حزب سياسى فى السودان» ووصف بقية أحزاب التجمع بأنها 
مجموعات لا ترجى فائدة من ورائها. لم يكتف الصادق بذلك» يل مضى لإضافة مزعم 
واتهام لامكان لهما من الإعراب. زعم أن حزب الأمة؛ بخلاف كافة الأحزاب الشمالية 
الأخرىء أسهم إسهاماً كبيراً فى صياغة السياسات التى عالجت قضايا الجماعات السودانية 
المهمشة» وأن قيادة ذلك الحزب أدركت منذ عام ١954‏ الجوانب السياسية.ء والثقافية» 
والاجتماعيةء لأزمة السودان كما انعكست فى الحرب الأهلية . وكأنه أراد أن يقول أن ليس 
من جديد فى الأجندة السياسية التى طرحها قرنق منذ ١1575‏ السنة التى ظهر فيها 
الصادق كزعيم لحزب الأمة. أما الاتهامات فكانت تدور حول انتهاكات الحركة لحقوق 


535 


الإنسان» والتى نسبها الصادق إلى "أطراف دولية دون أن يسميها. ولربما أراد الصادق 
أن يخلق موازنة معنوية (ا3:211م 50:21) بين ممارسات الحركة وممارسات النظام فى 
هذا الصددء ذلك موضوع سبقه إليه غيره كما سلفت الإشارة . 

من شأن تلك الاتهامات العشوائية (وهى عشوائية لعدم اتساقها منطقياً مع الرد على 
القضايا التى أثارها قرنق فى اجتماع كمبالا) أن تثير إلى أقصى الحدود غضب من وجهت 
إليه» لهذا قرر قرنق أن يلتقط القفازء ويتحدى مزاعم المهدى حول الدور الذى قام به حزيه 
منذ عام ١314‏ فى معالجة القضايا الأساسية للصراع فى السودان. كتب للصادق يقول: لقد 
كنت رئيساً للوزراء لفترتين منذ »١475‏ وهذا شرف لم يحظ به أى سياسى سودانى آخر فى 
تاريخنا. إلا أنك أضعت فرصتين لإصلاح الأمور فى السودان. بالإضافة إلى ذلك» 
استدعى قرنق إلى الذاكرة كافة التجاوزات التى ارتكبها رئيس الوزراء السابق فى الجنوب» 
بما فى ذلك دوره الشخصى فى أحداث بور فى الستينيات» واستغلاله الميليشيات القبلية فى 
الثمانينيات» واستحدائه الدستور الإسلامى فى عام 19548» وتغطيته على الفظائع التى 
ارتكبها رجال المليشيات العربية ضد قبائل الدينكا والتى كشف عنها الستار اثنان من أساتذة 
جامعة الخرطوم بضمير حىء وكان نصيبهما العقاب من حكومة الصادق. وكان قرنق أشد 
قسوة فى رده على مزاعم المهدى بأن حزبه هو أكبر الأحزاب فى السودان» وأن بقية 
الأحزاب أغصان ميتة ."(0620:000)قال: «قبل هروبك من الخرطوم نمى إلينا أن عجز 
حزب الأمة عن تجنيد المقاتلين للانخراط فى قوات التجمع يعود لإحتجازك رهينة بيد 
النظام» ولكن عندما خرجت فى النهاية ودعوت مريديك إلى الهجرة لم تجد أى استجابة 
تذكر. أقول لكء وأنا رئيس القيادة العسكرية الموحدة (لقوات التجمع) أن لواء السودان 
الجديد يضم بين صفوفه سودانيين شماليين أكثر من كل الذين جاء بهم نداء هجرتك. هذا 
إلى جانب الجنوبيين الذين أحسبهم أيضاً من السودانيين». أضاف قائلاً: «أن ادعاءك بأن 
زملاءك فى التجمع أغصان ميتة يحمل فى طياته أكثر بكثير من المعانى الظاهرية 
للكلمات. فهذه الأغصان الميتة تمثل القوى التى نأمل أن نبنى بها السودان خلال الفترة 
الانتقالية» إلا إن كنت تعتقد أنه مقدر للسودان البقاء للأبد تحت حكم حزب واحد. أو 


556 


بالأحرى حكم رجل واحد . ذلك هو المستحيل بعينه؛ ولذا فقد قبلنا جميعاً التعايش مع كافة 
صنوف الساسةء بمن فى ذلك أحمال التاريخ الجامدة (ماكاط أ خاطعاءه-لدلع0)» . ذكر 
قرنق صادقء من ناحية أخرىء أن الحركة لم تتنافس مع حزب الأمة فى أية انتخابات. 
قائلاً له إن «زعمك بأنه يحق لحزب الأمة»ء بحكم نتائج الانتخابات الماضية؛» أن يتصدر 
كافة أحزاب السودان» زعم غير مبرر. على الأقل فيما يخص الحركة:. ونحسب أن زعيم 
الحركة أراد أن يقول لزعيم حزب الأمة أن ثمة تغيراً كبيراً وقع فى ديموغرافية السودان» 
وفى ولاءات أهله» ينبغى أن يؤخذا فى الاعتبار. 
طغت الاتهامات المتبادلة على الساحة السياسية وأثارت قلقأ فى نفوس الحادبين على 
وحدة القوى المعارضة:؛ ولربما كان هذا هو السبب الذى حدا بقرنق على عدم الرد على 
رسالة الصادق التانية. ولكن الصادق كان عازماً على مواصلة نقده العلنى لقرنق» بل 
تهجمه على التجمع فى نبرة لا تخلو من القسوة والحقد. ففى حديث مع إحدى الصحف 
اليومية اللندنية وصف التجمع بأنه قط خامل لا يستطيع حتى الإمساك بالفيران..("') 
نقتحت بالتالى معركة أخرئ» لعزتعو الجبينة قيهااه العدو'اللفوذ سادق السيد م يله 
انح أله الأعدام ملاوة اهما التجهع الرملكن وجو فرنق د زخرق الا خيو ذعنا رمن 
الوزراء السابق» فى حديث لإحدى الصحف اليومية القاهرية» إلى ممارسة الضغوط عليه 
دون ذكر لمن سيتولى هذا الضغط ‏ لإنهاء توجهه الحريى وحمله على التوجه نحو 
لسلام.(*'') وفى نفس التصريح» جاء على لسان المهدى أن قرنق معزول تماماً قى 
الجنوب»ء بينما يسعى بقية الجنوبيين للسلام» كما كرر رفضه لأى تدخل أجنبى فى الصراع 
فى السودانء بما فى ذلك تدخل مجلس الأمن. وربما اعتقد الصادق أن التدخل الوحيد 
المسموح به فى موضوع السودان من جانب مجلس الأمنء هو ذلك الذى يعيد الحكام 
الشرعيين إلى مقاعد السلطة بالأسلوب الذى طالب به كوفى انان فى عام 1151 . لن 
يدرك أبدأ أى رجل رشيدء كيف يسيطر هذا البغض الشديد ل تدويل الصراع فى السودان 
على رجل هوء بزعمهء من أشد أنصار المبادرة المشتركة (التى تقودها كل من مصر 
وليبيا)» وهو مؤلف اتفاقية جيبوتى (التى مهد الأرضية لها رئيس جيبوتى)» وهو الداعية 


7ظ]3 


لوساطة إريترية جديدة» وفوق هذا وذاك هو أول حاكم سودانى سمح ببرنامج للغذاء تابع 
للامم المتحدة بإيصال العون الغذائى والإسعافى لمواطنى بلده (وهوامر يحمد له) من 
خلال إغاثة مدعومة دولياً (السودان 01.5)» وإدارة يشارك فيها طرف خارجى. 

فى صراعه ضد الجميع» وفى محاولة منه لتأثيم الرافضين لتوجهه نحو المصالحة» 
أخرج الصادق كرتأ آخر. ففى حديث لإحدى الصحف الظبيانية!*'') ذكر أن قرنق» 
بالتآمر مع الولايات المتحدة والحزب الشيوعى السودانى» قد صاغوا خطة سرية للوصول 
إلى حكم السودان والقضاء على الإسلام. ولا يمكن لشخص مكتمل العقل أن يصدق أمر 
هذا التآمر الثلائىء فالزواج أو التدبير المنزلى (1067386-3-0:015) مستحيل بين هذه 
الأطراف الثلاثة. ولربما عنى الصادق بتعبير القضاء على الإسلام دعوة الحركة لفصل 
ندر بدن القباحة: لو فرنها أن تلك سمرع هن التسععرن اجائك رن للنهذى غير مدرك 
لحقيقة أنه منذ سنة ١1154‏ (عندما روج لفكرة الدستور الإسلامى) إلى سنة ١185‏ (عندما 
وقع على إعلان كوكا دام الذى اتفق فيه كل الأطراف على إلغاء القوانين الدينية)» أن 
هناك دائرة أوسع بكثير من الحركة والحزب الشيوعى تدعو للفصل الدستورى بين الدين 
والسياسة. 

ماهى الأسباب التى حدت بالولايات المتحدة على اتخاذ تلك السياسة المناهضة 
للإسلام؟ أورد الصادق للصحيفة أسباباً ثلاثة تفتقر جميعها إلى المنطق. قال إن الولايات 
المتحدة تسعى جاهدة إلى تحقيق تحقيق ثلاثة أهداف: فصل السودان عن شمال أفريقيا وإدخاله 
ضمن حدود القرن الأفريقى» وإبعاد الإسلام تماماً عن السياسات فى السودان» وفتح باب 
التفاوض من جديد حول تصاريح استكشاف البترول لصالح الشركات الأمريكية . ولكن» هل 
يستلزم» بالضرورة؛ فصل السودان عن شمال أفريقيا وضمه إلى دول القرن الأفريقى 
محاربة الإسلام. فدول القرن تضم بلاداً مسلمة (الصومال وجيبوتى)» كما تضم بلدين 
آخرين (أثيوبيا وإريتريا) يمثل المسلمون نسبة كبيرة من سكانهماء ولا يلعب الدين فى 
كليهما أى دور فى صنع السياسات. أما حول تشوف الشركات الأمريكية للبترول السودانى» 
فلا نرى أين مكانها من قضية الأديان» ولعل للصادق فهما آخر للأسلمة يختلف عن فهم 


5538 


البشر العاديين. فالإسلام لم يحل دون استغلال الشركات الأمريكية للنفط الإسلامى فى 
المملكة السعودية» ودول الخليجء وأندونيسياء وأخيراً دول وسط سيا المسلمة. مشكلة الصادق» 
فيما يبدوء هى إطلاق العنان دوماً للسانه» قبل أن يعمل فكرهء ويقولون "لسانك حصائك . 

فى إحدى المرات حاول الصادق إبراز ما أسماها وثيقة سرية للولايات المتحدة 
بخصوص مبادرة السلام السودانية. تلك الوثيقة لم تكن سراً بالنسبة للحركة:ء أو لدولتى 
المبادرة» أو لأى شخص يملك القدرة على الوصول إلى قاعدة المعلومات للكونقرس 
الأمريكى عبر الحاسوب وشبكة الإتصالات الدولية. ما هى فحوى الرسالة السرية؟ أثار تلكؤ 
الإيقاد فى إشراك التجمع فى عملية السلام» وتقافز النظام بين مبادرتى الإيقاد والمشتركة» 
غضب الولايات المتحدة» ولذا قررت القيام باختبار الموقف لكفالة دخول أطراف الصراع 
فى عملية السلامء وإحباط مناورات النظام للقفز بين المبادراتء والاستيثاق من ان 
المفاوضات ستؤدى, فى النهاية إلى حل شامل للقضايا الوطنية الكيبرى» خاصة قضيتى 
الدين والدولة» وتقرير المصير. جاء فى الوثيقة السرية» أيضأء أن مبادرات السلام المتعددة 
تتيح الفرصة للنظام لكيما يثير الانقسامات داخل صفوف التجمع» مما قد يسمح باستقطاب 
شخصيات المعارضة بالتدريج لإحساسهم بضعف موقفهم» كما أوضحت استحالة المضى 
فى مبادرتين متوازيتين؛ ولهذا اقترحت تعديلاً فى مناهج الإيقاد على النحو التالى: 

١‏ إشراك البلاد الأفريقية الشمالية المجاورة فى عملية السلام. 

؟"- تصديق مصر على إعلان المبادئ الذى أصدر: ته الإيقاد. 

؟- تقوية لجان التفاوض التابعة للإيقاد وتضمين قوى التجمع داخل عملية السلام» 
كجزء من وفد ألحركة. 

5 إجراء مشاورات منظمة بين وسطاء الإيقاد والبلاد الأفريقية الشمالية المجاورة . 

رفض المهدى فوراً ذلك الاقتراح حسن النية» على اعتبار أنه محاولة لتهميش المعارضة 
الشمالية» ولتقوية مكانة الحركة داخل إطار الإيقاد. ولعل الذى أغضبه فى الورقة هو 
الإشارة إلى استقطاب الحكومة لبعض المعارضين لإحساسها ب ضعف موقفهم. وما أحس 
بهذا الضعفء أو سمح لنفسه بأن يستقطبء بين كل المعارضينء غير الصادق. 


559 


فى رفقة الصادق لا ينتهى العجبء فقبل تصريحاته النارية هذه حول أهداف أمريكاء 
نفى لصحيفة كويتية يومية الأقوال التى تناقلتها الصحف العربية بأن اللعبة الأخيرة 
للولايات المتحدة فى السودان هى فصل الجنوب عن الشمال.(١')‏ كان ذلك التصريح قبل 
ثلاث سنوات من حملته المكثفة التى شنها فى عام ١9917‏ ضد الولايات المتحدة وفى ظل 
نفس الإدارة الديموقراطية فى واشنطون. قال الصادق للصحيفة أن الولايات المتحدة «تقف 
ضد الانفصال لما ستتولد عنه من مشاكل كثيرة يصعب حلها وأن تقطيع أوصال البلدان 
القائمة ليس من شيم قوة عظمى تسعى إلى تحقيق الاستقرار فى منطقة القرن الأفريقى؛. 
ولكنء بعد ثلاثة أعوام» قال نفس الرجل لصحيفة مصرية هذه المرة أن اليمين فى أمريكا 
يرغب فى فصل أفريقيا جنوب الصحراء عن شمال أفريقيا لاعتقاده أن حل مشكلة السودان 
لن يتحقق إلا داخل أفريقيا جنوب الصحراء.("') لم يوضح الصادق لسائله أو للقراء ما هو 
ذلك النمين الأمرك يولم يبرن لهج كف لنت خلك الجمين دور فى سدم القر ارفاك 
أمريكاء أو لماذا يعنيه فى كثير أو قليل ما يدور فى أفريقيا. ولربما لا نتلبث كثيراً عند تلك 
الأسئلة إذ هناك ما هو أهم من الإجابات عليها التى نرتقبها من الصادقء بل نذهب توآ 
للقول أنه عندما تولى ذلك اليمين السلطة فى الولايات المتحدة (إدارة الحزب الجمهورى) . 
(واليمين» فيما نعرفء هو التيار المساند للحزب الجمهورى) عقد صادق عليه كل الآمال 
لإيجاد حل للصراع فى السودان. قال فى مؤتمر صحفى بالقاهرة: «تستطيع أمريكا القيام 
بدور فى حل الصراع فى السودان» عن طريق ممارسة الضغوط على الطرفين من أجل 
إنهاء الحربء واستعادة الديمقراطية» ووضع آليات لكفالة تنفيذ الاتفاقيات التى توصلت إليها 
الأطراف المعنية».(*'') نحن حقاً فى مسرح اللامعقول» إذ كيف نصدق أن الرجل الذى 
ظل يصيح من سقوف المنازل مندداً ب تدويل الموقف فى السودان؛ هو نفس الرجل الذى 
تحول الآن إلى داعية لتدخل الولايات المتحدة للضغط على المحاربين السودانيين. بل كيف 
نصدق أن المحلل السياسى الذى توصل إلى أن أهداف اليمين الأمريكى هى تمزيق القارة 
إلى شمال وجنوب للاستكثار بقضية الجنوب بعيداً عن العرب. لا يجد اليوم من ينشد عونه 
على حل هذا المشكل غير حكومة اليمين فى أمريكا؟ 


560 


وكان الصادق قد أعلن قبل بضعة أشهر من إعلانه هذاء عن نيته فى زيارة الولايات 
المتحدة للتأثير على سياسات الإدارة الأمريكية تجاه السودان» موضحاً أنه من الممكن تعديل 
موقف الإدارة الأمريكية الجديدة (اليمين المؤامر) بخصوص الوضع فى السودان.(5'١)‏ 
مثل هذا التصريح لا يعبر فقط عن إفراط الصادق فى الثقة بالنفسء لكيلا نستخدم تعبيرأ 
آخرء وإنما أيضاً عن غربته التامة عن الواقع . بالتأكيد لا يذكر المرء الميزات الفكرية التى 
يتمتع بها الصادقء ولا القاعدة الشعبية العريضة التى تسانده فى السودان» ولهذين السببين 
وحدهماء يحرص المتابعون للشأن السودانى فى واشنطون على تبادل الرأى معهء والتعرف 
على وجهة نظره . ولكن الصادقء المعجب بقدراته؛ لم يسع إلى واشنطون لإطلاع صانعى 
السياسة فى أمريكا على وجهة نظره فحسبء بل أيضاً لإعادة توجيه السياسة الأمريكية نحو 
السودان» خاصة فيما يتعلق بموقف الإدارة الأمريكية من النظام الحاكم والحركة. فمن 
ناحية كان يرغب فى إقناع الإدارة بأن النظام قد تغير كثيراً» وعلى الإدارة الأمريكية أن 
تنطلق فى التعامل معه حسب قراءته للأحداث» ومن ناحية أخرىء كان يريد منها أن تعدل 
عن مساندة الحركة. فعند وصوله إلى واشنطون فى حزيران / يونيو ,7٠٠١ ١‏ لخص 
الصادق رسالته للإدارة السياسية الأمريكية فى أربع نقاط: 

- إبلاغ المسئولين الأمريكيين عن هامش الحريات الذى توفر مؤخراً فى ظل نظام 

الجبهة الحاكمء وحتهم على إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع ذلك النظام . 

"- الدعوة إلى دور أمريكى بارز فى جهود السلام (وهوالأمرالذى أعلنه كل من 
الرئيس بوش ووزير الخارجية كولين باول ولم تكن الإدارة الأمريكية فى حاجة إلى حث 
عليه) . 

نصح الإدارة الأمريكية بعدم تقديم أى دعم للحركة. 

4- إبلاغ الإدارة عن القصور الهيكلى فى مبادرة الإيقاد (عدم الشمول) والمبادرة 
المشتركة (فقدانها لإعلان مبادئ)؛ رغم ما كان يردده فى القاهرة والعواصم العربية بأن 
الأخيرة هى الخيار الوحيد "الفعال الذى يحقق السلام. 


561 


ما لم يدركه الصادق أن أمريكا ليست جمهورية من جمهوريات الموزء إذ لها عيون من 
أهلها داخل السودان» وتقارير من المنظمات الدولية والطوعية حول ما يدور فى السودان 
شمالاً وجنويآ» وتبادل للمعلومات مع دول الجوار عن التطورات التى تجرى فيه؛ بل 
وحديث مباشر مع حكومة السودان نفسها. ولو قال أنه ذاهب إلى أمريكا لنقل وجهة نظره 
حول الأوضاع فى السودان؛ لهان الأمرء أما أن يطمعء كما قال» فى التأثير على السياسات 
فذلك أمر ليس طوع رغائبه وإرادته. الذى لم يفطن إليه الزعيم السودانى هو أنه لم يكن, 
بأى وجه من الوجوهء جزءاً من المعادلة الأمريكية لحل المشكل الراهن» فإن صح أن 
"اليمين الأمريكى يؤثر على سياسات الإدارة الحالية فيما يتعلق بالسودان (وهو صحيح إلى 
حد كبير)ء فإن الذى ظل يحفزه على ذلك قضيتان أساسيتان: الاضطهاد الدينى 
والاختطاف القسرى (الاستعباد) الذى تقوم به الميلشيات القبلية . وفيما يتعلق بالقضية 
الأخيرة» كما أوردناء لم يكن اليمين الأمريكى وحده هو الذى يتصدى للنظام؛ بل تصدت 
له أيضاً كل جماعات حقوق الإنسان والجماعات المناهضة للرق من ذوى الأصول 
الأفريقية مما خلق حلفا نادراً بين اليمين واليسار الأمريكى. فما هى إمكانيات الصادق 
العملية » رغم قدراته على التأطير النظرى لكل مشاكل الكون, على حل تينك المشكلتين. 

سافر صادق أيضآ إلى نيويورك لمقابلة كوفى أنانء الأمين العام للأمم المتحدة» لينقل 
إليه مساندته لترشيحه كأمين عام لفترة ثانية» كما لوأن حزب الأمة قد أصبح هو العضو 
المائة وستة وثمانين من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ إن لم يكن العضو السادس 
عشر فى مجلس الأمن. أهم من ذلك كما قال الصادقء إطلاع الأمين العام على التقدم 
الذى تم إحرازه داخل السودان (أى التقدم الذى أحرزه النظام الحاكم)؛ مما يخلق مناخآ 
ملائماً لتدخل فعال من جانب الأمم المتحدة فى صنع السلام فى السودان. أو تذكر دعوة 
الصادق لأنان لاقتلاع ذلك النظام اللاشرعىء أو تصريحه اجريدة الجمهورية بأن أى 
تدخل دولى» حتى وإن جاء من مجاس الأمن تدخل مرفوض؟ لم يعن لرئيس الوزراء 
السابق الذى أصبح بطوعه وإرادته مفوضاً فوق العادة للنظام» أن يتحدث مع الأمين العام 
عن موضوع آخر ظل يهجس فى باله؛ بل حمله على القيام برحلة خاطفة إلى الخرطوم: 


562 


وصول العون الغذائى لجبال النوبة (والتى هى فى حسبان الصادق واحدة من مناطق نفوذ 
حزبه) . لا شك فى أن الأمين العام قد أصبح فى حيرة من أمره مع نفس الرجل الذى جاءه 
يتوسل قبل ثلاث سنوات فقط للتخلص من نظام الخرطوم فاقد الشرعية. 
بوجه عام فإن أكبر القوى الضاغطة على النظام للوصول إلى حل عادل وشامل للمشكل 
السودانى هو الكونقرسء وقد تناولناء وسنتناول فى مواقع أخرى من الكتابء جهود 
الكونقرس فى هذا الصدد. ولعل أغلب الناس يعلمون (ويفترض أن يعلم الصادق) أن 
الكونقرس يولى اهتماماً كبيراً لقضايا أكثر تعقيداً من إمكانات صادق للإسهام فى حلها. من 
هذه القضاياء إنهاء القصف الجوى على المدنيين» والسيطرة على الميليشيات القبلية» ووضع 
حد لعملية استغلال عوائد النفط لاغراض الحربء وضمان وصول الإغاثة للمتضررينء إلى 
جانب أم القضايا: مسألة الدين والدولة . فهموم الكونقرس لا تنحصر فى القضايا الآنية 
الملتهبة: وقف الحربء بل تشمل قبل ذلكء إزالة دواعيهاء السودان وتلك القضاياء فيما هو 
واضحء لم تكن تحتل أدنى مكان فى أجندة صادق الواشنطونية. وعندما يذهب زعيم 
سودانى لتلك العاصمة النائية ليتحدث مع صناع القرار والمؤثرين على صنعه»ء ويغفل 
قضايا الرق» والقصف العشوائى على المدنيين» والاضطهاد الدينى لغير المسلمين» 
والمجاعات فى محاور الحرب» يخسر معركته من الوهلة الأولى. وعندما يصبح جل 
اهتمامه منصباً على شجب أجندة قرنق الحربية» كما لو أن كافة الأسباب التى قادته للحرب 
قد انتفت؛ يثير شكوك من يخاطبهمء بل يؤكد لهم الصورة التى انطبعت فى ذهنهم عن 
القادة الشماليين؛ والتى ظل المتهم قرنق يسعى لإزالتها: صورة السياسى الذى لا تعنيه فى 
كثير أو قليل معاناة أهل الجنوبء, ولا يترجى شيئاً من الله (وإن أمكن فبعون أمريكى) » غير 
استرداد السلطة ثم العودة للأساليب القديمة الرديئة . (5/زة:< 014 54) 
بعد تلك الرحلة» أثبت الصادقء بما لا يدع مجالاً للشكء أنه لا يستطيع العيش فى 
ظل الحقيقة» بل ليس بمقدوره أن يراها. انعكس ذلك فى تصريحاته للصحافة العربية التى 
إحتفل فيها بنجاح مهمته فى الولايات المتحدة الأمريكية. ذكرء مثلاً؛ أن اجتماعه مع 
رجال الكونقرس الأمريكى قد تكثل بالنجاح؛ رغم أن مجلس النواب الأمريكى قد أقرء أثناء 


50603 


اجتماعه فى واشنطن مع من اجتمع معهمء قانون السلام فى السودان الذى جاءت نصوصه 
مخالفة تماماً لما طلبه صادق من الأمريكيين. صوت 477 عضواً من أعضاء الكونقرس 
بالموافقة على هذا القانون» ولم يرفضه إلا عضوان. تحدث أيضاً عن اجتماعه مع تشيستر 
كروكرء الذى ذاع اسمه كمبعوث الولايات المتحدة الجديد للسلام فى السودان» حول ما 
يجب فعله لإنجاح مهمتهء وعن ترحيب الرجل بآرائه» واتفاقهما فى الرأى بالنسبة لجميع 
القضايا الخاصة بالصراع فى السودان» ذلك التصريح أوردته الصحافة العربية» فى نفس 
اليوم الذى أعلن فيه كروكر عدم مبالاته بالمهمة» ورفضه لها. ولا يقبل العقل أن يتفق 
كروكر فى الرأى مع كائن من كان حول مهمة قرر رفضها مسبقاً. من تلك التصريحات 
المتناقضة؛ والحسابات الخاطئة» يتضح شيئان: الأول هوأن جزءاً كبيراً من تصريحات 
الصادق تفتقر إلى الانضباط الفكرى (11926مأء015 [108]ءء1اء10) الذى يعين على الوصول 
إلى نتائج منطقية ‏ والثانى هو أن الصادقء عندما يمزق أوصال الحقيقة لا يفعل هذا لأنه 
يريد أن يكذبء وإنما لأنه لا يأبه كثيراً لما يقوله من يحاورهم. ففى نهاية أى حوار يقرر 
الصادق أن كل ما قاله المحاورون» أو صمتوا عنهء ليس بذى بال» ثم يفترض أن رأى 
الجميع قد استقر على ما قال. تلكء وأيم الحق حالة يعسر تحليلهاء ويتعصى وصفها على أى 
مؤرخ سياسىء بل هى إلى نطاق علماء النفس أقرب. وياويل من ينبه الصادق إلى الفجوات 
فى ذاكرته» أو الارتطام المتوالى بين مقالاته. هؤلاء سيتلقاهم بلسان شحيذء بدلا من التدبر 
فيما جاءوا به من نقد. 

هذا الارتطام بين مقالات الصادق وفعاله» كما قلناء يتوالى» فمن ذا الذى يصدق أن 
الرجل الذى كاد أن يجعل العرب والأفارقة يتناحرون (قرار قمة الإيقاد فى جيبوتى) 
بحديثه عن المبادرات العربية والمبادرات الأفريقية» سيلجأ إلى عاصمة أفريقية كبرى 
للتقريب بينه وبين الحركة؛ ولكيما تلعب دوراً فى صنع السلام؟ والواضح أن زعيم حزب 
الأمة لم يحسب جيداً الأثر طويل المدى للمواقف العدائية التى اتخذها ضد الحركة؛ كما لم 
يفكر فى ردود الأفعال الأفريقية الصامتة تجاه تفريقه ذى الطابع العنصرى بين السودانيين 
إلى عرب وأفارقة. مع هذا لم يجد الصادق وسيطأً أفضل من الرئيس النيجيرىء اوباسانجو. 


564 


لتنشيط عمليات السلام فى السودان. واوباسانجو هو نفس الرجل الذى لم يأبه الصادق كذيراً 
بمقترحه حول إنشاء منتدى أفريقى لشركاء الإيقادء وقال عند رفضه للمقترح أن المبادرة 
المشتركة وحدها هى السبيل للوصول إلى إنهاء الصراع فى السودان؛ وأن أى جهد لتنشيط 
الإيقاد» جهد لا طائل منه. كما طلب الصادق من الزعيم النيجيرى التوسط بينه وبين قرنق 
مخلب القطء حسبما أعلن الأمين العام لحزب الأمة قبل سفر صادق إلى أبوجا('”') نقس 
الخبر أكده مسئول كبير فى حزب الأمة (آدم مادبو)؛ وأضاف أن الصادق وقرنق سيوقعان 
على مذكرة تفاهم فى أبوجا.(''') ولدهشة الجميع» ذكر زعيم حزب الأمة لصحيفة 
خليجية يومية أنه اندهش من وجود قرنق فى أبوجا خلال زيارته ("*')ء ولعل فشله فى 
توقيع مذكرة التفاهم المرتقبة هو الذى حمله على أن يكون مبطئاً فى قول الحقء لكى لا 
نقول جلاداً للحقيقة . وكانت الحركة قد أصدرت بياناً توضح فيه ملابسات اجتماع أبوجا 
الذى فاجأ حتى بعض قياداتها.(”"') وصف البيان مبادرة الصادق بأنها مبادرة تهدف إلى 
تمزيق التجمع (بعد خروجه منه)» ونقل قول قرنق للصادق فى أبوجا أن مكانه الطبيعى هو 
التجمع» ونيس كبائع (531651127) متجول للنظام . وفيما يبدو أن الصادق قد ردد على أسماع 
قرنق من جديد مقولاته بأن هامش الحريات فى الداخل أصبح يسمح بقيام عمل معارضء 
وأن النظام صار أكثر جدية فى رغبته للوصول إلى حل سلمى. ومن الغريب أن الذى ظل 
يفاوض النظام تحت إشراف دولى وإقليمى هو قرنقء وليس الصادقء ولهذا يفترض أن 
يكون أكثر قدرة على استشفاف هذا التحول فى مواقف النظام نحو السلم. لهذا وجه قرنق 
سؤالاً للصادقء لماذا يظن بأن الحركة ألتى ظلت ‏ ومازالت ‏ تحاور النظام على مدى سبع 
سنوات» فى حاجة إلى سمسار (660165)؟ وكان الصادق قد نفى أن يكون وسيطأً للنظام» 
ناسباً المبادرة إلى نفسهء بالرغم من أنه التقى البشير قبل رحلته إلى أبوجا. 

يتساءل البعضء ولهم الحق فى ذلكء عن الأسباب التى تدفع سياسياً نال أعلى درجات 
التعليم للاستغراق فى كل هذه التكاذيب والوهوم والتناقضات؟ قد يقول البعض أن تلك 
التناقضات تعبر عن الانتهازية السياسية. وقد يرى آخرون أن التناقضات والمراوغات هى 
سمات لصيقة بعقل مضطرب. ولكن مهما كانت نظرتك إليهء فقد أصبح التعامل مع 


205 


الصادق يشكل إرهاقاً للصديق والعدو على حد سواءء وليس أدل على ذلك من موقفه من 
التجمع الذى ظل عضواً فيه حتى آذار/ مارس .٠٠٠١‏ ولا نشك فى أن قيادات حزب 
الأمةء خاصة من هم بداخل السودان» كانوا يسعون جاهدين لبقاء حزيهم فى التجمع؛ لولا 
المواقف اللولبية لرئيسهم تجاهه وتجاه النظام. 

فى النهاية» وقع الطلاق بصورة رسمية بين حزب الأمة والتجمع أثناء اجتماع هيئة 
القيادة فى أسمرا فى أذار/ مارس ,7٠٠٠١‏ عندما لم يترك الصادق أى خيار لزملائه سوى 
الموافقة على انفصاله عنهم. فى ذلك الاجتماع ناشدته كافة الأطراف (بما فيها الحركة) 
للبقاء في التنظيم الجامعء إلا أن الصادق تشدد فى دعوته إلى ضرورة وقف الحرب 
والاتجاه إلى تأييد المبادرة المشتركة بدون انتظار لتنسيق جهودها مع جهود الإيقاد. طالب 
أيضاً بايقاف فعلى لكافة أعمال التجمع الخارجية» لأن المجال السياسى فى السودان قد صار 
ملائماً للعمل من الداخل. وذهب الصادق مذهباً قصياً عندما أعلن لإحدى الصحف 
القاهرية أن السودان يتمتع اليوم بقدر من حرية الصحافة لا نظير له فى الوطن 
العربى .(؟”') كان المرء يظن بأن نقطة الاستدلال على حرية الصحافة من جانب الرجل 
الذى كان رئيس لوزراء السودان مرتين ليست هى الحريات الصحفية فى الوطن العربى: 

وإنما تلك التى نعمت بها الصحافة فى ظل الديموقراطية التى رعته وينبغى أن يرعاها. 

تلك الديموقراطية أخذ الصادق يصفها مؤخراً ب "الديموقراطية كاملة الدسمء والدسمء لغة 
فدهن اللحم وشحمهء كما هوالقذر. ولعلنا ننتخب المعنى الأول» لنضيف أن انسداد 
شرايين الديموقراطية ريما كان بسبب غول المرة (الكوليسترول) الذى أنتجه هذا الدسم. 
وعلى كلء» فإن الصادق» فى حماسه لتجميل وجه النظامء لم يتفكر فى الفروق بين 
ديموقراطية السودان «كاملة الدسم؛ وبين ديموقراطيات الوطن العربى. 

أضاف الصادق أن إيقاف نشاط التجمع الخارجى سيفرض عليه بسيب التغيير الذى طرأ 
على البيئة الإقليمية» الأمرالذى يستحيل معه للمعارضة الاستمرار فى العمل من داخل 
البلدان المجاورة؛ وعلى وجه التحديد أشار إلى الحرب الأثيوبية _ الإريترية. وبدلاً عن 
التشاور مع رفاقه حول تكتيكات جديدة تمكن التجمع من المضى فى نضاله الخارجى فى 


566 


البيئة الإقليمية المتغيرة» طالبهم بالتخلى عن الإستراتيجيات التى ساعدت على تقليم أظافر 
النظام الحاكم إلى حد كبير. فما كان لنظام الجبهة أن يغير ويبدل فى تكتيكاته وسياساته: 
حتى فيما أسماه الثوابت؛ لولا الضغوط التى مارستها عليه أطراف داخلية وأخرى خارجية. 
ولو كانت الحركة تفكر بهذا الأسلوب لانتهت إلى زوايا النسيان بعد سقوط منقستو. ومن 
الواضح أن الصادق كان يتمنى دخول التجمع فى محادثات مباشرة مع الخرطوم؛ وإطراحه 
جانباً قراراته فى كمبالا حول شروط تهيئة المناخ للشروع فى تفاوض جدى وإيجابى . تلك 
الطريقة التى اقترحها الصادق, كما رأى التجمع» لا تفضى إلى سلام بل إلى استسلام . 
الصورة الوردية التى رسمهما الصادق للوضع داخل السودان» سرعان ما انكشف زيفهاء 
وبدا النظام على حقيقته. فبالإضافة إلى استمرار القصف الجوى للأهداف المدنية فى 
الجنوب؛ وتوسيعه تجاه الشرقء دبر النظام الحاكم مكيدة للإيقاع بسكرتارية التجمع فى 
الخرطوم واتهمها بالتآمر مع الولايات المتحدة وكان أعضاء السكرتارية فى لقاء مع قلين 
وارين» (مسئول فى السفارة الأمريكية بالخرطوم) فى إطار المشاورات العديدة التى ظلوا 
يقومون بها مع البعثات الأجنبية» وخصوصاً البعثات الممثلة لدول شركاء الإيقاد. ومن 
الغريب أن تستنكر الحكومة فى بيان رسمى اجتماع الدبلوماسى الأمريكى مع تنظيم غير 
شرعى(*"') هو سكرتارية التجمع بالداخل» فى حين أن ذلك التجمع هو نفس التنظيم الذى 
كان النظام يسعى للحوار معه عبر المبادرة المشتركة. وفى تصريح لجريدة سودانية» قال 
الأمين العام للحزب الحاكم أن الحكومة كان لابد أن تتخذ هذا الإجراء ضد التجمعء بعد أن 
ضاقت ذرعاً بنداءاته المتكررة لتفكيك النظاء("'')؛ ولا شك فى أن الأمين العام كان أكثر 
صدقاً فى إبانة أسباب احتجاز سكرتارية التجمع بالداخل من وزير الخارجية. حقيقة الأمرء 
أن سكرتارية التجمع كانت ضحية لحرب افتعلها النظام مع الولايات المتحدة؛ عجز عن 
طعن الفيل» فآثر الطعان فيما حسبه ظلاً له. فموقف النظام تجاه سكرتارية التجمع كان رد 
فعل على شيئين: الأول هو زيارة سوزان رايس» مساعد وزير الخارجية الأمريكى لشئون 
أفريقياء للمناطق المحررة بجنوب السودان دون التماس إذن من الخرطوم. وكانت السيدة 
رايس قد زارت فى نوفمبر١٠٠7‏ مستشفى لوى الذى تعرض للقصف أكثر من مرةء 


267 


وأعلنت هناك أن الولايات المتحدة ستعمل أقصى ما فى وسعها لإيقاف هذا النوع من 
الاعتداءات على الأهداف المدنية» كما ستعمل على وضع حد ل استعباد النساء والأطفال. 
أضافت أن الحزبين (الجمهورى والديموقراطى) متفقان على فرض عقوبات ثنائية على 
النظام» وعلى تعبئة الرأى العام العالمى لحمل النظام السودانى للكف عن السياسات غير 
المقبولة التى يتبعها. الزيارة نفسهاء والتى تمت دون إذن منء أو إخطار للخرطوم؛ أثارت 
كوامن النظام أكثر مما أثارتها كلمات رايس. 

الشىء الثانى هو قرار الكونقرس الأمريكى الذى تزامن مع الزيارة. ففى تلك الأيام خول 
الكونقرس للرئيس الأمريكى حق اتخاذ ما يراه مناسباً من البرامج الموجهة لتقديم المساعدة 
المباشرة (غير العسكرية) للسكان الأصليين (100186015) فى المناطق التى لا تخضع 
لسيطرة حكومة السودان» كان ذلك فى صورة إغاثة ععاجلة للسكان أو تعزيز الاكتفاء 
الاقتصادىء أو بناء السلطة المدنية» أو إتاحة فرص التعليم» أو تعزيز حكم القانون. وبالرغم 
من أن الكونقرس قد اتخذ من قبل قرارات» وأصدر قوانين عديدة» حول هذه الأمورء إلا أن 
تنفيذ البرامج المنبئقة عن تلك القرارات كانت تباشره الإدارة (هيئة المعونة)» بالتعاون مع 
حكومة الخرطوم عبر برنامج شريان الحياة» أوعن طريق المنظمات الطوعية العاملة فى 
الشمال (فى حالة العون الإنسانى للنازحين) . هذه» إذن» هى المرة الأولى التى يوجه فيها 
الكونقرس الإدارة بالتعاون مباشرة مع أهل المناطق المحررة فى الشرق والجنوب والجنوب 
الشرقى وجبال النوبة» أى المناطق التى لا تقع تحت سيطرة الحكومة فى هذه الأقاليم. ومن 
البدهىء أن لا يشنف هذا القرار آذان أهل النظام» ولكن ما كان ينبغى للنظام أن يندهش مما 
أقدمت عليه سوزان رايسء أو أقره الكونقرس» بعد كل انتهاكات حقوق الإنسان التى عددتها 
رايسء كما أشار إليها مراراً وتكراراً عدد كبير من المنظمات الدولية المعنية بالأوضاع 
الإنسانية المتردية فى السودان؛ بما فى ذلك منظمات الأمم المتحدة . كل الذى حدث هو أن 
النظام وقع فى أخدود ظل يحفره ويذرو ترابه» وكان أحرى به أن يتعلم الدرس الأول فى 
قائون الحضا إن آلقيت نفسك افن حفرة» فأول ها تقطه لإتقاذ تضتك. هن لكف عن المزيد من 
التحفار. 


نعود لصادق المهدى لنقول؛ أنه رغم حثه رفاقه على الهرولة إلى الخرطوم بحثأ عن 
الهامشء ارتأى البقاء خارج السودان لأكثر من عامء واختار مصر وأسمرا ولندن كمحطات 
لهء مما خلق انطباعاً أن زعيم حزب الأمة لم يكن واثقاً تمامً من صدق النظام الحاكم . بيد 
أنه ذكر فى تصريحات صحفية أن عدم عودته إلى السودان اقتضتها الرغبة فى متابعة 
مبادرات السلام فى الخارج» كما لوأن ذلك لا يصح أن يكون سببأ يتذرع به الزعماء 
الآخرون الذين طلب منهم العودة السريعة للسودان والكف عن العمل الخارجى. وخلال 
بقائه فى الخازج لمدابغة مبادرات السلامء تخول الضائق إل صاحب: قضية اذات بعذين: 
إدانة التجمع؛ والدق على أبواب القاهرة وطرابلسء لا حرصاً منه على تفعيل المبادرة 
المشتركة» وإنما رغبة منه فى تسميم الأجواء بين الميرغنى وقرنق» من جانبء وبينهما 
وبين مصر وليبيا من جانب آخر. بالإضافة إلى ذلك؛ مازال يساوره ظن بأن دولتى 
المبادرة سيقنعان الميرغنىء على الأقلء للعودة معه إلى الخرطومء فإن كان فى تلك العودة 
انتحارا سياسياء فليكن هناك من يشاركه متعة الانتحار عملا بقول أهل السودان: الموت 
وسط الجماعة عرس. فيما عدا هذاء استثمر الصادق بقية الوقت الذى قضاه فى منفاه 
الاختيارى قبل عودته إلى الهامش فى شىء يتقنهء وكان يحسن صنعاً لنفسه وأهله وبلده لو 
توفر عليه: إلقاء المحاضرات فى المراكز الأكاديمية» والأندية السياسية» والمنتديات 
الدبلوماسية» ولكل عدد يزيد عن ثلاثة أشخاص يبدون الرغبة فى السماع إليه. 

وفى القليل من الوقت الذى تبقى له» حاول الصادق الولوغ فى نشاط آخر يتوهم أنه قادر 
عليه: التوسط فى حل مشاكل الآخرين. فعلى سبيل المثال قام فى أيلول/ سيتمبر ٠٠٠١‏ 
بزيارة لإيران لإشراكها فى صنع السلام فى السودان» كما ذكر قبل سفره(""'). ولن نقف 
هنا عند أقوال الصادق بأن المبادرة المشتركة وحدها هى الإطار الأمثل لحل المشكل 
السودانى مما يجعل إقحامه لإيران فى القضية إجهاضاً لتلك المبادرة» بل نقول أنه ريما 
ظن أن لإيران دوراً تلعبه بحكم قربها من النظام وبحكم التوجهات الرشيدة لرئيسها الحالى 
خاتمى فى التعامل مع قضايا العالم من حوله. من هذه الناحيةء لا ضير من الاتصال بها. 
بيد أن الصادق أعلن أيضاً أن واحداً من أهداف تلك الزيارة هو إعادة العلاقات العربية 


8569 


الإيرانية إلى مسارها الطبيعى» وفى تصريح لإحدى الصحف اليومية بالخليج كان من 
أغراض زيارته لطهران أيضأ التماس حل سلمى لمشكلة الجزر التى تتصارع عليها إيران 
والإمارات العربية المتحدة.(*"') تلك قضية شغلت الأمم المتحدة» ومجلس التعاون لدول 
الخليج» والمؤتمر الإسلامى طويلاًء وعلى طول عهود الحكم فى إيران منذ عهد الشاه» بلا 
طائل. يا ترى» هل ظن الصادق أن علاج مشكلة أبى موسى وطنب الكبرى وطنب 
الصغرى (الجزر الثلاثة الصغيرة فى الخليج) أقل استعصاء من علاج مشكل الغابات 
والمستنقعات فى بلادهء ولهذا أولاه الاهتمام؟ لست أدرى! 

قوات التجمعء من جانبهاء لم ترعبها المحاذير التى أثارها الصادق حول العمل 
العسكرىء بل تمادت فيه وسجلت ضربات موجعة للنظام. الضربة الأولى كانت فى المجال 
العسكرى عندما نجحت فى صد هجوم مكثف خطط له النظام بإحكام» لاستعادة المواقع 
التى استولى عليها التجمع فى الشرق. قامت قوات التجمع أيضاً بهجوم مماثل فى أبريل 
استولت فيه على همشكوريبء أهم مراكز تدريس القرآن فى ريف السودان.(1"١)‏ 
احتلال همشكوريب فى البداية أربك النظام إلى حد كبير ودفعه إلى إعلانات جنونية» مثل 
الحديث عن تسليح الميليشيات القبلية فى شرق السودان؛ وكأنه لم يع بعد نتائج تسليحها فى 
الغرب. فطبقاً لما أورده المهندس إبراهيم حاكمء قرر النظام حشد عشرة آلاف مقاتل من 
أبناء البجة('''). وسرعان ما تطوع صادق ليصف احتلال قرية همشكوريب بأنه مغامرة 
غير محسوبة» وبهذا انضم إلى حملة النظام التى شجبت الاستيلاء على القرية ووصفته ب 
التدنيس لمكان مقدس. إلا أن الصادق تجاوز الحدود عندما جعل من مركز تحفيظ القرآن 
فاتيكاناً؛ قال: إن الذين يبسغون تقويض النظام الحاكم عليهم أن يغزوا روما وليس 
الفاتيكان.(١””)‏ وللصادق قدرات لاتحد فى نحت الأوصافء إلا أن قالته هذه يعيى فهمها 
القارئ. ففاتيكان السودان» من منظور الصادق نفسهء كان يجب أن يكون هو البقعة وليس 
همشكوريب» وروماه هى الخرطوم لا كسلا. والبقعة» فيما نعرف من أطالس الجغرافياء 
أقرب إلى روما السودان من قرية نائية فى شرقه. مع هذاء فلربما اعترى الصادق والنظام 
ذهول عندما أعلن البابا همشكوريبء الشيخ سليمان على بيتاى انضمامه للكفرة الغزاة» 


210 


وقبوله أن يكون عضواً فى هيكة قيادة التجمع. النحيب والعويل الذى تبع الاستيلاء على 
مركز همشكوريب والمناطق المحيطة به لم يكن بدافع الغيرة على ذلك المكان "المقدس» أو 
الرغبة فى الحفاظ عليه من الدنسء بقدرما يرجع إلى الميزات الإستراتيجية التى اكتسبتها 
قوات التجمع بموجب ذلك النصر. ففى حديث لخبير فى شئون المنطقة إن نتيجة حرب 
السودان المستمرة ستتحددء فى النهاية؛ بالسيطرة على تلك المنطقة التى تمكن من يسيطر 
عليها من التحكم فى الطريق الحيوى للبلادء وخط السكك الحديدية الذى يقود للساحل» 
وأنابيب النفط الجديدة» بجانب منشأت اقتصادية هامة أخرى.("١)‏ 

لهذه الأسباب عبأ النظام أكبر حملاته فى الشرق مما دفعها إلى سحب بعض القوات من 
الجنوب» كما أقدم للمرة الأوا لى على استخدام المروحيات المدفعية (5متطكهتع ععاممءناعط) 
لقصف التجمعات المدنية فى الشرق حتى يقسر الأهالى على الفرار إلى داخل المناطق التى 

من المشير للعجب أن توافقت تلك الحملة مع قيام الرئيس الإريترى بزيارة للخرطوم 
للتوسط بينها وبين المعارضة . تلك العملية الغادرة أكدت للتجمع عدم جدية النظام فى 
السعى لإحلال السلام فى السودان: لهذا قرر مهاجمة رئاسة الجيش فى كسلا واحتلال 
المدينة يوماً كاملا (7 تشرين ثان/ نوفمبر .)3٠٠١‏ ذلك الهجوم كان إشارة للنظام بأن 
قوات التجمع فى الشرق مازالت بخيرء وما زالت قادرة على خوض الحربء كما أن النظام 
رغم قدراته العسكرية الهائلة» ليس كما يظنء نظاماً لا يقهر. وطبيعى أن يصاب النظام 
بذهول بالغ من ذلك الهجوم» خاصة وقد كانت مهاجمة المدن واحتلالها مقصورة على 
محاور القتال فى الجنوب» وجبال النوبة» ومنطقة الأنقسنا. وبما أن النظام يعيش فى عالمه 
الخاصء نسب ذلك العمل إلى الجيش الشعبى» وليس لقوات التجمعء وكأن الجيش الشعبى 
ليس فصيلا من قوات التجمع . وعلى غرار كافة حملاته الانتقامية المتهورة»ء اندفع النظام 
فى حملة عنصرية الطابع ضد كافة الجنوبيين والنوبة فى منطقة كسلا بحسبانهم طابوراً 
خامساً للحركة. كما أعلنت صحف الخرطوم عن اختفاء عدد كبير منهم» وشبهت إحدى 
صحف الخرطوم أحداث كسلا بنفس الأحداث التى وقعت فى جوبا وواو إبان حكم 


571 


المحجوب فى الستينيات.("') تلك الأحداث دفعت كبير الأساقفة بالخرطومء جبرائيل زبير 
للانتقال إلى كسلا للاطلاع على حقيقة الموقف بنفسهء كما بعثت المنظمة السودانية لحقوق 
الإنسان (51180) نداء عاجلا إلى العالم بأسره فى ١4‏ تشرين أول/ نوفمبرء تطالب فيه 
بإدانة حملات الانتقام التى يمارسها النظام ضد الجنوبيين وأبناء النوبة فى منطقة كسلاء 
والتحقيق فى أعمال القتل الانتقامى التى تواتر الحديث عنها. وقالت المنظمة أن الحكومة 
تهدف أساسا إلى إثارة المشاعر العرقية بين السودانيين فى الشرقء وهو أمر حدث من قبل 
فى بعض المدن الشمالية. رغم ذلك الانتصار الباهرء أكد التجمع التزامه بالتسوية السلمية؛ 
ففى تصريح له» قال رئيس التجمع أن الهجوم على كسلا قد دحض الأسطورة القائلة 
بإمكانية تحقيق السلام من خلال الحرب» ونصح البشير بنبذ سياسة التهديد والوعيد.(“"") 
من جهة أخرىء أعلن نائب رئيس التجمعء الفريق عبد الرحمن سعيد أن جميع الخيارات 
ستظل مفتوحة أمام التجمع ما لم يكن هناك تقدم ملموس فى حلبة السلام» وأن أى مدينة أو 
قرية» تملك القدرة على احتلالهاء فستحتل.(*') فى نفس الوقت اتهم النظام كلا من 
التجمع وإريتريا بعدم صدق النوايا فى التماسهم للسلام» ناسيا أنه هو الذى بادر بالهجوم 
على الجبهة الشرقية بينما كان الرئيس الإريترى فى الخرطوم يتحدث عن السلام . 

وإن كان المرء يدرك غضب النظام بسبب المهانة التى لحقت به فى كسلا, إلا أن 
انضمام الصادق للنظام فى شجبه الهجوم على كسلا بدعوى تأثيره البالغ على المدنيين» 
كما قال» فأمرلا يسهل فهمه. فى شجبه ذلك عمد الصادق إلى تحدى الميرغنى بأسلوب 
ابتزازى لإداتة الغزو علانية. لم يكن أهل التجمع بالسذاجة التى يصدقون بها أن اهتمام 
الصادق بما وقع فى كسلا كان يعود إلى حرصه على سلامة المدنيين لأنهم يعرفون ما لا 
يعرفه غيرهم, فقبل ثلاثة أعوام من أحداث كسلا ١7(‏ نوفمبر11917) هاجمت قوات حزب 
الأمة قرية الفاو (خارج مدينة القضارف) فى شرق السودان وأسرت أربعة مدنيين» 
وصادرت السيارة (ب.ح 7875 حكومة) التى كانت تقلهم. برر حزب الأمة ذلك العمل 
بأنه إجراء ضرورى لتعزيز الانتفاضة فى كافة المدن السودانية» وكان صادق على رأس 
المحتفلين بذلك العمل الثورى. ضم أسرى تلك التجريدة موظفا مدنيا من مصلحة الجمارك 


5372 


السودانية (عبد الملك محمد عبد الملك؛ مدير ديوان الجمارك بحلفا الجديدة) كان يصحب 
ابنته الصغيرة مريم لعلاجها فى أحد المستشفيات القريبة حيث كانت تعانى من فشل كلوى. 
الآسرون تركوا الصغيرة تواجه مصيرها وحيدة» وعادوا بأسراهم إلى مركز قوات التجمع 
وعندما وصلوا إلى المركز بدأ الطبيب الميدانى على الفور فى معالجة الأسرى ومن بينهم 
موظف الجماركء الذى كان ينزف بسبب الإصابات التى لحقت به أثناء عملية أسره. ما 
حدث بعد ذلك لا يشرف قوات حزب الأمةء ولا يتوافق مع الاهتمام الزائف لزعيمه بأرواح 
المدنيين عقب أحداث كسلا. وما كنا لنورد تلك القصة لولا تربص الصادق بخصومه: 
وإدغاله فى أمورهم بلا مبررء واستطالته فى اللجاج بدلاً عن المحاجة والتفاطن معهم. كل 
هذه أمور لا تفيد الصادقء ولا تنفع حزيه. ولا يأبه لها النظام الذى تطوع الصادق 
لنصرتهء بل لعله يتمنى له أن يمعن فيها _ لا لأنها تعود عليه بنفع _ وإنما ليجعل زعيم 
حزب الأمة يغرق أكثر فأكثر فى وحل تناقضاته. نعود للقصة لنقول أن طبيب المستوصف 
الدكتور عبد السلام عكاشة (الحزب الشيوعى السودانى) أقدم _ بواعز إنسانى بحت _ على 
إنقاذ حياة الأسيرء وما أن علم بذلك أمير جيش الأمة (ابن الصادق) حتى بعث للمستشفى 
طبيب قوات حزب الأمة (د. الزين هاشم» وهو طالب أكمل دراساته الطبية إلا أنه لم يجتز 
الامتياز) لاسترداد المريض باعتباره واحداً من مقاتلى حزب الأمة الذين أصيبوا فى 
الهجوم» وبدعوى أن الحزب كان يريد العناية بأمره على طريقته. توجس الدكتور عبد 
السلام شراً من الطلبء ولهذا اعترض على نقل المريض الذى كان يرقد على المشرحة» فما 
كان من طبيب الأمة إلا محاولة اقتلاع محقنة الأوردة من ذراع الأسير المريض. وكان 
وراء الطبيب بعض جنده؛ء أو نقول ملازميهء لإعانته على أداء مهمته «الإنسانية» تلك. 
وفى الحال استنجد الطبيب بقوات لواء السودان لإنهاء ذلك العبثء ففعلت. ومن الطريف أن 
قوات الأمة أطلقت على تلك العملية عملية حمدان أبو عنجة. ثمة قصة أخرى تنبىء عن 
الزيف فى حرقة فؤاد الصادق على مصير المدنيين فى شرق السودان. فبعد «هجرته؛ إلى 
الشرق عرض الصادق على قرنق القيام بما أسماه لطمة عسكرية على النظام فى هيئة 
هجوم خاطف على الخرطوم. ولتحقيق هذا الهدف وعد بدفع ٠١,٠٠١‏ مقاتل إلى ساحة 


213ظ2 


القتال من خلال دعوة الهجرة التى أطلقها. وفيما بعدء قال قرنق لمساعديه أن هذا الرجل لا 
يعرف مدى قدرات النظام» ولا يعرف الصعوبة التى تقترن بغزو عاصمة مثل الخرطوم. 
اللطمة العسكرية التى روج لها الصادقء توارت عندما لم تفلح دعوة الهجرة فى جذب 
الجحافل التى كان يتوقعها. 

بدلاً عن أن يوجه الصادق سهام نقده فى الخرطوم على النظام الحاكم ويوحد 
المعارضين ضدهء كرس كل جهده فى الانتقاص من التجمعء وتخذيل الحركة الشعبية 
ورئيسها. ففى 77 كانون أول/ ديسمبر ,7٠٠٠١‏ وجه نداء فى خطبة عيد الفطر من منبر 
المسجد لأربعة وعشرين جنوبياً للانضمام إليه فى مسيرة السلام؛ ولم يكن بين الذين 
خاطبهم (باستثناء رياك مشار وجون لوك) واحد يحمل سلاحاً ضد الحكومة» بل لم يعرف 
عن بعضْهم حتى مناوأة النظام. غاية الصادق من تلك الدعوة كانت هى خلق جبهة 
جنوبية معارضة لقرنق لورد الحرب. إلا أنه لم يفتطن إلى أن عدداً من هؤلاء الجنوبيين 
الذين أراد الاستقواء بهم على قرنق كانوا يجاهرون بالعمل من أجل انفصال الجنوب؛ كما 
كان من بينهم أعضاء فى الحركة (سلوى جبريلء كرستين وليام دينق)» أو أعضاء فى 
أحزاب أخرى مثل يوساب (يوهانس أكولء باسفيكو لادو) . ولا ندرى أى هاجس ذاك الذى 
جاء للصادق فى السحر لينبئه بأن هؤلاء بالذات سيتركون تنظيماتهم ويتداعون على 
مسيرته السلمية. لا نظن أن زعيم حزب الأمة كان ليجرؤ على مخاطبة ساسة شماليين 
متخطياً قيادات الأحزاب التى ينتمون إليهاء ولكن الحديث بلا تدبر ولا مشورة جعل 
الصادق يسترخى للخطأء ويفحش فى ذلك. فمثلاً كان من بين من دعاهم للتحلق حوله 
رجل أسماه ديفيد كوانجوكء والاسم الصحيح والتر كوانجوك. ولا غرابة فى أن يخطئْ 
الصادق فى اسم جنوبى أو شمالىء إلا فى هذه الحالة» إذ أن الرجل عمل فترة طويلة كوزير 
فى حكومته. ترى ما الذى سيظنه الناس برئيس وزرائهم السابق إن أسمى وزير دفاعه 
الفريق عبد الماجد خالدء أو أسمى وزير خارجيته الدكتور عبد العال سناده؟ مثل هذا الخطأ 
يعكس شيئا أكبر من الهنة أو الزلل: يكشف عن النظرة للوزير الجنوبى لا بوصفه شخصاً له 
اسم وصفات يتناعتها الناس» بل هوء فى حقيقة أمره» كمالة عدد. تلك هى التفاصيل التى 


5304 


لا يزعج المهدى نفسه بهاء ولا يشاور فيها من حوله حتى يعصموه من الزلل. ولريما كفى 
الصادق نفسه مؤونة الحرج لوكان يحسن السمع لغيرهء فقبل ثلاثة أسابيع من دعوته 
السياسيين الجنوبيين غير المسلمين من منبر الجامع» قال جوزيف اوكيلوء رئيس اليوساب 
بالخرطوم أن حزبه يرفض الدعوة التى وجهها يعض الجنوبيين (وكثير منهم بين من دعا 
الصادق من المنبر) لعقد مؤتمرفى جنيف ذكر اوكيلو لصحيفة كانت تصدر بالقاهرة أن 
حزبه لن يشارك أبداً فى ذلك المؤتمرء مؤكداً أن الهدف الحقيقى منه ليس هو خلق تيار 
جنوبى مساند لحق تقرير المصيرء وإنما إنشاء جبهة مضادة للحركة» وهذا لا يقودء كما 
قال» إلى أى تسوية سياسية شاملة.(7١)‏ 

فى أواخر تموز/ يوليو »7٠٠١‏ اجتمعت هيئة القيادة بالقاهرة للتداول حول مقترح من 
دولتى المبادرة المشتركة بدخول الطرفين على الفور فى محادثات استكشافية مباشرة. وبعد 
نقاش طويل وافقت على ذلك المقترح بشرطينء الأول يتعلق بإلغاء مواد معينة فى الدستورء 
وبنود محددة فى قانون الأمن القومىء لما تفرضه من قيود على العمل الحزبى. والثانى 
يطالب النظام بالتعهد بالتنسيق بين المبادرة المشتركة ومبادرة الايقاد» لكيما يصبح هناك 
منبر واحد للتفاوض . الشرط الأولء بلا شك يقضى بتغييرات ضرورية فى القوانين حتى 
تسير الديمقراطية فى مسارها الصحيحء كما يمثل تنازلاً من جانب التجمع عن عدد كبير 
من الشروط التى حددها فى اجتماع كمبالا لتهيئة المناخ للتفاوض. أما الثانى فقد قصد منه 
التجمع قطع الطريق على النظام للقفز بين المبادرات» لاسيما وللتجمع تجربة مريرة مع 
النظام عندما أصر على إقصائه عن مبادرة الإيقاد. وعلى ضوء هذين الشرطين فوضت 
هيئة القيادة رئيسها للاجتماع مع البشير متى ما استجاب نظامه لهما. 

رغم هذا الموقف الواضح للتجمع حول مسيرة السلام؛ ورغم التنازلات التى تقدم بها 
لدفع هذه المسيرة؛ لم يكف الصادق عن تهجمه على التجمع وعلى قيادة الحركة: 
واتهامهما بتعويق مسيرة السلام» كما لم ينكف عن اتهامه لدول الإيقاد وشركائها بعزل 
المعارضة الشمالية عن عملية السلام. وبصرف النظر عن أن دول الإيقاد هذه تضم إريتريا 
التى تحتضن التجمع؛ وتضم جيبوتى التى رعت نداء الوطن» كما يضم الشركاء أمريكا التى 


15ظ2 


أثر الصادق على سياساتهاء فقد كان أبلغ رد على دعاواه» البيان الذى أصدره منتدى 
شركاء الإيقاد فى أوسلوفى حزيران/ يونيو .2٠٠١‏ فى ذلك الاجتماع أثارت الولايات 
المتحدة والنرويج قضية التنسيق بين المبادرتين» وإشراك جميع الأطراف فى الحوار. ففى 
البيان الختامى لاجتماع أوسلو وردت إشارتان هامتان: الأولى» هى الدعوة ل تضمين كافة 
البلاد المعنية المجاورة للسودان فى الجهود الفعالة لإنهاء الصراع. والثانية هى حث رئيسى 
المنتدى (النرويج وإيطاليا) على الاتصال بالأحزاب السودانية المعنية» واللاعبين السياسيين 
الإقليميين» وكذلك المعنيين بقضية السودان من السياسيين فى القارة الأفريقية بوجه عام 
للمعاونة على التنسيق بين مبادرات السلام المختلفة.(""') ذلك القرار يعترف أولاً بدور 
الأحزاب السودانية التى لا تشارك فى مفاوضات الإيقاد فى عملية السلامء وثانياً بدور دول 
الجوار التى لا تنتظمها الإيقاد (مصر وليبيا)» كما يدعو إلى إشراك الدول الأفريقية المعنية 
بأمر السودان فى دفع المبادرة مثل الدول التى سعى قرنق واوباسانجو إلى تضمينها فى 
المبادرة . هذا يعنى أن التمييز بين أفريقيا جنوب الصحراءء وأفريقيا شمالهاء ما هو إلا وهم 
فى ذهن من قال به. نسألء لم هذه التلتلة (الشدة) التى يأخذ بها الصادق الأمورء ويلا 
براح؟ الجواب لمن وصل إلى هذا الحد فى قراءة الكتاب يؤكد أن الصادق رجل يغمّض 
دوماً على باطل يعلم ما فيه» طالما كانت له فى ذلك مصلحة. 


المسعي الإريترى 

فى الفترة ما بين ١-5‏ أيلول/ سبتمبرء انعقد المؤتمر الثانى للتجمع (فى مدينة مصوع 
بإريترياء وشهد حضوراً مكثفاً بالمقارنة مع المؤتمر الأول فى أسمرا (يونيو915١)»‏ إذ ضم 
ممثلين لكل ألوان الطيف السياسى» جاء بعضهم من داخل السودان» كما جاء بعض آخر من 
سودانيى المهاجر والشتات. وكان للشعار الذى انعقد المؤتمر تحته: إنهاء الحرب وبناء 
السودان الجديدء دلالات واضحة . وفيما يتعلق بالسلام أكد المؤتمر أن الحل السياسى الشامل 
المتفاوض عليه هو أفضل الطرق للوصول إلى تسوية سياسية للصراعء وأن التجمع بطبيعة 
تكوينه وأهدافه هو وحده القمين بتحقيق سلام عادل» وديموقراطية معافاة فى السودان. فى 
ذات الوقت لم يستبعد المؤتمر خيارات التجمع الأخرى: النضال المسلح والعمل الجماهيرى» 


56 


خاصة أن رفض النظام أن يصيخ لصوت العقل. ولتفعيل عملية السلام قرر المؤتمر ما يلى: 

١‏ تفويض هيئة القيادة بمواصلة البحث عن تسوية سلمية شاملة للصراع؛ بما فى ذلك 
المشاركة فى اجتماعات أولية ومباشرة مع النظام الحاكم. 

7 تأكيد التزام التجمع بالمبادرة المصرية الليبية المشتركة؛ ودعوته دولتى المبادرة 
للتنسيق بين تلك المبادرة ومبادرة الإيقاد للسلام . 

الترحيب بمسعى الحكومة الإريترية الرامى إلى تعزيز عملية الوصول إلى تسوية 
سياسية شاملة عبر التفاوض مع النظام. 

إلى جانب ذلكء أقر المؤتمر وثيقة تاريخية هامة» بادر باقتراحها الميرغنى وقرنق تحت 
اسم: نحو إنهاء الحرب وبناء السودان الجديد. ضمت تلك الوثيقة» والتى عرفت بإعلان 
مصوع. مبادئ إرشادية لتسيير الأمور فى السودان خلال الفترة الانتقالية وما بعدهاء 
تَ . - فيما يلى: 

© الوحدة الطوعية القائمة على الإرادة الحرة لأهل السودان» والاعتراف بالتنوع الدينى» 
والسياسىء والاثنى» والثقافى» للمجتمع السودانى. 

© المساواة بين المواطنين دون اعتبار للدين أو العرق أو النوع» ومنع التمييز والتهميش 
الذى عانت منه المرأة كثيراً والالتزام بمبدأ التمييز الإيجابى (22]100 81602100) 

« تحريم استغلال الدين لخدمة الأغراض السياسية» وحظر تكوين الأحزاب السياسية 
على أسس دينية وفقاً لما نصت عليه قرارات أسمرا. 

« قيام الحكم على مبادئ احترام حقوق الإنسان» والفصل بين السلطاتء وسيادة حكم 
القانون: والمحاسبة المؤسسية» واللامركزية الواسعة للسلطة بالقدرالذى ينهى هيمنة المركز 


على الأطراف وتهميشها. 
توفير بيئة ديموقراطية تتيح النمو المعافى والحر لكل الثقافات السودانية وتشجيع 
التفاعل بينها. 


5377 


© تحقيق تنمية متوازنة ومتكاملة» تمكن البلاد من الاستغلال المثمر لمواردها الواسعة 
والمتنوعة لصالح الشعب السودانى بأسره؛ ومن أجل رفاهيته. 

النجاح المدوى الذى أحرزه مؤتمر مصوع لم يرض بالطبع النظام الحاكم» ومن الغريب 
ألا ينبرى للتقليل من أهميته غير أكاديمى إسلامى يحسب فى عداد المنفتحين. كتب عبد 
الوهاب الأفندى فى مقال له مدهش فى جرأته أن "التجمع» بعد انفصال حزب الأمة عنه 
لا يستطيع الادعاء بأنه ممثل لكافة طوائف الشعب السودانى» وذلك لأنه أصبح اتتلاف 
للأقلياتء ولهذا لا يملك التحدث عن البلاد بأسرها. تبعآً لذلكء ما عليه إلا التقدم بمطالبه: 
شأنه فى ذلك شأن الأقليات الأخرى التى تبحث عن حقوقهاء لا التعبير عن الإرادة الشعبية 
التى يجب احترامها(*''). كان من الممكن قبول هذا الحكم الواهى إن لم يصدر من محلل 
لم يعترف فى يوم من الأيام بالتجمع (حتى عندما كان حزب الأمة جزءاً منه) كمعبر عن 
الإرادة الشعبية التى يجب احترامها. كما من الغريب أن يقضى بذلك الحكم مؤرخ سياسى 
كتب قبل مقاله هذا بعدة شهور يدعو لتجميد نشاط كافة القوى السياسية التقليدية فى الساحة 
السياسية فى السودان» حتى تتفضل الجبهة وتنعم بالديموقراطية على شعب السودان.(1"١)‏ 

تبعاً لقرار المؤتمر لم تتوان إريتريا عن القيام بدورها فى جهود صنع السلام. ففى 
1 سبتمبر/ أيلول ٠٠١‏ تم أول لقاء بين الميرغنى والبشيرء وتبع الاجتماع بيان من 
الدولة المضيفة جاء فيه أن طرفى الصراع قد اتفقا على الآتى: 


طريق العنف. 
الإنهاء السريع للحرب. والوفاء بالشروط المطلوبة لتحقيق وحدة ترتكز على إرادة 
الشعب. 


أضاف البيان أن طرفى الاتفاق» آخذين فى الاعتبار مبادرات السلام الحالية؛ وافقا على 
الدخول فى مفاوضات مباشرة بهدف الوصول إلى تسوية سلمية شاملة. وفيما نرى» فإن 
هذه العبارة تعكس إشارة مقذعة لضرورة التنسيق بين عمليات السلام الجارية. 


5/18 


وبعد أسبوع من اللقاء الاستكشافىء زار الرئيس أسياس أفورقى السودان لمناقشة العلاقات 
الثنائية بين البلدين؛ إلا أن المشكلة السودانية الداخلية تصدرت جدول أعمال الطرفين. ففى 
حديث صحفى ذكر الرئيس الإريترى أن البشير وكبار المسئولين فى حكومته "أبدوا صدقاً 
فى النواياء وقناعة بضرورة حل الصراعء!'*') كما ناشد الرئيس الإريترى المعارضة بعدم 
تفويت تلك الفرصة:, والاستجابة للدعوة لإيجاد حل لكافة قضايا الصراع. انتقد الرئيس 
الإريترى أيضاً خلال زيارته للخرطوم كلتا المبادرتين (الإيقاد والمشتركة) » قائلاً إن مبادرة 
الإيقاد ظلت اسماً بدون فعل يذكر منذ عام 1454١ء‏ أما بالنسبة للمبادرة المشتركة» قال 
أفورقى أنها لا تتضمن إلا وجهات النظر المنشورة فى الصحفء ولا تحتوى على أى أفكار 
أساسية مؤثرة . وفى حديث آخر قال الرئيس الإريترى أن نوعاً من التنافس يطغى على 
المبادرتين» ولا يستطيع السودانيون أن ينتظروا أكثر من ذلك.(*') من جانبهاء رحبت 
المعارضة بالجهود الإريتريةء وكان الإريتريون قد تقدموا بمذكرة ضافية للحكومة تعبر عن 
هذه الرؤى. وفى معرض حواراته مع الإريتريين أكد التجمع على قضايا هامة؛ على رأسها 
موقف النظام من مبادرات السلام الأخرى» خاصة وقد ظل التجمع يقول مراراً إن مسارات 
السلام المتوازية تقود للتلاعب بقضية السلام. كما نادى مجدداً بإزالة النصوص الدستورية 
والقانونية التى تتعارض مع مبداً احترام الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات» وضرورة 
تحديد طبيعة ومهام الفترة الانتقالية. 

وعلى ضوء اللقاءات الإستكشافية» ومحاورات الإريتريين مع قيادة التجمع تقدم 
الإريتريون باقتراحات محددة شملت: اعتراف التجمع بالنظامء إلغاء القوانين المقيدة 
للحريات» إجراء تعديلات على دستور النظامء مشاركة التجمع فى الحكم وفى البرلمان» 
وإعادة صياغة نظام الحكم بحيث يكون البشير رئيساً وقرنق رئيساً للوزراء . وقد أثارت 
النقطة الأخيرة ثائرة قرنق لأنها توحى بتحويل القضية إلى قضية شخصية:ء وكان الأوفق» 
فى رأيه» أن يشير المشروع إلى تكليف التجمع باختيار رئيس للوزراء بعد استحداث ذلك 
المنصب. ذلك الاقتراح» فيما نعلم» قبل به البشيرء ولكن فى اللقاء الأول (بعد عامين) 
لمناقشة المقترح قال أحد قيادات الأمن السودانى للإريتريين: دعكم مما قاله البشير. ما 
تقترحون هو تفكيك للنظامء ولن يحدث هذا إلا فوق أجداثنا. 


579 


توافق المسعى الإريترى مع عودة المهدى للخرطوم فى 7 نوفمبر/ تشرين ثان 27٠٠١‏ 
أى بعد عام من اتفاق جيبوتى ليفيدء كما قالء من هامش الحريات المتوفر لتكوين جبهة 
شعبية عريضة لدعم برنامج العمل الوطنى7'*'). ولكن بعد شهر من وصوله فى عاصمة 
البلادء لم تتسع تلك الجبهة إلا للحزب الحاكم. فعلى سبيل المثالء أعلن الأمين العام للمؤتمر 
الوطنى أن الطرفين بصدد الوصول لاتفاق حول نظام الحكم والدستورء والسلام؛ وأخيراً 
ضم حزب الأمة للحكومة. ('*') ومع تأكيد الصادق لصحة ما جاء فى تصريح الأمين 
العام للحزب الحاكمء إلا أنه فيما يبدو كان يتجاهل الغمغمات التى أخذت تبرز على السطح 
داخل حزيه بشأن زواج المصلحة هذا. فمثلاًء ذكر أدم مادبو» وهو واحد من كبار قياديى 
حزب الأمةء أن المحادثات الجارية لا تخرج عن أنها مبادرات شخصية لا تعبر عن قرار 
جماعى/؛*') من الحزب. ورغم بيان الأمين العام للحزب الحاكم؛ لم يهرع النظام لإنقاذ 
الصادق من ورطته بعد ان اوقعه فى حبايله» ففى يناير/ كانون ثان ,7١١١‏ لا بد ان تكون 
الدهشة قد اعترت الصادقء عندما أعلن غازى صلاح الدين (وهو أحد مخططى اتفاقية 
جيبوتى للسلام) فى حديث للتلفزيون السودانى أن المصالحة لا تعنى الانضمام للحكومة. 
ذكر أيضاً الأمين العام للمؤتمر الوطنى (الذى كان يتابع المفاوضات مع حزب الأمة) 
لصحيفة عريية أن المعارضة أخطأت الفهم لمبدأ المصالحة "هم يريدون تفكيك النظام بينما 
نريد نحن الإبقاء عليه وفى إطار ذلك يتم الوصول إلى رؤية مشتركة.(**') والتفكيك 
واحدة من مسكوكات الصادق اللفظية» وكان يشرحه باستبدال دولة الحزب بدولة الوطن. 
فى ذات الوقت» جاء النائب الأول لرئيس الجمهورية بالعجب. قال:إن التعددية الحزبية 
ستخرج من قلب نظام الحكم الحالى» وبعد مراجعة كاملة للأحزاب القائمة. فالشارع 
السودانى غير مقتنع بأداء الأحزاب فى الماضى وما زال يبحث لنفسه عن برنامج 
وطنى ١٠.‏ *') ذلك التصريح لا يزيح الستارعن غرور بالغ» وإنما عن تخبط مريع.خاصة 
عندما يصدر من الشيخ الجديد للنظام. كنا نحتسب أن السودان؛ منذ أن أنعم الله عليه بدولة 
الإسلام» قد وجد طريقه»ء ولكن ها هو مازال يبحث عن برنامج وطنى. تلك التصريحات 


فامهس 


بما فيها من إرباك وغلواء هى أبلغ دليل على أن الجبهة ما زالت تحسب نفسها المرشد 


260 


للحياة السياسية السودانية دون غيرهاء وليس للآخرين مكان داخل تلك الساحة إلا 
كمعاهدين صاغرين . وحقأء لم يخطئ أبداً من قال إن النظام قد وجد فى الصادق المعادل 
الشمالى لرياك مشار؛ وهذا هو المصير الذى حذره منه صحابه فى التجمع» القطط العاجزة 
عن الإمساك بالفيران. يتعجب المرء ما الذى دفع مثل هذا الخبير فى سيكولوجية الجرذان 
إلى ترك سفينة طافية على السطح ليلحق يأخرى تكاد تغرق بمن فيها فى اليم. وبما أن 
بدائع الصادق لا تنتهى» فبعد قرابة عامين من عودته عندما قررابن عمه مبارك المهدى 
شق الحزب والانحراط فى النظامء قال الصادق: لماذا الاندفاع نحو"الفطيسة (لحم الميتة)» 
والذبيحة قادمة.("*') هل يمكن أن يكون قائل هذا هو نفس الرجل الذى جاب الأرض من 
أقصاها إلى أقصاها يبشر بتغيير النظام لسياساتهء ولتوسيعه لهامش الحريات» ويدعو الدول 
التى مازالت تنتابها الشكوك حول سياساته لأن تتخلى عن تلك الشكوك وض علاقاتها 
معه؟ ثم بعد إدانته لما أسماها "الأجندات الحربية ما هو السكين الذى بقى للصادق ليقطع 
به حلقوم الذبيحة» وهو حلقوم لا يقطع باللسان. لم يكتف الصادق بتحذير الذين اندفعوا 
لأكل الفطيسة؛ بل وصف أيضاً البشير (حليفه فى جيبوتى) بضعف الثقافة السياسية واتهم 
حكومته بالسعى إلى وأد الأحزاب» وإلى مصادرة أملاكهاء واغتيالها سياسياً وفكرياً ". كما 
ندد بالحزب الحاكم الشمولى الذى يرضع من ثدى السلطة.(8؟١)‏ 

وقبل عودته للخرطوم عقد الصادق لقاءات صحفية عدة فى القاهرةء أثار الاهتمام» 
بشكل خاص. واحد منها: لقاؤه مع طاقم تحرير مجلة المصور الأسبوعية لإطلاعهم على 
موقفه قبل عودته إلى الخرطوم.(؟5') قال الصادقء فى الرد على سؤال من أحد محاوريه 
عن موقفه من حليفه الترابى الذى وقع معه اتفاقاً فى جنيف على التعاون لإقصاء البشير. 
قال الصادق عن حليفه السجين: ٠إما‏ أن يصر الترابى على موقفه الحالى وتكون نهايته 
كطالبان: أو يلتمس التسوية السياسية مع البشير بنفس الأسلوب الذى اتبعه أربكان فى 
تركياء, ولعله كان يشير إلى التنازلات التى قدمها أريكان للجيش التركى العلمانى» حتى 
يبقى على حزبه. وقد أوردنا فى الفصل السابع ملامح الاتفاق الذى نم بين الصادق 
والترابى فى جنيف, والذى كان يهدف إلى إسقاط البشير وتقاسم السلطة فيما بينهما مع 


551 


آخرين» يكون لهم زاد المجاهد السياسى . لم يقتنع السائل بتلك الإجابة المبهمة» ولذا أضاف 
: ماذا عن علاقتك الأسرية به؟ جاءت إجابة الصادق على السؤال على نحو غريب يخلو 
من أدنى المشاعرء قال: :إن العلاقات الشخصية ليس لها دخل بالسياسة» ولعلك تتذكر أن 
القانون العثمانى للحكم كان يخول للسلطان المنتخب حديثاً التنخلص من جميع أشقائه 
بقتلهم. وأنت تدرك جيدا ما أعنيه». حقآ من الذى قال أن الدم أشد كثافة من الماء؟ من 
المستحيل أن يكون الداعية لهذا المنهج العصملى فى الحكم هو نفس الرجل الذى وقع مع 
الترابى اتفاقاً لخلع البشيرء وهو أيضاً ذو القربى الواشجة معهء كما هو رفيق دربه فى 
السياسة منذ الستينيات. 


إحياء المبادرة المشتركة 


بعد بضع سنوات من الكمون تقدمت دولتا المبادرة المشتركة إلى التجمع والحكومة 
السودانية بخطة تتضمن تسع نقاطء فى 46> يوليو/ تموز 72٠١١‏ , سلمت نسخة منها إلى 
صادق المهدى. احتوت النقاط التسع على دعوة لعقد مصالحة وطنية ترتكز على 
الديموقراطية التعددية» وإعادة النظر فى الدستور والقوانين» وإقامة حكومة مؤقتة تستند إلى 
قاعدة شعبية عريضة:ء وإنشاء نظام للحكم قائم على اللامركزية» واحترام مبادئ حقوق 
الإنسان المنتصوص عليها فى المواثيق العالمية والإقليمية» والوقف الشامل لإطلاق النار. 
رحبت قوى التجمع بالمبادرةء إلا أنها لفتت نظر الدولتين إلى غياب قضيتين أساسيتين عن 
الخطة هما: حق تقرير المصيرء وفصل الدين عن السياسة»ء كما أعادت إلى الذاكرة موضوع 
دمج مبادرتى السلام (الإيقاد والمشتركة) حتى لا تصبح قضية السودان عظمة نزاع بين 
الوسطاء العرب والأفارقة. أبلغ التجمع دولتى المبادرة أيضاً أنه حين يقبل على الحوار مع 
النظام الحاكم» لا يفعل هذا بهدف عقد مصالحة معهء أوالانخراط فى مؤسساته؛ وإنما من 
أجل الوصول إلى تسوية سياسية شاملة. من جانبهاء رحبت الحكومة بالخطة بدون أى 
تحفظات؛ طبقاً لما صرح به وزير الخارجية السودانى فى مؤتمر صحفى بالخرطوم فى ؟ 
يوليو/ تموز ,7٠١ ١‏ كما رحب بها المؤتمر الشعبى (حزب الترابى)؛ رغم عدم اتصال 
دولتى المبادرة بحزبه؛ ودعا لتشكيل حكومة مؤقتة. وبلا شكء لم تَرّق للحكومة موافقة 


2582 


التجمع المشروطة:ء لأن الفكرة التى كانت تسيطر على عقلها هى كيف يمكن أن تستوعب 
المعارضة داخل الأطر القائمة» وآخر ماكان يدور بذهن النظام هو الاتفاق بين أكفاء على 
سبل إدارة دفة الحكم فى السودان على نحو يحقق السلام العادل والاستقرار السياسى فى 
السودان. ولريما كان هذا هو السبب الذى حدا بالبشير ليعلن» فى تصريح استفزازى؛ أن 
جبهة الإنقاذ لن تصفى إلا على جثته. وأن الإنقاذ وقوانينها ستبقى.(”*') هذا النوع من 
التصريحات زاد من شكوك المعارضين فى جدية النظام حول الحل السلمىء أو رغبته فى 
إقامة ديموقراطية حقيقية تلتزم بمبدأ تعدد الأحزاب. ذلك التصريح أكد من جديد أن النظام 
الحاكم لا يعنى بالمبادرة المشتركة إلا بقدرما تحقق هدفه الاستراتيجى: البقاء مهيمناً على 
الحكم» وإن تعذر ذلك» فاستغلالها كسلاح تكتيكى لكسب مزيد من الوقت لإطالة بقائه فى 
الحكم. لم يتعلم النظام حتى تلك اللحظةء أن الأسلوب الوحيد الذى يصبح به جزء) من 
الحل بعد أن ظل على مدى اثنى عشر عاماً عامل أساساً فى تعقيد المشكلة» هو التخلى عن 
روح الانتصارية الجوفاء (10ذألةام2اناتكها 5ناهناء1/2). 

الاتضاق بين عدوين لدودين 

دهش السودانيون جميعاً عندما وقعت الحركة (ناب عنها باقان أموم وياسر عرمان) , 
والمؤتمر الوطنى الشعبى الذى أنشأه الترابى (ناب عنه عمر الترابى والمحبوب عبد السلام) 
على مذكرة تفاهم ([3001) فى سياق الجهود الرامية إلى بلورة اجماع وطنى بين كافة 
القوى السياسية فى السودان بهدف الوصول إلى تسوية تاريخية» وحل شامل وسلمى للأزمة 
الوطنية. فى تلك المذكرة اتفق الطرفان على ما يلى: 

١‏ أزمة السودان منذ الاستقلال» تعود إلى هيمنة المشاريع السياسية الأحادية الرؤى 
وغياب مشروع وطنى مجمع عليه؛ وما النظام السلطوى الشمولى الراهن إلا امتداد للتجارب 
الماضية . 

" - إن خلق بيئة خصبة للسلام والديموقراطية يتطلب تنشيط المقاومة السياسية الشعبية 
ضد النظام الحالى حتى يمكن الوصول إلى سلام عادل وديموقراطية حقيقية تصون 
الحريات والحقوق الأساسية» وتمكن من التداول السلمى للسلطة. 


5263 


'"' - ضرورة إبرام عقد اجتماعى جديد يستند على الطبيعة التعددية للمجتمع السودانى, 
مما يحمى المجتمع من سياسات التمييز بين المواطنين على أساس الدينء أو الثقافة» أو 
العرقء أو الجنسء أو الإقليم. 

4 - تأكيد حق تقرير المصير كحق إنسانى مشروع لجميع السودانيين. 

- إدانة النهج الانقلابى لإسهام الانقلابات العسكرية فى تفاقم الأزمة الوطنيةء وفشلها 
فى إدارة السودان وفى إيجاد حل وطنى دائم وشامل للصراع. كما ينبغى المحاسبة على 
الفساد والجرائم التى ارتكبت بحسبانها أمراً ضرورياً لمستقبل الحياة العامة. 

اعتماد اللامركزية الإدارية؛ بالقدرالذى يراعى الحجم الجغرافى للبلاد 
وخصائصها الإقليمية. 

المشروع الوطنى لإنهاء الحرب» وتحقيق السلام العادل» وإقامة ديموقراطية حقيقية» 
يتطلب التعلون الاقليمى» وتأسيس علاقات جيدة مع البلاد المجاورة؛ وعدم التدخل فى 
شئون الدول الأخرىء واحترام النظام والسلام الدولى» كل ذلك من أجل الحفاظ على 


استقرار السودان. 
4 تبقى الحركة ملتزمة بعهدها مع التجمع. وترحب برغبة المؤتمر الشعبى» لإجراء 
حوار بناء معه. 


إلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات وحالة الطوارئ» وإطلاق سراح كافة المعتقلين 
المياسيينء وبعد ذلك كله من ميات الوصول إلى بيئة ديموتراطية صحيحة. 
- صياغة برنامج عمل مشترك يؤدى إلى تحقيق الأهداف السابق ذكرها. 

نقول وتقدرون فتضحك الأقدار» ويقول الفرنجة (دلإة/ةا عع5)5388 15 0115 000): لاشك 

فى أن زماناً جاء على أهل الجبهة» كانوا لا يتمنون فيه من العلى القدير إلا تمكينهم من 

الرقص على قبر قرنق؛ وها نحن فى زمان آخر استنتج فيه البعض أن قرنق أفضل لهم فى 

ني و لاس للعو ع ل و ا 

الحركة عليه بمذكرة تتضمن سبع نقاط (الفصل السابع) ٠‏ أوضح الترابى الأسباب التى حملته 


554 


على ذلك التقارب فى حديث لصحيفة أسبوعية تصدر فى لندن على النحوالتالى: أتمنى 
الدخول فى حوار سياسى مع الحركة؛ وخاصة أن كافة المناقشات التى دارت مع النظام قد 
شوهت بشيئين ظلا يسيطران على فكر النظام: الاعتبارات الأمنية والاعتبارات العسكرية. 
وفى نفس الحديث أكد الترابى أن وحدة شقى القطر لن تتحقق فى غياب الديموقراطية(!*') . 
لم تك تلك هى المحاولة الأولى للترابى إذ سعى فى ١115‏ إلى لقاء مع قرنق بوساطة كريمة 
من جورج حجارء وكان حجارء حتى مماته؛ مسكوناً بأمر السودان. ذلك اللقاء الذى كان 
محدداً أن يتم فى ٠‏ مايو986١‏ وأعد له باقون أموم عقب لقاءات مع حجار فى لندن 
(فبراير1110١)‏ لم يتم بسبب إصرار قرنق على أن لا يعتبراللقاء مبادرة خارج عملية 
الإيقادء أو محاولة للقفز عليها. 

أي كان الأمرء أثار اجتماع جنيف بين الحركة والشعبى لغطأ داخل صفوف التجمع حول 
مدى الحكمة فى توقيع مذكرة التفاهم» وعقد البعض مقارنة بين توقيع باقان أموم (الأمين 
العام الحالى للتجمع) على ذلك الاتفاق» وتوقيع سلفهء مبارك المهدى على اتفاق جيبوتى. 
لذلك الاتهام ما يبرره» على الأقل من الناحية الإجرائية. ردت الحركة على ذلك الاتهام 
بأن الترابى أولاً لا يمثل النظام» بل أصبح قائداً لقوة معارضة لا يستهان بها تعمل ضضد 
النظام من داخل السودان. ثانياً» يمثل نبذ الترابى لنظرية الجهاد تحولاً فكرياً هاماً لايمكن 
للحركة أن تغفله. ثالثاء أثبتت مذكرة التفاهمء بما تناولته من قضاياء أن هناك عناصر 
فاعلة داخل التيار الإسلامى مستعدة للحوار حول المسلمات الأيديولوجية التى حاربوا من 
أجلها لأكثر من أربعين عاماًء وخصوصاً خلال العقد الأخير. رابعاً» لا يتفق منطقياً تحريم 
الحديث مع الترابى بحكم أخطائه السابقة» حتى بعد تجريده من كافة صلاحياته ومجاهرته 
بحرب النظامء مع مواصلة الحوار مع البشيرء رغم استمساكه بكل الثوابت» وإصراره على 
الحرب من أجل ترسيخ تلك الثوابت. خامساًء ثبت بأكثر من دليل أن الجناح الذى يقوده 
البشير يضم أكثر عناصر النظام ارتباطأً بالممارسات المشبوهة مثل انتهاكات حقوق 
الإنسان» وجرائم الحرب» واحتضان الإرهاب. سادساًء أعلن الشعبى فى مذكرة التفاهم عن 
موافقته على مبدأ المحاسبة على كل الأخطاء التى ارتكبتها الأطراف المختلفة» بما فيها 


5255 


الجبهة» لتمهيد الأرض لغرس ديموقراطية سليمة معافاة. سابعاًء أخذت مذكرة التفاهم فى 
الاعتبار كل الشروط القبلية التى اقترحها التجمع لخلق مناخ ملائم للمفاوضات: كما شجبت 
الانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير السياسى» وأدانت شيوع الفساد فى الحياة العامة . ثامنأًء 
هذه هى المرة الأولى التى تدخل فيها قوة معارضة فى حوار مع التيار السياسى الإسلامى» 
ناهيك عن أن يكون على رأس ذلك التيار زعيمه المؤسسء الأمر الذى سيكون له أبلغ الأثر 
على التطور السياسى للسودان فى المستقبل. 

رد فعل النظام تجاه مذكرة التفاهم اتسم بالغضب كما هو متوقع؛ فقّد وصف وزير 
الإعلام» غازى صلاح الدين» مذكرة التفاهم بأنها اختراق من جانب حركة قرنق ل 
الحركة الإسلامية على نحو غير مسبوق. وفى حديث شابه الانفعال» قال الوزير مخاطباآً 
الأمة عبر التلفزيون السودانى (77 فبراير/ شباط) أن محاولة أى جماعة للتعامل مع 
الحركة المتمردةء وتأسيس تحالف استراتيجى معهاء لن يؤدى فى النهاية إلا إلى اعتبار تلك 
الجماعة حركة متمردة»ء تماماً مثل حركة قرنق. يبعث ذلك الحديث على الحيرة» خاصة 
عدن تجى ء من جاتن التفتدف الرمين وانبه للدكردة الذي نس ناهذا للدتفون فى 
محادثات مع التجمعء رغم كلما ظل يقوم به التجمع من محاولات للإطاحة بالنظامء أو 
يردده عن اقتلاع النظام من جذوره. ومن سخرية الأقدار» أن يكون غازى هو أول زعيم 
جبهوى يوقع اتفاقاً مع حركة التمرد فى ٠١‏ يوليو ٠٠١7,‏ واحد من مفكرى النظام وضع 
ذلك الصراع المحير بين الترابى والبشير فى منظوره الصحيح؛ قال حسن مكى أن الصراع 
هو صراع كلاسيكى على القوة والسلطة» وليس بصراع للأيديولوجيات: وأن مذكرة التفاهم 
لم تحد عن الإسلام؛ ولكنها عكست الأسلوب العملى البراقماتى الذى ينهجه الترابى. 
وأضاف أن دعوة الترابى لإعمال الديموقراطية والتعددية تجعل التنبؤ بموقف البشير فى 
ظل بيئة ديمقراطية صريحة وحرة أمرأً عسيراً. كما يتعذر فى نفس الوقت الدفاع عن 
موقف الترابى لأنه لم يأخذ فى حسبانه أنه شحن أتباعه بجرعات مكثفة من المفاهيم عن 
قاقر (101) 


556 


هل هذا هو الترابى الذى نعرفه؟ 

السؤال الأخير الذى طرحه حسن مكىء وتردد مثله داخل صفوف الحركة والتجمع وبين 
أصدقائهماء سؤال مشروع. فقد ظل الهدف الأسمى الذى يحارب الترابى من أجله خلال 
أربعة عقود هو إقامة دولة إسلامية فى السودان متطرفة فى إسلامويتها. لهذا حملت كافة 
المحاولات الرامية إلى وضع دستور إسلامى» ناجحة كانت أم فاشلة» ميسم الترابى. ومما لا 
مراء فيه أن الرجل كرس سنى حياته الراشدة كلها للمشروع الإسلامىء فالترابى» تعريفاًء 
هو أب الإسلام السياسى الحديث فى السودان. بالإضافة إلى ذلكء لا يجادل أحد فى أن 
الترابى هو الذى أعاد فى عام ١19٠0‏ تعريف الحرب الأهلية لتصبح جهاداء وهو الذى عبأ 
عقول شباب الجبهة بأفكار منسوبة للدين نزعت عنهم استقلالهم الفكرىء إن لم يكن 
إنسانيتهم حتى أضحوا بنادق موجهة . هو أيضأ الذى وعد شهداءهم بالحور العين. وحقيقة» 
إن كان للحركة أن تنتقى لها عدواً شيطانياً ('إع382062)» لما وجدت خيراً من الترابى 
يطابق هذا الوصف. لهذاء لاعجب إن جاءت مذكرة التفاهم ضرباً من اللامعقول فى نظر 
الكثيرين. ولكن الترابى أيضاً هو الذى أفتى بآخره أن الجهاد فى جنوب السودان حرب 
غادرة» وأزال من دستور السودان النص على دين الدولة . هل فعل هذا من باب التقية 
الباطنية »أم من أجل مصلحة سياسية محضة؟ أقدر على الرد على هذا السؤال ضاربات 
الودع ولعلهن يقلن حمدو فى بطنوء وإن كانت الثانية» فما هى مصلحة الترابى السياسية 
فى اتخاذ ذلك المسار؟ 

أبنا الأسباب التى حدت بالحركة للاتفاق مع هذا العدواللدودء ولعلنا نخمن ما الذى دفع 
الترابى (عبر ممثليه) للتوقيع على ذلك الاتفاق وانعكاسات ذلك على هويته السياسية فى 
السودان. نقول حدساً أن وراء تغيير الترابى لخط سيرهء رغبته فى إعادة النظر لصورته 
كمفكر إسلامى يمتد نفوذه لخارج السودان بعد أن تلطخت تلك الصورة بارتباط اسمه 
بالطغيان والإرهاب. وإن صحت هذه النظرية؛ فإن ذلك يصبح انتصاراً لقوى العقل 
والتسامح فى البيئة السياسية السودانية. نتظنى أيضا أن الاثنى عشر عاماً التى قضاها 
الترابى يمارس فيها سلطة مطلقة قد فتحت عينيه على حقائق الحياة فى السودان فادرك ان 


2267 


القهر لن يكون أبدا السبيل الأمثل لإقامة مشروع حضارىء أو غير حضارى. لربما أدرك 
أيضأ أن الحركة الإسلامية كلها أخذت تسير فى طريق مسدودء هذا الظن يجعل منه حقيقة 
قوله لخلصائه إن الطريق الذى تسلكه الحركة الإسلامية اليوم سيضيع عليها ما بنته فى 
أريعين عاماً وإن صح ذلك؛ يصبح التعاون مع الحركة والتجمع بمثابة بوليصة تأمين 
للمستقبل؟ 

هناك من لا يستريح لتغليب الشك لمصلحة الترابى؛ ويقترب من الأمر على طريعة أهل 
القانون: النظر إلى صحيفة السوايق (11005ء0019/1ء 5نا0ألاء,م 01 20010؟1) بيد أن السياسة لا 
تخضع دوماً للمنظومات القانونية. ولعل أكثر الناس حقداً على الترابى لا يملك أن ينكر 
قذرته على البقاءء كملا يدق لأحد أن يمه أخياءم - يقول النض أن العرائق يسن بعد 
خيانة أتباعه السابقين» إلى تقليص جبهات العداء واستئلاف قرنق استعداداً لطرحه أرضاً 
بالضربة القاضية بعد القضاء على البشير. وحدسوا أيضاً أن الترابى» واثق من قدرته على 
التغلب على البشير أولاًء ثم باقى قوى المعارضة الشمالية فى الوقت المناسب. تلك فكرة 
ساذجةء لأنها تستهين بذكاء الترابى» وتستصغر قدرات قرنق. فإن كان المراد من كل هذه 
العملية هو موت الشاه على طاولة النردء فإن الشاه لن يموت أمام لاعب متمهر. ثم ما الذى 
بقى للترابى من عمر (والأعمار بيد الله) حتى يدخل نفسه فى لعبة تنهكه وتنهك البلاد 
لعقود طويلة» أو تقود لطلاق لا رجعة فيه بين الشمال والجنوب. حقاً ليس مثل الترابى من 
يدرك نقاط القوة ونقاط الضعف الكامنة فى حكومة الجبهة» وليس مثله من هو أقدر على 
كبح جماح التطرف بين أتباعه. ومهما كانت الأسباب التى دفعته لوفاق مع الحركة» فثمة 
شيئان يتضحان: 

الأول: هو دفع تيار إسلامى هام بصورة أكثر جدية تجاه السلام والديمقراطية بصورة 
شبيهة بتلك التى ارستها قرارات اسمرا. والثانى: هو تعميق الشقوق فى منليث (8402011]5) 
الجبهة السياسى. كان غازى صلاح الدين محقاً عندما وصف العلاقة الجديدة بالاختراق» 
مع فارق هو أن الاختراق هذه المرة» كان اختراقاً سياسياً متبادلاً تراضى عليه طرفان 
بكامل وعيهما. وحتى إن كان اختراقاً بالمعنى الذى وصفه غازىء كان أخلق بأحد 


258 


مهندسى عملية استغواء مفاوضى الحركة فى أبوجا ونيروبى؛ أن يعرف بأن هذا واحد من 
أحكام اللعبة . وعلى أى فإن اجتماع العنصرين (التوجه نحو السلام والانشقاق وسط الحركة 
الإسلامية) من شأنه إفساح الطريقء ليس فقط أمام تعزيز العمل لتفكيك النظام الحالىء وإنما 
أيضاً لتحقيق التعددية المدنية الشاملة. تلك التعددية تصبح غير ذات معنى إن لم تقبل 
وجود الإسلام السياسى بحجمه الطبيعى» ودون استئثار بالدين؛ أو احتكار للحديث باسمه. 
ولربما كان هذا هوالذى يجعل الممسكين بالسلطان داخل الحكم أكثر عداء للترابى من 
خصومه الحقيقيين والافتراضيين. فالإسلام فى نظر هؤلاء هو الأداة المثلى للسلطة والثروة» 
وهؤلاء هم الذين أسماهم بنجامين فرانكلين» الأوغاد. 

الخلاف بين البشير والترابى كشف عن شىء آخر: المراوغة والخداع اللذين يتصف بهما 
الإسلام السياسى فى الوطن العربى. ففى أبريل/ نيسان »7٠٠١‏ زار الخرطوم وفد ضضم أبرز 
قادة هذا التيار يتصدرهم الشيخ عبد المجيد الزندانى» من اليمن. الهدف من تلك الزيارة 
كان هو التوسط بين الشقيقين المتناحرين من أجل إنقاذ برنامج العمل الإسلامى ‏ وكالعادة 
اتهم الوفد الزائر أعداء السودان والإسلام بالتآمر لاغتيال المشروع الإسلامى الرائدء بعد أن 
أخفقوا فى ذلك عبر الحربء ولهذاء كما ادعى الوسطاءء اتجه أعداء الإسلام إلى إثارة الفرقة 
والخلافات بين مؤسسى ذلك المشروع .0*') هذا القصور المعرفى عن إدراك مشاكل 
السودان» والاختزال المخل لماهيتهاء لايؤهل هؤلاء المتعالمين للتوسط فى حل مشكلة بين 
عسكريى جزر القمر ومدنييهاء ناهيك عن حل مشاكل بلد كالسودان تعقيداته بقدر أمياله 
المربعة المليون. ثم كيف يحق لهؤلاء الحديث فى كل منبر اعتلوه عن سماحة الإسلام» 
دون أن يروا ثمة خطأ فى طغوان نظام منسوب للإسلام» على المسلمين وغغير المسلمين 
على حد سواءء بل يسمون ذلك الطغوان بالمشروع الإسلامى الرائد. من جهته رفض 
الترابى تلك الوساطة ودعا إلى الإفراج عن كافة سجناء الرأى والعقيدة.(؟”') لم يسعد 
الوسطاء اقتراح الترابى بالإفراج عن المعتقلين السياسيين؛ كما لوأنهم ظنوا أن قمع الخصوم 
السياسيين عمل من أعمال البر والإحسان فى الإسلام. أثار ذلك التطفل أيضاً ثائرة صادق 
المهدى فنصح علماء السوء بالنظر إلى دواخل أنفسهم أولا وتعريض التجرية الإسلامية 
المعاصرة بأكملها إلى التحليل العميق قبل التوسط بين إسلاميى السودان.(**") 


5859 


المبادرات الأمريكية اللاحقة 

أسلفت الإشارة لعدد من المبادرات السلمية التى طرحتها الإدارة الأمريكية؛ وباءت 
جميعها بالفشلء ولكن استمرار الصراع؛ وشيوع حالة من اليأسء واستفحال المآسى 
الإنسانية» إلى جانب ضغوط المنظمات الطوعية؛ دفعت كلها واحدآ من أهم مراكز البحوث 
الأمريكية: مركز الأبحاث الإستراتيجية والدراسات الدولية (515©) لتدارس الوضع 
المتدهور فى السودان؛ وقام بتمويل الدراسة معهد الولايات المتحدة للسلام (10515) الذى 
يرعاه الكونقرس. وفى يوليو/ تموز١ 2٠٠١‏ قدم المركز ورقته التى صدرت تحت عنوان : 
إعادة تنشيط النقاش حول قضية السودان» وإصدار توصيات عملية للإدارة الجديدة لحوار 
مفتوح فى محفل عام وقد دعى لذلك الحوار الناشطون المعنيون بقضية السودان من 
الأكاديميين» والدبلوماسيين وبعض أعضاء الكونقرس. 

استفاد فريق العمل الذى يتصدره فرانسيس دينق وستيفين موريسون, رئيس برنامج 
أفريقيا التابع للمركزء من إسهامات أكثر من خمسين مشاركآء ومن المعلومات التى أوردها 
بعض الخبراء الملمين بالوضع فى السودان. وبناء على تلك الدراسات خلص الفريق إلى أن 
«المشكلة» الأساسية التى يتعلق بها كل شىء فى السودان هى الحرب. ولذا حث الإدارة 
الأمريكية على المشاركة بفاعلية فى ممارسة ضغوط قوية متعددة الأطراف. بالتعاون مع 
القوى الأوروبية المهتمة بالأمر من أجل إنهاء الحرب الأهلية فى السودان. أكد الفريق أيضاً 
أن سياسة الاحتواء والعزلة التى اتخذتها الإدارة السابقة (إدارة كلنتون) قد وضعت الحواجز 
أمام إنهاء الحرب فى السودانء ولم تساعد فى إصلاح نظام الخرطومء أو التخفيف من حدة 
الأزمة الإنسانية» ومن الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان فى السودان. وكبديل للسياسات 
السابقة اقترحت الورقة تبنى إستراتيجية محكمة تستند إلى الدبلوماسية» والتشاور الوثيق مع 
كافة الأحزابء والإغراء والمحاسبة» والتخطيط لمبادرات دولية متعددة الأطراف . توصل 
الفريق أيضاً إلى استنتاجين هامين: الأول هوء أن إنتاج النفط قد دفع الميزان العسكرى 
لصالح النظامء والثانى هو أن المبادرات الإقليمية المتعارضة لاتبشر بأى خير فى المستقبل. 
على ضوء هذه الاستنتاجات اقترح فريق العمل برنامجاً يتضمن ثمانى نقاط لعرضه على 
الإدارة الجديدة (إدارة بوش): 


890 


١‏ تركيز الولايات المتحدة فى سياستها السودانية على صنع السلام. 

" - انضمام الولايات المتحدة بفاعلية للمملكة المتحدة» والدرويج» والدول المجاورة 
للسودان للضغط على الأطراف المتحاربة لكيما تكون أكثر جدية فى مفاوضات السلام . 

'" - إطلاق الولايات المتحدة لمبادرة سلام إقليمية جديدة . 

4 - السعى للوصول إلى اتفاق حول ترتيبات الفترة الانتقالية يستند إلى مبدأ سودان 
واحدء ونظامين. 

عرض إغراءات متنوعة» وممارسة ضغوط مختلفة:» بغية دفع الطرفين إلى 
التفاوض بنية حسنة . 

١‏ - تنظيم خطة دولية» على أعلى المستويات من أجل بناء جنوب يحكم نفسه بنفسه 
(طانا50 ومامععع لامع -أاع5) 

- إعطاء أولوية قصوى لإجراءات بناء الثقة بين الطرفين» ومعالجة قضايا حقوق 
الإنسان والمشكلات الإنسانية بوجه عام. 

4- السعى لإنهاء المفاوضات الجارية بين السودان والولايات المتحدة والخاصة 
بالإرهاب بصورة ناجحة وإعادة العلاقات الديلوماسية. 

ع كل مراقبى الأوضاع فى السودانء وكذلك العديد من النشطاء السياسيين الغيورين 
عليه» ببعض النتائج التى توصل إليها الفريق» لاسيما تلك التى تعطى أولوية قصوى لإنهاء 
الحرب. مع ذلكء أثارت حفيظة هؤلاء أولاً ماحسبوه مسلككاً انهزامياً تجاه النظامء وتانياً 
النقد الظالم لسياسات الإدارة السابقة.(١”')‏ ومن بين ما وصم بالخطأً فى اقتراحات فريق 
العمل : ْ 

١‏ ريما يكون صحيحاً أن النفط سيغير دفة الحرب فى السودان بصورة أساسية على 
المدى الطويلء ولكن الموقف العسكرى فى الجنوب والشرق يوضح أن الحكومة ما زالت أبعد 
ما تكون عن التحصينء كما أنها فشلت حتى تلك اللحظة فى حماية مواقع إنتاج النفط 
وخطوط نقله . 


591 


؟ - إن دعوة الطرفين المتحاربين إلى التفاوض على أساس من صدق النوايا يفترض 
مقدماً أن الطرفين على خطأء وهذا غير صحيح. فجميع الأدلة تشير إلى أن فشل جميع 
المفاوضات؛ بدءا بمفاوضات كارتر فى ديسمبر/ كانون أول »١586‏ وانتهاء بمفاوضات 
إيقادء يعود لاعتقاد النظام بأن فى مقدوره إحراز نصر عسكرى. وكل ما كان يترجاه النظام 
من المفاوضات هو المزيد من الوقت لكيما يلتقط أنفاسه. ويتفق تماماً مع ذلك التكتيك 
المراوغ»؛ تلكو النظام فى المبادراتء وانتقاله من مبادرة إلى أخرى. 

" - الافتراض بعدم إمكانية إيقاف ممارسات النظام الفظيعة ضد شعبه. بما فى ذلك 
الغارات التى يقوم بها لاقتناص الرقيقء والقصف الجوى على الأهداف المدنية» إلا بعد 
تحقيق السلام» يترك ضحايا تلك الممارسات تحت رحمة نظام يواصل تلك الجرائم بلا 
هوادة . ولا يرجع توقف النظامء من حين إلى أخرء عن ممارسة تلك الجرائم إلا إلى 
تصاعد الضغوط الخارجية عليه. 

5 - تجاهل المعارضة الشمالية» وتقليص الصراع إلى مجرد صراع بين النظام الحاكم 
والحركة يجانف الحقيقة على أرض الواقع. فالحرب ليست مقصورة على الجنوب وحده. 
بل شملت شرق السودانء والجنوب الشرقى ومنطقة جبال النوبة. من جانب آخر يضفى 
إغفال التوصيات لأحزاب الشمال شرعية للنظام غير مستحقة:؛ إذ يجعل منه المتحدث 
الوحيد باسم الشمال. 

تلك الرؤى كانت تتفق تماماً مع رأى الحركة الذى نقلته؛ فى رسالة مكتوبة» وسخرت 
فيه من فكرة إصلاح النظام لأنه» فى رأيهاء أصبح فاسداً لدرجة لايجدى معها الإصلاح 
(لع«صم/ع عط ه؛ 066050060 150) أكدت رسالة الحركة أيضاً أن النظام لايمكن استكناسه 
بالوعظء والحض على مكارم الأخلاقء أو تنبيهه للوعى بمصالحهء لأن توجهات النظام 
العسكرية لا تعزى لعدم وطنيته؛ أو افتقاره للقيم الأخلاقية» وإنما هى مستمدة أساساً من 
قاعدة فكرية تتسم بالوطنية العنصرية والفاشية الدينية. وحول الجنوب» قالت رسالة 
الحركة» أن النظام يعتبر أن الله قد أوكل له مهمة دينية» وأمده بقوة سماوية لإصلاح 


02ؤ2ظ2 


مجتمعنا الوثنى؛ وكل ما يريده الآن هو تقليص فاتورة النصر عن طريق تحقيق أهدافه بغير 
طريق الحرب؛ أى عن طريق إكراه الحركة على توقيع أى اتفاقية. وفى النهاية حذرت 
الحركة من أن أى اتفاق كهذا سينتهى إلى زوايا النسيان مثل جميع الاتفاقيات النظيرة فى 
تاريخنا الحديث .("19) 

من الجلى أن فريق العمل كان يسعى لدفع عجلة الأمور نحو تسوية الأوضاع فى 
السودانء أولاً بتجزئة عملية السلام إلى مرحلتين: المشكلة الجنوبية فى البدء, ثم المشكلة 
الوطنية الشاملة من بعد. وثانياً تقليل الضغوط على النظام بشأن بعض القضايا مثل إنتاج 
النفط» والقصف الجوى على المدنيين» اقتناص النساء والأطفالء انتهاكات حقوق الإنسان» 
لحثه على الدخول فى محادثات السلام بصورة بناءة . ولكن» على أرض الواقع» أثبتت 
التجارب العديدة خلال أحد عشر عام أن النظام الحاكم لا يبغى من وراء مبادرات السلام 
إلا كسب المزيد من الوقتء ولذاء فسيسعد أيما سعادة بأى خطة سلام تساهم فى تخفيف 
الضغوط عليه . 

التوصيات التى أصدرها فريق العمل تجاهلت تماماً التحالفات السياسية الطويلة بين 
الحركة والقوى الفاعلة فى الشمالء والتى دفعت السودان بعيداً عن النماذج النمطية 
التاريخية للصراع؛ باعتباره صراعاً بين الشمال والجنوب»ء وكأن المقترحات؛ من حيث 
تريد التعجيل بحل المشكل السودانى؛ تعود بذلك المشكل إلى المريع الأول وتحول الحركة» 
على الرغم منهاء إلى مجرد حزب جنوبى لا يملك الحق مثل غيره من القوى السياسية فى 
تحديد مصير الوطن. هذا على وجه التحديد ما ظل النظام يعمل لتحقيقه طوال عمره حتى 
يستأثر بالحديث باسم الشمال كله» وكان فى مقدور النظام اكتساب تلك الشرعية الوهمية 
منذ زمن بعيدء لولا ضغوط الرأى العام الدولى. ولئن بدأ النظامء أو تظاهر بالبدءء فى تغيير 
مساره فلم يجئ هذا كحلم ليلة فى منتصف صيفء وإنما كان نتيجة لتلك الضغوط. فسياسة 
الاحتواء والعزلة وحدها هى التى ألجمت طالبان السودان عن المزيد من الخروج على 
الشرعية الدولية» بل على القيم الإنسانية. 


03ؤظظ2 


تلك المذكرة غير الموفقة أربكت السودانيين؛ وأخذ البعض يتحدث عنهاء باعتبارها 
بالون اختبار أطلقته الإدارة الأمريكية الجديدة . وليس هناك أبعد عن الحقيقة من هذا الظن» 
فالإدارة لم تكن قد بلورت سياستها حتى تلك اللحظة»ء لأن السودان لم يكن فى قائمة 
همومهاء بالرغم من كل ظنون المعلقين فى الخرطوم. وما كان للإدارة الجديدة أن تبدى 
أدنى اهتمام بما يدور فى السودان: لولا ضغوط اللوبيات المختلفة عليها. ومن المفارقء أنه 
حين كان فريق العمل منكباً على إعداد ورقته؛ء تقدم ثمانية من أعضاء مجلس الشيوخ 
(خمسة من الحزب الحاكم وثلاثة من الحزب المعارض)7*"') باقتراح يدعون فيه 
حكومتهم للعب دور قيادى فى عملية السلام بالسودان» على ضوء مشروع قانون السلام 
بالسودان الذى أقره مجلس النواب. والقانون كما يبدو من عنوانه» يهدف إلى تسريع خطى 
السلام فى السودان. ولاشك فى أن أهداف مشروع القانون كانت تتوافق مع مذكرة فريق 
العمل حول أهمية اضطلاع الولايات المتحدة بدور قيادى فى عملية السلامء إلا أنها تخالفه 
الرأى حول تخفيف الضغوط على الخرطوم. وصف مشروع القانون تلك الأهداف على 
الوجه التالى: أن الاضطلاع بعملية سلام قوية وشاملة تقودها جهات دولية تحميها من 
التلاعبء هو السبيل الأمثل للوصول إلى حل دائم للحرب» وضمان احترام حقوق الإنسان. 
وقيام سودان قادر على الاعتماد على ذاته. ولكن على خلاف فريق العمل الذى تعامل مع 
النظام بقفاز مخملىء كانت وثيقة أعضاء مجلس الشيوخ صريحة فى وصف محنة السودان 
الحالية» ومباشرة فى توجيه الوم إلى من يستحقه. شجب مشروع القانون اتباع الحكومة 
لسياسة فرق تسد لإخضاع الشعبء. وإحباطها جهود المصالحة التى تشرف عليها جهات 
دولية. كما أدان غارات المليشيات القبلية على الدينكا بهدف استعبادهم؛ واستخدام النظام 
لعوائد البترول فى المجهود الحربى» ومعارضته لكافة الخطط الرامية إلى نقل مواد الإغاثة 
تحت إشراف برنامج شريان الحياةء وحرمانه التام لمناطق بعينها (جبال النوبة) من 
الإغاثة. بالإضافة إلى ذلكء استنكر الشيوخ انتهاكات حقوق الإنسان من كل الأطراف 
واقتناص الميليشيات للنساء والأطفال الذى يحرض عليه النظامء أو على الأقل. يغض 
الطرف عن ممارسته» ووجهوا باتخاذ الإجراءات التالية: 


594 


١‏ استخدام أدوات ضغط اقتصادية ودبلوماسية لإجبار الحكومة على الدخول فى عملية 
السلام بنية حسنة. 

؟ - توجيه الدعم للمناطق التى لا تخضع لسيطرة الحكومة لعونها على إرساء دعائم 
سلطة مدنية ديموقراطية قوية» ويناء قدرات تلك المؤسسات. 

“" - تقوية الآليات الخاصة بإيصال الإغاثة إلى تلك المناطق. 

- التعاون بين الولايات المتحدة وشركائها الاقتصاديين» وبينها وبين المؤسسات 
الدولية» لتحقيق هذه الغايات. 

لا شك فى أن الإدارة الجديدة (إدارة بوش) مدينة سياسياً إلى التيار اليمينى المحافظ فى 
الحزب الجمهورىء وعلى رأسه اليمين المسيحى. ولا شك أيضأء فى أن ذلك التيار يمثل أكثر 
القوى تشدداً تجاه حكومة البشير» خاصة فيما يتعلق بسياستها فى مجال الحريات الدينية. بيد 
أن ذلك التيار الدينى-السياسى ليس هو وحده الذى ظل يحفل بقضية السودان» فكما سلفت 
الإشارة» نشأ انتلاف غير مسبوق ضد نظام الخرطوم يضم اليمين واليسار فى الولايات 
المتحدة. ففى مقال خبرى للواشنطون بوست جاء أن الوازع الاخلاقى هوالذى يوجه ذلك 
التحالف الذى يمتد من المؤتمر البرلمانى للسود (كناعناة علء812 [1502ذدع20281) إلى 
التحالف المسيحىء إلى القسس الكاثوليكيين الأصوليين. "هذا النوع من التحالف يسعد أى 
سياسى أن يتخطى الصفوف ليكون فى مقدمته(؟*'). يؤكد هذا الزعم؛ تداعى خمسة من 
أعضاء الكونقرسء بقيادة زعيم الأغلبية الجمهورية فى مجلس النواب» ديك آرمى (تكساس) . 
إلى مؤتمر صحفى فى 77 مارس/آذار ٠٠١١‏ للاتفاق على إنشاء ما أسموه المؤتمر البرلمانى 
حول السودان (15اع220) 0098165510831 5101038)»: بهدف الضغط على حكومتهم وعلى 
شركات البترول. 

هذه المنظمات الطوعية غير الحكومية لريما كانت أكثر فاعلية فى تأثيرها على الإدارة 
من الكونقرس نفسه: أولاً لتدفق المعلومات إليها بصورة أسرع بحكم التحامها المباشر 
بالمناطق التى يعنيها أمرها (عبر المنظمات الطوعية)» وبالقواعد الشعبية المؤثرة على 


505 


أعضاء الكونقرس. وثانيآً لأنها تملك بحكم ذلك الالتحام» التأثير المباشر على سياسات 
الإدارة والكونقرسء إذ ما من أسبوع يمر دون أن تطلب هذه المنظمات والكنائس من 
أنصارها ورعاياها الكتابة إلى أعضاء الكونقرس الذين يمثلون مناطقهمء أو إلى الإدارة» 
لحثهم على عمل شىء أو آخر. ولم يكن النظام؛ مع تظاهره بتحدى دول الاستكبار. غائبأ 
عن تلك الساحة إذ كلف أحد مكاتب العلاقات العامة لتحسين صورته فى أمريكاء كما 
واظب على الاستعانة بالسفراء والدبلوماسيين الأمريكيين السابقين فى الخرطومء خاصة 
تيموثى كارنىء والممثل السابق للمخابرات المركزية ملتون بيردون؛ ورجل الأعمال 
الباكستانى منصور إعجازء لتحييد التوجهات المعادية للنظام فى واشنطون.(''') ورغم ما 
دعا له فريق العملء كان أول بيان أصدره الرئيس بوش بياناً محبطأ لآمال النظام؛ وصف 
السودان فى ذلك البيان أنه يمثابة منطقة كوارث (262 01535:6)» خاصة فيما يتعلق 
بحقوق الإنسان. أضاف بوش قائلاً: «سنقف بصلابة من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان 
من كوبا إلى الصين وجنوب السودان::('"') وتخصيص بوش جنوب السودان بالإشارة 
يعنى أنه كان يستمد أفكاره حول السودان من رؤى جماعات الضغط المسيحية للمشكلة. كما 
أعلن الرئيس بوش أن حكومته ستواصل الضغوط على النظام الحاكم فى السودان لحمله على 
إنهاء الحربء وإيقاف الاضطهاد الدينى.('"') ذلك البيان كذب الظنون حول نسبة 
مقترحات فريق العمل للإدارة الجديدة» ولا شك فى أن محترفى نظرية المؤامرة لا يأخذون 
أى حدث على محمله الظاهرى» فحتى فريق العمل نفسه لم يصف مبادرته إلا أنها 
اقتراحات للإدارة الجديدة . عقب إعلان بوش للمبادئ التى ستهدى سياسته نحو السودان» 
قام بتعيين مدير وكالة التنمية الدولية» اندرو ناسيوه كمنسق خاص للشئون الإنسانية فى 
السودان» وذلك لكفالة وصول المعونات إلى ذوى الحاجة إليها فى السودان» دون تللاعب من 
جانب "الذين ينهبون تلك البلادء على حد قوله. عند إعلانه تعيين ناسيو. قال بوش أيضاً: 
يجب أن نوجه أنظار العالم إلى الأعمال الوحشية التى تجرى فى السودان. من ناحية 
أخرى» صرح وزير خارجية الجديدء كولين باولء بأنه سيولى قضية السودان اهتماماً 
خاصأء وفى جلسة استماع بالكونقرس وصف باول الأزمة السودانية بكلمات تؤلم. قال: أعلم 


596 


تماماً أنه ليس على ظهر البسيطة مأساة تقارب فى الحجم المأساة التى تتكشف للعيان فى 
السودان. مع هذه التصريحات القوية» كمنت مشكلة الإدارة فى تحديد الآلية التى تستطيع 
التعامل عبرها مع هذه المأساةء إذ كان أمامها خياران؛ الخيار الأول هو موقف الكونقرس 
الداعى للضغط على نظام الخرطومء والتعاون المباشر مع المعارضة: وهذا خيار لن 
يستسيغه النظام السودانى قطعاً. الخيار الثانى هو مذكرة فريق العمل بمركز الدراسات 
الداعية لإنهاء الحرب؛: وعدم الالتفات فى الوقت الحاضر إلى القضايا الأخرىء بما فى ذلك 
قضية الديموقراطية. ذلك خيار يتفق مع هوى النظام الحاكم فى الخرطوم» ولهذا قضت 
عليه الجماعات الأمريكية الضاغطة فى مهده . 

وبحلول أيار/ مايو بلورت الإدارة رؤيتها الخاصة حول المشكل السودانىء» وتمثلت تلك 

الرؤية فيما يلى: 
١‏ تعرير ميعوت ث رئاسى خاص بالسودان لإعادة كذ ة تنشيط عملية السلام. 
الاستمرا ار فى د تقديم المعو: نات الغذائية» والإعلان عن منح الوا لايات المتحدة أرد بعين 
ألف طن من الحبوبء بالإضافة إلى المعونات المقررةء لمجابهة الفجوة الغذائية فى 
الجنوب. 

"' - منح التجمع ثلاثة ملايين دولارء فى إطار برنامج "المبادرة الخاصة بإقامة السلام 
فى السودان» لتعزيز قدرته على التفاوض مع النظام الحاكم» وإعداد نفسه لمرحلة ما يعد 
انتهاء الصراع . 

5 مساندة مبادرة 5 الإيقاد» والسعى إلى إزالة الحواجز التى تعوق ق عملية السلام. 

5- وضع شرطين لتطبيع العلاقات مع الخرطوم هما: إيقاف النظام للقصف الجوى على 
الأهداف المدنية؛ والتخلى عن دعم الإرهاب الدولى نهائياً ((اطدءه/1:2) هذه الأولويات 
تتفق تماماً مع ما ظلت تدعو له الجماعات الضاغطة: ولعلها لا تتفق مع الأجندة التى سعى 
لها الصادق إلى واشنطونء وتوهم أنه أقنع الإدارة الجديدة بها. 

قبل إعلان بوش لسياسته نحو السودان سارع نظام الجبهة بالترحيب بالإدارة الجديدة 
ففى أول تصريح له عقب تولى بوش للسلطة» قال البشير إن حكومته لن تحاسب الرئيس 

8367 


الجديد على خطايا سلفه؛ كما أعرب عن أمله فى أن تعيد الإدارة الجديدة صياغة سياستها 
تجاه الأزمة السودانية»ء وأبدى استعداداً لمناقشة القضايا التى تؤرق بال الولايات 
المتحدة.("') ذلك تصريح يستعصى على المرء فهمه؛ لأن القضايا التى ظلت تؤرق بال 
الولايات المتحدة (قبل ١١‏ سبتمبر).ء بل بال المجتمع الدولى كلهء هى قضايا داخلية» 
بالمقام الأول» ولا يستلزم علاجها حواراً مع واشنطون. رغم هذه الكلمات الاسترضائية قال 
البشير لصحيفة خرطومية:» فى نفس اليوم الذى طالب فيه بوش بإنهاء الحرب أن تحرير 
مدينتى الكرمك ومريدى سيكون على رأس أولوياته» ثم يتبع ذلك تحرير القدس .(4"') إزاء 
هذه التصريحات المرتبكة» أصبح التساؤل مشروعاً عما إذا كانت للنظام سياسة لإنهاء 
الحرب فى الداخلء أو للتوافق مع عدوه المفترض فى الخارج: الولايات المتحدة الأمريكية . 
ثم ما الذى كان يعنيه بتحرير القدس نظام عاجز عن " تحرير أرضهء أوإنهاء حرب فى 
بلاده راح ضحيتها حتى اليوم ؟ مليون شخصء وشرد بسببها أريعة ملايين من البشرء فى 
حين لا يتجاوز عدد القتلى فى كل الحروب العربية ‏ الإسرائيلية أربعين ألفأ من عنام 
إلى عام 7٠٠١7‏ . مثل هذه الأقوال مقبولة إلى حد فى الديماغوجية السياسية» وحتى 
فى تلك الحالة لا تصدر إلا من رئيس دولة لا يخضع للمحاسبة على ما يقول؛ فالحكام 
الذين يتعرضون للمحاسبة يزنون دومآ كلماتهم. ولكنء كما رأيناء لم يعن البشير بذلك 
التصريحء غير التكابر بما ليس هو أهل له» ونحن لا نرمى الرئيس السودانى بالبهائت. 
فعقب ذلك التصريح استدعى المسئول عن شئون السودان بوزارة الخارجية الأمريكية سفير 
السودان بواشنطن (القائم بالأعمال خضر هارون) لتقديم إيضاح عمما عناه الرئيس 
السودانى بتحرير القدس. وعن التصريح الذى صدر فى نفس اليوم من متحدث باسم 
الجيش السودانى عن إنشاء معسكرات لتدريب "كتائب القدس. رد السفير كان ممعناً فى 
الغراية» وصف بيان رئيسه وإعلان المتحدث باسم جيش بلاده بالريطروطيقاء ودعا 
مسائليه أن لا يعيروا الأمراهتماماً. ويما أن الرد لم يقنع الخارجية الأمريكية؛ طالب 
الناطق الرسمى باسمها بنفى رسمىء على الأقل بالنسبة لموضوع كتائب التدريب»ء وهذا ما 
حدث بالفعل. 


5208 


أتاح تطور الأحداث فى المنطقة للإدارة الجديدة نوع من المرونة لتطبيق سياساتهاء 
افتقدها كلنتون فى العام الأخير من حكمه. فى هذا الصدد نذكر نهاية الحرب الأثيوبية ‏ 
الأريترية؛ والتقدم النسبى الذى أحرز فى تنفيذ اتفاق لوساكا المتعلق بحرب الكونغو لحل 
أزمة منطقة البحيرات الكبرى. ولكنء لكيما ينجح أى مسعى جديد للسلام كان لا بد من 
اتخاذ خمسة إجراءات متزامنة هى: 

١‏ أن يلقى التدخل الأمريكى دعماً من جانب شركائها الاستراتيجيين فى شمال وشرق 
أفريقياء خاصة أصحاب المبادرات السلمية منهم. 

؟ - أن توحد المعارضة صفوفهاء وتقدم نفسها كبديل فعال وقوى لنظام الجبهة. 

" - أن يتصاعد الضغط على النظام الحاكم» وبشكل خاص حول الانتهاكات الصارخة 
لحقوق الإنسان» واستغلال عوائد النفط لخدمة الأغراض العسكرية . ويعنى هذا أن تكون 
آليات التحكم فى النفط (على الأقل فيما يتعلق باستخدام عوائده) جزء) لا يتجزاً من أى 
ترتيبات للفترة الانتقالية . 

: - أن يدرك النظام أن المصالحة لا تعنى الاستيعابء إذ ليس هناك ما يحصن الوحدة 
ويستديم الديمقراطية» غير نظام تعددى حقيقى غير أيديولوجى. 

5 أن تنبذ المحاولات الرامية للفصل بين قضية الحربء وبين التسوية السياسية 
الشاملة» حتى لا يخلق انطباع خاطئ بأن السودان ملك لحزبين هما: نظام الجبهة الحاكم 
الذى افترض أنه يمثل الشمال ككلء والحركة التى افترض أنها تمثل الجنوب وحدها. 

ثمة مأزق آخر عانى منه كل من المعارضة والحكومة:ء ألا وهوالوهن الذى أصاب 
كليهما. لهذا فإن قدر للنظام أن يسقط من تلقاء نفسه» فإن ذلك لا يعنى بالضرورة أن 
التجمع سيصبح البديل الوحيد لهء طالما أنه لم يسهم بصورة مباشرة فى ذلك السقوط . هذاء 
أكثر من أى سبب آخرء كان يتطلب من التجمع مواصلة العمل بخياريه الأخريين: النضال 
المسلح؛ والعمل الجماهيرىء بدلاً من الاسترخاءء أو الظن بأن السلام سيجىء كهبة من 
السماءء أو منة من النظام . 


599 


من بين كل مقترحات مركز الدراسات تبنت الإدارة الجديدة فكرة تعيين مبعوث رئاسى 
رفيع المستوى لامتابعة القضية السودانية» ووقع اختيار الرئيس بوش على السناتور الجمهورى 
السابق» جون دانفورث (ميسورى) . وعند إعلانه تعيين دانفورث (" سبتمبر١١٠3)‏ قال 
بوش أن مهمة المبعوث ستكون جد عسيرة فى بلد تقود حكومته حرباً وحشية ومخزية د 
مواطنيها.(*"') وفيما يبدوء تركت الإدارة لدانفورث أن يحدد مسار وساطته؛ء بعد دراسة 
الواقع على الأرضء إذ لم تكن للإدارة خطة طريق محددة للسلام»؛ رغم التصريحات 
الداوية التى أطلقها بوش ووزير خارجيته. فى ذات الوقت كان هناك اتجاهان واضحان 
يتفقان حول الهدف والوسائل: الكونقرس والجماعات الضاغطة:ء كلاهما يريد القضاء على 
النظام» أو على الأقل إنهاء هيمنته بالصورة التى تم بها إنهاء هيمنة نظام الأبارتايد فى 
جنوب أفري يقياء أى أن يفكك النظام نفسه عبر المفاوضات (اناه ؟اء1)5 71680)12)6) أقبل 
دانفورث على مهمته بأسلوب لم يسبقه إليه أحد: حدد أربع قضايا قابلة للتنفيذ (ءا6ة00) 
يمتحن بها جدية الأطرافء وأطلق على هذه الأهداف الأربعة اسم إجراءات لبناء التقة 
(181/15) ,5ع نكدء1/1! عمألانا8 -ععمع000110)) كما أعلن أن نجاحه أو: فشله فى تحقيق هذه 
الأهداف هما اللذان سيقرران إن كان سيستمر فى وساطته؛ أو يتوقف. تمثلت القضايا الأربع 
فى: إيصال الإغاثة لمنطقة جبال النوبة والتى ظل النظام رافضاً لضمها لبرنامج شريان 
الحياة» الاتفاق على ممرات أمنة فى مناطق القتال لضمان إيصال الإغاثة لمستحقيهاء 
التحقيق حول قضايا الرق» ايقاف القصف الجوى على المدنيين. هذه بلا شك قضايا ذات 
طابع إنسانى» وكلها من تداعيات الحرب, إلا أنها ليست سبباً لها. على أن تلك القضايا 
تكتسب أهمية خاصة لأنها تقع على رأس اهتمامات الجماعات الضاغطة فى الولايات 
المتحدة. ومن المفارق أن القضية الوحيدة التى لم يضعها دانفورث فى حقيبة تبضعه 
(1156 عهأمم580) هى قضية الاضطهاد الدينى بالرغم من إثارته للموضوع فى لقاءاته مع 
الحكومة والمعارضة ورجال الدين المسيحيين والمسلمين. نقول مفارقة لأن تلك القضية 
كانت تهيمن على أجندة اليمين المسيحى الذى ينتمى إليه دانفورث نفسه. وفى حسباننا أن 
دانفورث قد رأى» بحكمتهء ترك هذا الموضوع للمشاورات المقبلة» خاصة وهو لب المشكل 
وعظمة النزاع . 


900 


أول انتصار أحرزه دانفورث كان فى جبال النوبة. ونذكر أن كل المحاولات الماضية 
لضمان وصول الغذاء إلى أهل الجبال الذين أهلكتهم المجاعاتء بما فيها تدخل كوفى أنان» 
قد باءت بالفشل. انتقل دانفورث» يصحبه اندرو ناسيوء مبعوث الرئيس بوش للشئون 
الإنسانية فى السودانء إلى المنطقة ثم عادا باقتراح محدد يتضمن وقف إطلاق النار لتسهيل 
عملية وصول الغذاء وتوزيعه على المنطقة» ولإتاحة الفرصة للزعامات التقليدية للسعى بين 
القبائل فى المنطقة لرأب الصدوع. وفى التاسع عشر من يناير7 2٠١‏ تم التوقيع على اتفاق 
حول جبال النوبة بين الحكومة والحركة فى بيرقنستوك بسويسرا تحت رعاية حكومتها 
(وقع على الاتفاق من الجانب السويسرى السفير جوزيف بوشرء ومن الجانب الأمريكى 
سيسيل دينيس قيردنز) . وكدأبهم دائماً أخذ بعض المعارضين يتساءلون: ما وراء ذلك 
الاتفاق؟ وما الذى سيكسبه الأمريكان منه؟ وكأن ليس فى إستنقاذ أرواح مئات الآلاف من 
السودانيين من الهلاك؛ ما يجيب على السؤال» ويبعث على الابتهاج. ولكن ما حيلتنا مع 
أهل الوساوس. 

موضوع الرق عولج هوالآخر بسهولة غريبة» وهى غريبة لأن النظام ما برح حتى 
زيارة دانفورث ينكر وجود أى ممارسات استرقاقية فى بحر الغزال؛ أو على الأقل كان 
ينسب تلك الممارسات لقبائل منفلتة» دون أن تكون له يد فيما ظلت تقوم به القبائل» أو قدرة 
على السيطرة عليها. ولربما كان فيما أوردناه حول هذه الظاهرة فيما يتعلق بجذورهاء ودور 
الحرب فى اشعالهاء بل حول مفهوم الرق حديثاً وقديمأء ما يكفى. وعلى أىء أوفدت 
الحكومة الأمريكية فى أبريل 7٠٠٠١‏ فريق يقوده بين كيمبيلء المدير السابق للمعونة 
الأمريكيةء إلى جانب خبراء من بريطانياء فرنساء ايطالياء النرويج للتحقيق فى ظاهرة 
الرق.(6١)‏ وفى الثانى والعشرين من مايو سلم الفريق تقريره الوافى عن ظاهرة الاسترقاق 
لوزير الخارجية الأمريكى. تضمن التقرير معلومات تفصيلية عن الأحداثء وإفادات واسعة 
من الأفراد والجماعات فى المنطقة» وتأكيدات لدور الحرب فى تأجيج عمليات الاختطاف 
القسرى . وحول النقطة الأخيرة» أفاد التقرير أن تلك العمليات كانت تتم بهدف خلق منطقة 
عازلة بين المناطق التى تسيطر عليها الحركة» وتلك التى تسيطر عليها الحكومةء يبهدف 


901 


إقصاء الجنوبيين الذين قد يمثلون رصيداً بشرياً وإستراتيجياً للحركة . أشار التقرير أيضأ إلى 
أن واحداً من أهداف تلك الحملات هو توفير جائزة للميليشيات القبلية التى لم تكن تتقاضى 
رواتب كالجيشء أو تحثها حوافز أيديولوجية على خوض الحرب مثل قوات الدفاع الشعبى . 
وفى توصياتها طالبت اللجنة الحكومة بمعاقبة جميع الذين ساهموا فى عمليات الاسترقاق» 
كما وجهتها بالسعى لدى القبائل للإفراج الفورى عن كل الرهائن. 

ولا شك فى أن النظام قد أصيب بحرج بالغ عندما أعلن جميس اقويرء رئيس اللجنة 
السودانية لاستفصال اختطاف النساء والأطفال 058)هء85,201 عط ,ه؟ عمناتصسهره© مقون5) 
(دعمهانطت ومة معمره/لا ؛ه ددناءنل6ة عط 6ه التى أنشأتها الأمم المتحدة بالتعاون مع 
حكومة السودانء أن عدد المختطفين فى الفترة ما بين عامى ٠٠١١-١984‏ بلغ عشرين 
ألفأء وهورقم يقارب ما أوردته إلى ونسيف (أربعة عشر ألفاً بين عسامى 
1448-7(" ) إلا أنه لا يقارب الأرقام المبالغ فيهاء التى جاءت بها منظمة التضامن 
المسيحى (مائة ألف) . وكانت تلك المنظمة قد جعلت من موضوع الرق فى السودان» 
وشجعت غيرها على جعله» تجارة اضطر معها الناطق الرسمى باسم الحركة. سامسون 
كواجىء للقول: كفوا عن هذا العبث (استرداد المختطفين مقابل فدية)» وأنفقوا المال على 
تنمية الجنوب(""'). وكان كواجى يتحدث عن الأموال التى جمعت فى أمريكا وكندا 
لافتداء أسرى مزعومين؛ فى حين كان جزء كبير من تلك الأموال ينتهى فى أيدى أفراد 
يتاجرون بذويهم» يشاركهم فى ذلك نفر محدود من قيادات الجيش الشعبى الميدانية فاقدة 
الضمير. رغم إفادة أقويرء ثابر النظام على التهوين من عدد المختطفين» كما كان ينكر من 
قبل وجود ظاهرة الاسترقاق اصلاً. ففى تصريح لأحمد المفتى» رئيس اللجنة المكلفة 
بمتابعة القضيةء جاء أن عدد المختطفين لا يتجاوز الثمانية آلاف(1'')؛ وكأن استرقاق 
ثمانية آلاف مواطن فى دولة تنسب نفسها للحضارة وللإسلام؛ أمر غير ذى بال. ولعل 
إجلاء هذه الحقائق يعيد إلى الذاكرة ما نبه إليه الأستاذان عشارى محمود وسلمان بلدو قبل 
أربعة عشر عاماًء فكان جزاؤهما النوبيخ؛ عملا بالحكمة البلهاء التى تقول ليس كل ما 
يعرف يقال. هذه حكمة من لا يفكرون بعقولهم. ففى قصة شينوا اشيبى رجل الشعب 


902 


(ع1ممء2 ع1 01 8430)» قال الراوى: ترداد القول الشين عما يدور داخل القرية فى 
خارجها يهدم القرية كلها. هكذاء كما يقول اشيبىء يفكر بعض الناس ببطونهمء لا عقولهم. 
قضية القصف الجوى على الأهداف المدنية كانت هى العقبة الكئود التى كادت تتعثر 
عندها جهود دانفورث» خاصة وذلك القصف لم يعد فقط جزم من تكتيكات النظام 
العسكرية؛ بل أيضاً عملا إستراتيجياً يهدف إلى تقويض الحياة المدنية فى الجنوب. وريما لم 
يتعلم النظام بعدء كما قاناء الدرس الأول فى قانون الحقر. ففى نهاية فبراير؟ 7٠١‏ قام 
الجيش السودانى بضرب أحد التجمعات المدنية فى الجدوب» ولسوء حظه كان تجمعاً لطالبى 
الغوث فى أحد مراكز الأمم المتحدة للإغاثة (برنامج الغذاء العالمى) . نتيجة لذلك الحادث 
قتل سبعة أشخاص وجرح مائتانء مما قاد إلى إدانة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى 
للقصف. من جانبهاء أعلنت الولايات المتحدة وقفها لكل الاتصالات مع النظام ما لم يقدم 
اعتذاراً عن الحادث وتوضيحاً لدواعيه . وفى الثامن والعشرين من فبراير اعتذر النظام على 
الحادث وأبدى استعداده لقبول وقف القصف الجوى على الأهداف المدنية تحت رقابة 
خارجية!('''). وهكذا حال عنز السوء: وكان كعنز السوء قامت بظلفها إلى مدية تحت 
التراب تشيرها. وفى نهاية مارس وقع الفريقان اتفاقاً يقضى بإيقاف القصف الجوى 
للأهداف والمنشآت (20111165) المدنية حسبما تعرّفها اتفاقيات جنيف. واتفاقيات جنيف 
واضحة فيما تعنيه بالمدنيين» كما أن تعبير المنشآت المدنية (المدارسء المستشفيات» مراكز 
الإغاثة) ينبغى أن يكون واضحاً للذين والوا بالقصف مدرسة كاودا فى جبال النوبه» 
ومستشفى محفظة السامرى (0556ا2 5311321032) بالجنوبء ومراكز الإغاثة فى الاستوائية 
وبحر الغزال. كعهده دومأء سعى النظام لإدخال مؤمسات النفط فى قائمة المنشات المدنية» 
إلا أن الحركة رفضت هذا التفسيرء باعتبار أن النفط قد أصبح جزءا من المجهود الحربى 
للنظامء وليس هوء بأى حالء رافعة للاقتصاد الوطنى. لهذاء أكدت موقفها القديم بأن كل 
مناطق ومؤسسات إنتاج وتصدير ونقل النفط ستظل هدفاً عسكرياً مشروعاً. مع هذا الرأى 
اتفق المسئولون الأمريكيون عندما صرح واحد منهم بأن أى خسائر مدنية تقع فى مناطق 
إنتاج النفط يجب أن تعتبر أضراراً موازية أو غير مباشرة(١"')‏ (عج2تمقل لدمعنهاام) . 


503 


لماذا دار فى خلد النظام أن الإدارة ستكون أقل قسوة عليه من إدارة كلنتون؟ ريما كان 
على راس الاسباب ظنه بان تعاونه الآمنىء والذى بدا منذ عهد كلنتون قد جب كل ما قبله . 
وللتعاون الأمنى بين البلدين تاريخ طويل منذ ١197‏ حين ضاق النظام ذرعاً بالقيود 
الأمريكية عليه» وبدأ الوعى ينساب فى عقول بعض أهله بأنهم يسلكون طريقاً وعرة. ففى 
الثالث من مارس ١595‏ اجتمع الفاتح عروة مع مسئول من وكالة المخابرات المركزية فى 
فندق حياة ريجنسى فى آرلنقتون» فيرجينياء لإبداء الرغبة فى التعاون بين الطرفين على 
تقليص نشاط بن لادن» والذى كان يقيم حتى تلك اللحظة فى السودان» خاصة بعد أن 
رفضت السلطات السعودية استلامه لأنه لم يعد من رعاياها.("') ولا ينتمى عروه لتيارات 
الجبهةء وإنما جاء به البشير كمستشار له فى الأمن نسبة لخبراته الأمنية السابقة فى عهد 
نميرىء ربما محاولة منه لتحييد بعض أجهزة الجبهة الأمنية التى أصبحت لها أجندتها 
الخاصة. لم يلبث عروة طويلاً فى موقعه كمستشار للرئيس فى شئون الأمن» بل دحرجه إلى 
أعلى خبراء الدحرجة فى النظامء والذين يبدوأن الرئيس نفسه لم يكن فى مأمن من 
أخابيليق رحن فى البدة» وديرا للدولة للدفاع» ثم سمى من بعد سفيراً بالولايات المتحدة . 
وإزاء ضغوط بعض أعضاء الكونقرس على الإدارة لرفض ترشيحه لإرتباط اسمه؛ فيما 
زعمواء بأحداث وقعت فى جويا عندما كان وزيراً للدولة للدفاع» عين سفيراً فى الأمم 
المتحدة . ويما أن ذلك الموقع ليس هو أكثر المواقع الدبلوماسية مناسبة لعروةء بات واضحاً أن 
المبتغى من إيفاده إلى ما وراء الأطلسى ليس هو الأمم المتحدة؛ بل الولايات المتحدة. ولا 
شك فى أن عروة لعب دوراً هامأ فى تيسير الاتصالات الأمنية مع الولايات المتحدة» والتى 
انتهت بإرسال فريق كامل من المحققين من الوكالة المركزية للمخابرات (1.8.©) والمكتب 
الفيدرالى (1.8.1) . قضى ذلك الفريق تسعة أشهر فى السودان» جاب فيها القطر كله ليطلع 
على ما يريد الاطلاع عليه» أو بالحرى ما أراد النظام تمكينه من الإلمام به. بيد أن الحال 
تبدل كثيراً بعد أحداث الحادى عشر من ايلول اسبتمبر01٠2؛‏ عندما وجه الرئيس بوش 
ا ا ل .. منذ ذلك التاريخ فتحت 
الأبواب» وشقت الصدورء واشرأبت الأعناق» وتاقت الأنفس إلى عناق المستكبرين. ولا ريب 


504 


فى أن التعاون قد أثمر بالنسبة ل "المستكبرين» إذ صرح مسئول أمنى أمريكى بما يلى :قبل 
أحداث الحادى عشر من سبتمبر منحنا النظام السودانى الدرجة (©) على تعاونه» أما الان 
فيمكن ان نمنحه الدرجة(ه.(72١)‏ 
ظن النظام بعد أن كاد يبلغ مرحلة القطبية فى موالاته للشيخ بوشء أن اسمه سيرفع من 
قائمة الإزهابء وأن الإدارة التى منحه رجال أمنها الدرجة (4) ستكف عن ملاحقته فى 
قضايا حقوق الإنسان. وكما تعامل الصادق مع الولايات المتحدة وكأنها جمهورية من 
جمهوريات الموزء ظن البشير أنها دولة» مثل دول أخرىء يحركها الرئيس ورجال أمنه. 
مادرى أن كل رجال الرئيس (3165 206510655 106 [41) لم يفلحوا فى استنقاذ نيكسون من 
هجمة الكونقرس والصحافة»ء ومنظمات المجتمع المدنى عليه. نعم» خاب توقع النظامء ففى 
حديث له فى العشرين من حزيران/ يونيو احتفاء بذكرى أحد مناضلى حقوق الإنسان فى 
أمريكا (لوى سوليفان)» قال بوش «وقف الإرهاب خارج السودان لا يغنى عن الجهد لوقف 
الحرب داخله . لقد قدم السودان مساهمات مفيدة فى الحملة على الإرهاب العالمى»: وعليه أن 
يفعل المزيد. كما أنه لا يمكن مواصلة الحديث عن السلام» فى الوقت الذى تعرقل فيه الحكومة 
تعرقل وصول الإمدادات الغذائية للجوعى؛. وحين قرر بوش فى "١‏ أكتوبر»؟ 2٠١‏ تمديد 
وضع السودان فى قائمة الدول الراعية للإرهاب لعام آخرء أعلنء وزير الخارجية باول أنه 
"مازال لدى السودان طريق طويل ليسلكه قبل رفعه من قائمة الدول التى ترعى الإرهاب. 
ولربما كان أخطر ما أبداه بوش من رأى عند تمديده لوضع السودان فى قائمة الإرهاب قوله 
أن بعض السياسات والأنشطة التى تمارس فى السودان تمثل «عملاً عدائياً ضد مصالح 
الولايات المتحدة وتهديداً مستمراً ذا طبيعة استثنائية وفوق العادة0هة [تناكناهنا) 
(/إ6)2200821 لسياسة الولايات المتحدة وأ أمنها القومى؛ . تلك هى المرة الأوا لى التى اعتبرت 
فيها الإدارة الأمريكية ما يدور فى السودان تهديداً مباشراً لأمنها القومى. 
مهما يكن من أمر فى السادس والعشرين من أبريل :7٠٠١”‏ وبعد نجاحه فى استخراج 
وفاق بين الطرفين على سبل معالجة القضايا الإنسانية تقدم دانفورث بتقريره للرئيس بوش. 
ذلك النجاح دفع دانفورث لدعوة الرئيس لمواصلة جهوده من أجل السلام بصورة نشطة 


505 


وتعاونية (011260221)0976ء 0مة عناعع1ءمع) مع الآخري ين. من هم الآخرون» أهم دول الإيقاد» 
أو مصرء أو دول الاتحاد الأوربى التى أخذت تلعب دوراً فاعلاً فى موضوع السودان 
(بريطانيا والنرويج)؛ أو تعنيهم جميعاً؟ الرد على هذا السؤال كشف عنه فى مؤتمر صحفى 
ولتر كاينشتاينر» مساعد وزير الخارجية للشئون الأفريقية» قال الدبلوماسى الأمريكى أن 
حكومته ستدعم مبادرة الإيقادء وتتعاون مع لاعبين رئيسيين فى أوريا مثل بريطانيا 
والنرويج» ودول الإيقادء كما ستتعامل مع جيران السودان مثل مصر. 

أوصى دانفورث أيضاً بأن يكون دور الولايات المتحدة حافزا (©1الإ!ة22)» بمعنى أن لا 
تكون لها مبادرتها الخاصة بالسلام فى السودانء إلا أن بعض توصياته كانت تتعارض 
تعارضاً أساساً مع مبادرة الإيقاد. فقد جاء فى توصياته مثلاً» أن يبقى السودان موحداً لأن 
الخرطوم لن تقبل أبداً الاعتراف بحق تقرير المصير للجنوب» وشريطة أن تحترم فيه كل 
التعددات. ولا خلاف بين القوى السياسية فى الشمال والجنوب حول الوحدة؛ وإنما خلافهم 
حول شرائطها وماهيتها. أما تقرير المصير فقد أصبح ولا لالد السياسة السودانية 
وليس بصحيح أن الحكومة ترفضه . وإن كان هذا هو ما استشف دانفورث من محادثاته 
معها (وهى حكومة تتحدث بأكثر من لسان)؛ » فلا شك أن ماشاكوس قد أثيتت خطأ 
استنتاجه وختلان محدثيه فى الخرطوم. تطرق التقرير» من جانب آخرء إلى موضوع 
اقتسام عوائد النفط بين الحكومة والجنوب بصورة استفزت الحركة. هذان الجانبان فى تقرير 
دانفورث دفعا الحركة للقول ان إقرار الوحدة لابد أن يكون بطوع أهل الجنوب عبر 
الاستفتاء» وأن إغفال الإشارة لحق تقرير المصير لا يلغى فقط الإرادة الشعبية» وإنما يفقد 
الحركة واحدأ من أهم كروتها فى التفاوض. أضافت أن فى موقف دانفورث حول تقرير 
المصير تجاوز) للحدود لأنه قفزفوق ما اجتمعت عليه إرادة المعارضة الشمالية» بل 
والحكومة حول تقرير المصير(اتفاق فرانكفورت) . أما الاقتراح باقتسام عوائد البترول بين 
الجنوب والحكومة» فعدته الحركة إهانة لها وللجدوبء بل للسودان كله. وفى لهجة حادة» 
قالت الحركة أن مقترحات المبعوث حول النفط تعكس منهجا ساذجاً فى التعامل مع 
حكومة تخرق العهود بنفس السرعة ألتى تبرمها بها. 


5206 


وبالطبع؛ رحبت الحكومة بتقرير دانفورث: إلا أن فرحتها لم تدم؛ ففى الثانى والعشرين 
من مايوء وبعد إطلاعه على التقريرء أعلن الرئيس بوش فى بيان صادر من البيت الأبيض 
ما يلى: يجب أن نرى أفعالاً لا مجرد كلمات. فحكومة السودان لا يمكنها أن تقدم وعودآ 
جوفاء (حول السلام) بينما تتواصل الحرب. أضاف الرئيس قائلاً: «يجب وقف التدخل فى 
تسليم العون الغذائى؛ يجب إيقاف مهاجمة المدنيين» ويتعين على الحكومة الإيفاء بشكل 
كامل بكل تعهداتها لدانفورث.. ويجب أن تدرك بأنها لا تستطيع أن تكسب الحربء وعليها 
أن تسعى للسلام:. أثار التقرير أيضاً الجماعات الضاغطة فى أمرين: الأول هو إغفال 
موضوع حق تقرير المصيرء والثانى هو تعامل التقرير مع طرفى النزاع وكأنهما يتحملان 
نفس القدر من المسئولية عن تدهور الأوضاع الإنسانية . عبن أولئك عبر السيناتور براونباك 
بقوله: «الطرفان ليسا متساويين فى المسكولية» فالذى ينادى به الجنوب يتفق مع مبادئنا 
حول الحرية والديمقراطية» فى حين أن العنف الذى يشهده الشمال موجه للإرهاب والكبت 
والانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان». 

الإيقاد: عود على بدء 

فى العشرين من يوليو/ تموز؟ »"٠ ٠‏ وفى مدينة ماشاكوس بكيذيا وقع مالم يكن فى 
الحسبان» فبعد خمسة اسابيع من التفاوض المضنى بين النظام والحركة تحت رعاية الإيقاد 
ومشاركة المراقبين» وقع اول اختراق (50ناه0631)850) فى المحادثات. تميز ذلك الاجتماع 
عن سابقاته بمشاركة فعاله من شركاء الإيقاد» والذين تقلصوا إلى ثلاثة (الولايات المتحدة » 
بريطانياء النرويج) أطلق عليهم اسم الترويكاء ثم صار اسمهم بعد انضمام إيطاليا إليهم 
الترويكا + واحد. الدول الثلائة تقدمت بمشروعها للحل» وكان مشروعاً هجيناً. فبالرغم من 
اعتماده على إعلان المبادئ» سعى المشروع لإسقاط الإشارة إلى حق تقرير المصيرء 
وكبديل لذلك تبنى مقترح معهد الدراسات (دولة واحدة ونظامين) . من جانب آخرء حاول 
الوسطاء الالتفاف على قضية فصل الدين عن الدولة باقتراح شبيه لما ظل النظام يتقدم به 
منذ مفاوضات أبوجا. ذلك المقترح نقله إلى مصر الجنرال سمبويويو فى زيارتين متتاليتين» 
تبعهما لقاءان للرئيس موى مع الرئيس المصصرى فى القاهرة. أما القضايا التى تعنى 


507 


التجمع؛ خاصة أحزاب الشمالء؛ فقد رأى أحد الشركاء (بريطانيا) أن تترك لما بعد حسم 
قضية الحرب. وكان جلياً أن هناك ثمة تباينأء إن لم يكن تناقضاء بين مواقف أطراف 
الترويكا. فبريطانيا كانت تفضل حكما إقليمياً للجنوب» دون دخول فى موضوع حق تقرير 
المصير للجنوبء أو التعددية الحزبية فى الشمالء كما توافق النظام على رأيه فى أن فى 
استثناء الجنوب من تطبيق الشريعة ما يكفى. ومن الواضح أن ممثليها قبل المفاوضات قد 
قرروا التغافل التام عن ما ظلت تقول به الحركة من أنه إن كان للسودان أن يبقى موحداً 
فلابد من أن تصبح كل مؤسسات حكومة الاتحاد (501765012650 00108)» وليس الجنوب 
وحدهء مناطق خالية من الشريعة (20265 ع6 - 513113) هذا الموقف الذى تبناه السفير 
الآن قولتى كان يتناقض حتى مع موقف الوزيرة البريطانية كلير شورتء. وزير الدولة 
البريطانى للتعاون الخارجى والتى أبدت تفهما كبيراً لموقف الحركة؛ء وظلت تنسق مواقفها 
فى هذا الشأن مع رصيفتها هيلدا جونستون. 

أما أمريكا فقد راق لها (أو بالحرى لممثليها فى المفاوضات) طرح معهد الدراسات حول 
دولة واحدة ونظامين» وم : تبال كثيراً بالإبقاء على النص الدستورى حول الشريعة كمصر 
للتشريع فى الشمالء طالما أعفى الجنوب منها . ذلك الموقف أيضاً يختلف كثيراً عن موقف 
الكونقرس والجماعات الضاغطة., والذى أبانته بوضوح تام فى جلسة الاستماع حول 
السودان التى عقدت بالكونقرس فى الخامس من يونيو” 2١١‏ . وبغياب أى رؤى واضحة 
للإدارة حول طرائق تحقيق السلام فى السودان» بقى أمر السودان محل اهتمام المستويات 
الوسيطة فى وزارة الخارجية. فقصضية ة السودان ليست هى الصراع العربى ‏ الإسرائيلى» أو 
قضية العراقء أو كوريا الشمالية التى يقر رأمرها فى أعلى مستويات صنع القرار. ولعل 
البواعث الشخصية فى حالة السودان» لا الاعتبارات الإستراتيجية 5 المواقف المبدئية» هى 
التى حفزت هؤلاء الدبلوماسيين على اتخاذ المواقف التى اتخذوها. من تلك البواعثء مثلاء 
التفاخر بالنجاح فيما عجز عنه الأوائل. لربما كان السبب أيضأ هو سوء التقديرء ظناً منهم 
أن أى سلام خير من الحرب. وإن صح هذا الافتراض؛ يصبح موقف الممثل البريطانى 
على وجه التحديد فى غاية الغرابة» فأولاً» بريطانيا- وليس غيرها ‏ هى التى ما انقكت 
حتى بعد استقلال السودان» تؤكد الطبيعة الخاصة للجنوب. ثانياً بريطانيا هى التى أورئت 


508 


السودان دستوراً شبه علمانى» ظلت كل الأنظمة الديموقراطية فى السودان تلوذ به» بحيث 
إن المرتين اللتين استبدل فيهما ذلك الدستور بدستور مستمد من الدين كانتا فى ظل حكم 
عسكرى. وكأن مندوب بريطانياء لأسباب خفية على البشرء قرر أن نظام الجبهة هو الممثل 
الشرعى لكل مسلمى السودان الشمالى. ذلك الموقف تبدل إلى حد ما بعد زيارة كلير شورت 
إلى رمبيك وإطلاعها على حقيقة الموقف على الأرض. ومما لا شك فيه أن توالى الرقابة 
على المراقبين من جانب أعضاء الكونقرس المهتمين بقضية السودان» ثم من الجماعات 
الضاغطة عبر الولايات المتحدة؛ لم يترك للمراقب الأمريكى هامشأ كبيراً للمبادرات 
الفردية» فى حين انعدم هذا الأثر على المبعوث البريطانى لعدم وجود مثل هذه الجماعات 
الضاغطة فى بريطانيا. ثم جاء توقيع الرئيس الأمريكى فى "١‏ أكتوبر7١٠٠7‏ على قانون 
السلام السودانى الذى أقره مجلس النواب منذ بصّعة أعوام إلا أن مجلس الشيوخ و الإدارة لم 
يقراه لاحتوائه على بند معين يفرض حظراً على شركات النفط العاملة فى السودان. وكان 
من رأى الإدارة أن مثل ذلك الحظر سيفتح شهية جماعات أخرى فى الولايات المتحدة» 
مثل جماعات حماية البيئة» لتطبيق هذه السابقة على الشركات الكبرى المتهمة بتلويث 
البيئة . وبعد تعديل ذلك النص بصيغة مرضية للإدارة أجيز القانون برمته. 

دعا القانون الإدارة إلى دور فاعل من أجل تحقيق السلام فى السودان: كما أدان فى ثمانى 
فقرات حكومة السودان» خاصة فى مجالات الحرب؛ حقوق الإنسان» إعاقة وصول الغذاء 
للمحتاجين. نبه القانون أيضاً إلى أن الطريق الأمثل لتحقيق سلام عادل وشامل هو مبادرة 
الإيقادء خاصة إعلان المبادئ الذى أرسته وقبل به الطرفان. وطالب القانون الرئيس بأن 
يخطر الكونقرس بعد ستة أشهر من توقيعه عليه إن كان الطرفان يفاوضان بحسن نية» وإن 
ثبت أن الحكومة لم تكن حسنة النية فى التفاوض أو عرقلت وصول المعونات الإنسانية فعلى 
الرئيس» بعد إخطار اللجنة المختصة فى الكونقرسء: فرض عقويات دبلوماسية واقتصادية» 
ودولية (حظر من مجلس الأمن) على حكومة السودان. هذه العقوبات تسقط إن جاءت عرقلة 
الاتفاق» أو انعدام حسن النية من جانب الحركة. وفى الجوانب الإنسانية كلف القانون الرئيس 
الأمريكى باتخاذ إجراءات عن طريق مجلس الأمن فى الحالات التى تعرقل فيها الحكومة 


909 


المعونات الدولية تحت برنامج شريان الحياة. وكبديل للمادة حول فرض الرقابة والحظر على 
الشركات العاملة فى مجال النفط التى إعترضت عليها الإدارة يطالب القانون وزير الخارجية 
الأمريكى بأن يقدم كل ستة أشهر تقريراً عن تمويل ععمليات النفط فى السودان وأثر هذه 
العمليات على أهالى مناطق إنتاج البترول» ودور استخدام عوائد النفط فى الحربء وإلى أى 
مدى جاء التمويل من سوق المال الأمريكى. على أن أخطر نص فى القانون» والذى لم يلق 
اهتماماً كبيراً من المعلقين هو ذلك الذى يصم النظام السودانى بجريمة الإيادة (علاء ممعع) . 
ويلزم الاتفاق الدولى ضد الإبادة البشرية الدول الموقعة عليها (وعلى رأسها الولايات المتحدة 
الأمريكية) باعتبارالإبادة» فى زمن الحرب أو زمن السلم؛ جريمة تلتزم الدول الموقعة متابعة 
مرتكبيها ومعاقبتهم. إلحاق تهمة الإبادة بالنظام» أكثر من أى نص آخر فى قانون سلام 
السودان» ستظل هى السيف المعلق على رأس النظام. 

ذلك الدع شد كيرا من ازر الحركة فى لسنساكها بالتقطنين الموقزيتين فر طايه 
السياسى: حق تقرير المصيرء والفصل بين الدين والدولة على المستوى الاتحادىء إن كان 
للسودان أن يبقى موحدا فى المرحلة الانتقالية. وأبلغت الحركة الوسطاء والرقباء أن ذلك هو 
الحد الأدنى (156.آ 801050 )» ولهذا ظل الاتفاق فى كف عفريت حتى الثامن عشر من 
يوليوه حيث أخذت الحركة تعد العدة لإصدار بيان تعلن فيه الأسباب التى قادت إلى انهيار 
المفاوضات. هذه حقائق يتوجب على من ظلوا ينسجون الأباطيل حول الضغوط الأمريكية, 
أو الحلول المفروضة الوعى بها. وفيما نخمنء ظن هؤلاء أن هناك طبخة جاهزة أعدت فى 
واشنطون وما على الحركة (التى هى طوع بنان واشنطون حسب اعتقادهم) إلا ازدرادها 
على كره. ولعل النظام نفسه جاء إلى المفاوضات وهو واثق كل الثقة أن الحركة ستبصم 
بأصابعها العشرة على ما تقدم به الرقباء» ولكن ما أن خاب الظن حتى أخذ وفد النظام يعيد 
حساباته . وفى الساعة الحادية عشرة أعلن موافقته على: 

- قيام دولة واحدة بنظامين أى دولة من ثلاثة كيانات (الجنوب؛ الشمالء الكيان 

الاتحادى)» والاعتراف للجنوب بحق تقرير المصير عند نهاية الفترة الانتقالية» حتى وإن 
أدى ذلك إلى الانفصال. فى ذات الوقت أكد الطرفان التزامهما بوحدة السودان على أسس 


9210 


جديدة؛ ودعمهما لخيار الوحدة وفق نظام الحكم المدفق عليه فى البروتوكول. على أن 
الحركة لم تفلح فى إقناع النظام بأن تتمتع ولايات الشمال التى ينتظمها الكيان الشمالى 
بنفس الحقوق التى تتمتع بها ولايات الجدوبء أو أن يكون هناك كيان جامع ينتظم ولايات 
الشمال. 

؟ - قيام فترة انتقالية مدتها ست سنوات» تسبقها فترة تمهيدية ١(‏ أشهر) للإعداد 
للمرحلة الإنتقالية . وكانت الحركة قد اقترحت فترة عامين» فى حين طالب النظام بفترة 


 '"'‏ بقاء الكيان الجنوبى منطقة خالية من القوانين الدينية. 

: - تكوين لجنة قومية نمثيلية (001015155102) ع/الأهامء5عمع16 21210081) لمراجعة 
الدستور ووضع أطر دستورية / قانونية جديدة قبل بدء المرحلة الانتقالية. 

5 قيام فترة قبل انتقالية (065-10167119) مدتها ستة أشهر بعد توقيع الاتفاق لإكمال 
الإجراءات الدستورية والقانونية التى تمهد للفترة الانتقالية. 

5 - بقاء الشريعة والعرف كمصدرين للتشريع فى الشمال. 

- تكوين حكومة قومية لتمارس الوظائفء وتجيز القوانين» على المستوى القومى. 

4 - جعل المواطنة لا الدين» أساساً للحقوق والواجبات بما فى ذلك حق تولى جميع 
المناصب بما فيها منصب رئيس الجمهورية. 

1 تكوين لجنة دولية للإشراف على تنفيذ هذه الإجراءات تضم الطرفين والوسطاء 
والرقباء وممثلين لدول الجوار والمنظمات الإقليمية يتفق عليهم الطرفان. 

وكان المراقبون قد أعلنوا للطرفين بأن هذا الحل ينبغى أن يأخذ به الطرفانء وإلا 
اضطروا للذهاب للمرحلة «ب٠؛‏ دون أن يبينوا ما يعنون بالمرحلة «ب0. وبقبول النظام 
للصيغة المقترحة» قدم كل من الطرفين بعض التنازلات. التنازلات» من ناحية النظام» 
كانت هى قبول حق تقرير المصير للجنوب؛ مهما كانت نتائجه» وإخراج الجنوب والدولة 
الاتحادية من نطاق الأحكام المستمدة من الدين» وتعديل الدستور والقوانين عبر آلية قومية . 


911 


تلك الأمور ظل النظام دوماً يرفضها حتى فى إطار المبادرة المشتركة:» وبين يدينا 
تصريحات الرئيس وأقطاب النظام عن أن دستور وقوانين النظام لن تلغى إلا على جثثهم. 
من الجانب الآخرء تنازلت الحركة عن طرح العلمانية» وقبلت نظاماً لا يضمن للجنوب 
وحدهء بل للدولة الاتحادية أيضأء الخروج من ربقة القوانين الدينية. كما أقرت» فى باب 
الدولة والدين من الاتفاقء حرمة الأديان (وليس ديناً واحدا) , والأعرافء والمعتقدات. 
ودورها كمصدر إيحاء وقوة خلقية لشعب السودان. بذلك الاعتراف نفت الحركة عن نفسها 
الأفكار الذائعة حول الطمانية» بحسبانها إقصاء للدين عن الحياة. ولعله من المفيد أن نضمن 
فى هذا الكتاب (كملحق) الموقف المبدئى الذى أعلنته الحركة فى ورقتها التفاوضية التى 
تقدمت بها فى ماشاكوسء حسب الترتيب الذى وردت به ماشاكوس الإطارى. 

اتفاق ماشاكوس أشعل النيران فى أكثر من مكانء ولا غرابة فى أن يفاجأً الناس باتفاق 
جاء بعد تشدد ذاع صيته. فمن جانب الحكومة؛ كان الاتفاق مفاجأة» لها توابع زلزالية. 
ومن ناحية الحركة» وقع تململ كبير وسط القيادات الميدانية» والتى فوجكت بالاتفاق هى 
الأخرى. بعض تلك القيادات لمست فى الاتفاق» رغم ما حققه من مكاسب للجنوب» 
مفاجأة غير سارة وتساءلوا: هل الهدف من الحرب التى خاضتها الحركة ضد نظام الجبهة 
هو مشاركتها الحكم فى النهاية؟ فوجئ قرنق نفسه بسؤال نظير من مراسل هيئة الإذاعة 
البريطانية فى كمبالا: أوهل كان الهدف من حربك الطويلة ضد البشير هو المشاركة فى 
حكومته بالخرطوم؟ أجاب قرنقء بشىء من الحرفنة» «عندما أعود للخرطوم فلن تكون 
الحكومة هى حكومة البشيرء بل حكومتنا جميعا . وعلى كل» فبعد تنوير مستفيض حول 
الممكن وغير الممكن فى عالم السياسة» وحول الظروف الإقليمية والدولية» ثم حول الحد 
الأقصى لقدرات الحركة على امتصاص الضغوطء أقرت القيادات الاتفاق الإطارى, 
ووجهت بالحذر فى مناقشة التفاصيلء فما زال قول الدوق ويلنقتون سارياً: الشيطان فى 
التفاصيل . الاجتماع مع القيادات كانت له نتائج أخرىء؛ من أهمها هو تجديد الحركة لعهدها 
بالعمل على وحدة السودان على أسس جديدة؛ وخروجها بنشاطها السياسى فى الشمال 
للعلانية على إمتداد القطر من نمولى إلى حلفا. 


912 


توج اتفاق ماشاكوس بأول لقاء بين البشير و قرنق فى كمبالا فى 77 يوليو” 2٠٠‏ . ذلك 
اللقاء سبقته خمس محاولات من قبل للجمع بين الرجلين منذ عام 1545»؛ باءت جميعها 
بالفشل. المحاولة الأولى قام بها رجل الأعمال البريطانى تاينى رولاندء فى بداية حكم 
الجبهة بأسلوب لا يخلو من السذاجة والفجاجة» وكان تاينى يومها يطمع فى وراثة شيفرون. 
أبلغ تاينى قرنق بأن الرئيس موى يود لقاءه فى منتجعه الرئاسى فى ناكورو دون أن يشير 
إلى ترتيب لقاء مع البشيرء فى حين أبلغ موى والبشير بأن قرنق على استعداد للقائهما. 
وعندما تكشف أمر الاجتماع مع البشير لزعيم الحركة عند وصوله إلى ناكوروء أبلغ الرئيس 
الكينى بأنه غير مستعد لذلك اللقاء الذى لم يعرف عنه شيئاً حتى تلك اللحظة؛ مما جعل 
موى يستشيط غغضبأ من أحابيل رجل الأعمال البريطانى. المحاولة الثانية كانت فى كمبالا 
عندما دعا الرئيس موسيفينى الطرفين للقاء فى أوج محادثات أبوجاء مما أشرنا إليه فى هذا 
الفصل. وجاءت المحاولة الثالثة من الرئيس مانديلا فى وقت كانت فيه محادثات الإيقاد 
فى أكثر مراحلها استعصاء (مناقشة قضيتى الدين والدولة» وحق تقرير المصير) .ومر 
أخرى رأى قرنق فى توجه ل ل 
لإجهاض تلك المبادرة» وأن أى اتفاق يتم خارج إطارهاء سيكلف الحركة الكثير. وبالفعل 
كانت هناك همهمات فى أعلى المستويات فى نيروبى لم يكن فى مقدور الحركة أن تغفلها. 
رغم ذلك سافر زعيم الحركة إلى لقاء مانديلا فى منتجعه الريفىء وفيما يبدوء كان أمام 
مانديلا طرح من النظام لاقتسام السلطة بين الطرفين؛: ذلك العرض رفضه زعيم الحركة 
قائلاً لمانديلا: قضيتنا ليست قصية سلطةء وإنما هى إنهاء الآبارتايد الدينى فى السودان» 
وأردف قائلا للزعيم الأسطورى:لقد قدمت لك عشرات العروض للمشاركة فى السلطة 
شريطة التخلى عما تدعو إليه» ولكنك آثرت البقاء فى السجن سبعة وعشرين عاماً. نحن 
الآن لا نفعل غير استلهام نضالك. أجاب مانديلا: الآن أفهمك.(ناه/ا 4سقادمء50ن 1 /210) 
أما المحاولة الرابعة فكانت على إثر قمة الإيقاد فى نيروبى حين طلب الرئيس موى من 
قرنق لقاء البشير للتشاور حول وقف إطلاق النار وتسريع خطى الإيقاد. وفى الوقت المحدد 
للقاء حضر قرنقء وتغيب البشير قائلاً لمضيفه موى: لقد رفض هذا الرجل مقابلتى ثلات 


25213 


مراتء فلماذا تتوقع منى أن ألتقيه الآن» وكأن البشير كان يقول دقة بدقاتء والبادى أظلم. 
ثم جاءت المحاولة الغامسة من جانب الزعيم القذافى والرئيس موسوفينىء لعقد اجتماع 
رياعى فى طرابلس. وعند لقاء قرنق وموسفينى مع الزعيم الليبى فى كمبالا للتمهيد للقاء 
الرباعى» كان محور حديث زعيم الحركة مع القائد الليبى هو الدولة النيوقراطية فى 
السودان. وفى الحال» أخرج القذافى صورة لدستور النظام الجديد ١454‏ » وتساءل ألا يخفف 
إلغاء الإشارة للدين والدولة» واعتماد المواطنة كأساس للحقوق والواجبات فى هذا الدستور 
من الطبيعة الدينية للنظام؟ ولكن قرنقء فاجاً القذافى بنصوص فى نفس الدستور تحتوى 
على مالم يطلع عليه الزعيم الليبى أو يتدبر معانيها جلياً مثل النص على المشروع 
الحضارىء ودور الجيش فى الدفاع عنه» وأهم من ذلك المواد حول التزام المحاكم بتطبيق 
الشريعة ثم الإشارات إلى أن الحكم عبادة . كان رد القذافى مثيراً: "هذا ليس دستورء هذا 
قرآن. فى نفس الاجتماع قال موسيفينى لمعمر: نحن نقدر لك موقفك تجاه الوحدة 
الأفريقية» ولكن إن كان مفهومك للوحدة هو أن يصبح موسيفينى معمراًء فلن يكون لى شأن 
بتلك الوحدة . بنفس القدر أنا مع وحدة السودان» ولكن إن ظن عمر أن وحدة السودان هى 
أن يصبح جون قرنق عمرء فمن حق قرنق أن يرفضها. كان ذلك سببأ كافياً لأن ينتهى 
الحديث عن لقاء بين البشير وقرنق» حتى يفرغ الزعيم الليبى من معركته مع الخرطوم. 
تلك المعركة انتقل بها القذافى إلى الخرطوم حيث شن حملة عنيفة على تديين السياسة 
أشرنا إليها فى الكتاب. 

وعند بداية محادثات ماشاكوس عاود الرئيسان الاتصال بقرنق للقاء البشير» وكان رده 
إيجابياً شريطة أن لا يتم اللقاء قبل انتهاء المفاوضات. كان فى تقديره أنه لو نجحت 
المفاوضات فسيعزى النجاح للقاء رئيسى الطرفين المتفاوضين مما سيسحب البساط من 
تحت قدمى موىء وليس للحركة مصلحة أو رغبة فى إغضاب موى. ولو فشل اللقاء؛ 
لانعكس ذلك القشل على المفاوضاتء ولحملت كينيا أيضأ المسئولية عن فشلها للقاء كمبالا. 
ولكن» عندما قدر للمفاوضات أن تنجحء جاء اللقاء فى أجواء إيجابية» مما أعطى دفعاً قوياً 
للمفاوضات التى تلتء وأزال الحواجز بين الرئيسين» كما ساعد على إدراك أعمق للمواقف. 


9214 


وكان البشير فيما تجلى من تصريحاته عقب عودته من كمبالا سعيداً بذلك اللقاء» بل كان 
فى أقصى سعادته عندما أعلن للملا أن قرنق ليس انفصالياًء وأنه سيتعاون معه لإحلال 
السلام. 

الهواجس والمخاوف سرت أَيضأ بين صفوف التجمع؛ وطفح بعض منها على صفحات 
الصحف. لم يقلل من حدة تلك المخاوف البيان الذى أصدره رئيس التجمع يرحب فيه 
بالاتفاق. فعلى حد قوله: إن كان كل الذى أتى به الاتفاق هو وقف نزيف الدم» لاستحق 
المباركة . أضاف رئيس التجمع أن الاتفاق لابد أن يحاط بإجماع وطنى حتى لا ينتكس» 
ولكيما يصبح الحل شاملا. ولكن الجوانب التى فطن لها رئيس التجمع لم تكنء فيما تجلى» 
ذات أهمية عند الساخطين. لم يفطن الساخطون أيضاً إلى أن ذلك الاتفاق قد عرى النظام 
الذى جعل من الحرب الأهلية جهاداً فى سبيل الله من آخر أرديته الأيديولوجية. فغى 
بروتوكول ماشاكوس اعترف النظام أن الصراع فى السودان هو أطول صراع فى أفريقياء 
وسبب خسائر فادحة فى الأرواحء وهدم البنية التحتية للقطرء وأهدر الموارد الاقتصادية» 
وأدى إلى معاناة لا يمكن وصفهاء خاصة فى جنوب السودان. كما اعترف أن هناك "مظالم 
تاريخية وعدم مساواة فى التنمية بين أجزاء القطر المختلفة لابد من ردها (ديياجة 
الاتفاق) . من الإيجابيات الأخرىء قبول النظام مراجعة دستوره» وتكوين حكومة قومية فى 
ظل دستور جديدء وتحديد أمد للفترة الانتقالية من بعد أن كان يمنى النفس بإعداد 
مشروعاته الحضارية لربع القرن القادم. كل هذه الإيجابيات لم يبصرها الذين استهالتهم 
الفجاءة» فتلبثوا عند قبول الحركة إقرارالشريعة كمصدر من مصادر التشريع فى الشمال» 
والتمحك عند كلمات مثل ما الذى يعنيه البروتوكول بإنشاء لجنة تمثيلية قومية لتعديل 
الدستورء أو ما الذى يعنيه تعبير حكومة قومية أو حكومة واسعة القاعدةء وكأن ليس لهذه 
الكلمات معان فى معاجم اللغة؛ أو تجارب السياسة. من النقاط الأخرى التى وقف عندها 
الساخطون على الاتفاق» الادعاء بأن الحركة قد خرجت عن مواثيق التجمع بقبولها لفترة 
إنتقالية تختلفء, شكلاً وكيفا» عما نصت عليه تلك المواثيق حول الفكرة الانتقالية.("١)‏ 


25215 


لا يجد المرء عناء فى إدراك قلق الدجمع من اتفاق لم يتوقعه؛ ولم يشارك فى صنعه . 
غير أن هذا القلق يأخذ يعدا آخر عندما يذهب إلى اتهام الحركة بالتنصل عن المواثيق أو 
بعدم استمساكها بما نصت عليه قرارات أسمراء او برضوخها للضغوط الخارجية. القلق بهذه 
الصورة لا يصدر إلا ممن يعيشون فى كوكب آخر. فعلى سبيل المثالء نشك كثيراً إن كان 
الذين سعوا لأن يجعلوا من قرارات أسمرا حول الفترة الانتقالية نقطة مرجعية يؤسس عليها 
أى اتفاق مع النظام حول التحول السياسىء قد تدبروا حقيقة ما كان يدور فى أوساط التجمع 
منذ عام ,»23٠٠١‏ بعد قبول المبادرة المشتركة»ء ثم المسعى الإريترى من بعدها. هدف 
المبادرتين كما نعلم لم يكن هو اقتلاع النظام من جذورهء كما كانت تقول أدبيات التجمع» 
بل قبوله كنظام أمر واقع والتوافق معه على صيغة للحكم تحقق الحل السياسى الشامل 
للمشكل السودانى . فما الذى يجعل الوفاق» على تلك الصيغة؛ أمرأ مختلفاً عن ذلك الذى تم 
فى إطار مبادرة الإيقاد؟ لقد كان أمام التجمع والحركة دوم خياران: الخيار الأول (السقف 
الأعلى) هو اقتلاع النظام؛ والخيار الثانى (الحد الأدنى) هو التواطؤ مع النظام على حل 
وفاقى. ولئن عجز التجمع عن تحقيق السقف الأعلى» فلم يكن ذلك لعجز الحركة عن أداء 
الدور المنوط بهاء ليس فقط فى مجال النضال المسلح؛ بل أيضا فى محاصرة النظام فى 
أفريقيا وبقية دول العالم ذات الأثرء وإنما كان لعجز غيرها عن تحقيق ما هو أدنى من 
العمل المسلح: تعبئة الجماهيرء وإذكاء حماسها لمحاربة النظام فى الداخل. الأمر التانى الذى 
نعى على الحركة هو قبولها الإبقاء على الشريعة كمصدر للتشريع فى دستور الشمال. 
الساخطون» بلامرية» محقون فى قولهم بأنه ماكان ينبغى للحركة وحدها أن تقرر فى أمر 
لا يعنيها مباشرة. ولكن ليست هذه كل الحقيقة» فرأى الحركة كان واضحاً منذ البداية حول 
قضية الدين والسياسة (انظر الملحق) . ولهذا فالذى جاء فى البروتوكول لا يعبر عن رأى 
الحركةء أو رأى الحكومة وإنما هو مقترح بديل تقدم به الوسطاء والمراقبون للتقريب بين 
وجهتى النظر. ولو كان النظام قد جاء إلى المفاوضات وهو مهزوم مندحرء لكان فى مقدور 
الحركة أن تملى إرادتها عليه . ولعل أقسى أنواع التنازلات على طرفين متحاريين هى تلك 
التى تتم فى حالات توازن العجز (5)316153:6) . وفى هذه الحالة بالذات» لا شك فى أن 


916 


الوسطاء والمراقبين قد قدروا ما يلى : طالبت الحركة بحق تقرير المصير فكان لها ما 
أرادت؛ وطالبت بكيان مستقل للجنوب فى الفترة الانتقالية يضع دستوره على الوجه الذى 
يريدء ويحكم نفسه بنفسه» فاستجاب الطرف الآخر لمطلبها؛ ثم أصرت على أن قبولها 
المشاركة فى حكومة اتحادية مشروط بأن يكون دستور الاتحاد صامتاً عن مصادر التشريع: 
فاستجابت الحكومة لما أرادت. فما شأن الحركة» إذن» بدستور الشمالء خاصة والحكومة 
التى تفاوضها حكومة تنسب نفسها للإسلام؟ 
قد يقول قائل: لماذا لم تعلن الحركة رفض الاتفاق بسبب هذا النصء ولتذهب للجحيم 
كل المكاسب التى أحرزتها للجنوب» وعلى المستوى الاتحادى. وقد تذهب الظنون بالقائل 
إلى أن مناضلى الحركة الذين ظلوا يكتوون بنار الحرب على مدى عقدين من الزمان 
سيكونون على أتم استعداد لمواصلة النضال حتى آخر جندئى فى الجيش الشعبى حتى تلغى 
الشريعة فى الشمال أيضاً. ولربما كان هذا الاستعداد فى حيز الممكن لو كانت قوات التجمع 
تقف فى مشارف القضارفء, تأهباً للانقضاض على الخرطومء أو لوكانت جماهير التجمع 
فى الشمال تؤرق بال النظام فى عواصمه وتمهد لإقناعه . هذا كما نعرفء لم يكن هو 
الحال» لا الأمس ولا اليوم. فحتى اللحظة لم نسمع عن تظاهرة قادها الساخطون للمطالبة 
بإلغاء الشريعة فى الشمال. مرة أخرىء لا تقع المسئولية عن إجهاض العمل العسكرى فى 
الجبهة الشرقية» والتقاصر عن النضال الجماهيرى داخل مدن الشمال» على الحركة الشعبية. 
بل لعل تجميد العمل الجماهيرى الذى بلغ شأوا رفيعاً حتى فى أشد حالات النظام عنفواناء لا 
يعود إلى انخذال الجماهير أو تخاذل قياداتها فى الداخلء وإنماء فى المقام الأول» إلى 
استنهاك القيادات الشمالية لكل طاقاتها فى الحديث عن الحل السلمىء والتوسل للسفارات 
الأجنبية» والضن بالحد الأدنى من الدعم للعمل الجماهيرى. وكان لهذا التقاعس ثلاث 
نتائج: الأولى إحباط الجماهير التى أخذت تصدق ما تسمع عن فرج قريبء والثانية» التأكيد 
للنظام بأن التتجمع نمرمن ورق؛ بصرف النظر عن قوته الكامنة» والثالثة تزايد إقناع 
الوسطاء أن ذلك التحالف العريض تحالف بلا فاعلية. وفى نهاية الأمرء لا يحسم الحروب 
إلا رجحان ميزان القوة لصالح طرف من المتحاربين» ولئن تقاعس أى من المتحاربين عن 
استخدام أدواته الفاعلة ليدبطن عمله لا محالة. 
5917 


المحك عند الفقرة من البروتوكول التى أشارت إلى مصادر التشريع فى الشمال؛ والزعم 
أن ذلك 'النص يقود إلى استغلال الدين من أجل السياسة» هو من ناحية أغلوطة؛ ومن ناحية 
أخرى أبطولة . هو أغلوطة لأن استغلال الدين من أجل السياسة لا يحتاج؛ حسب تجارب 
السودان» لنص فى الدستور يجعل الشريعة مصدراً للتشريع. فهوس الستينيات (عقب 
انتفاضة أكتوبر) وقع تحت ظل دستور شبه علمانىء وإلغاء نظام الجبهة للنص على دين 
الدولة فى دستور ١198‏ وجعل المواطنة (لا الدين) أساساً للحقوق والواجبات لم يقلل من 
طغوان النظام باسم الدين» ومن استمراره فى إضفاء صبغة دينية على كل سياساته القهرية. 
فالقضية:ء إذن لا تتعلق بنص محدد فى الدستورء وإنما تتعلق بمعركة سياسية ضد 
الاستغلال الفاحش للدين يجب أن يخوضها أهل الشمال فكريأء وسياسيأء وجماهيرياًء 
بأنفسهم لا بدم مستعار. نحن مع هذه المعركة» لا لاعتبارات أيديولوجية وإنما لأسباب 
قانونية بحتة. فحينما نعرف أن تسعين بالمائة من قوانين السودان لا تستمد من الشريعة 
ندرك كما أسلف الذكرء بطلان القول بأن الشريعة هى المصدر (المعرف بالألف واللام) 
للتشريع . 

أما الأبطولة» فتكمن فى التمادى فى الزعم أن فى ورود النص فى البروتوكول خروجاً 
على مقررات اسمرا. فقرار اسمرا حول الدين والسياسة هوء فى حقيقته» محاولة للالتفاف 
ع وار البردائية الذي ليك تزعو[ اإكركة .كيه لزه اقرار الور خا لين 
والسياسة هو تصضمين كل المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الإنسان والمضمنة فى المواثيق 
والعهود الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان كجزء لا يتجزأ من دستور السودان» وأى قانون أو 
مرسوم أو إجراء مخالف لذلك يعتبر باطلاً وغير دستورى. إلى جانب كفالة القانون المساواة 
التامة بين المواطنين تأسيسأً على حق المواطنة واحترام المعتقدات والتقاليد. وعدم إنشاء 
أحزاب سياسية على أساس دينىء واحترام تعدد الأديان وكريم المعتقدات؛ والسماح بحرية 
الدعوة السلمية للأديان» ومنع الإكراه أوأى فعل يحرض على إثارة النعرة الدينية أو 
الكراهية العنصرية فى أى مكان أو منبر أو موقع فى السودانء وتأسيس البرامج الإعلامية 
والتعليمية والثقافية القومية على الالتزام بمواثيق وعهود حقوق الإنسان الإقليمية والدولية. 


918 


فى هذا النص لم يرد حرف واحد حول إلغاء أى نص فى الدستور يحدد للشريعة موضعاآً 
فى مصادر التشريع. ومن المفارق أن نفس القرار تضمن نصاً يهدم كل ما سبق بالنسبة 
للمرأة . جاء فى ذلك النص: يلدزم التجمع الوطنى الديموقراطى بصيانة كرامة المرأة 
السودانية؛ ويؤكد على دورها فى الحركة الوطنية السودانية» ويعترف لها بكل الحقوق 
والواجبات المضمنة فى المواثيق والعهود الدولية بما لا يتعارض مع الأديان ."هذا النصء» 
فى حقيقته» يؤكد أن التجمع قد رضى ضمناً بأن تكون الشريعة أحد مصادر التشريع» 
خاصة والذى كان يدور فى أذهان من أدرجوا تلك الإضافة؛ هو حقوق المرأة فى الزواج 
والميراث. من المفارق أيضأ أن التجمع لم يقدم فى أى من مبادرات السلام على المناداة 
بإزالة المادة 4 من دستور ١198‏ الخاصة بمصادر التشريعء طلابه فى تلك المبادرات 
صر على إزالةالقوائين والنصوطن الدستورية المقيدة للعريات السياسة : لهذا يصيح الرّعم 
أن فى اعتراف البروتوكول بالشريعة كمصدر من مصادر التشريع فى الشمال خروجاً على 
قرارات أسمراء باطلء بل هو تلبيس. فرأى التجمع فى هذا الأمرء ملتبس على أحسن 
الاعتبارات. مع هذا فنحن مع إزالة النصء أولاً لعدم جدواهء وثانياً لإمكانية استغلاله. 
نجىء من بعد على الاتهامات الصريحة والمغلفة فى أجهزة الإعلام العربى بأن اتفاق 
ماشاكوس هو نتاج لمؤامرة أمريكية . وعلنا نسأل فى البدءء مؤامرة على من؟ أفهل فى تحقيق 
السلام الذى عجز الوسطاء على مدى عقدين من الزمان عن تحقيقه» مؤامرة على السودان؟ 
أم هل فى قبول حق تقرير المصير للجنوب الذى توافق عليه كل السودانيين» حكومة 
ومعارضة:ء مؤامرة على الشمال؟ أو هل فى التعهد بإعادة بناء السودان بعد إنهاء الحرب وإلغاء 
الديون التى أرهقت كاهله مؤامرة عليه؟ ثم لماذا يفاجأً البعض بالحماس الأمريكى لحل 
المشكلة» وكأن أمريكا كانت غائية عن ساحة السياسة السودانية» كان ذلك فى مجال العمل 
الإنسانى بالجنوب والذى أنفقت فيه وحدهاء كما قلناء ١,7‏ بليون دولار فى الفترة ما بين 
6-.1998ء أو فى العمل السياسى (التصدى لخروقات حقوق الإنسان فى الشمال 
والجنوب فى اللجنة الدولية» فرض الحظر على النظام بسبب من تلك الخروقاتء إصدار قانون 
من الكونقرس حول السلام فى السودان» مد الجسور للتعاون مع النظام بعد ١١‏ سبتمبر) . وحتى 


919 


إن افترضنا صحة الاتهامات بأن لإنتاج البترول صلة لحماسها الأخير لإحلال السلام؛ فما 
الضير فى هذا؟ أصحاب نظرية المؤامرة هؤلاء يعيشون» هم الآخرون فى كوكب آخرء كانوا 
من داخل التجمع أو من خارجه. فأمريكا اليوم؛ حملت جزرة أو عصاء هى قوة لا يستهين بها 
أحد. قد يكون من حقنا جميعاً الامتعاض من وضع دولى أصبحت فيه دولة واحدة هى 
المهيمن على السياسة الدولية» والمسيطر على المال» والسلاح» ومجتمع المعرفة الدولى؛ وأسرار 
علم الضوء والجينوم البشرى. وحتى دولة صغيرة فى حجمها مثل النرويج» وكبيرة بقيادتها 
الأخلاقية:(*"') ما برحت تلعب دور فاعلاً فى إحلال السلام فى العالم» مثال ذلك القضية 
الفلسطينية (اتفاقيات أوسلو)» قضية التاميل (المفاوضات التى تدور الآن تحت رعايتها فى 
سيريلانكا) » نيكارجوا. هذا هو العالم الذى يحيط بنا. وليس من مصلحة سياسى حباه الله 
بعقل أن يغفل الواقع الماثل» فالسياسى الذى يفعل هذا لا يؤذين إلا نفسه. 

هذا الإغفال واكبه» بل سابقه» نفاق عند الحاكمين وبعض المعارضين على حد سواء . 
فالحاكمون الذين بسطوا الملفات وكشفوا عن الحسابات المالية البنكية» وفتحوا كل مغلق 
لوكالات الاستخبارات الأمريكية هم أقل الناس جدارة بالحديث عن الضغوط الأمريكية . ومثلهم 
المعارضون الذين ما فتئوا يتساءلون عن النبأ العظيم: أهداف أمريكا من الاهتمام بقضية 
السودانء فى ذات الوقت الذى لم يجدوا فيه بعد أن تلفتوا يمنة ويسرة ‏ داعماً لنشاطهم 
السياسى والدبلوماسى غير البرامج الأمرن يكية لدعم قدرات التجمع لاإاأعدمدء 1085ل1 انا فى 
عملية السلام؛ والتحرك الدبلوماسىء والإعداد للفترة الانتقالية. تلك ليست غيبوبة سياسية» 
وإنما هى إمعان فى خداع النفس لإرضاء الغرور الفكرى. ولعل بعضأ آخرء من الحاكمين 
والمعارضين:ء قد أوقعوا أنفسهم فى وهم صاقعة النجم» وكلهم حسن غنى بذاته» وقاهر لعداته . 
ولكن؛ فى عالم اليوم» لسوء حظنا جميعاً فإن الذى "يحمى الشهادة والنضم هى صواريخ توم 
كروز. ذلك واقع لا ينكره إلا المغالطون والمغامرون. الحروب لا تنهيها المغالطات» وتؤجج من 
نيرانها المغامرات. فلمصلحة من يريد المغالطون والمغامرون أن يحترق السودان» لا سيما إن 
كان هناك من فى مقدورهم إطفاء تلك النيران. 

أي كان الأمرء سادت الحكمة فى النهاية فى أوساط التجمع» عقب التنوير الذى قام به 
قرنق لهيكة قيادة التجمعء واللقاءات التى تمت مع القيادة الإريترية» خاصة عندما أبدت 


920 


الأخيرة حماسا كبيرأ للاتفاق. وفى الرابع عشر من أغسطس/آب 7٠٠١7‏ أصدرت هيئة 
قيادة التجمع بياناً ختامياً أمدت فيه على بروتوكول ماشاكوسء وأشارت إلى معالجاته 
لبعض القضاياء وإلى ما شابه من نواقص. دعت هيئة القيادة أيضاً إلى إشراك التجمع فى 
العملية التفاوضية بكاملهاء وإلى أن يتحقق ذلك قررت بأن تتبنى الحركة الموقف التفاوضى 
للتجمع على أن يتم التشاور مع هيكئة القيادة حول أى اتفاق نهائى تتوصل إليه الحركة 
الشعبية لإقراره قبل اعتماده نهائياً. 

من جانب دولتى المبادرة المشتركة» كان عنصر المفاجأة فى توقيع الاتفاق قبل التشاور 
معهما مصدر غضب لم يخفياه» وما كان ينبغى أن تكون هناك مفاجأة بعد الشرح الوافى 
للتطورات الأخيرة فى محادثات الإيقاد والذى قدمه الجنرال سمبويويو لمن التقاهم فى 
القاهرة. أما فيما يتعلق بجوهر الاتفاق فريما يكون أكثر ما أثارالدولتين فى نصوص 
البروتوكول هو موضوع حق تقرير المصير للجنوبء بخياراته التى قد تشمل الانفصال. 
ولكن سرعان ما تفرق السبيل بدولتى المبادرة» حيث أعلنت ليبيا تأييدها للاتفاق» وقال 
قائدها: لن نكون سودانيين أكثر من السودانيين» فى حين اكتفت مصر بمباركة دور الاتفاق 
فى إنهاء الحرب. إلا أنها أكدت موقفها حول وحدة السودان. وإن كان الصوت الرسمى أقل 
خفوتاً فى معارضته:ء إلا أن صحافة القاهرة (باستثناء مقالات محدودة) كانت مغرقة فى 
التشاؤم. تراوحت الظنون بين الاتهام المكرور أن الاتفاق طبخة أمريكية» وأن ليس لطرفيه 
يد فى صنعه؛ وبين الإفتراض الذى لا يقوم على ساق بأن الجنوب ‏ أن انفصل ‏ قلا 
محال من وقوعه فى براثن إسرائيل مما يهدد الأمن القومى العربى. الاتهام المكرور حول 
المؤامرات الأمريكية لا نملك جديداً للرد عليه أكثر مما قلناء وحتى إن صح أن اتفاق 
ماشاكوسء كان طبخة أمريكية» فلن يكون إلا إضافة لطبخات أخرى سياسية تجمع حولها 
الأدبون من أهل البوسنة شمالاً إلى أهل فلسطين جنوباً. 

قضية السلام فى السودان» منذ استقلال البلادء لم تحظ بمثل الاهتمام الدولى الذى 
حظيت به أخيراء لاسيما منذ استيلاء الجبهة على الحكم. كان ذلك لأسباب عديدة أشرنا 
إليها فى المواقع المناسبة من هذا الفصلء ولكن نظام الجبهة؛ من حيث لا يحتسب؛: أسدى 


921 


خدمة كبرى للسلام . فلولا وضع العالم له ولانتهاكاته لحقوق الإنسان تحت المجهرء لهلكت 
نفوس بلا قود فى دولة "شرع الله. ولولا تلك الضغوط عليه ليجنح للسلم بجدية وصدقء 
لتوقف النظام عند أول عادته: الذى يريد الحكم فعليه أن يقتلعه بالقوة. هذا الاهتمام وصفه 
صادق المهدى بالتدويل» وأصبحت له فيه تصنيفات: التدخل الحميدء والتدخل الضار؛ وفى 
كلتا الحالتين» كان الصادق وحده هو النطاسى البارع الذى يشخص الداءء ويقرر وصفة 
العلاج. بسبب هذا التهويش اختلط الأمر على كثيرين فى داخل السودان وخارجه. وقد 
يكون موقف الساسة الشماليين الذين تظاهروا بالإصابة بالرعب من تدويل الصراع فى 
السودان» ذريعة يتلمسون بها الأعذار لعجزهم عن حل الصراع المزمنء رغم توافر الحلول. 
أما استنكاف البلاد العربية المعنية يأمر السودان للتدخل الأجنبى فى شئونه فأمر مختلف. 
فمنذ نشوب الحرب فى الجنوب» ظلت هذه الدول تتجاهل المطالب المشروعة للجنوب الذى 
يمثل أهله ثلث عدد السكان فى السودان» وتبلغ مساحته ثلث مساحة القطر. تلخصت كل 
تلك الحرب فى نظر هؤلاء فى مؤامرات خارجية (مسيحية» استعمارية؛ صهيونية) لتمزيق 
السودان» وكأن ليس هناك مبرر داخلى حقيقى لإشعالها وتأجيج نيرانها. هذا الموقف 
بالضرورةء أعجز هذه الدول عن لعب أى دور إيجابى فى حل المشكل. ولو كانء لتلك 
الدول رغم هذا العجزء دور على المستوى الإنسانى (إنقاذ المتضررين من المجاعاتء تقديم 
الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة لأهل الجنوب)ء لأعانها ذلك على إدراك طبيعة 
المشكل» وعلى فتح قنوات مع الطرف الأخر للتشاور حول وسائل حله. ولكن خلال عقدين 
من الزمان أو يزيدء ظل الغوث الغذائى والإنسانى بصورة عامة يصل إلى الجنوب عن 
طريق برنامج دولى يعتمد على الدعم الأمريكى والأوروبى» ويتطوع للعمل فيه الفرنسى 
والبلجيكى والهولندى عبر أطباء بلا حدودء والبريطانى من خلال أوكسفامء والنرويجى 
والسويدى عن طريق المعونة الشعبية النرويجية واللوثريين. وحينما جاوزت تصرفات 
حكومة السودان مداها تجاه الجنوب والشمال معاء وخضعت لحساب عسير فى أروقة الأمم 
المتحدة» التزمت الصمت البلاد العربية التى يعنيها أمر السودان» واحدة أو اثنتان شاركتا 
فى إدانة النظامء كما لو أن هذه الدول أخضعت نفسها لقانون سرى بالتزام الصمتء أو 


222 


قررت طوعاً التعفية على جرائم نظام لم يكل المجتمع الدولى عن إدانته. ثم هناك الجامعة 
العربية» لا تتدخل أبداً فى الصراعات الداخلية فى الدول؛ ولهذا لم يترج منها أحد التدخل 
فى أكثر صراعات الوطن العربى تعقيداً. ولكن الجامعة قضت فى حكمتهاء ودوماً استجابة 
لمطلب النظام الحاكم فى الخرطومء أن تصدر القرار تلوالقرار تحذر فيه من مخاطر تمزيق 
السودان. وإن كان هناك تحذير من خطرء فلابد أن يكون هناك أيضاً صانع لهذا الخطر 
يومأ إليه بالكلام الخفى. الصانع أو الفاعل» حتى نضع النقط فوق الحروفء فى رأى 
الجامعة ودولها هو الحركات الجنوبية» والدول والمنظمات الأجنبية التى تحنو عليهاء أو 
تؤيدهاء أو تتة تتفهم مواقفها . الذى يتخذ هذا الموقف. دون تواصل مع الطرف الذى يحذره؛ أو 
حرص على الاستماع إليه يصبح منحازاً بالحق أو الباطل. ولريما لو أضافت الجامعة لذلك 
التحذير عشر كلمات تقول وندعو طرفى النزاع لمعالجة أسباب الأزمة حفاظاً على وحدة 
السودان» لكان هناك شىء من التوازن. وفى مطلع هذا العام (يناير”١٠٠)‏ سعت الجامعة 
العربية للحاق بالركب وأنشأت صندوقا لتعمير الجدوبء ثم ابتعثت وفداً يقوده الأمين العام 
للخرطوم للتشاور معها حول وسائل التعمير. ولا غضاضة فى أن يلتقى وفد الجامعة 
الحكومة التى تمثل السودان فى المنظمة» ولا عتب عليه إن حرص على تلمس رؤاها حول 
ذلك التعمير. بيد أن التعمير ليس أمرأ نظرياء أوجهداً فى فراغء بل هو جهد عملى يتم فى 
إطار اتفاقات مشهودة (ماشاكوس) رسمت خطوطه العامة وحددت الجهات التى تتولاه . 
وكان من الأجدر بوفد الجامعة أن لا تغيب عليه هذه الحقائق» فهى نفس الحقائق التى 
حملت البنك الدولى» وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية؛ والاتحاد الأوروبى على التواصل مع 
السلطة القائمة والمرتقبة خلال الفترة الانتقالية فى جنوب السودان: بعلم الخرطوم ورضاها. 

أي كان الأمرء فإن الاحتجاج من جانب بعض المؤسسات العربية على الأطراف الدولية 
التى تسعى لإنقاذ الجنوبيين المتضورين جوعأء ضرب من خداع النفس. ففى أى بلدء 
عندما يعجز المتخاصمون عن حل مشاكلهم بأنفسهم يلجأون إلى وسيط خارجى. إلى جانب 
ذلك؛ فإن الظن بأن الصراعات الداخلية هى أمور داخلية بحتة فى عالم اليوم تجاهل لواقع 
العالم. وإلاء فما الذى جعل السناتور ميتشيل الأمريكى عربى الأصلء يشد الرحال إلى 


223 


بلفاست ودبلن لحل المشكل الإيرلندى؟ وما الذى يجعل دول حلف الأطلسى تتحرك 
ببوارجها وطائراتها إلى كوسوفو؟ وما الذى جعل الأمم المتحدة بدعم أمريكى تتوجه إلى 
البوسنة؟ وما الذى جعل الجيش البريطانى» بغطاء أممى: يخوض حرياً فى سيراليون؟ وما 
الذى جعل مجلس الأمن ينشئ محكمة خاصة فى أروشا لمحاكمة سادة النظام المخلوع فى 
رواندا على جرائمهم ضد الإنسانية؟ ثم ما الذى جعل جورج تينيت؛ مدير المخابرات 
المركزية الأمريكية وسيطأ يتداعى إليه الناس لبسط الأمن فى فلسطين؟ 
أما حول ممارسة الجنوب لحق تقرير المصيرء وما يقود له من انفصالء نقول أن 
ممارسة حق تقرير المصير لا تعنى الانفصالء وإن كانت قد تؤدى إليه. هذا أمرلم يغب 
عن بال التجمع عندما اتخذ قراره بشأن تقرير المصير فى يونيو/ حزيران ١156‏ ولا عن 
بال المفاوض الحكومى حينما وقع على بروتوكول ماشاكوس . فمنذ توقيع النظام فى عام 
على أول اتفاق فى فراتكفورت يمنح الجنوب حق تقرير المصير كان هناك سبعة 
قرارات أخرى وقعها السودانيون لتأكيد هذا المطلب('"'). وعلى أىء ففى حالة بروتكول 
ماشاكوسء تماماً كما كان الحال فى قرارات أسمراء أعلنت الأطراف المتعاقدة أن خيارها 
الأول هو الوحدة الطوعية» وكأنها أرادت بهذا منح فرصة أخيرة للوحدة. على أن مصير 
الوحدة لن يتقرر فى جوباء وإنما فى الخرطوم» فالخرطوم هى التى وعدت من قبل ولم تف 
بالوعودء والخرطوم هى التى دينت السياسة حتى جعلت من الدين عظمة نزاع فى صراع 
سياسى بحتء والخرطوم هى التى جيشت الفيالق لغزو الجنوب بهدف تحقيق الوحدة قسرأء 
والخرطوم هى التى تقول اليوم إن كان ثمن الوحدة هو تجميد الشريعة فى العاصمة فلتذهب 
الوحدة إلى الجحيم والخرطومء أخيرأء هى تملك أن تلتزم نص وروحاً بما اتفقت عليه فى 
ماشاكوس فتكون وحدة على أسس جديدة» أو تنكص عما التزمت به فيكون فراق. فإن 
كانت هناك ثمة ضغوط أو إيحاءات» فمن الواجب توجيهها إلى من فى مقدورهم الالتزام 
بما تعاهدوا عليه حول الفترة الانتقالية نصاً وروحأء كما فى مقدورهم النكوص عنه. 
والآن» بل منذ يونيو/ حزيران 1495» وقد أصبح حق تقرير المصير حقيقة لن يجدى 
معها البكاء على اللبن المسكوبء إن كان هناك لبن فى المقام الأول؛ المطلوب أولاً ممن 


9224 


يحرصون على وحدة السودان هو حث من يحتاج إلى حث من الساسة الشماليين على 
الالتزام بما اتفق عليه من صيغ دستورية وقانونية ومؤسسات وسياسات وبرامج . على هذا 
الأمرلم تقدم الدول أو المؤسسات أو منابر الإعلام العربية» حتى فى أشد فترات الاستقطاب 
حدة: فترة إعلان الجهاد والأسلمة القسرية. ولو حدث هذاء لما تبادر لأذهان الجنوبيين (كما 
يظن الكثيرون منهم) أن العرب لا ينظرون للجنوب إلا كأرض بلا مالكء وأنهم على 
استعداد لأن يغضوا جفونهم عن كل أخطاء الأنظمة فى الشمال ضد مواطنيهم فى الجنوب» 
لا لسببء إلا لأنهم عرب مسلمون. هذا المنهج فى التعامل لا يعمق من وحدة السودانء ولا 
يشرف العروبة والإسلام فى شىء» طالما جعل من العروبة رباطاً عرقيأء وحول الإسلام إلى 
دين لا يعرف التسامح . ولا شك فى أن النظام بعد ماشاكوس لم يعر نقسه فقطء بل عرى 
كل من ناصره على ظلمه لمواطنيه» بالتأييد المعلن أو بالصمت عن الأخطاء. فعندما 
يعترف النظام بأن قرنق كان دوم وحدوياًء وأن الجهاد الذى رفعت راياته فى الجنوب لم 
يكن جهاداً بل حرياً مدمرة» وأن للجنوب ظلامات تاريخية لا بد أن تردء يضع النظام كل 
من آزره بالتأييد المعلن أو الصمت فى حربه الظالمة» وفى تغافله عن تلك الظلاماتء فى 
موضع حرج بالغ. والآن» وقد جاءت الحاقة» ينبغى على الساخطين أن يتعاملوا مع الواقع 
الجديد بأسلوب يحقق نتائج إيجابية» فإن حسبوا الجنوبى خصيمأء فالخصيم يستألف؛ وإن 
رأوه مرتاباً فالمرتاب تبدد الشكوك فى نفسه؛ وإن كان خائفآء فالخائف يطمأن. ومن 
المحزن أن يجعل العرب من الحليف الأساسى لهم وللشمال : الحركة الشعبية ورجالهاء 
خصماء. والمغالاة فى إلصاق تهمة العداء للعروبة بمن لا يحمل صغناً لهاء سيجعله فى 
النهاية عدوأ بل عدواً شديد الخصومة. 


نجىء فى النهاية إلى المخاوف غير المبررة حول إستغواء إسرائيل للدولة الناشكة - إن 
وقع الانفصال ‏ بهدف السيطرة على منابع النيل. هذه المخاوف لا تعبر فقط عن وسواس 
غريبء بل وعن فقدان كامل للثقة فى النفس. فما الذى تملكه إسرائيل» ولا يملكه العرب. 
حتى تستطيع بمفردها أن تسيطر على قطر أفريقى يملك ثروات واسعة» وعلاقات تاريخية 
بالوطن العربى؛ ومصالح مستقبلية معه؟ مع ذلك؛ نقترب من الموضوع من منظور 
مختلفء ألا وهو افتراض السيناريو الأسوأء ألا وهوالانفصال: 


525 


أولاً: إن كان للجنوب أن يستقل فيصبح الدولة العاشرة من دول حوض الذيل؛ وسيكون 
على أية حال؛ دولة معبر لا مصدر. ولئن أرادت إسرائيل» أوكان فى مقدورهاء السيطرة على 
النيل لبدأت بأهم دولتين فى الحوض: أثيوبيا التى تمد النيل بذمانين بالمائة من مياهه: 
ويوغندا التى ترفده بما تبقى. ثانياً: إن لم يحدث هذا فلأن جميع هذه الدول تدرك جيداً أن 
المياه العابرة للأقطار تخضع لاتفاقيات وقوانين وسوايق دولية لا تستطيع أى دولة من دول 
الحوض تجاهلهاء ناهيك عن انتهاكها. فما الذى يجعل الدولة الجديدة أكثر جسارة على خرق 
هذه الاتفاقيات؟. ثالثاً: تسعى دول الحوض الآن لخلق آليات للتعاون الفنى فيما بينهاء والتطور 
به إلى تكامل اقتصادى فى إطار ما يعرف بالمجموعة النيلية (000121151)0) 7[116), فما الذى 
يبرر الظن بأن الدولة الجديدة ستشذ عن بقية هذه الدول فى مسعاها المشترك للتعاون على 
الحفاظ على سلامة النيل» وحمايته من المخاطر البيئية» والتوزيع العادل لمياهه؛ والضبط 
الفنى لتدفقه؟ رابعاً: يكاد الذين يديجون المقالات حول المخاطر التى تهدد الأمن القومى من 
الجنوب يعيشون فى عهد محمد على باشا. فأفريقيا اليوم كلها قد تحولت إلى اتحاد تحكمه 
قواعد توافق عليها رؤساؤها فى ديربان» ومواثيق حول إنهاء النزاعات وتوطيد علاقات حسن 
الجوار» ومجموعة اقتصادية متكاملة» ومجلس أمن أفريقى يحق له التدخل لفض أى خلاف 
بين أعضاء الاتحادء أو صراع فى داخل أراضيها يهدد أمن المجموعة . فمصالح الدول تحميها 
الاتفاقيات الدولية المصونة؛ والعهود الدولية والإقليمية التى تلتزم بها الدول» والمؤسسات 
المشتركة. الدولة الوحيدة المارقة عن هذه الشرعية هى القطب الأوحد المغتر بقوته: الولايات 
المتحدة. والذى يريد أن يحمى نفسه من غرور القوة تلك؛ فلا بد لعمقه الإستراتيجى أن يمتد 
إلى ديقو قارسيا فى المحيط الهندى؛ فمن هناك تنطلق الصواريخ إلى باكستان وأفغانستان 
حتى السودان. فلماذا تغيب كل هذه الحقائق على أذهان أصحاب التنبؤات المنذرة . ألأنهم 
يجهلونها؟ أم لأنهم لا يرون فى الدولة الوحيدة إلا دولة قاصرة يمكن أن تقع فريسة فى أصغر 
الفخاخ إن لم يكن هناك من يرعاها؟ هذاء وأيم الحق» حكم ظالم لحركة أفلحت بأطروحاتهاء 
وعزمهاء ونضالها على مدى عقدين من الزمانء فى أن تعيد رسم الخارطة السياسية 
السودانية. 


5926 


عقب لقاء قرنق ‏ البشير فى كمبالاء وقع حدث كاد أن يعطل مسار السلام تعطيلا 
كاملاء بعد استرداد الجيش الشعبى لمدينة توريت فى بداية سبتمبر 7٠١7‏ » لا سيما وقد 
كانت الجولة الثانية من محادثات ماشاكوش فى إحدى مراحلها الحاسمة: مرحلة التفاوض 
حول اقتسام السلطة والثروة. الدافع لتحرير توريت» كما تقول الحركة» هو استباق الإعداد 
المكثف من جانب قوات النظام لاسترداد مدينة كابويتا التى وقعت فى يد الحركة فى 
يونيو” 7٠١‏ اورت اعرد كر اي ود اود را يدا بكرن 
الأولى على مدينة قوقريال» كما لم تتوقف لحظة واحدة عن قصف مواقع الحركة حول 
بانتيوء دون أن تحرك الحركة ساكنئاًء ناهيك عن أن تنسحب من المفاوضات. استقر رأى 
الحركة يوم ذاك على أنه طالما لم يتفق الطرفان على وقف إطلاق النار خلال المفاوضات» 
فلا مشاحة من أن يقعقع السلاحء فى ذات الوقت التى تدور فيه المفاوضات. ولكنء قبيل 
استيلاء الحركة على مدينة توريت حل بماشاكوس بيريا النظام» نافع على نافع؛ وقد تأبط 
شرأً. كان من ضمن الموضوعات التى سيتداولها المفاوضون يوم ذاك موضوع إعادة هيكلة 
المؤسسات وعلى رأسها أجهزة الأمنء الخارجية» الخدمة المدنية. ولم يك فى هذه القضايا 
ما ينبغى أن يثير أحدأء خاصة وقد أومأ لها قرنق فى لقائه مع البشير. نقول لا يستذير أحداً 
عدا طائفتينء الأولى هى أولتك الذين عزموا على ألا يتنازلوا قيد أنملة عن الكنكشة فى 
أجهزة القمع؛ والثانية هى التى أوهمت النفس أن اقتسام الساطة ليس أكثر من خلق وظائف 
إضافية:» أو تفريغ وظائف راهنة فى مجلس الوزراء لاستيعاب الحركة. ولعل نافعاً جاء 
ليحدد الخطوط الحمراء التى يجب ألا يتجاوزها وفد الحكومة فى المفاوضاتء وكان 
استرجاع توريت هى التكأة المناسبة للانسحاب من المفاوضات. ما جاء بنافع» إذنء لم يكن 
هو تأكيد الثوابت» إذ طمرت تلك الثوابت تحت ركام الحادى عشر من سبتمبرء عام ألفين 
وواحدء وإنما الإبقاء فى دولة السلام والتصالح على أدوات القهر ومواقع الشروة إلى أبد 
الآبدين فى أيادى زبانية هم أعلاق شر بكل المعانى . ومن الغريب أن هؤلاء الأشرار لم 
يقوَغرا دعاواهم بايضاح للطرف الخصيم أو الوسطاء والرقباءء دعك عن أهل السودان» 
يبينون فيه لماذا تكون لهم وحدهم الكبرياء على الأرضء وأن يبقوا هم الأعلون إلى أبد 


227 


الآبدين. أفهل منحهم الشعب تفويصاً بهذا؟ وإن كان كذلكء؛ فمتى تم التفويض؟ أم أن 
رسالة تنزلت عليهم من السماء؛ وما على أهل الأرض إلا الامتثال ؟وإن كان ذلك هو الحال 
فعلى من منهم نزلت تلك الرسالة؟ ذلك تفيهق ميتافيزيقى لا يفهمه الخصماءء ولا يحسن 
تصوره الوسطاء والرقباء. فعند هؤلاء جميعاً تندرج السياسة فى باب العلوم الفيزيقية. ومن 
الحماقة بمكان أن يتوقع الذين تلطخت أيديهم بدماء الأقربين والأبعدين أن يوليهم 
خصماؤهم أدنى ثقة» فمن ذا الذى يعهد إلى دراكيولا العناية ببنك الدم؟ 

على أن الذى أذهل الناس فى الداخل والخارج هو عودة البشير لنفس الخطاب القديم متناسيا 
كل ما قاله عقب اجتماعه مع قرنق. ونرى فى تغالى البشير محاولة لقطع الطريق على 
المتزيدين عليه؛ من داخل حزيه ومن المؤتمر الشعبى .وإن صح هذا يصبح الرجل فى مأزق 
كبير. فلو رضخ دكليرك فى جنوب أفريقياء أو هينرى كسنجر فى مفاوضات باريسء لمزايدة 
المزايدين لما كان هناك سلام فى جنوب أفريقيا اوفى فيتنام. ملك الرجلان زمام أمرهما ضد 
تيارات الجيش والأمن والمليشيات (حالة جنوب أفريقيا)» واليمين المتطرف فى الحزب 
الجمهورى (حالة كسينجر) . ولقد أصاب المهندس صلاح إبراهيم أحمد عندما كتب لإحدى 
صحف الخرطوم يقول هنعم يستقيم التفاوض تحت قعقعة السلاح إن كان رائدنا السلام؛ كما 
أشار إلى أن مفاوضات باريس التى ضمت الولايات المتحدة» وثوار فيتنام الشمالية» وحكومة 
كمبوديا وفيتنام الجنوبية لم تتوقف حتى عندما قام ثوار فيتنام الشمالية بأعنف هجوم على 
سايقون (عاصمة فيتنام الجنوبية) فيما كان يسمى بهجوم ألتيت (ع/انودعه )»7) .(3177) 
وبعد شهر وبضعة أيام من المحادثات المكثفة مع طرفى النزاع» أفلح وسطاء الترويكا فى إقناع 
الطرفين بتوقيع أتفاق فى ١7‏ نوفمبر ٠٠١7‏ لإنهاء العدائيات (105)0110165] 01 ممتأدددء©) 
يمتد العمل به حتى مارس ٠٠١"‏ أثناء المفاوضات. ذلك التعبير اختير كبديل لوقف إطلاق 
النار حتى لا يقع خلط بينه وبين وقف إطلاق النار الشامل (ع15] ع5دع عناتعمةاء,مممره0)ء 
والذى ما انفكت الحركة تقول أن إعلانه يجب أن يتم بعد الوصول إلى تسوية سياسية شاملة. 

بدأت المرحلة الثانية من المفاوضات فى الرابع عشر من أكتوبر 7١٠٠م‏ وانتهت فى 
التاسع عشر من نوفمبرء وكان لا بد للطرفين أن يعودا مرة أخرى إلى ٠شيطان‏ التفاصيل. . 


928 


ومن الطريف أن أحد مفاوضى النظام (أمين حسن عمر) أعلن فى تلفزيون السودان أن لهم 
(أى للجبهة) وسائل لمعالجة هذا الشيطان مها التعوذء ولكن؛ فيما اتضح؛ كان شيطان 
ماشاكوس من نوع آخر لا تلجمه العوذ ا حي ا 
الحكومة» لأنه ما برح يثابر على الظن بأن الذى هو بصدده «سلام من الداخل»؛ حتى وإن 
كان ذلك السلام سيتم فى ماشاكوس. من تلك القضايا تناوب الرئاسة؛ وكحد أدنى وجود 
رئيس ونائب واحد له يتخذان القرارات فى كبريات الأمور بالتراضى (دناقمء005)» إعادة 
هيكلة الخدمة العامة وتحديد نسبة معينة فيها للجنوبيين» اقتسام الوزاراتء استقلال الهيئة 
القضائيةءالاتفاق على عاصمة قومية خالية من القوانين الدينية إلا فيما يتعلق بالأحوال 
الشخصية . مواقف وفد الحكومة من هذه القضايا تراوحت بين ما يدفع للدهشة والاستغراب. 
وبين ما يقود للسخط والاستفزاز. يدعو للاستغراب مثلاً» موقف الوفد من قضية الرئاسة. 
قال قانونى الوفد الحكومى لن يكون هناك نائب واحد للرئيس بل نواب ععدداء وأنكر أن 
هناك ما يسمى بالنائب الأول. ولعل القائل بهذا لا يوالى الاستماع إلى تلفزيون السودان» 
ولا يقرأ صحفهء إن كان جاهلا بهيكل النظام الذى يمثله» أو بدستوره . وعندما توجه أحد 
أعضاء وقد الحركة بسؤال عمن هو الذى يخلف الرئيس إن عطته الأقدار عن أداء مهمته» 
تولى الرد مستشار الوفد القانونى قائلا: يمكن أن يعهد الأمر لرئيس البرلمان. هذا بالقطع 
يخالف ما يقول به دسترر النظام الذى ينص على ما يلى: :إذا خلا منصب رئيس 
الجمهورية يتولى ناتبه الأول أعباء رئاسة الجمهورية مؤقتا لحين انتخاب الرئيس الجديد.. 
ولربما قرر مستشار الوفد أن يستصحب فى فتواه تلك الدستور الفرنسى:علما بأنه من 
القائلين ٠لا‏ اجتهاد مع النص». الذى يدعو للسخط والتقزز هو مجىء هذا الرأى ‏ الفتوى 
ممن وقعوا على نص فى بروتوكول ماشاكوس بمنح الحقوق الدستورية كاملة غير منقوصة 
لكل مواطنء دون اعتبار للجنس أو الأصل أو الدين "بما فى ذلك رئاسة الجمهورية .ومن 
الواضح أن فقيه الوفد ما جاء إلا ليؤكد واحدا من الشوابت (لا ولاية لغير المسلم على 
المسلم) » حتى وإن كان ذلك الثابت يتعارض مع الدستور الوحيد الذى يحكم التفاأوض بينه 
وبين الطرف الآخرء بروتوكول ماشاكوس الإطارى. 


929 


يقود للاستغراب أيضا رد صاحب التعاويذ لإلجام الشياطين على ما طرحته الحركة 
حول الخدمة العامة. قال "إن الخدمة العامة جهاز يختار له الناس وفق الكفاءة: ولعله ظن 
أن الذين ينتوى أن يعقد معهم سلاما من الداخل قد جاءوا حقيقة من الخارج لا يعرفون ما 
يدور فى السودان. ولكن المداقع عن سلامة الخدمة العامة وحيدتها يعرف أنهم يعرفون 
حقيقة واحدة هى أن آخر نظام يحق أن يتحدث عن سلامة الخدمة العامة هو النظام الذى 
عزل قرابة الأربعين ألف موظفاً ليحل مكانهم أنصاره وسدنته» بل هو النظام الذى لم يسلم 
من غوائله حتى القضاء والبنك المركزى الذى عين كأول محافظ له فتى لا نحسب أنه كان 
يمتلك حساباً فى بتك . 

أما حول مشاركة القوى الأخرى فكان للوفد رأى عجب. قال أنه لا يعترف أولاً بما 
يسمى القوى السياسية» ولا شك فى أن الوفد لم يحط علماً فى الخرطوم بما يدور فى ميدان 
صنع السلام. لم يحط علما بلقاء النائب الأول مع السيد الميرغنى فى القاهرة . ومبلغ الظن 
أن الحوار فى ذاك اللقاء لم يكن حول أوضاع الختمية فى ديار الشايقية أو بالأحرى تكريت 
السودان. نتائج الاجتماع» كما أوردتها الصحفء هى حث الميرغنى على العودة إلى 
الخرطوم ليلعب دورا سياسياء ولريما استردف من معه. نحسب أيضآ أن الوفد لم يحط علماً 
بلقاء وزير الخارجية مع الميرغنى والذى أسر له فيه أن الحركة هى التى تعارض إشراك 
الميرغنى والتجمع فى عملية السلام وله كما قال:وثائق تخبت ذلك. فالرجل إذن ذهب 
ليضل الميرغنى ومن معه من القوى السياسية المعارضة التى لا وجود لها بالأكاذيب. فمن 
الذى نصدق؟ أما حول العاصمة القومية» فاقترح الوفد أن تكون للسودان عاصمتان: 
الخرطوم وجوياء تحكم كل واحدة منهما بالقوانين السارية فى المنطقة .على ذلك القول 
ردت الحركة أن الاقتراح يسعدها غاية السعادة لأن سيقود إلى تطوير سريع للبنية التحتية 
لمدينة جوياء ولكن أضافت دعنا تكون جادين (5نام1أرء5 »66 5نا “م])ء كيف يمكن أن 
توزع الوزارات بين العاصمتين؟ وما هو أساس توزيعها؟ وكيف يمكن لاصحاب المصالح 
فى الشمال أن ينتقلوا إلى جويا لقضاء مصالحهم؟ أليس غريباً أن يجىء هذا الاقتراح ممن 
لم يترك منبرأ دون الحديث من فوقه عن وحدة السودان؟ ثم أليس أكثر غرابة» أن يأتى 


52530 


الرفض ممن كانوا دوما مكان اتهام بالعمل على تمزيق السودان؟ ترى ما الذى جعل وفد 
النظام يتوغل فى طريق ضيق المخرج؟ الرد بسيطء فالنظام لم يبق له من كل ثوابته» كما 
قلناء غير منع الشرب العلنى فى العاصمة وفرض الزى الإسلامى؟ إن فقد ذلك فقد كل 
شىء. ولو كان السلام غايته لتعامل مع مشركى الدينكا والشلك؛: كما تعامل مع الرسول 
مشركى قريش فى صلح الحديبية حتى يكون سلامء أو ليست الحرب «جهاداً. ضد 
«المشركين.., كما أشرناء نزع الرسول ع قميصاً ألبسه الله (النبوهم) حتى يضع الحرب 
عن الناس ولا تكون بينهم عيبة مكفوفة (عداوة) ولا إغلال (خيانة) لمدة عشر سنوات. 
(إين كثير »١158/5‏ البخارى :كتاب المغازى) . 

وتقديرا من الحركة لهذا الحرجء قالت دعنا نخرج من العاصمة المثلثة مدينة الخرطوم 
وحدها بحسبانها مركز السلطان؛ وكان الرد غريبا من أمين حسن عمر: "ولاشبر. وما بمثل 
هذا الأسلوب يكون التفاوض. ومن بعد أَخِذْ النظام يسرب لصحفه بأن الحركة تريد عاصمة 
علمانية التعبير الابتزازى الساذج. على ذلك رد أحد عناصر الحركة (ياسر عرمان) بالقول 
نحن نريد الخرطوم عاصمة كالقاهرة . يتساءل المرءء لم لا يدور بخلد النظام أبدا أن هذا هو 
الحال الذى كانت عليه العاصمة فى ععهد السيدين وطوال المرحلتين الأوليين من عهد 
نميرىء؛ أى حتى سبتمبر 1387ء كما أن هذا هوما تريده المعارضة الشمالية» وقد أعلن 
واحد من قادتها (صادق المهدى) ترحيبه بالاقتراح. ثم لم لا يخطر ببالهم أن ذلك هو حال 
العواصم العربية إلا واحدة» ومن تلك العواصم ما يحكمها أمير للمؤمنين (الرباط) » ومنها ما 
يجلس على دست الحكم فيها هاشمى من عترة النبى» آل بيته (عمان) . أوهل المراد أن 
نضع تجارب كل أهل الشمال المسلم فى كفة»ء وغلواء الجبهة فى كفة» فترجح الغلواء؟ أم 
المراد أن نضع وحدة السودان فى كفةء وتجاريب الجبهة فى كفة أخرىء فيهوى الميزان 
بالوحدة ؟ إن كان هذا هو الرأى» فعلام التفاوض؟ 

نتيجة لكل هذا التحايل الذى يعرى أصحابه من كل مصداقية» أو إن أحسنا الظن- 
هذا الغلو الذى لا يتسم بأدنى درجة من الذكاءء انتهت الاجتماعات فى الموعد المقرر لها 
دون توقيع على أى اتفاق. وإزاء إصرار الوسطاء للإبقاء على بذرة الأمل منعقدة» قبلت 


5931 


الحركة على التوقيع على مذكرة تفاهم تعكس المبادئ (لا التفاصيل الشيطانية) التى اتفق 
عليها الطرفان. تلك المبادئ تلخصت فى ما يلى: 

© الاعتراف بأن السيادة الوطنية منوطة بشعب السودان» وبضرورة التعبير عن مطامح 
أهل جنوب السودان فى التمتع بنصيبهم فى كل مجالات الحكمء والعمل على ترابط أجهزة 
الحكم على كل مستوياته. 

© تعزيز رفاهية الشعب والحفاظ على حقوقه الإنسانية وحرياته الأساسية. 

© إجراء انتخابات عامة حرة خلال الفترة الانتقالية. 

© إنشاء هيئة تشريعية من مجلسين؛ مع ضمان التمثيل العادل لأهل الجنوب فى كلا 
المجلسين. 

© ضمان التمثيل العادل فى الخدمة المدنية» وعلى وجه الخصوص ضمان ذلك التمثيل 
لأهل جنوب السودان فى المناصب العالية والوسيطة فى الخدمة. 

© إجراء إحصاء سكانى فى القترة الانتقالية. 

© اتفاق على المبادئ العامة لاقتسام الثروة والموارد الطبيعية. 

© إنشاء لجان متخصصة 

© الاتفاق على المبادئ العامة لضبط العلاقات بين الحكومات المختلفة» وبوجه عام 
السياق التسلسلى للعمليات المتعلقة بإعادة النظر فى الدستور وتنفيذ اتفاق السلام. 

© قيادة جماعية فى مؤسسة الرئاسة. 

© إنشاء حكومة وحدة وطنية خلال فترة الانتقالية. 

© إجراء حملة إعلامية شاملة لشرح اتفاق السلام فى إطار اتفاق بروتوكول ماشاكوس. 
أبلغ تعبير عن ذلك الاتفاق كان هو قول سامسون كواجىء هؤلاء يريدون منا خيانة مبادئناء 
فعلى الأقل تقاضى يهوذا ثلاثين قطعة من الفضة على خيانته ليسوعء هؤلاء يظنون أنهم 
سيشتروننا بقطعة واحدة.(4"١)‏ 


232 


© النقطة الوحيدة التى لم ترد فى مذكرة التفاهم هى قضية النوبة والأنقسناء والتى 
مازال النظام يتأبى مناقشتها فى إطار الايقاد رغم تأكيد الحركة أنها لا تنظر لهاتين 
المنطقتين كجزء من الجدوب الجغرافى. وكانت المنظمة الطوعية التى سعت من قبل 
لتعميق الخلاف بين الحركة والمنشقين عنهاء ثم بينها وبين النوبة والأنقسنا (الففصل 
التاسع) قد دعت لاجتماع فى كمبالا (نوفمبر7١٠٠7)‏ تشير كل الدلائل على أن الهدف منه 
كان هو استباق أى عمل تقوم به الحركة لمعالجة موضوع المنطقتين. ومن حيث لا يحتسب 
هؤلاء أو الحكومة التقى قرنق فى جبال النوبة مع ثلاثمائة من قيادات المنطقة؛ جاء نصفهم 
من الخرطوم؛ بمن فيهم بعض القيادات التاريخية (فيليب عباس غبوش) . عقد أيضآ 
اجتماع نظير فى ديم منصور بالنيل الأزرق شارك فيه نفس العدد (وإن لم يحضره قرنق) » 
وفى الحالتين فوضت قيادات المنطقتين الحركة الشعبية للتعبير عنها فى مفاوضات 
ماشاكوس . ولا ينكر إلا مغالط أن المنطقتين جزء من محاور الحرب الدائرة» بل إن النظام 
توافق على وقف إطلاق التار فى واحدة منهما (جبال النوبة) تحت إشراف دولى. لهذا فإن 
الاتفاق على حل لمشكلتيهما يصبح جزءاً لا يتجزأ من مشروع إنهاء الحرب وإحلال السلام. 

860 

خلاصة 

فى الفصول السابقة تناولنا جذور الحرب الأهلية وتفاعلاتها منذ الاستقلال» وحتى بروز 
الحركة الشعبية بعد إلغاء نميرى لاتفاقية أديس أباباء كما استعرضنا ما توافقت عليه الحركة 
مع القوى السياسية الشمالية لإنهاء الحرب حتى مجىء نظام الجبهة فى يوني و145١‏ 
ليقوض إرادة الشعب» ويقضى على أى أمل فى السلام. ومنذ البدء انتهج النظام أيديولوجية 
ما كانت لثرسى قواعد سلام ممرض لأهل الجنوب: تلك حقيقة ما كان ينبغى أن تكون 
غائبة عن أذهان النظام الجديد» والذى تعرف قياداته جيداً موقف الجنوب من الدستور 
الإسلامى منذ 15754 . مع ذلك؛ سعى نظام الجبهة لكسب الحركة إلى جانبه بالرشوة 
(دعوتها لاقتسام السلطة معها)ء ولما أعيته الحيلة» قرر تحويل الحرب الأهلية إلى حرب 
دينية» ثم ذهب إلى تخريب وحدة أهل الجنوب وفق النهج الإمبراطورى الذى عرفه العالم 


20133 


منذ ععهد الرومان. ولئن كانت سياسة الرومان فى الماضى هى فرق تسدء إلا أن سياسة 
الجبهة تحولت إلى فرق لكى ما تدمر. وقد تناولنا فى هذا الفصل موقف العديد من 
المحاربين الجنوبيين الذين انتهوا إلى أحضان النظام الذى كانوا يحاربونء أو تحالفوا معه 
ضد إخوتهم الأقربين. كما تناولنا مواقف بعض الساسة الجنوبيين الذين لم تردعهم أوجاع 
إخوتهم فى الجنوبء أو أنين الشماليين أنفسهم النظام الحاكم» عن سلوك ذلك الطريق 
الشائن. رأينا أيضأ فى هذا الفصل عينات من المثقفين الجنوبيين لا يظهرون إلا فى مراحل 
الصراع الحاسمة ليطمسوا معالم الصراع. هذا أمر مؤسفء إذ لم يحدث قط فى تاريخ 
الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب أن برزتء قبل ظهورالحركة الشعبية» قوة سياسية فى 
الجنوب لتبين معالم قضية ذلك الإقليم؛ أو تفعل خيارات نضاله السياسى والعسكرى 
والفكرى ككل لا يتجزأء أو تحفر له موقعاً فى ساحات العمل الوطنىء وفى دهاليز السلطة 
عبر العالم. 

من جهة أخرى لم تحس الطبقة الحاكمة فى الشمالء إلا نادرأء قبل ظهور الحركة برغبة 
حقيقية فى معالجة هموم الجنوبء والاستجابة لمطالبه المشروعة» باعتبارها جزءا لا يتجزأ 
من هموم ومطالب الوطن كله . ففى الماضى كانت تلك الطبقة تنظر إلى هموم الجنوب على 
أنها هموم إقليمية محدودة ضيقة:؛ بل كان البعض يرى فيها مطالب لا وطنية 
(16011همهنا)ء إن لم تكن خيانة . هذا الموقف تبدل كثيراً بعد إعلان كوكا دام؛ ومبادرة 
السلام السودانية فى ١7‏ تشرين ثان/ نوفمير 19484١»ء‏ ثم اتفاق القصر فى أبريل ١184‏ . وإن 
كان نظام الجبهة قد أجهض تلك المبادرات غداة استيلائه على الحكم؛ وقضى بذلك على 
عملية السلام الجارية» إلا أنه أيضاً أسدى معروفاً لقضية السلام والوحدة فى السودان. 
فسياساته المتطرفة» وأجندته ذات المرمى القصى (103:11031150)؛ ووصوله بالاستقطاب 
الدينى إلى أقصى حدوده» فرض خطوطاً جديدة للمعركة؛ أصبح فيها الحرام بين» والحلال 
بين. وما قرارات أسمرا حول القضايا المصيرية التى توصل إليها التجمع فى عام ١556‏ 
بعد سنوات من التأرجح. إلا تتويج لهذا الإدراك الجديد. 

بيد أن الرواية السودانية رواية معقدة» تتأرجح بين السوريالية ومسرح اللامعقول. فى 
كل الروايات بطل وشرير (عع216 05 04 7111318)» أما روايتنا فرواية بلا بطل» ويحتشد فيها 


534 


أكثر من شرير. الشرير فى ععرف رواد السينما فى السودان يلقب بالخائن» وهذا وصف 
غليظ» ولهذا سنعرفه بالبطل المضاد (8650-:30). فمنذ إعلان كوكا دام طغت على السودان 
فرحة ابتهج معها أهله بانكشاف الغمء وزاد من الفرح والابتهاج إنضمام الغائب عن ذلك 
الإعلان: الحزب الاتحادى الديموقراطىء إلى مسيرة السلام فى نوفمبر ١5188‏ . هذان 
حدثان نكرر الإشارة لهماء أولاً لكى لا ننسىء وثانياً لكيلا يضلنا فاسدو العقل أو ذوو 
الأغراض بالتلهى عن الموضوع. والمكوث عند الأعراض. وفى حسباننا لا يريد ذوو 
الأغراض بذلك التشويش إلا محو الجوهرء والطمس على أعين الناس. ولعله بات واضحاً 
مما ورد فى هذا الفصل وفصول أخرى من هم الأبطال المضادون فى التجلى الأخير 
للرواية» هم على الترتيب: البشيرء الترابى» صادق المهدى. على أن الأول والثانى كاناء 
على الأقل» منطقيين فى لا منطقهم إذ ظل كلاهما يؤمن أن النموذج الأيديولوجى الذى 
جاء به برىء من كل عيبء حتى بعدما دمرته الإخفاقات المتلاحقة. وبدلاً عن الاعتراف 
بالإخفاق والعود إلى الصواب كما حدث فى ٠١‏ يوليو/ تموز7١٠٠7‏ تبنى الزعيمان ‏ إلى 
حين فراقهما فى ديسمبر/ كانون أول» ١155‏ ثلاثة برامج للعمل من أجل السلام: واحد 
للجنوبء والثانى للشمالء والثالث للمجتمع الدولى. كانا يقولان للجنوب أن حق تقرير 
المصير مكفول لهء حتى وإن قادت ممارسته إلى الانفصالء طالما كانت تلك هى رغبة 
أهله . فى نفس الوقتء اندفعا بحماس غريب فى إذكاء الخلاف وإشاعة الفرقة بين 
الجنوبيين لتحويل الحرب إلى صراع جنوبى جنوبى. أما بالنسبة للشمال» فقد اختلفت 
صيحة المعركة, أصبحت هى تأمين سلامة أراضى السودانء والحفاظ على وحدة أهله» 
وحماية هويته العربية الإسلامية من تهديدات الانفصاليين أى المنادين بحق تقرير 
المصير. وكانت لهما فى هذا شعارات زاعقة خبيثة. مثال ذلك الدفاع عن الأرض 
والعرض؛ والعرض هو الحسبء وكأنما كل هذه الحرب التى ظلت رحاها تدور على مدى 
ما يقارب نصف قرن من الزمان هى التجنى على أحساب ذوى الأحساب. البرنامج 
الثالث؛ والموجه للمجتمع الدولى» كان مزيجاً غريباً لا يستصح به مريض من علة» أو يبرا 
من داء. فى ذلك المزيج تحرير اقتصادى كامل لا يتبين معه آدم سمث نفسه» وفيه دعوة 


2555 


لحق الشعوب فى تقرير مصيرها تتقاصر دونه نقاط ودرو ويلسون الأربع عشرة» وله من 
ميثاق الامم المتحدةء والإعلان العالمى لحقوق الإنسان نصيبء وفوق كل ذلك ذرارات من 
شرع اللهء ما أريد بها إلا إلهاء التابعين بالشعاراتء والتأكيد لهم باطلاً بأن شرع الله ما زال 
قائماً. ولعل تلك الحيلة قد انطلت على بعض صناع السلام فى الغربء: فصدقوا التكاذيب» 
رغم نصح الناصحين لهمء مما أطال من أمد المعاناة. 

أطال أمد المعاناة أيضاء تبنى النظام لأى مبادرة للسلام اعترضت طريقه؛ وقد أعطى 
تعدد تلك المبادرات انطباعاً له ما يبرره» بأن كل الذى يترجاه النظام منها هو كسب الوقت 
حتى يعد العدة للانقضاض الأخير على الحركة. ولريما نظلم النظام إن قلنا أنه لم يكن 
راغباً أصلاً فى سلامء نعمء لا يمانع النظام فى أى سلام يبقى له مشروعه الأيديولوجى. 
وهيمنته السياسية. فى مناوراته تلك ارتكب النظام ثلاثة أخطاء الأول هو الظن بأن الحل 
يكمنء فى النهاية» فى انتصار عسكرى. والثانى هو سوء تقديره لمدى استمساك الطرف 
الآخر بأطروحته التى تقول أن وحدة السودان ترتبط ارتباطاً عضوياً بإنهاء كل أنواع 
الهيمنة السياسية والفكرية من جانب أى فريق على الفرقاء الآخرين. الخطأ الثالث هو توهم 
النظام بأنه وحده المؤهل لإحياء الإسلام فى الشمال المسلم وفق نظرته للإسلام»» حتى إن 
رفضت تلك النظرة قيادات الشمال المسلمة» وغالبية جماهير أهله المسلمين. بسبب هذه 
الأخطاء المركبة انتهت كل المبادرات؛ إما إلى فشل ذريع» أو إلى طريق مسدود. ويما أن 
قدرات البشر على خداع النفس لا تعرف الحدودء تحمس النظام كثيراً للجهود الأمريكية 
الأخيرة لدفع مسيرة السلام لظنه أن أمريكا وحدها هى القادرة على إنهاء تشدد الحركة فى 
مواقفهاء ولتوهمه أن الحركة أداة طيعة فى يد الأمريكان. لم يصدق النظام» حتى تلك 
اللحظة» أن للحركة موقفاً مبدئيآ» كما لم يتساءل عما هى مصلحة أمريكا فى الضغط على 
الحركة لحساب النظام . هذه الحقائق الساطعة لم يدركها النظام إلى أن جاءت الساعة 
الحادية عشرة فى العشرين من يوليو/ أيلول 7٠٠١7,‏ ليته فعل ذلك فى عام 1951 ؛ حتى 
يوفر على السودان كل ما لحق به من خسائر خلال الخمس سنوات التى تلت. 


5956 


أما المهدىء الرجل الذى تعرض للمهانة على يد الجبهة أكثر من أى سياسى شمالى 
آخرء فيبدو أن إحدى عشرة سنة من الهونى التى لقيها على يد النظام» لم تكن كافية لحمله 
على استيعاب درس 7١‏ حزيران/ يونيو ,1185 لقد حبا الله المهدى بكثير من السمات 
الفكرية المائزة إلا أنه. كممارس سياسى» عرف بأحكامه الخاطئة» ومبادراته التى يصادم 
بعضها بعضا لأنه لا يترك واحدة منها تمضى فى مجراها الطبيمى لأى مدى معقول من 
الزمن. الذين يثقون فى الرجل لا يرون فى أخطائهء كما ذكرنا فى كتاب آخرء إلا محصلة 
لقانون النتائج غير المعتمدة (5ع00560067©6 012160060 04 13104) ولكن خلاف المهدى 
مع التجمع» وهجومه القادح على قرنقء واتفاقه السرى مع الترابى فى جنيف. واتهاماته 
غير المبررة للولايات المتحدة والدول الأفريقية» ونفوره الزائف من تدويل الصراع فى 
ريع لخر تحوله لمناشدة أمريكا التى يمقتها لكيما تتدخل فى أمر السودان؛ هى أكثر 
من مجرد تقلبات مزاجية» أو أحكام خاطئة . هىء فى الواقع» ختل بين لا يخدم إلا مصالح 
صاحبه . لقد خرج المهدى فى هجرته وكان من الواضح أنه سعيد ومتفائل (21من) بدوره 
الجديد فى التجمع . ولعله أحبط كثيراً من جراء عدم استجابة رفاقه فى التجمع لمبادراته 
الكثرء حول التنظيم كما حول الرؤى. ومنذ وصوله إلى أسمرا فى كانون أول/ ديسمبر ١195‏ 
استقبلت فصائل التجمع كلها الصادق بالأحضان ولم تول أدنى اعتبار لتصريحاته التى 
أدلى بها فى الخرطوم» وحاول فيها التأى بنفسه عن التجمع . كان من رأى هذه الفصائل أن 
حزب الأمة (حزب المهدى) عضو مؤسس فى التجمع» ومن أوائل الموقعين على كافة 
قراراته؛ بل كان له قصب السبق فى صياغة بعضها. لهذا سمحوا لزعيم ذلك الحزب 
بهامش من الحرية مراعاة لأنه كان واقعاً فى قبضة نظام شرير. ذلك كان هو موقف 
التجمع منه غداة وصوله أسمرا إلا أن أكاديمياً سودانياً كان يعلم فى جامعة أسمرا (الدكتور 
شريف الدشونى) جابه الصادق بسؤال تحرج عن طرحه رفاقه فى التجمع. شارك الدشونى 
فى أول مؤتمر صحفى عقده الصادق فى ١١‏ كانون أول/ ديسمبر "1515 يعد وصوله إلى 
العاصمة الإريترية» وقدم نفسه كمراسل لجريدة الأيام. سأل الصادق: يعتقد الشارع السياسى 
فى السودان أن الحال سينتهى بك إلى تمزيق التجمع» والعمل على دفعه لقبول أنصاف 


237 


الحلول والدخول فى سلام مشبوه مع النظام الخاكم» كما فعلت مع الجبهة الوطنية فى 
عام1177 . فما قولك؟ رد الصادق على تلك الملاحظة الجارحة قائلاً أن النظام كان يقيد 
حريته داخل السودان ويستغله كدرع بشرىء أما الآن فإن الأمور ستتغير بعد خروجه من 
السودان. وبعد ذلك المؤتمر بيومين بعث الصادق رسالة للبشير من خلال جريدة الشرق 
الأوسط فحواها أن شعب السودان كله قد اتحد لتصعيد النضال المسلح؛ والعمل الجماهيرى 
ضد نظامه . ولكن لما تمض بضع سنوات حتى فعل الصادق ما تنبا به الأستاذ الجامعى؛ أو 
لعله الصحفى البصير. لماذا فعل ذلك؟ 

كان الصادق يتوقع» فيما يبدوما هو أكثر من مجرد الاستقبال. كان يتوقع تطويباً 
سياسياً («2110 ©8206 [20110162) من جانب التجمع . وبالتأكيد لم يبد الصادق رغبة فى 
رئاسة التجمع؛ بل رفض طلب الميرغنى له أن يكون رئيساً مناوباًء الأمرالذى رفضه قرنق 
من قبل كما سنفصل فيما بعد. إلا أن تلميحاته ومحاولاته المستمرة لسرقة الأضواء من 
رئيس التجمعء كانت تؤمى إلى أنه يقدم نفسه كبديل قوى وقادرء أو بالحرى بديلاً أقوى 
وأقدر. ومن الناحية التنظيمية ما كان الصادق ليدعى للمشاركة فى اجتماعات هيئة القيادة: 
نظرا لتمثيل حزبه برجلين» عمر نور الدايم الأمين العام لحزب الأمةء مبارك المهدى, أمين 
عام التجمع. مع هذا رحبت هيئة القيادة بمشاركته الشخصية احتراماً له؛ ومراعاة لدوره 
القيادى» وحرصاً على الإفادة من إسهامه الفكرى. ولكن شهراً بعد شهر استمر الصادق فى 
طرح مبادرات على هيئة القيادة كان مآل أغلبها عدم القبول» إما لتعارضها مع اتفاق 
جماعى توصلت إليه من قبلء أو لمخالفتها لبرنامج الحد الأدنى الذى تواضعت عليه. 
وبمرور الزمن» بات واضحاً أن الصادق لم يكن يطرح تلك المبادرات بحسبانها أفكاراً قابلة 
للنقاشء وإنما كرأى فصل. حتى على مستوى صياغة القرارات درج الصادق على أن يلعب 
دور المقرر الذى يستخلص الآراء ليصوغها بنفسهء ثم يقدمها كمشروع قرار. هذا ليست 
تفصيلات عابرة» وإنما تعكس أمرين جوهرين: الأول اعتداد الصادق المفرط بوجهات 
نظرهء والثانى نفوره من المؤسسية. كان فى مقدوره أن يصوغ ما شاء صوغه؛ ثم يسلمه 
إلى مندوب حزبه فى لجنة الصياغة» أو إلى سكرتارية الاجتماع» ولكن الصادقء بدلاً عن 


252358 


أن يكون قائد الأوركستراء كان يسعى دوماً (ولعله مازال) الأن يكون أيضاً عازف العود 
والكمان وضارب الدفوف . أوركسترا الرجل الواحد هذه لم تركن أتضباره فى حزبه» فما 
بالك بتجمع لا يرضى أدنى أعضائه قدرة على التعزاف إلا أن يكون هو المايسترو. ولربما 
كان فى مقدور الصادق أن د يحقق ما يتمناه إن امتلك كل الآسات (2265 عط ااذ) فى ورق 
اللعبء إن أفلح مثلاًء فى قيادة العمل الجماهيرى الفعال والمستمر فى الداخل؛ أو تصدر 
النضال المسلح فى الجبهة الشرقية. ولكن» كما نعلم لم يكن ذلك هو الحال. 

رغم كل هذاء فإن إحباط توقعات الصادق لا يبرر الحنق الذى شاب تهجمه المتواتر على 
التجمع والحركة. صحيح أن لبعض انتقاداته ما بررها مثل تلكؤ التجمع فى عقد مؤتمره 
الثانى» وعدم الانتظام فى عقد اجتماعاته الدورية . بيد أن الأسباب الجوهرية التى حدت به 
للانسلاخ عن التجمع لم تكن أسباباً تنظيمية» أو خلافاً سياسياً. فاتسلاخه عن التجمع 
يعكسء فى جوهرهء تصدعاً فى الرؤى. مثال ذلكء عودته إلى تصريحاته القديمة حول 
الصحوة الإسلامية» أى استعادة الأفكار التى كان يرددها فى الستينيات. تلك التصريحات 
أضفت مصداقية على ما قاله البعض بالحدس أن الصادق يسعى إلى إعادة بناء تحالقه 
القديم مع الإسلاميين. على أنه ليس من السهل إبرام حكم على الصادق» حتى على أساس 
تلك التخمينات. فالصادق الذى وقع اتفاقية جنيف للتحالف مع الترابى ضد البشيرء ليبى 
هو نفسه الصادق الذى رقع اتفاقية جيبوتى مع البشير ضد الترابى وآخرين. كما أن الصادق 
الذى عاد إلى السودان لية ليفيد من هامش الحرية لتعبئة الشعب ضد النظام بغية حملة على 
السلام» ليس هو نفسه الصادق الذى أصبح» بطوعه» مفوضاً فوق العادة وسفيراً متجولا 
للنظام . والصادق الوزير المفوض بطوعه لنظام البشيرء ليس هو الصادق الذى وصف البشير 
بالرجل عديم الثقافة السياسية. 

لعل أكثر ما أثار غضب الصادقء كان هواتفاق المعارضة بما فيها الحركة والقوى 
الجنوبية ممثلة فى اليوساب» على اختيار الميرغنى زعيماً لهم . لم يفكر الصادق ملياً فى 
العناصر الموضوعية التى قادت لذلك القرار» ولم يرفى ذلك الترتيب إلا تحالفاً استراتيجيآ 
بين الحركة والحزب الاتحادى . ولربما اعتقد أن ذلك من شأنه أن يجهض أمانيه فى أن 


939 


يكون الزعيم رقم واحد فى ساحة السودان السياسية. ثمة احتمال أيضاً فى أن يكون لرفض 
الميرغنى مصاحبته فى السلم الدوار(250212:02) الذى استقله لينحدر به إلى الخرطوم» صلة 
بغضب الصادق على التجمع. رغم ذلك لم يتوان الصادق عن العودة للقاء الميرغنى؛ بعد 
كل السباب الذى كاله للتجمع والنقد الذى وجهه لرئاسة الميرغنى. جاء الصادقء هذه المرة 
للبحث عن صيغة للوفاق مع الميرغنى؛ بصفتيهما الحزبية لا الجمعية؛ وانتهى اللقاء باتفاق 
الرجلين على ما عرف بنداء السودان (وقد تكاثرت النداءات على خراش) . الصادق لم 
يدرك حقيقة بدهية أدركها المناضل العظيم» الحاج مضوى محمد أحمد عندما قال مرة 
لتحالف نظير بين الرجلين: «مافى مراح بيقوده تورين». ولريما كان لكل واحد من الرجلين 
قراءاته الخاصة لذلك النداء» فالصادقء فيما نقدرء كان سعيداً بفك العزلة التى فرضها على 
نفسهء باتفاقه مع أكبر حزب شمالى داخل التجمع» حتى وإن لم يخرج ذلك الاتفاق عن 
تأكيد كل المبادئ الأساسية للتجمع حول الحل السياسى الشامل منذ عام ١115‏ . والميرغنى 
أخذ يقول بعد لقائه مع الصادق أن التجمع أصبح أكثر قوة بعد اجتماعه مع زعيم حزب 
الأمةء وبعد مذكرة التفاهم بين الحركة والمؤتمر الشعبى. فحسب قوله؛ أصبح للتجمع 
ذراعان» ذراع تمتد إلى الصادقء وذراع أخرى تمتد للترابى. 

لم يسائل الصادق نفسهء لماذاء رغم كل مميزاته الفكرية» وقدراته التعبيرية» وقاعدته 
الشعبية الراكزه» لا يقبل به الناس كزعيم لأهل السودان أجمعين. الرد بسيطء التناقض 
الفاحش فى مواقفه ولكن قبل ذلكء اغتراره بنفسه للحد الذى أخذ يظن معه أن بمقدوره أن 
يكون إماماً للأنصارء وزعيماً للختمية؛ وقيمآ على الأقباط» ورائداً للقوى الحديثة» والراعى 
الاول للمهمشين والجنوبيين» وفوق هذا وذاك الحليف الشمالى الاوحد للحركة الشعبية. كل 
ذلك؛ فى ذات الوقت لا يبرح يقول فيه بأن غاية أمانيه هى إحياء المهدية بصورة تتفق مع 
متطلبات عهد العولمة. هذا أمر لا يقدر عليه إلا المرسلون أصحاب الخوارق والمعجزات. 
وإلى أن تتنزل تلك الرسالة؛ فما على الصادق إلا أن يتعامل مع حقائق الحياة كبشر غير 
معصومء وكسياسى له الهبل إن أخطأ. ولو راجع الرجل مواقفه لأدرك أين تنكب الطريق. 
فعل ذلك الترابى (شقيق السلطان العثمانى) وهو لما يزل على قيد الحياة . 


940 


اتجه الصادقء من بعد كما أوردناء إلى الاتصال بعدد من الساسة البارزين فى الجنوب. 
فى محاولة منه لتحجيم قرنق» باعتبار أن قرنق لا يمثل الجنوب. وفى حقيقة الأمرلم 
يزعم قرنق» مرة واحدة» أنه يمثل الجنوب أو حتى ثلذيه» كما يزعم الصادق دائما أنه يمثل 
ثلشى السودان الشمالى. ولكن من المفارقات أن يكون بعض من اتصل بهم الصادق من 
غلاة الانفصاليين» كما كان من بينهم من يرفض رفصا باتآ أجندة الصادق الصحوية. 
واحد من هؤلاء السياسى المتمرس بونا مالوال؛ والذى لم تكن آراؤه حول برنامج الصادق 
السياسى خفية على زعيم حزب الأمة. ولريما لم يسترجع الصادق النصيحة التى وجهها له 
بونا فى عام ١597‏ . قال بونا فى خطاب بعث به إلى الصادقء وأشرنا إلى جزء منه سابقاً: 
لن نستطيع الوصول إلى سودان متحد مع بقاء الإسلام كمحدد لنظام الحكم وأساس لحقوق 
المواطنين بمن فيهم من لا يدينون بالإسلام. فإذا عزم المسلمون على جعل الإسلام القوة 
السياسية المسيطرة, فحينئذ ينبغى عليهم الاعتراف بأن ذلك يتعارض مع الإبقاء على 
الوحدة مع غير المسلمين فى الجنوب . إن الاختبار الموضوعى للقيادة الشمالية ‏ ويشملك 
هذا أنت أيضاً يا أخ صادق - يتمثل فى إدراك تلك الحقيقة. فإن كانت مسئوليتك الأولى 

تتمركز فى خدمة الإسلام» فعليك أن تقبل انفصال الجنوب عن الشمال على أسس 

ودية. من الواضحء إذنء أن الحقائق لم تكن خفية البتة على الصادق فقد كان يعرفء أو 
ينبغى أن يعرف» مقومات الوحدة» وما عليه إلا أن يختار بين برنامجه الصحوى الذى يقود 
للانفصال» وبين النأى بالسياسة عن الدين حتى يبقى السودان موحداً. كان يعرفء أو 
ينبغى أن يعرفء أن قضية الحرب والسلام هى قضية توازن قوىء لا يفيد معها زرع الفتن 
دين الطردد 1 كالم لام لق يدحتو ان حو العنونررن الذس اميططفاقم: منيلما عات 
مكانتهم وقدراتهم؛ وإنما يتحقق مع من يحمل السلاح . ولو كانت الاتفاقيات الورقية مع 
نظام الجبهة تحقق سلاماً شاملاً» لحقق ذلك اتفاق جيبوتى. فالنظام المتجبر لا يأبه إلا 
للقوة» وكانت قو الصادق فى قُوة التجمعء لا فى إضعافه. كان يعرفء أو ينبغى أن 
يعرفء أن القوة الدافعة للدور الأمريكى فى السودان هى جماعات ضغط ذات وزن» 
وبرلمانيون ذوو نفوذ كبير يحرك أغلبهم وازع إنسانى» رغم الأجندات الخفية لبعضهم. 


9241 


اهتمام هؤلاء بالحركة» لم يكن نتاجاً لبراعة قرنق فى إقناعهمء وإنما لعدالة قضيته كما 
يرونها. وطالما عجز الصادق عن الاقتراب الصحيح من تلك القضية العادلة إبان حكمه 
(راجع تصريحاته فى الفصل السادس عن توق الأغلبية للشريعة وتلجلجه فى قبول مبادرة 
السلام» وتأرجح مواقفه كبندول الساعة عندما أصبح معارضا) لن يستطيع أن يقنع أحداآً 
خارج السودان بأطروحاته؛ أ ويصبح جزءا من الحل داخله. وفى الختام» نقول إن فشل 
المبادرات منذ عام ١4517‏ يعودء فى المقام الأول إلى سياسات الجبهة ومناوراتها فى الشمال 
والجنوب» ثم من بعد لمناورات الصادق المربكةء خاصة بعد ارتحاله من التجمع؛ وانتهاته 
فى أحضان النظام اللاشرعى. ومن المؤسى أن يتحول الصادق من خصم عنيد للتجمع» 
إلى مثير للمتاعب» ومخرب (50011513122) لا هدف له غير تخذيل جهود الاخرين. 
ممص 


942 


هوامش وإحالات 





.8 ,1987 ,لهلهمآ ,دمع طاعناطسظ 1يد2آ ,مم1 م بعمعطاء)ن1 لأاالا بومموع ه56 .0.178 (1) 

(2) المنظمات المسيحية التى عملت فى مجال العون الإنسانى فى الشمال والجدوب هى كاريتاس. 
اتحاد اللوثريين العالمىء المعونة النرويجية المسيحية» الإغاثة الكاثوليكية. 

(3) اقتصرت الزيارة الأولى لكبير أساقفة كانتربرى على المناطق الواقعة تحت نفوذ الحركة فى 
الجنوب دون إذن من حكومة الخرطوم: مما أغضب النظام ودفعه إلى طرد السفير البريطانى من 
السودان احتجاجاً على الزيارة. وبعد مضى بضعة أعوام زار كبير الأساقفة السودان بدعوة؛ هذه 
المرةء من حكومة السودان (أبريل/ مايو .)3٠٠١‏ وخلال الزيارة الأخيرة قام كبير الأساقفة بزيارة 
لبعض مناطق الشمالء ثم جوبا حيث أشرف على تنصيب أسقف مريدىء جوزيف ماروناء أسقفآ 
إنجليكانياً على عموم السودان» وهو المنصب الذى ظل خالياً لسنوات. 

4 ,2 نمنة0نا2[ ,لأمدععءاء1' بإدلمند (4) 

١994 8/ 0114/ تقرير بيروء مقرر لأجنة حقوق الإنسآان «مدبمة[‎ )5١ 

(6) الحياة» ١١‏ أكتوبر 19954. 

(7) أطلق على فلاسفة اليونان الساخرين اسم الكلبيين (0:05/ه)لأنهم لم يكونوا يرون فى 
الإنسانية خيرأً» بل كانوا يؤكدون أن السلوك البشرى كله تتحكم فيه المصلحة الذاتية بصورة مطلقة . 

(8) الشرق الأوسط» 78 يوليو .7٠٠١‏ 
لصة ممتطن .مفلن5) ستملعء] كناوتعتاع1 لأههه 1م1101 08 102ذدلطرصمه© عط أه ارموعم ر9) 

0.1 0 181287 رودن ]1 
(10) رويترزء ٠١‏ أبريل .7٠١١‏ 
18,2001 افوخ ,عرتسوسعلة العط ر11) 
لمزيد من التفصيل حول الانقسامات القبلية راجع الكتيب الذى أصدرته ويرلد فيشن(12) 
50030 ,ممزوذ/ا لأعو/ما 1996 ,ادناه لع لاطا عط بو 
0 .2 ,لقلناد5 :10 تتعتنوعظ ,كدتلاه© له نظ (ر13) 

(14) عقد الاجتماع فى رمبيك فى نوفمبر ١1135‏ وشارك فيه عدد من المنظمات التطوعية 

وممثلون لمؤسسات الإعانة الثنائية. 


243 


(5ا) المصدر (5) أعلاه» ص 7586 _ ١793‏ / 

(16) فى الخامس والعشرين من يناير ١147‏ التقىٌ غلى الحاج؛ ممثلاً للجبهة» ولام أكول ممثلاً 
للحركة الشعبية (المتحدة) فى مدينة فرانكفورتء ألمانياء للاتفاق على أسس للتعاون بين النظام 
ومجموعة مشار. فى ذلك الاجتماع تم الاتفاق بين الطرفين على إقرار مبدأ حق تقرير المصير 
للجنوب. 

7 1ض ,لتاعاانا8 معكاة أنه درهظ8 (17) 

(18) مقابلة صحفية مع جون شينى ,مدعةلخ اكد 116 1996 ,31 طنمدق! ,أطم,ندلح 

(19) الخرطومء 5 أكتوير .١998‏ 

(20)جدلية البئر المعطلة والقصر المشيدء الرأى العام ١4‏ أيلول/ سبتمبر7 7٠١‏ . 

(21) أعلن اليابا سرورء زعيم يوساب تبرئة حزيه من الاتفاق وطلب من صوئيل أرو الانسحاب 
من التوقيع أو الاستقالة من الحزبء فآثر الأخيرة . 

3 2 ,0قلناد علذكهآ ,ومدرعاء لأدونناآ (22) 

. 7٠١١ يناير‎ ١9 الحياة»‎ )23( 

(24) الحياة» 77 أبريل 7٠١١‏ . 

(25) نفس المصدر. 

(26) بيان من ويليام نيون بانى؛ ١5‏ أغسطس ١155‏ . 

(27) أورد مراقب حقوق الإنسان (بيرو) فى تقريره السنوى )١197(‏ أن قوات مشارء إلى جانب 
قوات الدفاع الشعبى» استخدمت تكتيكات الأرض المحروقة فى اعتدائها على مناطق: توماج؛ ليكاء 
لوم عقب احتلال الجيش الشعبى لمنطقة يابوس فى أعلى النيل. 

(28) رسالة من باقان أموم يسدى فيها النصح لمشار ليعود إلى عقله ١195‏ 11/0 551./8 

(29) عاش ميل مدلتون 1410016000 |16 فى شرق أفريقيا على مدى ستة وعشرين عاماً منها 
عشر سنوات قضاها فى السودان. وفى خلال إقامته بشرق أفريقياء عمل كمستشار للمندوب السامى 
(السفير) الكندى فى نيروبى. 

9 ,5 ععطماء0 ,1105 لتتعصقة ا ,قنك دناء 1 اقهه) غط١‏ كاعيظ 1ز0 (30) 


10 .)2آ لإأدعقاقة بقعلكة 10 اماعع121آ ,نوكا ددند84 زط أبمرع1 .|0 )ن ععم لفط )31١‏ 
0 بلإناا 


944 


(32) إشارة في تقرير جون هاركرء المبعوث الكتندى» ص ١١0‏ . 

2001 ,23 طععدكة؟ ,أمتاوعل لمم معكلة (33) 

(34) لقاء مع مندوب الإذاعة البريطانية» أندرو هاردينق؛ 7١‏ أبريل 7٠١١‏ . 

.7٠٠١ أغسطس‎ ١؟»تسمونوكيالا‎ )35( 

(36)حسب التقديرات الأخيرة لصندوق النقد ارتفع حجم الديون إلى 75,5 فى عام 7٠٠١‏ . 

ومنذ عام 1197 بدأ النظام فى التعاون من جديد مع صندوق النقد والتزم التزاماً كاملاً بوصفته 
لإصلاح كليات الاقتصادء خاصة فى عهدى وزير المالية» عبد الرحيم حمدى. وقد أدى هذا إلى 
استقرار حجم التضخم فى ./2٠١‏ 

4 ,28 أاكناعناك ,2002مآ ,112225 لإدلصلناك ع1 ,طأمما دعاعمدط© (37) 

(38) وكالة الأنباء الفرنسيةء يوليو ٠٠١١‏ 

984 ! رمعطعووع :110 ,لمممنه[ اعع:51 أأنللا (39) 
040 تع اقرع 71017 ,5تعاناع]1 ,النأهومم2ه0) أهاتمدن) رووعصط اما ,اندعط(له810 متمدك8ة 401) 

(41) تصريح لنايجل هاريسء نائب رئيس تاليسمان للعمليات الدولية» رويترز 7١‏ نوفمبر .7٠٠١‏ 

.2001 .24 بمقنصطء! ,كعه71 154] ,2ط (42) 

(43) إدوارد ألدين» الفاينانشيال تايمزء ١١‏ مايو 7٠١١‏ . 

(44) نفس المصدر. 

(45) نيويورك تايمزء ١7‏ يناير 7٠١١‏ . 

(46) وكالة الأنباء الفرنسية» ١‏ يوليو 7٠٠١‏ . 

(47) تقرير ريق كارانت من كالقرىء كندا ععطمء :1< ,05 76,1995 

(48) بيتر داقليش ,18 بدنداه5 .010ه,10 ,انهك1 بع 01006 7٠٠٠١,‏ منطقة أوقون هى أكبر مناطق 
إنتاج النفط فى نيجيريا التى تعمل فيها شركة شل بصورة جائرة أدت إلى تخريب البيئة الطبيعية؛ 
وإلحاق أذى جسيم بأهالى المنطقة. وشهدت المنطقة حملات احتجاج من الأهلين قادها الشاعر 
سياويواء وأثارت اهتمام جماعات رعاية البيئة وحقوق الإنسان عبر العالم. تلك الحملات وردود 
أفعال العالم تجاهها أغضبت دكتاتور نيجيرياء سانى أباشا غضياً شديدا دفعه إلى قمعها وإعدام قائدها 
الشاعر. نتيجة لهذاء بدأت شركة شل حملة دعائية واسعة لاسترضاء أهالى المنطقة ذراً للرماد فى 
عيون العالم. 


5245 


0 ,6 بلمقنصاء] ,مقطقئة4] ععوعوبنة] برط عميادءظ وبرعلط! 0115 (ر49) 

.؟عاكتصتك8 مواععه] كقلدمةن) ما لعغتسطناد ممع 1 ,مدلناد أ لإكناءعء5 القلوال] ,رععلمد]ط مطمك (50) 
.0 .8 | لممتصضطءط 

2000 ,12 لإمقنصطع] ,كعتم ا لفأعمقساط ,معللة لتدطلظ صصوعط مممع8 1 5) 

فى ذات الوقت كتبت الايكونومست: “الحقيقة المؤلمة هى أن تاليسمان تعين الحكومة على 
استخراج النفط» وعائد النفط يمول مجهود الحكومة العسكرى ,2,2000 تعطنمعامء5 .اوتصمرك8 

(52) المصدر 650٠‏ أعلاه» صفحة 

(53) نفس المصدرء ص >" 

(54) ضمت منظمات الكويكرزء التضامن المسيحي الدولىء: البحث عن الحرية»ء التحالف الكنسى 
لأفريقياء اللجنة المركزية للمونونايت» صندوق الإغاثة الدولى؛ الكنيسة الانجليكانية بكنداء الكنيسة 
الموحدة الكندية» الصندوق الإنسانى لعمال الجديد والصلب, ويرلد فشن (كندا) . 

00 طعنة11 .اند/ة لمة عطهان ,معاد للا موعهمه] ردد) 

(56) ظل نيفيل شمبرلين» وزير خارجية بريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية» يظن أن فى قدرته 
إيقاف طموحات هتلر وديآء رغم احتلاله لأراضي السوديت فى تشيكوسلوفاكياء ورغم الحل 
الاسترضائى الذى توصل إليه معه فى ميونيخ للحد من تلك الطموحات (اجتماع هتلر وشمبرلين 
وادوارد دلادييه وزير خارجية فرنسا) . ولكن عقب الاتفاق الذى حسب شمبرلين أنه قد أوقف به 
مطامع الفوهررء ابتلع هتلر تشيكوسلوفاكيا كلهاء وأصبح اتفاق ميونيخ مضرب المثل فى الرضوخ 


للابتزاز. 
(57) وكالة الأنباء الفرنسية» رويترز» ” مايو 7٠١ ١‏ . 
(58)المصدر ”١‏ أعلاه 
.2001 عمقلا ,مدلن؟ ماعد/الا 20ة [ز0 .طتتمعط لعطنءومهىد 111 (359) 
ك1 هآ مقلناك5 .نلهكععلصة مقمصهول8 161 (60) 
(61) نفس المصدر. 
4 انملن ,عااع ةن 102120131 نقلناك (62) 
(63) نفس المصدر. 
(64) نقس المصدر. 


5946 


(65) شمل هؤلاء من الوزراء بيرنادر كوشنر (وزير التععاون الفرنسى)؛ جان برونك (وزير 
التعاون الهولندى) » رينى سيرى (وزير التعاون الإيطالى)؛ ومن أعضاء الكونقرس السناتور نانسى 
كاسانبوم (كنساس)ء السناتور سام براونباك (كانساس)» السناتور بيل فرست (تينيسى)» الكونقرسمان 
فرانك وولف (فيرجينيا)» الكونقرسمان دوتالد بين (نيوجرسى)» الكونقرسمان توم تانكريدو 
(كلورادو)» الكونقرسمان ايلسى هيستنق (فلوريدا) » الكونقرسمان هارى جو نستون (فلوريدا) » 
الكونقرسمان توم كامبل (كاليفورنيا) الكونقرسمان تونى هول (أوهايو) . 

(66) فى تصريح أدلى به للصحفى البريطانى شارلس لامبء قال غازى صلاح الدين» الأمين 
العام للجبهة؛ إن الحكومة تفضل أن توجه كل المعونات الإنسانية عبر المنظمات الطوعية الإسلامية 
لأن المنظمات الأجنبية ما هى إلا واجهات للتبشير المسيحى والتجسسء الصنداى تايمزء ١8‏ 
أغسطس 1584. 

(67) «ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن 
لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأوللكم جعلنا لكم 
عليهم سلطاناً مبينأ» (النساء 11/4). 

.2001 لاكقناقةكآ رصسقلن5 تآأناه5 انوتلا مه رومع .]أمساودظ (68) 

(69) ورد هذا التساؤل عن كتاب لمعلق سياسى جنوبى (5:660 1000) وباحثة أمريكية 
أكاديمية (:80 عاائة8 .«اءدم1 مدى 11 .2 ,عند26): كما أثار نفس التساؤل لام أكول فى كتابه داخل 
ثورة أفريقية. 

(70) بدعوة من النظام»ء جرب كل من الرؤساء التالين يده فى حل المشكل السودانى: مانديلة 
(جنوب أفريقيا)» شيسانو (موزمبيق)» مهاتير محمد (ماليزيا)» بابنقيدا (نيجيريا)» باخيلى 
(ملاوى)؛ رؤساء الإيقاد الأربعة» مبارك والقذافى (المبادرة المشتركة) . كما سعت للعب دور فى 
حل المشكل السودانى الحكومات التالية: الولايات المتحدة» النرويج» هولنداء إيطالياء سويسرا. من 
جانب آخر تطوعت بعض مراكز البحوث» برضاء الطرفين» للتداول فى أمر السلام فى السودان مثل 
مركز ودرو ويلسون بواشنطونء وشبكة الرئيس كارتر للمفاوضات الدوليةء» ومؤسسة الحوار الدولى 
بلاهاى» ومجلس الانتراكشن وهو مجلس يضم رؤساء الحكومات السابقين» ومنظمة اليونسكو يدعم 
من برنامج الأمم المتحدة للتنمية. وقد عقدت الأخيرة ورشتى عمل شارك فيهما طرفا النزاع بهدف 
تعميق الفهم حول نقاط الخلاف. 

. ١145 وكالة أنباء الشرق الأوسط (مينا) 8 يوليو‎ )71١ 


1أ252 


(72) تصريح لكمال حامدء الحياهء 78 أغسطس ١154‏ . 

. ١444 أكتوبر‎ ١6 الحياة»‎ )73( 

.١946ويلوي‎ ١ سوناء‎ )74( 

237-8 2 ,كلقهعم5 عمديد0 لله (75) 

(76) نفس المصدر. 

(77) وكالة الأنباء الفرنسية» ١5‏ يوليو ١546‏ . 

(78) وقع على المذكرة بجانب السلاطين والسياسيين الجنوبيين رئيس أساقفة جوباء باولينو لورو, 
والتاجران الشماليان أحمد يوسف عكاشة والسيد محمد مكى. 

(79) اقترح اوباسانجو لدعم مبادرة السلام لجنة تضم: جيمى كارتر (الولايات المتحدة)؛ الأمير 
طلال بن-عبد العزيز (المملكة السعودية)؛ الأمير الحسن بن طلال (الأردن) » محمد بيجاوى 
(الجزائر ورئيس محكمة العدل الدولية)» اللورد كارنقتون (بريطانيا) جوليوس نيريرى (تنزانيا) 
سوزانا انيلى (ايطاليا) . 

(80) تضم لجنة تدبير الموارد لإعادة بناء السودان التى اقترحها اوباسانجو: المستشار الالمانى 
السابق هيلموت شمتء رئيس وزراء كندا السابق» الراحل بيتر ترودوء رئيس وزراء إيطاليا السابق 
جوليو اندريوتى. 
خناط ,لإوواع 211 كه عقنت 02 عل100 معطت عععط نزم 2 لإمقم ذز عموعط1" تمفلمصعغطذ صدناائلالا رل8) 
_ااءط اله ىذ ؛ذ ,لاوط وكان شيرمان واحدآ من أعظم قواد الحرب الأهلية ضد الانفصاليين فى الجنوب 
الخد 5 )45١‏ 1 

.6 ,18 الاكناعنات ,11125 لماع تكد الا .نالده1ا مع اناد ل82) 
.3 ,1105 ذ/لقنشآاط5 ,ىلا1" دزناطة عط أه ومتودعذ أكراآ عط أه دعالاوتك8 (83) 

(84) نفس المصدر. 

(85) كما ورد أنفآء وقع على الحاج (نيابة عن الحزب الحاكم)؛ مع لام أكول (نيابة الحركة 
الشعبية المتحدة) اتفاقاً فى فرانكفورت تضمن ما يلى: يمارس الجنوب حقه فى أن يختار بحريته 
الوضع السياسى والدستورى الذى يتفق مع تطلعات أهله دون استثناء لأى خيار. 

(86) نشرت منظمة حقوق الإنسان السودانية (518180) تقريراً فى 7 يونيو 2٠٠٠١‏ أوردت فيه 
أن سبعة وخمسين من الشبان المسيحيين فى معسكرات التجنيد الإجبارى عوقبوا لذهابهم للكنيسة 


5948 


يوم الأحد. وأضاف التقرير أن المجددين المسلمين لم يسمح لهم فقط بأداء صلواتهم فى المساجدء بل 
كانوا يشجعون على ذلك. 

(87) لم يكن مفاجئاً أن يرفض مجلس الكنائس السودانى ذلك التشريع مؤكداً أن فى تصنيف 
الكنيسة كمؤسسة طوعية جحودا لطبيعتها الدينية . قال المجلس فى مذكرة وزعها لا يمكن أن نسمح 
للبيروقراطية أن تمحو أصول الكنيسة المقدسة؛ كما أن "الكنائس تصر على تمتعها وتمتع رعاياها 
بحرية العبادة والتبشير والعمل الخيرى بمنأى عن أى تدخلات حكومية. 

(88) قى منتصف ديسمبر”7 7٠١‏ نشرت الصحف أن البرلمان السودانى اعترض على قرض من 
سلطنة ععمان لبناء سد مروى اعتمدته الحكومة لتعارضه مع الشريعة. وينص القرض الذى يبلغ 
1 ملايين دولار على فائدة محددة مقدمآ (الحياة ١1‏ ديسمبر7١٠3)‏ . ذلك الاعتراض من جانب 
نواب الشعب المسلم الذى ما ابتغوا منه غير تنبيه حكومتهم الإسلامية لتطبيق الشريعة حسبما 
صورها لهم النظام» قوبل بموقف غريب من رئيس البرلمان: إنذار الصحف بحرماتها من حضور 
جلسات البرلمان. وبعد بضعة أيام أفتى مستشار البشير للتأصيل بجواز قبول الريا وفق لفقه الضرورة! 
الضرورات تبيح المحظورات (البيان ٠١‏ ديسمبر؟١٠٠3)‏ . ولسوء حظ النظام وفقيه التأصيل أصدر 
مجمع البحوث الإسلامية حكماً بجواز فوائد البنك إذ ليس هناك نص شرعى أو قياس يطمأن إليه 
يمنع من تحديد الربح مقدماً مادام التحديد تم باتفاق الطرفين» كما ذكر رئيس المجلس.ء الشيخ محمد 
سيد طنطاوى. وكانت تلك الفتوى ردأ على استفتاء من حسن عباس زكى» عضو المجمع ورئيس 
الشركة المصرفية العربية الدولية. 

ر89) .1969 2111 كمنه]كخ معماءءه1 ,رعودزوونكا بممع11 ونظرية كيسنجر هذهء هى التى اعتمد 
عليها لإقناع الرئيس نيكسون بأن حرب الفيتنام حرب لا طائل من ورائها. 

(90) تضم دول الإيقاد أثيوبياء إريترياء جيبوتى» الصومالء كينياء السودان» يوغنداء وتم تأسيس 
منظمتها فى السبعينيات للتصدى لأزمة الجفاف والتصحر التى سادت المنطقة آنذاك» والعمل على 
تلافى أضرارها البيئية» ووضع الخطط لحماية البيئة الطبيعية حتى لا تقع الكارثة مرة أخرى. لهذا 
طغى الهم البيئى على مناشط المنظمة» مما يدل عليه اسمها: السلطة الحكومية نمكافحة الجفاف 
والتصحر .(1]0420 ,ومتلهء 6 تارعوءط لمة باطاعسمرط عه؛ بانممطال4 لفامعمبوىبامعيهنم1) إلا أن 
رؤساء المنظمة» بعد عقدين من الزمان» قرروا تغيير اسم المنظمة إلى السلطة الحكومية للتنمية 


(لفن]1 العمرمماعنيع2] ,ه] بوممطاس4 لمتمع سدع امع معاد 


949 


(91)من المفارقات أن وفد الحكومة الذى أعلن رفضه لحق تقرير المصير كان يضم على الحاج 
الذى وقع فى فراتكفورت مع لام أكول تعهدآ باسم الحكومة بمنح هذا الحق للجنوبيين. 

. كلة070551:0) 3 )2 5اع20506 ععدوء2 50308 ,مم12 دأنمكط (92) 
1114 2 110 عناكذ1 ,عغأو لتنا /أشاط5 (93) 
. 193 2 ركع نارعل1 أهصه3)1ل] لعاو00502) ,مدلن5 156 ,طعوع.1 (94) 

(95) نفس المصدر. روت الكاتبة أن على الحاج ومحمد الأمين خليفة» وكلاهما من دارفورء 
اتهما بالانحياز العرقى إلى جانب النوبة والجنوبيين لتدمير العروبة فى السودان. 

(96) لجأ النظام إلى مصر وليبيا للتوسط بينه وبين المعارضة مما ستجىء تفصيلاته فى نهاية 
هذا الفصل. إلا أن أكثر محاولات النظام هزءاً وجهالة كانت عندما طلب مسئول سودانى (الوزير 
المهندس شرف الدين بانقا)ء من السلطات السعودية عقد مؤتمر للصلح فى مكة على غرار مؤتمر 
الطائف الذى عولجت فيه المشكلة اللبنانية . وقبل سماعه لرأى المملكة أعلن الوزير فى الخرطوم نبأ 
الوساطة الجديدة ونسبها للسعوديين. مؤتمر مكة ما كان ليتسع لقرنق أوأى مسيحى آخرء مما يدل 
أن المراد منه كان هو توحيد المسلمين. وكان السعوديون أكثر وعيا بالمشكل ممن يفترض فيهم 
الدراية بمشكلتهم؛ إذ أعلن الأمير سلطان بن عبد العزيز أن المملكة لن تمنع أى مسلم من زيارة 
الأراضى المقدسة لأداء الشعائز والتفاوض فيما بينهم حول مشاكلهم . أما عن المقارنة مع مؤتمر 
الطائفء قال الأمير الفرق بين الذى حدث فى الطائف وما يدعو له الإخوة السودانيون هو أن 
اللبنانيين اتفقوا فيما بينهم على ما يريدون قبل مجيكهم للطائف. عكاظ ؟١‏ نوفمبر 1999 . 

(97) فيشر هو مهندس مشروع روجرز الخاص بتسوية الصراع العربى الإسرائيلى فى عهد عبد 
الناصرء كما هو واحد من صناع اتفاقية كامب ديفيد فى عهد السادات. 

)98( ,كوعع0 23واعععة8-)05 رؤز ع1أ10 10511225 مه ععموط برعالد50‎ ]011125, 1١ 
معطروء حولم‎ 22. 

(99) المصدر 57 أعلاه. 
.(ط51لا) ععوء ,10 عانناتاكضا 65غ5)2 لعتاوتا عط ما أرممع8] أواعءم5 رأكدعععلوعمط 1 (100) 

9 .28 عرنال 

(101) شارك فى الاجتماع ممثلون للدول التالية: النمساء بلجيكاء كنداء الدانمارك» مصرء فتلنداء 
فرنساء ألمانياء أيرلنداء اليابان: هولنداء السويدء سويسراء المملكة المتحدة: الولايات المتحدة» الاتحاد 


5250 


الروسى» إلى جانب ممثلين للمنظمات التالية: الاتضاد الأوروبى: الأمانة الغامة للأمم المتحدة: 
برنامج الأمم المتحدة للتنمية» المفوض السامى للاجئين» برنامج الغذاء العالمى» البنك الدولى . 
(102) بيان من سامسون كواجىء الناطق الرسمى باسم الحركة ١8‏ أبريل .7٠٠١‏ 
(103) بيان من الناطق الرسمى باسم الحركة» سامسون كواجى» نيرويىء 8 مايو 3٠٠٠١‏ . 
ل18ك1 2000 .30 طاعمدك3 .طلم (104) 

(105) الدوحة (قطر)١”‏ أبريل» »7٠١١‏ وجريدة الأخبارء القاهرة نفس التاريخ. 

(106) الاقتراح بضم دولة الإمارات المتحدة للمجموعة كان نتيجة للاهتمام الفائق الذى ظل 
رئيس الدولة» الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يبديه حول موضوع السلام فى السودان؛ للحد الذى 
اقترح فيه دعوة الفرقاء إلى لقاء فى أبى ظبى. 

(107) قرار هيئة القيادة بأسمراء مارس ١198‏ ؛ إعلان طرابلسء أغسطس ١555‏ » قرارا هيئة 
القيادة بالقاهرة, يوليو 939١ء‏ ومايو .7٠٠١‏ 

(108) وكالة الأنباء الفرنسية 4752 » 77 أكتوبر 1999 . 

(109) ظلت الإدارة الأمريكية تسعى لتعيين سياسى معروف لمتابعة قضية السودان منذ بداية 
عهد الرئيس كلينتون. ومن بين الأسماء التى طرحت فى منتصف التسعينيات اسم السناتور جورج 
ماكقفرن (وكان مرشحاً للرئاسة) » وعضو الكونجرس ستيفين سولارزء إلا أن الاسمين أسقطا وعين 
دبلوماسى كبديل لهما (السفير ميليسا ويلز) . 

(110) فى عام 19917 قام المهدى بزيارة إلى نيويورك حيث التقى الأمين العام للأمم المتحدة 
كوفى عنان. خلال ذلك اللقاء قدم نفسه كرئيس الوزراء الشرعى للسودان» ودعا الأمين العام لتدخل 
المنظمة لإعادة السلطة الشرعية إليه كما فعلت مع رئيس هايتى» ارستيد. 

١919ةربمفون‎ 59 رويترز‎ )١1!( 

(112) ندوة بدار الأهرام فى نوفمبر ١1345‏ ء القدس العريىء ٠١‏ أبريل 7٠٠١‏ . 

(113) الشرق الأوسط 7>١‏ أبريل .7٠٠١‏ 

.7٠٠١ أبريل‎ 7١ الجمهورية‎ )114( 

(115) الاتحادء ” سبتمبر 7٠٠١‏ .. 

(116) الرأى العام» 7 قبراير 1991 . 

.؟٠٠١ الوفدء القاهرةء ؟” أبريل‎ )1١17( 


9651 


(118) مؤتمر صحفى بالقاهرة» رويترز والشرق الأوسطء يونيو .7٠١ ١‏ 
(119) الأهرام العربىء 77 مارس 7٠١١‏ 
(120)البيان» دبىء» >” مايو .7٠١ ١‏ 
(121) الحياة ' مايو .7٠١ ١‏ 
(122) البيان /ا مايو 7٠١١‏ . 
(123) بيان من ياسر عرمانء أسمرا 4 ماي و١١٠7‏ . 
(124) الشعبء القاهرة» 4 أبيريل .7٠١١‏ 
(125) بيان لوزارة الخارجية» 4 ديسمبر .7٠٠١‏ 
(126) الخرطوم ١١‏ ديسمبر .7٠٠١‏ 
(127) البيان» دبى ١1‏ سيتمبر .7٠٠١‏ 
(128) الاتحاد أبوظبى 77 سبتمبر .7٠٠١‏ 
(129) استردت الحكومة منطقة همشكوريب فى 77/ 730٠١ /٠١‏ ثم أعادت تحريرها قوات 
التجمع فى ٠٠١7/1/4‏ 
(130) الاتحادء أبو ظيىء سبتمبر ٠٠٠١‏ 
(131) الأهرام العربىء القاهرة, ١5‏ أبريل 7٠٠١‏ . 
0 ,2 انمه .نلق أل:ةنان) ع1 ,اأعموك صو»”آ (132) 
0 ,14 ععطتاء1[01 ,و0انوه14 سام تطعا .(133) 
(134) الحياة» ٠١‏ نوقمير .7٠٠١‏ 
(135) القدس العربى» ١‏ ديسمير .7٠٠١‏ 
(136) الخرطومء ٠١‏ ديسمير .7٠٠١‏ 
0 .2 نال ,0510 ,11 عطا 01 عنال مامه لأمماظط (137) 
(138)عبد الوهاب الأفندىء القدس العربى» ٠١‏ سبتمبر ٠٠٠١‏ 
(139) الفصل السابع ب» هامش 1 
(140) وكالة الأنباء الفرنسية ١8139‏ أكتوبر .7٠٠١‏ 
(141) وكالة الأنياء الفرنسية 70 نوفمير .7٠٠١‏ 


252 


(142) تصريح لجريدة الخرطومء ١8‏ نوفمبر .7٠٠١‏ 

(143) حوار مع إبراهيم أحمد عمر الخرطوم» ١8‏ ديسمبر 7٠٠١‏ . 

(144) الحياةء لندن» ٠١‏ نوفمبر .7٠٠١‏ 

(145) القدس العربىيء لندن» ٠١‏ ديسمير .7٠٠٠١‏ 

.7٠٠١ ديسمبر‎ ١ الخرطومء‎ )146( 

(147) الحياة ١١‏ يوليوء تموز 2٠7٠١٠١7‏ 

(148) الحياةء 8 يوليوء تموز 7 7٠٠١‏ 

.7٠٠١ أبريل‎ "١ المصورء‎ )149( 

(150) وكالة الأنباء الفرنسية» 7" يوليو١١٠7.‏ 

.7٠١ ١ فبراير‎ 5١ الوسطء لندن»‎ )151( 

(152) حسن مكىء الخرطومء ١‏ مارس .7٠١١‏ 

(153) محمد الحسن أحمدء الشرق الأوسطء7١‏ أبريل 7٠١١‏ . 

.7٠١١ أبريل‎ ١ الحياة»‎ )154( 

.7٠١١ أبريل‎ ١8 الحياة»‎ )155( 

(156) تعليقات على المذكرة من روجر وينتر الرئيس السابق للجنة الولايات المتحدة للاجكين 
وهو جمهورى (عين مديرا لإدارة الكوارث فى عهد بوش) والأستاذ ايريك ريفز وتيد داقنى . 


معلاعا5 لإ لعامعوع2 أرممع!!آ ععمه1 عاأقه1 0515 ما عوممودء1 للالاطذ أدك0/1 (ر157) 


01 ,26 لإدنعطء .الوه نا 
(158) قدم الاقتراح فى 75 يناير ٠٠١١‏ السناتور فريست؛ (تينيسى» جمهورى) » السناتورفايتقولد 
(وسكونسنء ديموقراطى) » السناتور براونباك (كانساس؛ جمهورى)» السناتور ليبرمان (كونكتكت. 
ديمقراطى) » السناتور ديوين (أوهايوء جمهورى) » السناتورسانتورام (ينسلفانياء جمهورى) ٠‏ السناتور 
كليفلاند (جورجياء ديموقراطى) , السناتور سيشنز (ألباماء جمهورى) . 
01 ,11 لاأعندك/اآ ,أ5ؤمم دماع د الاعه/7 . بردمعء:0) :)1/1 بمدلة (159) 
2 ,30 عاناآ ,أ05 لماع لتطكعة/لا ,132 143250105 للد لإعدعد©) لإطامدرة1 نط عاتنارحى وبدعلز (160) 
وكالة الأنباء الفرنسية» ” اكتوبر )161(٠٠١١,‏ 


(162) نفس المصدر 
- 23,2001 1843 دعصم 1 علوملا بوع]2 , 2001 ,1 عمد ,عاعء نتوبوع21 .2000 ,31 بردكخ .طزم (162) 
01, 16 لإتقناتتة[ ,انان اتقطءاط دره؟)! 5تعابسعظ .(163) 

(164) أخبار اليوم 4 مايو ٠١١‏ . وقد أذاع البيان اللواء أحمد عباس باسم الرئيس. 

(165)وكالة الأنباء الفرنسية» 74 أبريل 7٠١7‏ . 

(166) سم الفريق السفير الأمريكى جورج موسء ليف مانجر (انثروبولوجى نرويجى) » جون 
رايل (صحفى بريطانى متخصص فى شئون السودان)» سارة أوبارد من صندوق إغاثة الأطفال؛ 
جورك يوسلك (خبير إيطالى فى القانون الدولى)» كرستيان ديليميه (انكروبولوجى اجتماعى 
فرنسى) . 

(167) مارك ليسىء نيويورك تايمزه 77 مايو؟ 39٠١‏ . 

2 27 بسقصطء ,01013/1ا(168) 

(169) الحياة " مايو ٠٠١7‏ 

(170) أدلى بذلك الاعتذار الدكتور غازى صلاح الدين ,28 مددءاء5 45 2002»: وتم نشره فى 
الخارج دون أن ترد له أية إشارة وسائل الإعلام السودانية. وجاء فى تصريح غازى: نأسف لوقوع 
الحادث ولكن القوات الأمريكية فى أفغانستان لا تعرف جيداً مهما بذلت من جهد فى الحرب إن كان 
المدنيون سيصابون من القصف الجوى 

2 ,4 لقنم .ذععاناع] روعء:0آ عدأاميةعر ] 17) 
2001 ,4 ععطاماء0 ,اوه تالماع لمتطكة ,1 ,مقدطااع0) «ماتحدظ لإط أرممع] (172) 

(173) تعصريح لمصدر فى وكالة المخابرات المركزية6ء0تمعامء21.5لآ ١١٠2,7؟‏ 

(174) مذكرة من فاروق أبو عيسى مساعد رئيس التجمع للشئون القانونية والدستورية. 

(175) النرويج هى واحدة من ثلاث دول فقط فى دول الشمال الصناعية التزمت بما قررته الأمم 
المتحدة على أن تقوم هذه الدول طوعاً بالإسهام بمبلغ محدد من دخلها القومى السنوى (37/) 
لبرامج التنمية الدولية . كما هى الدولة الوحيدة التى قررت نسبة مئوية معينة من عوائد نفطها لهذه 
البرامج . 


254 


(176) اتفاق قرنق ‏ مشار بواشنطن(191١)»‏ اتفاق بين حزب الأمة والحركة »)١1194(‏ قرارات 
أسمرا »)١1115(‏ اتفاق الخرطوم للسلام »)١1517(‏ اتفاق فشودة» نداء الوطن بين حزب الأمة ونظام 
الجبهة؛ المادة ١١‏ من دستور النظام »)١534(‏ مذكرة التفاهم بين الحركة والشعبى .)©١٠١١(‏ 

(177) أخبار اليوم؛ الخرطوم: ١‏ سبتمبر7١٠7.‏ ش 

2 ,18 ععطحوء 1107 ,عسأمدئية11 أهده تأمدمعام]1 أجمع 141001 . تأكصإ52ه81 عوعكء178(2) 

- جنوب السودان فى المخيلة العربية. 


25255 


زمان الضرد يا فرعون ولى 


ودالت دولة المتجبريتا 
وأصبحت الرعاة بكل أرض 
على حكم الرعية نازئينا 
لالا 
السلام بدون الجبهة 
القومية الإسلاميهة 


22237 


ار 
معمرمطز.. 


عقب انقلاب الجبهة على الحكم الديمقراطىء تلاقى فى سجن كوبر العتيدء محمد عثمان 
الميرغنى (زعيم الحزب الاتحادى الديموقراطى) » ومحمد إبراهيم نقد (الأمين العام للحزب 
الشيوعى السودانى) » ويعد عدة أيام» لحق بهذا الثنائى الصادق المهدى (رئيس حزب الأمة) . 
نزلاء السجن الثلاثة فاجأهم وجود ضيف فى السجن كان هو آخر من يتوقعون» حسن 
الترابى» الأمين العام للجيهة التى قادت الانقلاب العسكرى على السلطة. وكما تبين لهم 
ولغيرهم فيما بعدء كانت غاية الانقلابيين من حبس شيخهم ومرشدهم إخفاء هوية الانقلاب» 
ولربما أيضاًء ظنهم أن الشيخ المرشد سيفلح خلال فترة سجنه فى كسب الزعيمين الإسلاميين 
لصف النظام الإسلامى. ولكنء بدلاً من السقوط فريسة لتلك الأحبولة» قرر الزعيمان 
الإسلاميان مع رفيقهما اليسارى تكوين تحالف آخر لمناهضة النظام وقامواء بعون صحبهم 
المحتبسين معهم» بصياغة مسودة لميثاق(') أصبحء فيما بعد دستوراً للتحالف المعارض 
تمنى صاغته أن يكون ضابطأً للحياة السياسية وموجهاً لها بعد اقتلاع حكم البشير. 

دون إدناء من قيمة الجهدء أو تقليل من أهمية المبادرة برفض الانقلاب من الوهلة 
الأولى» كان ذلك الميثاق قاصراً فى أكثر من جانب. فأولاً طغى التحليل الشكلى للأزمة 
السودانية على الميتاق» وأغفل قوام الأزمة: الاختلالات الهيكلية فى الجسم السياسى» ودور 
التهميش الاقتصادى والسياسى فى تلك الاختلالات. كما أغفل أيضاً أهم أعراض الأزمة: 
الحرب . ثانياً حسبت قيادات التحالف الجديد أن التاريخ يعيد نفسه دوماء فما حدث لعبود» 
ونميرى سيحدثء بالضرورة» للبشيرء رغم أن كل الدلائل كانت تشير إلى أن انقلاب 
الجبهة لم يكن انقلاباً عسكرياً مألوفاً. كان الانقلاب انقلاباً سياسياً عسكرياً قام به حزب ذو 


959 


توجه فكرى استئصالىء وتاريخ حافل باستخدام العنف ضد معارضيه حتى فى رحاب 
الجامعات حيث الرا أى يدحض بالرا أى. هو أيضاً حزب ذو مجسات (1601320165) تمتد إلى 
كل مجالات الحياةء وفوق هذا وذاك» ذو مال وفيرء بعضه فى الداخلء وأكثره فى الخارج. 
تالثأء من الناحية الرؤيوية» بنى الميثاق تحليله للأزمة على أطروحة قديمة استنامت إليها 
القوى الحديثة منذ أكتوبر ١954‏ تقول أن مشكلة السودان تكمن فى استقرار الحكم فى 
الخرطومء وَأ الاستقرار سيتحقق متى ما كان هناك توزيع عادل للسلطة بين القوى 
التقليدية والقوى الحديثة. بناء على هذا الافتراضء قلل صاغة الميثاق» ضمناًء من أهمية 
حرب الجنوب فى زعزعة استقرار البلاد» ومن أثر التهميش السياسى والاقتصادى لأغلب 
أهل السودان على السلام الاجتماعىء وبالتالى على استقرار الحكم. وكما ألمحنا فى 
المقدمةء لا يعين التعميم فى تصنيف القوى السياسية إلى «حديثة:؛ وه«تقليدية» على تحليل 
صائب للأزمة السودانية لأن التعميم يضعف من القدرة على التحليل. وفيما قدمنا فى 
الفصول السابقة ما يؤكد أن نظرة كثير من الحداثيين لتينك القضيتين فى تجلياتهما المختلفة 
لا تختلف كثيراً عن تلك التى يقبل بها على هذه القضايا أسرى الألف والعادة ممن نسبوا 
للتقليدية +رلهذا خرضنا فى هذا الكدات على كديد نقاط إستدلال في الطزيق ترهدنا إلى 
مواقف أولتك العصرانيين من تلك القضاياء بدلاً من التعميم الذى طالما غبشنا عن حاجتنا. 

انطلاقاً من تلك المفاهيم المنقوصة تراوح تحليل الميثاق للأحداث فى السودان؛ بين الشجب 
الطقسى (610131) للأحزاب التقليدية» وبين استنكار تبادل الحكم بين هذه الأحزاب والعسكر فى 
حلقة مفرغة» ثم خلص إلى أن المسئولية الكاملة عن مشاكل السودان تقع على عاتق القوى 
التقليدية» لأنها ما أن تسلمت السلطة بعد أى انقلاب عسكرى, حتى نكصت عن تنفيذ ما 
اتفقت عليه من إصلاحات خلال الانتفاضات الشعبية . كما علل الميثاق الأداء الضعيف 
للحكومات الحزبية باستيعادهاء عند تشكيل الحكومات الجديدة» للعناصر التى لعبت دوراً مؤثراً 
فى الانتفاضة» وبخاصة النقابيين. ومن الغريب أن الأحزاب التقليدية لم تعارض ذلك الحكم 
القاسى على أدائهاء ريما لشعورها يومذاك بالذنب عن عجزها عن حماية الحكم المدنى الذى 
كانت تتولاه فآثرت الاستسلام» محتفظة ببارودها للمستقبل. 


960 


وعلى أىء فتبعاً لما استخلص من هذا التحليل والتصنيف دعا الميثاق إلى توزيع للسلطة 
يكون ل «القوى الحديثة؛ بمقتضاه دور فاعل. وفيما هو جلى من هذا التشخيص للأزمة» 
والتوصيف لمداواتهاء غبيت التشوهات فى الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية 
للدولة على المحللين» كما أفلت من اعتبارهم دور البنى الثقافية التحتية فى إدامة هذه 
التشوهات . وبإغفالها لهذا الجانب من المشكل فى التحليلء ظلمت القوى الحديثة نفسهاء قبل 
أن تظلم الحقيقة» إذ حول التركيز على التوازن بينها وبين القوى التقليدية فى كراسى الحكم 
أزمة السودان إلى قضية نزاع على السلطة. هذا لا ينفى الاتهامات التى وجهتها القوى 
الحديثة للأحزاب «التقليدية بتخليها عن الإصلاحات متى ما أمسكت بمقود السلطة؛ . متال 
ذلك» النكوص عن جد أكتوبر للسلام »)١1115(‏ تتويج ذلك النكوص بمشروع الدستور 
الإسلامى 378١ء‏ أو التراجع عن إلغاء قوانين سبتمبر(187١)‏ بعد انتفاضة أبريل 1946 . 

لا يساورنا شك البتة فى أن القوى الحديثة ظلت تلعب دوراً حاسماً فى إزالة الطغاة 
(أكتوبر 1954 أبريل :»)١1945‏ كما فى تثبيتهم (يونيو ة151)» على أن اقتدار هذه 
المجموعة على خلع الطغاة يستمد مما تملكه من طاقات لجعل البلاد غير قابلة للحكم 
(عاطهمء/0ع08نا) من خلال تحكم النقابات العمالية في القطاعات الاقتصادية الحيوية 
(القطاع العام والخاص) . ولكن القدرة على جعل البلاد غير قابلة للحكم ليستء بالضرورة» 
هى نفس القدرة المطلوبة لاستقراره؛ لاسيما فى ظل الديموقراطية التعددية . فالقوى الحديثة 
(النقابات) نفسَها تقائ هق أرمة فق الهونة, وبالنالى في ثنات الفاقدة ال مركن علميا. 
فإن كانت النقابات تمثل واحداً من أهم التجمعات المسيسة التى تجاوزت؛ بطبيعة تكوينهاء 
الانحيازات القبلية والدينية والإقليمية» إلا أن الطبيعة السياسية المزدوجة للعناصر المكونة 
لها تقلل كثيراً من أهمية تلك الصفة الوطنية الوائعة فىمجال السياسة. ففى القضايا 
اللصيقة يمهامها وواجباتها الأساسية: رعاية حقوق العاملين» صيانة القوانين النقابية» 
الحفاظ على أخلاقيات المهنةء يتحدد التزام النقابيين بالسياسات المهنية النقابية وفق مدونة 
سلوكية» بل قانونية معروفة: انصياع الأقلية لرأى الأغلبية. أما فى القضايا العامة» خاصة 
فى ظل الأنظمة الديموقراطية التعددية لا تملك النقابات أن تلزم أى عضو من أعضائها 


961 


بأى توجه سياسى معين مثل التصويت فى الانتخابات لمرشح بعينه. ولعل إفلاح النقايات 
فى تعبئة قواعدها فى لحظات المد الثورى ضد نظام بغيض إلى الكل أغشى على بصرها 
فلم تعد ترى هذه الفروق. فالانتفاضات قد تصبح موضوعاً لملاحم شعرية تتغذى بها 
الأجيال» ولكن الانتفاضات ليست وصعاً دائماً. كما أن التعبئة فى لحظات المد الثورى قد 
تصنع ثورة» ولكنها لا تشبت دولة» حتى وإن أفلحت فى إقامتها. رغم ذلك ما انفك 
النقابيون المسيسون يظنون أن القوى الحديثة ممثلة فى النقابات قادرة على أن تكون بديلاً 
لقوى اليمين التاريخية (الأحزاب التقليدية) » واليسار التاريخى (الحزب الشيوعى) . 

من حق النقابيين» بلا مرية» أن يطمحوا إلى الحكم يستشرفونه؛ إن قدروا على تجاوز 
كل نوازع التفرق التى تمزقهم أفقياً وعمودياًء كما مزقت السودان الذى هم صورة مصغرة 
له. وكان من الممكن قبوله استشراف الحكم من جانب هذه القوى عبر النقابات» لو كان فى 
مقدورها استجماع هذه النقابات ‏ أو غالبها على الأقل على رأى سياسى محدد كما حدث 
فى أورويا. فحزب العمال البريطانى وحزب العمال النرويجى» مثلاًء خرجا من رحم 
النقابات فى بلديهماء ولم يستوليا على السلطة فيها عن طريق انتفاضات موسمية: وإنما 
بجهد جهيد وعمل ممنهج. الأول انبثق من تحالف بين مؤتمر نقابات العمال (71[0) 
بقيادة كير هاردىء والناشطين فى المدارس الفكرية الاشتراكية فى عام 107١؛‏ وبمضى 
اثنى عشر عاماً من العمل الفكرى والمنهجى أصبح ذلك الحزب هو القوة السياسية الثانية 
فى مجلس العمومء كما قدم بعد ست سنوات أخرى أول رئيس وزراء عمالى لبريطانيا 
(رامزى ماكدونالد) . هذا الصبر والجلد على العمل المتواصلء لا يروق لمن يريد اعتلاء 
موج الانتفاضات الموسمية للوصول للحكم. فالنقابات» فى نهاية الأمرء كيانات مهنية تجمع 
أشخاصاً ذوى انتماءات حزبية وطائفية متباينة رغم توحدهم الطبقى. أما الأحزاب فقد 
تولدتء منذ نشأتها الأولى فى أوروباء من حاجة قوى اجتماعية إلى وعاء سياسى يفصح 
عن همومهاء ويدافع عن مصالحها الطبقية» ويعكس على المستوى القومى إرادتها الجمعية. 
ولو كان لهذه القوى الاجتماعية سبيل لمثل ذلك التحالفء لثبتت عليه واستقرتء ولما بقيت 
- على مستوى قياداتها المحركة ‏ كحركات نخبوية ظرفية لا تسمع لها إلا ركزأً (صوتاً 


262 


خفيتاً) عندما تتغير الظروف. من جهة أخرىء رغم نشأتها كواجهات سياسية للطائغية 
(الأمة» الاتحادى)؛ أو لتجمعات إقليمية تعالج هموم إقليم بعينه» برزت الأحزاب " التقليدية 
فى السودان كمنظمات جماهيرية. ونادراً ما سعت العناصر الفاعلة المسيسة فى التجمعات 
المهنية؛ بحكم تكوينها الصفوىء للانغماس كجماعات فى معترك السياسة الشعبية» وإ 
فعلت فإنما تفعل هذا بالوكالة إما عبر حزب ذى جذور شعبية مثل الحزب الشيوعىء أو 
حزب اصطناعى كالأحزاب الشمولية التى تخلقها الأنظمة العسكرية» أو بحكم هيمنتها على 
الفضاء السياسى فى فترات الانتفاضاتء والتى هى بطبيعتها فترات انتقالية عابرة . 

علاوة على ذلك فإن التصنيف القسرى للأحزاب السياسية إلى تقليدية وحديثة» كما سبق 
القول فى المقدمة»ء لا يعين كثيراً على تحليل واقع السودان» لاسيما إن كان المراد من التصنيف 
الميز والتفضيل. فالتقليدية بمعنى المحافظة ليست نقيصة:. والتقدمية بمعنى الراديكالية ليست 
فى حد ذاتهاء ميزة . وقد انتهى الزمان الذى كانت فيه المحافظة أمرأ لصيقآ بالمولد والميراث 
حتى فى البلاد التى نشأت فيها هذه المفاهيم» بل أصبحت موقفاً فكرياً يهدف معتنقوه إلى 
الحفاظ عبره على القيم؛ والمؤسساتء والحكمة الموروثة. خير مثال على ذلك حزب 
المحافظين البريطانى الذى تداول قيادته خلال العقود الثلاثة الماضية ثلاثة زعماء سياسيين 
(ادوارد هيث» مارجريت ثاتشرء جون ميجور) لا ينتمى واحد منهم للطبقة الاجتماعية العلياء 
كما كان الحال فى الماضى . وفى الواقع؛ فإن واحداً منهم (جون ميجور) لم يكن حتى وليداً 
للدائرة السحرية الايتونية التى كان الانتماء إليها دوماً واحداً من أهم المعايير لاختيار القادة» 
بل إنه لم يكمل حتى تعليمه الجامعىء إذ فرض عليه شظف العيش أن يلتحق ببنك باركليز 
كموظف فى فرع له بنيجيريا. ومن الطريف أن صحفياً سأل زوجة ميجور إن كان زوجها 
سيخوض الصراع على رئاسة الحزب قبيل تخلى مارجريت تاتشرء فأجابت: "هذه الأشياء لا 
تحدث لأمثالنا (كنا ععاأآ عاممعم ها سعممقط غ0« مل كعضلط) 1105 ) . ومن التبسيط بمكان 
نعت هؤلاء بالانتهازية» أو الخيانة الطبقية» وإلا أطلقنا نفس النعت على أبناء البرجوازية العليا 
الذين فضلوا الانحياز إلى أحزاب الطبقة العاملة» أو آثروا اتخاذ مواقف يسارية متطرفة مثل 


ويدجوود بين» وريث اللورد ستانسقيت. 


هناك بالقطع ما يجعل الوضع مختلفاً فى السودان. أولاً» الهيمنة السلالية على الأحزاب 
التقليدية» وثانيأء رفض بعض القيادات التقليدية» لاعتبارات أيديولوجية» التكيف مع الواقع 
السودانى. رغم هذاء برز من بطن الأحزاب السودانية التقليدية مجددون فى شتى 
المجالات؛ وإن كانوا عصافير نادرة . هؤلاء أغذوا فى سيرهم لتجديد المؤسسات التعليمية 
(عبد الرحمن على طهء يوسف بدرىء ميرغنى حمزة)» أو الهياكل الدستورية والقانونية 
(مبارك زورق» محمد أحمد محجوبء محمد أحمد أبورنات» أحمد متولى العتبانى)؛ أو 
إرساء أمتن القواعد للطهرانية فى الحكم (إبراهيم أحمدء حماد توفيق) . فتحديث المجتمع 
والحكمء بغض الطرف عن التصنيفات الطبقية» يتم عبر تطوير المؤسساتء وإرساء قواعد 
الحكم الصالحء والالتزام بمدونات سلوكية خيره. وبعيداً عن التصنيفات الطبقية» لا يبتغى 
السودان من المجددين من حكامه أو المتطلعين لحكمهء أكثر من تحديث مؤسساته. والارتقاء 
برأس ماله البشرىء وتنمية موارده» وتحقيق السلام الاجتماعى فى ربوعه. وإن عجز 
هؤلاء؛ بمن فيهم تلك الطيور النادرة» فى تحقيق الهدف الأخيرء فإنما كان ذلك بسبب 
نظرتهم المنغلقة للسودان الكبير (3]86! -51 500035) ذلك كان هو كعب أخيل بالنسبة 
لهمء وقد ألقينا على تلك المنقصة ضوءاً مكثفاً فى الكتاب. 

من المفارقات المذهلة أن لا تبرز ظاهرة الهيمنة السلالية فى الأحزاب التقليدية إلا 
بآخره . فمنذ نشأة الأحزابء مثلاًء لم يشارك فى المراقى العليا للسياسة والحكم من حزب 
الأمة غير صديق المهدى (رئيس الحزب حتى رحيله)» ومأمون حسين شريف (وزير 
الصحة ثم المواصلات فى الديموقراطية الأولى)» وما جاءت بأى واحد من الرجلين إلى 
المواقع التى اعتلياها غير قدراتهما. أما اليوم فحدث ولا حرج فحزب الأمة ضم فى أعلى 
مراقيه كل ما استطاع ضمه من الأبناء والإخوان والأزواج وأبناء العمومة. ليت زعيم حزب 
الأمة الحالى اقتاس بجده وأبيه فى هذا المجال. من الجانب الآخرء لم يسع أى واحد من 
بيت الميرغنى إلى مراقى الحكم؛ إلى ما بعد نهاية حكم نميرى. ونذكر أن التنافس على 
رئاسة الجمهورية المزمعة فى منتصف الستينيات» كان بين مرشح الاتحادى 
الديموقراطى» إسماعيل الأزهرىء والإمام الهادى المهدى عن حزب الأمة. ولكن ما أن 


9564 


تولى الصادق المهدى رئاسة الوزارة بعد سقوط نميرىء حتى سارع الحزب الاتحادى 
بترشيح احمد الميرغنى لرئاسة الدولة. ذلك عرض من أعراض الداء القديم: التنافس بين 
البيتين على الموقع الأعلى» فطالما أصبح ابن المهدى رئيس للحكومة:؛ فلا بد لابن 
الميرغنى من أن يحتل الموقع الأكثر علو وكأن الزمان قد عاد بالسودان إلى عهد 
هدلستون باشا فى المجلس الاستشارى» حيث كان يجلس الميرغنى دوما على يمينه 
ويجلس المهدى على يساره . أصبح زعيم الختمية أبسنا نينا للحزب: كما ضار أختره نائباً 
له فى رئاسة الحزب حتى وإن كان الحزب حزياً اجرأ وأقدم رئيسه بلا تهيب على 
مناهضة النظامء وظل أخوه ونائبه يدب لا يخفى جرساً فى تأ ييد النظام» بل بذلك جاه 
قد تقول أن هذا وضع مؤسفء وقد تقول أنه وضع مأساوى» ولكنء لسوء الطالعء هذا هو 
حال السودان الذى أودى به إلى هوانء وعندما يهون الكبار على أنفسهم تهون البلد. 

إلى جانب معالجة جوانب القصور التنظيمىء يلزم القوى الحديثة» إن أرادت أن تحرز 
أى درجة من النجاح فى كفاحها المشروع لتحديث البلاد» أن تكون مدركة أن التحديث لا 
يتم بالشعارات وإنما عبر البرامج البديلة. كما يتوجب على هذه القوى أن تكون واقعية فى 
رؤيتها للمشهد السودانىء خاصة فى ظل نظام ديموقراطى تعددىء فالتعددية لعبة أرقام 
(2515اناق 01 عتدع) وكما قال ويليام رالف انجى(؟) السيئة الكبرى فى الديموقراطية هى 
أنها تعد الأصوات بدلاً من أن تزنها. لقد نجم الفشل التاريخى ل القوى الحديثة» لدرجة 
كبيرة» عن إدمانها لتكرار نفس الأخطاء منذ أكتوبر ١475‏ . وفى هذا لا تختلف فى شىء 
عن معادلها النقيض: الأحزاب التقليدية؛ (أو لا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو 
مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؟ (التوبة 01 الودالتطلت "القوى الحديتةء» من 
الناحية العملية» تحرث فى البحرء ومن الناحية الفكرية تعرّف نفسها بالنفى: القوى الحديثة 
هى تلك التى تقف صد القوى التقليدية . هذا الوضع يغرى المرء على الاعتقاد بأن القوى 
الحديثة لا تدرىء على وجه التحديدء ما الذى تريده فى ظل نظام تعددىء وما هى بدائلها 
العملية للسياسات التى ظلت تتبعها القوى التقليدية . وفى النهاية» إن لم يكن للمرء رؤية 
واضحة للاتجاه الذى سيقود إليه الآأخرون» سينتهىء لا محالة» إلى أن يقوده الواقع إلى 


2565 


حيث لا يريد. كما أن الذى لا يرتكز بقوة على سند متين» سيسقط حتماً على أى شىء» 
والأمثلة على ذلك وفيرة. 

التجمع: من الرمزية إلى الواقع 

بسبب أوجه القصور هذه فى الميثاق» كان للحركة هواجس وظنون فيما إلتقى حوله 
التجمع» عبرت عنها فى مذكرة أصدرتها فى فبراير ١96١‏ . وكان التجمع قد بعث برسائل 
ورسل إلى الحركة ينبئها بميلاده ويدعوها للاشتراك فيه . واحدة من الرسائل جاءت شفاهة 
عبر الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفىء. والتانية جاءت فى رسالة مكتوبة من الحزب 
الشيوعى بتاريخ أول يناير ١11١‏ مهرها بتوقيعه الخاتم عدلان» وسلمها للحركة الراحل عز 
الدين على عامر بعد خروجه من السودان. وعقب الانقلاب» وجه زعيم الحركة بياناً لما 
أسماها "الطغمة العسكرية (0)3ناز :01113) حذرها فيه من الظن بأن حل الأحزاب 
والنقابات فى الشمال سيمر بلا حساب. قال الحركة هنا لتقود النضال من أجل استعادة 
الديموقراطية» وإقامة السلام. وفيما نعرفء لم يكن زعيم الحركة ينتوى بخطابه ذلك 
التحكم من البعد فى "قوى الانتفاضة» أو انتخاب نفسه قائداً لها. ما أراد قوله هو أن للحركة 
وجوداً فاعلاً داخل السودان؛ كما لديها القدرة والحرية على التحرك رغم أنف النظام؛ وأنها 
ستسخر كل ذلكء لا من أجل الجنوب وحدهء بل من أجل السودان كله. ولا ريب فى أن 
قيادات الانتفاضة فى الداخل كانوا على ثقة فى تلك اللحظة» بأن الانتفاضة على الأبواب» 
فى حين كان للحركة قراءة أخرى أثبتت الأيام صحتها. 

وفى تحرك مواز اتصل مبارك المهدى من طراباس بالحركة يدعوها للانضمام للتجمع 
وتبنى ميثاقه» وكان مبارك وحزبه يتبنيان الميثاق بصورته التى أعد بهاء رغم ما فيه من 
إدانة للأحزاب وتحميلها وحدها المسئولية عن أزمات السودان المتلاحقة. وكانت الأحزاب 
ساعتكذء مثل القوى الحديثة فى التجمع» على يقين تام بأن الانتفاض وشيكء وأن الدور 
الأساس فيه ستقوم به النقابات؛ وإذا تكون مصيبة أدعى لها. ونريما كان هذا هوالسيب 
الذنى حمل الأحزاب على جلد النفس فى ذلك الميثاق. وفى الثانى والعشرين من فبراير 


9266 


0١‏ وقع التنظيمان (مبارك المهدى عن حزب الأمة» ولوال دينق وول عن الحركة) 
اتفاقاً أعلنت فيه الحركة موافقتها على مبدأ الميثاق» مع تحفظها على بعض بنوده» ورغبتها 
فى إدخال تعديلات أو إضافات إليه. 

مهما يكن من أمرء كان رد الحركة على التجمع وحزب الأمة (وقد أسهم الكاتب مع 
الدكتور لام فى إعداد مشروع الرد الذى أقرته القيادة)» أن الوحدة والاستقرار السياسى فى 
السودان لا يمكن تحقيقهما إلا عندما تتفق كل الأحزاب والقوى السياسية فى البلاد على 
القضايا الأساسية التى أشعلت الأزمة وسببت الفرقة. قالت أيضاً أن الاتفاقيات السياسية 
السابقة التى كانت تحكم الفترات الانتقالية كانت توضع دوماً عند سقوط الأنظمة العسكرية» 
أى دون بحث ومحص سابقين» كما كانت تصمم بهدف توزيع السلطة بين المتنافسينء بيد 
أن المطلوب» كما قالت الحركة؛ هو الاتفاق حول القضايا الأساسية» والهموم الكبرى للوطن» 
قيل المشاركة فى السلطة. هذه الملاحظة؛ كانت دعوة للأحزاب الشمالية بكل توجهاتها 
لكى تتملى فى تلك الهموم إن كان مبتغاها هو وحدة البلاد واستقرارهاء وليس فقط الاتفاق 
على اقتسام السلطة فى المركز. 

بدأت المفاوضات حول الميثاق بين الأحزاب الشمالية والحركة فى القاهرة فى أبريل 
(أطراف الحوار الرئيسية كانت هى حزب الأمة» والحزب الاتحادى الديموقراطى» 
والحزب الشيوعى) بهدف مناقشة القضايا الأساسية التى ألمحت إليها الحركة فى مذكرتهاء 
والاتفاق بشأنها تمهيداً لانضمام الحركة للتجمع. وبوجه عام, لم تقبل الحركة الافتراض 
الأساسى فى الميثاق إن كل شىء سيصبح عسل ولبناً فى السودان بمجرد إزاحة الجبهة 
واستعادة الديمقراطية بصورتها القديمة. ذلك الافتراض؛ حسب زعم الحركة» يقوم على 
تشخيص خاطئء لأنه يتناول الأعراض وحدهاء دون أن يتطرق إلى أس الداءء وبدون 
ذلك التشخيص لا يمكن للوطن العليل أن يستصح من علته. إضافة إلى ذلك» أكدت 
الحركة أن جميع المواثيق السياسية التى أبرمت بعد الانتفاضات العسكرية لم تخل من 
غموض فى الأهدافء وارتجال فى الوسائل» مما فتح مجالاً واسعاً للتأويلات المتعسفة» 
وجعل من المواثيق نفسها فريسة سهلة لضوارى السياسة (2)0:5لع]م آدء1)زاهم) فى 


67ظ2 


السودان. دعت الحركة أيضأ إلى تحديد الوجهة التى ستتجه إليها برامج العمل السياسية 
والدستوريةء والاقتصادية» والثقافية» والتى ستلزم بها أحزاب التجمع نفسها قبل الإطاحة 
بالجبهة . 

قضية القوميات وصراع الرؤى 

حول القضايا الجوهريةء كانت النقطة الأولى التى أثارتها الحركة بشأن الميثشاق» هى 
إغفاله دور الحرب الأهلية فى زعزعة استقرار السودان» قالت أن الحرب ليست نمط حياة 
طبيعيا للجنوبيين» وإتما هى أمر كتب عليهم» وهم له كارهون. فالحربء فى رأيهاء ظاهرة 
نجمت عن بواعث سياسية واقتصادية وثقافية يجب أن تفكك وتناقش بصوت جهير. بدون 
تلك المناقشة الصريحة»ء قالت الحركة» إن تحقيق السلامء وبالتالى توفير الاستقرار السياسى 
وضمان وحدة البلاد ستصبح فى حكم المستحيل. وفيما يتعلق بالديمقراطية» أكدت الحركة 
أن الديموقراطية نظام سياسى يعتمد أولاً على احترام الحقوق الطبيعية قبل المدنية. تلك 
الحقوق تتضمن حَق الحياةة وهواحق فطرئ لآ وكتضبي من أحدء مكله مكل العياة؛ يؤلد نه 
المرء . ذلك الحق يعنى أن يظل الإنسان حيأء وأن يكون حرآء وأن يتمتع بالأمان الشخصى 
(المادة ” من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان) . ويؤكد وضع ذلك الحق فى مقدمة الحقوق 
فى الإعلان الدولى أنه أساس لكل الحقوق الأخرىء لأنه الحق الذى يصون حياة الإنسان 
البيولوجية نفسها. ذلك أمر أغفلته الأحزاب الشمالية (خاصة اليساريين) فى خطابها 
السياسى» فى غمار أنشغالها بحماية الحقوق المدنية مثل حرية التفكيرء» وحرية التجمع, 
وحرية التعبير» وحرية الحركة» بالرغم من أن الحقوق الطبيعية هى الأعلى فى منظومة 
حقوق الإنسان. ولا يعنى هذا بأية حال الانتقاص من الحقوق المدنية» فللإنسان متطلبات 
فى حياته أكثر من مجرد بقائه حياً. كل ما أرادت الحركة قوله هو أن الحقوق المدنية» على 
أهميتهاء ظلت تاريخياً محل الاهتمام المباشر للصفوة الشمالية الحضرية (ساكنى المدن) » 
ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمهمشين الذين كانوا يحاربون أساساً من أجل حقهم فى الحياة . 
ولهذا لم ندهش إن بدت هذه المسلمة غريبة على آذان أحزاب التجمع» خاصة الشيوعيين 
الذين لم يألفوا هذه التصنيفات "المعقدة لحقوق الإنسان. ولعل هؤلاء؛ رغم أنهم كانوا فى 


568 


مقدمة صفوف المناضلين من أجل حقوق الجنوب منذ البرلمان الأول» ومن أجل حماية 
مصالح المهمشين فى السودان كله؛ ظلوا أسارى لمنظورهم الماركسى لأزمة المهمشين» وفى 
قراءتهم لواقع الجنوب من خلال ذلك المنظور. كانوا ينطلقون من تحليل ماركسى مسلم به 
ومفترض بداهة» هو أن كل نضال من أجل العدالة الاجتماعية» يصفة مبدئية هو نضال 
طبقى» وطبقاً لهذه المسلمة النظرية فإن مشاكل المناطق المهمشة فى السودان سوف تحل 
فى النهاية بإشاعة الوعى الطبقى بين أهل تلك المناطق. فى نفس الوقت؛ افترضوا أن 
القرى الديموقراطية (المحددة ذاتياً والتى يعتبر الحزب الشيوعى على رأسها)؛ هى المحرك 
الأساس للتغيير» وعليه فلا بد من ضمان الحريات المدنية لها حتى تتمكن من أداء مهمتها 
فى إحداث التحول الاجتماعى. ولعل تلك الفكرة مستوحاة من منظور لينينى للقوى 
الطليعية» بل الحزب الطليعى الذى ينجب ثوريين محترفين. وحسب التجربة» خارج 
السودان؛ لم تولد هذه الفكرة غير أوصياء تحولوا عند استيلائهم على الحكم إلى طغاة فى 
أوطانهم استأثروا بكل شىء» بما فى ذلك إدراك الحقيقة المطلقة. هذا المنظور يتكئ على 
فهم ماركسى غربى للظواهر الاجتماعية والاقتصادية باعتبارها جميعاً نتاجاً للتكوين 
الطبقىء» وإلغاء كل ما ععداها من مؤثرات. على أن نجاح هذا المنظور أو فشله فى أى 
مجتمع يعتمد بشكل رئيس على إحتماله التكيف مع الواقع على الأرضء أو قابليته للتطبيق 
فى مجتمع غير غربى قد تلعب المؤثرات الأخرى دوراً أكثر أهمية فى تطوير بنيته مثل 
الأديان والأعراق. فإن لم يفلح هذا المنظور على مدى ما يزيد على نصف القرن فى 
استقطاب المهمشين فى السودان» فلابد أن هناك عيباً ما فى المنظورء أو فى البناء 
الأيديولوجى الذى استوحى منه. 

فى الواقع لم يجد رواد هذا المنظور الغربى فى مساعيهم لتأكيد صحته وصحة 
الافتراضات المنبئقة عنه. حرجاً فى تبرير أشد الممارسات الأوروبية الغربية فساداً: 
الاستعمار. وقد أشرنا فى الفصل الثامن إلى تبرير إنجلز للاستعمار الفرنسى للجزائر. لأن 
لاحت الما وس مويك وي 
يؤدى فى النهاية إلى إحداث تغيير اجتماعى 3 ترى إلى ماذا يقود التمسك العمياتى 


969 


بالمسلمات النظرية . وفى نبرة عنصرية صارخة أضاف إنجلز: أن «البورجوازية الحديثئة 
هى أفضل بكثير من اللصوص النهابين (15ع5066 772:2101285)» وا المجتمع البربرى الذى 
ينتمون إليه: .(؟) فى تلك الإشارة ألتى لم يبتغ بها الفياسوف الكبير غير تأكيد سلامة 
أطروحته» استهانة بالغة بشعب وبتاريخه . ومن الواضح أن إنجلز لم يكن على بينة من أن 
هؤلاء اللصوص النهابين هم ورثة حضارة أنجبت سانت أوجستين الأفريقى» وابن رشدء 
وابن خلدون» وابن طفيل. ولم يكن ماركس نفسه أحسن حالاً من صنوه الفكرى عندما 
وصف الاحتلال الإنجليزى للهند بأنه أعظم ثورة» بل أضاف ,أقول الحقيقة» عندما أصفه 
بأنه الثورة الاجتماعية الوحيدة التى عرفتها فى الهند.(؛؟). ولا شك فى أن الهند التى تحدث 
عنها ماركس لم تكن تشمل الإمبراطورية المغولية (من القرن السادس عشر إلى القرن 
الثامن عشر) التى شهدت أكبر ثورة اجتماعية تحت قيادة الإمبراطور أكبر. ومن أعظم 
إنجازات أكبرء الإمبراطور المسلم» قدرته على التوفيق بين الدين الجديد والموروثات الهندية 
الثقافية» بالقدر الذى حقق سلاماً اجتماعياً لم تعرفه الهند من قبل. كما ألغى الإمبراطور 
المغولى القوانين التى تميز المسلمين على غير المسلمين» ومنع تعدد الزوجات وزواج 
القاصرات (دون سن السادسة عشرة)ء ومازج بين المعمار والموسيقى الهندية والإسلامية 
فأضاف بذلك ميراثاً ضخماً للحضارة الإسلامية لم يعرفه المشرق. 

ومع اتساع وجه العذر للحزب الشيوعى لأنه لم يذهب مذهب الأحزاب التقليدية فى 
التعامل مع الأحزاب ذات الأصل الإقليمى (الجنوبء النوبة» الفور) باعتبارها كما مهملاً؛ 
أو عنصراً مشاغياًء بل تعاون معها ومع ممثليها فى البرلمانات فى الكثير من القضايا 
الساخنة: إلا أنه على المستوى الفكرىء. ظل ينظر إلى تلك الأحزاب كحركات انغلاقية 
محدودة الرؤية. هذا صحيح إلى حدء بحكم محدودية الأهداف السياسية لتلك الجماعات» 
ولكن العرقية ظلت تلعب دوراً هاماً فى السياسةء خاصة فى أفريقياء كما أن الصورة تبدلت 
فى السوكان بعد دو( الحوكةالشكزية عقر عيالنزة موعرمة إقضانا الرطق كلدوين يدت 
عملياً رأس الرمح فى نضال الجماعات العرقية أوكما نسميها القوميات. حقيقة الأمرء لم 
يكن الماركسيون وحدهم هم الذين أخطأوا النظر للحركات ذات الأصل العرقى فى أفريقياء 


970 


فالمجددون العصريون (72006181505) فى أفرد يقيا لم يروا فيها إلا ظاهرة ستختفى بالتجديد 
العصرى والتذويب الثقافى» فى حين رأى بعض منهم أنها رد فعل للتجديد نفسه يتمثل فى 
الاستمساك بالخصائص البدائية المميزة حذر الذوبان فى كيانات أسمى» حسب نظرة 
المجددين. ولعل هذا الطرح كان سيكون مقبولا لولا الحيف التاريخى الذى لحق 
بالمجموعات العرقية» وكل ما صحبه من تهميش سياسى واقتصادىء, حيثما كانت هناك 
انتفاضات ذات أصل عرقى. وكشأن الماركسيين لم ير المجددون فى الظاهرة إلا وعيآ 
زائفاً (وفعم5نامأءدمم 2156]) تحركه مجموعات نخبوية بهدف السيطرة على تلك 
الجماعاتء ثم السيطرة على الحكم عن طريقهاء مما يجعل من تلك النخب فئات مستغلة . 
الوعى الصادق الوحيد» فى رأى الماركسيينء هو الوعى الطبقى ولهذا يصبح اختلاق (أى 
إتمام خلق) ذلك الوعى بين القوميات المختلفة هوالمدخل الوحيد لتوحيد أقوام السودان 
حسب مصالحها الاقتصادية. ولريما لوأجاب أصحاب هذه النظرة على سؤال بسيطء لما 
وصلوا لذلك الحكم. السؤال هو: لماذا عرفت أفريقيا عشرات الانتفاضات المسلحة ذات البعد 
العرقى ولم تعرف حركة شعبية مسلحة واحدة ذات بعد طبقى مثل الذى حدث فى كوبا أو 
نيكارجواء رغم الاستغلال الطبقى الفاحش فى القارة؟ 

ظل الحزب الشيوعى أيضأء واقعاً فى إسار الرؤية اللينينية ‏ الستالينية لقضية القوميات» 
بل كاد كتاب ستالين حولها أن يصبح إنجيلاًء على الأقل من الناحية النظرية. وكانت أفكار 
ستالين حول التوحيد القومى صائبة أتم الصواب عندما تم تطبيقها بالقهرء ولكن متى ما 
أتيح للناس هامش واسع من الحريات؛ خرج المارد العرقى والدينى واللغوى من القمقم. لم 
تنج من ذلك حتى جورجيا مسقط رأس ستالين» وأوكرانيا التى قال فيها لينين: :إن ذهبت 
أوكرانيا فسيقطع رأس روسياء. تكوين السودان المعقد أثبت بطلان النظرة القائلة بأن البعد 
الاقتصادى» خاصة إن أخذ بمعزل عن مقومات أخرى أسهمت فى تشكيل الوعى الجمعى 
لأقوام السودان» هو السبيل الوحيد لتعبكتها. ونعترف أن بعض هذه المقومات فطرانى» 
وبعضها الاخر روحانى» والبعض الثالث اصلى (0:1120:0131) وفى السودان» كانت هناك 
غواائل تازيكية: هامة أسدهت معدا الكو مكل لجرع الحارى: مزنة الأمتفلان» ضاق السيات 


9071 


كوسيلة لنيل الحقوق. وما كان للحركة أن تنجح فى تحقيق أهدافها دون مركز انطلاق قوى» 
ومن الطبيعى أن يكون ذلك المركز هو الجنوبء حيث يتوفر ميراث فى العمل السياسى لا 
عهد لأهل الشمال به منذ منتصف القرن الماضى: النضال المسلح. ولئن أفلحت فى توجيه 
ذلك النضال الذى لم يحفل منذ منشكه بالهموم الوطنية» إلى نضال هادف إلى علاج 
مشاكل الوطن كله» فهذاء بلا شك إنجاز كبير. هذه حقائق بسيطة وملموسة:ء لوالتمسها 
الباحثون لما اضطروا للتنقيب عن الجذور الفكرية للحركة الشعبية. 

وعلى كلء ما برح محللون سياسيون شماليون آخرون يتناولون» فى تحليلهم للحركات 
السياسية السودانية ذات الأصل غير العربى» بشىء من التهجينء ونخشى أن نقول بتمركز 
فى الذات. فعلى سبيل المثال» تحدى واحد من أبرز المحللين السياسيين الشماليين» ومن 
أكثرهم عطاءء غرور الحركة (دون أن يسميه كذلك) بطرحها شعار السودان الجديد.(*) قال 
الكاتب المحقق أن الحركة» فى المحصلة النهائية» تعتمد على التأييد الشعبى للتجمعات 
العرقية غير العربية المتخلفة» وليس على القوى الاجتماعية المتطورة . هذا الاتجاه فى 
التفكير لا ينفرد به المحلل» بل يتشاركه مع شريحة كبيرة من الصفوة فى الشمال. وبالنسبة 
لهؤلاء» لا يحق لتلك الجموع التى تحتل القاع السوسيولوجىء أن يكون لها دور فى بناء 
السودان الجديدء لأنهاء حسب نظرهمء غير مؤهلة لتلك المهمة» ثقافياً واجتماعياء وسياسياً. 
أضاف الأستاذ المحلل أيضا أن ادعاء قرنق السعى لخلق سودان ديموقراطى علمانى ادعاء 
غير قابل للتصديقء طالما اعتمد نجاحه فى تلك المهمة على تأييد مجتمعات يسودها السحر 
والخرافات. وليس هناك أدنى شك فى أن المجموعات المهمشةء بسبب من التهميش الذى 
لحق بهاء تحتل أسفل درج التطور الاجتماعى فى السودان. حقيقة أيضاً أن الغالبية من 
الجنوبيين من بين هذه المجموعات. تدين بأديان هى فى عرف مسلمى الشمال ضرب من 
الوثنية والسحر. ودون أن نعود بالقارئ إلى ما أوضحنا فى الفصلين السابع والثامن عن 
طبيعة النظم الإيمانية الأفريقية» نقول أن السحر والشعوذة ليساء بالضرورة» من ممارسات 
غير الكتابيين وحدهم . فعلى سبيل المثال» ظلت المسيحية فى أوروبا حتى عنهد التنوير 
مرتبطة ارتباطاً كبيراً بالخرافات؛ وكان التنويرء فى جوهره؛ محاولة للقضاء على الخرافة. 


9712 


كما أبنا فى الفصل الأول كيف أن الإسلام الشعبى فى السودان اختلط منذ نشأته بالخرافة 
ممثلة فى الشعبذة باسم الدين للتطبيب؛ أو قراءة المستقبلء أو درء الضررء أو إلحاق الضرر 
بآخرين. كل هذا أصبح جزءا لا يتجزأ من الإسلام الشعبى فى السودان» وأصعب الأشياء 
على الباحث فى هذا المجال هو وضع تمايز تراتبى بين الأديان» لأن التدين نفسه بما فى 
ذلك الأديان الكتابية - ظاهرة تختلط فيها القيم المثلى بالأساطير فى صورة تجافى العقل 
فى تقدير بعض العلماء. ففرويدء مثلاًء يقول إن الذى يريد أن يصبح شخصاً ناضجاً عليه 
التحرر من الدينء ولعل هذا ما عناه شهيد المحبسين بقوله: 
هفت الحنيفة والتصارى ما اهتدت 
ويهود حارت والمجوس مضلله 
اثنان أهل الأرض ذو ع قل بلا 
دين وآخردَيّن لا عقل له 

لهذا يفيد الحوار الفكرى السياسى أن ننحى عنه الدين مع الاعتراف بمكانته فى بؤرة 
الوعى الوطنى؛ ودوره كمصدر إلهام روحى وخلقى. هذا الطرح؛ يصدق أكثر ما يصدقء» 
عندما يدور الحديث عن العلماتية» لاسيما والعلمانية» كما أوضحنا فى الفصول السابقة» 
قضية فرضت على الخطاب الوطنى منذ ١178‏ عندما رفعت بعض الأحزاب الشمالية شعار 
الدستور الإسلامى. فلم تكن القضية مطروحة عند الاستقلالء ولم تكن جزءاً من الخطاب 
السياسى للجنوبيين فى الماضىء ولم يرد حوار بشأنها فى محادثات أديس أبابا. فالقضية» 
إذن» قضية سياسية أقحمها على الدين من أقحمهاء وكان له فيها تخريجات. على هذا 
الأساسء نقول أن قرنق لا يعتمد فقط فى حملته «العلمانية» على قاعدته المؤمنة بالخرافات» 
بل على قوى أخرى فى الشمال وفى الجنوب» ممن أسماهم الكاتب الخصيب القوى 
المتطورة اجتماعياً. 

الأمرالآخر هوأن زعيم الحركة» كما تلمسناء لم يشعل ثورته بناء على قاعدة 
ايديولوجية محددةء بل إستلهم بداغوجيته الثورية من الواقع» ولولم يفعل هذا لما افلح فى 
جهده . بدأ من حقيقة بسيطة هى أن أكثر أهل السودان استعداداً للنضال من اجل سودان 


913 


جديدء هم الذين عانوا كثيراً من السودان القديم . وانتقل من تلك النقطة إلى الرد على 
سؤالين: كيف يمكن تنظيم غضب هؤلاءء وكيف يمكن تحويل نظرتهم الاقليمية الضيقة إلى 
نظرة أوسع تحيط بالوطن كله. فالظلم وحده كما يقول الفرنسيونء لا يولد ثورة, إنما تتولد 
الثورات من الشعور بالظلم. وفى هذا إستلهم قرنق الواقع المحيط به: التهميش الاقتصادى, 
ظلامات الجنوب التاريخيةء مشاعر الإحباط التى تسود كثيرين فى الشمال بسبب خيبة 
السياسات التقليدية. هذا أمر ضرورى لمن يبحث عن حل عاجل لمشكلة راهنة» لا عن حل 
آجل تقود إليه حتمية تاريخية. كان زعيم الحركة أيضاً على وعى كبير بطبيعه المجتمع 
السودانى المعقدء فلم يذهب إلى اقتباس تجارب الآخرين فى مناهج نضاله؛ أو فى تحالفاته 
الداخلية؛ بالرغم مما توحى به التحالفات الداخلية من تناقض مع تحالفاته الخارجية ذات 
الطابع التكتيكى. ولربما إن اقتيس قرنق شيئاً واحداً من تجارب الخارج فهو النفس الطويل 
فى النضال؛ كحال الفيتناميين. سأل أحد القادة فى حرب فيتنام الجنرال جياب بعد هزيمة 
كبرى لحقت به: أما آن لنا أن نتنازل قليلاً. قال جياب: بالقطع لاء فهذه هى الهزيمة الثالثة 
عشرة فقط. هذه حقيقة يعرفها الذين ثابروا على حربه على مدى ثلاثة عشر عاماً. قد 
يقول قائل أن هذا التشدد قد جعل من قائد الحركة أمير الحرب (1.0:0 - 7/31) : أو صاحب 
"أجندة حربية كما يقول سيد العارفين» ولكن شتان ما بين التشدد وبين الاستمساك بالمبدأً. 
ولقد طاش سهم كاتب شمالى محقق آخر عندما كتب عقب توقيع اتفاق ماشاكوس يقول: 
الجبهة وحركة قرنق (أى الحركة الشعبية لتحرير السودان) هما آخر من اقتنع بكساد خطة 
الحرب: «بعدما كانت حركة قرنق (تأكيد من الكاتب) تدعو إلى حرب تحرير حتى سقوط 
الخرطوم لأن النصر لا يأتى إلا من فوهة البندقية» أما الحركة الإسلامية (وليس حركة 
الترابى) فأرادت الحرب جهاداً.(؟). هذا غلط فى النظر ومغالطة فى المناظرة» فليس من 
فوهة البندقية حققت الحركة مشروعى سلام كوكا دام »)١19457(‏ وسلام اديس ابابا 
(1984). وإن كان مشروعا ذلك السلام قد أجهضا فالذى أجهضهما معروفء إلا إن كان 
السلام المرغوب هو السلام الرومانىء أو الاستسلام لحكم المتغلبة وإقتسام السلطة معهم وفق 


معايير يحددونها. 


974 


إضافة إلى كل هذاء لم يدع قرنق مطلقاً أنه الوصى على السودان الجديد؛ فمساعيه الجادة 
لفتح الآأفاق لما يسميه التيار الثالث (أى الجماعات المهمشة عبر السودان) ؛ وسعيه لأن يجعل 
هؤلاء يرتقون باهتماماتهم عن الهموم الإقليمية الضيقة» ودعوته لكل السودانيين» بغض النظر 
عن أصولهم العرقية وتوجههم الدينى؛ لإثراء فكرة السودان الجديدء لهى أدلة كافية على عدم 
ميله للاستكثار بالفكرة. ومما يطرف ذكره أنه خلال لقاء سياسى فى واشنطون مع جمع من 
المثقفين الشماليين والجنوبيين» جوبه قرنق بسؤال من أكاديمى شمالى (أحمد الأمين البشير) 
عما يريد من الشماليين أن يفعلوا من أجل الحركة؟ أثارت إجابة قرنق دهشة السائل وكثير من 
المشاركين الشماليين؛ قال: "خذوها وولوا بها الأدبار. 10 طاذن 22/2 صنه لصة أذ 1ه1) 
مثل هذه الدعوات لم يأخذها الشماليون مأخذ جدء بل حتى لم يسع لامتحانها الذين كانوا 
يحسبونها ضرباً من المخادعة والكلام المعسول. ليتهم فعلواء إن لم يكن لشىء؛ فعلى الأقل 
لكيما يمتحنوا صدقية الرجلء وجدية دعاواه 17تااط 5نط 1[هء 60) كاان من السهل على أغلب 
هؤلاء الركون إلى الظن بأن الرجل مخادع. لأن هذا يعفيهم من مغامرة ليسواء بعدء على 
استعداد لخوضها: الانتقال من مرحلة ذهنية لا ترى فى السياسى الجنوبى إلا مستتبعاً للقيادة 
الشمالية ورؤاهاء إلى مرحلة أخرى يتمايز فيها الرجال» على كل المستويات؛ بعطائهم 
وقدراتهم. 

أسمرا: الميلاد العسير 

نعيد إلى الذاكرة الاتفاقات العديدة التى عقدتها الحركة مع الأحزاب الشمالية قبل قيام 
التجمع: كوكادام »)١1187(‏ أديس أبابا »)١1144(‏ أو تلك التئى تجاوبت معها مثل اتفاق 
القصر (أبريل »)١9189‏ ثم لقاء القاهرة (أبريل ١11٠‏ ). اللقاء الأخيرء تبعه اجتماعان 
هامان للتجمع للبحث بتفصيل أوفى فى القضايا التى طرحتها الحركة فى القاهرة؛ أولهما 
كان فى أديس أباباء 15-10 مارس ١31911١.ء‏ والثانى فى لندنء فبراير ١197‏ . وبالرغم من أن 
كثيراً من الموضوعات المشتجر عليها غطيت فى هذين الاجتماعين. إلا أن التجمع سقط 
فى وحل التنافر وعدم التماسك بسبب الصراعات الشخصية المفتعلة بين حزب الأمة 
والحزب الاتحادى الديموقراطى. فمنذ اجتماع القاهرة» وحتى اجتماع أديس أباباء كان 


55 


حزب الأمة ممثلاً فى اجتماعات اجنة تنسيق التجمع بناشطين سياسيين من الصف الثانى. 
فرئيسه كان مرتهناً فى الخرطومء وأمينه العام مازال فى داخل البلادء والدينمو المحرك 
لنشاطه الخارجىء» مبارك المهدىء كان فى ليبيا فى انتظار إذن بدخول القاهرة ,(") 

بظهور مبارك فى الساحة القاهرية تغيرت اللعبة» إذ طالب» بحكم وزن حزبه؛ أن 
يتصدر لجنة التنسيق» كما سعى للإمساك بزمام العمل القيادى التنفيذى من الميرغنى 
بدعوى أنه أكثر قدرة منه على التحرك. ولا مرية فى أن مبارك يتمتع بطاقة هائلة» ولا 
شك فى أنه كان يسخر كل ما يملك من أجل التجمعء بل أصبحت عنده قضايا التجمع 
هاجساً ينام ويصحو به» ولكن فى توازنات السياسة السودانية» بل أى سياسة؛ هناك 
اعتبارات أغفلها مباركء أدناها السن والمكانة الاجتماعية والدينية . ثم هناك الموقع» إذ لا 
جدال فى أن الميرغنى يحتل وضعاً فى مصر لم يكن يتهيأ لسواه. انتقل مبارك بهذه 
اللجاجة إلى اجتماع التجمع فى أديس أبابا حيث فاجأ زملاءه أثناء مناقشة دستور الفترة 
الانتقالية بقضية لم تكن فى حسبانهم» قال: على التجمع منذ الآن أن يقرر أوزان القوى فى 
البرئمان المرتقب. وفكرة الاتفاق على برلمان أثناء الفترة الانتقالية فكرة حميدة:ء إذ أريد 
منها إخضاع الحكومة الانتقالية لمراقبة مؤسسية برلمانية بدلاً من تركهاء كما حدث فى 
أكتوبر9”4١‏ وأبريل ١186‏ فريسة لضغوط الأحزاب. على أن مبارك تجاوز الفكرة نفسها 
إلى وسائل تطبيقهاء مقترحآ أن يصار إلى نسب كتلك التى كانت عليها عضوية البرلمان 
الأخير (وكان لحزب الأمة الغلبة فيه)» على أن تحتل الحركة مقاعد الجبهة التى افترض 
مبارك وغيره موتهاء ولم يبق إلا أن ينضد الصخر على قبرها. هذا الطرح أغضب رئيس 
وفد الحركة؛ سلفا كيرء أيما غضبء لا استنكاراً لما عرض على الحركة» وإنما استقباح لما 
عبر عنه الاقتراح من عدم استبصار للأولويات. قال كير: لدينا مثل يقول» قبل أن يصطرع 
الناس على اقتسام لحم القرنتى (جاموس البحر) عليهم الاتفاق على طريقة قتله. وذهب من 
بعد عضو معاند فى وفد الحركة إلى ذر الملح على الجرحء قال اليجا مالوك: الحركة لم تكن 
جزءاً من الترتيبات البرلمانية فى الماضىء ولهذا لا تعنيها كثيراً أوزان القوى فى البرلمان 
المحلول. كما أن الذى يجمع بينها اليوم وبين الفرقاء الآخرين هو كيفية إسقاط النظام» 


9716 


والاتفاق على القواعد التى سيرسي عليها السودان الجديد. وفى هذاء قال أليجاء فإن إسهام 
الحركة يفوق أى إسهام آخر. وختم حديثه بالقول: هيا مبارك» نطالب بخمسين فى المائة 
من المقاعد.. أصابت الاجتماع دهشة» فقرر رئيساه (بونا مالوال وفاروق أبو عيسى) فضهء 
ولم ينعقد إلا بعد رسالة لاسلكية من زعيم الحركة قال فيها «دعوا ما يفرق» وانصرفوا إلى 
الضرورى: كيف يقتلع النظام الذى يحتل الفضاء السياسيء فلا معدى للتجمع عن استرداد 
هذا الفضاءء قبل التفكير فى ممارسة السلطة فيه:. 

تلك القضايا الجانبية» والاختباط فى الأولويات» أقعدت التجمع عن تحقيق أى ععمل 
هادف. إلا فى مجال واحد: التحرك الدبلوماسى والسياسى بالخارج بهدف إحكام العزلة 
على النظام. هذا عمل هامء وكان النظام بممارساته العدوانية خير حليف للتجمع فى. 
تحقيقه» إلا أن العمل الدبلوماسى بمفرده لا يقتلع النظام» أو يحمله على التنازل عن غلوائه . 
هذا الفتور السياسى حدا بزعيم الحركة لأن يبعث مذكرة إلى قادة التجمع فى ؛ أكتوبر 
4 يدعوهم فيها إلى اجتماع لتبادل الأفكار حول الوسائل المثلى للمضى قدمأ فى تنفيذ 
تفاهم القاهرة . جاءت المذكرة تحت عنوان: استعراض لأهداف التجمع» قصيرة وطويلة 
الأمدء وورد فى مطلعها ما يلى: «أن بلادنا تعيش اليوم أزمة مؤرقة» فى حين ما برح 
النظام العسكرى الوحشى قائماً خمس سنوات بعد الانتفاضة رغم كل جرائمه ضد الإنسانية . 
وأعرب قرئق عن أساه لضعف المعارضة المنظمة بسبب انشغالها بقضايا هامشية بالنسبة 
لاهتمامات شعبنا المُلحّة» كما حذر من العواقب الوخيمة التى قد تنجم عن الانشغال بتلك 
القضاياء والتى لا تمثل أية أولوية فى عمل التجمع الراهن» . أضاف: «نحن فى الحركة ظللنا 
نحارب هذا النظام الفاشى» رغم كل المعوقاتء عبر تلك السنوات الخمس من حياته 
التعيسة» وكذلك فعل المواطنون العزل فى الخرطوم وأم درمان وواد مدنى والأبيضء ولكن» 
فى غياب إسترأتيجية متماسكة للنضال الوطنىء فإن كل المقاومة الشرسة التى يقودها شعبنا 
ستبددء كما ستنفد أى مصداقية للتجمع. إن شعبنا يستأهل ما هو أفضل من هذاء؛ . 

أبلغ قرنق رفاقه فى قيادة المعارضة أن دعوته لهذا اللقاء جاءت بناء على توجيه من 
المؤتمر الوطنى للحركة الذى أوصى بأن تسعى قيادة الحركة بكل السبل الممكنة لتنشيط 


2217 


المعارضة؛ وإضفاء الحيوية على التجمعء وتعبئة المشاعر الوطنية الغريزية لشعبنا حتى 
يمكننا سوياً استكصال النظام الإجرامى من جذوره وفروعه .ووصف قرنق النظام الحاكم 
بأنه نظام عسكرى معزول وسيىء السمعة» وليس أكثر من شجرة ميتة الجذور تنتظر ريحاً 
قوية لتقتلمها من تلك الجذور. ثم ختم رسالته بالقول: ٠لقد‏ فوضنى مؤتمر الحركة باتباع كل 
الطرق الممكنة لدعم التجمع حتى يتمكن من تنفيذ رسالته بصورة أكثر جرأة . ولتحقيق هذا 
الهدفء أدعو قيادة التجمع إلى عقد اجتماع على أعلى مستوى فى المناطق المحررة فى 
بداية نوفمبر )١114(‏ لاستعراض الموقفء ورسم استراتيجية شاملة للنضال من أجل اقتلاع 
نظام الجبهة الفاشى؛ ووضع الأساس للسودان الجديد:. ومع تلك الرسالة أرفق قرنئق 
مقترحات بجدول أعمال للاجتماعء ومذكرة تفسيرية تشرح الأسباب التى حملته على 
اقتراح تلك الأجندة . أضاف أيضا بأنه إن تعذر عقد الاجتماع داخل السودان فى الأراضى 
المحررة»؛ رغم استعداد الحركة لضمان سلامة المشاركين» فإن الحركة لا تمانع فى 
المشاركة فى هذا الاجتماع على أساس جدول الأعمال المقترح» فى أى مكان فى أفريقيا. 
طرحت هرارى يومذاك كمكان مناسب لعقد الاجتماع لما لحزيها الحاكم من علاقة وثيقة 
بالحركة. فزمبابوى هى البلد الأفريقى الوحيد الذى قبل أن يكون للحركة وجود علنى فيه: 
ودار يرفرف عليها علمهاء فى حين ظلت الدول المجاورة الأخرى تتيح للحركة مساحة 
للتحرك الدبلوماسى والسياسى وفى مجال الشئون الإنسانية. ولريما تساءل البعض: لماذا لم يتم 
الاجتماع فى القاهرة التى فتحت أبوابها لكل قيادات التجمع؟ القاهرة» فيما نعتقدء لم تكن على 
استعداد لاستضافة مؤتمر للتجمع تتضمن أهدافه الإطاحة بالنظام» رغم كرهها لذلك النظام 
يومذاك. وبحلول نوفمبر ١594‏ رحبت كل الأحزاب بمبادرة الحركة» فى حين اختلفت الآراء 
حول عقد الاجتماع فى المناطق المحررة . فالذين قبلوا (حزب الأمة» الحزب الشيوعى) رأوا 
فى عقده داخل السودان عملا إيجابياً» والذين رفضوا (الاتحادى الديموقراطى) قالوا أن الوقت 
غير ملائم (ده مش وكته) . وفى حسبانناء لوانعقد المؤتمر فى الزمان والمكان المقترحين؛ 
لأعان ذلك كثيراً فى تبديل الرؤى والاتجاهات بشكل جذرى؛ وكانء بالتأكيد» سيعزز من 
موقف أنصار السودان الجديد فى صفوف الحركة؛ ويزيل عدم الثقة فى أحزاب الشمالء والذى 


5918 


كان ما زال طاغياً على دعاة الانفصال فى الجنوب. ولربما ساعد الاجتماع أيضاً فى خلق 
نواة للتجمع فى المناطق المحررة؛ الأمرالذى كان سيوفر له حرية أكبر للحركة والعمل. ومن 
الجلى؛ أن السبب الرئيس الذى منع بعض أعضاء التجمع من اللقاء فى المناطق المحررة فى 
الجنوب» هو الخشية من استثارة الجيشء مما يعنى أن بعض فصائل التجمع» حتى تلك 
اللحظة؛ لم تكن تدرك مدلول توازنات القوى الجديدة . فالجيش الذى كانوا يحذرون إغضابه 
هو نفس الجيش الذى أسقط النظام الديموقراطى: أوأسقط باسمهء كما كان هو القوة الفاعلة 
التى تتصدى للجيش الشعبى (الحليف الجديد للأحزاب) دفاعاً عن النظام الذى اغتصب 
السلطة من تلك الأحزاب. وليس من العسير على المرءء فى ضوء هذه التصنيفاتء أن يقرر 
من هو العدو ومن هو الصديق. يزيد الأمر بلبالاً أن الفصيل الوحيد فى التجمع الذى اجترا 
على زيارة المناطق المحررة للقاء القيادة العليا للجيش الشعبى فى ذلك الوقتء كان هو القيادة 
الشرعية للجيش.(*) الهدف من اللقاء كان هو وضع إستراتيجية مشتركة مع الجيش الشعبى 
لمجابهة النظام؛ والسعى لتنوير الجيش فى محاور القتال حول طبيعة نظام الأقلية الحاكم؛ 
وإغرائه بالعصيان. 

أيا كان الحال» لم يقيض لذلك الاجتماع أن يتم إلا بعد ثمانية أشهر فى إريتريا بعد أن 
فتح ذلك القطر أبوابه للتجمع؛ كما لم يتم اجتماع هرارى نسبة لعجز التجمع عن توفير 
تكاليف سفر أعضائه . وإزاء ذلك الموقف طلب منا قائد الحركة الاتصال بإحدى الجهات 
المانحة للتعاون مع حكومة زمبابوى فى إنجاح المؤتمرء على أن تقوم الحكومة باستضافة 
المؤتمرء وتقوم الجهة المانحة بالتكفل بسفر المؤتمرين وطبع وثائق المؤتمر. وكان أول 
اتصال لنا مع رئيسة وزراء النرويج» قرو هارلم برنتلاند التى رحبت بالفكرة وكلفت وزير 
خارجيتهاء يوهان هولست (مهندس اتفاق أوسلو حول فلسطين) بمتابعة الأمر. وكان واضحاً 
من الرسائل المتبادلة مع هولست أن النرويجيين كغيرهم من الأوروبيين» لم يكونوا ينظرون 
إلى الحرب فى السودان إلا باعتبارها صراعاً بين الجنوب والشمال؛: كما كانت تؤرقهم 
الصراعات التى نشبت داخل الحركة (انشقاق مشار وصحبه)»ء ولهذا لم يفهموا مغزى 
اجتماع تدعو له الحركة» ولا يكون موضوع ذلك الصراع جزءاً من أجندته. 


979 


حسم الأمر باحتضان أسمرا للتجمع؛ حيث إنعقد أول اجتماع للتنظيم المعارض بعد 
ثمانية أشهر من دعوة الحركة؛ ولم ينعقد ذلك الاجتماع إلا بعد حدثين هامين كاد الأول 
منهما أن يزلزل أركان التجمع. ففى نهاية عام 11944 اجتمع فى أسمراء كل من حزب 
الأمةء والحزب الاتحادى الديموة قراطى؛, و تحالف قوى السودان الذى نشأ حديثا(؟) بالإضافة 
إلى الحركة. الأحزاب الأخرى التى لم تدع إلى ذلك اللقاء حسبت اللقاء تحالفاً جديداً داخل 
التحالف الأوسع (التجمع) استبعدوا منه» على أن حقيقة الأمر غير هذا . قررت إريترياء بعد 
أن ضاقت ذرعاً بدعم الجبهة لمنظمة الجهاد الإسلامى الإريترية» دعوة اللاعبين 
الرئيسيين فى المعارضة السودانية للاجتماع فى أسمرا للاتفاق على إستراتيجية موحدة 
للعمل السودانى المعارضء وقررت أن تلقى بكل ثقلها وراء المعارضة السودانية. 

ونذكر القارئ أن إريتريا وأثيوبيا وجهتا إنذاراً لنظام الجبهة الذى ظلتا تؤازرانه بالكف 
عن التوغل فى شئونهما الداخلية . وعلى أىء أطلقت الأحزاب التى لم تشارك فى ذلك اللقاء 
اسم المثلث الذهبىء على الأحزاب الثلاثة الرئيسية (الأمة» الاتحادى الديموقراطى. 
الحركة) ولكن أدهشها وجود التحالف. حديث التأسيس وسط تلك المجموعة . أوهل كانت 
مخاوف من لم يدع لذلك الاجتماع مشروعة: أم هى غيرة سيائجةة لا تدرف تزريها ينلكت 
من الافتراض الثانى أن قوات التحالف أصبحتء فى نظر السمعضء هى الابن المنفضل 
للدولة المضيفة. نرجح أيضأ أن العسكريين فى ذلك الفصيل الجديد (التحالف) خلقوا 
انطباعاً لدى الإريتريين بأن الضباط الوطنيين فى الجيش كانوا على أهبة الاستعداد 
للأنقضاض على النظام الذى استلب الحكم زوراً باسمهم» طالما توفر لهم الغطاء السياسى» 
وأن قيادات التحالف العسكرية على صلة وثيقة بجموع الضباط تلك. من جهة أخرى كان 
المدنيون المهنيون فى قوات التحالف يتوقون إلى أكتوبر جديد» بعد أن وجدوا فى عبد 
العزيز خالد ما ظنوه معادلا شمالياً لجون قرنق. 

الحدث الثانى» هو الاتفاق بين أحزاب التجمع على صيغة لحسم النزاع حول الدين 
والسياسة. وفيما نذكرء حسمت قضية الشريعة (قوانين سبتمبر) من قبل فى اجتماعى 
كوكادام »)١19857(‏ وأديس أبابا »)١1144(‏ على أن يترك أمر البت فى القضية الرئيسية: 


592830 


الدين والدولة للمؤتمر الدستورى. وكان من رأى الحركة أن أى طرف لا يملك أن يفرض 
واقعاً على الآخرين دون احتكام للإرادة الشعبية لأن قوانين سبتمبرء وقوانين الجبهة 
المنسوبة للإسلام» لم تصدر بإرادة شعبية» خاصة وإعلان الشريعة كقانون للسودان جاء فى 
المرتين من أنظمة تفتقد الشرعية الشعبية (نميرى ١187‏ والبشير )١1183‏ . والغريب أن 
الأول منهما لم يستهد حتى برأى برلمانه وحزيه السياسى فى تطبيق تلك القوانين» فى حين 
كان البشيرء على الأقلء يمثل تياراً سياسياً ظل يرفع شعار الدولة الإسلامية منذ زمان. 

أي كان الحال» خلقت دولة البشير"الإسلامية واقعاً لم يمكن للحركة تجاهله؛ ولهذا 
استمسكت بدعوتها للعلمانية. ذلك الشعار رفضه الحزيان التقليديان فى اجتماع التجمع 
بلندن» رغم محاولات الحركة الجادة فى تفسير ما تعنيه بالعلمانية» مما حمل مندوب 
الحركة فى الاجتماع؛ ستيفن مادوت:ء على أن يبلغ زملاءه بأن ليس من الضرورى أن 
يظل السودان موحداًء بل يمكن له أن يضم جزءين يتعاونان فى سلام» ويتمتع كل متهما 
بحقه فى نظام الحكم الذى يريد طالما اعتقدت بعض الأحزاب الشمالية أن السياسة لا 
ينبغى أن تفصل عن: الدين. ومن المذهلء أن الحزبين رفضاً من قبل محاولة سابقة للتوفيق 
بين وجهتى النظرء كان الكاتبء مع قانونيين آخرين» قد توصلوا إليها.('') مضى عامان 
على ذلك الاقتراح» والأحزاب المعترضة تصر على موقفها حول الدين والسياسة إلى أن 
التقت فى نيروبى (17 نيسان/ أبريل1191١)‏ لإعادة دراسة القضية. وللمرة الأولى التقى 
زعيم الحركة بكل قيادات التجمع فى ذلك الاجتماع ليبلغهم بأن الذى تسعى له الحركة هو 
قيام سودان موحد وديمقراطى وعلمانى. أضاف أن الوحدة التى تدعو لها الحركة هى 
وحدة لها سماتها التى يجب أن تتفق عليها كل الأطرافء وليست وحدة بدون تكلفة» أو 
كتلك التى عرفها السودان فى الماضى. وفى ختام لقائه؛ دعا الاجتماع إلى مناقشة قضية 
الدين والدولة بالشكل الذى يأخذ فى الاعتبار مخاوف وهواجس كل الأطراف. ويعد 
مداولات مضنية اتفقت كل الأحزاب على قرار بعنوان الدين والسياسة فى السودان تضمن 
المبادئ الأساسية التى رقضت فى أديس أبابا. وفيما يلى نص الاتفاق. 


981 


الدين والسياسة فى السودان: 
اعترافاً بأن العلاقة بين الدين والسياسة تؤثر مباشرة على عملية بناء الأمة السودانية» 

- وإدراكاً لحقيقة التعدد الدينى والثقافى والقومى فى السودان» 

- واعترافاً بدور الأديان السماوية وكريم المعتقدات كمصادر للقيم الروحية والأخلاقية 
التى تؤسس التسامح والأخوة والتعايش السلمى والعدل» 

وإدراكاً لفظاعة انتهاكات نظام الجبهة الإسلامية لحقوق الإنسان والإبادة الجماعية 
والتطهير العرقى باستغلالها للدين وباسم الجهاد زورأء 

- وتصميماً لإقامة سلام عادل ودائم ووحدة وطنية مؤسسة على العدل والإرادة الحرة 
لشعب السودان» 

- والتزامآ بمبدأ عدم استغلال الدين فى السياسة» 

يقر التجمع الوطنى الديمقراطى التدابير الدستورية الآتية: 

١‏ كل المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الإنسان والمضمنة فى المواثيق والعهود 
الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان تشكل جزءاً لا يتجزأ من دستور السودان» وأى قانون أو 
مرسوم أو قرار أو إجراء مخالف لذلك يعتبر باطلاً وغير دستورى. 

" - يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيسأً على حق المواطنة واحترام 
المعتقدات والتقاليد وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة؛ 
ويبطل أى قانون يصدر مخالفاً لذلك ويعتبر غير دستورى. 

"- لا يجوز لأى حزب سياسى أن يؤسس على أساس دينى. 

4 - تعترف الدولة وتحترم تعدد الأديان وكريم المعتقدات؛, وتلزم نفسها بالعمل على 
تحقيق التعايش والتفاعل السلمى والمساواة والتسامح بين الأديان وكريم المعتقدات؛ وتسمح 
بحرية الدعوة السلمية للاديان» وتمنع الإكراه اواى فعل أو إجراء يحرض على إثارة 
النعرات الدينية أو الكراهية العنصرية فى أى مكان أو منبر أو موقع فى السودان. 


5232 


5 - يلتزم التجمع الوطنى الديمقراطى بصيانة كرامة المرأة السودانية ويؤكد على دورها 
فى الحركة الوطنية السودانية» ويعترف لها بكل الحقوق والواجبات المضمنة فى المواثيق 
والعهود الدولية. 

5 تؤسس البرامج الإعلامية والتعليمية والثقافية القومية على الالتزام بمواتيق وعهود 
حقوق الإنسان الإقليمية والدولية. 

أشرع ذلك الاتفاق الباب واسعاً للعبور إلى اتفاقيات ثنائية بين الحركة والأحزاب 
الشمالية؛ فعلى سبيل المثال» وقع حزب الأمة فى ١7‏ ديسمبر من نفس العامء اتفاقاً مع 
الحركة فى شقدم (شرق الاستوائية) جدد فيه التزامه بإعلان نيروبى حول الدين والسياسة. 
واعترف فيه رسميأ بحق الجنوب فى ممارسة حق تقرير المصير حتى وإن أفضى ذلك 
للانفصال. كما أعلن نبذ القوة كوسيلة لفرض الوحدة فى حالة ما إذا اختار الجنوب طواعية 
الانفصال.('') ولعل مشاركة حزب الأمةء عبر اثنين من أكبر قادته» فى اجتماع فى 
الأراضى المحررة» كان يعدل فى أهميته ما انتهى إليه الاجتماع من قرارء إذ كسر قائدا 
حزب الأمة حاجزاً نفسياً دفعا ثمنه. فبعد اتفاق شقدم ساءت معاملة النظام لصادق المهدى 
فى الخرطومء وصودرت ممتلكات عمر نور الدايم» الأمين العام لحزب الأمة. وكان من 
الواضح للعيان أن المغزى الرمزى للاجتماع استثار حكومة الجبهة أكثر من الاتفاق نفسه. 
لصدور قرارات أسمرا فى يونيو/ حزيران 1155 . ولكن وراء الكواليس فى شقدم دارت معارك 
خلفية كادت أن تعصف بوحدة الحركة . فقد رأى ممثلو النوبة والأنقسنا أن فى قبول حق تقرير 
المصير للجنوب؛ فى الوقت الذى صمت فيه الطرفان المتعارضان عن مصير سكان جبال 
النوبة وجنوب النيل الأزرقء إهداراً لنضال شعبى المنطقتين كتفاً إلى كتف مع الحركة . زاد 
من الشكوك رفض حزب الأمة مناقشة موضوع الجبال أصلاً؛ مما دفع قائد النوبة» الراحل 
يوسف كوهء للتوصل إلى اتفاق حول تقرير المصير للنوبة مع الحزب الاتحادى الديمقراطى 
بعد ستة أشهر من لقاء شقدم.("') ذلك الاتفاق أُسسَّ على اتفاقية الميرغنى _ قرنق فى ١188‏ 
(وهوما كان حزب الأمة يأمل فى أن يطويه النسيان)؛ وعلى إعلان نيروبى حول الدين 


2563 


والسياسة. كما أكد الطرفان عزمهما على العمل من أجل وحدة السودان على أساس المبادئ 
الواردة فى الوثيقتين؛ على أن يبيح الإخفاق فى تنفيذهما للطرف المتضرر ممارسة حق تقرير 
المصير. ومن البدهى أن يثير الاتفاق ثائرة مصر التى ما فتكت تعبر عن مخاوفها من أن 
تقرير المصير ما هو إلا مسمى مرحلى للانفصال. 

إزاء كل هذه التطورات؛ كان من المقدر لاجتماع أسمرا حول القضايا المصيرية أن ينطلق 
من مركز قوى ثابتء ولكن المنطق نادراً ما يحكم الأمور فى السودان. فمنذ البداية برزت 
الخلافات حول هياكل التجمع العليا: من سيستولى على ماذا؟ بالطبع» كان الخلاف بين 
الحزيين الشماليين الكبيرين» فى حين آثر الآخرون التفرج. للخروج من المأزق اقترح أحد 
الأعضاء أن يتحول الاجتماع إلى مؤتمر تشاورى حول المذكرة التى وجهها قرنق قبل ثمانية 
أشهر للتجمع بهدف تفعيل أدائه» كما تقرر أن يفتتح الميرغنى المؤتمرء على أن يتولى قرنق 
الرئاسة من بعد لطرح ورقته. الذى كاد ان يغيب زعيم الحركة عن رشده فى اول لقاء له 
مع قيادات المعارضة مجتمعة» هو مذاهل ومشاغل لا شأن لها بالقضايا الجوهرية» تدور 
كلها حول الشخصيات. توجه لنا بسؤال لم نتوقعه: «لقد دفنت خلافاتىء فما الذى يمنعهم 
من أن يفعلوا ذلك 7لإعط) غصضلانافطد لإطبى ,وععموعمع1 ]لل نز لعلنط عناقط 1): . قلنا: 
«هؤلاء هم ملوك البوربون»؛ وأردفنا بعريى جويا: «ياهودى؛. وكان قرنق قد أصدر توجيهاً 
صارماً لأعضاء الوفد المرافق له أن لا يكونوا جزءاً من تلك الصراعات الجانبية» وربما كان 
حاضراً فى ذهنه النزاع الذى حدث فى اجتماع أديس أبابا فى ١19١‏ حول اقتسام لحم جاموس 
البحر قبل الإجهاز عليه. الأمران اللذان كانا يهجسان فى عقله هما: كيف يقتلع النظام؟ وما 
هى ماهية السودان الجديد الذى نتوق إليه؟ ولربما كان أيضاً فى حيرة من أمره بين أناس 
يفكرون فى عبور الجسر قبل الوصول إليه ١)(‏ قمتطاعدعء عروأء6 ععلت6 عطا ؤصتددم ع 
وأخري ين يفكرون فى الاحتيال على الجسر ()1 25055128 0516ا00) قبل وصولهم إليه أيضاً. 

بؤرة الخلاف الشخصى فى أسمرا كانت هى سلطة رئيس التجمع؛ فإن ظل الميرغنى 
رئيسأء فإن حزب الأمة يريد لتلك الرئاسة أن تكون شرفية» بينما تبقى السلطة التنفيذية فى يد 
الأمين العام الذى سيتم اختياره من حزب الأمة. هذا النوع من التفكير ظل صفة ملازمة 


59854 


للسياسة الحزبية فى السودان: وهو تفكير يغفل تماماً أن فى السودان قوى سياسية أخرى لها 
مطامح مشروعة أيضاً فى احتلال المواقع القيادية فى الحكم أو المعارضة. ومن أجل إرضاء 
الحركة؛ أو بالحرى للحد من سلطات الرئيسء اقترح حزب الأمة تناوب الرئاسة بين الميرغنى 
وقرنق. ذلك الاقتراح رفضه زعيم الحركة توعرضه قائلاً: نحن هنا أولاً لنحدد سياسات 
ونرسل إشارات. ثانياً لا يحق لأى واحد منا أن يتولى منصباً لا يستطيع التفرغ لأدائه» وأنا لا 
أملك الوقت لأداء ذلك العمل. وحول الإشارات قال قرنق إننا سنعرّض الميرغنى لمزايدات هو 
فى غنى عنهاء إذ ستقول الخرطوم: انظروا إلى زعيمكم الدينى» ذهب لاسمرا ليسلم أمر قياد 
المسلمين للكفار. فى ذات اللحظة رفض اقتراحاً (جاء من الميرغنى هذه المرة) بأن يكون نائباً 
للرئيس لأن قبوله ذلك العرضء على حد قوله؛ سيرسل أيضأ رسالة خاطئة للجنوب. سيقول 
الجنوبيون» رغم كل نضال الحركة الشعبية فى التجمع ودورها الحاسم فى المعارضة» لم يجد 
الشماليون لقائدها فى المؤسسات التى يسيطر عليها الشماليون غير مركز من الدرجة الثانية؛ 
كما ظل الحال دوماً منذ الاستقلال. لهذا السبب اقترح قائد الحركة أن تكون للتجمع قيادة 
جماعية تضم رؤساء كل الفصائل بلا استثناء» على أن يكون الميرغنى رئيساً للمجموعة 
5 بين أكفاء. (5ع35م ععام1 5نامراء©) ذلك الاقتراح كان له مزاياهء كما كانت له ايكيا 
نتائج مدمرة لسير العمل. من مزايا الاقتراح ضمان إجماع القوى السياسية كلها على كبريات 
الأمورء خاصة والتجمع عازم على إعادة صياغة الحياة السياسية . بيد أن مفهوم الإجماع هذا 
أصبح طاغيأ على كل شىء» بما فى ذلك القضايا التفصيلية» بل الإجرائية مثل تكوين الوفودء 
واللجان الفرعية» والجماعات التى تقابل هذا الزائر أو ذاك. هذه القيادة كثيفة العمالة ندهط4!) 
(12]905106 أقعدت التجمع كثيراً فى المجال العملى . 

وعلى كل؛ أصبحت تلك هى الصيغة المرتضاة من جميع الفصائل» وبعدها فقط 
انصرف التجمع لعقد أول مؤتمر حضره جميع أطرافه لمناقشة القضايا الحقيقية. ولدهشة 
أعدى أعدائه» توصل التجمع بعد أسبوعين من المناقشات المطولة إلى اتفاق حول العديد 
من القضايا الرئيسية مثل نظام الحكمء الدين والسياسةء الأمن والترتيبات العسكرية خلال 
الفترة الانتقالية» الاقتصادء وحق تقرير المصير والوحدة الطوعيةء علاقات السودان 


252565 


يونيو/ حزيران وفعت الحركة على ميثاق التجمع الجديدء والذى أخذ فى الاعتبار 
ملاحظاتها حول أسباب الصراع فى السودان ووسائل علاجها. 


الخطوة الأولى نحو سودان جديد 

لأشكال الحوار المختلفة» من المفاوضات المباشرةء والمفاوضات عبر الوسطاءء إلى 
اتفاقيات السلام؛ تأريخ طويل. ومشرف فى بعض الأحيان. إلا أنها جميعاً لم تقض على 
بؤر التوتر فى صراع السودان المزمن. أو هل هناك من متنفس سلمى للعداوة والحقد اللذين 
ابتلى بهما السودان على مدار أكثر من أربعة عقود؟ لماذا عجزنا عن التوصل إلى تسوية 
سلمية منذ مؤتمر جوبا فى 1147 إلى وقتنا الحاضر؟ لكن فشل استعراضنا التاريخى 
للأحداث فى الفصول السابقة فى تقديم إجابة شافية على هذا السؤال: فربما أدى بنا 
استعراض جهود الوساطة الخارجية منذ سقوط اتفاق أديس أبابا إلى إجابة . ولكن» بينما 
كانت عمليات الوساطة والتفاوض فى الماضى تهدف إلى تحقيق تسوية بين السلطة فى 
الخرطومء والمتمردين عليها فى الجنوبء فإن التوفيق بين الحركة وحلفائها الجدد (رخصوم 
الأمس)؛ أمر مختلف. يضاعف من التعقيد أن الحركة لم تتحد مع حلفائها الجدد للإطاحة 
بنظام الجبهة فحسبء وإنما أيضاً للاتفاق على نظام سياسى بديل عنه» وأكثر قدرة على 

مكالحة الأزمة :من حدذورها: 
بعد سقوط حكومة صادق المهدى تحولت المؤسسة السياسية الشمالية تلقائياً إلى وضع 
"المعارضةء وتلك هى الدوامة المرهقة لتعاور السلطة بين المدنيين والعسكريين فى سودان 
ما بعد الاستقلال. وحسب العادة» اتفقت الأحزاب "التقليدية و الحديئة على تشكيل تحالف 
دَيوة والظى متعاركن يهتدق إثازة الشتحت الإنتقاظ 'حكومتة الجبهة ع خلال العمل 
الجماهيرى (الانتفاضة)؛ ومساندة العسكرء إما بدعم خفى كما حدث فى عام ١974‏ ضد 
عبودء أو عمل جهير كما وقع عام ١945‏ ضد نميرى. ولكن فى منتصف التسعينيات أدرك 
التجمع أن نظام الجبهة وحش مختلفء. فهو نظام شمولى لم ير السودان له مثيلاً من قبل. 
كان البشيرء كعسكرىء يدرك تمام الإدراك من أين يأتى الخطرء وبالتالى عمد منذ البداية 


95966 


إلى إضعاف الجيش المحترفء وإنشاء جيش آخر مواز له. من جانب آخرء ذهب الترابى 
كما لم يذهب أى حاكم سودانى سبقه (ربما باستثناء الخليفة عبد الله) إلى إضفاء صبغة 
إلهية على كل قراراته الدنيوية حتى ما كان منها بالغ السخفء وتبعاً لذلك أضحت 
معارضة النظام تجديفأء إن لم تكن كفراً بواحاً. الجبهة أيضاً ليست كياناً سياسياً مصنوعاً 
مثل الاتحاد الاشتراكى السودانى» بل هى منظمة ذات قاعدة شعبية مهما كان صغرها 
(مقارنة بالأحزاب التقليدية) » وتتمتع بقدرات فائقة على التعبئة والتنظيم. فعلى مدار العقود 
الثلاثة الماضية قام الترابى بإعداد الكوادر الجبهوية الشابة فى أحسن مراكز التعليم 
والتدريب الغربية» مما وفر لهم كفاءة عالية فى تعاطى وسائل التحليل والتشغيل الحديثة» 
وفى فنون العلاقات العامة. ولعل نجاح الجبهة فى هذا المضمارء رغم ما توصف به أفكارها 
من ظلامية» قد ولد غيرة حادة عليها من جانب الأحزاب الشمالية الأخرىء بما فى ذلك 
من ينتمون للقوى الحديثة. فوق هذا وذاك» أصبحت الجبهة القومية الإسلامية» بفضل 
الترابى» رأس جسر للإسلام الدولى الراديكالى؛ وبهذه الصفة حظيت بدعم ملحوظ. انطلاقاً 
من كل هذه الأسباب» حذرت الحركة الشعبية حلفاءها من التعامل التقليدى مع نظام 
الجبهة» مؤكدة أن لا مفر من النضال المسلح ضد ذلك النظام. تلك المحاذير التى ربما 
قامت على افتراضات تقبل الدحضء أكدها النظام عندما استفز معارضيه الشماليين لحمل 
السلاح إذا ما أرادوا استعادة السلطة. 

تلك هى الظروف التى دفعت المعارضة لحمل السلاح ضد النظامء دون أن تسقط من 
الحساب احتمال حل سلمى للصراع فى السودان على أساس أجندة أسمراء وإعادة رسم 
الخريطة السياسية للبلاد عبر مؤتمر قومى دستورى. وهكذا ذهب التجمع إلى تطويق النظام 
عبر وسيلتين متضادتين هما الكفاح المسلح, والتسوية السلمية. وكما هو معروف: عسر 
الخيار الثانى بسبب عزم النظام على البقاء فى الحكم أبد الآباد. كما كشفت عن ذلك فعاله 
قبل أقواله. فخلال عقد التسعينيات كله انهمك النظام فى إعادة تشكيل السودان ثقافيأء 
وسياسيأء واجتماعيآء ومؤسسياً. هذا ما قاد إلى استنتاج قابل للتصديق هو أن لا سلام فى 
السودان قبل إزالة كل البناء الذى أقامه النظام فى المجال العام والاستنتاج» بطبيعته» يجعل 


2137 


من التفاوض السلمى عملية طويلة ومضنية» إن لم تكن مستحيلة . تأكدت مراوغة الجبهة 
أيضاً من الطريقة اللولبية التى اتسمت بها المفاوضات بين الحركة الشعبية والجبهة فى 
مختلف المنتديات والمنابر» ففى تلك المفاوضات كان النظام يراوغ كما يراوغ الثعلبء لا 
هروباً من السلام» وإنما لوهمه فى تحقيق سلام يبقى على خطته الأيديولوجية» ويؤكد 
هيمنته على الهيكل السياسى السودانى. ذلك سلام لن يتحقق إلا عن طريق غزو إسبارطى؛» 
لاامن خلال المفاوضات بين شريكين متكافئين. 

وأياً كانت الوسيلة التى سيتحقق بها التغيير» كان من أهم إنجازات أسمرا شيئان: الأول 
الو ا او لوو ا 0 0 
يؤهلها لأن تكون بديلاً مقنعاً لنظام الحكم فى الخرطوم. والثانى اكتساب التجمع عقب اتفاق 
أسمرا لقدر كبير من المصداقية كقوة معارضة»ء خاصة بعد إفلاحه فى توحيد كل الجماعات 
السياسية والعسكرية المعارضة تحت مظلة واحدة» والتزامها جميعاً بالعمل على تحقيق 
السلام العادل؛ والوحدة الطوعية» والتعددية الحزبية المعافاة من كل شوائب الماضى . ورغم 
كل الزوابع المفتعلة» والقرارات المرتبكة» لم يبق للتجمع فى بدايات القرن غير مقررات 
أسمرا التى أخرست, على الأقل على المستوى الفكرىء كل المتشككين. فللمرة الأولى منذ 
الاستقلال اتفقت الطبقة الحاكمة على قواعد للوحدة لو تواصى عليها السياسيون عند 
الاستقلال لما اندلعت الحربء ولو فطنوا إليها فى الفترة التى تلت نظام عبودء لما تعقدت 
الأمور للحد الذى أصبحت فيه الشكوك هى الثابت الوحيد فى معادلات السياسة السودانية. 
فقرارات أسمراء فى حقيقتهاء هى انكسار لكل مفاهيم الماضى حول الوحدة والهوية 
السودانية . 

هذا التوحد لم يتحقق بالسهولة التى كان يترجاها المرء» فأولاً كان هناك الصراع الذى 
أومأنا إليه بين أمين عام التجمع ورئيسه» وقد تلبث الأمين العام عند تغاضبه ومعاسرته 
حتى بعد أن ترك التجمع. ففى حديث له لإحدى الصحف الخليجية قال: إن الميرغنى غير 
قادر على فهم المتغيرات الجارية» وأضاف قائلاً للصحفى الذى كان يحاوره» دون تدبر أو 
مبالاة: «يجب أن تدرك أننى أنشأت التجمع. وقبل خروج صادق كنت أنا القوة المحركة 


5268 


له..('') هذا المستوى من الجرأة والادعاء المشكوك فى خبرهء يلخص واحدا من أهم 
الأدواء العضوية التى عانى منها التجمع. حزب واحد يرى أن كل القوى السياسية الأخرى 
أذيال ملحقة به» ورجل واحد يضع كل السودان فى خانة الصفر. هذا أمرمؤسفء رغم ما 
لا ينكره الجميع للأمين العام من كد فى سبيل التجمع؛ وما لحزيه من وزن شعيى. 

تنسيق المناشط العسكرية فى 1 الجبهة الشرقية كان أيضاً مكان جدال ومشاكسة:» ففى البدء 
شكل التجمع قيادة عسكرية مشتر. كة برئاسة قرنق لضمان الانسجام والتنسيق بين أوجه 
النضال المسلح فى الشمال والجنوبء ولتوزيع المهام على قوات الفصائل المختلفة . تلك 
القوات ضمت عند إنشائهاء فرقاً من حزب الأمة» الجيش الشعبى (لواء السودان)» الاتحادى 
الديموقراطى (قوات الفتح)» البجة» قوات التحالفء القيادة الشرعية» ثم انضم لهم من بعد 
التحالف الفيدرالى» والحزب الشيوعى بقوة رمزية. رغم هذا آثرت قوات التحالف حتى عام 
العمل بمفردهاء وريما كان ذلك لتقدير قادتها بأن النصر قد بات على الأيواب» 
وأنهم الأقرب من الآخرين للانقضاض على الخرطوم. أو ريما لاعتقادهم بأنهم أكثر قدرة 
على تدبير انقلاب داخلى ينحاز فيه الجيش إلى جانب الشعب كما حدث من قيل. وبصرف 
النظر عن سوء التقدير» فإن ذلك الموقف يوحى بأن التجمع المظلى»؛ كان فى نظر بعض 
أعسناثة مظلة تور للاعكحاء تجكيا فى الأباء العاضفة»وطرى مدن ها عن لهم ذلك. 
ذلك التوجه نحو العمل الجماعى بدا لبعض الأطراف الأخرى فى التجمعء وكأن هناك من 
يرغب فى تدمير نظام الجبهة من خلال تجمع موحد ليستبدله بصنف آخر من العسكر. 
وفى.مرحلة لاحقة نبذ الحزب الاتحادى الديموقراطى قوات الفتح ونسبه لتنظيم جديد 
(القوى الثورية الديمقراطية) ولعل رغبة قيادة ذلك الحزب فى أن تنفى عن نفسها وصمة 
العمل العسكرى هى التى قادت إلى ذلك الانشطار الأميبىء علماً بأن ليس فى النضال 
المسلح وصم أو عار. فالعمل العسكرى. منذ إنشاء التجمع» كان خياراً شرعيا متاحاً له. ومن 
المفارق أن يقع ذلكء والنظام فى أشد الحالات ضعفأء كما أن الأحزاب الشمالية فى أكثرها 
حرجاً. فالامتحان العسير الذى كانت تتعرض له تلك الأحزاب فى ذيول اتفاق ماشاكوس 
بين النظام والحركة هو إثبات وجودها فى فضاء السودان السياسىء الأمر الذى ظل النظام 


989 


ينكره طوال مفاوضات ماشاكوس. هذا هو الإطار الذى يجب أن يضع فيه تمرير قوات 
التجمع لمنطقتى همشكوريب ورساى فى أبريل ٠٠١7‏ والتى أنكر رئيسه العلم بها كما أدانها 
نائب رئيس الحزب الاتحادى الديمقراطى, أحمد الميرغنى. أمر نائب رئيس الحزب لم يعد 
يعنى أحداً بعد أن أصبح واحداً من الكراسى المذهبة التى يستعرضها النظام فى كل محفل 
لإيهام الناس أنه اخترق صفوف المعارضة» ولكن تبرؤ رئيس التجمع. القائد العام لقوات 
التجمع كان مصدر إحباط لمجاهديه المرابطين فى الثغور. 

ساق بعض المعلقين المتشائمين أولاً حجة مفادها أن مشكلة التجمع المستعصية ستكون 
هى الأحزاب الشمالية التقليدية لأنها أحزاب ترتكز على أساس دينى» وذات جذور عميقة 
فى الإسلام الشعبى. وتساءلوا عن مدى التزامها بإلغاء قوانين الشريعة التى تبنتها الجبهة. 
خاصة وقد ترددت تلك الأحزاب فى إلغائها عندما أتيحت لها الفرصة للقيام بذلك. ثم ما 
هى الضمانات هذه المرة فى أن التزامها بفصل الدين عن السياسة سيكون التزاماً صادقاً؟ 
ثانياً: قالوا أن كل الأحزاب لا تتمتع بالديموقراطية الداخلية وأنها ظلت رهناً لقيادة نفس 
الاشخاص لعدة عقود دون ان تخضع هذه القيادات لمحاسبة من قواعدهاء فكيفء إذن» 
يمكن لحزب غير ديمقراطى أن يصبح جزءاً من عملية ديمقراطية؟ وما هو الضمان بأن 
يلتزم زعيم لا يخضع للمحاسبة بالاتفاقيات التى أبرمها حزبه؟ ثالثاً: قالوا هل يمكن 
للحزيين الكبيرين (الحزب الاتحادى الديمقراطى وحزب الأمة) بعد أن فشلا فى الماضى 
فى مواجهة أزمات السودان السياسية والاجتماعية والاقتصادية» وأسهماء بذلك» فى تسعير 
نيران الحرب فى السودان» التخلى عن ممارساتهما التى دامت أربعين عاماً وسلوك نهج 
ديموقراطى جديدا؟')؟ تلك أسئلة مشروعة؛ سنعود للإجابة عنهاء بعد استعراض القضايا 
المحورية التى توافق عليها المؤتمرون فى أسمرا. 

١‏ نظام الحكم (ء1ان18 01 مرءاد2ر5) 


خلال فترة الصراع الطويل فى السودان» كان موضوع نظام الحكم هو عظمة النزاع بين 
السياسيين الشماليين والجنوبيين» بل لربما كاد أن يصبح جوهر الخلاف. فحين ظلت 
حكومات الخرطوم منذ الاستقلال تتبنى نمطأ للحكم مفرطاً فى مركزيته» كانت الجماعات 


990 


السياسية فى المناطق المهمشة (البجة:ء والنوبة» والفور)» إلى جانب الجنوب؛ تدعو لنظام 
لامركزى للحكم يضمن لهم الإدارة الداخلية لمناطقهم. البرلمانات المتعاقبة التى كانت 
تسيطر عليها الأحزاب الشمالية» فشلت جميعها فى استيعاب مدى تعقيد الموقف فى 
السودانء» بل وفى إدراك ما فى اللامركزية من خير للإدارة الحسنة لقطر شاسع كالسودان» 
كما فشلت فى قراءة المؤشرات السياسية التى تجلت فى توحد الجماعات المهمشة مع 
الجنوبيين فى البرلمان (كما حدث فى .)١158‏ وكان التعبير السائد فى وصف هذه 
الجماعات السياسية ذات المطالب المحددة (لا مركزية الحكم) هو الحركات العنصرية كما 
سلف الذكر. وباستثناء حالات قليلة» كانت هذه أيضأً هى رؤية قطاعات عريضة من 
الصفوة بما فى ذلك بعض الحداثيين. ولا ريب فى أن الحكام فى الخرطوم قد رأوا فى 
مسالمة الجماعات المهمشة فى الشمال الجغرافى»: وعدم لجوئها للعنف كما فعل الجنوب. 
نوعاً من الاستخذاءء ففى وجهة نظر الأحزاب لم تكن تلك المناطق تمل إلا احتياطياً بشرياً 
سهل الانقياد» يحصلون منه على التأييد خلال الانتخابات البرلمانية» ثم يغفلون أمره إلى 
حين إعلان انتخابات جديدة . كل تلك الجماعات (النوبه» البجهء الفونج» الفور) اضطرت 
فى النهاية إلى حمل السلاح» وكان فى مقدور ساسة الخرطوم الذين ظنواء فيما يبدوء أنهم 
فوق البشر (0ء2ءعمناة) أن يوفروا على السودان الكثير من الدم والشقاء والعناء لو وعوا 
كلمات جى .ب .شو المأثورة: احترس من الرجل الذى لا يرد لك ضرباتك فهولن يسامحك 
كما لن يدعك تسامح نفسك )١5(.‏ 

لم تكن الأحزاب الشماليةء أو هكذا نفترضء خالية الذهن عن المزايا السياسية» والكفاءة 
الإدارية» للنظام اللامركزى فى بلد بمثل حجم السودان الجغرافى» وتباينه الديموغرافى» 
وتنوعه العرقى. وبغض النظر عن الدعوات التى أطلقها الجنوبيون لقيام نظام فيدرالى فقد 
دعا الحزب الجمهورىء؛ كما سبقت الإشارة» لنظام فيدرالى للحكمء('') كما دعا الحزب 
الشيوعى السودانى» تحت رداء الجبهة المعادية للاستعمارء قبل الجمهوريين إلى حكم ذاتى 
إقليمى للجنوبء وإن لم يكن قد تطرق للمناطق المهمشة الأخرى.٠'')‏ وكما أوردنا فى 
الباب الأول من الكتابء كان عداء الأحزابء بما فيها الحزب الشيوعىء للنظام الفيدرالى 


9091 


عداء لا يتسم بالعقلانية» ويتغافل عن تجارب دول نظيرة كان خليقا بالسودان أن يتمثلها 
كتجارب الهند والبرازيل والاتحاد السوفيتى وكندا وأستراليا. لم يكن هناك سبب يدعو 
أحزاب الشمال لتغافل تلك التجاربء لولا الوساوس القهرية وردود الأفعال ضد أى فكرة 
حبذها الاستعمار وتبنتها الصفوة الجنوبية (ربائب الاستعمار) . انطلاقاً من كل هذه التجارب 
السابقة» يعد القرار الذى تبناه التجمع حول نظام الحكم قراراً تاريخياً. ذلك القرار» منح 
الجنوبء وكذلك الأقاليم الأخرى فى السودان» قدراً غير مسبوق فى إدارة شئونها الداخلية . 
فالقرار ينص على أن تتكون جمهورية السودان من خمسة "كيانات("') جغرافية بالإضافة 
إلى هذه الكيانات تقرر أن تبقى الخرطوم عاصمة وطنية تدار عبر سلطة مستقلة عن 
الكيانات» وعن السلطة المركزيةء حتى تحافظ على طابعها الوطنى. 

وحسب نص القرار يتكون النظام اللامركزى من مستويين؛ أولهما مستوى السلطة 
المركزية التى سيقتصر دورها على الإشراف على القضايا ذات الطابع السيادى أو تلك ذات 
الطابع عبر الإقليمى (ع1716:5136) »2 كما يتكون الحكم الإقليمى ايسا عق مستويين: مستوى 
الكيانات الشمالية (كردفان» دارفورء الوسط» الشمال؛ الشرق) ؛ ومستوى الجنوب؛ على أن 
يكون كل واحد من تلك الكيانات مسئولاً عن إدارة المنطقة الإقليمية التى يغطيها فى 
المجالات الحيوية فى ميادين التنمية والخدمات الاجتماعية والثقافة. هذه السلطات تتجاوز 
بكثير تلك التى "تفضلت بها الخرطوم على الجنوب» وعلى بقية ولايات الشمال فى دستور 
4عكما تتجاوزما منحه اتفاق أديس أبابا للإقليم الجنوبى. إضافة إلى ذلك تشمل 
الضمانات للكيان الجنوبى إستغلال الموارد الطبيعية» وحق الكيان فى تعبئة الموارد من الداخل 
والخارج لدعم مشروعات إعادة تأهيل الإقليم» وإدارة القضاء على جميع درجات التقاضى ما 
عدا القضايا الدستورية وتلك المتعلقة بتعارض القوانين (1285 04 14ك0002411)» والتى تحال 
إلى محكمة اتحادية دستورية عليا. نص القرار أيضأ على أن يكون للجنوب نظام تشريعى 
ورئاسة تنفيذية (مثل الكيانات الأخرى)» فمن الناحية العملية» إذن» خلقت قرارات أسمرا لا 
مركزية حقيقية لأن تكائثر وإنتشار السلطة (65011097انا 04 دمأكد كتل لسة ممتاوع؟ 1امم) 
سينهىء أولاً هيمنة المركز على الأطراف؛ وثانيً» ضغوط إقليم واحد على المركز. هذا 


5602 


الوضعء بالضرورة» سيخلق انحيازات وتحالفات إقليمية جديدة تحددها المصالح الاقتصادية 
المشتركة» لا الروابط العرقية والقبلية. ولهذا يمثل قرار التجمع حول نظام الحكم أول محاولة 
سودانية جادة لصد (1ء02 5011138) التوسع المتسرطن للسلطة المركزية. 

وفى حين يعامل نظام اللامركزية المقترح كل الكيانات الشمالية على قدم المساواة» إلا 
أنه يمنح الجنوب وضعاً أكثر تميزآء حيث إن السلطات المتفق عليها لذلك الكيان تكاد تقارب 
تلك التى تتمتع بها وحدات الاتحاد الكونفدرالى. هذا أمراقتضته دواع تاريخية (منذ 
الاستقلال) وراهنة. وستظل غاية أمانينا أن يلهم الله الخيال للطبقة الحاكمة ونخب الشمال 
لتلمس التجارب المعاصرة لأنظمة الحكم الاتحادى عند وضع دستور دائم للبلادء بدلاً عن 
الحرون عند دستور ١560”‏ , ودستور ١5965‏ (معدل 164) أو الصيغ الدستورية التى 
أعقبته» بما فى ذلك دستور 1175 الذى كان لنا دور فى صوغه. نتمنى أيضاً أن تفطن 
القوى الحديثة لأن قضايا السودان شديدة التعقيد لن تحل دستورياً بمعالجة قضية التوازن 
بين نصيب تلك القوى» ونصيب نظيرتها "التقليدية فى دهاليز السلطة؛ لأن مشاكل السودان 
تتجاوز كليهما. 

لقد تطور الفقه الدستورى؛ كما تطورت هندسة الحكم تطوراً كبيراً فى النصف الثانى من 
القرن الماضىء خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. وكان على رأس بواعث هذا التطورء 
خاصة بالنسبة للأنظمة الاتحادية» الرغبة فى التعامل الجدى مع الحقوق المشروعة 
للجماعات المختلفة التى ينتظمها وطن واحدء بهدف توطيد الوحدة الوطنية من جانب» 
وضمان استقرار الحكمء من جانب آخر. ويرى بعض الدارسين!؟') أن النظام الهولندى هو 
الأكثر ملاءمة فى هذا الصدد. فالنظام الهولندى يقوم على ما يعرف باسم الأعمدة الخمسة 
للمجتمع (76121011108) » والتى تشمل الكاثوليكيين» والجماعتين البروتستانيتين» 
والاشتراكيينء والليبراليين. كل واحدة من تلك المجموعات تمثل مجتمعاً قائماً بذاته 
ومنفصلاً عن غيره فى هولنداء كما لكل منها حزيه السياسى الخاص بهء ونقاباته العمالية» 


ومدارسه. وصحفهء وإذاعاتهء وتليفزيونه. 


503 


ويعتمد نظام الأعمدة الخمسة على ما يلى: 

(أ) إنشاء تحالف أعظم لكل حكومات الولايات لضمان تمثيل كل أعمدة المجتمع. 

(ب) التمثيل التسبى فى النظام الانتخابى العام» والتوزيع النسبى للأنصبة فى الانفاق 
العام والوظائف العمومية. 

(ه) حق الفيتو المتبادل والذى يستطيع بمقتضاه أى عمود من الأعمدة الخمسة 
معارصة القرارات الحكومية فى المسائل الحيوية التى تخصه. 

(د) الحكم الذاتى الإدارى لكل مجموعة فى المنطقة التى تسيطر عليها [210110ة1) 
(ع8016838ء والاستقلال المؤسسى (/ا2100]08012 [125]1]1010113) لمؤسساتها الرسمية 
والشعبية» بمعنى أن يكون لكل مجموعة الحق فى إنشاء مدارسها ووسائل الإعلام الخاصة بها. 

السودان بالطيع» ليس هو هولنداء كما لا تعانى هولندا من الانقسامات الحادة التى يعانى 
منها السودان. بالإضافة إلى أن بعض الأفكار المتجسدة فى النظام الهولندى قد تمت 
تغطيتها فى نظام اللامركزية المقترح فى مقررات أسمرة. رغم ذلك يتضمن النظام 
الهولندى بعض الأفكار الجيدة التى يمكن أن تساعد على تخفيف حدة الشكوك المتبادلة بين 
الشنمال والجكوتء وبين المركز والأطراف» ودين القنوئ التقليدية والقوئ الحديقة: تمنا 
تضمن نظاماً تمثيلياً أكثر عدالة وموضوعية. مثال ذلك التمثيل النسبى فى النظام 
الانتخابىء والتوزيع النسبى للإنفاق العام والتوظيفء ولم لاء الفيتو المتبادل فى المسائل 
ذات الأهمية الحيوية لكل مجموعة» شريطة أن يحكم هذا القيد الأخير بضوابط صارمة:ء ولا 
يطبق إلا وفق معايير موضوعية مت متفق عليها قبلياً حتى لا يتحول إلى وسيلة ماكرة لإحباط 
عمل الحكومة الاتحادية» أو تخذيلها. 


"-المترة الانتقالية 


نصت مقررات أسمرا على فترة انتقالية لا تتجاوز الأربع سنوات» يتم خلالها عقد 
مؤتمر دستورى لوضع دستور دائم للسودان يجسد المبادئ المعلنة فى مقررات أسعرا. وق 
خلال تلك السنوات الأربع يبقى الجيش الشعبى بوضعه الذى كان عليه تحت قيادته الحالية. 


92094 


هذا الشرط الخاص بالجيش الشعبى يرد على تساؤل الجنوبيين: ماذا نفعل أن نكثت أحزاب 
الشمال عهدها الذى قطعته فى أسمرا؟ وما أكثر ما تناكث القوم عهودهم. ولو اختارت 
أحزاب الشمال بمحض إرادتها انتهاك ما التزمت به فى أسمراء فستتحمل وحدها وزر 
انفصال الجنوبء إذ لا يستطيع قرئق أو غير قرنق أن يحمل الجنوب مرة أخرى إلى المربع 
الأول. ولتحقيق ما سيفضى إليه السيناريو الأسوأ (الانفصال)» لا يحتاج الجنوب أى 
ضمانات إضافية من أى نوع. أما إن بقى الجميع على عهدهمء فلن يكسب قرنق وحده 
الرهان, بل سيكسبه السودان كله. عندئذ نقول» إن الشمال والجنوب قد تعلما التعايش سويآً 
واحترام بعضهما البعضء وكأن قرارات اسمرا تمثل بهذا الفهم الفرصة الأخيرة للوحدة . من 
جانبها التزمت الحركة بأن تعمل» خلال الفترة الانتقالية» من أجل خيار الوحدة على أساس 
مقررات أسمرا. هذا الالتزام سيضع الطرفين فى إمتحان. فأمام المؤسسة السياسية الشمالية 
خياران: سودان موحد سلمياً برضاء أهله وطوعهم إن التزمت تلك المؤسسة»ء نصاً وروحأء 
بمقررات أسمراء أو سودان منقسم إذا ما ابتغت خلاف ذلك. والخيار الأخير هو اختيارلن 
يقدم عليه قائد شمالى يتمنى الخير لبلاده . كما أن نكوص الحركة فى الفترة الانتقالية عما 
تراضت عليه فى أسمراء سيعطى دليلاً ما بعده دليل على مصداقية كل الاتهامات التى 
وجهت لها بأن شعارى الوحدة على أسس جديدة» والسودان الجديد اللذين رفعتهما ما هما 
إلا كلمة حق أريد بها باطل. 

اتفقت الأحزاب فى أسمرا أيضأ على خطة عمل اقتصادية للفترة الانتقالية تهدف إلى 
إنهاء عدم التوازن الموضوعى والجغرافى والقطاعى فى خطط التنمية الماضيةء وما قاد إليه 
من تشوهات فى الاقتصادء وإجحاف بحقوق المواطنين فى المناطق المهمشة. بدأت الخطة 
بالاعتراف بأن لب المشاكل الاقتصادية للبلاد يعود إلى تكريس منهج التنمية الذى صاغه 
الاستعمار لخدمة مصالحه» وقاد إلى تعميق التخلف الاقتصادى والسياسى والاجتماعى 
والثقافى فى الأطراف فى شرقى وغريى وشمالى وجنوبى السودان. تلك هى الحقيقة التى 
لم تفطن إليها الأحزاب من قبلء أو ألهتها الصراعات الحمقاء عن الافتطان إليها. ودعت 
الخطة الحكومة الانتقالية إلى السعى إلى تحقيق تنمية اقتصادية متوازنة» وتوزيع متكافئ 


5045 


للثروة والخدمات الاجتماعية والاقتصادية كمطلب أساسى لتعزيز السلام والوحدة الوطنية. 
ولكنء إن أخذنا فى الاعتبار الوضع السائد اليوم» خاصة فيما يتعلق بالتوزيع غير المتكافئ 
للأصول المادية والاجتماعية العامة» سوف يستمر عدم العدالة فى توزيع الثروة على المدى 
القصيرء ولكنه سيتوازن على المدى الطويل. ففى المستقبل المنظور سوف تستمر التدفقات 
المالية الجديدة فى الانجذاب إلى المناطق التى تتمتع ببيئة أفضل للاستثمار. لأن 
المستثمرين ليسوا منظمات طوعية يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة: كما 
ليس للاعتبارات الإنسانية أى دور فى عملية الاستثمار. ولكنء باتباع السياسات المناسبة 
التى تعطى الأولوية للبنية الأساسية»ء وتنمية الموارد البشرية فى القطر عامة:ء والمناطق 
المهمشة بوجه خاصء ستتلاشى الفوارق فى الوقت المناسب . بالإضافة إلى هذا فإن تطوير 
الكشوفات البترولية فى الجنوب سوف يؤدى حتما إلى جعل الإقليم الجنوبى أكثر جاذبية» 
سواء بالنسبة للمستثمرين المحليين أو الأجانب. نفس الشىء يصدق على الجهد الطوعى 
غير الحكومى فى إعادة تأهيل الجنوبء امتداداً لما ظلت المنظمات الطوعية تقوم به عبر 
عقدين من الزمان. 

من الجدير بالذكر أيضاً اعتزام التجمع اتباع اقتصاد السوق الحرء وهذا تطور صحىء 
بصرف النظر عن الاعتبارات الخارجية التى أملته مثل انهيار النموذج الاشتراكى المثالى 
(الاتحاد السوفيتى وشرق أوروبا)» والنماذج الإقليمية التى اقتفت أثره (مصر الناصرية» 
الجزائر تنزانيا) . وقد علمتنا التجارب قبل نظام مايو (تأميم الصادق المهدى لمزارع النيل 
الأبيض)» وبعدها (التأميمات واستشراء ظاهرة مؤسسات القطاع العام فى عهد مايو)؛ ما 
تقود إليه هيمنة الدولة على ما يعرف بالقمم المسيطرة (كىاطق8اعط 10103201928من) على 
الاقتصاد من تدمير للاقتصاد الوطنى. ثمة محاذير ثلاثة لابد من الالتفات إليها. الأول هو 
الإدراك لطبيعة نظام السوق الحرء والذى لا يمكن الولوج فيه» وفى النفس شىء من حتى. 
فالرأسمالية لا تقبل نصف حملء وعلى الذى يتزاوج معها أن يدرك النتائج مسبقاً. كما أن 
الرأسمالية الجديدة لم تتجاوز أزماتها فحسبء بل تجاوزت نفسها. تجاوزتها أولاً بتبنيها 
للكثير من القيم والمبادئ التى نادى بها الإشتراكيون (الضمان الاجتماعى للعمال والأطفال 


506 


وكبار السن) مما انعكس فيما يعرف بدولة الرفاه (عغ5)2 عتداء»)» أو الدولة الرعائية . كما 
تجاوزتها بطبيعة التحول الذى حدث فى مكوناتهاء فلم تعد الرأسمالية هى تلك التى تولدت 
من الثورة الصناعية الأولى فى القرنين الثامن والتاسع عشر فى بريطانيا اعتماداً على 
الحديد والصلب والبخار ومن بعد الكهرباء؛ كما لم تعد هى رأسمالية القرن العشرين التى 
طغت عليها عولمة رأس المال وانتشار المعلوماتية كأداة أساس فى التنظيم والإدارة وضبط 
الإنتاج. فى هذا الزمان انتقلت الرأسمالية إلى عوالم أخرى تعتمد أساسأً على العقل والخيال 
العلمى (بحوث الفضاءء تطوير البيولوجية الحيوية» الهندسة الجينية» تحليل الغينوم 
البشرى)؛ مما جعل من الدماغ البشرىء وليس العامل البروليتارىء المحرك الأول 
للاقتصاد. هذا التطور أفقد مقولة التناقض الكامن داخل أنماط الإنتاج المختلفة يقود إلى 
إلغاء ذلك الشكل وإحلال بديله» أى معنى. وقد أسعدنا كثيراً الاطلاع على التحليل الشجاع 
الذى قام به محمد إبراهيم نقد حول مبادئ وموجهات تجديد برامج حزبه حذر التجمد 
الأيديولوجى الذى منيت به أغلب الأحزاب الأيديولوجية!'"). قال من بين الملامح 
والسمات التى تجاوزها الزمن أو دحضها وعى لاحق وتجربة مكتسبة ثوابت فى الفكر 
الماركسى مثل: «الرأسمالية تدخل المرحلة الثالثة لأزمتها النهائية» تناقضات الرأسمالية تقود 
حتما إلى النظام الاشتراكى» تضع الاشتراكية السلطة بين أيدى الجماهير الكادحة بقيادة 
الطبقة العاملة». إدانة هذه المسلمات النظرية تؤكد حقيقة هامة» هى أن لا مكان للحتميات 
فى تحليل الظواهر الاجتماعية» ولهذا فلا معدى لتلك النظريات من الجرح والتعديل. 
المحذور الثانى هو الوعى بأن اقتصاد السوق» رغم نجاعته الاقتصاديةء اقتصاد لا 
قلب لهء ولعل أبرز ظواهر القسوة فيه هى الإبقاء على عدم التوازن الهيكلى فى العلاقات 
بين الأغنياء والفقراء عبر العالم بسبب شروط التجارة الدولية المجحفة» وتراكم الديون على 
الفقراء مما قاد إلى بؤس كونى. ولا شك فى أن السودان» مثل غيره من معذبى الأرضء قد 
أصبح ضحية لذلك الإجحاف الدولىء إلا أن هذا لا يعفى النظام الحاكم عن جانب من 
المسئولية نتيجة لسياساته» خاصة تصعيد الحرب. فعلى سبيل المثال ظل السودان فى آخر 
قائمة الدول المؤهلة للاستفادة من برنامج صندوق النقد الدولى للدول ذات المديونية القائقة 


67ظ2 


(5ء1أهنامه لعاطء 10 لاأأادء11), بسبب تلك الحربء رغم إفلاح النظام فى تحرير 
الاقتصاد بصورة ما كان ليجسر عليها أى نظام آخر. بيد أن التحرير الاقتصادى لن يثمر 
كثيراً مع انسداد السوق السياسى. ولا يشرف السودان فى كثير أو قليل أن يكون رفاقه فى 
هذه الدول هم برندىء أفريقيا الوسطىء ساو تومى» الصومال؛ بجانب مانيمار (بورما) من 
خارج أفريقيا. هذا وضع لايستأهله السودان بثرواته الطبيعية والبشرية الفريدة. فالسبيل 
الوحيد لعلاج المشكلتين (شروط التجارة الدولية المجحفة» وأزمة الديون) هو الإصلاح 
الداخلى أولآء ثم العمل الجاد الدءوب مع دول الجنوب الكونى. وفى هذا المجال؛ قطعت 
أفريقيا شوطأ بعيداً بتبنى مشروع قارى للنهوض باقتصادهاء أقر فى مؤتمر القمة الأفريقى 
الأخير فى ديربان (يوليو/ تموز؟7١٠3).‏ هذا المشروع جاء بشروطه؛ وأهمها الاستقرار 
الداخلى» والحكم الرشيدء مما سنعود إليه. 

المحذور الثالث هو الاستكانة للرأى القائل بأن اقتصاد السوق يعنى استقالة الدولة من كل 
جهد اقتصادى. صحيح أن مفاهيم التخطيط القومى للاقتصاد بكل مؤسساته قد أصبحت 
أمراً غير ذى موضوع فى ظل الاقتصاد الحر ولكن صحيح أيضاً أن الدولة وحدها هى 
التى تملك القدرة على وضع وتنفيذ السياسات التى تحد من النتائج الضارة للإصلاحات 
الهيكلية للاقتصاد على المدى القريب. من هذه السياسات لن يضار إلا الفقراء والمجموعات 
الأكثر تعرصاً (1565251نا؟) للهلاك؛ والدولة وحدها هى الأقدر على التوفيق بين المصالح 
الاقتصادية المتعارضة»ء وعلى تطوير البنية التحتية المادية والاجتماعية (التعليم والصحة) 
بهدف إعداد وتأهيل المواطنين للدخول فى سوق العمل. الدولة وحدها هى القادرة أيضاً 
على ضمان النمو المعافى للاقتصاد باستكصال عوامل الفسادء فالفساد ليس دوماً انعكاساً 
لضعف أخلاقىء؛ بقدر ما هوء على الأكثرء نتاج طبيعى للسياسات الخاطئة مثل تدخل 
الدولة فى الاقتصادء مما يمنح البيروقراطية سلطات لاتستحقهاء أو بسبب القيود غير 
الضرورية على التجارة»؛ والصناعة:؛ وتحديد الأسعار. كل هذاء بجانب ضضعف رواتب 
العاملين» يوفر للبيروقراطيين والسياسيين بيئة مواتية للفسادء ويغرى الراشى الذى يسعى 
لإنجاز عمله» كما يغرى المرتشى الذى لا يملك ما يقيم الأودء على الفساد. 


568 


وفيما يتعلق بالقضية الشائكة؛ قضية الموارد الطبيعية» نصت المادة ١١‏ من الفصل الخاص 
بسلطات الكيان الجنوبى على أن يعهد لذلك الكيان القيام باكتشافات وتطويرء وإدارة الموارد 
الطبيعية غير المتجددة (ع01ة/65م6:-00م) طبقاً لترتيبات مع السلطة المركزية بخصوص 
الضرائبء واقتسام العوائد» واحتياجات التنمية للمناطق الأخرى المحرومة. أما فيما يتعلق 
بالكيانات الشمالية» فقد احتفظ القرار للسلطة المركزية بتلك السلطات دون الإخلال بحق الكيان 
المضيف فى تحديد وتحصيل نسبة مئوية معقولة من الإيراد المتحقق من استغلال الموارد 
المكتشفة فى أرضه والتى تم تطويرها فيه. هذه الصيغة قطعت شوطأ بعيداً فى تهدئة مخاوف 
الجنوب؛ وهى مخاوف بررتها السياسات التى اتبعت فى عهد نميرىء مما أشرنا له فى الفصل 
الخامس؛ وبصورة أكبر فى عهد نظام الإنقاذ الذى سخر جل وائد البترول للحرب ضضد 
الجنوب. فى نفس الوقت لم يعط النص الكيان الجنوبى مطلق الحرية فى استخدام الإيرادات 
الناتجة عن استغلال الموارد غير المتجددة التى يتم تطويرها فى الإقليم» إذ يلزم الحكومة 
الجنوبية بتحمل المسئولية عن رفع مستوى المناطق المهمشة الأخرى. 

"- تقرير المصير 

فى الماضى القريب لم تحظ أى قضية من جانب الأحزاب الشمالية والمعلقين 
السياسيينء بالنقاش أكثر مما حظيت به قضية حق تقرير المصير. فنادراً ما أثارت الأحزاب 
الجنوبية تلك القضية» قبل وأثناء فترة الحكم الذاتى» وكذلك فى خلال العامين الأولين 
للاستقلال. كل ما كان ينادى به ساسة الجنوبء» ويكررون المناداة به» هو وحدة السودان 
على أساس فيدرالى. ولكن نتيجة لتصلب رأى الأحزاب الشمالية حول قضية الفيدرالية» مما 
أفضنا فى الحديث عنه فى أكثر من موقع فى الكتاب»ء بدأ الجتوبيون يعيدون النظر فى أمر 
الوحدة نفسهاء ومن ثُمّ شاع المصطلح فى الخطاب السياسى الجنوبى حتى أصيح لازمة فى 
كل حوارات الشمال والجنوب. الحلول المتأخرة دوماً يتجاوزها الزمن؛ فمثلاً لو استجاب 
البرلمان البريطانى فى عام 17717 فى عهد جورج الثالث لمطالب الولايات الأمريكية 
الثلاثة عشر لما قامت الثورة» وربما لتغير تاريخ العالم ببقاء أهل الولايات المتحدة الأمريكية 
رعايا مطيعين للتاج البريطانى. زاد الأمر تلوياً فى السودانء إقدام الإخوان المسلمين 


999 


بمساندة أحزاب الشمال التقليدية على إصدار دستور إسلامى فى عام 1574» ثم اكتساب 
قضية تديين السياسة بعداً أكثر حدة بمجىء نظام الجبهة للحكم. هذا التاريخ يلغيه دوماً من 
عقولهم ذوو الذاكرة الفقاعية من المحللين السياسيين الشماليين» وأهل الثقافة السمعية من 
المعلقين. وبما أنه لكل أمر علة. فإن العلة تشد معلولاتهاء يصدق هذا على السياسية كما فى 
المنطق. وعدم التنبه للعلية فى الأحكام» لا يبطل الحكم فحسبء بل يكشف عن عدم أهلية 
القاضى . يتحدث هؤلاء المعلقون عن شرعية منح جنوب السودان حق تقرير المصيرء وكانه 
موضوع افتعلته الحركة الشعبية فى التسعينيات؛ أو قضية ظهرت فجاءة من الهواء. حتى 
الحكماء منهم أوغلوا فى مجادلات قانونية أفعوانية تقول أن السودان قد مارس بالفعل حقه 
فى تقرير المصير فى ديسمبر 1155١»ء‏ ولهذا فالموضوع لم يعد قابلاً للنقاش. ومن المدهش 
أن يذهب لهذا الرأى واحد من قانونيى الجبهة (عبد الرحمن ابراهيم)» حتى بعد أن وقّع 
النظام على بروتوكول ماشاكوس الذى اعترف فيه النظام بحق الجنوب فى تقرير مصيره . 
هذا الرأىء عبر عنه من قبل مفاوضو الجبهة فى أبوجاء كما قال به العديد من القانونيين 
الشماليين. هذا التلاحى» رغم إمكانية الدفاع عنه وفق مبادئ القانون الدولى الكلاسيكى, 
هوتلاح مصطنع لأنه يتجافى كل الظروف التاريخية التى أدت إلى بروز الفكرة؛ كما لا 
يتوافق مع الفكر القانونى والسياسى المعاصر. هو مصطنع لأن مطالبة الجنوبيين بممارسة 
حق تقرير المصيرء كانت نتاجأً لنكوص الشمال عن الوضع الدستورى الذى تراضت عليه 
أحزاب الشمال مع أحزاب الجنوب عند الاستقلال كأساس لميلاد الدولة الجديدة . ذلك 
النكوص أضفى شرعية على المطالبة بحق تقرير المصير من جانب من أضير من نتائجه 
لأن العقود القائمة على الخداع والمزاعم (13000امءدع,مع]ؤ15ام ءدلة)) لا تلقى أى 
احترام فى أى نظام قانونى محتضر. وبالمثل» فإن ممارسة السودانيين كلهم لحق تقرير 
المصيرء كما هو منصوص عليه فى الاتفاقية الإنجليزية المصريةء كانت منقوصة الشرعية 
من الناحية القانونية البحتة» بل طغت فيها الاعتبارات السياسية على القانون (الفصل 
الثانى) . لهذا فإن التمحك بالقوانين عندما أثير الموضوع من جديد لا يجعل من النزاع 
نزاعاً مفتعلاً فقطء بل مشبوهاً أيصّاً. 


100 


إن مطالبة الجنوب (بل فى الواقع أى مجموعة فى السودان تقاسى مما قاسى منه 
الجنوب) حق تكفله المادتان (7) و(55) من ميثاق الأمم المتحدة. فالأولى تنص على 
احترام حق تقرير المصير والحقوق المتساوية لكل الشعوبء والثانية تجعل من احترام الحقين 
واحداً من أسس التعاون الدولى الاقتصادى والاجتماعى. وقد يجادل البعضء بحقء أن 
القانون الدولى التقليدى قد قصر ممارسة هذا الحق على الشعوب التى تطالب بالاستقلال 
عن الحكم الاستعمارى. هذا بالفعل هو معنى قرار الجمعية العامة رقم ١515‏ الصادر فى 
والمعروف بإعلان منح الاستقلال للبلاد والشعوب المستعمرة . ذلك القرار ينص على 
ما يلى: «لكل الشعوب الحق فى تقرير المصيرء وبمقتضى هذا الحق فإن لها مطلق الحرية 
فى تقرير وضعها السياسى والسعى نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتقافية؛ )"١(.‏ 
يؤكد ذلك الرأى بيان أصدره يوثانتء السكرتير العام للأمم المتحدة قال فيه تعليقاً على 
انفصال كاتانقا عن الكونغو فى مؤتمر صحفى بداكار: إن الأمم المتحدة «لم ولن تقبلء وأنا 
لا أعتقد أنها لن تقبل أبداً مبدأ انفصال أى جزء من الدول الأعضاء فيهاء.("') ولهذا لم 
يكن غريباً أن أدان مجلس الأمن فى قراره رقم ١79‏ (74 نوفمبر1951١)‏ انفصال كاتنقا 
عن الكونغو. ولكن» بعد تصريح يوثانت بعام واحد اضطرت الأمم المتحدة» تحت ضغط 
الحرب الشاملة بين الهند وباكستان» إلى الاعتراف بانفصال بنقلاديش عن دولة باكستان. 
هذا ما نعنيه بأن القوانين لا تلغى الواقع السياسى على الأرض. 

تاريخيأء لم يتم الاعتراف بحق تقرير المصيرء أو ورد ذكر له فى ميثاق عصبة الأممء 
بالرغم من أن عصبة الأمم قد منحت ذلك الحق للقوميات الأوروبية المتباينة داخلء أو عبر 
الدول» بعد الحرب العالمية الأولى. واعتبر الرئيس الأمريكى ويلسون الاعتراف بذلك الحق 
أساساً للسلام والاستقرار فى أوروبا.('') إعلان ويلسون فى رأى بعض المفكرين: كان ذا 
أهداف خبيئة» ففى رأى هالبرين أن هدف ويلسون من منح حق تقرير المصير لتلك 
القوميات كان هو خلق مجموعة من الدول تحد من نفوذ المانيا وروسيا.(؛") كما أن 
واحداً من أقرب مساعدى ويلسون (روبرت لانسينجء وزير الخارجية) اختلف مع رئيسه 
حول الحكمة فى منح حق تقرير المصير لتلك الشعوب لأنه مدمر للاستقرار العالمى» فى 


101 


تقديره. قال لانسينج فى كلمات تفيض بالعنصرية: «كلما فكرت فى إعلان الرئيس 
بخصوص حق تقرير المصيرء كلما ازداد اقتناعى بخطورة زرع مثل تلك الأفكار فى عقول 
أجناس معينة؛ .("') اعتتق لينين أيضاً مبدأ حق تقرير المصير لشعوب الاتحاد السوفيتى» 
وكرس هذا الحق فى الدستور السوفيتى كحق أساس لكل شعوب الاتحاد. ولكن بسبب من 
أحادية حزب لينين (الحزب البلشفى) » ونظرية مصلحة الدولة (5]26 014 723508) التى 
تبيح للدولة» من أجل حمايتهاء الحق فى تجاوز الدساتيرء أصبح نص الدستور السوفيتى نصا 
نظرياً. وقد اضطرت شعوب الاتحاد السوفيتى إلى انتظار سقوط النظام الذى أنشأه لينين» 
لكى تمارس حقها الدستورى فى تقرير المصير. ومن الواضح أنه فى الوقت الذى كان فيه 
منح حق تقرير المصير للأقليات الأوروبية فى فترة ما بعد الحرب العالمية ناجماً عن 
اعتبارات سياسية انتهازية» فإن تأكيد هذا الحق للشعوب المستعمرة فى ظل ميثاق الأمم 
المتحدة كان نتاجاً لصراع القوى العظمى. ولا يستطيع أحد أن ينكر الدور الهام الذى لعبه 
نيكيتا خروتشيف فى إصدار القرار )١15١4(‏ للجمعية العامة للأمم المتحدة. 

على أن قانون الأمم قد تطور بصورة ملحوظة منذ ميلاد فكرة ويلسون الناشئة عن 
دوافع سياسية حكمتها إستراتيجيات الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى» وأيضاً منذ 
وضع ميثاق 7 المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. فإلحاقاً لقرار الجمعية العامة 
(1514١)ء‏ تبنت الأمم المتحدة وكذلك المنظمات الإقليمية؛ العديد من المواثيق التى تناولت 
مرمتوح جق تفزير النضير وى نظرة جديذة يناه رمبداه: تغلى سيول المناا»اتعتنين كل 
من الميثاق الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية »)١177(‏ والميثاق الدولى 
الخاص بالحقوق المدنية والسياسية »)١1717(‏ إلى جانب الميثاق الأفريقى الخاص بحقوق 
الإنسان والشعوب )١98١(‏ نصوصاً حول حق الشعوب فى تقرير مصيرها. ولا شك فى أن 
تبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة للميثاقين المذكورين أنفآً قد سد ثغرة فى كل من ميثاق 
الأمم المتحدةء والإعلان الدولى لحقوق الإنسان. فلفترة من الزمن كان مفهوم تقرير 
المصير مقصوراً فى دوائر الأمم ال ا 
الدولى لحقوق الإنسان عن أى شىء يتعلق بحقوق الشعوب والأقليات. وعلى المسدوى 


10'02 


المحلى»ء صدق السودان فى عام ١585‏ على الميثاقين الدوليين الصادرين فى ١1557‏ و 
7 »؛ وكذلك على الميثاق الأفريقى الصادر فى عام 2194١‏ وتلك حسنة تحسب لحكومة 
انتفاضة أبريل. وتلزم المادة الأولى فى كل من الميذاقين الدوليين الدول بأن تعزز من 
تحقيق حق الشعوب فى تقرير المصيرء بينما تشير المادة ٠١‏ (أ) من الميثاق الأفريقى إلى 
حق تقرير المصير كحق لا يرقى إليه الشك (20650073616نا) وغير قابل للانتزاع 
(»231168361) . وبتحليل ذلك النص توصل ريتشارد كيوا نوكاء القانونى الكينى إلى أن 
المراد به هو الحفاظ على مساحة سياسية واقتصادية للشعوب تمارس فيها ما أسماه: 
«سيادة الشعب. قال إن «كفالة ممارسة هذا الحق أمر ضرورى عندما تتعارض مصالح 
ذلك الشعب مع مصالح الدولة: .(9؟) 

وإن كان ثمة وثيقة أممية أكثر جزماً فى هذا الخصوص. فهى الإعلان حول مبادئ 
التعاون الدولى بين الدول طبقاً لميثاق الأمم المتحدة والذى وافقت عليه الجمعية العامة 
بالإجماع فى 4" أكتوبر 197١‏ ليس فقط بهدف حماية الوحدة الإقليمية للدول» ولكن 
أيضاً لوضع مبادئ إرشادية للتعاون بين الدول ذات النظم الاجتماعية المختلفة . وبالرغم 
من أن الإعلان أكد مبادئ السيادة والوحدة الإقليمية للدول (الفقرة )٠‏ إلا أن الفقرة الفرعية 
(؟) من الفقرة (ا) وضعت حدوداً واضحة لتلك السيادة. تقول الفقرة الفرعية: ٠لا‏ شىء 
فى الفقرة الحالية يجب أن يؤخذ على أنه يبيح أو يشجع أى عمل يمكن أن يمزق 
عط ممعمرؤتل) أو يضعف (215م110) كلياً أو جزئياً الو حدة الإقليمية و السياسية للدول ذات 
السيادة والمستقلة» والتى تتصرف طبقاً لمبادئ الحقوق المتساوية وتقرير المصير للشعب 
المنتمى للإقليم بدون تمييز سواء بسبب الجنس أو العقيدة أو اللون». هذا النص يعيد الاعتبار 
إلى نصوص ميثاق الأمم المتحدة حول ضرورة احقرام الدول لحقوق الشعوب فى تقرير 
مصيرهاء والمساواة الكاملة فى الحقوق بين مواطنيهاء دون أن يرتهن هذا للتفسير القاصر 
للمادة (9) 7 من الميثاق حول عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول. 

وحين نقر بأن القانون الدولى الكلاسيكى كان ملتبساً فى قضية تقرير المصيرء ولم تزده 
ممارسات الأمم المتحدة فى العقود الثلاثة الأولى من عمرها إلا التباسأء نبدى أيضاً أن 


1003 


التطورات الأخيرة فى الفقه الدستورىء والقانون الدولى» وتجارب الأمم لم تعد تتعامل مع 
هذا الأمر بنفس القدر من الاستخفاف؛ خاصة فيما يتعلق بحقوق الشعوب والجماعات 
منقوصة الحقوق فى ظل الدول القومية . نتيجة لهذاء لم يعد احترام الوحدة الإقليمية للدول 
حقأ مطلقاً» ولكنه يعتمد على سلوك حكومات الدول تجاه شعوبها. وعليه» يسوق الفكر 
القانونى المعاصر الحجة بأن احترام الوحدة الإقليمية لا يمكن الدفاع عنه إن لم تكن الدولة 
هى دولة كل شغبهاء كما يسوق الحجة أيضا فى أن حق تقرير المصير يجب أن يضمن 
بصورة خالية من الغموض للشعب داخل حدود الدول المستقلة ذات السيادة فى الحالاات 
التى لا تمثل فيها الحكومة المحكومين.!'") وفى هذا الصدد ميز هالبيرين بين خمسة أتماط 
من تقرير المصير: 

. حق تقرير المصير ضد الاستعمار (النمط الكلاسيكى)‎ ١ 

" - حق تقرير المصير عبر الدول وهو ما ينطبق على المجموعات التى تتركز فى أكثر 
من دولة مثل الأكراد وأهل كشمير. 

" - حق تقرير المصير لشعوب الشتات. 

؟ - حق تقرير المصير للشعوب الأصلية مثل الهنود الأصليين فى الولايات المتحدة 
وكنداء وا الأرو ميين (5ع15ع3602)فى أستراليا. 

© حق تقرير المصير الداخلى أو التمثيلى (1712010221ء525م76 01 [1216102) حيث 
تسعى مجموعة من سكان دولة قائمة إلى تغيير الأوضاع السياسية القائمة لصالح وضع 
أكثر ديمقراطية وأوسع تمثيلا.(8") 

النمط الأخير هو ما يطالب به جنوب السودان» على أن تلوى المعلقين السياسيين فى 
شمال السودانء بل فى العالم العربىء بالحجج القانونية المستهلكة يصحبه احتيال فكرى 
غريب. هؤلاء المعلقون ما برحوا يباركون» بل يدعون لمنح الأقليات المسلمة فى بلاد ذات 
سيادةء بعضها أقدم بكثير كدول ذات سيادة من السودانء, ولكنهم لا يجدون أدنى غصاصة 
فى إنكار ذلك الحق على الجنوبيين. فعلى سبيل المثال» يقر هؤلاء بأن من حق مسلمى 


14 


الشيشان والبوسنه وكوسوفو أن يعيشوا حياتهم كما يرغبون؛ لا كما ترغب روسيا أو 
يوغسلافيا. ولكنا نعرف أن الشيشان إقليم أصبح تابعاً لروسيا منذ عام ١197١‏ أى على مدى 
أربعة عقود قبل ميلاد جمهورية السودان. كما أن ضم مسلمى كوسوفو للصرب قد تم فى 
١‏ بعد إنشاء الدولة القومية فى ألبانيا والاعتراف بها دولياً بذلك الوضع. وفيما يتعلق 
بالبوسنة فإن أقاليمها (00312501)الستة» والتى أنشئت على غرار نظام السناجك (مفردها 
سنجك) العثمانية» أى الوحدات الإدارية» انضمت ليوغوسلافيا فى نهاية الحرب العالمية 
الثانية» واعترف بها المجتمع الدولى على ذلك الشكل. فما معنى هذه الازدواجية الغربية 
فى المعايير؟ 

مهما كان الأمرء لم يحملنا على تلك السياحة القانونية» غير الهذر المتلفع برداء القانون» 
والذى ظل يردده البعض. ورغم الأدلة القوية» والسوابق القانونية» التى تدعم منح حق 
تقرير المصير للجماعات مهضومة الحق فى البلاد ذات السيادة» فإن القصضيةء فى الأساس» 
سياسية أكثر منها قانونية. فالحجج القانونية التى يمكن لنا ولغيرنا طرحها لن تغير مشاعر 
الأسى وعدم الثقة التى تحس بها تلك الجماعات تجاه من غصبهم حقهم. الحجج القانونية 
أيضاً لن تبدل الحقائق السياسية والعسكرية القائمة على أرض الواقع»ء خاصة عندما يلجأ 
هضيم الحق إلى استخدام القوة» ولعل فى انفصال بنجلاديش عن باكستانء وتفكك 
يوغوسلافيا والاتحاد السوفيتى وتشيكوسلوفاكيا ما يؤيد ما نقول بما لا يدع مجالاً للشك. 
وحقيق بالذكر أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى اللذين أحجما عن الاعتراف بدولتى 
كرواتيا وسلوفينيا عند انفصالهما عن يوغسلافيا اعتماداً على مبادئ القانون الدولى 
الكلاسيكى عادا امتثالاً للأمر الواقع للاعتراف بالدولتين» كما أجبر مجلس الأمن من قبل 
على الاعتراف ببنقلاديش. 

يبعث على الحزن أن أزمة السودان تنطوى على كل أنواع تعذيب الذات والمازوكية 
السياسية» فالجنوبيون الذين اضطروا للدعوة للانفصال الفورىء أو لممارسة حق تقرير المصير 
المؤدى إلى ذلك الانفصالء لم يتوصلوا إلى تلك النتيجة إلا بعد تراكم وعود ما قطعت إلا 
لتنقض . وتؤكد كل التجارب الماضية أن ساسة الجنوب كانوا لا يرون خياراً أفضل من وحدة 


5 


البلاد» شريطة احترام رغائبهم فى تدبير شئونهم الداخلية. ثم جاء زمان جديد أطلت فيه 
حركة سياسية ذات منبع جنوبى: الحركة الشعبية» لتعلن بالصوت الجهير خيارها الوحدوى فى 
سودان جديد ذى سمات محددة»ء فانبرى لها من يقول لاخيار لكم سوى الاستيعاب فى وطن 
يحدد الدين هويتهء وستتفضل عليكم حكومته برخص فى الدين إن أرهقتكم عزائمه . فما هو 
الخيار الباقى لمواطن لا يجد فى وطنه إلا الفضول؟ وليس من طبيعة الأشياء أن يقبل أى بشر 
يملك أدنى حد من احترام الذات أن يكون جزءاً من دولة تجعل منه مواطناً من الدرجة الثانية؛ 
كما ليس من طبيعة الأشياء أن يفاخر أى شخص بوطن يعامله كغريب. فى واحدة من 
أقاصيصها الممتعة الجنيهات الثلاثة (10665نا0) 1566) كتبت الروائية البريطانية فرجينيا 
وولف تصف معاملة وطنها (إنجلترا) للنساء فى فترة الثلاثينيات» كما تعامل الغرباء. قالت: 
قد يتساءل الأغراب عما الذى يوفره قانون الملكية للمرأة من حقوقء وما الذى يصنعه القانون 
من أجلهاء وما هى الحماية التى يوفرها لها. وبمثاليتها وطوباويتها المعروفة نددت وولف 
بالدولة التى تنتمى اليها اسمياً وأردفت قائلة: «أنا لا أريد وطنأًء فالعالم كله وطنى:. كانت 
الكاتبة الانجليزية تشجب مجتمعاً يسوده الرجل؛ وكانت فيه حقوق المرأة فى التمليك مقيدة» 
وحقوقها فى السياسة معدومة:» والقانون العام فى جملته متحيزاً ضدها. ولكن أهل جنوب 
السودان لا يملكون مثالية وولفء ولا حيلة لهم فى أن يهربوا من "وطنهم الذى شبوا فيه 
وعرفوه؛ إلى وطن أرحب لا يعرفونه. 

ومن المتناقضات أن تصبح عملية تقرير المصير التى قادت إلى الاستقلال باعتباره 
الخطوة الأولى إلى نعيم الوحدة الوطنية والاستقرارء وسيلة للتفكك والتشظى . فداخل البلاد 
حديثة العهد بالاستقلال» كان ذلك فى السودان أو دول البلقان» استهانت الجماعات 
المهيمنة بالأقوام الذين لا ينتمون إلى الكيان الثقافى أو العرقى السائدء للحد الذى جعل هذه 
الأقوام نظن أنها استبدلت سيدا قديماً بسيد جديد. كما أصبح شعار الوحدة الوطنية مدلولاً 
للهيمنة» أكذر منه تعبيراً عن التنوع الخلاق. أصاب كبد الحقيقة الدكتور عبد الله النعيم 
عندما قال: يجب أن لا نسعى لتحقيق الوحدة بأى ثمن. فالإطار الدستورى للأمة يجب أن 
ينص على المساواة والعدالة لكل طوائف الشعب: المساواة فى المشاركة فى السلطة 


106 


السياسية: والتدمية الاقتصادية والاجتماعية:؛ وتمكين كل أمة أو شعب فى الدولة من 
المحافظة على هويته الثقافية المميزة وتنميتها.(5") 

وعلى أية حال؛ حسم التجمع الأمر فى مؤتمر أسمرا حيث اعترف بحق تقرير المصير 
ليس فقط كحق مقصور على الجنوبء وإنما أيضاً كحق غير قابل للانتزاع لكل أقوام 
السودان. وبالاعتراف بحق الجنوب فى تقرير مصيرهء حتى وإن دعا ذلك إلى الانفصال» 
أكدت الأحزاب الشمالية تخليها عن فرض الوحدة قهرأًء فمن الخير للسودان أن ينقسم إلى 
دولتين جارتين صديقتينء بدلاً من الانقسام على نفسه إلى مالا نهاية. وياعترافها بحق 
تقرير المصير لكل أقوام السودان المهمشين (البجة» الفور وقبائل الغرب القصىء النوبه) » 
والتى لم تبد فى يوم من الأيام رغبتها فى الانسلاخ عن الوطنء عقدت الطبقة السياسية 
الشمالية العزم على إزالة الظلم التاريخى الذى حاق بهذه الأقوام. من جانب آخرء أكد القرار 
فى مستهله على أن كل أطراف التجمع (بما فى ذلك الحركة الشعبية لتحرير السودان) 
تفضل خيار الوحدة القائمة على احترام التعدد العرقى» والتنوع الثقافى والدينى واللغوى. 
فالوحدة وممارسة حق تقرير المصير لايتناقضانء فكما يمكن لممارسة ذلك الحق أن تفضى 
إلى الانفصالء يمكن لها أيضاً أن تكون أداة لتحقيق الوحدة الطوعية. ألزم القرار أيضاً 
السلطة المركزية خلال الفترة الانتقالية بأن تقوم بوضع وتنفيذ الإجراءات الضرورية التى 
تبنى الثقة» وتعيد هيكلة الدولة والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية» بهدف تنفيذ السياسات 
التى أقرها التجمع لإنهاء مظاهر الهيمنة والظلم التاريخى؛ حتى تكون لخيار الوحدة فرصة 
أحسن عند الاستفتاء. ولا شك فى أن الظلامات التاريخية لن تزال فى عامين أو أربعة» 
ولكن المهم هو مقاصد العقل الرسمى والتى ينبغى أن تكون ملامحها واضحة فى الدستور 
والقوانين والبرامج الاقتصادية والثقافية والتربوية والإعلامية. 

عند ممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير حدد لهم القرارثلاثة خيارات: الوحدة, 
الكونغدرالية» الفيدرالية» أو الانفصال. وفيما يتعلق بالانفصال» نص القرار على أنه» فى حالة 
اختيار شعب جنوب السودان للانفصال بنهاية الفترة الانتقالية عبر استفتاء عام» يتم ذلك 
الانفصال فى إطار حدود المديريات الجنوبية التى كانت قائمة فى يناير"155١»‏ بهذا تم 


17 


التخلى صمنياً عن إعادة التقسيم الإدارى للحدود التى قام به نميرى فى الثمانينيات» والجبهة 
الوطئية فى التسعينيات. إلى جانب ذلك منح القرار أهالى منطقة أبيى الحق فى أن يقرروا 
خلال استفتاء ما إذا كانوا سيبقون ضمن إقليم جنوب كردفان أو ينضموا إلى منطقة بحر 
الغزال» وفى حالة اختيارهم الانضمام لمنطقة بحر الغزال» يحق لهم المشاركة فى إجراءات 
تقرير المصير التى يمارسها الجنوب. وقصة أبيى هى الأكثر مأساوية من مآسى أى منطقة 
أخرى فى الجنوب. نزوع أهل أبيى للانفصال يكشف عن الفشل الذريع لمؤسسة الحكم الشمالية 
فى أن تتيح للوحدة أن تنمو وتزدهرء حتى على المستويات المحلية . تلك المنطقة؛ والتى دائماً 
ما يشار إليها بأنها منطقة تماسء» هى فى الواقع النموذج المثالى للتمازجء بل هى البوتقة التى 
انصهرت فيها طوعاً ثقافات الجنوب والشمالء منذ أن قرر قادة الدينكا القدامى بإرادتهم أن 
يكونوا جزءاً من الشمال قبل الاستقلال. ولئن انتهى الحال بأحفاد أولئك القادة الوطنيين 
للمطالبة بحق تقرير المصيرء وفى نهاية المطاف الانفصال عن الشمالء فتلك هى أسوأ شهادة 
على سياسات الخرطوم. أما موضوع أهالى جبال النوبة وتلال الانقسنا الذين حملوا السلاح 
ضد نظام الخرطوم كجزء أصيل من الجيش الشعبى منذ 187: فسوف يكون هناك أيضاً 
استفتاء يقررون فيه الوضع الذى يرغبون فى إطار السودان الواحد. وكما هو معروف. لم تعبر 
هاتان المنطقتان» فى أى وقت من الأوقات» عن الرغبة فى الانفصالء بل ظلتا تطالبان بحكم 
ذاتى فى إطار السودان الموحدء بالقدر الذى يمكنهم من التحكم فى مواردهم ومصيرهم. 

5 -الدين والسياسة 

استغلال الدين فى السياسة» منذ المهدية» كان مشأمة على السياسة السودانية ففى عهد 
المهدية أصبح الدين اللحمة والسدى فى نسيج الدولة» وفى فترة ما بعد الاستقلال (خاصة 
منذ )١1158‏ هز الهوس الدينى أركان السياسة» وأعاق النمو الطبيعى للديمقراطية الدستورية 
فى السودان. وما كان لهذا الأمرأن يحدثء لولا تمركز السياسة السودانية حول طائفتين 
دينيتين متعارضتين, ولولا محاولات النخبة الإسلامية الجديدة ارتهان إرادة قيادات هاتين 
الطائفتين بالإيحاء مرة»ء وبالابتزاز باسم الإسلام كل المرات» حتى اختطفوا الإسلام نفسه 
فى عام 1988. 


08[ظ1 


بالرغم من ذلك؛ شهد السودان المعاصرء على طول تاريخ حياته السياسية تحديات 
لسيطرة الطائفتين على السياسة من جماعات المثقفين الشماليين» مثل تحدى على عبد 
اللطيف فى ١174‏ للقبلية والزعماء الدينيين» ومواقف أحمد خير والاتحاديين فى مؤتمر 
الخريجين» ومناهضة الجمهوريين لهيمنة الطائفية على السياسة» وتحدى الأزهرى للختمية 
فى الستينيات» ومعارضة سياسيى حزب الأمة لفرض دستور قائم على أساس دينى فى عام 
7 ,»؛ وانتفاصضة أكتويرء وبدايات عهد مايو. بعض هذه المواقفء ريما دفعت إليها 
انتهازية السياسة ولم تكن تعبر عن موقف مبدئى أصيلء إلا أن غالبها صدر عن إدراك 
عميق للمخاطر العملية من تديين السياسة. نتيجة لتلك التحديات أحجم زعيما الطائفتين 
الدينيتين عن الضغط على الأحزاب الموالية لهما لإنشاء دولة ودستور إسلاميين. وليس 
مصادفة:؛ أن كلا من السيد على الميرغنى والسيد عبد الرحمن المهدىء الزعيمين 
الإسلاميين البارزين» واللذين يفترض أن تسيطر النزعة الدينية على رؤيتهما السياسية» 
ظلا يعهدان بالحكم دوماً إلى ساسة شبه علمانيين. بالإضافة إلى هذاء ظلت دساتير السودان 
فى فترة ما بعد الاستقلال (بما فى ذلك عهد عبود) دساتير شبه علمانية. ولا ريب فى أن 
السيدين كانا يتمتعان» إلى جانب الدهاء السياسىء بالحكمة التى مكنتهما من التمييز بين ما 
هو دينى وما هو سياسى على المستويين الأيديولوجى والعملى: ومن ثم تركا إدارة السياسة 
العملية لساسة دنيويين. والحكمة»ء قبل السلطان هى التى تعين الحاكم على التوثق من الأمور 
ومعرفة أفضلهاء ولهذا قدمها الله على الملك: «فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم 
ملكاً عظيماً» (النساء. 04/6). 

كان المهدى يعى تماماً أن القضية التى وهب نفسه لها: قضية السودان للسودانيين» نن 
تتحقق من خلال منظور دينى للسياسة» ناهيك عن منظور يتصل بتوجه دينى محدد. من 
جهة أخرىء تبنى الميرغنى تجمعات سياسية كانتء بطبيعة تكوينهاء أكثر ميلاً لقبول 
الفصل بين الدين والدولة» ولهذا ظل الحزب السياسى الذى دعمه الميرغنى موطناً تقليدياً 
لصفوة العلمانيين فى المراكز الحضرية» ولغير المسلمين الشماليين (الأقباط) . لهذا فإن 
ظهور الإسلامية الجديدة فى السودانء كما أبنا فى الفصل السابع؛ أكثر ارتباطاً بعوامل 


19 


خارجية: منه بعوامل محلية. فالإسلام الشعبى الذى يمثل الذاكرة الروحية لمسلمى 
السودان» بقى دوماً ديناً متسامحاًء رغم أنه حفر مجرى عميقاً فى الهوية الثقافية للشمال. 
ومع الافتراض جدلاً أن للإسلاميين رغبة صادقة فى التغيير السياسى من منظور إسلامى» 
إلا أن افتقادهم لرؤية واقعية للمجتمع الإسلامى الشمالى أحبط أعمالهم فلجأوا إلى العنف» 
ثم ذهبوا لتبرير ذلك العنف باسم الدين. من جانب آخرء ينتمى إسلاميو السودان» كما 
أوضحناء إلى شبكة عذكبوتية تمددت فى الوطن العربى بسبب خيبة المشروعات القومية 
والاشتراكيةء وافتعلت لنفسها واقعاً مثاليا نقياً هروياً من الواقع المائل. هذا الافتعال أوقعها 
فى تناقض ظاهرى (<35200م)» أو بالحرى خلف 56 والخلف فى الفلسفة هو المحال الذى 
يخالف المعقول. ولعل الشيخ الترابى هو أول من فطن لهذاء فكانت النتيجة أن آذاه أبناؤه 
وحواريوه . وأخلد بالترابى أن يذهب خطوة أخرى لاستعدال الانحراف: الاعتذار عن 
مشروعه الحضارى الذى ابتغى منه تعظيم دور السودان» فعظمة الأمم لا تكون أبداً بإذلال 
أهلها. ولا نحسب أن ذلك الرجل العالم يريد أن ينعى على نفسه بالفواحشء أو يشهر 
بتاريخه باستمرار إلصاق الفواحش به . أما أبناؤه الذين أدمنوا تعاطى الفاحشة فشأنهم آخر: 
وعبر التاريخ ظلت الثورات تأكل بنيهاء الا أن الثورة السودانية المنسوبة للإسلام؛ هى أول 
ثورة أكلت أباها. هذا أيضاً منهج لا يتفق مع أعراف الإسلام الشعبى. فالحوارى الذى 
يختلف مع شيخه لا يهينه ولا يؤذيه» بل ينتحى عنه جانباً ويؤسس لنفسه سجادة أو طريقة 
خاصة بهء وهكذا نشأت كل الطرق فى السودان. 

إن الإسلاميين الذين لبثوا على الظن بأنهم قادرون على فرض حقائقهم التخيلية أو 
الافتراضية (63110165: 7/11131) على التعددية الثقافية والدينية الفسيفسائية فى السودان» 
والتى يمثل الإسلام فيها جديلة واحدة حتى وإن كانت هى أكبر الجدائل؛ لم يدركوا 
خصوصية النسيج الوطنى فى بلادهم. لقد عاش مسلمو السودان راضين بصيغة الإسلام 
الشعبى الذى ألفوهء كان ذلك فى حياتهم الخاصة أو العامة. وريما كان ذلك هو السبب فى 
الفشل الذريع الذى منيت به مشروعات الإسلام السياسى فى السودانء بدءاً من صحوة 
صادق المهدى الإسلامية فى الستينيات» إلى مشروع الترابى الحضارى فى التسعينيات. أما 


1|010 


عن إمامة نميرى فلا تحدثء فلا هو فى العير كانء ولا فى النفير. علاوة على ذلك» 
أصبحت التجرية المعاصرة للإسلامويين الجدد كتاباً مدرسياً عن كيف يفشل المرء فى حكم 
بلد معقد التركيب كالسودان. تلك التجارب لحق بها الخزى وسوء السمعة» ليس فقط عند 
الجنوبى غير المسلم» بل أيضاً عند مسلمى الشمال. 

واجه التجمع الوطنى قضية الدين والسياسة بشىء من الحذرء وخلص إلى قرار هو نفس 
القرار الذى اتفق عليه فى نيروبى حول الدين والسياسة. ومن أهم ما فى ذلك القرار ربط 
قضية الدين والسياسة بإعلان وعهود حقوق الإنسان الدولية والإقليمية» وهو أمر لا 
يتعارضء بل يتفق» مع الدعوة الإنسانية لأى دين لأن الدين الحقيقى قيمة مضافة إلى 
الإنسانية . كما اتجه ذلك القرار فى الشأن العام» إلى الفصل بين المسجد والكنيسة» من جهة» 
والدولة والسياسة من جهة أخرى. وبتفاديه لاستخدام الكلمات الشفرية مثل العلمانية» 
واتجاهه مباشرة إلى موضوع استغلال الدين فى السياسة» أزال القرار كل لبس كان عالقا 
بالأذهان حول ما يعنيه دعاة العلمانية بالفصل بين الدين والسياسة» كما قضى على أى 
محاولة لتشويه ذلك الفهم. فالنص لا ينفى الدين عن المجتمع» ولا ينهى عن الالتزام بقيمه 
وثوابته» ولا يعوق استلهام أصوله فى تدبير الأمورء بل يبيح لكل أهل الديانات ممارسة 
عباداتهم» وإنشاء معابدهمء وقيام مؤسساتهم التعليمية الخاصة بهمء دون تدخل من الدولة. 
وتمامأء كما يستحيل فصل الإنسان عن دينه؛ يستحيل أيضاً دمج الدين كلية فى الحكمء وإلا 
فلم قال الرسول ‏ أمور دنياكم لكم. وفى الواقع» لا يتم الدمج الكامل بين الدين والحياة 
والحكم إلا فى مجتمعات البداءة الأولى» حيث شيخ القبيلة هو الحاكم» والكاهن» والساحر. 
ولعله لو تدخلت الدولة (دولة المسلم وغير المسلم) لمصلحة دين بعينه» فعليها أن تفعل نفس 
الشىء بالنسبة لرعاياها من أهل الديانات الأخرى. ولقد رأينا فى الفصل السابع ما فعله 
نظام الجبهة بدور العبادة للمسيحيينء؛ واستغلال المساجد لترهيب خصومهم من المسلمين» 
وفى بعض الأحيان لابتزازهم. هذا خبل لا يجيزه الإسلام نفسه» فالمسيحيون من أهل 
الكتاب قال فيهم القرآن: (قل يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل 
وما أنزل إليكم من ربكم (المائدة؛ 18/5) . وأنى للذين ينسبون أنفسهم للإسلام» الامتثال 


1011 


لقوله تعالى فى تلك الآية؛ إن كانوا يطاردون أحبار المسيحية» ويهدمون دور عبادتهم. ثم 
ماهى السماحة فى تلك التصرفات الهوجاء» رغم أنهم ما انفكوا يتحدثون عن سماحة 
دينهم . نحن منهم أدرى بأن الإسلام دين سمحء حتى مع أعدائه: «ادفع بالتى هى أحسن. 
فإذا الذى بينك وبينه ععداوة كأنه ولى حميم» (فصلتء )"4/4١‏ . ذلك أيضا هو شأن 
المسيحية» حيث الله محبة. ففى موعظة الجبل قال يسوع المسيح: «أحبوا أعداءكم» باركوا 
لاعنيكم» أحسنوا لمن يسىء إليكم». لكل هذا لا يعبر الفصل الدستورى بين الدين والسياسة» 
عن موقف أيديولوجى بقدر ما هو فصل وظيفى (08010031) لضمان توفير وتوقير 
مبادئ تقول بها كل الأديان» وتقرها أغلب الدساتير (بما فى ذلك الدساتير المنسوبة 
للإسلام) . 

وإن تركنا الجبهة جانباًء نجد أن الصادق المهدى بقى من أكثر الساسة معاندة فى قبول 
مبدأ الفصل الدستورى بين الدين والدولة» وله فى هذا نظريات. قال الصادق إن هذا الفصل لا 
يقع حتى فى الدول الليبرالية . وبين يديه لإثبات ذلك حجج واهية. من حججه أن الملكة فى 
بريطانيا هى رئيسة الكنيسة الإنجليكانية» وأن الدولار الأمريكى يعلوه شعارهفى الله ثقتناء 
()كن1 77/6 600 10) ذلك تحجج مسترخى. لأن الملكة فى بريطانيا لا تحكم» ولا تملك بحكم 
الدستور غير المكتوب أن تفرض انجليكانيتها على غير أهلها. ثم إن وضعها فى تلك الكنيسة 
وضع رمزى وشكلىء وراءه تاريخ طويل منذ عهد الملكة اليصابات الأولى. فقد دخلت 
المسيحية انجلترا فى القرن السابع (نفس الوقت الذى دخلت فيه السودان)» وتبناها الملك 
اثيلبرت» ملك كنت دون أن يفرضها على رعاياه . وبعد ثمانية قرون من الكاثوليكية قرر الملك 
هنرى الثامن التخلى عن تلك العقيدة ليدخل فى عقيدة جديدة (البروتستانتية) لكيما يتمكن 
من تطليق زوجتهء كاترين دى اراقون('"). ثم عادت انجلترا للكاثوليكية فى عهد الملكة ميرى 
(ابنة جورج الثامن) : ولكن ما أن أصبحت أختهاء اليصابات الأولى» ملكة على إنجلترا حتى 
عادت إلى دين أبيها عند تتويجهاء وعانت من ذلك بقدر ما عانى أبوها(''). وبعد تتويجها 
فى ظل الدين الجديد اعتمدت اليصابات ماثيو باركر (1551) كأول رئيس للأساقفة» وجاء 
من بعده أشهرهم: توماس بيكيت» وأصبحت راعية لتلك الكنيسة. 


1012 


تلك الرعاية ظلت تقتصر على تعيين رئيس أساقفة كانتريرىء والذى يرشحه رسميآ 
رئيس الوزراء للملكة من قائمة تضم اسمين أو ثلاثة» وتلك القائمة ينتقيها رئيس الوزراء من 
قائمة أخرى يختارها اثنا عشر أسقفاً. مع ذلكء لا تملك رئيسة الكنيسة الانجليكانية هذه أن 
ترفض تعيين كاثوليكى أو يهودى رئيساً للوزراء» أو اعتماد ملحد مثل أناورين بيفان وزيراً 
فى حكومتهاء أو منح اللوردية لليهود والمسلمين. أما التحجج بالإشارة إلى اسم الله فى 
العملة الأمريكية» فهو أكثر استرخاء» فأولاً لا يعنى الفصل بين الدين والسياسة» إنكار 
الألوهية . ثانياً» لربما لا يعلم الصادق أن القوانين الأمريكية تحرم استخدام المال العام فى 
دعم التعليم الدينى بأى وجه من الوجوهء حتى وإن كان ذلك فى المدارس التى ترعاها 
الطائفة المسيحية السائدة. وهذا هو ما نعنيه بتحريم دعم الدولة (لا الأفراد والجماعات) لأى 
دينء أو تمييز دين على آخرء وفق معايير غير موضوعية. 

الفقرة الأخيرة (الفقرة ©) من قرار التجمع حول الدين والسياسة كانت حول المرأةء 
وجاء فيها: يلتزم التجمع الوطنى بصيانة كرامة السودانية ويؤكد على دورها فى الحركة 
الوطنية السودانية» ويعترف لها بكل الحقوق والواجبات المضمنة فى المواثيق والعهود 
الدولية بما لا يتعارض مع الأديان. والنقطة الأخيرة التى وضعت بين قوسى حصر لم تكن 
جزءاً من قرار نيروبى حول الدين والسياسة» وإنما أضيفت إلى القرار نتيجة لإصرار أحد 
ممثلى الحزب الوطنى الاتحادى (مبروك مبارك سليم)» والذى أصبح فيما بعد قائداً لفصيل 
جديد فى التجمع. وضع قضية المرأة فى إطار الحديث عن الدين والسياسة أمر ممعن فى 
الخطأ لسببين: الأول هو أنه جعل من قضية اجتماعية حقوقية وثقافية قضية دينية . والثانى 
هو أنه أوقع بناء من حيث لم نحتسب. فى براثن التزيد بالدين» واستغلال أحكامه لتأبيد 
الهيمنة الذكورية على النساء. كما أن صياغة النصء والتى غلبت عليها شعارات الماضى 
مثل الحديث عن دور المرأة فى الحركة الوطنية» جعلت المغزى الحقيقى لإنصاف المرأة 
يفلت عن الاهتمام. فنساء الريف لم يسهمن فى الحركة الوطنية بالمعنى الذى يومئ به 
النصء وكثر من نساء الحضر اللائى انحصرت جهودهن فى رعاية ذويهنء أو السكون إلى 
أزواجهنء أو الانكباب على مهنهنء لم يكن بذلك المعنى جزءاً من الحركة الوطنية؛ أى 


113 


الحركة الوطنية السياسية. ولريما انسربت هذه الفكرة من الخطاب السياسى اليسارى فى 
الستينيات؛ والذى كان دوماً يسعى إلى تسييس القضايا الاجتماعية. ولكن» عندما يتحدث 
العالم اليوم عن حقوق المرأة» فإنما يتحدث عن حقوقها من حيث هى إنسان لا تنفصل 
قضاياه عن قضايا المجتمع» فكلاهما جزء من الواقع الاجتماعى. الذى يقول بغير هذا 
يخصم المرأة خصماً كاملاً من رصيد المجتمع. 

إن الخطاب الدينى الراهن» وليس بالضرورة خطاب الجبهة (إذ أن للترابى آراء متقدمة 
فى هذا الشأن)» خطاب لا يعبر عن الدين بقدرما يعبر عن رغائب الذكور الفحول فى 
إدامة هيمنتهم على النساء. وفى هذا لا يختلف هؤلاء عن القديس توماس الأكوينى الذى 
حسب المرأة مخلوقاً ساقطأ استناداً على غوايتها لآدم وإخراجه من الجنة. فالإسلام فى 
أصوله يساوى بين الرجل والمرأة فى المنشأ: «هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها 
زوجها ليسكن إليها4 (الأعراف 185/7) . لذلك فإن إذلال المرأة لا يرسخه الدين» ولا 
يدعو له» وما التلويح بالنص الدينى ضد كل من يدعو لتحرير هذه الكائنات المعذبة إلا 
محاولة زائفة للإيقاء على الدكتاتورية الجماعية المتأصلة فى نفوس الذكور. هذه 
الدكتاتورية الذكورية تجعل من الرجل - أى رجل _ سيداً على المرأة _ أى امرأة . فالحديث 
عن المرأة يتم دوماً بصورة مطلقة بحيث يصبح أى فلاح جلف من الباتان أعلى مكاناً من 
بنازير على بوتو» ويصبح أى فلاح فى صعيد مصر متسيداً ‏ بحكم رجولته ‏ على بنت 
الشاطئ أو سهير القلماوى. وبهذا الفهم؛ لم يكتف الذكور بأن يجعلوا من المنزل والمجتمع 
مؤسستين أيديولوجيتين تهدفان إلى تعبيد النساء؛ وتكيفان وعى المرأة بنفسها ووعيها 
بالمجتمع» بل ذهبوا إلى تحصين تلك المؤسسة بالدين. 

على أرض الواقع لم يكن للأحزاب الحاكمة» فى الشمال والجنوب» سياسة واضحة نحو 
المرأة» فنحن لا نذكر مثلاً حزبأ واحداً رشح سيدة للبرلمان بعد إقرار حق النساء فى الترشيح 
عقب أكتوبر (باستثناء ترشيح الشيوعيين لفاطمة أحمد إبراهيم. هذا الحال تبدل بصورة 
واضحة فى نظام مايوء كما تبدل بالنسبة لبعض الأحزاب (حزب الأمة» والجبهة الإسلامية) 
بعد أبريل ١986‏ . بيد أن الأخيرة مازالت تعانى تمزقاً داخلياً بين مسعاها لتأكيد المساواة بين 


1014 


الرجل والمرأة مظهرياً (اسديعاب النساء فى مراقى السلطة الوسيطة وفى البرلمان) » وبين 
نظريتها الوصائية للمرأة اعتماداً على النظرة الخاطئة لمفهوم القوامة. وحتى اللحظة التى دونا 
فيها هذا الفصل ما فتئ الإسلامويون يتجادلون حول التعليم المختلط فى الجامعاتء» وفى بلد 
كان سيتضور أهله جوعاً لولا أن النساء ظللن يعلمن جنباً إلى جنب مع الرجال فى الزراعة 
والحصاد فى ريف السودان. ولعل هؤلاء لا يدركون أن المرأة تمثل 65 / من القوى العاملة فى 
الريف منهن 47 # فى الزراعة المروية و7017 فى الزراعة الديمية» حسب تقرير من منظمة 
الفاو لعام ١197‏ . وقد قرأنا تعليقاً راشداً لأحد المعلقين جاء فيه أن "البيئة الجامعية معافاة 
وبألف خيرء وإن الجنوح الفردى لا يلغى القاعدة (""). سبحان الله» أناس لا تستهويهم فقط 
الحياة خارج إطار التاريخ المعاصرء بل يجهلون أو يتجاهلون واقع بلادهم؛ ويركضون ركضاً 
إلى تضييق دائرة المباح. نقول أن استيعاب النساء فى العمل العام لم يرد به إلا الرمزية» وذر 
الرماد فى العيون. فحسب المعايير التى حددتها الأمم المتحدة فى تقارير التنمية الإنسانية 
(ذعكناكهء11 اللعطرء لوصوو ,ع0م06)) » يقع السودان فى أسفل القائمة؛ كان ذلك على 
مستوى توظيف النساء فى مواقع المسئولية» أو التخديم بصفة عامة فى القطاع الحديث. فحين 
تبلغ نسبة النساء للرجال على التوالى من بين مجموع السكان ٠٠١ :٠١7‏ إلا ان تشغيل المراة 
لا يتجاوز 70 / فى سوق العمل. وحتى عام ١196‏ لم تتجاوز نسبة العاملات فى الحكومة 
المركزية ١‏ حسب تقرير التنمية الإنسانية لبرنامج الأمم ألمتحدة للتنمية »)١951(‏ فى حين 
أعفيت من الخدمة الدبلوماسية ٠١‏ سيدات بمجىء نظام الجبهة. أما فى الحكومة المحلية فلم 
تزد نسبه العامللات عن 55/ من القوى العاملة . 

الترتيبات الأمنية والعسكرية: 

آخر القضايا الحرجة التى تناولها التجمع الوطنى الديمقراطى هى النواحى العسكرية 
والأمنية فى الفترة الانتقالية» وهى قضية ذات أهمية خاصة بالنسبة للحركة» ليس فقط 
لأنها تضم جيشأً مؤهلاً مكتمل الإعدادء وإنما أيضاً للملابسات التى صحبت عملية انصهار 
الأنانيا فى الجيش عقب إتفاق أديس أبابا (راجع الفصل الخامس) . كما أن الاتفاق حول 
الترتيبات الأمنية والعسكرية ضرورى لضمان أمن النظام الانتقالى. فى هذا الشأن» اتفقت 


115 


الأحزاب على إنشاء لجنة سياسية وعسكرية عليا للاضطلاع بمهمة التنسيق والإشراف على 
القوات المختلفة التابعة للتجمع لتكثيف العمل المسلح ضد نظام الجبهة أولاًء وللإشراف على 
الجانب العسكرى من ترتيبات الفترة الانتقالية ثانياً. وحول الفترة الانتقالية» اتفقت الأحزاب 
على أنه» فور تولى التجمع السلطة» يشكل مجلس الدفاع الوطنى ومجلس للأمن الوطنى 
لحماية النظام الجديد من اى ثورة مضادة تقودها الجيهة:؛ او غيرها ولضمان السيطرة 
المدنية الكاملة على القوات النظامية. 

لآلا 

خلاصة 

هدفت مقررات أسمرا إلى التعامل الحاسم مع كل القضايا التى ظلت ععالقة منذ 
الاستقلال» ويناء سودان جديد على أنقاض السودان السياسى القديم. هذا هو أكثر ما كانت 
تخشاه الجبهة» ولهذا قالت: على لسان قياداتهاء أنها ستقاتل ضده حتى الموت. بيد أن 
القتال حتى الموت لا يمكن أن يكون استراتيجية سليمة لأى عسكرى يحسن تقدير المواقف. 
أوأى سياسى صاحب رسالة وطنية» يدرك أن عليه أن يعيش اليوم» ليعاود معركته فى 
الغد. ومن الواضح أن الترابى ومن لحق به سبقوا غيرهم إلى إدراك غباء تلك الاستراتيجية . 
لذلكء بدا لنا أننا أمام جبهتين إسلامويتين: جبهة ذات رسالة تريد أن تبقى عليها حتى وإن 
تخلت عن السلطان» وجبهة تستأثر بالسلطان ولا ترضى بديلاً عنه حتى وإن كان ثمن ذلك 
هو التضحية بالكيان الذى جاء بها إلى الحكمء وبالرايات التى رفعتها .وقد ألمحنا فى 
المقدمة» كما فى الفصل السابع» إلى كيف أن هواجس الانتقام» والحذر من أن يجازيهم 
الناس سوءاً بما فعلواء ظلت تسيطر على عقول الفئة الثانية وتحدد مواقفها من قضية السلام» 
أكثر من الحرص على الثوابت. ومن الغريب أن يثابر هذا البعض على باطله؛ فى الوقت 
الذى انهارت فيه كل حركات الإسلام السياسى السنىء وأقبل بعض أهله على بعض 
يتلاومون. وآخر دعواهم, كما فعلت الجماعة الإسلامية فى مصرء كان هو الاعتذار لشعب 
مصر عما ارتكبته فى حقه من جرائم. ولكن أقرب لواقع السودان» انسداد شرايين النظامء 


1016 


وتهتك عضلاته السياسية» حتى لم يبق له ما يعتمد عليه غير سنان البنادق. وسنان البنادق 
قد توصلك للحكمء وقد تعينك على بقر بطون الخصوم كما وقع فى مجزرة الضباط الثمانية 
وعشرين» ولكن ما أنفذ طعنها فى عجيزة من يجلس فوقها! 

جماع مقررات التجمع اتفاق تراضى عليه جميع أهل السودانء باستثناء الجبهة . وكان 
من الممكن أن يكون للجبهة موقع فى النظام السياسى الذى تمنى التجمع إنشاءه» لولا أنها 
أرادت الاستئثار بكل شىء وجحدت الآخرين حقهم. وعلى هؤلاء لا بد أن يفرض قتال: 


فالناس إن ظلموا المعروف واعتسفوا 
فالحرب أجدي علي الدنيا من السّلّم 

لهذاء إن بدت فى أطروحات التجمع نزعة استئصالية للتيار الإسلامى؛ فهذا أمر ينبغى 
أن يفهم كرد فعل على الاستنصالية البنيوية فى خطاب الجبهة السياسىء وعلى سياساتها 
المعلنة» وممارساتها التى شهد عليها أهل الأرضين. ويوم أن تخلى الجبهويون أو تظاهروا 
بالتخلىء عن ذلك الخطاب؛ كانت فصائل التجمع فى المقدمة ترحب بالسلام» ولكنها تقول 
السلام شىء» والاستسلام شىء آخر. ولكن داخل الجبهة كان هناك صراع بين من استبان 
نور الحقء وبين الذين ازدهاهم حكم الغلبة. وفى النهاية» بدا واضحاً للجبهة أنها ما لم تحسم 
أمرها مع غلاتها المتغلبين» فلا سبيل لسلام فى السودان» ولا مجال لاستقرار فى الحكم» 
وليس للسودان ندحة من أمر الوحدة . فالذى يريده السودان لكيما يبقى قوياً موحداً مستقراًء 
هو السلام العادل» والوحدة الطوعية» والتنمية المتواصلة. هذا لن يحققه الذين سعوا على 
مدى عشرة أعوام لطمس كل معالم الحياة فى السودان» وكان كطمس الغيم النجوم» فالغيوم 
تنقشع لا محالة. ولو كان لطامس أن يفلح فى محو مواريث الشعوب وحكمها المأثورة. 
الصالح منها والطالح لأفلح لينين فى ذلك. سبعون عامآً من البلشفة لم تقض على 
الأرثوذكسية والإسلام اللذين عادا إلى الحياة كما كانا عليه فى عهد القياصرةء وملوك 
سمرقند. عادت أيضاً لروسيا كل ما سعى جوزيف ستالين بطهرانيته المتعالية لدفته تحت 
البساط. وما أصدق ييفتشنكو الشاعر عندما قال أن ذلك الرجل لم يتعلم طيلة حكمه أنا أحفاد 
ديستوفسكى فينا الخير وفينا الفاجرء وفينا الطاهرة وفينا البغى. وهيهات لبيرياهات النظام 


17 


السودانى المتمسلم الادعاء بأنهم يملكون وحدهم الحق فى التعبير عن الإسلام فى السودان» 
بعد أن تآزر عليهم كل شيوخه بمن فيهم شيخهم الترابى. 

وفى الختام» فإن قرارات أسمرا ليست انجيلاً مقدسأء بل هى اتفاق سياسى تراضت عليه 
القوى السياسية. ونحسب أن الجبهة نفسها قد تأثرت كثيراً بتلك القرارات؛ ولكنها غمطت 
الناس أشياءهم. فقبولها للمواطنة أساسأ دستورياً للحقوق والواجبات تنازل عن مواقفها 
القديمة منذ أن كانت جبهة للميثاق الإسلامى. وإلغاؤها لأية إشارة لدين الدولة ردة عن 
موقفها فى عام ١114‏ . وقبولها مبدأ حق تقرير المصيرء مع كل ما لحق به من تأرجح. 
دليل على أن ليس فى السياسة ثوابت. واتفاق ماشاكوس الأخيرء توجه لتفكيك البناء 
بأسلوب آخر. كل هذا يدل على أن ليس فى السياسة ثوابت» إذ لا ثوابت غير القيم المطلقة» 
وثوابت المنطق (15صهاكمم» لهءذع10) . 

نعود إلى تساؤل أرجأنا الإجابة عليه: ما الضمان لأن تلتزم الأحزاب بما تواصت عليه مع 
الاخرين قى اسمرا. نجيب بالقول: المصلحة الذاتية الواعية ()دع,عاصا ؟أءة لعمعاداع ناده) . 
فمن ناحية الجنوب» اتفاق أسمراء كاتفاق ماشاكوس,ء ليسا كاتفاق أديس أبابا بين فريقين» 
أحدهما يستأثر يكل القوة» والآخر لا حول له ولا قوة. فالذى يسعى لنقض الاتفاق حول 
الجنوب (بما فى ذلك الحكم اللامركزىء والفصل الدستورى بين الدين والسياسة على المستوى 
الاتحادى)؛ يعرف جيداً أن انفصال الجنوب هو النتيجة. ومن ناحية الشمال فإن قضية 
التهميش الاقتصادى أخذت بعداً جديداً بعد أن حمل المهمشون السلاح» وفرضوا وجودهم على 
الخارطة السياسية. لم يعد صوتهم؛ كما كان بالأمس؛ صيحات فى واد هو البرلمان السودانى 
يطلقها محمد أحمد عواض (البجة)» وفيليب عباس غبوش (النوبة) » وأحمد إبراهيم دريج 
(دارفور) » وأخرس الله صوت الفونج يومذاك فقد كان نوابهم يستوردون من الخرطوم» قصبة 
السودان. هذا زمان مضىء أو كما يقول أهل الشمال: "فات وغناية مات. بالإضافة إلى أن 
التطورات التى لحقت بالعالم والإقليم» وتركيز العيون على السودان؛ وتبنى منظمات دولية 
حكومية وأهلية لقضايا ذوى المظالم من أهله لن تسمح بعد الآن بالمراوغات التى شهدتها 
دهاليز السياسة فى الماضى. 


1118 


هذا بالطبع لا يرد على سؤال آخر: ما الضمان لأن يتعلم "ديموقراطيو السودان من 
أخطاء الماضى؟ فالسودان لا يستطيع أن يبقى عقّداً آخر من الزمان رهيناً للديموقراطية 
الميلودرامية التى عاشها منذ الاستقلال فى ثلاث حقبات» ظل الناس يقولون بعد كل واحدة 
منها: ما سيكون ليس أفضل مما هو كائن. لهذاء لن نقترب فى الرد على السؤال بالأسلوب 
الذى طغى على عقول فنتازيى أكتوبرء الذين ظلوا بعد أربعة عقود من الزمان حبساء لحظة 
وجودهم الأولى: أكتوبر 1575ء أو انطلاقاً من مفاهيم دعاة إصلاح الأحزاب من الداخل 
(دمقرطة الأحزاب نفسها حتى تكون أكثر تأهيلاً لحماية الديموقراطية) . فالمرغوب فيه 
حقأء هو توطين الديموقراطية» لا استعادتها بكل أرزائها. ولا سبيل لتوطين الديموقراطية 
دون وعى تأريخى بالمشكل السودانى بكل أبعاده. هذا الوعى (الجانب الرؤيوى)؛ قبل 
دمقرطة المؤسسات وإشاعة الحريات العامة (الجانب التنظيمى)؛ هو الذى ينيغى أن يعطى 
الأولوية . فطوال تاريخ الحياة السياسية بعد الاستقلال لم تكن للأحزاب رؤية محددة فى 
القضايا السياسية والاجتماعية للشمالء ناهيك عن قضايا الجنوب والمناطق المهمشة. 
وبافتقاد الرؤية» لم يكن لها خطط عمل أصلية» بل ظلت تقفو أثر نهج التنمية الموروث من 
العهد الاستعمارى بكل انحيازاته وقصوره . وحتى الذين كانت لهم توجهات محددة حول 
هذه القضايا (الأحزاب الأيديولوجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار)» ارتهنوا قضايا 
البلاد لمنظورهم الأيديولوجىء بدلاً من تطويع الأيديولوجية للواقع. ومن المفارق أن 
الأنظمة الحاكمة الوحيدة التى سعت لوضع خطط تنموية أصلية هى الأنظمة العسكرية 
(نميرىء البشير)» ولكنها هى الأخرىء وقعت فى إسار أيديولوجيات فطيرة مصطنعة مثل 
الطفرة الإنمائية ورعاية مصالح "أصحاب المصلحة الحقيقية فى عهد نميرى الثانى» أو 
أسطورة التنمية غير الرأسمالية فى عهده الأول؛ ثم المشروع الحضارى فى عهد البشير. فى 
كل هذه الحالات أدمت تلك الأنظمة أنفهاء وكلفت البلاد غالياً. نعم لا ديموقراطية دون 
إشاعة الحريات؛ ونعم تعسر استدامة الديمقراطية إن كانت حاضنته الاجتماعية (الأحزاب) 
غير ديموقراطية» فكما يقول المثل المنهوك» فاقد الشىء لا يعطيه. ولن تفيد الأحزاب نفسها 
كثيراً أن استمرت فى ابتناء وجودها على تأريخ قديم ورمزيات موروثة» ولن تبقى ما لم 


1119 


تطور المهارات السياسية داخلهاء ولن تنموما دامت منقطعة الصلة بثقافة العالم السياسية: 
وستنطفئ بانطفاء الديموقراطية فى داخلها. هذه ليست دعوة للقفز على الواقع» أو حتى 
الظن بإمكانية تجاوزه» وإنما هى دعوة أولاً للقيادات لأن تدرك بأن مستقبلها رهين بقدرتها 
على مواكبة التحول الاجتماعى داخل السودان» والتحولات الكبرى فى العالم من حولها. 
كما هى دعوة للذين ينشدون التغيير بأن التحول الديموقراطى داخل الأحزاب لا يمكن أن 
يكون حدثا ()8ع/©) ء بل هو عملية تراكمية (55ع06:م 121012]176لا©) مستمرة . 

مع هذا يبقى سؤال» (وهو سؤال يوجه أول ما يوجه للذين يدعون للديموقراطية بمعناها 
الإجرائى» داخل أحزابهم): ما هى رؤياهم (15100) للمشكل السودانى وأوجه حله؟ ما هو 
مدى إدراكهم لجغرافيا الجوع» ومورفولوجيا التهميشء وطبيعة الظلامات التاريخية؟ ما 
هىء فى نظرهمء البؤرة التى تلتقى عندها هويات السودان المتعددة لكيما تصبح هوية 
سودانية جامعة؟ ما هو سبيلهم لتوطين الديموقراطية فى مجتمع وصائى سلطوى يمارس 
فيه شيخ القبيلة السلطة المطلقة على أفرادهاء كما يمارسها راعى الطائفة على مريديه. 
والرجل على المرأة» والزوج على الزوجةء والأخ على الأخت حتى وإن كانت أكبر منه سنأ 
وأكثر تأهيلاً؟ ماهى نظرتهم لدور السودان فى إطار التحالفات؛ بل الوحدة القارية» وكيف 
يمكن له أن يلعب الدور الذى يؤهله له وضعه المفصلى فى أفريقياء إن ظل عاجزاً حتى 
الآن عن تحديد هويته؟ هذه القضايا لا تعالجها المواثيق التى يحتشد رجل واحد لصياغتها 
كلما أطلت أزمة برأسهاء ولا شعارات كتلك التى أعقبت انتفاضة أبريل مثل "لن يحكمنا 
البنك الدولى» فالسؤال حقاً ليس هو هل يحكمنا أو لا يحكمنا البنك الدولى» وإنما هو كيف 
نريد أن نحكم أنفسناء وما هى مقومات ذلك الحكم؟ وما هى الإمكانات المتوفرة لنا لكيما 
نطور بلادنا؟ كما لا يعالجها ما تذهب الأحزاب التقليدية» كلما حلت نازلةء من حياكة 
لبرامج ما أنزل الله بها من سلطانء فقد شهدناء مثلاًء كيف أصبح كل حزب من الأحزاب. 
على اختلاف مكوناتها الطبقية وقواعدها الاجتماعية؛ اشتراكياً فى عهد الناصرية؛ وداعية 
لدعم منظمات المجتمع المدنى فى عهد الليبرالية الجديدة. كما لا تعالجها البرامج الشعاراتية 
التى يخرج بها المثقفون أهل الكهف متى ما هدأت الأعاصيرء وزال البلاء» وانقشع الكرب. 


160 


وصدح محمد وردى بحرية وطلاقة: أصبح الصبح. تلك الشعاراتية لا ترتقى إلى ما هو 
أكثر من الاستمناء اللفظى. هؤلاء تراهم حتى اليوم» كلما أعياهم "طعن الفيل» وأحبطوا من 
عجز الآخرين القادرين على طعنه؛ اختلقوا لهم تنظيمات وتحالفات ومواثيق لا تؤذى الفيل 
فى شىء» وإنما ترضى غرورهم الفكرى.هذا النوع من المثقفين يجعل المرء يدرك المغزى 
الحقيقى لقالة الدكتاتور الغشيم بينيتو موسولينى. قال الدوتشى: «كلما سمعت كلمة مثقف 
امتدت يدى إلى غدارتي . 

قضايا السودان ليست قضايا سطحية تعالج بالتذاكى أو التشاطرء بل تضرب تلك القضايا 
بأعماقها فى التاريخ. لهذا لا تعين القراءة الميتا تاريخية للواقع على إدراك كنههء دعك عن 
القدرة على معالجته . كما أن ضيق الأفق التاريخى يحجب عن الرؤية تماما بانوراما الأزمة 
بوجوها المتعددة . ويظلم المتشاطرون أنفسهم كثيراً إن ظنوا بأن المنهج القديم بكل ما فيه 
من الخوااك : وحلفة وو غوة باطلة» وشعارات عندما يصبح الصبحء» يمكن أن يوفر حلا 
لمشكل بلغ حده الأقصى من التعقيد. ومن الغريب أن أغلب هؤلاء المثقفين ينتمون إلى 
مدرسة اتخذت شعاراً لها: خيارنا بين أن نكون؛ وأن لا نكون» وبصرف النظر عن من 
نحنء وماذا كناء وكيف سوف لن نكونء فإن اقمن التاس بالاقبال الجاد على حل المشكل هم 
أصحاب هذه النظرة الهولية للأزمة. أما إن كان الحل المطروح للأزمة من جانب هؤلاء هو 
أن نكون كما كنا (والمطر يصب علينا) » فلا شك فى أن الدعاة لذلك الحل لا يعيشون فقط 
فى عالم آخرء وإنما أيضاً يعانون من نقص حاد فى البروتين الفكرى. وليس من مصلحة 
بلد مأزوم» أن يتصدى لعلاجه أصحاب العقول المأزومة . 


لالالا 


1021 


هوامش وإحالات 





)١(‏ وقع على الميثاق فى "١‏ أكتوبر 1584١ء‏ أحد عشر حزباً» وواحد وثلاثون نقابة مهنية» إلى 
جانب واحد وخمسين نقابة عمالية. 

(2) ععصآ طماد8 مدنااة/لا عميد كاتدرائية سان بول واستاذ اللاهوت فى كامبردج فى القرن 
التاسع عشرء عرف بسخريته بالحياة ولهذا لقب ب العميد الكئيب (مدعل (:200). 

(3) إحالة :٠٠١‏ القصل السابع (أ) 

(4) على مزروعى .253 2 .اك .مه ,معكعهل] ,كاطعنظ مفسصسل؟ أه ممتندلمنه لمعتطممدومائوط 

(5) أبو القاسم حاج حمدء الحياة, ©١6/19991/ط‏ 

(6) عبدالله على إبراهيم» الحياة 7١‏ سبتمبر/ أيلول ٠٠١7‏ 

(7) فيما يبدو» كان لمصر رأى فى دور مبارك المهدى فى إذكاء الخلاف بينها وبين السودان 
بحكم قرياه بالنظام الليبى» وبحكم العداء المستحكم بين مصر وليبيا منذ اتفاق كامب ديفيد. ولم يكن 
الجليدء حتى نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات» قد ذاب بين البلدين. 

(8) أنشأ القيادة الشرعية للقوات المسلحة القائد العام السابق للجيشء الفريق الراحل فتحى أحمد 
علىء ورقفيقا السلاح الفريق عبد الرحمن سعيدء والعميد الهادى بشرى عقب خروجهم من السودان. 
أعلنت المجموعة إنشاء تنظيمها قى لندن (77 سبتمبر / أيلول »)١99٠‏ وقررت انخراطه فى التجمع 
الوطنى وتضامنها معه فى النضال ضد النظام الحاكم من أجل استعادة الديموقراطية . وقد خرج 
الهادى من القيادة فى أغسطس ١5115‏ احتجاجأء حسب زعمه؛ لتبنى التجمع لمبدأ حق تقرير 
المصير للجنوب» وهو زعم لا تؤكده الأحداث السابقة واللاحقة»ء إذ أن لقاء تم بين الهادى ورئيس 
أمن النظامء نافع على نافع فى روما فى مارس ١11١‏ للتشاور حول عودة الضابط المعارض 
للسودان» أى قبل قرار التجمع حول تقرير المصير. 

(9) تكون التحالف من القيادات العسكرية التى انشقت على القيادة الشرعية (عبد العزيز خالد 
وعصام ميرغنى)» وجمهرة من المثقفين المعارضين للنظام» وكان أغلب هؤلاء من المنتمين لحزب 
المؤتن: 7 : 8 

(10) الدكتور بيتر نيوت كوك والأستاذ طه إبراهيم» اجتماع التجمع فى أديس أبابا )١1151(‏ . 

)١‏ وقع الاتفاق نيابة عن حزب الأمة الأمين العام للحزب» عمر نور الدايم؛ وممثل الحزب 
بالخارج» مبارك المهدى. 


112 


(12) وقع على الاتفاقية فى القاهرة (؟١‏ يوليوء )١1154‏ الدكتور أحمد السيد حمد نيابة عن 
الحزب الاتحادى» ويوسف كوه نيابة عن الحركة بوصفه رئيساً لمؤتمرها العام» 

(13) الاتحاد؛ أبوظبىء " إبريل .7٠٠١‏ 

ععوعءط ع10 ع82016 هة اأعدع.! لسصة سلده/1ا 14 ) 
-661181 ا لنة مهلا لاقطذ .8 .0 .15 (13) 

(16) أسس دستور السودان» أم درمان ديسمبر .١56©‏ 

(17) بيان اللجنة التنفيذية للجبهة المعادية للاستعمارء سبتمير ١565‏ . 

(18) وقع الأختيار على تعبير كيانات (0001165©)تفاديآً لاستخدام كلمة أقاليم لأنها تعيد إلى 
ذاكرة الجنوبيين تجرية الحكم الإقليمى فى عهد نميرىء كما تحامى المؤتمر من تسمية الكيانات 
"ولايات» لما لحق بالمفهوم من تشويه فى ظل نظام الجيهة. وعند صياغة دستور االفترة الانتقالية» 
شاع بين أعضاء التجمع تعبير جديد: المقاطعات (162310:65)وهو تعبير جغراقى محايد لا تصحيه 
تداعيات سياسية» بل هو التعبير الذى تعرف به مكونات الدولة الاتحادية فى استراليا. 
عطا صا لنة70001ع0آ1 لهقة تسكتلدعساط :170020102تزامءععة أه كعتأنتاه5 عط بتتقطمزنا (19) 

.8 ,الإعلءءع8) دوع دتهرهاتلدن) 0 لازو نازولا .دلمواءعطاعلر 

(20)مبادئ وموجهات لتجديد البرنامج» دار عزة للدنشر ٠٠١١‏ 

(21) أجيز القرار بأغلبية 45 صوتا ولم تعترض عليه دولة؛ فى حين امتنعت عن التصويت عشر 
دول هى الدول صاحبة المستعمرات إلى جانب جنوب أفريقيا. 

.1960 لإمقنعطعءط ,01.7/ا عاء أممعدكت برلطندمهك84 اانا (22) 

(23) خطاب ويلسون لاجتماع مشترك بالكونقرسء ١١‏ فبراير» .1١5174‏ 

10 الع ل املو عاععصمدك ,ععل0 للعوئ/ملا بجعل1 وز ومتامستدصمعاءجا-كاعذ :ممعم ادةز (24) 
18-9 طط ,1992 ,لماع متطكد/لا ,ععدءط أههه لم معاما 
7 22 عنانمو مقاط أجمسوععء2 ه ,5م210 تأمعع21 ععوء2 ع1 عناكدقآ (25) 
7 (1988) تاقرآ [1210112كع)ض1 01 أقهنان1 تمدع ارعتررة (26) 
(27) المصدر 74 أعلاه . 
(28) نفس المصدرء ص ص 750-7١١‏ . 


06 .لكأ نمه تان ا نم20 لله له أودعع56 ,0 أادعنا0) أهو0نخدل! ع1 .دنه لدوم (29) 


|]3 


(30) قاد الكاثوليكيون: بدعم من الباباء ثورة ضضارية ضد هنرى الثامن بعد أمره بحل كل 
صوامع النساك (20235)6,65) فى لنكولنشاير فى عام ١517‏ . تلك الثورةء لم يكبح جماحها إلا دهاء 
دوق نور فولك . ويطلق على تلك الحملة أسم (أدء/ة 08د:مره0) عطا ,ه) ععهمن 04 عومسم فنع انطء10) 

(31) منذ أن خرجت اليصابات عن الكاثوليكية تعرضت خلال حكمها لعدد من المحاولات 
لاغتيالهاء واحدة منها قام بها طبيبها الخاص الذى دسه البابا فى حاشيتها. 

(32) عبد اللطيف البونى» الرأى العام, ١؟:/1/؟ 7٠١‏ . 


لالالا 


1114 


وفج الخحتام 





 الالتو رجل القدريعلم أن وراء التل تلالا‎ ٠ 
فرحلة الحياة لا تنتهى»‎ 


ف. دبليو ديكليرك١(1١)‏ 


موضوع الكتاب هو الحرب والسلام فى السودان» وأثركل منهما على أزمات القطر 
المتشابكة. وقبيل فراغنا من إتمام هذا الكتاب طرأ ما لم يكن فى الحسبان؛ توقيع اتفاق 
بروتكول ماشاكوس الإطارى بين نظام الجبهة والحركة الشعبية لتحرير السودان. تلك واحدة 
من سخريات الأقدارء فطرفا الاتفاق هما آخر من يتوقع المرء منهما وفاقاً على حل سلمى 
شامل للأزمة السودانية لسبب التباين الجذرى فى موقفيهما من مجمل قضايا الحرب 
والسلام. بسبب من هذا فرح الجنوبيون وأغلب أهل النظام الحاكم بالاتفاق فرحا كبيراً» فى 
حين توجس خيفة منه دعاة السودانوية الجديدة فى الحركة» وكثير من معارصى النظام فى 
الشمال. ومهما كان من دوافع التوجسء لا يملك ذو ضمير يقظ أن يلعن سلاماً ينهى أطول 
حرب أهلية فى العالم المعاصر. على أنا يجب أن نذكر دائمآ أن إنهاء الحرب الساخنة 
لايضمن سلامآً دائماء لأن السلام الدائم رهين بالعدل الشاملء والعدل الشاملء بدوره» 
رهين بالمساواة الكاملة» والتخلى عن أيديولوجيات الهيمنة السياسية والاستعلاء العرقى» 
والكف إلى الأبد عن ثقافة العنف. تلك هى العاهات التى وسمت السياسة السودانية» وظلت 
تكيف السياسة العامة فى سودان ما بعد الاستقلال حتى كادت أن تنزلق به إلى مستنقع 
التاريخ. : 

عوضاً عن الوعى بالكارثة التى أطبقت عليناء ظللنا على مدى نصف قرن من الزمان 
نغفو فى العشية» ونفيق فى الصباح ونحن واثقون مطمئنون بأن ليس فى الإمكان أبدع مما 
كان» بل نحن خير أهل الأرض طراً: أشجع الناسء وأكرم الناس؛ وكل واحد منا خال 
فاطمة» أسلمه الله لنا. لهذا لا عجب إن ساد بيننا ظنء إن لم يكن يقينء بأن الذى يصيب 


125 


الأمم من عاهات بسبب استرخائها للأوهام» لا يصيبناء وأن الذى يحيق بالشعوب من 
مكاره نتيجة لغلوائها أو ذهولها عن حقائق العالم من حولهاء لن يحيط بنا . ليس لنا على 
الحق سبيل إن لم نفق من هذه الغشية؛ فمثل كل شعوب الأرض فينا البر والفاجرء وفينا 
الأخيار كما فينا من لايكف عن غشيان المآثم» وفينا الفضلاء إلى جانب كثر لا يستجيدون 
إلا ركوب الشرور. فوق كل ذلك فينا الأذكياء من أهل السياسةء كما بين ظهرانينا منهم 
أخلاط أخسف الله شمس عقولهم. ولو كان أولنك سلعاً تباع لتوجب قانوناً إلصاق بطاقات 
فى وجوه بعض منهم تقول : انتهت مدة صلاحية هذه السلعة: وفى وجوه بعض أآخر: هذه 
السلعة لا تصلح للاستعمال البشرى. ولعل نظرتنا الرومانسية الضحلة لذاتنا وصفاتناء بل 
ربما تداخل قيم البداوة (التكاتف العشائرىء الندى» طيب الأعراق) فى منظومتنا القيمية 
مع قيم المجتمع الحديث المعقلن (الموضوعية فى الأحكامء تجريد الأشياءء الكفاءة الذاتية) 
سرقت منا القدرة على التمعن فى النفس ونقد الذات. ولو تقصينا قليلاً مسار السودان 
السياسى خلال نصف القرن المنصرمء لما عسر علينا إدراك مواقع الخلل. بطاء الإدراك 
وحدهم هم الذين لا يستبينون كيف كنا خلال كل هذه الفترة نعدو واقفين. فى هذه الفترة 
الزمنية لم يكن عدم الاستقرار حدثاً طارئاًء بل تاريخاً معاد مكروراً حتى ولج السودان قرنآ 
جديداً وهو مرهق بحمل ثقيل من المشاكل أورثتها له أنظمة الحكم المتعاقبةء والنخب 
السياسية التى والتها. وكما أوضحنا عبر الكتاب, لم يقو ويشتد قلب واحد من تلك الأنظمة 
وهذه النخب على الاعتراف بمسئوليتها عن دور سياساتها والأفكار التى انبنت عليها تلك 
السياسات فى تعميق أزتمات السودان. 

غير خزايا ولا ندامى» ظل الذين أنجبوا هذه السياسات الخائبة» كما تلبث ورثتهم 
التابعون» يباهون بإنجازات متهم خبرها. بل» حسب بعضهم رغم كل الخيبات أنهم 
أصحاب حق موروث فى التسيد على عباد الله إلى أبد الآبدين. ليته كان لهؤلاء جديد 
يلهب الخيال؛ فما جديدهم إلا السياسات القديمة الخاسرة معبأة فى قنانى جديدة . هذه 
الخيبات المتوالية» وفقدان الزكانة على استبصار أثرها على مسار السودان السياسى؛ دفع 
أكثر الناس حماساً للسودان من غير أهله إلى نفض أيديهم عنه نفض الأصابع عن تراب 


16 


الميت. من بين أولئك رجال توسموا فى السودان غداة استقلاله نموذجاً تحتذيه القارة 
الأفريقية» إلا أن الوضع المأساوى الذيال إليه فى نهايات القرن الماضى جعلهم يقولون أن 
السودان تجاوز مستقبله» إذ جاء مستقبله وولى (082ع 200 0102© 835 عاناأناة 105) منهم 
001010110110118ظ2ظظ ثقته بأهلهاء إلا أن تجاربنا الرواغة منذ 
الاستقلال لم تبق لهؤلاء ما يقولون غير: "السودان بلد المستقبل» وهكذا سيظل إلى الأبد 
(عط كلإة ناه القطذ 116 200 ,عتنالة عط 1ه تصن عط ؤز مملن5) هذا الرا أى أفضى به 
إلينا خبير التنمية الدولى بول مارك هنرىء والذى وردت الإشارة إلى دوره الفاعل فى 
إعادة تعمير الجنوب فى الفصل الخامس. فما الذى يملك الرجل أن يقول فى بلد ما ظن 
المتفائلون من أهله وصحابه أن الطريق قد عدلت به؛ حتى مالت مرة أخرى فى روغانها 
المعهود. ومنهم أخيراً من حسب السودان فى عداد الموتى وترنم على روحه بالتراتيل 
الجنائزية!'). هذه أحكام تفرى الكبد ولكن لا حيلة لمن ابتلاهم الله مثلنا بعدم اليأس من 
الوطنء إلا المواظبة على نحت الصخر بأسنة الأقلام. 

عبر فصول هذا الكتاب احتفلنا بموضوعات عديدة للوصول إلى عرق المشكل السودانى» 
منها ما طال التاريخ» ومنها ما تعلق بالعرق والدين. أشرنا أيضاً فى أكثر من موقع إلى 
استمراء بعض المعلقين الأجانب اختزال ذلك المشكل فى جانب واحد هو الجانب العرقى 
(العرب ضد غير العرب)» والدينى (المسلم ضد غير المسلم) . هذا تبسيط يكشف إما عن 
عجز أولئك المعلقين عن الغوص إلى أعماق المشكلء أو عن رغبة منهم؛ لأمر فى نفوسهم. 
فى أن يكون هذا هو الحال. وطبعى أن لا يقلل المحلل الأمين من أهمية هذه العوامل. 
خاصة وقد أومأنا إلى الكثير الذى يبين الدور الهام الذى لعبته الفروقات العرقية والدينية فى 
تعميق الأزمة. إلا أن هذه العوامل بمفردهاء لا تعين على تفسير ألاغيز السياسة السودانية. 
هذه الألاغيز زادتها تعمية خيوط معقدة (ثقافية ودينية وسياسية واقتصادية) نسجناها 
بأيدينا. ولهذاء أعمت الألاغيز بصيرة أغلب أهل الشمال» وجموع لا يستهان بها من نخبة 
الجنوب» عن استشفاف العناصر التى تجعل من القاطنين فى الفضاء الجغرافى الذى نسميه 
دولة السودان أمة واحدة. ورغم أن الهوية ليست معادلة يتم الوصول إليها بالتحليل 


17 


العقلانى: بل هى فى المقام الأول إحساس. إلا أن ذلك الإحساس ‏ خاصة فى الشمال ‏ قد 
شابته وهوم حول الذات»ء إن هى إلا أساطير الأولين» كما سعينا لأن نبين فى الفصل الثامن. 
وقلما ذهب المؤرخون الاجتماعيون إلى حفر ما خلقته تلك الأساطير من ترسبات عميقة 
تحت سطح المجتمع الشمالى كى ينفذوا إلى غورها. هذا هو واجب المثقف الشمالى الذى لا 
ينبغى أن تغيب عنه ‏ إن كان مثقفاً حقيقياً- خائنة الأعين وما فى الصدورء وفى قول جان 
بول سارتر المثقف مسئول عن أى خطأ من حوله» حتى ولم يكن ملماً به. لا يدهشنا أبداً أن 
لا يتجاوز عامة الناس سطح الأشياءء فعامة الناس أسارى لخرافات حرونة حول أصولهم 
وتميزهم عن الآخر توارثوها من قرونء كما توارثوا معها استعلاء جارحأ يقضم الروح كما 
تقضم العتة الملابس. هؤلاء يصدقون دوماً على أنفسهم أموراً لا يقبلها العقل الناقدء وهم فى 
هذا ليسوا نسيج وحدهمء ففى قول لبرتراند رسل: ليس هناك ما هو أدعى للحيرة من جهد 
الإنسان كل يوم لتصديق أشياء حول نفسه تستعصى على العقل. 

أخطر نتائج هذه الوهوم المصطنعة بروز متلازمتى (50701765لإ5) الاستعلاء الجامح 
من جانب أهل الشمال» والرفض غير الفطن لكل ما هو شمالى من قبل أهل الجنوب. هذه 
المشاعر الشوهاء عمق منها استشراء الكذب فى الحياة السياسية» إن أسأنا الظنء أو الجهل 
المركبء أى جهل من لا يعترف يجهلهء إن أحسناه . فما جاء نظام للحكم منذ الاستقلال إلا 
وأعلن على الناس احترامه للتنوع الثقافى فى بلادناء مع ذلك ظل أهل السودان لا يعرفون 
للثقافة السودانية إلا وجهاً واحداً ما برحت السياسات التعليمية» والثقافية» والإعلامية 
تكرسه. لم يدرك صناع هذه السياسات أن لاحترام التنوع ثمنا. هذا النوع من التكابر» 
يصفه السياسى والمفكر الفرنسى الدوق فرانسوا لارشفوكو(") بأم الأنانية. فمثل هذا التكاير» 
فى رأى الحكيم الفرنسىء يدفع المرء لانتحال فضائل هىء فى حقيقتهاء وهوم أنجبها 
الهوى. وما ألحق الإنسان بذلك الهوى نعتآ كريماً إلا ليبرر لنفسه فعل ما يريد ويختار بلا 
حساب أو عقابء وليس مثل الأنانية» كما قال» ما يعمق من الطمع. غير أن الإسراف فى 
الطماعية مرتع وخمء لا ينال المرء منه فى نهاية الأمر غير الغبن والخسران» وفى مثلنا 
النائز الطامع ودرتها جمع: 


1258 


فى العقدين الأخيرين من القرن الماضى أُقحم الدين إقحاماً أسطورياً فى الحياة السياسية 
السودانية لم تعرف البلاد له نظيرا إلا فى الحقبة المهدية» وأوذى منه السودانيون ‏ بمسلمهم 
وغير مسلمهم ‏ أذى بالغآء وما لإيذاء البشر تنزلت الأديان. فعندما يصبح الدين أداة للقهرء 
ووسيلة لابتزاز الخصومء وذريعة لتأثيم الرأى الآخرء يفتقد كل معانيه السامية. وعندما 
يكون هذا الدين هو الإسلام تصبح المصيبة دهياءء لأن الإسلام دين يسر ولا يكلف الله 
نفساً إلا ما آتاهاء سيجعل الله بعد عسر يسرأ4 (الطلاق 7/76) . والإسلام دين رحمة حتى 
على الكافرين» محمد رسول الله والذين معه (أشداء على الكفار رحماء بينهم4 (الفتح 
.. والإسلام دين يأبى المشادة فى أمره»ء ففى الحديث: إن هذا الدين متين فأوغل 
فيه بيسر. ولكن منذ أن بدأ الهوس الدينى فى منتصف الستينيات من القرن الماضى لم 
يترفق المهوسون أو يتمهلوا فى إقبالهم على أمر الدين. جاء فى البدء زلزال دستور ١1748‏ 
الموصوف بالإسلامى وكان من توابعه إجهاض أحلام السلام التى بشرت بها حكومة 
أكتوبر. وتبعه مشروع نميرى الإسلاموى فى عام 1587 ليكمل وأد اتفاق أديس أبابا الذى 
توقف عدبره دوى المدافع فى جنوب السودان على مدى عشرة أعوام. أما من الناحية 
الفكرية فقد كان مشروع نميرى المنسوب للإسلام كالطعام التفه؛ لا يستذيقه لسانء ولا 
يطيق بلعه حلقوم. 1 

ومضت من بعد سنوات مدليهة دامت أريعاً .)١1184 ١944(‏ فى تلك السنوات 
أضحت قضية السودان الأولى والأخيرة هى تطبيق الشريعة؛ فلا السلامء ولا الاقتصادء ولا 
الصحة والتعليم كانت أموراً ذات بال عند صناع القرار السياسى. وتبع تلك الغلواء ابتزاز 
استكان له سادات الشمالء وبذلك الابتزاز لم تختطف الجبهة القومية المسماة بالإسلامية 
الكرة من اللاعبينء بل انتقلت بهم جميعاً إلى ملعبها وحددت أحكام اللعبة فى السياسةء كما 
فرضت فى الفكر بارومتر المقايسة. ثم من بعد سطت الجبهة على الحكم فى رائعة النهار 
واقتلعته من يد حكم ضعيف مهين لتقيم للناس جنة الله فى الأرضء أو كما زعمتء لترد 
إليهم فردوسهم المفقود. ماذا كانت النتيجة؟ خرجت الجبهة على مسلمى السودان بإسلام 
غريب لم يألفوه» وصحب إسلامها الغريب ذلك ممارسات نفرت الناس عن دينهم. وحق 


1029 


لمسلمى السودان استبداع ذلك الدين الغريب والمنفر (2098مء!21!1 لهة هئ ذأة)» فأى دين 
ذلك الذى لا يقوم له بنيان إلا على الطغوان والارتمال فى الدماء. بيد أن الذين يعرفون 
الجبهة لم يستبدعوا تلك الدموية من قوم شبوا ودرجوا على العنف؛ بدأوه فى شرخ شبابهم 
بسلق ظهور خصومهم الفكريين فى الجامعات بالأسياخ» وختموه ببقر بطون رفاقهم فى 
السلاح بأسنة رماح البنادق. 

وبغض النظر عن الأيديولوجية الدينية لهذه الجماعة؛ لا تعرف مثل هذه الأنظمة فى 
العالم المتحضر إلا باسم واحد: الأنظمة الفاشية. الذى نتحدث عنه ليس هو التوجه الشمولى 
للنظام» ولا استكثاره بالحكم وهيمنته المطلقة على جميع أوجه الحياة فى المجتمع» وإنما هو 
تبنيه المنحرف للعنف منهجاً فى الحكم . وإن كان نعتنا للنظام بالفاشية يكدر بال أهله 
وضنحايه فما غلى ذوى النقوس اهدر إلا العودة إلى سجل إدانات منظمات حقوق الإنسان 
لممارساتهم؛ وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة تلك الممارسات. من تلك 
الإدانات أوردنا فى هذا الكتاب غيضاً من فيض . فى ذات الوقت» ومع كل تلك الممارسات 
المرذولة» ثابر النظام وشيوخه على الحديث عن سماحة الإسلام؛ وديموقراطية الإسلام. 
وإنسانية الإسلام. تلك كلها كلمات حق لم يرد منها إلا الباطل» فمختصمو النظام فى داخل: 
السودان وخارجه لم يتسوروا المحراب ليحاكموا الدين» وإنما صعدوا على سقوف البيوت 
لينازلوا نظاماً تلفع الإسلام رداء حول تجاربه وممارساته وأفكاره وجرائره . إن الأديان 
جميعها تحض البشر على فضائل على رأسها السماحة والنبل والاعتدال. ودين أو لا دين» 
فإن الثايت من قواعد السلوك الحسن فى أى مجتمع إنسانى معافى يحث الناس على ما 
يزين» وينهاهم عما يشين. لهذاء لا يجدر بمن يتعرى عن هذه الفضائل أن ينسب نفسه 
للدين- أى دين وإلا أزرى بذلك الدين. ولربماء بسبب من هذاء لا نظلم النظام الجبهوى 
الفاشى المتأسلم مطلقاً إن قلنا أنه نظام يفتقد أية مشروعية دينية أو أخلاقية. أما من الناحية 
الفكرية» فقد سقط النظام فى امتحان حدد بنفسه معايير النجاح فيه. جاء» فيما زعم» ليخلق 
فى بلادنا وعياً بذاتية إسلامية» إلا أنه لم ينجب إلا وعياً متمسلماً زائفاً انحصرة فى الرموز 
كما أبنا فى الفصل السابع . انفلت أهل النظام أيضاًء بإرادتهم (أو هكذا تظاهروا) من 


10 


الحضارة المعاصرة للانزواء فى ماضى نقى لا يعيش إلا فى أخيلتهم. نقول تظاهروا لأن 
الحضارة المعاصرة فى جانبها الاستهلاكىء بقيت» وما فتئت تقتحم حيواتهم حتى داخل 
مخادعهم. كان أحرى بهم قراءة معطيات الواقع قراءة موضوعية: ثم العود إلى كليات 
الإسلام ومقاصده لقراءة الإسلام قراءة جديدة تتوافق مع ما استقر عليه الوعى الإنسانى 
فى المعاملات حتى تصبح أحكامهم أكثر قربى بهذا الزمان. لو فعلوا لأسهموا إسهامآ 
مشكوراً فى التراكم الفقهى الإسلامى؛ ولكن بدلاً عن ذلك خنعوا لأقوال الفقهاء القدامى 
دون تعريضها لأى امتحان عقلى؛ وحتى تلك تجاوزوها عندما كانت لهم مصلحة فى 
التجاوز. فما الذى يملك هؤلاء لكيما يتكثروا به على غيرهم من المسلمين من بعد أن ضعفوا 
عن التزين بدين القيمة فى الاستواء والاعتدال» وعجزواء فكرياًء عن الاستفاقة من الركون 
إلى الفقه المتكلس. 

إن كان لذلك النظام من حسنة واحدة» فهى أن فترة حكمه كانت فترة امتحان لعزائم 
الرجال. من هؤلاء من عاهد ربه وشعبه على الموت واقفأ يدفع الأذنى عن أهله» ويحمى 
دينه من الإزراء به» ومن آثر الدتقية حذر التلفء إلا أنه ظل قابضأً فى صمت على 
جمرته. ذلك الامتحان كشف أيضاً عن طحالب بشرية» باعت ما هو خير بما هودون» 
وأى دون أكثر من الرمرمة التى أومأنا إليها في الفصل السابع . سنوات الجراد الاثنى عشر 
هذه أماطت اللثام؛ من جانب آخرء عن جماعة أمرها واحدء فيهم السياسى؛ وفيهم رجل 
الأعمال» وفيهم المتوغل على كليهما. من السياسيين من كانوا فى عهد الديموقراطية 
يركضون كالمهور فى دهاليز السلطة»ء ويتمايلون تفاخراً بمواريثهم الديموقراطية فى منابر 
البرلمان» وحين وئدت الديموقراطية خفى هؤلاء فلم يعرفواء وأخمدوا فلم يذكروا ولا بانوا. 
أشرف هؤلاء كانوا هم اللصوص أكالى السحت الذين ما جاء بهم إلى رحاب النظام إلا 
المشاركة فى ما خبث من المال» وكان النظام بهذا عليماً. ومن رجال الأعمال فئة ما تلقت 
معارضاً لنظام الجبهة الذى صار لهم فى كنفه اسم وجاه وثراء حتى أخذت تمطر ذلك 
النظام بكل أنواع الأسابيب. وكثيراً ما كنا نخطئ ونقول لهم: ما الذى يمكن أن تسهموا به 
فى دفع العمل المعارضء إن كان ذلك هو رأيكم فى النظام الذى أكنفكم؟ وكثيراً ما كان 


1031 


الرد هو قفل باب النقاش. ذلكء علم اللهء هو الرواغ والنفاق مجتمعان؛ فلا هم كانوا على 
وعى أن فى نقدهم الخفيت جحوداً لنظام مكنهم من الجاه والثروة» ولا هم ذهبوا بشكاواهم 
المزعومة صد النظام إلى نهاياتها المنطقية. وليتهم تعلموا شيئاً من الجبهة: استماتة أنصارها 
فى الجود بالنفس والمال والولد فى سبيل ما يؤمنون به. وحتى لا نزر وازرة وزر أخرى 
نقول أن قلة من هؤلاء عصم ربى فكانوا فى المقدمةء لا يردون طلباً لدعم العمل المعارض 
فى المجالات الإنسانية كغوث اللاجئين والنازحين داخل وخارج حدود الوطنء وفى 
التحرك الدبلوماسىء وفى العمل السياسى الداخلى. من حق هؤلاء الرجال أن يعرفوا يوم أن 
يذكر الرجال. إلى جانب هؤلاء أيضاً برزت رؤوس فى النفاق اتخذت عادة لها صرف 
الناس عن غاياتهم فى رد الحقوق ودرء الفساد فى الأرض. شاءوا لأنفسهم طواعية أن 
يكون لهم موقع عند البشيرء ومكان عند المعارضةء وطواف حول البيت فى المنشية» يوم 
أن كان حول البيت طواف وعاكفون . ولعل نيكيتا خورتشيف كان أدرى الناس بهذا اللون 
من البشرء ففى أول اجتماع له مع الرئيس كينيدى فى فييناء وهو الاجتماع الذى ألح كيندى 
على إنعقاده دون جدول أعمال محددء قال أمين عام الحزب الشيوعى للرئيس الأمريكى: 
أول ما يتوجب علينا فعله لتنقية الأجواء بين بلدينا هو تبادل أسماء العملاء المزدوجين» 
لأنهم أكثر الناس إضراراً بمصالح حكومتينا. 

مرة أخرى أن لنا أن نشب عن الطوقء ونطرح الهشاشة العاطفية فى التعامل مع 
عظميات الأمورء فالتجربة التى مر بها السودان خلال عقد من الزمان أو يزيد. تجربة 
قاسية مريرة هلكت فيها نفوس عزيزة» واستذل فيها رجال عظام» واضطرت فيها أسر وفتية 
وفتيات إلى النزوح إلى أقاصى العالم. من أولكك من أوطن بكندا والولايات المتحدة» ومنهم 
من حمل نفسه بلا متاع إلى استراليا ونيوزيلندا اللتين لم يكونوا يعرفونهما إلا فى أطالس 
الجغرافيا. هذه التجربةء بكل قسوتها ومرارتهاء ينبغى أن لا تفسح مجالاً فى الحيز العام 
لذوى العضلات المرتخية من السياسيين. وأصحاب الوجوه الأريعة من رجال الأعمال. هذه 
بالطبع ليست دعوة للاستئصال لأن ذلك يتعارض مع كل ما ندعو له فى هذا الكتابء هى 
فعنسب دعوة للأحزاف للعكو من أن تضع فى صدارتها المدغمسين الذين يتخلفون 


132 


ويتوارون عند الشدةء ولشد ما جنوا. كما هى دعوة للقيادات التى ينشرح صدرها دوماً لكل 
ذى مالء أن لا توسع المجال فى صفوفها الأمامية لرجال لا يستحقون أكثر من كلمتين: 
سعيكم مشكور. فإن كان الذهب هو الرب (011ع 15 000)فى عالم المال» ففى عالم السياسة 
ليس لكل مال قوة إبراء النقود. فمن المال ما خبثء ولنا عودة للأمر عند الحديث عن 
تمويل الأحزاب. ش 


بعد أعوام من الغلو والتجبر عادت الجبهة إلى صوابهاء كان ذلك بسبب استبصارها 
للطريق المسدود الذى انتهت إليه» أو بسبب ضغوط خارجية. ففى العشرين من يوليو”١٠٠‏ 
أقر نظام الجبهة بما كان ينكره» ويستنكره . اعترف فى بروتوكول ماشاكوس بأن للحرب 
جذوراً عميقة:» وأن ظلماً فادحاً حاق ببعض أهل السودان ودفعهم لحمل السلاح» وأن 
الطريق الوحيد لوضع السلاح وإنهاء الحرب هو رد الظلامات وإزالة الغبن. ذلك اعتراف 
صارخ ببطلان كل ما كان تصف به الجبهة حرب السودان الأهلية. ولكن» رغم كل هذا 
الوضوح فى تشخيص أسباب الحربء وإيانة دواعيهاء كان لنظام الجبهة رأى آخر بعد 
استرداد الحركة لتوريت. زاغ النظام عن اعترافه بأصل الحربء وأخذ من جديد يدق طبول 
الجهاد ضد الكافرينء ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. لهذا الزيوغ عن الطريق دلالتان» 
الأولى هى الكشف عن إمعان النظام فى الميل عن الحق متى ما كانت له مصلحة فى 
ذلكء والثانية هى استعداده للعبث باسم الدين والاستهانة بعقول البشر. فباسم الدين حول 
الحرب إلى جهادء ثم عادء رغم فتاوى إمام الجهادء ليرد الحرب إلى أصلها الدنيوى. وياسم 
الدين أصبحت الحرب فى توريت؛ من جديدء جهاداً ضد الكفرة والمشركين. وفى الحالات 
الثلاث لم يترج الحاكمون من رعاياهم غير السمع والطاعة . كان الأخلد بالنظام» بعد وعيه 
المتأخر بأسباب الحرب واعترافه بهاء أن يقر لأهل السودان فى الشمال والجنوب بمسكوليته 
عما لحق بالسودان من دمار لاقتصادهء وإذلال لأهلهء بسبب الحرب الجهادية. لو حدث هذا 
لأصبحت ماشاكوس ريح تغيير (ء208طء 4ه 120)» لا تغييراً فى اتجاه الرياح ءعمدطاه) 
(1005/ عط 04» أى انعطافاً فى اتجاهها. ولكن ما حيلتنا مع العزة بالإثم. نظام الجبهة, لا 
يختلف فى هذا عن الأنظمة التى سبقته؛ فجميعها أوهم نقسه أن التاريخ وحده هو المسئول 


153 


عما أصاب الجنوب من جورء وما تحيفت أهل الظلامات من مصائب فى كل السودان. لهذا 
فالذى يحتاج اليه السودان» أكثر من الندم والاعتذار والعقاب» هو رصد الحقائق وتوثيقها 
بهدف تنقية التاريخ مما لحق به من تلويث» ثم تطهير النفس (02]0321:515) وفيما علمتنا 
الأديان» حتى الموتى يصبحون هدفاً وعرضة لذلك التطهير فى الأعراف ((56هعتنام) 
لتنقية نفوسهم من الدنسء #وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب 
الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون» (الأعراف 7/7) . ذلك مطمع من لا أمل 
له ولا رجاء فى الجنة من المتكبرين. وللكتاب فى هؤلاء قول «آخر فادخلوا أبواب جهنم 
خالدين فيها فلبنس مثوى المتكبرين» (النحل 5١/5؟)‏ . 

فى دنيانا المعاصرة تجربة جديرة بالاحتذاء هى تجربة لجنة الحقيقة والتصالح 4د:1) 
(5100ستصدره0) 112105 2م1166 200 فى جنوب أفريقيا. نحن حرا باقتفاء تلك التجرية 
التى كان الهدف الأساس منها هو تصالح أهل جنوب أفريقياء ببيضهم وسودهم؛ مع 
أنفسهم؛ وليس متابعة المخطئين من الجانبين. إلى ذلك الرأى ذهب المؤتمر الشعبى فى 
مذكرة التفاهم مع الحركة» كما نادى بذلك الصادق المهدى فى أكثر من مقام» وهذا أمر 
يشكر عليه» رغم تخليه عنه فى اتفاق جيبوتى تطميناً لنافع الأمن (الفصل التاسع) . قال 
ديزموند توتوء رئيس تلك اللجنة» أن الغرض من الكشف عن الحقائق هو إزالة الأحزان 
وإبراء الجروحء ووصف منهج اللجنة العدلى بالعدالة الترميمية (ع16)اذناز 11976نا]أ)2):25 لا 
العدالة العقابية (ع5)6ناز انا لدنام) هذا أهاق لا يتأباه إلا مق حلست أن له الكبرياء فى 
الأرض. فمن حق السودانيين أجمعين» وبخاصة الأجيال الجديدة» أن يلموا بحقائق غابت 
أو غيبت عدهم. تلك الأجيال ما كفت تنساءل: لماذا بقى السودان فى رب مع تفسه طوال 
نصف قرن من الزمان؟ ولماذا فشلت كل الجهود التى قام بها الراشدون من أهله لإنهاء 
الحرب؟ ولماذا انتهى السودان الواعد عند استقلاله إلى ما انتهى إليه من بؤس وشقاء؟ ومن 
الظلم نسبة كل مآسى السودان لنظام الجبهة وحده. 

الحرص على الإجابة على هذه الأسئلة هوالذى حدا بالحركة لأن تقترح خلال 
مفاوضات ماشاكوس تكوين تلك اللجنة» وكان رد وفد الحكومة على الاقتراح ممعناً فى 


14 


الغرابة . قال الوفد: "لنكتفى بالاتفاق على عفو شامل وتعاف متبادل لأن الحركة نفسها لن 
تكون بمنجاة عن التجريم إن فتح هذا الباب. رغم هذا الدهداد اقدرحت الحركة أن يتضمن 
القرار نصاً على أن يشمل التحقيق ممارسات الطرفين ودور الأنظمة السابقة فى خلق أو 
تعميق أزمات السودان المتجذرة. ونقدر أن أكذر أهل الجبهة تخشياً من التحقيق هم 
المتخاشعون من زبانية النظام» ويكاد المريب أن يقول خذونى. 

عن إدراك تلك الجماعة غاب أمرانء الأول هو أن الغرض الأساس من التحقيق هو 
إجلاء الحقائق وتطهير النفس لمصلحة القوى السياسية نفسها ولسلامة الحياة العامة. الأمر 
الثانى هوء أقمنا لجنة للتحقيق أم لم نقمهاء فإن الجرائم الكبرى ضد الإنسانية أصبحت محل 
إدانة دولية لا يسقطها التقادم» ولا تخضع للعفوء ولا منجاة لصانعيها من ذوى السلطان 
النافذ فى العالم. وبين يدينا ميلوسوفيتش سفاح الصربء وسفاحو رواندا الذين ضاقت بهم 
الأرض بما وسعت. فمع العفو والتعافى الذى ندعو له فى ماشاكوس فإن الصيحة لا شك 
آخذة هؤلاء فى لاهاى» حتى وإن نجوا من عذاب فى الخرطوم. بنفس القدر يخطئ القدامى 
وورثة القدامى إن ظنوا أن فى العدالة الترميمية نكأ للجراح» ونبشاً للقبور. هؤلاء» فيما 
يتبدى لنا لم يعوا بعد أن تخليق السودان الجديد يستلزم تصالحاً مع النفس والآخرء وليس 
للمرء على ذلك التصالح سبيل إلا بكشف الحقائقء والإذعان للحق. ما عدا الحقيقة أباطيل» 
وما سوى الإذعان للحق غير تسكع فى الظلام. وقد رأينا ما قادت إليه هذه المسكعة من 
خراب خلال الخمسين عاماً التى انصرمت. 

فى قرارات أسمراء وتوجهات النظام فى مبادرات السلام الأخيرة (المشتركة: الايقاد» 
المسعى الإريترى) ثبت الرأى على أن التعددية الحزبية هى الأساس الراكز للديموقراطية» 
كما إلتزمت قرارات أسمرا وأكدت مفاوضات ماشاكوس إلى حد كبير تضمين كافة مواثيق 
حقوق الإنسان فى الدستور السودانى الجديد. هذا وعى مشكورء وإن جاء باخرة . ولكن» مع 
صحة الافتراض بأن فرص إدامة الديموقراطية ستتضاعف بإنهاء الحربء والسعى الجاد 
لإزالة كل الأسباب التى قادت إليهاء وليس فى هذا وحده غناء واستكفاء. قلئن كان فى 
إنهاء الحرب الساخنة ما يعين على مدننة (11281220000ألاأه) الحكم أ إزالة السبب 


15 


الأساس الذى يدفع بالعسكر إلى اقتلاع الحكم من المدنيين إلا أن الديموقراطية نفسها فى 
حاجة إلى تبيئة وتوطين» وليس فقط استعادة. بدون تلك التبيئة وذلك التوطين لن تنجب 
الديموقراطية التعددية غير إعادة إنتاج الأزمات التى أودت بها. لقد ظل الحوار حول 
الديموقراطية يتمحور دوماً حول مؤسسات الحكم وإجراءاته» وحول التحالفات الحزبية التى 
تمكن الديموقراطيين من السيطرة عليه؛ وقلما تطرق المنادون باستعادة الديموقراطية إلى 
ثقافة الديموقراطية واسطيقيتها (2]5105)., أو إلى ما الذى يريد "الديموقراطيون صنعه 
بالحكم عند الإمساك بزمامه. فالمرغوب. إذنء هو الوعى بتلك الثقافة واستبطانها 


(ضه )دج لمسعام1) 


أكنه الديموقراطية أعمق بكثير من الالتزام بالانتخابات الدورية» وتوفير حقوق التنظيم 
والتجمع والتعبير للجماعات والأفراد» فهى فى البدء نظام حقوقء ثم مدونة سلوك. وما لم 
توفر الديموقراطية للمواطن العادى حقوقه؛ بل تمكنه من التأثير على أجندة الحكمء وتجعل 
القائعمين على الأمر ينقادون لتلك المدونة السلوكية لن تكون إلا ديموقراطية شوهاء عرجاء. 
ونعرف من واقع السودان وتجاريه أنه لن يتسنى لهذا المواطن أن يكون سيد قرارهء دعك 
عن أن يكون مفاعلاً فى التأثير على أجندة السياسة» ما لم تتمتع الأحزاب فى داخلها 
بالديمقراطية . هذا أمر يستعسر فى ظل أحزاب يكاد يعض سادتها يظنون أنهم أصحاب حق 
فى الحكم موروث؛ يكاد يكون مغروساً فى حمضهم النووى (0718) كما أن هيمنة المركز 
على الأطراف ليست فقط ظاهرة إدارية» وإنما هى أيضأ ظاهرة سياسية؛ فلجان الأحزاب 
الإقليمية الفرعية» ومنظماتها الجماهيرية والفئوية» وتنظيماتها النسائية والشبابية هى 
ملاحق تابعة (0905از30)لقيادات الأحزاب وليست كيانات اجتماعية فاعلة لها 
خصوصياتها المميزة» وإرادتها الحرة فى التدبير والتقريرء خاصة فيما يتعلق بشئونها. هذا 
النمط البطركى فى القيادة تتشاركه جميع الأحزاب الجماهيرية؛ من أقصى اليسار إلى 
أقصى اليمين» من سياسة الإشارة إلى سياسة الخط النازل من اللجنة المركزية. وبلا شك. 
لا يشابه هذا الضعف الهيكلى فى الأحزاب الجماهيرية:» العوار الكامن فى أحزاب السلطة 
المصطنعة (الاتحاد الاشتراكى فى عهد مايوء والمؤتمر الوطنى فى عهد الإنقاذ)» فتلك 


136 


الأحزاب ما خلقت إلا لتبرير قرارات السلطة. لهذا فإن الداء داء طارئ» لا صلنى متأصل. 
ولعل عجز الأحزاب عن معالجة هذه السياسة هوالذى يدفع الكذيرين» خاصة من بين 
الشباب للتخلى عن أحزابهم التى جاءوا إليها بطوعهم وإرادتهم إلى مراع أكثر اخضرارأًء أو 
إلى الانعزال الكلى عن العمل العام. هذاء بالضرورة» يقتضى أن تعيد الأحزاب النظر فى 
هياكلها ومناهجها بدءا باستزراع كل المبادئ الدستورية والحقوقية التى تنادى بها فى صلب 
مواثيقها وبرامجها ومناهج أدائها. مثال ذلك إحترام تعدد الرأى» حقوق الإنسانء الشفافية» 
المحاسبة. وفى الفصلين الثامن والعاشر أشرنا إلى ما قام به حزب البعث والحزب الشيوعى 
من مراجعات لثوابتهما النظرية مما أخرج الأخير من قائمة من أسماهم الدكتور رفعت 
السعيدء أمين عام حزب التجمع المصرى السلفيين اليساريين الذين ما زالوا يؤمنون أن 
النظرية كلية الصحة وإجمالية الحقيقة». ويتمنى المرء ان يذهب هذان الحزبان» كما تذهب 
بقية الأحزاب ذات العمق الشعبى إلى مراجعات نظيرة فى مناهج العمل وضوابط الأداء . 
ألزمنا أنفسنا فى قرارات أسمرا واتفاق ماشاكوس بتبنى كل مواثيق حقوق الإنسان الدولية 
والإقليمية فى دستورناء وحقوق الإنسان» هى القيمة المضافة للديموقراطية. ولكن» رغم 
الإجماع على هذا الالتزام» ما زال فى نفوس بعضنا شىء من حتى. فقرار التجمع حول 
حقوق المرأة» مثلأء قرار معيب لأنه أخضع تلك الحقوق للشريعة» وفى هذاء لم يكن التجمع 
أحسن حالاً من نظام الجبهة الذى تلجلج فى اعتماد الاتفاق الدولى لإزالة كافة أنواع التمييز 
ضد المرا أدَ همتأقمتصستىؤلط أه كصعه1 ألخ 2ه «مامستمتلع عط هه ممتامء جومع) 
(/1417© ,78/0368 ]35لدع2 متوسلاً كذباً بالدين» ومتذرعاً باطلة بالتقاليد. ومع أننا 
أوفينا هذا الأمر حقه فى الفصل السابع» وتناولناه فى الفصل العاشرء إلا أننا تضيف أن المرأة 
السودانية عندما تخوض معاركها من أجل حرياتها لا تفعل هذا رغبة منها فى تأنيث الحياة 
العامة» أو تحقيق النسونة (1610181570) كما تفعل بعض نساء الغربء ففكرة النسونة فكرة 
غربية صاغتها فى القرن التاسع عشر الكاتبة الفرنسية هويرتين اوكلير فى صحيفتها 
"المواطنة و1 3])» لكيما تجعل من النساء جنسأ آخر. بيد أنا نقترب من الموضوع 
مقوجه اكن مز الأشائية فامرأة والرجل يتتميان إلى حفن راح هو الج البشرى: 


137 


والبشرء كما قال لوك "متساوون فى الطبيعة.(؟) كما أن كلمة حق فى كل لغات العالم التى 
نشأت فيها المنظومات المعاصرة لحقوق الإنسان تحمل معنيين: أحدهما قانونى والثانى 
معنوى أخلاقى. فكلمة مثل (61800)فى الانجليزية أو (4,011)فى الفرنسية تعنى النصيب 
الواجب قانوناً للفرد أو الجماعة» كما تعنى أِيضاً الشىء القويم الصحيح والتابت بلا شك. وفى 
الغربية حق الأمرحَمَا وحقوقاء صدق وتأكد. ولغل البعد الأخلاقىء أكثر من البعد القانونى 
هو الذى يضفى على حقوق الإنسان الطبيعية» أى الحقوق التى يستحقها من حيث هو إنسان, 
عنصر الإلزام. لهذا يصبح إخضاع هذا الحق الطبيعى الثابت لأى نسبية ثقافية عملاً مضاداً 
للطبيعة . فالنسبية الثقافية التى تنبنى على العادات والتقاليد والفهم الإستاتيكى للأديان 
ستكون لها نتائج خطيرة إن قبلناها على علاتها. فالرق» على سبيل المثال؛ ظاهرة اجتماعية 
قبلت بها (وما زالت تقيل بها) ثقافات عديدة» تمامأ كما أن التمييز بين المواطنين على 
أساس أصولهم العرقية ظاهرة متجذرة فى بعض الثقافات والأديان (الهند مثلا) . أفهل يجوز 
انطلاقاً من هذه النسبية الثقافية الصفح عن استبداد الإنسان للإنسانء أو تبرير ازدرائه له 
لأن ثقافة معينة تقول بهذا. وكما أوردنا فى أكثر من موضع من قبل ليس فى الإسلام ما 
يتناقض مع القيم التى تمنح المرأة من الحقوق ما يمنح للرجل؛ وما رفض هذه القيم بدعوى 
أنها إمبريالية ثقافية جديدةء إلا محاولة لتكريس الهيمنة الذكورية السائدة . 

أي كان الأمرء من أهم مشروعات القوانين التى أعدها التجمع لتنظيم الحياة العامة 
مشروع قانون تنظيم الأحزابء ولا يطمع ذلك القانون فى تكبيل الأحزاب بقدر ما يهدف 
إلى تنظيم الحياة الحزبية وإزالة الأدواء التى اعترتها منذ أربعينيات القرن الماضى. فمن 
الناحية الإجرائية ذهب القانون إلى اقتراح قواعد تنبغى مراعاتها عند إنشاء أى حزب مثل 
الحد الأدنى من العضوية» وتحريم قيام أى حزب على أساس دينى أو عرقىء أو قيام أى 
حزب كامتداد لحصزب خارجى. وإن كنا حقأ راغبين فى تقليص نوازع الفرقة بين 
السودانيين» فإن تحريم إنشاء الأحزاب على أساس دينى أو عرقى يعين على تعميق الوحدة 
فى بلد ظلت التقاطعات على أساس الدين والعرق تزيده تشرذماً وتشظياً. ومن الطريف أن 
الحزب الوحيد الذى ابتنى كل أيديولوجيته على الدين: الإخوان المسلمين؛ قد حرص على 


138 


أن ينسب نفسه للوطنية والقومية والشعبية» بدلاً عن الإسلاميةء قلماذا فعل هذا إن لم يكن 
لإدراكه استحالة قيام حزب على أساس الدين فى وطن متعدد الأديان» وتنبنى فيه كل 
منظومة الحقوق والواجبات الدستورية على المواطنة؟ من جانب آخرء تقتضى تنقية الحياة 
السياسية السودانية من شبهة التداخل بين المصالح الوطنية ومصالح الآخرين أن تنمتع 
الأحزاب الوطنية باستقلاليتها. هذا بالطبع لا يمذع الأحزاب التى تتشارك الرؤى؛ ليس فقط 
فى المحيط الإقليمى» بل المحيط الدولى أيضأء من تبادل الخبرات والأفكار فى منظومات 
معروفة وبأسلوب شفاف مثل الاشتراكية الدولية التى تنتظم الأحزاب الاشتراكية عبر العالم. 
كما أن تحريم إقامة أحزاب على أساس دينىء ليس بدعة دستورية نبتدعهاء فكلا الدستورين 
المصرى والجزائرى يحرمان إنشاء الأحزاب على أساس دينى لما فى ذلك من شبهة احتكار 
جماعة واحدة للإسلام. ومما يجدر ذكره أن قانون الشركات الإنجليزى يحرم استخدام اسم 
التاج (000) 116) فى تسجيل الشركات,ء ليس فقط حماية لذلك الاسم من الإتجار به» 
ولكن أيضاً لأنه يفترض أن دور التاج هو رعاية كل مواطن دون تمييزء فلا يحق لفرد 
واحد أو جماعة الإستئثار بإسم التاج. 

التواضع على حد أدنى للعضوية» أمر تستوجبه تجارينا السابقة» خاصة عقب انتفاضة 
أبريل. فقبل عهد مايو كانت الأحزاب السودانية تعتمد على قواعد اجتماعية معروفة» 
ومعروف عديدها وأوزانها. فأحزاب مثل الأمة» الاتحادى الديموقراطىء الإخوان المسلمين» 
الحزب الشيوعى» سانوء جد جبهة الجنوبء أو تنظيمات مثل مؤتمر البجاء اتحاد جبال النوبة» لم 
تكن بالأمسء ولا هى بحاجة اليوم لإحصاء مناصريها لكيما يعترف بها. كما أن أحزاباً أو 
جماعات مثل البعث والجمهوريين والجماعات التى انسلخت عن الحزب الشيوعى ظلت» 
رغم ضعف سندها الجماهيرىء تعبر عن توجهات فكرية معروفة وتسعى لاحتلال مساحة 
أوسع فى فضاء السياسة السودانية. ولكن عقب الانتفاضة خرجت على الناس أحزاب لا 
يعرف لها أنصار تعاد (تفاخر فى العدد) ه بهم الناسء» ولا فكراً جديداً يلهمهم . ولعلنا نزيد أن 
التعددية الحزبية لا تعنى تعدد التنظيمات بقدر ما تعنى تعدد البرامج وتنوعها. بلغ عدد تلك 
الأحزاب نهاق تخعسين: وكان من بينها فيما علمنا حزب أطلق على نفسه اسم حزب 


1039 


البهجة. ولربما كان مؤسسو ذلك الحزب أصدق مع أنفسهم من غيرهم فيما شدوا له 
مئزرهمء ما أرادو حزيهم ذلك معبراً لسلطةء أو قنطرة لحكم. كل ما أرادوه هو صنع مجتمع 
يحبر فيه البشر بعد أن كدر عليهم الإمام نميرى حيواتهم» وقطع عليهم غضارة العيش 
بقوانينه الشائهة. كان ذلك قبل قدوم نظام الجبهة غير محمود المجىء» الذى جعل من 
تنغيص العيش وتكدير الحياة صناعةء واستجادها. ومع طرافة الفكرة: إلا أنها أيضاً تكشف 
عن اختلاط الجد بالهزل فى السياسة السودانية. 

لا جدال فى أن الأحزاب فى ظل الديموقراطية التعددية» هى الأوعية التى تستوعب 
مناشط السياسة الوطنية ويتم عن طريقها التعبير الجماعى عن الإرادة الشعبية . بهذا الفهم, 
تصبح الأحزاب مؤسسات طوعية تضم أفراداً ومجموعات يتشاركون الرؤى السياسية» 
ويربط بينهم دستور تراضوا عليه» ويحكمهم نظام إدارة داخلى يتحاسبون وفق نصوصه. 
ولكن هذا وحده لا يكفى» فالأحزاب فى بلد بمثل تنوع السودان وتعدد وجوههء وبمثل 
مساحته المترامية الأطرافء لن تكون أحزاباً قومية حقا إلا إن كانت ذات امتدادات على 
مستوى الوطن. نعرف» مثلا؛ أن أغلب الأحزاب الكبرىء ناهيك عن الطارئة»ء لا تملك 
مقاراً خارج العاصمة فى شمال السودان أو جنوبه. ولضمان مثل ذلك التمثيل القاعدى 
الواسع ينص الدستور النيجيرى الأخير على أن تتضمن قوائم عضوية الأحزاب ممثلين من 
تلثى الولايات حتى يصار إلى الاعتراف بها وتسجيلها. ومن المؤسى أن تظل الأحزاب ذات 
العمق الجماهيرى بعد نصف قرن من الزمان تعتمد على البنيات التحتية للطوائف الدينية 
فى الأقاليم دون أن يكون لها وجود ذاتى مستقل فى أصقاع السودان الدانية والنائية. أما 
الأحزاب الطارفة (بعد انتفاضة أبريل) فقد ضمت طائفتين: طائفة من المثقفين الذين 
مضهم الإجداب الفكرى فى حياتنا السياسية فتمنوا إخصابها بالفكرء وهذا جهد جدير 
بالتقدير. هذه الفئة أيضاً تضم رجالاً ذوى قدرات غير منكورة» ورغبة صادقة فى إعادة 
تشكيل الحياة الحزبية على وجه جديد. ولا شك فى أن الدور التحفيزى والإلهامى لهؤلاء؛ 
وبنفس طويل أهم بكثير من الانغماس فى الصراع على السلطة؛ أو السماح لأنفسهم بأن 
يستدرجوا إليه. الطائفة الشانية هى أخلاط من متعاطى السياسة ينبتون كالفطر 


140 


الو الك فى الساعة الحادية عشرة من الانتفاضات» ويجمعون أمر هم عشاء حتى 
يكون لهم شلو من أشلاء النظام المباد. ولكن ما أن ينزوى النظام الذى كانوا أعلى الناس 
أصواتاً إبان تربعه على السلطة» حتى يجولوا طلباً للمهرب والنجاة. كأهل الكهف يخرجون 
برقيمهم عند الانتفاضاتء وإليه يعودون عقب البيان الأول للانقلاب»ء هذا إن لم يسعوا لأن 
يجدوا لهم موطئ قدم فى الدولة الانقلابية . وللشاعر الفلسطينى معين بسيسو وصف جيد 
فى مثل هذه الأحزاب؛ أسمى الجماعات التى أخذت تتناسل من حركة التحرير الفلسطينية» 
أحزاب هلمجرا. ولا شك فى أن التوافق على قانون يحدد ماهية الأحزاب» وأسس تكوينهاء 
وقواعد مشروعيتها كفيل بقطع الطريق على الهلمجريين» وإنهاء اتخاذهم السياسة لعبآ 
ولهواً. 

من الناحية الموضوعية يلزم قانون الأحزاب المنظمات الحزبية باحترام كل المبادئ 
الدستورية التى تراضت عليهاء ولن يكون هذا إلا بشيوع الديموقراطية الداخلية. من ذلك 
التزام الأحزاب بعقد مؤتمرات دورية كما تفعل كل الأحزاب الديموقراطية عبر العالم» 
والاصطلاح على أسس لمحاسبة القيادة والأعضاءء والتداول السلمى الديمقراطى للقيادة» 
والشفافية التامة فى الأداءء خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الموارد المالية. وحول الموضوع 
الأخير أشار القانون إلى ضبط التمويل الداخلى» وتحريم التمويل الخارجى للأحزاب» 
وإخضاع التمويل والإنفاق للقواعد المحاسبية المعروفة والمراجعة العامة. فالأحزاب ليست 
مؤسسات أمنية» أو جمعيات سرية حتى لا يجلى إنفاقها على الملاً. ولريما نشير مرة أخرى 
إلى الدستور النيجيرى الذى ينص على أن يكون لكل حزب حد أدنى من المال يودع فى 
أحد المصارف المعروفة قبل السماح له بخوض الانتخابات. ولا ضير فى أن تدعم الدولة 
الأحزاب السياسية التى تثبت وجودها حسب هذه الضوابط حماية لها من الانزلاق فى 
معارسات فامدة: كما لا سير فى أن.ة تمنح الدولة إعفاءات خاصة من الضرائب لذوى 
اليسار الذين يسهمونء فى حدود القانون» فى الدعم المالى للأحزاب التى ينتمون إليها. هذا 
نهج درجت عليه الأحزاب الديموقراطية عبر العالم» بالرغم من أن الوضع الطبيعى هو 
اعتماد الأحزاب على تبرعات العضوية. فعلى سبيل المثال ينص قانون الأحزاب السياسية 


1041 


والانتخابات والاستفتاءات البريطانى لعام ٠٠١١‏ 05نالدع2ع/ع15 لسة دعتاءةط [وم1)أاوط) 
(61 على دعم الدولة للأحزاب فى الانتخاباتء فى الوقت الذى يفرض فيه على الأحزاب 
الإعلان عن أى تبرع للحزب يتجاوز الخمسة آلاف جديه. وما برح الذين يتجاوزون 
الضوابط التى يحددها القانون لتمويل الأحزاب يخضعون لحساب عسيرء خاصة إن جاء 
ذلك التمويل من مصادر خارجية:ء او لحقت به شبهة الرشاء . من مثل ذلك الحساب لم ينج 
تونى بلير فى بريطانياء وبيل كلنتون فى أمريكاء وهيلموت كول فى المانياء وسانجاى 
غاندى فى الهند. وبإشارتنا لكل هذه التجارب يخطئ من يظن أننا ندعو للتمثل الحرفى 
لتلك التجاربء فبغيتنا هى أن نبين أن هناك ضوابط للعمل الحزيى التزمت بها الأحزاب 
فى الشرق والغربء وفى الدول المتقدمة والنامية. هذا الالتزام أعان بقدر كبير على النمو 
المعافى للديموقراطية» وإرساء قواعد الحكم الصالح. 

منذ العقد الأخير من القرن الماضى أصبح احترام قيم المحاسبة والشفافية معياراً للتعامل 
مع العالم الخارجىء على المستوى الثنائى والدولى» خاصة فى مجال التعاون التنموى 
والتمويل. فقد أعلنتء, مثلاًء الدول الأفريقية مجتمعة فى ديربان التزامها بهذه المنظومة 
السلوكية وضمنتها فى إعلانها لمشروع الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا (نيباد) . مع ذلك؛ ما 
زال بعضنا لا يروق له ما نحدث به» بل يرى فيه إتياناً بالبدائع» وكان هذا واضحاً فى 
حوارات التجمع . ففى رأى هذا البعض أن السياسة الحزبية بخير» وأن الأحزاب فى تمام 
الصحة والعافية» وأن شعب السودان سيعيش فى بلهنية متى ما استعيدت الديموقراطية التى 
ألفوها. هذا الانكفاء على الذاتء والارتكان إلى الأوهام حول النفسء والظن الغريب بأن 
بلادنا هى "فريد عصره الماليه مثال؛» هو الذى أقعدنا عن حاجتنا طوال نصف القرن الذى 
انخرم. وعلى أى؛ فإن لم يكن فى كل المآسى التى بسطنا على القارئ ما يوقظنا من الغفلة» 
فلعل فيما أعلنت القوى المعارضة التزامها به (قرارات أسمرا)» وما ادعى النظام الموافقة 
عليه فى اجتماع قمة الاتحاد الأفريقى فى ديربان» ما يعين على تلك اليقظة. فى ذلك 
الاجتماع تعهد الرؤساء الأفارقة باحترام قواعد الحكم والسياسة التى تواطأ عليها العالم» 
وتأكيداً لعزمهم أقروا خلق آلية داخلية لمحاسبة بعضهم البعض على الجنوح عن هذه 


2 


القواعد اسفو ها آلية الأكفاء الأفرد يقيين للمراجعة (155100م00) بجعاباعظ رعءط ردء لل م) 
واجب هذه الآلية هو المحاسبة الداخلية للدول التى تنتهك قواعد الحكم الصالح والسياسة 
الشرعية» ومنها احترام الإرادة الشعبية» الشفافية فى الحكم مكافحة الفسادء احترام حقوق 
الإنسان. وفى نوفمبر/ تشرين ثانى وقعت اثنا عشر دولة أفريقية (لم يكن السودان من بينها) 
على آلية المراقبة فى أبوجاء نيجيريا.(2) 

موضوع آخر بدأ يأخذ حيزاً فى الحوار حول الديموقراطية» داخل السودان وخارجه: هو 
دور منظمات المجتمع المدنى؛ ولكن فى السودان كادت أن تتماهى منظمات المجتمع 
المدنى فى خطاب المعلقين السياسيين مع النقابات المهنية أوما ظللنا نطلق عليه اسم 
المنظمات الديموقراطية أو منظمات القوى الحديثة» وهى ليست كذلك. فمفهوم المجتمع 
المدنى وليد طبيعى للعقد الاجتماعى الذى دعا له جان جاك روسو بهدف خلق مجتمع 
للمواطنين الأحرار ضد طغيان السلطة الزمنية (الملك)؛ وهيمنة السلطة الروحية (الكتيسة) . 
هذا المفهوم؛ بالضرورةء مفهوم تصادمى (0081111031)» ولكنء: منذ منتصف القرن 
الماضى أصبح التصادم أقل حدة لانتفاء هيمنة الكنيسة على الحياة العامة فى أوروياء 
وانتهاء سطوة الحاكمين بتوسيع دائرة الحريات العامة؛ وتعاظم دور المواطنين فى صنع 
القرار أو التأثير المباشر على صنعهء وتذويب الفوارق الطبقية عبر سياسات الدولة الرعائية. 
كل هذه العوامل أكسبت الحوار الاجتماعى طابعاً سلمياً حضارياًء وجعلت من منظمات 
المجتمع المدنى أدوات لإدارة الأزمات سلميآء وللتوسط بين الدولة والرجل العام ءذاانام) 
(2028ء فى حين ظلت أيضاً هى التعيق الميين (112601ا“2:1) عن مصالح أعضائهاء أو عن 
الأهداف التى انتظموا حولها كجماعات مثل حماية البيئةء أو رعاية الطفل. بطبيعتها هذهء 
لا تقتصر منظمات المجتمع المدنى على النقابات والروافد الجماهيرية للأحزاب»؛ بل تتضام 
إليها منظمات حقوق الإنسان» جماعات حماية البيئة ورعاية الأمهات والأطفال» المنظمات 
الطوعية الإنسانية» وكلما تقلص دور الدولة زادت أهمية العمل الأهلى الطوعى. ولا ريب 
فى أن إضفاء أى طابع حزبى أو صفة أيديولوجية على منظمات المجتمع المدنى يهدد 
استقلاليتها وينفى عنها شرعيتها الاجتماعية (لاء8101222ع 1 [5012) »؛ كما يقلل من 


13 


فاعليتها كواحد من الحواضن الاجتماعية للوحدة الوطنية. فعضوية هذه المنظمات تتعالى 
على الفوارق الإقليمية» والعرقية» والدينية» والحزبية. نزيد أيضاً أن محاولات الحكومات 
(مثل نظام مايو ونظام الجبهة) لتدجين المؤسسات الطوعية ومنظمات المجتمع المدنى قد 
جعل منها نموراً من ورقء وبنفس القدر فإن محاولات الأحزاب فى الوضع الديموقراطى 
لإختراق هذه المنظمات سيحبسها عن أداء دورها الوطنى الاجتماعى بحسبانها رقيباً 
اجتماعياً (051511051122 5013[1) على الحكم» ويفقدها مشروعيتها الاجتماعية» 
ومصداقيتها فى الرقابة الشعبية على الحاكمين. من جهة أخرى. ما لم تدرك هذه 
المنظمات أن الصدقات تبدأ بأهل البيتء فلن تصدق فى وعدها. مثال ذلك الحرص على 
محاسبة أعضائها على تجاوزاتهم لأخلاقيات مهنهم: أو على انعدام وعيهم بالمسئولية 
الاجتماعية. يثير التساؤلء مثلاً» أن السودان لم يشهد منذ أن ترك الخواجات بلادنا طبيبآً 
واحداء أوقانوتيا ولخذاء أو مهددساً واحذاء أو مطنا واحذاء حوست على اتكياعه لأخلدقنات 
مهنته . الذى لا يعرف السودان سيظن.ء لا محالة» أننا بلد من القديسينء ولكن نعرفء. كما 
يعرف القارئ» أنا لسنا جميعاً كامرأة قيصرء فوق مستوى الشبهات. 

بغض الطرف عن مقومات الحكم الصالح والديموقراطية النجيبة» ما الذى يتغيأه 
"الديموقراطيون من الحكم والسياسة؟ فالسياسة منذ أن خرج أرسطو للناس بكتابه عنها لها 
جانبيان» جانب نظرى (160112))؛» وجانب أهم هو الممارسة والمعالجة (02:2715) وفى 
سودان اليومء أنا زعيم بأن ليس فى السودان جماعة سياسية واحدة (بمن فى ذلك من 
يسيطرون على الحكم أو يتساعون للسيطرة عليه) تملك أن تقول ما الذى تريد صنعه 
بالهيكل العظمى للسودان فى العشر سنوات القادمة حتى تنفث فيه الروح وتعيده إلى الحياة . 
ودعك عن هذر الجبهة عن مشروع بناء السودان فى الخمس وعشرين سنة القادمة» فذلك 
تزيد لا يبتغون منه إلا إغاظة الخصومء نحن هنا وسنبقى. فأهل المشروع الحضارى الذى 
أجهز على السودان» هم أقل الناس جدارة بإيتعاث عازر من دنيا الأموات. لن تعيد عازر 
إلى الحياة أيضآ الأجندات الشعارية مثل التنمية المتوازية والتنمية المستدامة وإنهاء 
الظلامات التاريخية» فالشعارات وحدها لا تنفث روحاً فى جسد ميت. وما نفث الشعارات 


1044 


إلا كنفث السواحر فى العقدء كفانا الله شر النفاثات فى العقد. وقد يكون التعلل بألهوة 
الشعارات امتداداً لميراث قديم» فمنذ الاستقلال ما انفكت الأحزاب غير العقائدية تدبر شئون 
الناس بالحدس والتخمين والفطرة السليمة. هذا ما أسميناه فى المقدمة غلية الفضاحة وعنة 
الفكرء فى حين ظل العقائدى منها يراغم الواقع بأقانيم زمنية لا يقل استمساكه بها عن 
استمساك المسيحيين بالثالوث المقدس. قد يقول المرء لا تخريب على حكام الماضىء إذ لم 
يتح لهم ما أتيح لأبناء الأجيال التى لحقت بهم من فرص للإلمام بالمعارف الجديدةء 
والدراية بمناهج البحث والتخطيط. كما كانواء رغم محدودية قاعدتهم المعرفية؛ ذوى زكانة 
فطرانية» وقد أشرنا إلى صدق حدس بعضهم فى قضايا عديدة . كانوا أيضاً ذوى طهرانية 
صادقة ألجمتهم عما يعاب عليه الرجال» خاصة فى التعامل مع المال العام. فى ذلك 
الزمان: أيضأء كانت مشاكل السودان أقل تعقيداًء وكانت واجبات الحكم على قدر كيير من 
البساطةء وكانت جماهير الأمة أقل وعياً بحقوقهاء وكان المناخ العالمى أل توحشاً. كل هذه 
متغيرات إن لم يدركها القيمون على شئون الناسء فعلى الدنيا السلام . 

ما الذى نحن فاعلون بالهيكل العظمى بعد أن نارت الفتن: وادلهمت المصائبء وتوالت 
الكزوت: :وكك الظلام * استمطى ف تدبير الأمور والحدن والتضناعة: أم ستحكم الآملر 
حتى نتناهى بذلك الإحكام عما يضر؟ التجارب المتوالية تقول أن الأحزاب فى الغالب 
الأعم ظلت ماكينات تعبئة للانتخابات لا تدب فيها الحياة إلا عند مجىء ذلك الامتحان 
الرتيب. وليتها كانت تهتبل تلك الفرصة لتبين للناس رؤاها عما تريد أن تصنع بهم إن 
أولوها ثقتهم . مبلغها دوماً هو امتراس الألسنة فى الخصومات مما جعل من السياسة سياسة 
أشخاص لا سياسة قضايا (5عددذا 4ه دعن)ناهم) . أحسنهم حال كان من يخرج على أهل 
السودان بمواثيق ينبرى لنسجها الفصحاءء يأخذون فيها من كل أيديولوجية أو منظور 
سياسى جديلة بلا نسق منطقىء أو مقارية واعية بين الواقع والمنظور المطروح . بيد أن 
التخطيط السليم يقتتضى رصد المتطلبات؛ وحساب الإمكانات الذاتية» وتحديد الأهداف 
القريبة الممكنة التحقيق والبعيدة المأمولة» وفوق هذا طبيعة البيئة الخارجية وقدراتنا على 
التأثير عليها. هذه الأمور تتطلب شيئينء الأول هو أن يكون للأحزاب (كما هو الحال فى 


145 


كل العالم المستنير فى الشرق والغرب) مراكز للبحوث ومراصد للتحليل؛ بدلاً عن الاعتماد 
على وضع السياسات بالحدسء أو الارتكان لعبقرية القائد» وفى قياداتنا من هو رجل لكل 
المواسم . الأحزاب» فى نهاية الأمرء هى مؤسسات للتربية الاجتماعية:ء ولابد لتلك التربية 
من قواعد معرفية ومعلوماتية. الثانى» هو استنجاد الأحزاب بذوى الدرية» ونعرف أن فى 
الصفوف المتقدمة للأحزاب كثيراً من هؤلاء, إلا أن نفوس بعض القيادات» فيما تشير 
الدلائل» لا تستأنس إلا لخفيف عقل لا فعل لهء ورهكة (ضعيف) لا خير فيه. 

يزيد الأمر التواء الفجوة الجيلية (مدع 86:76:20108)» فحسب إحصاءات اليونسيف فى 
نهاية القرن الماصصّى (191١)ء‏ بلغ عدد من هم دون الثامنة عشرة 5٠‏ من السكان 
مليوناً من ٠58,٠٠٠‏ ,718) . هذه الأرقام يؤكدها تقرير برنامج الأمم المتحدة 
للتنمية الإنسانية (عام )٠٠١7‏ إذ حدد عدد السكان فى عام ٠٠٠١‏ بواحد وثلاثين مليونآ 
ومائة ألف يتوقع ارتفاعهم فى عام ٠١١6‏ إلى اثنين وأربعين مليوناً وسبعمائة ألف نسمة» 
فى حين تبقى نسبة الفجوة الجيلية على ما هى عليه. فما الذى أعدته أحزابنا فى الشمال 
والجنوب لرعاية رأس مالها البشرى فى هذه الدولة الفتية من الناحية العمرية. بوجه عام: 
هناك انفصال تام على مستوى الوجدان والفكر بين هذه الأجيال الفتية وبين القيادات 
التاريخية السياسية والنقابية التى استعمرت الماضىء وتمنى النفس باستعمار المستقبل دون 
أدنى جهد من جانبها لدراسة خريطة المستقبل. خيال هذه الأجيال الجديدة لن تلهمه 
الحواديت عن رفع علم الاستقلالء إن كان كل الذى نالوه من الاستقلال هو الانكسار 
الداخلى فى وطنهم والسير هائمين فى طرقات عواصمه يلعقون الجراح. وما أسعدهم أولئك 
الذين منَ عليهم المستكبرون بالمأوى ورد الروح فيما يسمى إعادة التوطين.عدم الوعى 
بهذه الظاهرة سيقود لا محالة إلى احتدام صراع اجتماعى سيؤثر تأثيراً مباشراً على فاعلية 
وجدوى مشروعات التنمية. ينصرف الذهن فى البدء للتعليم بما يتضمن ذلك من تطوير 
وتحسين لمخرجاته؛ وتمهر فى المهن المختلفة . ورغم أن التعليم هو مفتاح الأزمة: إلا أنا ما 
زلنا راسبين فى القاع» فمحو الأمية» مثلاًء بين من هم فى سن الخامسة عشرة أو أكثر لم 
يطال إلا 57.8 / من الأميين؛ كما لم يتجاوز ما أنفق على التعليم فى الفترة ١9917 ١19968‏ 


1046 


(كنسبة مئوية من الناتج القومى) ١,4‏ / فيما بلغت هذه النسبة على التوالى: 75 ساحل 
العاج» © ,4 / غامبياء 77,5 جنوب أفريقياء ١‏ ,#5 الجزائرء ”7 كينياء ٠١‏ 7 سيشل .فى ذات 
الوقت بلغ حجم الإنفاق العسكرى المعلن فى نفس الفترة 737,7 من الناتج العام: أى قرابة 
الثلاثة أضعاف مما أنفق على التعليم. بلا مماراة» أولويات السادة الحاكمين واضحة من 
هذه الأرقامء وإن كان المبرر لذلك الإنفاق العسكرى هو الحربء فلا شك فى أن على الذين 
توصلوا لما يمكن أن ينهى هذه الحرب سلمياً فى عام ١156‏ بأسمراء ويوليو عام 7٠١7‏ فى 
ماشاكوس أن يتحملوا مسئوليتهم عن الخراب والهلاك اللذين حاقا بأهل السودان وقادا إلى 
اختباط أولويات الانفاق فيه بين الفترتين. ومع التعليم» وربما قبلهء تجىء الرعاية الصحية» 
فالأولويتان فرسا رهان. يفيد أن نذكر فى هذا الشأن أن معدلات وفيات الأطفال دون 
الخامسة فى السودان هى من أعلى المعدلات فى أفريقيا والوطن العريى (موريتانيا 1417 
فى الألف» جيبوتى 176 » السودان »)١١5‏ فى حين تنخفض النسبة إلى © فى الألف فى 
الأردن وهو بلد فقيرلا يملك ما يملكه السودان من موارد. على رأس الأسباب لهذا الوضع 
الكارثى سوء التغذية» وضعف الوعى الصحىء وندرة الخدمات الوقائية والعلاجية. وقد 
أتاحت لنا فرصة وجودنا فى الإقليم الشرقى الإلمام بالوضع المأساوى الذى يعيش فيه نساء 
وأطفال ذلك الإقليم والذى يتعرض فيه الأطفال للست أوباء القاتلة (الحصبة»ء شلل الأطفال» 
السلء الدفترياء السعال الديكىء التيتانوس) . 

نعود إلى الأجندات الشعاراتية لنقول إن تلك الأجندات فى حاجة إلى تفكيك؛ أى 
إلى مفهوم تصورى يقوم على تحليل عناصر الأزمة/ المشكل وإبانة الهدف الذى نسعى إلى 
تحقيقه. فتعبيرات مثل التنمية المتوازنة أو تلك المستدامة هى مثل «كلام الطير فى الباقير» إن 
لم تربط بالواقع وتستزرع فى الإدراك الجماهيرىء إن كان لها أن تحقق غاياتهاء وتنمو تمواً 
طبيعياً. فالتنمية» بوجه عام؛ ليست عملا كمياً احصائياً وإنما هى جهد اقتصادى ذو أبعاد 
إنسانية. صحيح أن التنمية» كمفهوم معيارى عند الاقتصاديين؛ تعنى زيادة فعالية الاقتصادء 
وتوسيع الطاقة الإنتاجية ودفع مجمل الاقتصاد الوطنى؛ وتطوير التقنيات» غير أن التنمية 
المستدامة(١)‏ هى مفهوم ذو أبعاد محلية ودولية وايكولوجية يؤثر كل واحد منها على الآخر. هذا 


17 


أمر يجدر بنا استيعابه حتى لا تذهب بنا الظنون إلى أن الفصاحة الشعاراتية تغنى عن الرؤية 
(015100) فالرؤية أولآء ثم تحويلها ثانياً إلى سياسات وبرامج تدعمها آليات وإمكانات» هو 
المرغوب. 

التنمية المستدامة أيضاً مشروع اجتماعى سياسى قبل أن تكون مشروعاً اقتصادياً. ولئن 
كانت الفكرة فى الأساس وليداً لرغبة المجتمع الدولى فى حماية الأنساق البيكية 
(5)6125لا5 [010812ع18) المهددة بالانقراضن» أى مكونات البيئة الطبيعية مثل الماء, 
النبات» الغابات؛ موارد البحارء الحياة الوحشية الخ إلا أن المجتمع الدولى استبان أيضأ أن 
مناهج التنمية والنموء وأنماط الاستهلاك فى الفناء الخارجى والفناء الداخلى تلعب دوراً 
كبيراً فى الاضرار بهذه الأنساق وتتهددها بالإفناء. لذلك هناك ضرورة للإلمام بالأبعاد 
الداخلية والخارجية لذلك النمط من التنمية» والإقبال على معالجتها وفق ذلك الإلمام. 
وللبنك الدولىء تصوير مقدر لمفهوم التنمية المستدامة(!')» رغم جرائمه الكثرفى تخريب 
البيئة الطبيعية وزعزعة السلام الاجتماعى» قبل أن تصبح حماية البيئة ديانة جديدة له؛ 
وقبل أن يفطن إلى خطورة سياساته الهادفة للتغيرات الهيكلية فى الدول التى وقعت فى 

الأهداف الايكولوجية 


وحدة النظام الايكولوجي 
القدرة الحاملة 
لاع دمة© عدأ جود"))) 
التنوع البيني 
قضايا البيثة العالمية 


١ 


التنمية المستدامة 


سر 


الأهداف الاقتصادية الأهداف الاجتماعية 


١ 


©النمو 
© المساواة 
© الكفاءة 


© التمكين الاقتصادي (للمهمشين) 
© المشاركة الشعبية (في التخطيط) 
© الحراك الاجتماعي 

© التماسك الاجتماعي 

© الهوية الثقافية 

© التطوير الملأؤسسي 


برائنه على العناصر الضعيفة فى المجتمع . نورد ذلك التصور فيما يلى: 

ولعلنا نظلم أنفنسنا إن وضعنا العوامل الخارجية فى المضمار الخلفى72627+تط »اءد5) 
للموقد. فقضايا مثل الخال الهيكلى فى موازين التجارة الدولية؛ والديون» وتوحش الرأسمالية 
المعولمة» وأنماط الاستهلاك المبدد فى دول الشمال الكونى» لعبت دوراً أساساً فى إنهاك 
البيئة الطبيعية وزعزعة التماسك الاجتماعى داخل الدول الفقيرة» وبين الدول الفقيرة 
والغنية . وفى حديث نصيح للرئيس الفرنسى جاك شيراك (قمة الأرض الثانية فى 
جوهانسبرجء سبتمبر/ ايلول 7 )7٠٠١‏ قال: لو كانت بلدان الجنوب تستهلك ما يستهلكه الشمال 
لاحتاج سكان العالم إلى كوكب آخر. هذا النوع من الاستهلاك يقودء بالضرورة» إلى 
تصادم» خاصة عندما يصل فى بعض وجوهه إلى حد الوقاحة. فعلى سبيل المثال» تنفق 
دول الاتحاد الأوروبى فى برامج الدعم الزراعى يومياً مبلغ 7,5 دولار على كل بقرة(*) 
وهو مبلغ يفوق كثيراً متوسط دخل الفرد فى كثير من الدول الأفريقية بما فى ذلك السودان. 
يقول العاقل أو لا يقتضى المنطق أن تنصرف الدول الأوروبية إلى ما هى أكثر قدارة على 
صنعه فى ميدان التقنيات الحديثة والصناعات المتقدمة وتعين الفقراء على تنمية ثرواتهم 
الحيوانية لسد احتياجاتها واحتياجات العالم؟ ثم يتساءل: أو لا تدرك هذه الدول أنه حيثما 
يكون فقر مدقع وإمكانية للغناء الفاحشء فإن الفقر سينتقل إلى حيث الإمكانياتء إن لم 
تنتقل الإمكانيات إلى حيث الفقر؟ ودوننا ما نشهده كل صباح ومساء على شاشة التلفاز من 
جموع اللاجئين الاقتصاديين من أفريقيا والشرق الأوسط الذين ما تركوا آلة أودابة إلا 
وامتطوها للوصول إلى هذه الامكانيات. هذه الظاهرة تتكرر على المستوى المحلى فى 
النزوح من الأقاليم إلى عواصم توسموا فيها الخير» وكثيراً ما خيبت تلك العواصم ظنونهم. 
فمثلاًء بلغ عدد أهل الحضر من مجموع السكان فى السودان ١8,5‏ / فى عام 21916 ثم 
ارتفع إلى 777,١‏ فى عام 7٠٠٠١‏ ومن المقدر أن يصل إلى 48.7 / فى عام ,16 1(50) . 
ذلك الغبن فى الفناء الخارجى يتطلب أن تكون للسودان سياسة خارجية نشطة تتجاوز 
دبلوماسية الفهلوة والتشاطر والحديث فى اللقاءات والمنابر الخارجية بأكثر من لسان فى 
الموضوع الواحدء إلى الاهتمامء أولاً وقبل كل شىء» بما يمتن وحدة السودان» ويحقق 


1049 


نموه ءوثانياً بالتركيزء بوجه خاصء على ميدانى التعاون الإقليمى (التكامل الاقتصادى على 
الصعيدين العربى والأفريقى)» والتعاون بين دول الجنوب. 

العوامل الخارجية» مع حدتهاء ينبغى ألا تعفينا عن مسئوليتنا فى الفضاء الداخلى» فمن 
الواجب علينا شد الأبصار إلى قضايا المساواةء والتمكين الاقتصادىء والمشاركة الشعبية فى 
صنع القرارء وتلافى النوازع التى تهز التماسك الاجتماعى؛ وخلق المؤسسات القادرة على 
القيام بكل هذا. هذه ليست قَضايا أكاديمية» بل قضايا وجودية وحياتية اغفلتها السياسات 
(سياساتنا) » ولا سبيل إلى معالجتها إلا بسياسات محكمة فاعلة. هذه السياسات تستحيل فى 
غياب الإدارة السياسية. مثل تلك الإرادة توفرت لحكام دول آسياء فكانت المعجزة الآسيوية . 
هذه الدول لم تستكن إلى أفكارآدم سمث فى تكوين ثروة الأمة وتغفل البعد الإنسانى 
للتنمية» ولم تنجر إلى مقولات الاشتراكيين حول هيمنة الدولة على الاقتصاد بدعوى 
تحقيق التوزيع العادل للثروة دون اهتمام بالكفاءة فى تكوين الثروة . أخذت من كلا الجانبين 
بطرفء الكفاءة فى تكوين الثروة؛ وإرساء القواعد التى تضمن أن يصيب كل مواطن 
نصيب عادل من تلك الثروة. فالفقر والتهميشء مثلا» نتاج للتوزيع غير العادل للثروة, إلا 
أن عدم العدالة لا تتبدى فقط فيما يملك أو لا يملك المعوزون من مقتنيات؛ وإنما تتجلى فى 
العجز عن تطوير رأس المال الطبيعى للفقراء (الأرضء المراعىء المياه) وكلها ملك مشاعء 
أو فى تطوير الاصول القاعدية (3556]5 [171135]506101158) الاجتماعية المتوفرة لهم مثل 
التعليم والصحة والطاقة ووسائل الاتصال. 

ففى السودانء إن نحينا جانباً ما ألمحنا له عن ضعف أو انعدام الخدمات الصحية 
والتعليمية نجدء مثلاً» أن المياه الصالحة للشرب فى السودان لا تتوفر إلا لخمسة وعشرين 
بالمائة من السكان» كما يمثل الاعتماد على الطاقة التقليدية (الخشب والفحم) 21.75 من 
الاستهلاك الكلى؛ مما يقود إلى إنهاك مريعء إن لم يكن إهلاك كامل للغابات والثروة 
الخشبية . ولئن يحدث هذا فى بلد شمسه كنار الله الموقدة» فذلك أمر مؤسى. كيف لنا الزعم 
بتوفير أو ضمان الحقوق الاجتماعية للفقراء والمهمشين إن لم نخلقء أولم نسع لخلق» آليات 
تتيح لهؤلاء المشاركة فى صنع القرار عبر الشبكات التقليدية (الأسرة والقبيلة) ؟ فإن كانت 


10 


التنمية فى مفهوم الاقتصاد الكلاسيكى هى جهد اقتصادى بحت أو حل تقنى وما الجانب 
الإنسانى منها إلا تداع (التنمية من أجل الناس)» فإن التنمية المستدامة هى إنسانية من 
منشئها (التنمية بالناس) . كما ما هى شبكات الحماية الاجتماعية التى أعددنا لوقاية هؤلاء 
من توابع زلزال إعادة هيكلة الاقتصاد؟ ولعل الذين يستنكرون التهميش ويطالبون بنصيبهم 
من الكعكة التى استأثر بها غيرهم لا يتوقعون أن نفقر مزارع الجزيرة لكيما نغنى مزارعى 
هبيلا والمزموم» فكما قلنا فى الفصل العاشر سيستمر عدم التوازن فى الدخول ردحأ من 

الزمن قبل أن تتحقق المساواة . الذى يترجاه ويتوقعه الفقراء والمهمشون هو رؤية متكاملة 
للخارطة السياسية/ الاقتصادية نحدد فيها ما نريد صنعه على المدى البعيدء وعلى المديين 
الوسيط والقريب؛ ويلعب فيها المواطن دوراً محورياً فى صنع السياسات. 

فى التقرير الأخير حول التنمية الإنسانية فى الوطن العربى (صدر فى يونيو/ حزيران 
٠٠١"‏ جاء أن أهم أسباب التدهور الاقتصادى والإنسانى فى ذلك الإقليم: انتهاكات 
الإنسان» عدم تمكين المرأة اقتصادياً مما أفقد قطاعاً كاملاً فى المجتمع القدرة على الإسهام 
فى تطوير ذلك المجتمعء اختلال البناء المؤسسىء ندرة المعارف التقنية الحديثة والعجز عن 
استجادة استغلال القليل المتوفر منهاء ثم نواقص إنسان الحكم. فى أكثر من فصل من هذا 
الكتاب تناولنا قضيتى انتهاكات حقوق الإنسان بوجه عام» وحقوق المرأة» بوجه خاص» 
ولكن قلما يتفكر الناس فى الترابط العضوى بين هاتين القضيتين من ناحيةء والتنمية 
المستدامة من ناحية أخرى. وقد أثبتت التجارب أن التمكين الاقتصادى للمرأة يدفع بالنمو 
الاجتماعى عبر زيادة دخول الأسر مما يعين على رفاهية الأطفال والارتقاء بنوعية 
حياتهم» وتوفير التعليم والرعاية الصحية لهم. ولربما كان فى تجربة بنك قرامين 
ببنغلاديش والذى أُنشئ بوجه خاص لتمويل الصناعات الصغيرة التى تقوم بها النساء فى 
الريف والمدينة» والنجاح الكبير الذى حققه فى موطنهاءمثل جدير بالاحتذاء. ويوجه عام» 
يخصم عدم تمكين المرأة اقتصادياً واجتماعيأء بالضرورة؛ من رأس المال القومى 

أما حول حقوق الإنسان فما زال السودان» حسب تقرير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة 
(عام ؟ )٠ ١٠‏ (يقبع فى القاع. فمثلاً وضع التقرير (الرقم )١‏ حداً أعلى لاحترام الحريات 


1051 


العامة بما فيها حرية التعبيرء والحقوق السياسية بما فيها حق الاعتراض على السياسات. 
و(الرقم ') حد أدنىء وكان نصيب السودان هو الرقم الأخير. حدد التقرير أيضاً لسيادة حكم 
القانون رقمآً أعلى هو(7,5): وحد أدنى هو (-1,5): وكان حظ السودان )١,4-(‏ ذلك 
امتحان لمستويات الأمم فى التذمية الإنسانية سقطت فيه بلادنا. والتنمية المستدامة تستحيل 
فى ظل قوانين غير ثابتة؛ وأوامر وأحكام نزويةء وغيبة كاملة لقضاء كفء ومستقل يحتكم 
له الناس» ومدونات سلوك تقهر المفسدين» وصحافة حرة تكشف عن الأخطاء دون خشية» 
ومنظمات فاعلة للمجتمع المدنى تمثل الرقيب الاجتماعى على الدولة . فقدان هذه العناصر 
هو الذى هبط بالسودان فى موازين الحكم الصالح فى هذا العهد. 
الموضوعان الآخران اللذان أشار لهما التقرير: الإصلاح المؤسسى؛ وصلاح إنسان الحكم 
هما أكثر ضرورة اليوم من أى وقت مضىء ونختزل الحديث حول الموضوع الأول فى 
جانبين: اللامركزية» وإصلاح الخدمة العامة. الاهتمام باللامركزية أضحى اليوم أيضأ أكثر 
ضرورة من أى عهد مضىء ليس فقط بسبب العشوائية التى جعلت من ولايات السودان 
التسع ستأ وعشرين ولاية» وإنما أيضاً بسبب ما تقرر فى ماشاكوس. وليس بين أهل السودان 
خلاف فى أن لا مركزية الإدارة ضرورية لبلد مترامى الأطراف كالسودان حتى تقرب 
السلطة من المواطن؛ وتقلص هيمنة المركز على الأطراف. ولكن اللامركزية تصبح عبداً 
على الدولة والمواطن إن لم تأخذ فى الاعتبار المقومات الذاتية لكل ولاية لكيما تقوم بأمر 
نفسهاء وإن لم تخلق البيكة التى تحقق التكامل بين الولايات التى كانت تدار كوحدات 
متكاملة. هذا ما لم يفعله النظام عند ما ركب الأمرعلى غير بيان. وخلال محادثات 
ماشاكوس اقترحت الحركة إعادة النظر فى الولايات القائمة الآنء إلا أن النظام استمسك 
ببقائها على الصورة التى هى عليها اليوم فى الشمال» فى حين قررت الحركة تقليص 
ولايات الجنوب الجغرافى إلى ثلاث ولايات أو مناطق: الاستوائية» بحر الغزال؛ أعالى 
النيل. هذا أمر لا بد من التوجه إليه خلال مراجعة الدستور فى الفترة الانتقالية» خاصة إن 
أدركنا أن هدف النظام من تلك اللامركزية» التى جاءت كحطب الليل؛ هو توسيع دائرة 
الاسترضاءء دون تمليك الولايات القدرة على الإيّفاء حتى بالمتطلبات الإدارية للحكم مثل 


1352 


دفع رواتب العاملين. يتوقع المرء أيضاً أن يصحب انتقال السلطة للأطراف كما تقررفى 
ماشاكوسء تقليصها فى المركز. ولكنء بالرغم مما تم الاتفاق عليه مابرحت الوزارات 
المركزية تنشطر على نفسها كما تنشطر الأميباء فمجلس الوزراء الأخير الذى تمت إعادة 
تكوينه بعد ماشاكوس الثانية يتكون من رئيس ونائبين للرئيس ومساعد له وأريعين وزيراً. 
لهذا أخذ يتبادر إلى ذهن الذى يشهد اجتماع مجلس الوزراء الدورى على التلفاز أنه أمام 
اجتماع لجمعية عمومية لشركة مساهمة: أكثر منه اجتماعا لمجلس يدبر شأن الأمة. وما 
زالت الأميبا الإدارية تتابع الانشطارء لا لأن المصلحة القومية العليا تقتضى ذلكء أو الإدارة 
الحسنة؛ تستوجبه» أو بلغة دستور النظام» لأن «عمارة الكون وعبادة الخالق» تحث عليه: 
وإنما لإرضاء الموالين الذين تكاثروا على خراش» فأصبح خراش نفسه فى حيرة من أمره . 
الجانب الثانى هو الخدمة العامة» والتى أصبحت شبحاً من صورتها الأولى. وقد أوضحنا 
فى الفصل السابع حجم التسييس الذى لحق بها بعد إقصاء كل كفاءاتها المهنية. وكان من 
المستفز فى محادثات ماشاكوسء كما ذكرناء تصدى أحد موفدى النظام لمطالبة الحركة 
بإعادة النظر فى الخدمة العامة بهدف تمكين من حرموا منها فى الماضى بالقول: الخدمة 
المدنية خدمة مهنية» والكفاءة وحدها هى الأساس للانخراط فيها. دعنا تأخذ هذا القول 
المراوغ على ظاهره ونقول: فلتكن الكفاءة إذن هى الأساس للاختيار فى إطار مراجعاتنا 
للخدمة العامة» ونضيف إلى الكفاءة ما لا يحتاج إلى إضافة: الحيدة» أى حيدة موظف 
الخدمة العامة . علينا أيضاً أن نستذكرء أن الذى كان يحتاجه السودان فى ظل اللامركزية 
القائمة» وقطعاً يحتاجه فى ظل تلك التى قررتها اتفاقيات ماشاكوسء هو خدمة مدنية أصغر 
حجما وأكثر كفاءة» وأقرب لروح العصر بكثير من تلك التى عرفناها فى زمان الحكومات 
طاغية المركزية . ففى ذلك الزمان كانت الخدمة العامة تهيمن على كل شىءء كانت تتاجر 
فى الأسمنتء والسكرء والزيوت النباتية» وتوزع الرخص لكل هذه السلع على من استطاع 
إليها سبيلا. لهذا نتعسف الغاية عندما نلح فى خطابنا السياسى» كما درجنا منذ اكتوبر 
4؛» على "إعادة جميع المفصولين من الخدمة المدنية إلى مواقعهم. ولعل واحداً من 
أسباب هذا الإلحاح هوأن جميع الأحزاب التى تنادى بذلك لا تعى ما يتطلبه إصلاح 


13 


الخدمة العامة من سياسات وإجراءاتء وبالتالى لا تملك برنامجاً محدداً لما تريد أن تصنع 
بها غير إعادة المفصولين. فى هذا الإلحاح مزايدة لا تستحبء أولاً لأنه يستحيل عملياً 
إعادة كل المفصولين إلى المواقع التى أُقيلوا منها فى الحكومة المركزية بسبب التغيير الكيفى 
والكمى الذين سيطرأ على الخدمة العامة نتيجة للوضع الإدارى الجديد. ثانياً لاحتمال 
تعارض إعادة كل المفصولين مع سياسة تقليص الخدمة العامة والتى لا بد من الصيرورة 
إليها لإنفاذ برامج الإصلاح المؤسسى. هذا لا يعنى بحال» حرمان الذين فصلوا عسفاًء أو 
أقيموا ظلماً عن مواقعهم؛ من رد حقوقهم إليهم. وهذا يتم عن طريقين: مادى ومعنوى. 
فمن الجانب المادى لا يملك احد ان ينكر على من لحقت به خسارة مادية من تلك 
الإجراءات العسفية أن ينال حقه غير منقوص. أما من الناحية المعنوية فقد يصار إلى 
تسكين ذوى القدرات منهم فى مواقع تتوافق مع خبراتهم القديمة؛ أو الجديدة المكتسبة (إن 
اكتسبوا جديداً)ء أو الإيقاء على ذوى الدرية والمهارة منهم بعقود جديدة لتدريب ناشئة 
الموظفين من أجل خلق رصيد تراكمى من الخبرات. فالذى تحتاج إليه الخدمة العامة 
الجديدة حقاً هو تدريب مهنى وسلوكى وذهنىء خاصة للشريحة العمرية 4٠ 7١‏ سنة. 
ولربما ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلكء إلى إععادة تدوير (128اكلإء26) الخبرات والكفاءات 
السودانية العاملة بالخارج (المنظمات الدولية» المنظمات الإقليمية» البنوك العالمية) بعقود 
محدودة الأجل لتدريب تلك الشريحة» يساندهم ذوو المهارة المحليون. علينا أيضاً أن نعى 
أن العالم لم يعد يتحدث عن الإصلاح الإدارى بالمفاهيم القديمة» وإنما يتحدثء أكثر ما 
يتحدث اليومء عن الحكومة الإلكترونية (8017610213671 .)هذا ميدان إن عجزنا عن 
ولوجهء فعلينا وحدنا يقع الوزر. 

أما ندرة التقنيات الحديثة» والقصور فى استخدام القليل المتوفر منها فليس قدراأً مقدوراًء كما 
هو مؤشر خطير لدرجة التخلف الذى نحن فيه. نتحدث كثيرأ عن المعجزة الآسيوية» وليس 
فيما حققته آسيا إعجاز يعيا عن تحقيقه غيرها. ولربما توقفنا هنا عند دول ثلاثء ماليزيا 
الإسلامية» والهند مصدر الإيحاء لآباء الاستقلال» وكوريا الجنوبية التى لم يجد البنك الدولى 
فى عام 1150 نظيراً لها غير السودان» عندما قال أن الدولتين (كوريا الجنوبية والسودان) 


154 


حالتان ميئوس منهما .(2565© :03516) هذه الدول» منذ البداية» جعلت أولويتها القصوى هى 
التنمية» وعلى الأخص تنمية رأس المال البشرىء؛ وتطوير المعارف التكنولوجية؛ وفى سبيل 
تحقيق هذا أشرعت الباب على مصراعيه للتعاون مع دول الاستكبار التى يمكن أن تعين على 
ذلك التطويرء فى الوقت الذى حافظت فيه على قيمها الدينية وعوائدها الكريمة الموروثة . ففى 
حديث له لجريدة الأهرام الأسبوعية» قال مهاتير: نحاول أن نقدم مفهوماً جديداً للإسلام: لا 
بالأسلوب المتحجر الذى يفهمه به الأصوليون ولكن بالانتساب إلى المعارف الحديثة 
والاستثمار فى التكنولوجيا المتقدمة؛ (2002 ,21 ,وعطممء/28107 ,لإلعاءء/1لآ سدعطك 21 ) . 
التجربة الماليزية تناولناها فى الفصل السابعء وماليزيا التى لا تتجاوز مساحتها 
كيلو متر مريع» واستقلت بعد استقلال السودان بسبعة أعوام :)١19175(‏ أصبحت 
اليوم واحداً من أكبر منتجى ومصدرى الشرائح السيليكونية فى العالم. ولرئيس وزرائها 
ماهاتير مقالة ذاعت بين الناس هى ان الحاكم الناجح هو الذى يدير الدولة كما يدير رؤساء 
المؤسسات الاقتصادية مؤسساتهم . لم يتله ماهاتيرء القائد المسلم» بما التهت به قيادات 
السودان الطارفة والتليدة منذ عام ١974‏ عن الدستور الإسلامى وتطبيق الشريعة» ولعل 
الفرق بين الزعيم الماليزى المسلم» وبين الطبقة الحاكمة المسلمة فى شمال السودان لا 
يستغلق فهمه أحد. الفرق بينهما هو الفرق» من جهة»ء بين سياسى أدرك أن واجبه الأول هو 
تدبير أمر مواطنيه فى هذه الحياة الدنيا: إطعامهم من جوع وإيمانهم من خوفء ثم إغذاء 
السير لكيما يبنى دولة قوية تنتمى للإسلامء ولكن تحتل مكانها تحت الشمس فى عالم اليوم» 
بالمفاهيم التى يعرف بها العالم القوة» ومن جهة أخرىء بين زعماء أيديولوجيين أو رهناء 
لابتزاز الأيديولوجيينء لا تعنيهم فى شىء الكوارث التى تحيط بهم (وما أسهل أن تسمى 
تلك الكوارث بالإبتلاءات)» وغاية مرادهم هى العودة ببلادهم خمسة عشر قرناً للوراء. 
ماهاتيرقصر واجبات الدولة فى أربعة ميادين: تطوير التعليم والتقنية؛ صحة المواطن. 
إنشاء البنى التحتية» تحقيق السلام الاجتماعى عبر السياسات التى تحد من الفقرء وتقلص 
من التهميش (فى بلد كانت أغلب الثروة فيه مركزة فى يد الأقلية الصينية) . ولم يكن 
ماهاتير يهدف من السياسات الأخيرة لأن يجعل من الصينين مواطنين من الدرجة الثانية 


| 5 


فى بلادهمء بل أراد أن يخلق تناغماً خلاقاً بين طوائف المجتمع . أهل الابتلاءات هؤلاء ما 
برحوا يشيدون بماليزيا ويحسبونها جوهرة فى عقدهم "الإسلامى النظيمء هذه مكابرة لا 
يقدم عليها إلا جاهل بالكليات؛ أو منافق مرد على النفاق: وأركسه الله بما كسب. فلو كانوا 
صادقين حقآً فى ثنائهم على التجربة الماليزية لاقتفوا أثرماهاتيرء ولما لحقت بهم 
الابتلاءات. 

الهندء من جانب آخرء بلغت مستوى عالياً فى ميدان التقنيات الحديثة» فمدينتها العلمية 
فى بانقلور التى تعود إلى عهد نهرو أصبحت اليوم واحداً من أكبر مراكز البرمجيات 
للحاسوب فى آسياء إذ يعمل فيها ٠٠٠٠١‏ مبرمج يخدمون ثلاثمائة شركة عالمية من بينها 
أهم الشركات اليابانية والأمريكية. واتجهت انديرا غاندى؛ من بعد أبيهاء إلى تحقيق شيئين: 
الأول توفير الغذاء لأهل بلدهاء والثانى هو الارتقاء بالعلوم فى المنظومة التربوية وبمركز 
بانقلور ليصيح مركزا لأبحاث الفضاء والتكنولوجيا المتقدمة. وكان لانديرا رأى صائب 
حول الغذاءء قالت: "استيراد الغذاء هو استيراد البطالة» ولهذا أنشأت فى منتصف الستينيات 
معهد الأبحاث الزراعية (تولى أمره العالم الهندى سوامى نيثان) . بفضل دراسات ذلك 
المركز والتطبيقات العملية لها أصبحت الهند تنتج اليوم 4 مليون طن من القمح مقابل ١7‏ 
مليون طن فى الستينيات. وحين تضاعف عدد سكان الهند منذ إنشاء المركز ثلاث مرات» 
تضاعف أيضأ إنتاج القمح أريع مرات. هذه هى الهند التى حسبها قونار ميردال فى 
الستينيات حالة ميئوس منهاء والتى كانت تعيش حتى ذلك التاريخ على الهبات. وفى تقرير 
أخير أوردت إحدى الصحف اللندنية أن مخزون الحبوب تضاعف ثلاث مرات فى السنوات 
الثلاث الأخيرة مما جعل منه ربع مخزون العالم الغذائى: وأصبحت معه الهند المنتج الثانى 
فى العالم للأرز بعد تايلاند. (الفاينانشيال تايمز7١/7/17١٠3).‏ أما حول ترقية العلوم 
فى المنظومة التربوية» فقد خرجت الجامعات الهندية» على سبيل المثال» مائتين وثمانين 
ألفاً من المهندسين فى العام الماضى؛ وأصبحت الهند المركز الرئيس فى العالم لما يسمى 
بعمليات المكاتب الخلفية (66801085م0 06866 6301) فعل سبيل المثال؛ اتجهت أغلب 
الشركات الكبرىء اقتصاداً للدفقات؛ إلى تحويل عملياتها فى ميدان الاتصالات إلى خارج 


1156 


مراكزها الرئيسية مستفيدة من إمكانات الأقمار المصنوعة . ولعله من المذير أن نعلم أن 
مؤسسة كهارودز فى لندن توجه وتستقبل كل محادثاتها ورسائلها الإلكترونية عبر مكتب 
صغير فى الهند. تلك هى الدولة التى تمنى آباء الاستقلال اقتفاء أثرهاء ولكن حين كان 
نهرو فى نهاية الخمسينيات ينشىء المراكز العلمية مستشرفاأ المستقبل. لم يتجاوز نظر آباء 
الاستقلال أرنبة الأنفء. وحين كانت ابنته انديرا تجد فى السير لاختراق الفضاءء كان 
الوارثون لآباء الاستقلال عندناء فى عناء وشدة مع إغلاق البارات فى الخرطوم. 

أما كوريا الميئوس منهاء والتى تفتقد أى موردء بل وتبلغ مساحتها مائة ألف كيلو متر 
مربعء فقد ارتفعت بمعدل الادخار السنوى من 47,7 من الناتج القومى الإجمالى فى 
الستينات إلى 756 فى عام 2٠٠١‏ . فى ذات الوقت ما برح حجم الادخار القومى الإجمالى 
فى السودان» رغم كل ثرواته الطبيعية», لا يتجاوز حتئ اليوم 5,17" بليون دولار .)7٠١1١(‏ 
الاقتصاد الكورى اليوم أيضاً هو الثالث الأهم فى آسيا (بعد اليابان والصين)» إذ بلغ ناتجها 
القومى الإجمالى 577 بليون دولار هذا العام (؟١٠3)»‏ ويتوقع ارتفاعه إلى 577,4 بليون 
دولار فى العام المقبل حسب التقرير الأخير لوحدة الايكونوم ست )5غأمههمء8) 
(01لآ عءمعع 11اء10 كما بلغ احتياطيها من العملات الخارجية هذا العام ١١6‏ يليوناء» 
ويتوقع التقرير أن يرتفع إلى 77١‏ بليونا فى العام المقبل. أما متوسط دخل الفرد فقد بلغ 
عام 2٠٠١7”‏ ويتوقع أن يصل ٠١,88٠‏ فى العام المقبل فى الوقت الذى ما زال فيه 
متوسط دخل الفرد فى السودان يقارب بالكاد 4٠٠‏ دولار فى العام. 

أي كان الأمرء اتجهت القيادات الآسيوية منذ البدء إلى التنمية الاقتصادية فوفرت أولةً 
الغذاء والتعليم لأهلهاء ونظمت الأسواق» ووجهت الاستثمار نحو قطاعات التصدير العالية» 
وخلقت بيكة مواتية للاستثمار الداخلى دون أن تسميه «الرأسمالية الوطنية» غير المرتبطة 
بالاستعمار لأنها تعرف جيدا أن الاستعمار هو الوليد الشرعى للرأسمالية. وبهذاء أصبح دور 
الدولة هو المحفز للاقتصاد (03031956)» وليس المهيمن عليه» كما خلقت تلك الدول خدمة 
عامة مقتدرة على لعب هذا الدور التحفيزى. ونحسب أن البعض سيقول أن تلك الدول لم 
تكن تعانى من الصراعات التى عانى منها السودان (الحرب الأهلية)» أو أن تطور بعضها 


157 


كان نتيجة للدعم الكبير الذى حظيت به من الولايات المتحدة (كوريا الجنوبية) . هذا دفع 
بالغيبة (21161)لقصور سياساتنا. فالهندء مثلأء ظلت فى حروب لم يشهد لها السودان مثيلاً 
(الحرب ضد باكستانء الحرب مع الصينء الحرب البنغالية التى قادت لقيام بنقلاديش» 
صراعات كشمير)» كما لم تحظ الهند بدعم أمريكى إلا خلال فترة ولاية كينيدى 
القصيرة) . وكان كينيدى معجباً بالتجربة الهندية» وبنهرو خاصة ولهذا انتقى معلمه 
البروفيسور قالبرايث ليكون اول سفير له للهند. أما ماليزيا فقد ظلت منذ نشاتها دولة غير 
منحازة للدولتين العظميين ولكنها استفادت بمهارة من كليهما. وحتى كوريا الجنوبية لم تلق 
مثل هذا الدعم المزعوم فى أكثر فترات تعاونها مع الولايات المتحدة (الحرب الكورية)؛ بل 
بقيت حتى الستينيات دولة ميئوس منها فى حكم البنك الدولى الذى تهيمن عليه أمريكاء بل 
إن البنك رفع يده عنها. 

فى النهاية» نتناول إصلاح إنسان الحكمء وأول ما يتجه إليه المرء هو الفساد. الفساد ظاهرة 
عانت منها الدول الغنية والفقيرةء إلا أن أثرها كان أشد وبالاً على الأخيرة أولاً لأثرها المباشر 
على الاقتصاد الهش لهذه الدولء وثانياً لانعدام الضوابط المؤسسية التى تكبح جماحه كما هو 
الحال فى الدول الغنية (أوروبا وأمريكا مثلا)» ففى تلك الدول لا يستطيع الجانى الفرار بجرمه 
متى ما انكشف أمرهء ومهما كان موقعه. أما فى السودان» وحتى منتصف السبعينيات من 
القرن الماضىء لم يستشر الفساد الكبير للحد الذى يصبح فيه ظاهرة تهدد الكيان الاقتصادى 
للوطن. كان الحكم الوطنى فى يد رجال أطهارء ولعلنا لا نحرج أحداً إن روينا قصة لنا مع 
واحد من هؤلاء الأطهار. ففى زيارة لى للسيد حماد توفيق غداة وفودى للخرطوم فى عطلة 
الصيف من الجزائر كما ظللت أفعل دومأً لما كان بين حماد ومصطفى الصاوى من صلة 
وارفة» قال الرجل بعد التحية «جابك لى الله يا ولدى؛ . قلت: «ما بك . قدال «أنا أفكر من 
الصباح وين ألقى مائة دولار أكمل بيها المبلغ اللأرسله لولدى فى براغ؛ ثم أضاف «لقد 
اضطررت لبيع الراديو لإكمال المبلغ الذى بحوزتى:. المائة دولار التى تحدث عنها ذلك 
الرجل الطهور كانت ثلاثين جنيهاً بحساب ذلك الزمان» وكان حماد يروى القصة وهو جالس 
فى مكتبه كمدير للبنك الزراعى السودانى. 


18 


ما أن ذهب جيل حماد حتى برز إلى الحيز العام فى الوزارات والبنوك الوزراء والمدراء 
ممن نالوا أضعاف ما نال جيل حماد من علمء فيهم الطهورء وفيهم من تخشى أن تلمسه 
بعصاة طولها ألف ذراع. بحلول هؤلاء بدأ الفساد الكبيرء ذلك النمط من الفساد بدأ فى 
الازدياد بعد إنشاء المشروعات الكبرى فى النقل والصناعة والطاقة» خاصة البترولء وبلغ 
أوجه فى عهد الهيمنة الخاشوقجية ‏ البهائية على الاقتصادء وكان للرجلين ‏ حتى لا 
نظلمهما ‏ تابعين بغير إحسان من المسئولين ورجال الأعمال والمستشارين. ثم جاءت 
الديموقراطية الثالثة فأخذ وزراؤها يتلاحون حول الفسادء ويتهم به بعضهم البعض دون 
حسيب (الفصل السادس) . تبع ذلك نظام الجبهة الذى انتقل بالفساد نقلة نوعية» إذ لم يعد 
الفساد فساد أفراد» بل فساد نظام لم يجد حرجا فى احتكار المال العام وتوجيهه لمصلحة 
حزب واحدء وإيثار أنصاره بكل الكعكة» غير قليل. ولئن اطرحنا جانباً العنصر الأخلاقى 
فى الفسادء باعتبار أن الفساد أمر لا يقوم عليه إلا مسئول منزوع الضميرء أو فاقد الوطنية» 
نجد أن الفسادء بالضرورة» يقود إلى تدمير الوطن وإنهاك اقتصاده . فخطورة الفساد الكبير 
(لا الفساد فى سفح الهرم) لا تقتصر على انتهاب المال العام» وإنما تشمل أيضاً ما يقود إليه 
من انخفاض فى مستوى الإنفاق العام» وبالتالى تدنى فى معدلات النمو وكقاءة المنتج. 
فالفساد يؤثر تأثيراً مباشراً على حجم الاستثمار بخفض المبلغ المرصود للاستثمار (نتيجة 
لإنتهاب جانب منه)؛ وهذا الخفض الإنتهابى يقود بدورهء إلى تدنى معدلات الإدرار التى 
تحسب بمعيار دقيق هو معيار التكلفة والعائد (6626151 -0056)) وهذا معيار يفتقد معناه 
عندما يقود الفسادء كما قلناء إلى التأثير على نوعية المنتج أو على أمد تنفيذ المشروعء أو 
بسبب من هذا إلى الحاجة إلى إرفاد مالى جديد لم يكن فى الحسبانء وينبغى ألا يكون. 

ما العمل؟ تحدثنا عن إصلاح البيئة السياسية والقانونية كشرط أساس للنمو القومى 
المعافى» ولكن قلنا أيضأء ونقول أن التعليم» فالتعليم» ثم التعليم هو المدخل لأن الجهل: كما 
يقول روسوء هو أصل الشرور. ولكن أى تعليم نريد؟ فى هذه الخاتمة أسلفت الإشارة إلى 
التفاوت الكبير فى الإنفاق الحكومى بين ما ينفق على التعليم وما ينفق على الدفاع» وهذا 
فى حد ذاته مؤشر على اختلال الأولويات. ولكن الإنفاق على التعليم ليس وحده معياراً 
لنجاعة التعليم بمعناه الشامل : التعليم فى مراحله الرسمية المعروفة» التمهرء التدريب 


1059 


المتواصلء تنمية رأس المال الفكرى. ومن الناحية الفنية أورد تقرير لليونسكو فى أوائل 
تسعينيات القرن المأضى أن اوجه الضعف فى المنظومة التربوية فى السودان تتمثل فى: 

© انعدام التنسيق بين المناهج فى كل مستويات التعليم. 

© افتقاد أى قاعدة للتعلم فى مرحلة ما قبل التعليم. 

© عدم التوازن فى الإنفاق على التعليم فى مراحله المختلفة. 

© القصور الكبير فى توفير وسائط وأدوات التعليم. 

جماع هذه النقائص يعنى أن التعليم يفتقد الهدف الاستراتيجىء والرؤية الأكثر شمولا. 
صحيح أن التعليم حق لكل مواطنء هو كما قال طه حسينء كالماء والهواء. ولكنء لا بد للتعليم 
أيضاً من الإيفاء بحاجات المجتمع المتغيرة» بما فى ذلك المتغيرات فى الفضاء الخارجى الذى 
يحيط به» كما لا مهرب من أن يطور من قدرات ومهارات المتعلم حتى يكون ذا قدارة على 
تأدية دوره فى هذا المجتمع المتغير. فالتعليم الذى لا يهيئ الطالب لولوج شبكة المعرفة 
الكونية (1:ه:اء2 1040:02]1005 [81062): ولا يوفر له المهارة لكيما يتعامل مع اقتصاد 
السوقء ولا يربى فيه الوعى بالحفاظ على البيئة الطبيعية التى يعيش فيهاء ولا يوسع إدراكه 
لحقوق الإنسان التى أصبح العلم بها فرض عينء ولا يطور معارفه لإدراك الصراع الكونى 
الدائر اليوم بين عالم غنى يستأثر بكل شىء»ء وعالم فقير نحن جزء منه لا يملك شيئاًء لا يمتل 
أية قيمة مضافة للتربية والتنشكة. هذه القيمة المضافة لا تنتقص فى شىء من دور التعليم فى 
غرس القيم الفاضلة» وتوسيع المعرفة العامة» وصقل القلوب بالآداب والفنون. 

فى نهايات التسعينيات من القرن الماضى أنشأت اليونسكو لجنة من الخبراء لوضع 
خارطة للتعليم فى العالم فى القرن الحادى والعشرين. وفى عام ١194‏ قدم رئيس اللجنة» 
جان ديلور (الوزير الفرنسى السابق والرئيس السابق للاتحاد الأوروبى) » تقرير لجنته . وحدد 


التقرير أربع ركائز للتعليم الأمثل: 
© التعليم من أجل المعرفة العامة (أى ما يوفره التعليم من معارف للمتعلم حتى يلم 
بأحوال الماضى والحاضر والمستقبل) . 


© التعليم من أجل العمل (أى المهارات التى يكسبها التعليم للمتعلم ليلج سوق العمل) 
1060 


© التعليم من أجل الحياة» أى التعليم الذى يوفر لمتلقيه القدرة على التعايش مع غيره فى 
الفنائين الداخلى والخارجى. 

© التعليم من أجل الكينونة» أى كيف يصبح المتعلم بشرأ سوياً يتخاطر مع غيره بنية 
سليمة» ويتزيا بالقيم الفاضلة» ويملك إحساساً صادقا بقيم الحب والخير والجمال. 

فى عام ١990‏ أعد نظام الجبيهة ما أسماه «الإستزاتيجية القومية للتعليم؛» وكان من 
أهداف تلك الإستراتيجية: 

© التوسع فى التعليم الأساسى وتسهيل الوصول إليه وإصلاح الخلاوى القرآنية. 

© القضاء على الأمية فى عام .7٠٠١‏ 

© تطوير مرحلة ما قبل التعليم. 

© تنويع الدراسات فى المرحلة الثانوية. 

© إدخال الدراسات البيئية فى المرحلة الثانوية. 

© تحسين الكفاءة الداخلية والخارجية للنظام التعليمى بابتداع وسائل جديدة للتخطيط 

التربوى والمراقبة والتقويم . 

لربما استهدت تلك الإستراتيجية بالتقرير الفنى لليونسكو الذى أشرنا إليه آنفاً. ولكن: أين 
هذه الإستراتيجية من الواقع الملموس؟ ما هو التطوير الذى حدث للتعليم الأساسىء ناهيك 
عن مرحلة ما قبل التعليم؟ وهل تم القضاء على الأمية فى عام »7٠٠١‏ ونحن اليوم بعده 
بعامين؟ وما هو مدى التنويع الذى أدخل على مناهج المرحلة الثانوية؟ الذى حدث تغيير 
نوعى لا ترقية لما كان لحمة هذا التغيير وسداه» هما البرنامج الايديولوجى للجبهة» والذى 
لم تفلت منه» كما ذكرناء حتى مجلة الصبيان. بدلاً عن القيم التى حددتها لجنة ديلور 
للتعليم فى القرن الحادى والعشرين؛ علفت الجبهة على البرمجة العقلية للأطفال بأسلوب 
نسىء إلى التخلف أن نسبناه له. فالطفل لا يربى على حب الحياة التى تحيط به (البشرء 
والشجرء والزهر)؛ بل على خزعبلات استقرت فى أذهان من أدمنوا قراءة فقه عصور 
الانحطاط الفكرى فى الحضارة الإسلامية: أيدخل الطفل داره بالقدم اليمنى أم اليسرى؟ هل 
مس الكلب حرام أم حلال؟ والطفل لا يعرّض للموسيقى لكيما تدوهج مشاعره ويستقار 


1061 


وجدانه؛ وإنما لتنغيم الأهازيج التى تربيه على كره الآخر. وعوضاً عن توجيه أجهزة 
الإعلام المرئى والمسموع لمحو الأمية المعرفية والوظيفية» (وليس فقط الأبجدية) » سخرت 
تلك الأدوات الفاعلة لأسطرة الدين» ونشر الخرافات: وتخريب وجدان الشعب . وعلنا نذكر: 
والذكرى تنفع المؤمنين» أن الهدف الآساس من إنشاء قناة تلفزيون الجزيرة فى عهد مايو 
كان هو التعليم ومحو الأمية. كما نشير إلى أن الهندء منذ الستينيات؛ كانت هى أول دولة 
طبقت فيها اليونسكو مشروع استخدام الأقمار المصنوعة لنشر التعليم» نجاح إستراتيجية 
الجبهة التى تهدف إلى تحسين الكفاءة الداخلية والخارجية للنظام التعليمى نشهده اليوم فى 
مخرجات ذلك التعليم. وضمور زادها المعرفى»: بل فى ترحيل بعضهم ترحيلا كاملاً عن 
العالم الذى نعيش فيه إلى ماضٍ تخيلى لا وجود له إلا فى أدمغة صانعيه. 

وإن جئنا للتعليم العالىء فحدث ولا حرج. ذلك المستوى يعانىء هو الآخرء من عدم 
التوافق بين مناهجه وبين المتطلبات المتطورة للمجتمع المحلى والمتغيرات الخارجية» ومن 
تكلفته العالية واعتماده المطلق على التمويل الحكومىء ومن قلة إسهامه (كمؤسسة) فى 
البحوث التطبيقية (ولعل هذا واحد من الأسباب التى حالت دون تطوير قدراته على 
الاعتماد الذاتى)» ثم من ضعف الحوافز المادية للعاملين مما أدى إلى نزوح عدد كبير من 
أساتذة الجامعات إلى مراع أكثر اخضراراً. على أن التعليم العالى أصيب بمقتل فى عهد 
الجبهة على ثلاثة وجوه: أولاً» تسييس العملية التعليمية (فى المناهج) ء ثانياً إبدال الكفاءة 
بالانحياز الأيديولوجى أو السياسى كمعيار للتعيين؛ وثالثاً التطوير العشوائى للتعليم الجامعى 
حتى أصبحت للسودان فى هذا العهد السعيد ما يقارب الأربعين جامعة. وإن استثنينا من 
هذه الجامعات» الخرطوم الجزيرة» جوباء امدرمان الإسلامية» جامعة السودانء والنيلين 
(القاهرة الفرع) (من الجامعات الحكومية) والأحفاد والأهلية (من الجامعات الخاصة) » 
واللتين كان وراء الأولى منهما ميراث تربوى قديم» كما كرس تربوى مرموق ( محمد عمر 
بشير) كل جهده لإنشاء الثانية» جاءت الجامعات الأخرى كلها كسلق البيض» وما هكذا تنشأ 
الجامعات . فعلى سبيل المثال» استغرق الأستاذان على محمد الحسن وعلى عبد القادر من 
الجهد أكثر من عامين للخروج على الناس بجامعة الجزيرة» كما استغرق نفس الوقت من 
جهد الدكتور نصر الدين أحمد محمود لإعداد كلية الطب بتلك الجامعة. هذا ما كان من أمر 


162 


الجامعات الحكوميةء أما الكليات الأهلية فليست أكثر من بوتيكات تجارية للتعليم . هذه 
البوتيكات التجارية والجامعات المفرّخة تمتاح لتراجعة جذرية ة تأخذ فى الاعتبار أمرين: 
الأول هو تطلعات الطلاب وأهل المناطق لأن تكون لهم جامعاتهم الخاصة: والذانى هو 
سلامة (10168519) العملية التربوية. فالجامعات التى لا تتوفر لها البنى التحتية الملائمة لن 
تصبح كتله حرجة تمكن السودان من الانطلاق فى عهد الثقافة الرقمية. ولريما لزنمت 
الإشارة إلى أن لجنة تنسيق التعليم العالى بين دول الكمنولث» والتى ظلت تعترف بشهادات 
جامعة الخرطوم وجامعتى جوبا والجزيرة فى كل جامعات المنظومة» قررت منذ عام 
6 حرمان السودان من ذلك الإعتراف نسبة لتدنى مستوى التعليم فى جامعاته . هذه 
يي النظام عندما منى أهل زيمبابوى» فى زيارة له 
لهرارى قبل بضعة أعوام» بشيئين: البترول ومنح للتعليم فى جامعات السودان الثلاثين» 
لعن الله الجهل النشط. 
لقد عرف السودان حتى سبعينيات القرن الماضى تعليماً جامعياً متميزأء وإن كان نخبويآ 
فى هيكليته مما أدى إلى حرمان مجموعات كبيرة من طالبى العلم من الالتحاق به. أدى 
هذا الضمور فى فرص التعليم العالى إلى أن يتخلف السودان بين دول الجامعة العربية من 
حيث توفير الفرص لذلك النوع من التعليم» كما تحدثنا تقارير اليونسكو (المكتب الإقليمى 
القاهرة) . ويوضح الرسم أدناه مستوى الانخراط فى التعليم الجامعى لكل مائة ألف من 
السكان فى عام .١9195‏ 
السودان 
انين 
المقرب 
العراق 


تونس 
السمودية 


الكويت 


3000 2500 2000 1500 1800 500 0 


أكبر الفجوات فى ذلك التعليم النخبوى كانت هى الضعف فى الدراسات التى تؤهل 
السودان» أكثر من غيرهاء لسد الفجوة المعرفية: الرياضيات والعلوم الطبيعية. فحسب تقرير 
الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية لم يتعد المدخرطون فى هذه الدراسات؛ كنسبة مئوية من 
الطلاب ١‏ 2. هذا النقص يضعف كذيراً من قدرات الجامعات ومجالس البحوث على تنمية 
رأس المال القكرى فى المجالات التى يحتاجها السودان. ونحسب أن أكثر ما يحتاج له 
السودان من بحوث هوقى مجالات الطاقة المتجددةء والبترول» وتكنولوجيا المعلومات. 
وتطوير تقنيات التعليم» والصناعات الغذائية» بل وتوفير الغذاءء إتقان العمل فى كل هذه 
المناشط يحتاج إلى قاعدة علمية متينة. ولا شك فى أن الارتقاء بالتعليم مهمة غير يسيرة 
بسبب تكلفته الباهظةء ولا نظن أن السودان؛ بكل الأعباء التى ستترتب عليه بعد السلام» 
سيكون قادراً على أن يوليه ما هو جدير به من اهتمام. ولكن من حسن الطالع أن تطوير 
التعليم العالى أصبح اليوم محل اهتمام متزايد من المنظمات الدولية باعتباره أساساً لسد 
فجوة المعرفة بين الدول النامية والدول المتقدمة علمياً. فغى حديث له فى شتتجارت 
(المانيا) أعلن رئيس البنك الدولى؛ء جيمس وولفنسون ٠١(‏ أكتوبر/ تشرين أول )٠٠١7‏ 
التزام البنك الدولى بإنفاق ٠١‏ بليون دولار على التعليم العالى» فى حين لم يتجاوز إنفاق 
البنك على ذلك التعليم فى كل عقد التسعينيات نصف بليون دولار. هذا بالطبع لايعنى 
إغفال الإمكانات الذاتية» فلو توجهت الجامعاتء مثلاً» نحو البحوث التطبيقية حتى تسهم, 
بالتعاون مع القطاع الخاصء فى مجال البحث والتطوير (184:1): لأسهمت إسهاماً كبيراً 
فى توظيف المعرفة فى قطاعى الإنتاج والإدارة» وفى توفير دخول تعينها على تطوير 

نعود على بدء لنقولء لم يحد عن القصد الذين ترنموا بالقداس الجنائزى على السودان 
القديم فقد قتله من أقبلوا على أمره وأدبروا بعيون مطفأة. أنقول بعد ذلك القداس: مات 
الملك» يحيا الملك؟ لا أخالنا نملك أن نفعل» فالسودان اليوم قيد مخاض عسير لم يتولد منه 
الجديد بعدء ولربما تكون الولادة قيصرية. هذا الوليد قد يخرج حيأء إن أدرك النظام الحاكم 


14 


اليوم أن وفاق ماشاكوس التاريخى هو بداية لنبذ القديم. فالفترة الانتقالية تعنى الانتقال من 
مرحلة إلى مرحلة؛ ومن شكل إلى شكل؛ ومن نظام إلى نظام. وإن كان أهل النظام 
ومعارضوه يرغبون حقاً فى بقاء السودان موحداًء فما عليهم إلا أن يعوا أن الوحدة لن 
تتحقق إن ظن كائن من كان فى السودان بأنه قادر على تسجيل الفصل الأخير فى تاريخه. 
لن تتحقق الوحدة أيضاً إن لم تع الأحزاب الشمالية أن ما تواضعت عليه فى اسمرا سيظل 
هوالحد الادنى الذى يضمن للسودان وحدتهء فالتردد واللجلجة حول روح القرارات 
ونصوصها لن يفصم شوكة الجنوب؛ وإنما سيفصم عرى السودان. ولكل لجلاج نقول؛ ما 
قاله عمر لأبى موسى الأشعرى: الفهم» الفهم» فيما تلجلج فى صدرك. 

على الحركة أيضأء وهى حاملة لواء التغيير» أن تكون أكثر التزاماً من غيرها بالمبادئ 
والمعايير التى ظلت تدعو لها: الديموقراطية» المحاسبة»ء الشفافية» إحترام سيادة حكم 
القانون» كما عليها أيضاً إنهاء عوامل التشقق فى الجنوبء فبعض هذه العوامل تجاوزها 
الشمال منذ زمان. صحيح أن هذه التشققات ما كانت لتستفحل لولا طموحات النخب كما 
أوضحنا فى الفصلين الخامس والتاسعء ولكن هذا لا يعفى قيادة الحركة من ضرورة العمل 
على إزالة كل الظروف التى يستذرع بها الانتهازيون لإذكاء الفتن. خليق بالحركة أيضأء 
وهى الداعى فى ماشاكوس لفكرة لجنة الحقيقة والمصالحة» فتح كل الملفات حول مسيرتها 
السياسية» ليس فقط إبراء للذمةء وإنما أيصاً لتمليك الحقيقة لشعب طالما أعمت بصيرته 
أكاذيب المتريصين. فالسودان الجديد هو سودان تروّض فيه كل التباينات» بحيث يصبح 
الدين فيه عالمى فى نزعته (706131ناءء)» وتعامل فيه المرأة كإنسان لا أنثى » و 2 فيه 
السياسات إلى الارتقاء الاجتماعى بالمهمشينء: وينهمك فيه الحاكم فيما ينهمك فيه 
الحاكمون والطامحون للحكم فى كل أرجاء العالم» وعلى رأس ذلك تدبير أمور المعاش. 
ويصبح فيه الحوار السياسى حواراً متحضراً تهزم فيه الأفكار الأفكار.إن فعلنا هذا فسيولد 
السودان الجديد» وإن لم نفعل فلا محالة من أن السودان الجديد سيص بح وهمآ 
إيكاريوسيا['')» كما سينتهى السودان القديم إلى تشظى وتفتيت. 


135 


ولعله من سخرية الأقدار أن يقول اللورد كرومرء القابلة الذى ولد السودان القديم على 
يديه» أن السودان صنيعة للانتهازية. فعقب توقيع اتفاقية الحكم الثنائى كتب كرومر: على 
هذا النحوء ولد السودان الجديد (سودان ما بعد المهدية)؛ وهو مهيئ يما سيمكنه من البقاء . 
مع ذلكء وإلى حد ماء هو وليد انتهازية («دنهدة:هممه 4ه 10نء) ولكنء إذا قدرله ان 
يموتء ليخلى المجال لبلد أشد منعة» لأنه أكثر قربى بالواقع» فلا يحق لصناعه أن يندبوا 
ذلك المصيرا''). المصير المحتوم لهذا المخلوق التعيس قضت به ستة وأربعون عاماً من 
خداع النفس والمكور والخيبة. 

لآالالا 


16 


هوامشن وإحالات 





(1) الاوبزيرفرء لندن: .١5914‏ 
ةناد عننا غ10 مسعتنوع ,كد نأا .0 أعطم]] لمة نظ .ل (2) 
كعلنءنة1! رلمنتوعناه]عاعه1 12 مل كتمعمه عناداآ (3) 
00101 01 عدتاهعء 1" لومعع5 ,ععاعما «طول (4) 
(5) الجزائر. جنوب أفريقياء السنمال. موريتانيا. الكونفو الديمقراطية. غاناء موزمبيق. أثيوبياء مالى. 
الكمرون. بوتسواناء روائدا. 
(6) عرفت «اللجنة الدولية للبيئة والتنمية» التنمية المستدامة ب«تلبية أمانى وحاجات الحاضر دون 
تعريض لقدرة أجيال المستقبل على تلبية حاجاتهم للخطره. 
6-0 مم ,30 العلممماء/اء12 لصة ععمقها1 ,عأطمستهاكب5 العصتمواءء12 عمنلة84 ,وتلاععدند أعددووة (7) 
(8) خطاب دون ماكدونالد. أمين عام الكمنولث لمنتدى الكمنولث لرجال الأعمال. لندن. ؟7 سسيتمبر/ 
أيلول 7 .7٠١‏ 
(9) تقرير التنمية الإنسانية 101/59 7007. 
(10) إيكاروس فى الميثولوجيا الإغريقية فتى منحه أبوه ديدالوس جناحاً من الشمع ليطير به إلى 
الشمس. فذاب الشمع بلفح الشمس وهوى إيكاريوس فى اليم. 
9 ,701.2 باأمروظ لمعل140 ,ععسيمن أه اعمط 1١1‏ ) 


17 


لحة 


حول مياكل الحكم والأطر الدستورية 
والقانونية للفترة الانتقالية 


1069 


البساب(ج3()9)) 


إعمالاً للمبادئ الواردة فى الباب الأول (4 3:4©) يتفق الطرفان» فى إطار سودان موحد 
يعترف فيه بحق تقرير المصير لأهالى جنوب السودان» على توزيع السلطات» وتنظيم 
هياكل وواجبات الحكم خلال الفترة الانتقالية على الوجه التالى: 

١-القانون‏ الأسمى (280.بآ عدرءممن5) 

خلال الفترة الانتقالية يحكم السودان وفق دستور/ ميخاق (عاكقط0)/هه01ن) أده ©) 
اتحادى علمانى. وينظم هذا الدستور/ الميثاق العلاقات» ويحدد السلطات والمهام على كل 
مستويات الحكمء كما يحدد ترتيبات اقتسام السلطة والثروة فيما بينهما. 

"-الولايات 

يتكون السودان من ولايتين (شمالية وجنوبية) لكل واحدة منهما حكومتها التى تؤسس 
دستورياً. وتتكون الولاية الشمالية والولاية الجنوبية من مناطق (681085) لكل واحدة منها 
حكومتها المؤسسة دستوريأء على أن تسم الولاية الجنوبية بحر الغزال» أبيى» الاستوائية» 
أعالى النيل» جنوب كردفان» جنوب النيل الأزرق. 

>؟-الحكومة الانتحمادية 

تنشأ حكومة اتحادية واسعة القاعدة (62560 - (60201) يكون مقرها فى مدينة يتفق 
عليها الطرفان. وتمارس الحكومة الاتحادية الواجبات» وتصدر القوانين» حسبما تنص عليه 
اتفاقية السلام. 

1071 


+ مجلس الولايات 

تتكون الهيئة التشريعية» على المستوى الاتحادى؛ من مجنسينء ويضم المجلس الأعلى 
ممثلين للولايات» ويكون واجبه الحفاظ على مصالح الولايات وضمان إشراكها فى إدارة 
القطرء والتأثير على التشريعات الاتحادية التى تمسها أكنها بكرن الفجلين بالضووة التى 
تمكن الولايات من حماية مصالحها. أما المجلس الأدنى فيتكون من ممثلين منتخبين 
انتخاباً شعبياً مباشراًء ويحدد الدستور/ الميذاق واجبات المجلسين وعلاقتهما مع بعضهما 
البعضء وإجراءات تسيير العمل فيهما. 

حكومنا الولايتين (5ع5626) 

تقوم الولاينان بإنشاء حكومتيهماء وتمارس كل حكومة منهما السلطات التنفيذية 
والتشريعية والقضائية فى داخل حدودها وتشرف على إدارة شلونها خلال الفترة الانتقالية» 
وتتكون الحكومة الولائية على أساس ديموقراطى وتمثيلى. 

ةيالولاروتسد-"١‎ 

يكون لكل من الولاية الجنوبية والولاية الشمالية دستورها الخاص والذى ينبغى أن لا 
يتعارض مع اتفاقية السلام ودستور الاتحاد. 

سلطات ومهام الحكومات الاتتحادية والولائية 

تكون للحكومة على المستويين الولائى والاتمادى سلطات حصرية (6لاأؤناكت»ه) أو 
متطابقة (002611116171) يتفق عليها الطرفان» كما تعالج السلطات المتبقية (أددالا5ء:) 
حسبما يتفق عليه الطرفان. 

4 مبادئ الحكم 

يكون نظام الحكم على المستوى الاتحادى علمانيأء ديموقراطيأء خاضعاً للمحاسبة. 
مسئولاً (©!طؤو«وموع:)» ومتجاوباً (©265802511)» وشفافاً و متوازن التكلفة والفعالية» 
(علالاعع]1ع-0051) 2 و قائماً على الفصل بين السلطاتء وسيادة حكم القانون. 


1072 


- يكون نظام الحكم على مستوى الولايات ديموقراطياء خاضعاً للمحاسبة؛ مسئولاء 
ومتجاوبأء وشفافاء و متوازن التكلفة والفعالية (©0050-12601017) فى كل مستويات الحكم» 
مع مراعاة احتياجات ومتطلبات شعب كل ولاية. 
4-المدونة السلوكية لشاغلي الوظائف العامة 
تنشأ مدونة سلوكية تهدى سلوك شاغلى الوظائف العامة على كل المستويات. 
٠‏ المشاركة في الحكومة الانتحادية 
تكون مشاركة أهل الولاية الشمالية والولاية الجنوبية فى الحكم على أساس عادل فى كل 
مؤسسات الحكم ومبنية على التكاقؤ (/2:10م) 
١‏ محددات اقتسام السلطة 
تحكم المبادئ التالية توزيع السلطات بين حكومة الاتحاد وحكومة الولايتين: 
© الالتزام بتوفير كل فرص التعبير لجنوب السودان عند 
ممارسة حق تقرير المصير. 
© تعهد الحكومة الاتحادية بوضع معايير للحكم تتوافق 
مع الدستور/ الميثاق المتفق عليه . 
© وضع نظام للمحاسبة ومراعاة الشفافية فى الأداء» 
وضمان توفير الخدمات لعامة الشعب. 
© العمل الجاد من أجل تنمية السودان» ورفاهية شعبه. 


لالالا 


113 


(جة)(4©) 


أقسام الثروة (عمأمهط5 - طغاوء /ا) 


يتفق الطرفان على أن المبادئ الواردة أعلاه حول هياكل الحكم وأهدافه لا بد من أن 
تكون معززة (18960م1120) بإجراءات مالية مناسبة لتحقيق التوزيع العادل للثروة . 

١‏ التوزيع العادل للد خل بين الانتماد والولايتين 

يحدد الدستور/الميثاق الاتحادى آلية مناسبة للتوزيع العادل للدخل بين الحكومة 
الاتحادية والولايتين. 

"-الموارد الطبيعية 

إقرار مبدأً التوزيع المناسب للثروة الناجمة من استغلال الموارد الطبيعية بين كل أهل 
السودان» ويتم هذا بالتفاوض بين الطرفين واتفاقهما على تكوين لاجنة لتوزيع الدخل 
الحكومى (001210155101) 2]4102ع10لة عناتوعاع]] لتتعصهدا؟) 

"- لجنة توزيع عائد الموارد الطبيعية 

لضمان الشفافية التامة والعدالة فى توزيع الحكومة الاتحادية لعوائد الموارد الطبيعية تنشأ 
لجنة من خبراء يتم الاتفاق على اختيارهم بين الولايتين والحكومة الاتحادية. 

+ التجارة بين الولايتين 

دون إخلال بحرية التجارة وحرية انسياب السلع والخدمات ورأس المال والعمالة بين 
الولايتين» يحق لكل ولاية إصدار القوانين» ووضع السياساتء, لحماية صناعاتها المحلية 
وتنمية قدرات أصحاب المبادرات المحلية فيها. 

1075 


0 الضرائب والرسوم 

توضع كل موارد الدولة الاتحادية من الجمارك فى وعاء مشترك (05001) وتوزع عن 
طريق الحكومة الاتحادية على الولايات على أساس عادل. 

الضرائب على تجارة الحدود تخضع للولايات. 


1-أعباء الدولة 
- تتحمل كل حكومة» على أى مستوى من مستويات الحكم» عبء الديون التى تقوم 
باقتراضها. 


- يحق للولايتين الشمالية والجنوبية الاستدانة من مصادر داخلية أو خارجية شريطة أن 
تتحمل الدولة المدينة بمفردها عبء سداد الديون» أو أى أعباء اخرى مترتبة عليها. 

١‏ تقسيم الأصول الحكومية (15ء455) 

توزع الأصول الحكومية توزيعاً عادلاًء وتحول للحكومة المعنية أية أصول متعلقة 
بالواجبات الموكلة لتلك الحكومة (مثل المدارس) . وفى حالة الاختلاف يحيل الطرفان الأمر 
للتحكيم بواسطة لجنة ثلاثية تضم ممثلين لطرفى النزاع وشخص ثالث محايد يتفقان عليه. 

م -معايير المحاسية :)1!11ط2)صنامءعءع 4 أدء15! ع2 51380305 ع« أالتامعع3 

على كل مستويات الحكم يلتزم الطرفان بمعايير واجراءات المحاسبة المتعارفة؛ كما تنشأ 
مؤسسات على مستوى حكومات الوحدة/ الولايات تشرف على إنفاق الأموال بوجه صحيح 
وفق الميزانيات المقررة. 

4 صتدوق إعادة التعمير والتتئمية 

ينشأ صندوق خاص لجنوب السودان لتعبكة وجمع وإنفاق الأموال لإعادة تأهيل البنى 
التحتية» وتوطين اللاجئين والنازحين الداخليين وإعادة دمجهم وتضمينهم فى المجتمع. 
ولمجابهة الاختلالات الموروثة فى التنمية الإقليمية. 


1076 


٠‏ لجنة الخدمة القضائية 
تقوم اللجنة بالموافقة على تعيين القضاة» والسماع للشكاوى ضدهم. وإقرار فصلهم فى 
حالات السلوك المشين أو عدم الكفاءة؛ وتتكون اللجنة من ممثلين للمهن القانونية 
ومرشحين من جانب حكومات الاتحاد والولايات. 
8200 


177 


(ج:62062()5) 
الديي نوالدولهة4 


اعترافاً بأن السودان دولة متعددة الذقافات والأعراق والأديان واللغات؛ وتأكيداً على أن 
الدين يجب أن لا يستغل كعنصر فرقة اتفق الطرفان على ما يلى: 

١‏ يكون فصل دستورى بين الدين والدولة» ولا تعلن أى ديانة كدين رسمى لهاء ولا 
تستخدم أى موارد أو مؤسسات اتحادية لتشجيع أى دين معين. 

. لا يحدد الدستور/ الميثاق الاتحادى مسبقاً أى دين كمصدر للتشريع‎ - ١ 

٠‏ - تستهدى الأجهزة التشريعية والتنفيذية الاتحادية بالدستور/ الميثاق فى أداء مهامها 
التشريعية. 

 :‏ التشريع على مستوى الولايتين يأخذ فى الاعتبار خصوصيات (21]165ةاناء3101م) 
كل ولاية شريطة أن لا يعارض التشريع مع الحقوق المكفولة للمواطنين فى 
الدستور/ الميئاق. 

© يحل الدستور/ الميثئاق محل دستور ١91948.‏ 

1 - مراعاة حرية الاعتقاد والعبادة والضمير لكل أهل الديانات أو نظم الاعتقاد المختلفة 
لكل المواطنين» ولا يجوز التمييز بينهم . 

الأهلية لكل المناصب العامةء بما فى ذلك الرئاسة» والخدمة العامة» والتمتع بكل 
الحقوق والواجبات تقوم على المواطنة وليس على الدين أو العقيدة . 

4- تأخذ الحكومة الاتحادية فى كل قوانينها وسياساتها وإعلاناتها التنوع الثقافى 
والدينى لأقوام السودان . 

9- كل الأحوال الشخصية: بما فى ذلك الزواج» الطلاق» الميراث» تحكمها قوانين 
الأحوال الشخصية بما فى ذلك الشريعة؛ أو أى قوانين ذات أصل دينىء أو الأعراف التى 


179 


(ج:2)>)052)0 
حفوق الإنسان والقصاء 


© اعترافاً بضرورة الالتزام باحترام حقوق الإنسان لكل مواطنى السودان؛ 

© وتأكيداً لمبدأ الإحترام المتساوى لكل الأقوام» 

© ووعياً بأهمية توفير عدالة ذات معنى وسهلة المنال وقايلة للتطبيق 00د ءاطزوىئع30) 

رعاطعرمامع 

© وإدراكاً لأن حقوق الإنسان كانت ضحية للصراعء 

يتفق الطرفان على ما يلى: 

١‏ تطبيق كل معايير حفوق الانسان المتعارفة 

يتفق الطرفان على تضمين الدستور/ الميثاق الانتقالى لوثيقة حقوق (5اطع11 /ن [811) 
تتضمن كل الأحكام الواردة فى المواثيق والعهود الدولية حول حقوق الإنسان. 

"-المساواة أمام القانون: واحترام قواعد الاجراءات القانونية وأصول 
الأحكام المتبعة (ووعع2:<0 1206) وسيادة حكم القانون 

(أ) يضمن ككل المواطنين السودانيينء أي كان مكانهم فى السودان» التمتع المتساوى 
والحماية لحقوق الإنسان» وتشمل الحقوق الثقافية» واللغوية والدينية. 

(ب) يحترم النظام أصوا ل الأحكام المتبعة (/128 »© 04 55ع00:م عنال) وسيادة حكم 


القانون . 


105١ 


" القصاء المحايد 

يقوم بتنفيذ القوانين الصادرة من الأجهزة التشريعية على المستويين الاتحادى والولائى 
جهاز قضائى كفء ومستقل ومسئول لدى لجنة للخدمة القضائية ادء1لن1) 
111111155101 

+ المحكمة الدستورية العليا 

يتفق الطرفان على إنشاء محكمة دستورية اتحادية تكون لها السلطة النهائية فى الفض 
فى النزاعات بين الحكومة الاتحادية وحكومتى الولايتين» أو المصالح التابعة لهماء أو 
التناقض بين دستوريهما. 

6 


112 


مراجسع منتفساة 





٠‏ أبيل ألير : 1990 ,قعقط)1 لمهم تامتاكانآ كالعجوععوعم نزحدلم 100 رمدلس5 طغنامك 

© أحمد الشاهى: 8 ,0105 ,مقلت5 ممعطارول! سروك معمعط1 

© أحمد خير: كفاح جيلء دار الشرقء القاهرة 

© أأحمد العوض سيكيانقا:ء 1996 ,5وع؟2 بززدومع9له[] كقعرةء] ,5مع1ء0ثالآ مم1 ودع و51 
عأأل8 عانط/الا) مز وعرممكة1آ مقلن5 طأناه50 2 2ه ععمعع ععورظط امه نوع د51 بدأ ن انكر 


0 وكت:2 563 160 ,(81000 علع812 
منط0 , 1956 - 1898 ,علدا طكتالمظ ععلونا ‏ لمعمط اج عطدظ8 ورعئوع/1ا م11 


91 ردوعء2 اندع زولا 
© أحمد محمد يس: مذكرات أحمد يسء الخرطوم١ ٠٠١‏ 
© ارنولد تواينبى: 3 ,0.11.2 بعاتلط عط لسه عععتلظ عط معء عط 
© الان شيفاليرياس: 7 ,مقط ر5ع)]2.آ .).[ ,عل75402 تل وتوعندة .لدداذاآ 
»ان موسلى ليش: 1201282 ,5ع تاضعل1 لقمو ندل لعأسعا000 ,ممليد ع1 
8 كوع]2 102111075103 
© أمين الدوم: ذكريات ومواقف فى طريق الحركة الوطنية السودانية» دار جامعة 
الخرطوم للنشرء 1١5417‏ 

© أمين مكى مدنى: جرائم بالمخالفة للقانون الإنسانى الدولى» دار المستقبلء القاهرة ٠٠١١‏ 
© ايان كينسون: 22همع83 عط 01 ممعاطمء2 2 ,لزع هلأدعدء0) 01 وماد أككةات 
(4212 نز مدلنسذ) مز ألاء8 

© بونا مالوال: 1 ,2002م.آ بهع1)82 رمقلن5 دز معصوط لدم عاومعم 
© بيتر شينى: 512161 أ مقلن5) وأطنال8 لدب 1لع154 01 عسنأاتن عط 
© بيتر هولت: 2000 ,1080098 ,لانآ ممتأدعنالط «مكمدعء2 رمقلن5 ع1 أه بوماذتا م 
8 <[1آ0 ,صملن5 دز عأهاك أدالطدك8 عط 
9 5005م.آ ,الانمظ ,ذعءاعتسمعطن) زمبظ ,كعالال8 عععط! عط 01 ممليرك عذال 


13 


© باوا يامبا: 5علاأبآ عط مز ععقسلع [ئط /0 1016 غ1 ,رخستوائط امعممصصممم 
3 رووعع2 لاأؤوعلالونا طععناطوتل8 ,مفلن5 دز كعستأون84 مدعءاثة أوعء/لا 01 


© بيتر وودوارد: [199 ,صملدمآ ,خ504 ,(لءع) امتعصسال! معككة مدلي5 
©جاك مافروقورداتو: 2 ,عتاأطواء/الا ,ععمعاء5 عط لمتطء8 
© جبرائيل ووربيرق: 00008.آ ,0ك 156نا1آ,ناء11ة/ ع1أل! عطا ما لرمعولط أدع مك111 

|0062 


1 ,102001 ,عندع مالا :0ن لفلناك 
لط عطا دا نورع5129 عمنلعدععء] كده نأدععلأكده0) أوعناعوءط لصة أدعاعمامعل1 
ع538 ,(ل512107 04 لإع1أمع10) 18 ,5010202 سمقاملاوع-ماعمةف عط لقه عاماد 

1[ ,5دم1اك 1أطنط 

كه علموعظ ,لإأعاع50 1[هم100ل152 2 15 لكل لناصتطره0) لطة تسكتا هده ولط .صسخاك1 

.8 0605م آ] 

عأوو لا دع[8 .وععع22 ,51010308 300 املاع ما لسذتلادء1ل12 2020 طلدتلهده اولظ .سصخلما 

|9083 

© جعفر محمد على بخيت: الإدارة البريطانية والحركة الوطنية فى السودان (159535ب 
756) ترجمة هنرى رياضء بيروت 1١9177,‏ 

©جون (وسارة) فول: 1985 ,8010101 ,باع ابااوء/77 ,لإاأأووع لالط دأ لإأتدنا صملياك 

©جون برندر قأست (ع10203م1(آ :نوكم أه مسلط عط مز ععوعط 10 ومالانس8 

.9 ,10512 .لنامملاع8 0ن 


©جون قرنق: 5 «50100م. 1 .321كآ1 , لإعدرع معد[ مك ألدن عذال 
02110) .(لأعصدكا .لع) لاتأمعل1 300 لإأتدلآ 1ه خسم لا5ع00) .مملن5 بجعلا أه لرواوزلا 
096 

©جيرارد برونيير: لكأن 1 غطا ع كنال مملناد عط ما بصع نحداك نحط از اناج 


2 أنومرة ,510125 0141م معام ه00 ]0 أقمنناه1 مح ارام 
© جيمز روبرتسون: 4 ,05000ا .اونظ .معكلم دأ مهتالص 
© جوزيف أو دوهو (مع وليام دينق): .1962 ,01[2 ,مقلنة طاناه5 أه ممعاطوعط ع1 


14 


© جى سبولدنق: لك لءطرنا1 طارهل8 عط مز وكة© [أوأع50 220 عتناوة1 ضما ,بدع ناج 5 
2 .15 701 ,501015 مدع ككلم .ل.1] محلنادك 

© حسن الترابى: الحركة الإسلامية فى السودان؛ الخرطوم ١957‏ . 

© حوارات فى الإسلام» دار الجديدء بيروت ١596‏ . 

© المصطلحات السياسية الإسلامية» دار الساقى .7٠٠١‏ 

© حسن المكى: الحركة الإسلامية في السودانء الدار السودانية للنشر955١.‏ 

م أمعننانن) 5*مقلناذ ,دز عماعوط زمقده841551 عط لهة ك5مونوعءجآ موتك مط 


.1989 ,2)100لصنامط عتصداك] تعادعاعآ ,ممعدعععاص1 ادلمتكتامط 


© خالد الميارك: اذ :25آ الخ ,5ه5اةء نأمط[ لمة عساتد .عنتكمع/! أكتصداكآ د نطدين1 
01 .13.3120 /2عتط 1 
© خضر محمد: الحركة الوطنية للسودانيين» مكتبة الشروقء الشارقة .1١9/8٠‏ 

© دونالد بيترسون: عط١ما2)25)‏ لتة 000111 ,دصذاكآ لمعن آله ,مملتاد علتذمآا 
999 برع [لحوع/اا . 
© دونالد هولى: .995!] رطءاته0]! ,اعذكتدظا أعدطء1!/! رمقلتاك عل هذ كعلهئل522 
© روبرت كولينز: 1995 ,2عل8001 ,لناعا نوع /الا (عتتاظ طغتبد) مقلن5 15 معتسوع] 
7 ر5وع؟2 لإاأواء7لولآا علدلا ,وعلانأ1 عط لدملاعظ لمآ 
2 ووع:2 151087 017لا ع721 ,1897 - 1883 مملناك طنانهك عط1” 
© رواى (دينق أكوا ل): عانطتاكصآ مداندمتلصقء5 ,كمهلس5 10 01 دعتاأتالوط عطل] 
,4 ,كلاذ سدع اكلم 1ه 
© رونالد ونجت: 1891 ,100008 ,.5كةن) عامة1 ,رمقلناك مداملاوظ لصة تمكتلطد1ل3 

© ستانسلاوس عبدالله بياسما: مذكرات ستانسلاوس... الخرطوم. .1955١‏ 
© سبنسر ترمنغهام: ,2ل0لممآ ,.5يةن) عامهء] ,مقلند5 عط دز مسداذ] 
© شريف حرير: .1994 ,13ة5مملآ (.لء غلع:1 عزع1) لإدععل ما أناء م5 :مقلناك 
© شين أو فاهى (مع سبولدتق): ,«عتطاء4/الرعن1 عودآ لمة تقمداك 6ه كدرملعدك] 
74 ,مهلدمآ 
[ 10[ ,14 .أولا دعنلساك مدع للك أه لدمعتاه1 ,عد عدنآا مأعله]' عحداك لمه بجع داك 


155 


© ستيفن وندو (مع ليش): 2إداطة علا أه دأكلالههة مث ,مقلنا5 مذ ععوءط ,10 عأنادظ 
6 ,كنع 1اعتلث عط 01 لإاتووع لول ,1993 -1992 ععوعن ]نه 
© دوقلاس جونسون: بقعاللة «تعل140 هذ برءع5199 ع5ع030نا5 أ0 لإعدوع.آ ع1 
7 ا 3ط نالآ 
.ه55 باك ,ققلنا5 تلتعط)انا50 أن عمسظ عط1” 
© صادق المهدى: يسألونك عن المهدية» الخرطوم ١570‏ . 
ل الإسلام ومسالة الجنوبء الخرطوم ١541‏ . 
0 ععرع002122) عط 0 لممأهاوعوء8 ,لإعوععمررع12 أه0 طارزظ لرمعء5 م15 
.9 ,1م122 ,خاطع نآ منتارن1] 
© عبد الغفار محمد أحمد وقونار سوبرو: ,5100298 10 01515) 01 الاعللاعم ذال[ 
510١‏ العتتمواء اء0آ 101 عراوع0 معوع8 
© عبدالله على إبراهيم الماركسية ومسألة اللغة» دار عزةء الخرطوم. 
© الصراع بين المهدى والعلماءء دار عزةء الخرطوم. 
© عبد الوهابي الأفندى: لاع05) ,قلناك دز عوعنتن20 ل0قة لصندأذآ ,رممتاأناامعء1 وتطدسن1 
991 .نملممآ .كامهظ8 أوءذ 
© الثورة والإصلاح السياسى فى السودان» منتدى ابن رشدء لندن 1١556‏ 
© الإسلام والدولة الحديثة» دار الحكمة» لندن .7٠١١‏ 
© عفاف أبو حسبيو: أدألأهص 813 عدوعمملن5 عط ما 5اء أ اكده) لقدملاعدظ 
.5 ,لاك ,1948 -1918 المعمن مكلا 
© عبد ألله أحمد النعيم: ركء عط انآ لان ,2100 مصضمكع؟1 عتصيدأكآ قد كلهو ده" 
.5 نوم 7زلا عكناعولاد ,سما أمدم6تأممعاما لمة كنطونظآ ممدمسل] 
نضا امطكمدل1 عطوكة ,مه نله:1 أقنهناتطتاكده0) عتصسقاذا عطا هذل كنطونك ألا 
2 25:2 .701 , بوم ناآ 
كه عأموطندعلا مقوعت0) بععمعاه1؟ لدعنناه2 م6 ععمعلدحلطصسة عاصداذآ 


701.318 ,امآ أده امعان[ 


156 


لم113 :لمأعقمتأسمعأاعل2اء5 04 «ملمموط عطا ,مقلن5 هذ داكا عمتصصماعجه 
7 عمارمد ,جعابع ]1 أحمم تمصع م1 
.7601 .[08ناوكط كاطعن1 مقصسط] لكدصدة]1 ,لاروكلا مستلكنطاة عط هذ كنطعنظ مممسل] 
300 
.الإعالاء18 هط ام1 سمط تكاطع1 مقصسط] 2ه باتتلددعء لزونا امعومقدم© عل 
7 50115 
ما عة/لا 0111)) صترطعسه5 عط مذ موا 0111 عط لمعه عكعسمءذاجآ أقمه أن تأكوه6 
3 ,[01 ,(كلء) معقدل 511 2020 نالددآ . (مملسك 
ما لإعووعممرع12 لسة لنكتاهضه تان ناكه00) 2200 لمأووعع56 ,02 أأدعنا0) أحمهنندل؟ ع1" 
3 ,طنآ0 ,(كلء أهاء 2[2ظ]1 لإعاصة)5) ,لإعدعمووعدآ لمة مسكتلقده كمه 0 
© عشارى محمود (وسليمان بلدو): مذبحة الضعينء الخرطومء» ١3417‏ . 
© على عبدالرحمن الأمين: الديمقراطية والاشتراكية فى السودانء المكتبة العصرية؛ 
بيروت» ١917١‏ 
© فرانسيس دينق: ,0دلن5 عط) مز كع ا)نامعل1 )ه أءناكهه0) ,كممنوت/ )0 عدللا 
.95 ,لماعم ناكدلا ,دع متكامه80 
5 ,[1ا! ,ممنخوء أمعل1 1ه كع تسده 12 
10ل00/غ/١ا‏ ععوو20 03111050 ازا ,هتاذ صز لإاأتمنا عه ععدعط ع0) طعنوعد5 عط 
1 .7 مودعم وعاوع0©) نرووا زلا 
© فريد هاليداى : 02008,1995.آ ,5ناة1 18 ,مهاده كمه" 0 طابركة عط لم دهداك] 
فيصل عبد الرحمن على طهء الحركة السياسية السودانية والصراع البريطانى المصرى, 
القاهرة 1١994‏ 
قراهام توماس: .1990 009همآ ,كمهمء 1أطن© أندنا ,ممدعءدآ عل زه طندعم] 
عأكتك 120 عط ,مسئتعط10 5عج2ول عزك 01 5معلاع.] ,5وأناكصمء20 عط 1ه أكمآ ع1 
.994 ! ,ضملهم.] .ووعرط 
© قوين بيل : .1983 ,020092.آ , .60 0ضة ,أكستطلط1 أاع8 ,لصدد عطا وه دوملقطاك 
© كارولاين فلوهر لوبان: 1986 ,05008.آ ,ذكةا) علأمدو ,لراعاع50 لصة )ها عتصداك] 
© كرومر (اللورد): .108 5هلهم.آ رصدل !8 عدالا ,أمبروط معلمالز 


1137 


© كوريتا يوشيكو: على عبداللطيفء مركز الدراسات السودانية» القاهرة, ١5956‏ ,. 
© ك.د.د هندرسون: .1 ,05001آ متتفعظ أوعصعط ,عتأطتاوع1 مملتيرك عط 
.8 ,2008مآ ,تعطوظ عق عع126 ,مقلن5 سعل840 عط كه عمتكادكل5 ع1 
© لام أكوا ل: 2000 ,نلآا ,مم10 ناملاع1 موعلككة مد علأكمآ رض[لط5 /للاناط5 
© مارتن دالى: ,1898-1934 5101038 مقنام لاعوظ-0أعمخ رعائلظ عا نه عسأمسط 
.لا .عع عطصة0 
© مارك دفيلد: 2 ,نققلن5 مذ عكنآ لمعسةا لقة سسكتلة نم0 ,متاح 
1981 وملمم.نا .ووعرط 
© محمد النور ود ضيف الله: كتاب الطبقات فى خصوص الأولياء والصالحين» تحقيق 
يوسف فضل حسن: دار النشر جامعة الخرطوم. 
© محمد إبراهيم نقد: علاقات الرق فى المجتمع السودانى, الخرطوم ١557‏ 
© محمد سعيد القدال: الإسلام والسياسة فى السودان» بييروت» 1١5557‏ 
© محمد أحمد محجوب: .1974 02008آ ,لأواعنانا ععلهمهم ,امآ ده نإعومعمجرردعطآ 
© مدثر عبد الرحيم: ,1899-1956 مقلن5 عطا ها مسكتأهمه8]20 لمة مسكتلهة معمدمآ 


سآ .1522 


© محمد عبد الرحيم محمد صالح: ,521 ع510325 عط هه حملن 8411 احطل 
.9 ,أعأناذ مدع ككلم مقلأ5تل:ه0ل< 
© منصور خالد: .1985 1020012 ,121 ,/(01510آ 01 لو اأناأملاع؟]1 عط لله اعم تلح 
.1990 ,آطكا ,عصعوعج]آ بزعط]1 امعصحك00 عط 
© محمود محمداطه: الرسالة الثانية من الإسلام» الخرطوم. 3551. 
© محمد عمر بشير: ,.00 2380 أكقتةآ.0 باءزاكهه) م لمنامرعاء82 ,مقلناك طانمك 
1968 مآ 
4 ,لكآ .(لع) كاء1اكدهن) كناماع تاع]آ لصة امدماوع1 ,مملناد5 طاناه0ك 
© مكى شبيكة: السودان عبر القرون» بيروت؛ .1١551١‏ 
© ميلارد بر: كمتةاهناه/1 دطدلا 200 صدلن5 طأاناهك دمأ علأعممع0 1108 )مدن 


15 


.8 ,ععع نالع 1 +10 عع ا ره 15 .1983-1998 
© نورمان أندرسون: .1999 رووعر رانويع حتصلآ ملنمه1 .متسل دأ مدليك 

© نعوم شقير: تاريخ السودان» بيروت .1١548١‏ 
© يوسف فضل حسن: ‏ .1971 رؤوع26 7إ]ز5وء وآ لتنامأامقط1 ,(لء) معكة وا قنك 
7 رومع لإ)لومء أن [] اعنصطسال8 مملنك عط لصة خطوعة عط]آ 
© ه. جاكسون: .5 ,02002.آ ,1128 لأاع د11 ,مدلسد دععل810 عط لمتطعظ8 
© ويندى جيمز: لصة نع5120 صا ,عع لأضوط] عتصقاأكآ هه ندم دع جأأععوجكممط 
.1ه ,ع8ل16نا1]0 .لت ,تعطءعة عتومعآ كتامطها عع2 متا 4ه عمصمط ععطنا0 
0 511028) .لضناط 5آنا50 هذل كعتالأمعل1 عمأعصقط:) 220 200605 الستذئة أداعمد 


161 .(1122هم 


159 


© استهلال ااا 0 
© مقدمة 0 لذ ةط قد ممق جل لطا م 1 1 08 0 0 0 
© الازدواجيات الممزقة والتشويش الاستعمارى 08 ا 
8 الوطنية السودانية منطقة محظورة على غير الشماليين اا 00 
© الوطن يخسر الرهان ا دببب1 001031 0 0 ا 
* عراك فى غير معترك 00 ل 
#ا حكم تميرى من التفاؤل الأعمى إلى الخيل 22771 0 ال 
* ما أشبه الليلة بالبارحة اذوب افاي ااا سسا ا سام وا اك 
#الجبهة القوميةالإسلامية النشأة: التطورء؛ الجذور الفقهفكرية 1 
"ا الجبهة القومية الإسلامية عشر سنوات خارج نطاق القرن المشرين اه 
© مأزق الهوية السودانية ال ا حم ا از 1[ 0 00 
ل السلام: والوساطات: وحل النزاع 177 ش12 1 اا 
© السلام بدون الجبهة القومية الإساأؤمية................ ا 0 
#« وفى الختنام 2335*518 00-8 0 0 0 ز 0 1 ا 0 
© ملحق: مقترحات الحركة فى ماشاكوس حول هياكل الحكم والأطر الدستورية 
والقانونية للفترة الانتقالية 11317110110 0 0 
8 مراجيع متتقاه 21 00 0 1 ا 


إضافات وتصوييات 





© الإهداء: السطر الرابع عشر: «ثم استرقه» تقرأ «ثم إسثرق». 

© صفحة .٠١50‏ السطر الثامن «غياب الإدارة السياسية» تقرأ «الإرادة السياسية». 

© صفحة ,.17١‏ السطر الثامن عشر «إدامة على اختزال» تقرأ «إدامة اختزال». 

© صفحة 175, الهامش :.4١‏ السطر الرابع: «فى عام »١19547‏ تقرأ 14910». 

© صفحة 7215, الهامش ", السطر السادس «الدفاع عهاء تقرأ «الدفاع عنها». 

© صفحة 007. السطر الأخير. «محمد الحليفى تقرأ «محمد الخليفى». 

© صفحة 007., السطر الثامن عشر «عباس بكيره» تقرأ «عباس الباقر» (من أهالى قرية 
الدسيس بالجزيرة). 

© صفحة ,19١‏ السطر الثامن «شرع من بعدن» تقرأ «شرع مَنْ بَُعدنا». 

©» صفحة8:لء السطر الثالث «الأسقف الإنجليكانى بالخرطوم «تقرأ «الأسمقف 
الإنجليكانى بيتر البرش من قبيلة المورو بجبال النوبة». 

© صفحة 571. السطر الحادى والعشرون دلا يرون فى الدولة الوحيدة» تقرأ «الدولة 
الوليدة». 

© صفحة ٠١٠١‏ السطر العشرون «الاعتماد على الطافة التقليدية 0لا, »١‏ تقراً ,١١‏ 7/170 

© صفحة ٠١5١‏ السطر العشرون «جان ديلور» تقرأ «جاك ديلور». 

© المراجع: صفحة .٠١8060‏ «حسن المكى: تقرأ «حسن مكى». 

© المراجع: خالد حسين الكد. يضاف «الأفندية ومفهوم القومية  ١898(‏ 1978). مجلة 
الدراسات السودانية. معهد الدراسات الإقريقية ‏ الآسيوية. جامعة الخرطوم. المجلد الثانى 
عشرء أبريل 219917. 

© المراجع صفحة ٠١80‏ «خضر محمد» تقرأ «خضر حمد». 


نادو لسسسك.. 
عبارة (تأكيد من الكاتب) الواردة فى المتن تشير إلى أن الجمل ما قبلها من المفترض أن 
تكون بارزة.. الأمر الذى لم يتم. 


من إصدراتالمؤلف العربية: 
ل المج رالكادب 


الاخيرفيناإذا لمنقلها | 0 
النخبة السودانية وإدمان الضشل- 


1 جنوب السودان فى المخيلة العرب 
ْ (الصورة الزائقة والقمع التاريخى  )‏ 


الطبعة العربية الأولى ١‏ 
( الشاهرة) 
0 


لوحاة الغلاف الخلضى: : 
2200000 
.تصميم الغلاف والاشراف العام:. 
إلياس فتح الرحمن 
آرت لاين